المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ..الفيـزياء ووجـود الخالق..



DirghaM
01-23-2010, 10:02 AM
http://img21.imageshack.us/img21/6610/57793367.jpg
**الـفيزيـاء ووجـود الخالق**
شكرا لجميع الإخوة الذين نسخوا هذا الكتاب،



http://img16.imageshack.us/img16/6784/68322806.jpg




الفصل الأول
[ الإلحــاد في العصــر الحديــث ]


1- ظاهرة الإلحاد:

كان الناس في الماضي يعتقدون اعتقاداً جازماً بوجود خالق مدبر للكون، وكانوا يعدُّون هذا من البدائه العقلية، وكان الإلحاد – بمعناه الحديث الذي هو إنكار وجود هذا الخالق – أمراً شاذاً لا يقول به إلا فرد بعد فرد من الناس.

وظل الأمر كذلك حتى القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً(1) ، ثم بدأ الإلحاد يحل محل الإيمان عند كثير من قادة الفكر الأوروبي، وصار بعد مقدم الشيوعية هو (الدين الرسمي) لدُوَلها.

ولمَّا صارت للإلحاد هذه المكانة في الغرب، ولمَّا كانت هذه الحضارة الغربية هي الحضارة السائدة في عصرنا؛ فقد انتشر هذا الإلحاد، وانتشرت أكثر منه لوازمه في أرجاء المعمورة انتشاراً لم يعهد له مثيل فيما مضى من الزمان(2).
وكان من نتائج ذلك:

أن صار الإلحاد – من الناحية العلمية والعقلية – هو الموقف الطبيعي الذي لا يحتاج إلى دليل ولا برهان !! وصار المؤمن هو المطالب بمثل هذا الدليل .

وأن صار الملحد هو الذي يتحدى المؤمن ويتهمه بعدم العلمية، وعدم العقلانية، وبالتقليد، والانسياق وراء العواطف !

وأن صار إظهار الاهتمام بالدين – ولا سيما في وسائل الإعلام العامة – أمراً مستغرباً بل منكراً !

يقول صاحب كتاب (ثقافة الفكر):

"إنه ما أن نشرت مجلة نيوزويك مقالاً عن الدين حتى جاءها خطاب – نشرته – من قارئ يلومها على إفساح المجال لمثل هذا الهراء"،

ثم يعلق على ذلك قائلاً:
"من حيث الإحصاء ، فإن كاتب الخطاب ينتمي إلى الأقلية …
أما سياسياً وثقافياً فإنه ينتمي إلى التيار الأمريكي الغالب؛
لأن أولئك الذين يُصلُّون بانتظام – بل أولئك الذين يؤمنون بالله – يحرصون على إبقاء ذلك في السر، بل على عدِّه سراً يخجل من[إفشائه].
وذلك أنه فيما عدا الالتجاء إلى الله الشعائري [الظاهري] المتوقع من سياسيينا؛ فإن الأمريكي الذي يأخذ دينه مأخذ الجد، ويعدُّه شيئاً مأموراً به لا مجرد خيار؛ يخاطر بان يُعدَّ من المارقين" (1).
وأن صار الدين هو (الظاهرة الاجتماعية) التي تحتاج إلى تفسير، وأما عدم التدين فهو الأمر الطبيعي الذي لا يستدعي دراسة ولا بحثاً ولا تنقيباً !!

وأن صار الإلحاد هو القاعدة – المعلنة أو المضمرة – التي تقوم عليها فلسفة العلوم، طبيعية كانت أم اجتماعية أم إنسانية !! فصار الإلحاد لذلك جزءاً من مفهوم العلم !!

ومن هنا جاءت المقابلة بين ما يسمى بالتفسير العلمي والتفسير الديني !
فالتفسير العلمي : هو التفسير الذي يفترض أن الكون مكتف بنفسه، لم يخلقه ولا يصرِّف أمره خالق !
وأما التفسير الديني فهو الذي يجعل للإرادة الإلهية تدخلاً في حوادث الكون.

وإذا كان العلم قد وُضع – بسبب فلسفته الإلحادية – في مقابل الدين !

فقد وُضع الدين – مهما كان نوعه !! – في زمرة الكهانة والسحر وسائر أنواع الشعوذة والأساطير !!

أو عُدَّ – حين يحترم – من قبيل : الأدب والفن الذي يعبِّر عن المشاعر ولا يقرر الحقائق !


وقد صاحب هذا الإلحاد في أوروبا تطور هائل لم يعهد له مثيل في مجالات العلوم الطبيعية، وما يقوم عليها من تقنية دخلت نواحي الحياة المختلفة وسهلتها.

فربط الناس في الغرب بين هذا وذاك؛ فاعتقدوا أن هذا التطور ما كان ليحدث لولا اطِّراح الدين وإحلال الفلسفة المادية الإلحادية العقلانية التجريبية محله !!

وتبع الغربيين في هذا الاعتقاد خلق كثير من الأمم الأخرى، فظنوا أنهم لا يمكنهم أن يبلغوا شأو الغربيين في التقدم العلمي والتقني، إلا إذا هم حذو حذوهم في اطِّراح الدين واعتماد الفلسفة الإلحادية !

ولم يقتصر أثر هذا الفكر الإلحادي على مجال العلوم، بل دخل حياة الناس الاجتماعية والسياسية.

فكما أن الدين أُقصي عن المجال العلمي المشترك بين العلماء، وصار في أحسن حالاته مسألة خاصة بالعالم لا يجرؤ على ذكرها، دعك من الدفاع عنها أو الدعوة إليها !

فقد أُقصي أيضاً عن المجال السياسي حتى في البلاد الإسلامية – إلا ما رحم ربك – وكاد أن يصير – كما قد صار في الغرب – مسألة ذاتية تخص الفرد، ولا تتعلق بدساتير البلاد وقوانينها وسياستها الداخلية أو الخارجية أو التعليمية أو الإعلامية.

2- أسباب انتشار الإلحاد في هذا العصر:

ا الذي حدث فقلب الأمور هكذا رأساً على عقب ؟

لماذا تحول كثير من الناس في الغرب هذا التحول العجيب من الاعتراف بربوبية الخالق إلى إنكار وجوده، بل إلى محاربة المؤمنين بوجوده حرباً ضارية بالأقلام، وأحياناً بحد السنان، كما حدث في البلاد الشيوعية؟

لقد حاول كثير من الغربيين أنفسهم تفسير هذه الظاهرة، والإجابة عن مثل هذه الأسئلة، وكتبوا في ذلك كتباً كثيرة.

ويمكن أن نجمل ما ذكروه في الأسباب الآتية:

1- التناقض الشديد بين كثير من دعاوى الدين الذي ورثوه والعلم التجريبي الذي اكتشفوه:
فقد وجدوا وما زالوا يجدون كثيراً من دعاوى دينهم مخالفة لما أثبتته علومهم التجريبية.
والأمثلة على ذلك كثيرة تجد بعضها في كتاب (موريس بوكاي) : (العلم والكتاب المقدس والقرآن).


2- تناقض بين منهج العلم التجريبي القائم على الدليل الحسي أو العقلي، ومنهج دينهم التسليمي :
بين منهج العلم الذي يشترط الاتساق المنطقي، ومنهج الدين الذي يقبل المتناقضات العقلية على أساس أن حقائق الدين يقبلها القلب وإن رآها مخالفة لصريح العقل !

3- خوض كثير من علماء الدين وغيرهم من المثقفين المتدينين في المسائل الغيبية ، والحديث عنها بمجرد الرأي الذي لا سند له من كتابهم ولا دليل عليه من غيره. من ذلك مثلاً ما كتبه (نيوتن) من كلام مفصل عن طبغرافية جهنم !!

4- تعصب بعض العلماء الطبيعيين المتدينين تعصباً يجعلهم يحاولون ليَّ أعناق الحقائق العلمية لتوافق الدعاوى الدينية:

من ذلك أن:
"المطران (جيمز آشر)، وهو دارس مشهور للكتاب المقدس، … استنتج من تحليل متأن لنصوص الكتاب المقدس أن الأرض خلقت عام 4004 قبل الميلاد. نشرت هذه النتيجة التي توصل إليها رئيس الأساقفة في عام 1650م، ولم تلبث أن ألحقت بهامش سفر التكوين من النسخة المعتمدة للكتاب المقدس، وظلت به حتى زمان فكتوريا، ولا يزال من الممكن وجودها أحياناً حتى اليوم" (1).
م يكن غريباً أن يأتي هذا الزعم من رجل دين يعتمد على كتابه المقدس، لكن الغريب أن معاصراً لهذا الأسقف، هو مدير جامعة كيمبردج آنذاك أيَّد هذا الزعم بل ذهب إلى أبعد من هذا؛ إذ زعم أن: " الثالوث خلق الإنسان في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 4004 عند الساعة التاسعة صباحاً. كما أوضح رونالد ميلر؛ فإن مديراً لجامعة كمبردج هو وحده الذي تبلغ به الجرأة أن يجعل تاريخ خلق الإنسان ووقته موافقاً لبداية العام الدراسي" (1) .
5-- والخلاف بين العلم والدين لم يقتصر على مسائل الدين الفرعية، بل شمل مسائله الأصولية:

فمن المعروف الآن حتى عند علماء اللاهوت أنه ليس هنالك دليل علمي على أن الكتاب الذي يقوم عليه الدين كله هو من قول المسيح. بل المعروف أنه كتبه أناس آخرون منهم من هو معروف ومنهم من ليس بمعروف، وأنهم كتبوه بعد موته بآماد طويلة، وأن هنالك تناقضاً في أقوال هؤلاء الكتاب، حتى صارت دراسة مثل هذا التناقض تسمى عندهم بالنقد الأعلى.

6- قد شمل التناقض فكرة الإلوهية نفسها :
فبينما يوصف الإله بأنه هو الخالق، ينسب إليه الولد !!
وبينما يقال إن عيسى ابن الله، يقال إنه صلب !!
وبينما يقال إن الإله واحد، يقال إنه مكوَّن من ثلاث أقانيم هي الأب والابن وروح القدس !! وهكذا.

7- رأى بعض المؤمنين من النصارى أن وصفاً كهذا لله إذا أُخذ على ظاهره الذي تدل عليه اللغة جعل الخالق – تعالى – مشابهاً للمخلوقات، ففروا من هذا التشبيه إلى ما كان يسميِّه علماؤنا بالتعطيل :

فلم يكتفوا بتأويل هذه الصفات التي تدل على المشابهة ، بل أوَّلوا كل الصفات الأخرى، فجعلوا الخالق شيئاً مجرداً، فهو لا يوصف بالعلو، ولا بالمباينة للمخلوقات ، ولا بأن له ذاتاً ، ولا شخصاً ولا صورة ! وإنما هو شيء مجرد لا يوصف بصفة من الصفات الثبوتية ، كالحياة والسمع والبصر والكلام !!

كتب احد القساوسة قريباً كتاباً أسماه: (الإله الباطني) ! زعم فيه : أنه ليس لله – تعالى – وجود خارجي !!! وأن الإيمان بالله إن هو إلا إيمان بمجموعة من المُثُل والمبادئ الخُلُقية !!

هذا التصور التعطيلي للخالق، أصبح الآن هو التصور الشائع بين جماهير المثقفين من أهل الديانتين النصرانية واليهودية، بل ربما كان الأمر قريباً من ذلك حتى بين كثير من (المثقفين !) من المسلمين.

إن المسافة ليست بعيدة بين هذا التصور التجريدي للخالق وبين الإلحاد : الإلحاد إنكار لوجود الخالق، وهذا إنكار لكل صفاته.

وهل يكون وجود (أي ذات) إلا بصفات ثبوتية ؟!

فمن أنكر كل الصفات الثبوتية فقد أنكر الوجود شعر بذلك أم لم يشعر؛ ولذا كان مثل هذا التصور لوجود الخالق مقدمة ممهدة للإلحاد .

وقد فطن أئمة علماء السنَّة إلى هذا فكانوا يقولون : " إن المشبه يعبد صنماً ، والمعطل يعبد عدماً " .
المشبه هو الذي يجعل صفات الخالق كصفات المخلوقين، فيده كأيديهم وعينه كأعينهم .. وهكذا ؛ مع فارق واحد هو عظم هذه الصفات حين يوصف بها الخالق.

والمعطل هو الذي يفر من تشبيه الله بالمخلوقات ليقع في تشبيه شر منه هو تشبيهه بالمعدومات !! لأن المعدوم هو الذي يوصف بكل صفة سلبية، كأن تقول هو ليس طويلاً ولا قصيراً ولا عالياً ولا سافلاً ولا مادة ولا روحاً، ولا داخل العالم ولا خارجه .. وهكذا، ولا يوصف بصفة ثبوتية كأن تقول هو كبير وعظيم وسميع وبصير وحي وعالٍ .. وهكذا.

أدرك علماء السنَّة خطر هذا التصور للخالق فألَّفوا الكتب الكثيرة في الرد على أصحابه من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، ولولا ذلك لوجد الإلحاد طريقه إلى العالم الإسلامي كما وجده إلى العالم الغربي.

ولكن أنواعاً من هذا التصور التعطيلي تعود الآن فتنتشر بين المثقفين ! في عالمنا الإسلامي بسبب ذلك التاريخ ثم بسبب التأثر بالفكر الغربي.

8- ولم يكن الخلاف خلافاً (علمياً) مع الدين فحسب ، بل كان أيضاً خلافاً أخلاقياً وسياسياً مع الكنيسة التي تتحدث باسم هذا الدين. لأسباب مثل هذه اعتقد كثير من المؤمنين بوجود الخالق والمدافعين عن هذا الإيمان؛ أنه ينبغي أن لا يربط الإيمان بالله بالدين.

قال أحد مؤرخي الإلحاد في الحضارة الغربية:

" أن يكون هذا [ أي الدفاع عن وجود الخالق ] من غير لجوء إلى الكنيسة ، كان يبدو بدهياً ؛ فقد كانت الكنيسة جزءاً من المشكلة ، جزءاً من المرض الذي كان يصيب كل معرفة بالله ، لا جزءاً من العلاج . لقد كانت الكنائس هي الأرض التي أنبتت الإلحاد" (1)

9- وكان من أكبر أسباب الإلحاد : بعض القواعد الفكرية التي أصلَّ لها ودافع عنها فلاسفة مشهورون محترمون مؤثرون، كانوا في أنفسهم مؤمنين لكن قواعدهم الفكرية تلك كانت في حقيقتها قواعد للإلحاد؛ ولذلك اقتنع كثير ممن جاء بعدهم بتلك القواعد الفكرية وأسسوا عليها إلحادهم، واعتبروا إيمان أولئك الفلاسفة الذين قعَّدوها أمراً شخصياً لا يتناسب مع ما قعَّدوا من قواعد عقلية.

كان من هؤلاء الفلاسفة (ديكارت) الذي أتى بنظرية للطبيعة ، ومن ثم للعلوم الطبيعية، فحواها : أن الطبيعة – بعد أن خلقها الله – صارت مستقلة تماماً بقوانينها التي أودعها إياها، ولم يعد الخالق يتدخل في شؤونها أو يوقف فاعليتها !!

صار الخالق إذن شيئاً بعيداً عن حياة الناس اليومية واهتماماتهم الحالية !!

صار شيئاً يمكن أن تستمر الحياة من غير لجوء إليه أو حتى تذكره !!

ولم يعد من ضرورة لذكره إلا إذا كان الحديث عن بداية الخلق .

لم يلبث هذا الخالق السلبي أن تحوَّل عند كثير من العلماء الطبيعيين إلى مجرد اسم مجازي للمبدأ أو المبادئ التي يقوم عليها نظام الطبيعة.


إن كثيراً من الناس يظنون أن إينشتاين كان مؤمناً بالله حين يسمعون ذكره لله في عبارات مثل قوله المشهور: " إن الإله الرب لا يقامر". لكن إينشتاين إنما كان يستعمل هذه العبارة مجازاً ليعرب عن رفضه للنظرية التي تقول بان المصادفة حقيقة موضوعية في بنية الكون وليست أمراً نسبياً خاصاً بالمشاهد للكون.


وفي أيامنا هذه قال الفيزيائي (جورج سميث) الذي اكتشف وجود (تجعدات) في الإشعاع الكوني الخلفي ترجع إلى ثلاثمائة ألف سنة الأولى لعمر الكون، والتي كانت النواة التي تكونت منها الأجسام الكونية بحسب نظرية الانفجار العظيم، قال وهو يعلن ذلك الاكتشاف ويشرحه لغير المختصين في مؤتمر صحفي عام 1992:

"إذا كنت متديناً فكأنك ترى الله".

وكانت هذه العبارة من بين كل ما قال في شرح اكتشافه هي التي تناقلتها وسائل الإعلام ونشرتها على نطاق واسع في العالم كله. لكنه حين كتب كتابه المسمَّى: (تجعدات في الزمان) قال – وكأنه يعتذر لإخوانه الفيزيائيين -:

" في علم الكون يتلاقى علم الطبيعة بالفلسفة ، عندما يقترب البحث من السؤال الأقصى عن وجودنا فإن الخطوط الفاصلة بينهما تكاد تنطمس.

إن إينشتاين الذي وهب نفسه للتفسير العقلاني للكون، قال ذات مرة: "إنني أريد أن أعرف كيف خلق الله العالم ؟ أريد أن اعرف أفكاره"، لقد قصد أن يكون هذا مجازاً، لقد كان يعبر به عن المدى العميق الذي ذهب إليه في البحث. ولقد كانت ملاحظتي التي كثر الاستدلال بها مصوغة في هذا القالب نفسه" (1)
وكان منهم ( كانط ) الذي زعم أن مبدأ السببية مبدأ خاص بعالمنا هذا.

إن مسلك هؤلاء الفلاسفة يدل على حقيقة ينبغي أن نعتبر بها ، وهي أن الإنسان قد يكون في نفسه مؤمناً – أو منتسباً إلى جماعة المؤمنين – ويكون في بعض فكره كافراً.

وشأن الفكر هنا كشأن السلوك ؛ فالإنسان يكون مؤمناً لكنه يكون منطوياً على جاهلية ، ويتصرف تصرفاً جاهلياً لا يتناسب مع إيمانه ، بل يتناقض مع ذلك الإيمان. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " (2) ؟ كذلك الفكر ، لكن الانحراف الفكري أعظم خطراً على المنحرف وعلى غيره من الانحراف السلوكي.
لقد مر المسلمون في تاريخهم بتجارب من هذا النوع :

لقد كان الجهمية مثلاً معلنين للإسلام بل كان فيهم عُبُّاد ، لكن تصورهم لصفات الله – تعالى – كان تصوراً إلحادياً ، كما ذكرنا قبل هنيهة.

فلولا أن الله تعالى أنقذ الأمة بجهابذة من علماء السنَّة بينَّوا زيف ما يقولون عقلاً ونقلاً لربما كان لهم في تاريخنا أثر مثل أثر أولئك الفلاسفة الغربيين.

لقد استطاع علماء السنَّة أن يبينوا أن القواعد التي قعَّدها الجهمية زائفة عقلاً، وأنه يلزم عنها الإلحاد.

10- من المسائل التي يتكرر ذكرها في كتابات الغربيين تعليلاً لنفورهم من الدين: كثرة الحروب والمآسي التي حدثت في تاريخهم بسبب الخلافات الدينية.

يقول عالم الأحياء البريطاني (بيتر مدور) – كما نقل عنه (تيلر) -:

"لقد كان الثمن – الذي اضطرت البشرية في عمومها لتدفعه مقابل الراحة والانتعاش الروحي الذي آتاه الدين قلة من الناس – دماً ودموعاً .
وهو من الغلاء بحيث لا يسوغ لنا أن نأتمن الاعتقاد الديني على … الخلقي" (1).
لا جدال في أنه حدث باسم ما يسمَّى بالدين حروب ومآس ومظالم في البلاد الغربية وفي غيرها ، ولكن هل يعد هذا مسوغاً لرفض كل دين أياً كان ؟!

فاسم الدين اسم تندرج تحته معتقدات وقيم ودعاوى مختلفة اختلافاً لا يجعل بينها صلة إلا ذلك الاسم، ويستدعي أن ننظر في هذه المعتقدات والقيم والدعاوى المختلفة لنتبين ما هو حق منها وما هو باطل.

وإذا كان بينها أمر مشترك ؛ فهل كان هو السبب في تلك المآسي حتى نحكم على الأديان كلها هذا الحكم العام ؟

أو أن السبب كان أمراً خارجاً عن تلك المعتقدات فلا تحتمل جريرته ؟!

أعني أنه قد يكون :
بسبب استغلال لتلك الأديان
أو بسبب سوء فهم لها
أو بسبب ظلم وقع على الفئة المتدينة.

إن استغلال الدين – كاستغلال كل شيئ حسن – استغلالاً سيئاً أمر وارد بل واقع ، والدين الحق يقرر هذا ويحذرنا منه.

أنا لا أعرف كلاماً أشد في التحذير من الذين يستغلون الدين لتحقيق مآرب دنيوية أو الذين يرتكبون الفظائع بسبب التصور المنحرف للدين مثلما قرأت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

خذ مثلاً على ذلك قول الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ }
[التوبة : 34]

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخوارج:

"يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميَّة، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل
الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قَتْل عاد" (1).
ثم على افتراض أن المعتقدات الدينية هي التي أدت إلى تلك الحروب ؛ فهل توقفت الحروب بعد أن حلت العلمانية في الغرب محل الدول الدينية ؟!

إن القتل والقرح والأذى والتدمير والإفساد الذي حدث بسبب الحربين العالميتين لم يكن له مثيل في تاريخ البشرية كلها؛ فهل كان هذا بسبب الدين ؟!

والحروب التي شنتها الدول الغربية الرأسمالية والشيوعية على الشعوب الضعيفة لاستعمارها وسرقة خيراتها؛ هل كانت حروباً دينية ؟!

والحروب التي حدثت في السنوات الأخيرة:
في العراق ، إيران ، الصومال ، اليمن ، وغيرها؛ هل كانت بسبب معتقدات دينية ؟!

فإذا كانت الحروب والمآسي التي حدثت باسم الدين سبباً في النفور من الأديان كلها وعدم الثقة بها ؛ فلتكن هذه الحروب والمآسي سبباً أقوى للنفور من العلمانية وعدم الثقة بها.

يجب إذن إذا أردنا أن نكون منصفين في تقويمنا للدين : أن نضع كل هذه الأمور في اعتبارنا ، وإلا كان رفضنا له ونفورنا منه أمراً عاطفياً يقوم على الهوى لكنه يتزيا بزي العلم والعقل.
11- ومنها أن الملحدين اتبعوا طريقة خدَّاعة هي : أن يضعوا الدين في مقابل العلم الطبيعي ، ثم يتكلموا عن المزايا التي يمتاز بها منهجه العلمي ، وعن الثمار التي جناها الناس من المخترعات التي قامت على أساسه ، وعن توسيعه لدائرة معارف الناس بالكون ، وقضائه بذلك على كثير من الخرافات المتعلقة بطبيعة الكون أو طبيعة الأسباب الفاعلة فيه، وهكذا.
ثم يقولون : إنه لهذا كله ينبغي أن يكون الاعتماد على العلم الطبيعي لا الدين في معرفة الحقائق.

هذه الحجة كانت تصلح لو أن الدين والعلم الطبيعي كانا أمرين متناقضين لا يمكن للعاقل أن يجمع بينهما، وربما كانت تصلح لو أنه كان من الممكن أن يستعمل منهج العلم الطبيعي في كل المجالات التي يحتاج إليها الناس بما في ذلك مثلاً الهدف من حياتهم على هذا الكوكب الأرضي، ومصيرهم بعد هذه الحياة، والقيم التي يستهدون بها في حياتهم.

لكن العلم الطبيعي بطبيعة منهجه ، وباعتراف أساطينه لا يستطيع أن يفصل في هذه الأمور .

فالذي يقول للناس - والحال هذه – : خذوا العلم الطبيعي واتركوا الدين !!

هو كإنسان يقول لك : إن الناس يتفقون على ما يشاهدون بحواسهم أكثر من اتفاقهم على ما يستنتجون بعقولهم .

فإذا ما وافقته على ذلك مضى ليقول: إذن يجب أن نعتمد على الحواس ونترك العقل جانباً !!

الخطأ هنا هو :

أن الحواس ليست طريقاً إلى معرفة كل ما يحتاج الناس إلى معرفته .

وأنه لا تناقض بين الاعتماد على الحس في معرفة ما من شأنه أن يعرف بها، والاعتماد على العقل في معرفة ما لا يعرف إلا به.

إنه لا تقابل بين العلم الطبيعي والدين .

بل إن الدين الحق يعترف بالمنهج العلمي الطبيعي وسيلة إلى المعرفة .

لكنه يقول : إنه ليس وسيلة إلى كل المعارف ، بل هنالك معارف لا تدرك إلا بالرواية ، وأخرى لا تدرك إلا بالاستنتاج العقلي ، ورابعة لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الرسل.

فالعاقل هو الذي يستفيد من كل هذه الوسائل بحسب نوع المعرفة التي يريدها ، ومن لا عقل له يحصر نفسه في بعضها وينكر غيره.

ولذلك فإن الناس – لشدة حاجتهم إلى تلك المعارف التي لا يوصلهم العلم الطبيعي لها – يفضلون التعلق بأي دين ولو رأوا فيه بعض الأباطيل لأنه يلبي شيئاً من حاجتهم إلى هذه المعارف

من هذه المقابلات المفتعلة التي أجدها مضحكة قول الفيلسوف (بوبر) الذي استشهد به (واينبيرج):

"إنه من البديهي جداً أن اللاعقلانية لا العقلانية هي المسؤولة عن كل الحروب والعداوات القومية ، قبل الحروب الصليبية وبعدها ، ولكنني لا أعرف حرباً أشعلت لغاية (علمية) أو بإيعاز من العلماء" (1)
يقال لـ (بربر):

كذلك لم تقم حروب بسبب الاختلافات الأدبية والأذواق الفنية ، لكن المتحاربين – متدينين كانوا أم غير متدينين – يستفيدون مما يعرفون من علم بالدنيا في حروبهم. فلئن لم تقم الحروب باسم هذا العلم فقد كان خادماً مسخراً فيها ؛ فأي فضل له على الدين في ذلك؟!

ويقال له:
إنه قد قامت حروب بسبب الاختلافات اللونية والانتماءات العنصرية ؛ فهل يتخلى الناس عن ألوانهم وأجناسهم ؟!!

ويقال أيضاً:
إن الحروب شرٌّ ما في ذلك شك ، ولذلك قال رسولنا صلى الله عليه وسلم للمؤمنين:
" أيها الناس ، لا تتمنَّوا لقاء العدو واسألوا الله العافية " (2) .

لكن هذا الشر قد يكون عملاً صالحاً إذا ما كان الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الحق ولدرء شرٍّ أكبر.
12- وكان من أسبابه دعاوى ادعاها وما يزال يدعيها الملحدون عن التناقض بين الإيمان وحقائق العلم الطبيعي ، سلَّم بها كثير من المفكرين في الغرب ، وبدأت تجدها تتكرر من جيل إلى جيل ، وتنقل في كتاب بعد كتاب ؛ مع أنها لا تدل على شيء مما أراد لها مدعوها.

ليس هذا مكان تفصيل القول في هذه الدعاوى والرد عليها، لكن لنذكر منها على سبيل التمثيل:

أ- توهمهم أن الإيمان بوجود الخالق مرتبط بتصورات معينة للدنيا كانت شائعة عند الناس في أوروبا ، وأن العلم أثبت عدم صحة تلك التصورات ، فأزال بذلك الأساس الذي كان يقوم عليه ذلك الإيمان!

هذا مع أنه لا علاقة ضرورية بين الإيمان وبين تلك التصورات.

من أكثر ما يذكرونه في هذا المجال :

اعتقاد الناس فيما مضى بأن الأرض هي مركز الكون، وأن (كوبرنكس) جاء فأثبت أن الأرض إن هي إلا كوكب من كواكب عدة، وانه لا ميزة لها على سائر الكواكب والنجوم.

ينسى أصحاب هذا القول أن العلم الطبيعي ارتبط في أذهان كثير من أهله بتصورات للكون ما لبث العلم نفسه أن أبطلها.

ألم يكن كثير من العلماء الطبيعيين يتصورون أن الكون أزلي لا بداية له ولا نهاية، بل يعُّد هذا أمراً لازماً للنظرة العلمية حتى جاءت نظرية (الانفجار العظيم) فسببت لهم حرجاً عظيماً؟!

فإذا كان الدين سيُرفض لأن بعض التصورات قد ارتبطت عند بعض الناس به، وهي ليست بلازمة له لا عقلاً ولا نقلاً ؛ فليرفض العلم الطبيعي أيضاً لارتباطه في أذهان بعض أهله بتصورات تبين بطلانها.

زعم الفيزيائي المشهور (واينبيرج) – في كتاب له حديث (1) – أن المتدينين كانوا يظنون أن الأجرام السماوية ذات طبيعة سامية مختلفة عن طبيعة الأجرام الأرضية ، ولذلك كانوا يعتقدون أنها هي التي تدل على وجود الخالق:

" لكن الشمس وسائر النجوم فقدت مكانتها المتميزة ؛ فنحن نعلم أنها كرات من غاز ملتهب ، متماسك بفعل الجاذبية ، وممنوعة من التقوض بضغط يظل مستمراً بسبب الحرارة الناشئة عن المفاعلات الحرارية النووية الموجودة في قلب النجوم. إن النجوم لا تنبئنا عن عظمة الخالق بأقل ولا أكثر مما تنبئنا به الحجارة الموجودة على الأرض حولنا ".
ويقال لـ (واينبيرج) هذا وأمثاله:

على فرض أن بعض المتدينين كانوا يعتقدون أن الأجرام السماوية ذات طبيعة مختلفة عن المخلوقات لأرضية ؛ فمن الذي قال إن كل المؤمنين بوجود الخالق كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد ؟!

وعلى فرض أنهم كانوا جميعاً يعتقدونه ؛ فمن الذي قال إن إيمانهم بوجود الخالق كان متوقفاً على مثل هذا التصور للأجرام السماوية ؟!

ما أكثر ما يتصور الإنسان الشيء ثم يجده على غير ما تصور فلا يؤثر ذلك في إيمانه ولا في ثقته بربه ، بل يعزو ذلك
إلى جهله ، ويَسرُّه أن الله هداه إلى هذا التصور الصحيح.

إن كل إنسان يمر عليه زمان وهو طفل يتصور السماء والشمس والقمر والنجوم على غير حقيقتها ، ثم يشب ويعلم أن هذه القبة الزرقاء ليست كما تصورها جسماً صلداً ، وإنما هي مجرد لون ، وأن الشمس والقمر والنجوم ليست بأحجامها البادية للعين بل هي أكبر من ذلك بكثير، فلا يدعوه ذلك لأن يتحول من الإيمان إلى الكفر؛ فلماذا إذن يكون خطؤه في تصوره لطبيعة الجرام السماوية داعياً لمثل هذا التحول ؟!

إن الملحد لا يتحدث هنا عن واقع مشاهد ، ولا عن لازم عقلي ، بل يعبر عن وهم توهمه ؛ وإلا لو كان الأمر كما زعم لما بقي على ظهر الأرض مؤمن ، ولما كان الناس محتاجين إلى العلم الطبيعي الحديث لينتقلوا من الإيمان إلى الكفر؛ لأنهم كانوا يكتشفون مثل هذه الأخطاء في تصوراتهم حتى قبل مجيىء هذا العلم.

ولو كان اكتشاف الإنسان : أن الأجرام السماوية هي غازات ملتهبة داعياً لأن يقول إن الله لم يخلقها !!
لكان يكفيه أيضاً للوصول إلى مثل هذه النتيجة أن يعلم مثلاً : أن الإنسان هذا برغم عقله ومواهبه وعواطفه وإنجازاته تمثل كمية الماء ستين بالمئة من جسمه !.

ب- ومنها توهمهم وجود تناقض بين فكرة الخلق وفكرة الأسباب:
أي أنه لكي يكون الشيء مخلوقاً لله فلا ينبغي أن تكون لحدوثه أسباب طبيعية ، فإذا اكتشفنا أسباب حدوثه الطبيعية كان هذا دليلاً على أنه لم يحدث بقدرة الخالق !!!

هذه فكرة غالطة رغم شهرتها وانتشارها بين الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، في الشرق والغرب ، وعلى مدى تاريخ طويل !!

عرضنا بشيء من التفصيل لهذه القضية في الفصل الخامس من هذا الكتاب فيكفي أن نقرر هنا ما قرره علماء أهل السنَّة من أنه :
لا تناقض بين كون الشيء مخلوقاً وكون لحدوثه أسباب ؛ لأن الله تعالى من سُنَّته وعادته أن يخلق بالأسباب، ولأنه هو – سبحانه – خالق تلك الأسباب وجاعلها أسباباً.

قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله !
أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها ، وتقاة نتَّقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟
قال: "هي من قدر الله" (1)
إن الغفلة عن هذه الحقيقة هي التي جعلت الملحدين يستطيلون على بعض المؤمنين ويتحدونهم كلما اكتشفوا لبعض الأحداث أسباباً لم تكن معروفة من قبل.

من ذلك ما يقوله صاحب هذا الكتاب في الفصل الذي خصصه للعلاقة بين العلم ووجود الخالق:

" بل إنه حتى القرن التاسع عشر كان تصميم النباتات والحيوانات يعد دليلاً بيناً على وجود الخالق.
ما تزال في الطبيعة أشياء لا حصر لها لا نستطيع تفسيرها ، لكننا نرى أننا نعرف المبادئ التي تحكم الطريقة التي تعمل بها. إن على من يريد السر الغامض الحقيقي اليوم أن يبحث عنه في مجال علم الفلك أو علم الجزئيات الصغيرة" (2).
يريد (واينبيرج) أن يقول لنا كما قال مئات الفلاسفة والعلماء الغربيين قبله:
إن السر الذي يعتمد عليه الإيمان يكشف – ويزول فتزول بزواله الحاجة إلى وجود الخالق !!– حين نستطيع تفسير حدوث الأشياء تفسيراً طبيعياً !!!
وأنه لم يبق هنالك اليوم من سر – أي : شيء ما زال العلم عاجزاً عن تفسيره – إلا في المجالين اللذين ذكرهما، فهما وحدهما اليوم ملاذ من يبحث عن سرٍّ يُرسي عليه إيمانه !!!

إنه لا تناقض بين كون الشيء مخلوقاً لله وكون لحدوثه تفسير طبيعي كما قدَّمنا، لكن غاية ما يبلغه العلم هو :

أن يفسر لنا الحدوث بأسباب ثانوية ،

أي أسباب هي نفسها بحاجة إلى أسباب.

ونحن محتاجون بلا شك إلى معرفة مثل هذه الأسباب في حياتنا اليومية، لكنها :

ليست الأسباب التي تفسر لنا وجود الأشياء تفسيراً نهائياً.

وهذا هو الموضوع الذي سنشبع الحديث فيه في بحثنا هذا بإذن الله تعالى.

13- ثم إن الكشوف العلمية الهائلة (التي ساعدت الناس في فهم كثير من الظواهر الكونية ، والتي بنيت عليها تقنية يسرت للناس معاشهم من أكل وشرب ولبس وعلاج وعمارة واتصال وغيرها ) فتنت كثيراً من الناس :

فجعلتهم يعتقدون : أن العلم التجريبي سيغنيهم عن الدين !! بل سينجح حيث أخفق الدين !!

فكان مثلهم في ذلك كما قال الله تعالى :

{ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } [العلق : 6، 7]

وقال سبحانه :

{حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس : 24].

قال مؤرخو العلوم إنه لم يخفف من غلواء هذا الغرور إلا الحرب العالمية الأولى ثم الثانية .

14- نجح العلمانيون في إيهام كثير من الناس بان الحقائق العلمية تبطل الدعاوى الدينية وتؤيد النظريات الإلحادية ، بل نجحوا في إيهامهم بان النظرة الإلحادية إلى الوجود هي وحدها النظرة العلمية ؛ فصارت العلمانية أو الإلحاد جزءاً من مفهوم العلم نفسه.

وقد ظفروا بهذا الذي أرادوه بوسائل عدة أهمها:

- تفسير الحقائق العلمية بنظريات إلحادية ، ثم تصوير هذه النظريات على أنها هي وحدها القادرة على تفسير تلك الحقائق، واستبعاد كل نظرية يمكن أن يشم منها رائحة تأييد للدين.

- ثم نشر هذه النظريات الإلحادية ، والدفاع عنها ، وتدريسها للطلاب حتى ينشؤوا على اعتقاد أنها جزء من الحقائق العلمية ، لا نظريات قد تصدق وقد تكذب.

- ثم التعصب لهذه النظريات تعصباً يجعلهم يغفلون الحقائق التي تكذبها ، أو تضعف من قوتها.

سيجد القارئ أمثلة على ذلك في غضون هذا الكتاب، لكن من أحسن الأمثلة على هذا التعصب الذي يتجاهل الحقائق :

التعصب للنظرية الداروينية في التطور؛ إن المؤمنين بهذه النظرية، وهم الآن معظم الأسماء الكبيرة في مجال علم الأحياء، يضيقون ذرعاً بكل من يتفضل فيبين للناس ضعف بعض المرتكزات التي تقوم عليها ، ويتهمونه إما بالجهل أو التعصب الديني، أو غير ذلك من الأوصاف التي لا تليق برجل العلم .

حدث هذا مثلاً لصاحب كتاب (حقائق الحياة) الذي نشر في بريطانيا في عام 1992م ولم يلبث أن صار من أعظم الكتب بيعاً.


ومما زاد من حدة البغضاء للدين وتحول الناس إلى العلمانية والإلحاد :

أن رأوا الأمة التي حباها الله بالهداية إلى الدين الحق الذي ليس فيه شيء من تلك المآخذ التي أخذها الغربيون على الدين الذي عرفوه – واقعة في معظمها تحت تأثيرهم .

ورأوها – حتى بعد أن يسر الله لها الخلاص من الاستعمار – تنهج في معظم دولها نهج مستعمريها في سياستها واقتصادها وكثير من تصوراتها !!

ورأوها أمة ضعيفة ومتخلفة عنهم في العلوم والتكنولوجيا ،

ولم يروها قادرة على أن تتحداهم بفكرها أو تريهم الفرق بين دينهم ودينها،

ففتنهم – إلا من رحم الله منهم – هذا الحال الغالب على هذه الأمة عن النظر في دينها وتقديره حق قدره.

فتخلُّفنا ليس تقصيراً في حق أنفسنا فحسب، وإنما هو فتنة للأمم المتطورة مادياً، يغريها بالتمادي في كفرها وإلحادها. إنه ظلم للإنسانية يفوِّت عليها فرصة الاهتداء والسعادة الدنيوية والآخروية.

"رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم"ُ [الممتحنة : 5]

3- الملحدون مشركون!

إن وجود خالق للكون أمر تعرفه العقول بداهة ؛ لذلك لم يكن ينكر وجود الخالق فيما مضى إلا فئات قليلة من البشر كما قدمنا ، ولذلك كانت الرسالات السماوية تبنى على إقرار الناس بوجود الرب ، وأنه الذي خلقهم ويرزقهم ، ويحييهم ويميتهم ، ثم تزيدهم علماً به ، وتدعوهم إلى عبادته وحده دون سواه مما يعلمون أنه لم يخلق ولم يرزق ، ولا يحي ولا يميت ، ولا يتصف بشيء من صفات الخالق .


{ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
[العنكبوت : 16، 17]


{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }
[البقرة : 21 ، 22]


حتى الذين أنكروا وجود الخالق ، والذين يسمَّون في عصرنا بالملحدين ، لا ينكر معظمهم وجود الخالق أي خالق ، وإنما ينكرون وجود الخالق الحق الذي دعتهم إلى الإيمان به رسالات السماء ، والذي كان يؤمن بربوبيته من يشرك معه غيره في عبادته .

انظر إلى حال الملحدين في عصرنا :

تراهم – إذا أنكروا وجود الخالق الحق – يعزون حدوث الأشياء إلى أشياء أخر ، وهم وإن لم يسموها بالخالقة إلا أنهم يقيمونها مقام الخالق سبحانه ، بل ويضفون عليها بعض صفاته !!

خذ الملحدين في عصرنا مثلاً :

لقد كان عمدتهم في إلحادهم قولهم بأن (المادة أزلية لا تستحدث ولا تفنى) ، وكانوا يعتقدون أن هذا شيء أثبته العلم فلا مجال للخلاف فيه !!!

لكن المادة التي يتحدثون عنها ويصفونها بهذا الوصف ليست هي المادة التي نعرفها ونتعامل معها في حياتنا اليومية وفي معاملنا العلمية ؛ إن المادة التي نعرفها هي مادة في صورة من أجسام سماوية ، أو أجسام أرضية ، أو مكونات هذه الأجسام : الذرات ومكونات الذرات ، والفوتونات وما أشبه ذلك ، لكن ليس شيء من هذا أزلياً ، بل إن كل مادة في صورة من الصور تحدث وتزول ، وأما المادة التي لا صورة لها فإنما هي – كما قال ماركس - : "وَهْمٌ في أذهان الفلاسفة لا وجود له في الخارج".

وإذا كانت المادة قد أعطيت صفتين من صفات الخالق هما الأزلية والأبدية - إذ الله وحده الأول الذي ليس لأوليته ابتداء ، والآخر الذي ليس لآخريته انتهاء – فإن شيئاً اسمه الطبيعة قد عزيت إليه بعض أفعال الخالق سبحانه !!

فأنت كثيراً ما تسمع الملحدين ، ومن يقلدهم – وإن لم يكن ملحداً مثلهم – يقولون : إن الطبيعة فعلت كذا وكذا ، وأنها اختارت كذا وكذا !!

لكن الطبيعة التي نعرفها ونتعامل معها في حياتنا اليومية والعلمية هي مجموع الكائنات الحية والجامدة والسائلة ، وهذه الموجودات هي التي تنفعل ، هي التي تُوجد وتتكون وتنمو وتفنى .

فأين هي تلك الطبيعة التي تفعل كل هذا بالطبيعة هذه التي نعرفها ؟!!

أهما طبيعتان حقاً ؛ الواحدة تفعل والثانية تنفعل ؟
كلا ..

وإنما الطبيعة الحقة هي هذه الطبيعة التي نشهدها . وأما الأخرى – التي تقام في مقام الخالق سبحانه – فإنما هي وَهْمٌ كبير في رؤوس الملحدين.

وما يقال عن الطبيعة يقال عن التطور .

إن التطور في مفهومه العلمي هو :

" الطريقة المتدرجة التي نشأت بها الكثرة الحاضرة في الحياة النباتية والحيوانية عن أقدم الكائنات الحية وأكثرها بدائية " . (القاموس العلمي) (1).
فالتطور إذن هو الطريقة التي حدث بها هذا التنوع ، وليس هو صانع التنوع .

لكن الملحدين يتحدثون عنه كما لو كان هو الفاعل !!!

يقول (دارون) – في الطبعة الثانية من كتابه :(أصل الأنواع) - :

"يمكن أن يقال – مجازاً – إن الانتقاء الطبيعي مستمر في تفحصه في كل يوم وكل ساعة – وفي العالم كله – لكل تغير وإن دق ، رافضاً للسيئ حافظاً وجامعاً لكل ما هو جيد ، عاملاً في صمت ولطف ؛ كلما سنحت فرصة لتحسين كل كائن حي بالنسبة لظرف حياته المادي وغير المادي . ونحن لا نرى شيئاً من هذه التغيرات البطيئة وهي تحدث ، حتى تضع يد الزمان علامة على الآماد الطويلة التي مضت " (2).
يقول (ستانلي) – الذي نقلت عنه هذا النص الداروني -:

"إن دارون لم يضف كلمة (مجازاً) إلا في الطبعة الثانية من كتابه".

ويفسر هذه الإضافة بأنه وقد كان يعيش في عصر كان يدَّعي فيه غيره وجود قصد إلهي للحياة ، أراد – فيما يبدو – أن يبين للقارئ أنه لا مكان في حجته لمثل هذا الكلام الديني ، وان مشروعه آلي إلى درجة مفزعة .

فأنت ترى أمثال هؤلاء يقولون إن التطور أو الانتقاء يفعل كذا وكذا ، ويضعونه بذلك في موضع الخالق سبحانه !!

هذا مع أن وصف الطريقة التي تحدث بها الأشياء لا يتنافى مع وجود خالق لها يحدثها ، ويطورها بتلك الطريقة :

فنحن يمكن أن نصف الطريقة التي يتطور فيها الإنسان منذ أن كان جنيناً في بطن أمه إلى أن يخرج طفلاً فينمو شاباً فيصير شيخاً ، ولا نجد في هذا ما يتعارض مع إيماننا بأن الله – تعالى – هو الذي خلق هذه الأطوار كلها . فالله – تعالى – يقول:

{ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } [الزمر : 6]

{ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } [نوح : 13، 14]

فليس هنالك – من حيث المبدأ – تناقض بين التطور وبين الخلق إلا إذا فهم الخلق – كما يفهمه بعض النصارى – بأنه شيء يحدث مرة واحدة !

وأما الخلق بهذا المفهوم الإسلامي الذي نجده في القرآن الكريم فليس فيه ما يتنافى مع القول بأن الكائنات تمر بأطوار ؛ لأن الله – تعالى – هو الذي يخلق هذه الأطوار طوراً بعد طور .

لكن أرجو ألا يفهم القارئ من هذا أنني أدافع هنا عن نظرية دارون :

فأنا أميز – وأرجو من قرائي المؤمنين أن يميزوا – بين التطور وبين النظريات التي تشرح كيفية التطور.

إن التطور حقيقة في كل ما نشاهده أمامنا من خلق ربنا ، لكن الكيفية التي يحدث بها هذا التطور ليست أمراً مشاهداً لنا ؛ فما أخبرنا ربنا به - كخلق آدم – قلنا به واعتقدناه حقاً ، وما لم يخبرنا به فمثلنا فيه كمثل غيرنا: نقبل من نظرياته ما كان أقوى دليلاً.




لا يستغربن القارئ قولي عمَّن يُسمَّون بالملحدين إنهم مشركون ؛ فإن الشرك إنما هو نقيض التوحيد.

والتوحيد الواجب على العباد لا يتم إلا بأمور ثلاثة :

أولها : أن يعتقد الإنسان أن الله – تعالى – هو الرب الخالق البارئ المصور إلى آخر صفات الربوبية ، أي أن يعتقد أن هنالك أفعالاً لا يفعلها ولا يستطيع فعلها إلا الله تعالى .

وثانيها : أن يعتقد أن هذا الرب – سبحانه – هو وحده المتصف بكل صفات الكمال ؛ فلا يضيف إليه صفة نقص ولا يسلبه صفة كمال ، ولا يصف غيره بصفة من هذه الصفات.

والثالث : أن يعتقد أن هذا الرب هو وحده الإله الذي يستحق العبادة ؛ فلا يعبد معه غيره.

والأول هو أساس في الأمرين التاليين ؛ لأن الإنسان لا يصف الله بصفات الكمال ، ولا يراه مستحقاً للعبادة إلا إذا علم أنه وحده المتصف بصفات الربوبية تلك ؛ ولذلك تجد القرآن يجعل هذه الحقيقة أساساً في دعوته للمشركين - الذين يسلمون بها – إلى عبادة الله وحده ، وعدم وصفه بما لا يليق به ، أو وصف غيره بشيء من صفاته.

وإذن فالذي يعتقد في وجود خالق غير الله ، أو الذي يصف مخلوقاً من مخلوقات الله ببعض صفات الله – تعالى – هو مشرك بالله ، سواء اعتقد أن الله – تعالى – هو أيضاً خالق أو لم يعتقد ذلك.

لكن هؤلاء الذين أنكروا وجود الخالق الحق ، وإن كانوا قلة شاذة ، إلا أن بعضهم قد يكون مؤثراً في الناس فيثير الشكوك في نفوسهم حتى بالنسبة لهذا الأمر البَدَهي . ولذلك لم يهمل القرآن الكريم ذكر هذا الصنف من الناس والرد على شبهاتهم . رد على الذين زعموا أنه لا خالق البتة ، كما رد على الذين اتخذوا خالقين غير الله الخالق الحق ، وأبان لهم أنهم لا يمكن أن يكونوا خالقين حقاً.



يتبع في الردود التالية.... :ANSmile:

DirghaM
01-23-2010, 10:22 AM
الفصل الثاني
[ أدلــة وجــود الخالــق ]


يقول بعض الملحدين إنه ليس هناك من خالق لأنه لا دليل على ذلك من عقل ولا حس. ويقول بعض المؤمنين من المسلمين وغير المسلمين: بلى إن للكون خالقاً. ولكنهم يوافقون الملحدين في أنه لا دليل عقلي على وجوده، وأن التصديق بوجوده أمر يعتمد على الإيمان القلبي فحسب، لا دليل عقلي، أو هو أمر يعتمد فحسب على تصديق الرسل فيما أتوا به.

أما كون الإقرار بوجود الخالق أمراً إيمانياً قلبياً؛ فلا شك في ذلك، وأما كونه أمراً تعززه رسالات السماء؛ فلا شك في ذلك أيضاً. ولكن من قال إن الإيمان والعلم لا يجتمعان ؟! ومن قال إن القلب يطمئن إلى ما لا يدل عليه عقل ؟!(1)

إن الإيمان الصحيح المعتبر هو الإيمان القائم على العلم، إلا لم يكن هنالك من فرق بين مَن يؤمن بوجود خالق ومَن يؤمن خالقين، ومن لا يؤمن بخالق؛ لأن كلا منهم يمكن أن يقول إن اعتقاده أمر قلبي لا يخضع للمناقشة العقلية. ولم يعد من حق واحد منهم أن يقول للآخر إنك مخطئ في اعتقادك.
ولو كان الأمر كذلك لكان من حق من شاء أن يؤمن بما شاء من غير تثريب عليه. وإذا كان بعض المتدينين من غير المسلمين يلجؤون إلى مثل هذه الأقوال المتهافتة ليستروا بها عيب اعتقاداتهم الفاسدة؛ فما هكذا ينبغي أن يكون موقف المؤمن المسلم وهو يقرأ في كتاب ربه:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ﴾ ]محمد : 19[
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ ]الحج : 54[

فالعلم أولاً، ثم الإيمان المترتب على هذا العلم ترتيباً تعبر عنه فاء السببية ﴿ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ﴾، ثم الإخبات المترتب على الإيمان ﴿ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾.
ويقرأ في عشرات من آياته تشديد النكير على الذين يتبعون الظن وأهواء النفوس ويتكلمون بغير علم ويدعون في مجال أصول الدين دعاوى لا تسندها الأدلة والبراهين، ويعدهم من الجاهلين، بل من غير العاقلين، ويتوعدهم بأشد أنواع الوعيد:

﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ]البقرة : 111[
﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ ] الأنبياء : 24[
﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ ]النجم : 23[
﴿ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ﴾ ] آل عمران: 66[

إذا قلت هذا قال لك بعضهم: نحن لا ننكر أن يكون على وجود الصانع – تعالى – دليل أي دليل، وإنما نقول إنه لا يوجد دليل من النوع الذي يسمَّى بالدليل العلمي (بالمصطلح الحديث) أو الدليل المنطقي البرهاني. لكن هذا ليس بالكلام الدقيق إلا إذا فهم هذان الدليلان فهماً ضيقاً يجعلهما خاصين ببعض العلوم . وإلا فما معنى الدليل العلمي؟ ما الأدلة التي يقبلها العلماء الطبيعيون من فيزيائيين وكيميائيين وأحيائيين وغيرهم؟

إنهم يقبلون الدليل الحسي المباشر؛ فكل ما شهد الحس بوجوده شهادة مباشرة فهو موجود لا شك في وجوده. وهذا دليل مقبول عند كافة العقلاء وله في الدين مكانة كبيرة، لكن الأدلة العلمية ليست محصورة في هذا الدليل، فما كل ما يصدق العلماء الطبيعيون، أو عامة العقلاء بوجوده هو مما شوهد مشاهدة مباشرة بالحواس المجردة أو الآلات المساعدة؛ بل إن الإصرار على عدم قبول دليل غير هذا الدليل الحسي المباشر هو نفسه من علامات عدم العقلانية. ولو أن العلماء الطبيعيين وسائر العقلاء لم يقبلوا دليلا ً غير هذا الدليل لما تقدم علم من العلوم بل ولا قامت لعلم قائمة؛ ولهذا فإن القرآن الكريم حين يستنكر حصر الأدلة في هذا الدليل وينعى على المطالبين به في غير موضعه؛ إنما يقرر حقيقة يسلم بها كل العقلاء من بني البشر.

﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾ ]النساء : 153[
﴿ إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ{34} إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ{35} فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{36} ﴾ ]الدخان : 34 - 36[

النوع الثاني من الأدلة التي يقبلها العلماء وسائر العقلاء على وجود الأشياء، هو الاستدلال على الغائب غير المشاهد بالواقع المشاهد. وهذا الاستدلال أنواع ترجع كلها بصورة أو أخرى إلى الاستنباط المنطقي المعروف، لكن نتائج الاستنباط تصدق أو تكذب، وتقوى أو تضعف بحسب صدق المقدمات، ومدى الثقة بهذا الصدق.

والأدلة على وجود الخالق كثيرة ، لكن المتعلق بدلالة الكون المشهود على خالقه ثلاثة، هي: البرهان الكوني، ودلالة الآيات، ودليل العناية. سنشرح هذه البراهين في هذا الفصل شرحاً موجزاً، ثم نجعلها أساساً لمناقشتنا للملحدين الفلاسفة والفيزيائيين الغربيين. ولكن بما أن معظم الذين تعرضوا لمسألة وجود الخالق منهم لم يركزوا إلا على الدليل الكوني؛ فسيكون جل همنا مصروفا إليه.

1-البرهان الكوني:

البرهان في اللغة هو ما يدل على الحقيقة، فإذا قلت إنسان: في المكانالفلاني شجرة، فسألني ما برهاني على ذلك؟ فقد أقول إني أرى خضرة ألوانها، أو أسمع حفيف أوراقها، أو أشم شذى أزهارها؛ فتعال هنا أنظر إليها. أو قد أقول إنني لم أرها لكن فلاناً – هو عندي و عندك ثقة – قد أخبرني بوجودها، أو غير ذلك مما يعده الناس في حياتهم اليومية أدلة.

أما في الاستعمال الاصطلاحي المنطقي فإن البرهان هو أيضاً ما يدلك على حقيقة، لكن دلالته محصورة في نوع معين تخرج عنه دلالة الحواس ودلالة الأخبار وغيرها. فإذا قلت لطالب: ما برهانك على أن مجموع زوايا المثلث 180 درجة، فلا يعد برهاناً قوله: لقد قست كل ما وجد من مثلثات فوجدتها كذلك، ولن يجدي قوله أن أستاذ الرياضة أنبأنا بذلك.

البرهان بالمعنى الاصطلاحي: هو أن تستخلص أو تستنج الحقيقة المراد برهانها من حقيقة أو حقائق أخرى هي مقدمات البرهان، بحيث يلزم كل من يسلِّم بها أن يسلِّم بالنتيجة التي يؤدي إليها، ولا ناقض نفسه. فإذا سلَّم الإنسان – مثلاً – بأن كل ما يسكر فهو خمر محرم شربه، وسلَّم بأن الشراب الفلاني مسكر؛ فيلزمه القول بأنه خمر محرم.

فأنت ترى إذن أن البرهان المنطقي لابد أن يستند إلى حقائق لا تأتي عن طريق المنطق، وذلك بدهي؛ لأن مجال المنطق هو القضايا؛ أي هو أن يستنتج قضية أو قضايا من قضية أو قضايا أخرى، وليس مجاله الدلالة على الواقع الوجودي، فهذا مجال الحواس ظاهرة كانت أم باطنة. فبعد أن تقول هذه الحواس أو غيرها من الأدلة الدالة على الواقع كلمتها، يأتي البرهان أو المنطق ليقول إذا كانت القضية الفلانية والقضية الفلانية قضايا صحيحة؛ فإنه يلزم عنهما قضية ثالثة هي كذا وكذا. لكن هذه الحقيقة التي دلنا عليها البرهان المنطقي قد تكون مما يمكن إدراكه إدراكاً مباشراً بالحواس؛ وكم من حقيقة استنتج العلماء النظريون – بالمنطق العقلي الرياضي – ضرورة وجودها، ثم جاء العلماء التجريبيون فأكدوا بالآلات الحسية وجودها.
وأنا أزعم أن البرهان الكوني – في صيغه التي سأذكرها بعد – هو برهان منطقي بالمعنى الاصطلاحي، أي إنه يلزم كل من يسلِّم بمقدماته أن يسلِّم بنتيجته، وهي أن للكون خالقاً، وإلا ناقض نفسه. ليس هذا فحسب بل إني أزعم أن المقدمات التي تقود إلى تلك النتيجة هي مقدمات لا يسع العاقل إلا التصديق بها؛ لأنها إما من الحقائق الحسية أو من البدائه العقلية.

أكرر القول بأن التدليل على وجود الخالق بهذه الطريقة المنطقية لا يعني أنه لا يمكن أن يعرف بغيرها، أو لا يمكن أن يعرف معرفة مباشرة، كأن يكون الإيمان به – كما قدمنا – أمراً فطرياً، إن حجبته عن الإنسان ظلمات من الشبهات والشهوات؛ فقد يمر بتجربة تنزع عنه هذا الحجاب فإذا الحقيقة ماثلة بين عيني بصيرته يستيقنها عقله كما يستيقن الحقائق الحسية الشاخصة أمام عينيه. حتى الذي يستنتج قضية وجود البارئ من وجود الحقائق الكوني؛ لا يلزمه أن يسير بهذه الخطوات الطويلة التي تطلبها صناعة المنطق، بل قد يختصرها كلها في لحظة من لحظات الصفاء العقلي.

فلئن كان ما أقرره هنا برهاناً على وجود الخالق تعالى؛ فما هو بالبرهان الوحيد، وما هو بالخطوة النهائية في طريق الباحث عن الله. إن مهمتنا هنا هي فقط أن ندلل أن قضية وجود الخالق قضية يمكن الاستدلال على صدقها بالبرهان المنطقي، وأن كل ما ذكره بعض المفكرين – من آمن منهم بوجود الخالق ومن كفر – من حجج يدللون بها على أن ذلك غير ممكن هي حجج باطلة، لا تقوم لها عند النظر الصحيح قائمة.

لهذا البرهان عده صيغ منها ما هو صحيح ومنها ما هو غالط، ومنها ما هو في شكل الدليل المنطقي الاستنباطي، ومنها ما هو في شكل الدليل الجزئي المباشر.نبدأ بالدليل في شكله المنطقي الصحيح الذي اهتم به أكثر علماء أصول الدين من المسلمين، ومن اللاهوتيين والفلاسفة الغربيين، لكننا نصوغه من عندنا صياغة مفصلة نرجو أن تساعد على إيضاحه.

يسير برهاننا على مراحل لكل منها مقدمات تءدي إلى نتيجة، ثم تلك النتيجة تؤدي – مع مقدمات أخرى – إلى نتيجة ثانية، وهكذا حتى نصل إلى ما نبتغي.

فنقول:

إن في هذا الكون حوادث، فغيث ينزل، وزهر يتفتح، وطفل يولد، وإنسان ينمو ويكبر، وآخر يمرض ثم يهلك، وأجسام تبنى وتتركب ، وأخرى تتحلل.(كواركات) هي لبنات كُوِّن منها الأوليات ثم الذرات، ومن الذرات تتكون الجزيئات، ومنها تتكون العناصر ثم المركبات ثم الأجسام المادية المشاهدة. ومن الغازات الأولية تتكون مجرات تتكون منها نجوم، ومن المجرات مجموعات مجرات، ولكل من هذه الكائنات ساعة ميلاد، ويوم هلاك.

فمن الذي أوجدها ومن الذي يفنيها؟

هل جاءت من العدم؟ كلا .. فإن هذا مستحيل عقلاً.
لا بد لها إذن من سبب أحدثها.

لكن هذا السبب لا يمكن أن يكون الشيء المحدث نفسه؛ إذ كيف يسوغ عقلاً أن يكون الحادث المعين سبباً في إحداث نفسه؟
لا بد إذن أن يكون سببه شيئا غيره.

لكن إذا كان ذلك السبب الخارجي هو نفسه حادثا كالأسباب الطبيعية التي نشاهدها؛ فإنه سيحتاج – كالحادث الأول – إلى سبب، وسيحتاج سببه إذا كان حادثا إلى سبب .. وهكذا.

لكن هذا التسلسل في العلل والمؤثرات مستحيل عقلاً.

لابد – إذن – من أن يكون السبب الحقيقي للحوادث سببا غير حادث.

أي لا بد أن يكون شيئاً أزلياً ليس لوجوده ابتداء.

ولا يمكن أن يكون هذا السبب الأزلي شيئاً غير الله.

سنركز كما ذكرت على هذا البرهان فنبين أن علم الفيزياء لم يبطل شيئا من مقدماته بل زادتها رسوخاً، وأن هذه المقدمات تقود لا محالة إلى النتيجة التي هي وجود خالق الكون.

2-برهان الآيات:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً الفرق بين برهان الآيات والبرهان الاستنباطي: "والفرق بين الآيات وبين القياس (ويعني به الاستنباط المنطقي) أن الآية هي العلامة، وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول، لا يكون مدلوله أمراً كلياً مشتركاً بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار. قال – تعالى -: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ ]الإسراء : 12[، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار .. وكذلك آيات الرب تعالى، نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى، لا يوجب علماً كلياً مشتركاً بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزما لهذا هو جهة الدليل. فكل دليل في الوجود لا بد أن يكون مستلزماً المدلول، والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب أقرب إلى الفطرة من العلم بأن كل معين من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة. والقضايا الكلية هذا شأنها"(1).

برهان الآيات هذا هو البرهان الذي يستعمله القرآن الكريم ليدل الناس على وجود الخالق وصفاته. مثل قوله – تعالى -:

﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ{58} أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ{59} ﴾ ]الواقعة : 58، 59[
﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ{63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ{64} ﴾ ]الواقعة : 63، 64[
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ{68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ{69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ{70}﴾ ]الواقعة : 68 - 70[
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ{71} أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ{72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ{73} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ{74} ﴾ ]الواقعة : 71 - 74[

برهان الآيات هذا لا يعتمد على قضية كلية تقول إن كل حادث لا بد له من محدث، بل يعتمد على ما هو أقوى بداهة في العقل، وهو العلم بأمثال هذه الحقائق الجزئية المعينة. فعلم الإنسان مثلاً بأنه مفتقر إلى من يوجده ويحدثه أسبق عنده وأقوى بداهة من أن يستدل عليه بقضية كلية تقول له إنك حادث وكل حادث فلا بد له من محدث، فأنت لا بد لك من محدث. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فليس العلم بحكم المعينات مستفاداً من الحكم الكلي الشامل لها، بل قد يكون العلم بحكم المعين في العقل قبل العلم بالحكم الكلي العام، كما أن العلم بأن العشرة ضعف الخمسة ليس موقوفاً على العلم بأن كل عدد له نصفية، فهو ضعف نصفيه"(2).
ملخص ما يقوله الشيخ هو أن النتيجة التي يؤدي إليها البرهان المنطقي هي أنه لا بد للكون من خالق، أو محدث أو مسبب، ولكنه لا يدلك على عين هذا الخالق، أي أنه لا يدلك على أن هذا الخالق هو الله تعالى. فالشيخ لا يقول إن الطريقة المنطقية ليست صحيحة، بل يصرح في كثير من كتاباته بأنها صحيحة، لكنه يرى أنها لا توصلك إلى العلم بالذات الإلهية، بل إلى علم بخالق أو محدث. وأما طريقة الآيات فتدلك على عين الخالق سبحانه، كما يدلك صوت إنسان تعرفه على عينه، وكما يدلك شعاع الشمس على عينها.

قد تقول للشيخ إنني عرفت الشمس أولاً وعرفت أن لها شعاعاً، ثم لما رأيت الشعاع علمت بوجود الشمس. وكذلك الأمر بالنسبة للصوت فأنا عرفت الشخص أولاً وعرفت تميزه بهذا الصوت ثم لما سمعت الصوت عرفت أنه صوته.
يوافقك ابن تيمية على هذا ويقول: "ثم الفِطَر تعرف الخالق بدون هذه الآيات؛ فإنها قد فطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات، ولم تعلم أن هذه الآية له؛ فإن كونها آية له ودلالة عليه ... يقتضي تصور المدلول عليه، وتصور أنذلك الدليل مستلزم له؛ فلا بد في ذلك أن يعلم أنه مستلزم للمدلول، فلو لم يكن المدلول متصوراً لم يعلم أنه دليل عليه. فمعرفة الإضافة متوقفة على تصور المضاف والمضاف إليه، لكن قد لا يكون الإنسان عالماً بالإضافة، ولا كونه دليلاً، فإذا تصوره عرف المدلول إذا عرف أنه مستلزم له"(1).

يفهم من كلام الشيخ هذا أن الناس نوعان:

نوع سليم الفطرة يعرف الله - تعالى - ويؤمن به، فمعرفته وإيمانه سابقان لمعرفته بالآيات، لكنه إذا رأى المخلوقات عرف أنها آيات له. فمعرفته بالآيات تؤكد إيمانه ولا تنشئه.
ونوع حدث في فطرته خلل، فلم يعد يؤمن بوجود الخالق، لكنه إذا تأمل
الآيات وجدها دالة عليه، فآمن بالله عن طريق الآيات. لكن حتى هذا ما كان ليؤمن لولا أنه كان متصوراً للخالق قبل رؤيته للآيات، فلما رأى الآيات رأى المناسبة بينها وبين ذلك الذي تصوره، رأى دلالتها على وجود الخالق الذي كان قد تصوره ولم يؤمن به.

يقول الشيخ ابن تيمية: "إن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضروريًا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة. وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها"(1).

فكأن الآيات هي في حقيقتها تذكير للإنسان بأمر مستقر في فطرته، وهو مع ذلك لسبب من الأسباب يجحده، لكن مثل هذا لا يبدهه ما في الآيات من دلالة على وجود الخالق، بل لا بد من أن يبين له كونها آيات. وهذا ما نجده في بعض آيات القرآن الكريم، مثل قوله – تعالى -: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ{35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ{36}﴾ ]الطور : 35، 36[

إن خلق الإنسان آية دالة على وجود خالقه، فالقرآن الكريم يدعو المنكر لوجود الخالق أن يفكر في هذه الحقيقة التي يعرفها أكثر من معرفته لغيرها. فهذا الدليل القرآني على وجود الخالق لا يتحدث عن حوادث كثيرة ولا يتحدث عن العالم كله، كما هو الشأن في مقدمات القياس المنطقي، بل يتحدث عن هذا الحادث الواحد الذي يعلمه كل مخاطب أكثر من علمه بأي حادث آخر؛ لكي يدله على أن خلقه هذا آية دالة على وجود خالقه، فإنه يدعوه للتفكير فيه، ويعينه على ذلك بأسئلة عن نفسه، يعرف كيف يجيب عنها، ولكنه إذا أجاب عنها الإجابة الصحيحة قادته إجابته إلى رؤية ما في نفسه من دلالة على وجود خالقه.
إنه يسأل أسئلة استنكارية؛ لأن الإجابة عنها بدهية فطرت عليها العقول، فما ينبغي لأحد أن يجهلها.

فكأن القرآن الكريم يقول لهذا المنكر:

إذا لم يكن الله هو الذي خلقك، وخلق هذا الكون حولك؛ فهل خلقت من غير شيء خلقك؟ أي جئت من العدم المحض؟
سيقول كل عاقل في نفسه: كلا .. فإن هذا مستحيل.
أو أنك أنت الذي خلقت نفسك؟
سيقول: كلا .. فإن هذا يبدو أكثر استحالة.
هل كنت أنت الذي خلق السموات والأرض؟
سيقول: كلا .. فالقول بغير هذا مكابرة.
هذه حجة فطرية يدركها الناس بعقولهم؛ لذلك قرر القرآن الكريم مقدماتها في شكل أسئلة استنكارية. وهذه هي طريقة القرآن في تقرير كل حقيقة معروفة بالبديهية العقلية، يقررها بسؤال استنكاري ليدل على أن منكرها ينكر البدائه.
فهو يقول مثلاً:

﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ]إبراهيم : 10[
﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ ]الملك : 14[
﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ﴾ ]الزخرف : 16[

أجل، إنها لحجة فطرية؛ لذلك أثرت تأثيراً بالغاً في بعض من سمعها ممن كان كافرا في زمان النبي (صلى الله عليه وسلم) ثم هداه الله تعالى.

هذه الحجة القرآنية - التي أسميناها دليل الآيات - يمكن وضعها هي الأخرى في صيغة من الصيغ المنطقية العقلية المعروفة، وذلك أن الحجج المنطقية ليست محصورة في الاستنباط، أو ما كان يسميه علماؤنا بقياس الشمول، بل هنالك حجج أخرى منطقية عقلية صحيحة يستعملها الناس في علومهم بل في حياتهم اليومية، وإن لم يصوغها الصياغات المنطقية. من الحجج ما يسمَّى بالقياس الاستثنائي.

والحجة القرآنية هذه يمكن وضعها في هذا الشكل المنطقي، كأن نقول مخاطبين الملحد:

أنت تعلم من نفسك أنك حادث وجدت بعد أن لم تكن.
فإما أن تكون قد وجدت من العدم أو أن شيئاً أوجدك.
من المستحيل أن توجد من العدم.
إذن فقد أوجدك شيء.
هذا الموجد إما أن يكون نفسك أو أن يكون غيرك.
من المستحيل أن تكون أنت الذي أوجدت نفسك.
إذن لابد أن يكون شيء غيرك هو الذي أوجدك .
هذا الغير إما أن يكون مثلك في حاجته إلى من يوجده أو لا يكون .
لا يمكن أن يكون مثلك؛ إذ ما قيل عنك سيقال عنه أيضاً.
لابد إذن أن يكون خالقاً بنفسه غير مفتقر إلى من يوجده؛ وهذا هو الله تعالى.

3- دليل العناية:

في الدليلين السابقين وجدنا في حدوث الأشياء دليلاً على حاجتها إلى خالق يخلقها، والحدوث صفة كل ما في الكون من مخلوقات؛ لذلك كان كل منها آية وعلامة دالة على خالقه. أما في دليل العناية فإن الصفة التي نستدل بها على وجود الخالق هي في علاقة هذه المخلوقات ببعضها البعض، أو في علاقة أجزاء الواحد منها ببقية الأجزاء. إن كل متأمل للمخلوقات يرى أنها ليست كوماً عشوائياً من الموجودات، بل هي مرتبة ترتيباً ومصممة تصميماً وراءه غاية تدل على أن لها صانعاً عالماً حكيماً.

يتجلى هذا التصميم في الإحكام الذي يجعل كل مخلوق أو كل جزء من مخلوق مصنوعاً بطريقة، وموضوعاً وضعاً يجعله محققاً لهدف، والذي يجعل حركة الخلق حركة متسقة لا يعطل بعضها بعضاً، والذي يجعلها أنواعاً متشابهة تشابهاً دقيقاً، والذي يجعل القوانين التي تحكمها قوانين واحدة لا تختلف مهما اختلف الزمان أو المكان، اللهم إلا إذا أراد الله لها أن تختلف تخلفاً يكون هو نفسه معجزة دالة على الخالق الواضع لتلك القوانين.

يقول الفيلسوف ابن رشد مبيناً دلالة الخالق على اتصاف خالقه بصفة العلم:"أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه، في قوله – تعالى -: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك : 14]. ووجه الدلالة أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه، أعني كون صنع بعضها من اجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع، أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة؛ وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية، فوجب أن يكون عالماً به"(1).

إلى هذا الإحكام الدال على أن للمخلوقات خالقاً مريداً عليماً حكيماً تنبهنا كثير من آيات القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً{6} وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً{7} وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً{8} وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً{9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً{10} وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً{11} وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً{12} وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً{13} وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً{14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً{15} وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً{16}﴾ ]النبأ : 6 - 16[

لا تقول لنا هذه الآيات إن هنالك أرضاً وجبالاً وبشراً ونوماً وليلاً ونهاراً وسماءً وشمساً وماءً ونباتاً وجنات ألفافاً؛ فهذه كلها أمور نشهدها ونعرفها، وكل إنسان كافراً كان أو مؤمناً يسلِّم بها؛ وإنما تدعونا الآيات إلى أن نفكر في الصلة بين كل واحد من هذه المخلوقات والأحوال وبين شيء آخر هو الإنسان المخاطب بهذا الكلام. تدعونا الآيات إلى نلاحظ أن كل واحد من هذه الأشياء والأحوال يحقق بالنسبة لنا نحن البشر هدفاً (وهذا لا يمنع أن تكون له غايات أخرى لا نعلمها).

فالأرض – هذا المكان الذي نعيش فيه – جعل لنا مهاداً، أي فراشا كما جاء في آية أخرى. والمقصود أنها جعلت مناسبة لحاجتنا مناسبة الفراش لصاحبه من حيث اللين والسعة والوقاية. فكأن الآية تقول إنه إذا كانت صناعة الفراش تدلعلى أن إنساناً عاقلا صنعه، وأنه لم يأت اتفاقاً، فمن الأولى أن تدل صناعة الأرض بهذه الطريقة المناسبة لمعاشكم على أن لها صانعاً حكيماً. ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ﴾: فكما أن الوتد الذي تصنعونه ليس مجرد قطعة من الخشب مغروسة في الأرض، بل هو مصنوع ومغروس بهذه الطريقة ليؤدي غاية، فكذلك الجبال ليست مجرد نتوءات في الأرض، بل لها وظيفة متعلقة بالأرض ومن ثم بحياتكم. ﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً ﴾: لكي يستمتع بعضكم ببعض، ولكي تنجبوا أطفالاً تستمتعون بهم، ولكي يحفظ جنسكم البشري. ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾: تنقطع فيه حركتكم، وترتاح أجسامكم، وتبرد أعصابكم، وتتخلصون به من كثير من الهموم والمشكلات النفسية. والليل والنهار: إنهما ليسا مجرد ظواهر فلكية نتجا مصادفة عن حركتي الشمس والأرض، بل إن لهما خالقاً جعلهما بهذه الطريقة خدمة لكم، ففي الليل ترتاحون وفي النهار تكدحون. وحتى تلك الأفلاك البعيدة عنكم لها تعلق بكم، فكما أن الأرض لكم فراش فالسماء لكم بناء أي سقف، والشمس سراج يمدكم بالنور والحرارة اللتين لا تكون بدونهما حياة بشرية ولا حيوانية ولا نباتية.

﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء﴾ ]البقرة : 22[.
﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ ]الأنبياء : 32[.
﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً{14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً{15} وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً{16}﴾ ]النبأ : 14 - 16[

إذا كان كثير من الناس يغفلون عن الحكمة في خلق ما مضى ذكره من ظواهر وأحوال، فلا يكاد أحد ينظر إلى الغيث على أنه مجرد ماء نازل على الأرض من السحاب، بل إنهم ليدركون صلتهم به وحاجتهم إليه؛ فبه ينبت الزرع الذي يأكلون منه كما تأكل أنعامهم التي يعيشون عليها.

إن ميزة الأدلة القرآنية أن دلالتها ليست قاصرة على أن للكون خالقاً، بل تتضمن الدلالة على أن هذا الخالق هو وحده الذي ينبغي أن يعبد ويشكر ولا يكفر. بل إن يعضها – كما هو الحال هنا – ليتضمن الدلالة على أن بعد هذه الحياة حياة أخرى يلقى فيها المحسنون جزاء إحسانهم، ويعاقب فيها الظالمون على ظلمهم.

إن بعض المنكرين لوجود الخالق المستكبرين عن عبادته، يذهبون كل مذهب في إنكار هذا التناسق العجيب في المخلوقات لما يعلمون من دلالته على وجود الخالق، ووجوب عبادته، وهم حتى حين يعترفون به يتعلقون بأوهى النظريات التي تفسره تفسيراً ينفي عنه القصد ويجعله أمراً حادثاً بالمصادفة والبخت، ومن ذلك ما ذكره عالم الأحياء (ميلتون) ورد عليه كتابه (حقائق الحياة).

4- الدليل الخُلُقي :

القيم الخلقية، قيم الصدق والأمانة والوفاء وغيرها، قيم ضرورية لوجود المجتمعات البشرية، إنها قيم لا يكون بدونها مجتمع، ولذلك قال بعضهم إنها مِلَاط المجتمع الذي يمسك أفراده كما يمسك الملاط اللبنات التي يتكون منها البناء. إنه بغير هذه القيم لا يكون علم حتى بأمور الدنيا، ولا يكون اقتصاد، ولا تكون علاقات اجتماعية. تصور مجتمعا لا يرى بالكذب بأساً ولا يعدُّه مذمَّة، فالناس فيه كلهم كذابون!! (وليس من شرط الكذاب ألا يصدق أبداً، بل يصدق إذا رأى الصدق له، ويكذب إذا رأى الصدق عليه)؛ هل يكون في هذا المجتمع علم؟ كلا! فإن من ضرورات العلم الصدق في الرواية، فإذا ادَّعى إنسان في هذا المجتمع أنه اكتشف – في مخبره – حقيقة ما، فإننا لن نصدقه، لأننا لا نعلم إن كان صادقاً أو كاذباً، بل سنقطع بكذبه إذا وجدنا أن هذه الدعوى تخدم غرضاً له. ولن تكون هنالك كتب ولا دروس ولا محاضرات،ولا مدارس ولا جامعات.

ما الفائدة من قراءة كتاب لا علم أن صاحبه صادقاً أو كذاباً، ولا أستطيع أن أستعين بغيري لأنه هو الآخر قد يكذب علي؟ وقل مثل ذلك عن المدرسين والمحاضرين، وقل مثله عن رواة الأخبار في سائر وسائل الإعلام، وقل مثله عن التجار والزراع والصناع؛ كيف تتعامل مع أي من هؤلاء إذا كنت لا تدري أصادق هو أم كاذب فيما يدعيه لك من ثمن بضاعة أو جودة محصول أو إحكام صنعة؟

الصدق ليس فضيلة خُلُقية فحسب، بل هو ضرورة اجتماعية أيضاً، وعليه كلما كثر عدد الصادقين في المجتمع كان المجتمع أقوى تماسكا وأدعى لأن تزدهر فيه العلوم والتقنية والاقتصاد إذا ما توفرت شروطها الأخرى. وكلما تفشى الكذب بين حكامه، وولاة أمره، وعلمائه، وتجَّاره وزرَّاعه وصنَّاعه، كان أكثر تمزقاً وأقل تطوراً في تلك الأمور كلها.

فالصادقون إذن يُسدُون إلى المجتمع خدمة هي من ضرورات وجوده، والكذابون هم معاول تقويضه. لكن مشكلة الأخلاق في حياتنا الدنيوية هذه هي أن الصادق قد لا يجد جزاء صدقه، بل يكون صدقه سببا في خسارة مالية، أو فقدان مكانة اجتماعية، بل قد يوقعه حتى في عقوبات جسدية.

والكاذب لا يعاقب دائماً على كذبه، بل قد يكون كذبه وسيلة إلى كسب مالي، أو نيل منصب اجتماعي، أو تفادي أذى جسدي، ولولا ذلك ما كذب إنسان. فالمشكلة إذن هي أن الذين ينفعون المجتمع قد يضارون مادياً، بينما الذين يضرونه قد ينتفعون مادياً.

فإذا لم يكن هنالك من خالق يرى ويسمع ما يفعل البشر، وإذا لم تكن هنالك من دار أخرى يثيب الله فيها المحسن على إحسانه ، ويعاقب المسيء علىإساءته، وكان الكسب المادي في هذه الحياة الدنيوية هو وحده الكسب المعتبر؛ لكان الصادقون الأمناء الموفون بعهودهم هم المغفلين الذين لا عقل لهم، ولكان الكذابون الخونة هم العقلاء. لكن العقل يقول إن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك، لا يمكن أن يكون العقلاء هم الذين يقوِّضون المجتمع، والمغفلون هم الذين يبقونه متماسكاً. لو كانت هذه الحياة – لذلك – كلها عبثاً. لكن ما من عاقل يمكن أن يقبل نتيجة كهذه؛ لأن فيها – من بين ما فيها – تقويضاً لأهم مبدأ تقوم عليه علومنا الكونية كلها، إن هذه العلوم كلها تقوم على افتراض المبدأ المسمَّى بتناسق الطبيعة، المبدأ الذي يقول إن قوانين الطبيعة لا تختلف، وإنه لذلك يمكن أن تدرس دراسة علمية بل رياضية؛ فكيف يكون هذا الكون في جانبه المادي عقلانياً، وفي جانبه البشري متناقضاً مع المبادئ العقلية؟!

وهناك تناقض آخر يؤدي إليه الإلحاد بالنسبة للقيم الخُلُقية. إن الناس مفطورون على أن هذه القيم قيم يحسن بهم أن يلتزموا بها، فهي جزء من تكوينهم العقلي، وهم يشعرون لذلك – وماداموا محتفظين بفطرتهم – بالسعادة حين يصدقون الحديث ويؤدون الأمانة ويوفون بالعهد، ويشعرون بالشقاء حين يكذبون أو يخونون وينكثون. فالملحد الذي يريد أن يتصرف وفق ما يقتضيه إلحاده؛ يمر بحالات يشعر فيها بالتمزق بين وازعه الداخلي، وتفكيره العقلاني؛ فبينما يقول له الوازع الداخلي: اصدق فهذا أريح لنفسك وأسعد لقلبك. يقول له فكره: لكنك تعتقد أنه ليس وراء الحياة من حياة، والصدق في هذه الحال يفوِّت عليك لذة عاجلة، ففيم التضحية بها وأنت لا تنتظر أخرى بعدها آجلة؟ يقول بعض من يسمع مثل هذه الحجة لكن الواقع أنه ما كل الملحدين كذابون ولا كل المؤمنين صادقون؛ فقد يصدق الملحد وقد يكذب المؤمن. وأقول أجل إن هذا ليحدث، لكن الملحد حين يصدق يتناقض مع مقتضيات مبدئه، أي إنه لا يصدق صدقاً يفوِّت عليه مصلحة إلا حين يتخلى – مؤقتاً – عن مبدئه أو عن عقله. أما المؤمن فالأمر بالنسبة له عكس ذلك تماماً، فهو حين يكذب يكون قد سلك سلوكاً يتناقض مع مبدئه ومع عقله، وحين يصدق يكون موافقاً لهما ولفطرته. وعليه فإنه كلما كثر عدد الملحدين، واشتد اقترابهم من مقتضيات مذهبهم فإن الكذب عندهم سيزداد لا محالة، وكلما كثر عدد المؤمنين واشتد استمساكهم بدينهم، ازداد عدد الصادقين منهم لا محالة.

يقول بعض المتحذلقين من الفلاسفة إنه لا معنى للسلوك الخلقي إلا أن تضحي مثل هذه التضحية التي لا ترجو لها ثواباً، وأنك إذا عملت الخير رجاء الثواب كما يفعل المتدينون لا يكون سلوكك هذا سلوكاً خُلُقياً بل تجارياً. لكن هؤلاء ما علموا أن التضحية المطلقة أمر يتنافى مع العقل الذي يسير عليه الناس في حياتهم الدنيوية كلها، وإلا لو كانت مثل هذه التضحية مما يدعو إليه العقل، لكان أعقل الناس هم الذين لا يسعون لنيل لذة ولا يعملون على اتقاء أذى، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتقون حراً ولا برداً ولا خطراً. وإذا كان هذا غير سائغ عقلاً فلماذا يسوغ في حالة السلوك الخُلُقي؟ وما الفرق بين هذا السلوك وغيره من أنواع السلوك؟ قد يقال إن الفرق هو ما ذكرته أنت نفسك آنفاً من أن في الإنسان وازعاً داخلياً يدعوه إلى السلوك الخُلُقي. ونقول: هذه هي المشكلة.

كيف نوفق بين هذا الوازع الداخلي الذي يدعونا إلى مكارم الأخلاق، والعقل الذي يدعونا إلى تحصيل ما ينفعنا ودرء ما يضرنا؟ إنه لا حل عند الملحد؛ إن إلحاده يوجب عليه إما أن يكون داعياً إلى نبذ الأخلاق، أو يكون داعياً إلى نبذ العقل، وكلا الطرفين في قصد الأمور ذميم.

كيف يحل الدين هذا الإشكال؟ يقول الدين الحق: نعم إن الأخلاق من الخير الذي فطر الله عليه عباده، ولكن هذه الأخلاق نفسها تقتضي أن يثاب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته. ولكن هذا لا يأتي في دار الدنيا هذه كما هو مشاهد، ولا يمكن إذن أن يأتي إلا في حياة أخرى بعد هذه الحياة، ولا يأتي في تلك الحياة الثانية إلا إذا كان هنالك إله عليم عادل حكيم، يعلم ما يعمل الناس الآن ليجازيه عليه غداً.

فالمؤمن يعمل الخير لأن الله فطره على حبه، ويعمله لأن الله يثيبه على فعله، ولا تناقض بين الأمرين لأن إثابة المحسن هي نفسها مبدأ خلقي.

ذكر – تعالى – ما أعده لعباده الصالحين، فقال: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ{46} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{47} ذَوَاتَا أَفْنَانٍ{48} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{49} فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ{50} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{51} فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ{52} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{53} مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ{54} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{55} فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ{56} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{57} كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ{58} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{59} ﴾ ]الرحمن : 49 - 59[

ثم ختم هذا بقوله : ﴿ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ ]الرحمن : 60 [

والسؤال سؤال استنكاري، فكأن الآية تقول: إن هذا هو الأمر الذي تدلكم عقولكم على أنه ينبغي أن يكون؛ فكيف تتوقعون غيره؟

لعل القارئ يرى – كما أرى – أن الدليل الخُلُقي هذا هو فرع عن دليل العناية؛ لأن فحوى هذا الدليل أن الكون فيه من التناسق والعناية ما يدل على أن له مبدعاً حكيماً.

والحكيم لا يفعل شيئاً عبثاً. لكن عدم وجود دار آخرة يلقى فيها المحسن ثواب إحسانه والمسيء عقاب إساءته هو مما يتناقض مع تلك الحكمة وهذا الإحكام. لم أرى أحداً ممن قرأت له يربط هذا الربط بين هذين الدليلين، لكنني أحسب أن المناسبة بينهما مما لا يخطئه الناظر المتمعن، ولا سيما الناظر في القرآن الكريم. في هذا الكتاب العزيز عدة آيات تدعو إلى التفكر في الكون لمعرفة أن له خالقاً حكيماً ينبغي أن يعبد غيره مما لا يخلق، ولمعرفة أنه لم يخلق عبثاً ولا لعباً ولا باطلاً وإنما خلق بالحق، أي من أجل غاية. وقد وجدت في أكثرها – فيها أو في سياقها – ربطاً بين نفي البطلان واللعب والعبث عن خلق الكون، وبين أنه لا بد أن تكون هناك دار آخرة، أي إنه لو لم تكن آخرة لكان خلق هذا الكون كله عبثاً وباطلاً ولعباً ولم يكن حقاً؛ لأن هذا يتنافى مع الإحكام الذي فيه ومع ما يدل عليه هذا الإحكام من كونه مخلوقاً لخالق حكيم. إن الخالق الحكيم لا يخلق خلقاً فيأمرهم وينهاهم ثم يجعل مصير الذين استجابوا لرسله فعملوا صالحاً كمصير الذين تمردوا عليهم وخاضوا فيكل فعل قبيح؛ فالآخرة إذن ضرورة خُلُقية. تأمل هذه الآيات .. وانظر كيف جعلت الإحكام في خلق الله دليلاً على ضرورة وجود الآخرة، قال – تعالى -:

﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{21} وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ{22}﴾ ]الجاثية : 21 ، 22[.

تأمل كيف ربطت الآية بين خلق السموات والأرض بالحق، وبين عدم الظلم، وتأمل كيف ربطت الآية التالية بين عدم خلقها باطلاً – أي عبثاً – وبين مساواة المحسنين بالمسيئين:

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ{27} أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ{28} كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{29} وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ{30}﴾ ]ص : 27 - 30[.

نعم إن أولي الألباب، أولائك الذين يتفكرون في الأمور ويستدلون بها الاستدلالات الصحيحة، لا أولائك الذين يدَّعون العقلانية، وهم من أبعد الناس عن الالتزام بمقتضيات العقول، هم الذين يتدبرون في كون الله المخلوق وفي كتابه المقروء، وفي آيات الله الكونية، وآياته الكلامية؛ فيصلون بفكرهم المستقيم إلى الحق ويلتزمون بمقتضياته.

هذه المعاني تتكرر – كما قلت لك – في آيات كثيرة من آيات الكتاب العزيز، فإليك أمثلة لها:

﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ ]الأنعام : 73 [
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ ]الحجر : 85 [.
﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ ]الروم : 8 [.
﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ ]الأحقاف : 3 [.
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ ]التغابن : 3 [.

قد يقال إن هذه الحجة إنما تصلح لإنسان لا يؤمن بالخالق وينكر وجود الدار الآخرة، لكننا هنا بصدد إنسان ملحد ينكر وجود الخالق. وأقول إن الآية فيها الأمران كلاهما.

فهي من ناحية تخاطب من يقر بوجود الخالق وينكر البعث، ولكنها من ناحية أخرى تدل على أن إحكام الخالق وما فيه من تناسق وعناية - من بينها وجود قيم خُلُقية لا تصلح مجتمعات الناس إلا بها – يتنافى مع عدم وجود دار آخرة. ولكن إذا كانت هنالك دار آخرة ولم يكن هنالك إله شهيد على الناس في هذه الحياة الدنيا، كي يجازيهم عليها في تلك الدار؛ لم يكن لها من فائدة بل صار الأمر فيها كالأمر في هذه الحياة الدنيا.

قلت إن الآخرة ضرورة خُلُقية، ولو شئت لقلت ضرورة عقلية؛ لأن المبادئ الخُلُقية، هي من بين الموازين التي فطر الله عليها العقول لقياس الأمور وتقويمها، فالذي يتنافى مع الأخلاق يتنافى مع هذا العقل الفطري. وإذا قرر الله – تعالى – أمراً في صيغة سؤال استنكاري؛ فإنه يدل على أن الأمر معروف ما ينبغي أن ينكر أو يخالف، ومما يدخل في هذا ما كان معروفاً بهذا العقل الفطري.

تأمل هذه الآيات .. كيف تستنكر أن يكون مصير المحسنين كمصير المسيئين سواء بسواء لأن هذا مما يتنافى مع تلك المبادئ الخُلُقية العقلية الفطرية ؛ وعليه فلا بد من دار آخرة يستقيم فيها هذا الأمر:

﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{33} إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ{34} أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ{35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ{36}﴾ ]القلم : 33 - 36 [
﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ ]ص : 28 [

وهناك مشكلة أخرى تتعلق بالقيم الخُلُقية؛ إنه لا مكان في الفيزياء – ولا في غيرها من العلوم الطبيعية – للقيم الخٌلٌقية، أو الجمالية أو غيرها من القيم؛ ذلك لأن مجال هذه العلوم إنما هو الكائنات الطبيعية ، لكن الناس لا يكفيهم في حياتهم علمهم بالطبيعة مهما ازداد وعظم؛ إنهم يحتاجون مع هذا إلى قيم يهتدون بها في معاملاتهم، فإذا حلَّت العلوم الطبيعية محل الدين – كما يريد لها الملحدين في عصرنا – وإذا حُصر الحق فيما يأتي عن طريق هذه العلوم؛ فأنى يجد الناس تلك الهداية التي هي من ضرورات حياتهم؟ إن كثيراً من ملاحدة العلماءالطبيعيين يعترفون بهذه المشكلة لكنهم لا يحيرون لها جواباً.

ينقل (تيلر) عن عالم الأحياء البريطاني (ميداور) وهو ملحد مثله قوله: "إن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالبدايات والنهايات أمر خارج – منطقياً – عن مقدرة العلم الطبيعي"(1).

لكنه يعلق على هذا بقوله: "إن هذا مسلك يصعب قبوله، فما زالت هنالك فجوه في حياة أناس كثيرين بسبب انعدام الغاية هذه. لقد كتب العالم النفسان كارل يونج: "(إنه لم يكن من بين مرضاي الذين هم في النصف الثاني من عمرهم (بعد سن 35 سنة) أحد لم تكن مشكلته في النهاية هي الظفر بنظرة دينية إلى الحياة)"(2).

ثم ينقل عن صحفي معاصر – يقول عنه: إنه ابن لأحد الفيزيائيين – قوله: "إن العلم الطبيعي ليس سلعة محايدة أو بريئة يمكن أن يستخدمها للاستفادة منها قوم لا يريدون إلا أن يكون لهم نصيب من قوة الغرب المادية ... إنه مدمر روحياً، مودٍ بكل المرجعيات والتقاليد القديمة ... وبعد أن يودي بكل منافسيه يبقى السؤال: أي نوع من الحياة تلك التي يقدمها العلم الطبيعي لأهله؟ ... ماذا يقول لنا عن أنفسنا وكيف نحيا؟"(3).

ثم يقول: "ليس هنالك من جواب جاهز على هذا السؤال"(4).



يتبع ... :ANSmile:

DirghaM
01-23-2010, 10:45 AM
الفصل الثالث
[ الفيزيـاء وأصـل الكـون ]


الفيزياء وأصل الكون


من أين أتى هذا الكون؟


من أتى هذا الكون؟ هذا سؤال طبيعي عن كل شيء له بداية وإن كانت تلك البداية في الزمان، لكن هذا السؤال يصير أكثر إلحاحاً إذا كانت تلك البداية بداية مطلقة للمادة وما يصحبها من زمان ومكان. فما رد الفيزيائي الحديث على هذا السؤال المُلِحّ؟ لقد قرأنا من قبل قول الله –تعالى-: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الطور:35-36].
المؤمنون بوجود الخالق الحق نوعان: نوع يعترف به رباً خالقاً مدبراً لكل شيء، لكنه لا يفي بموجبات الربوبية؛ فلا يعبد الله تعالى، أو يعبده ويعبد معه غيره، ولا يعترف بنبي ولا شرع إلهي، فيكون تصرفه كتصرف الذي لا يؤمن بالخالق تعالى.
ونوع يؤمن بالخالق الحق رباً واحداً، ويرى أن إقراره هذا يوجب عليه أن يؤمن به إلهاً واحداً لا معبود بحق سواه؛ فيعبده غير مشرك به، ويؤمن برسله وكتبه، ويطيع أمره، ويرجو ثوابه ويخشى عقابه.
كان العرب الذين أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم في جملتهم من النوع الأول، فهذه الآيات موجهة إليهم وإلى أمثالهم. لكن هذه الآيات –إذا لم تقرأ في سياقها- قد يظن أنها لا تخاطب إلا قوماً منكرين لوجود الخالق سبحانه. نعم، إن في الآيات لرداً على المنكرين لوجود الخالق، لكنه رد موجَّه –أيضاً- إلى قوم يدَّعون الإيمان به. فكأن الآيات تقول لأمثال هؤلاء: إن مسلككم في استكباركم عن عبادة الله، أو في الشرك به؛ هو مسلك من يعتقد من الناس أنه لا خالق له، فلا يلزمه أن يعبده، أو مسلك من يعتقد أنه هو الذي خلق نفسه، فهو الذي يملك أمر نفسه ويتصرف فيها كما شاء، أو مسلك من يعتقد أنه هو الذي خلق هذا الكون، فهو مستغن عن الخضوع في أمره لأحد سوى نفسه. فإذا كنتم لا تقولون بشيء من هذا، بل تعتقدون –كما تزعمون- أن لكم رباً واحداً هو الذي خلقكم وخلق هذا الكون حولكم؛ فآمنوا برسوله الذي أرسله إليكم، واعبدوه ولا تشركوا به. ولهذا قال ابن كثير عن هذه الآيات: ((هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية)).
لقد كان لهذا الخطاب القرآني وقع مؤثر جداً على بعض من استمع إليه من أولئك العرب، روى البخاري في صحيحه عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه –رضى الله عنه- قال: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الطور:35-36] كاد قلبي أن يطير)).
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: ((كان جبير قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسرى، وكان إذ ذاك مشركاً، فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جمله ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك)).
فالبراهين القرآنية على وجود الخالق لا تقف عند حد الدلالة على وجوده، كما هو الحال في سائر البراهين الفلسفية والكلامية، بل تتضمن –كما ذكرنا من قبل- الدلالة على استحقاقه وحده للعبادة؛ لأنه لا فائدة في إقراره بوجود الخالق لا تتبعه عبادة والتزام بشرعه.
ولكن إذا كانت الآية الكريمة موجَّهة إلى ذلك النوع من المدَّعين للإيمان بوجود الخالق الذين لا يوفون بموجبات هذا الإيمان؛ فهي بالأحرى موجَّهة إلى من لا يؤمن به أصلاً. وقد كان في العرب بعض من هؤلاء، وإن كانوا قلة.
فالآيات القرآنية هذه تدلنا على أنه يلزم كلَّ منكر لوجود الخالقِ الحقِ، إما القول بأن الحوادث لا يحدثها شيء بل تأتي من العدم المحض، أو القول بأنها تخلق نفسها، أو القول بوجود خالق غير الله الخالق الحق.
وقد تتبعت أقوال الملحدين من فلاسفة وعلماء طبيعة وآخرين غيرهم، فما وجدتها تخرج عن هذه الدعاوى الثلاثة الباطلة. زعم بعضهم فيما مضى أن بعض الكون أزلي، وقال آخرون بل مادته هي الأزلية، فأعطوها صفة من صفات الخالق، وزعم بعضهم –بعد ثبوت حدوث الكون- أنه خلق من عدم، وزعم آخرون أنه خلق نفسه. وفيما يلي مناقشة لهذه الدعاوى التي ألبست ثوب العلم تارة، وثوب العقل أخرى، أو الثوبين معاً تارة ثالثة.
هل في الفيزياء ما يدل على أزلية الكون؟
نعني بالأزلي ما ليس لوجوده مبتدأ وليس له –بالتالي- منتهى. فإذا صح أن شيئاً ما أزلي، فلا يمكن أن يكون مخلوقاً؛ لأن المخلوق يتقدمه خالقه، فهو بالضرورة حادث، أي إن لوجوده مبتدأ, فهل هذا الكون بكواكبه ونجومه ومجراته، وبما في الكواكب وما بينها من أشياء كلها كانت منذ الأزل كما هي عليه اليوم لم تتغير ولم تتبدل؟ هذه دعوى لا يقول بها عاقل وهو يشاهد ما يحدث في الكون في كل لحظة من حوادث وما يطرأ على موجوداته من تغير. فماذا يعني الذين يقولون بأزلية الكون أو المادة إذنظ
1- التصورات القديمة:
إذن تَطَوُّر أو بالأحرى تَقَهْقُر –فكرة أزلية المادة لهي من أطرف ما يقرأ الإنسان في دحض الادعاء بأن العلم التجريبي يسند قضية الإلحاد؛ إذ الواقع عكس ذلك تماماً.
فتَطَوُّر هذا العلم يُؤازِر قضية الإيمان ويُضعِف بل يُقوِّض أهم الأسس التي يقوم عليها الإلحاد، وهو الزعم بأن المادة أزلية لا بداية لها، أبدية لا فناء لها.
لقد ظل الماديون طوال القرون في أمر مختلف بالنسبة لأزلية المادة، ظنوها بادئ الأمر هذه النجوم والكواكب الضخمة التي يشاهدونها، والتي يُخيَّل لمخلوق ضعيف معدود الأيام كالإنسان أنها أزلية، لأنها فيما يظن بقيت على حالها التي عرفها آباؤه وأجداده وكل البشر قبله؛ فما المانع إذن من أن تكون قد كانت على هذه الحال منذ الأزل؟ وما المانع من أن تظل هكذا إلى الأبد؟ وإذا كانت أزلية فإنها لا تحتاج إلى خالق، وهذا ما عناه الفلاسفة الذين قالوا بقِدَم هذه الأجرام السماوية. وإذا كان هؤلاء قد قالوا بأزليتها، فإن آخرين –منهم البابليون الذي جادلهم سيدنا إبراهيم –عليه السلام- قد قالوا بألوهيتها وعبدوها.
وقد كان المفكرون المتدينون فيما مضى يجهدون أنفسهم في استخراج الأدلة العقلية على بطلان هذه الفكرة، من ذلك قول الغزالي في تهافت الفلاسفة: ((ما تمسك به (جالينوس) إذ قال لو كانت الشمس مثلاً تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف السنين لا تدل على هذا المقدار، فلمَّا لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دلَّ على أنها لا تفسد.
الاعتراض عليه من وجوه:
الأول: أن شكل هذا الدليل أن يقال: إن كانت الشمس تفسد فلا بد أن يلحقها ذبول، لكن التالي محال –وهذا قياس يسمى عندهم الشرطي المتصل- وهذه النتيجة غير لازمة؛ لأن المقدم غير صحيح. ولا نسلم له أنه لا يفسد الشيء إلا بالذبول؛ فالذبول هو أحد وجوه الفساد ولا يبعد أن يفسد الشيء بغتة وهو على حال كماله.
الثاني: أنه لو سلم له هذا، وأنه لا فساد إلا بالذبول؛ فمن أين عرف أنه لا يعتريها الذبول؟ أما التفاته إلى الأرصاد فمحال، لأنها لا تعرف مقاديرها إلا بالتقريب، والشمس التي يقال إنها كالأرض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه لو نقص منها مقدار جبال مثلاً، لكان لا يتبين للحس، فلعلها في الذبول وإلى الآن قد نقصت مقدار جبال فأكثر، والحس لا يقدر على أن يدرك ذلك لأن تقديره في علم (المناظر) لا يعرف إلا بالتقريب.
وهذا كما أن الياقوت والذهب مركَّبان من العناصر عندهم وهي قابلة للفساد، ثم لو وضعت ياقوتة مائة سنة؛ لم يكن نقصانها محسوساً. فلعل نسبة ما ينقص من الشمس في مدة تاريخ الأرصاد كنسبة ما ينقص من الياقوتة في مائة سنة، وذلك لا يظهر للحس؛ فدل أن دليله في غاية الفساد)).
وهذا الذي ذكره الغزالي بذكائه المتوقد احتمالاً قد أثبته العلم الآن يقيناً، فمن المسلَّم به الآن أن الإشعاع الصادر عن الشمس ينقص من كتلتها، وإن كان القدر الذي يُنقصه من ضئيلاً جداً بالنسبة لحجمها.
((تحويل 1% من كتلة الشمس من الهيدروجين إلى الهيليوم يمدُّها بطاقة تكفي لإبقائها مضيئة لمدة 1,000,000,000 عام)).
((إن كمية الطاقة التي ترسلها الشمس هي من العِظَم بحيث أن كتلة الشمس تتناقص بمعدل 4,3 بليون كيلو جرام في كل ثانية! ولكن هذا قدر ضئيل جداً من كتلة الشمس بحيث أن التغيير هذا لا يكاد يلاحظ... يعتقد أن عمر شمسنا 4,5 بليون سنة، وأنها ستستمر في نشاطها هذا إلى4,5 بليون سنة أخرى)).
وإذا كانت كل هذه الأجرام الكبيرة من شمس وأرض وسائر النجوم والكواكب ليست أزلية بل إن لها تاريخاً –ولها بالضرورة نهاية؛ فما هو الأزلي إذن؟
أهي العناصر التي تتكون منها هذه الأجسام من ذهب وحديد وهيدروجين وهيليوم... إلخ؟ ربما كان هذا هو المظنون بادئ الأمر، ولفظة عنصر تشير إلى هذا المعنى. ولكن العلم في تطوره اكتشف أن هذه العناصر هي بدورها مركبة من ذراتز
فهل الأزلي هو هذه الذرات؟
القول بأن كل ما في الكون من أشياء مكون من ذرات قول قديم يعتقد أن أول من قال به الفيلسوف اليوناني (ديقريطس)، وقد تبنى هذا القول بعض الفرق الإسلامية، وكانوا يسمُّون الذرَّة بـ(الجزء الذي لا يتجزأ)، وهو الاسم المطابق للكلمة اليونانية. لكنهم كانوا يعتقدون أن الله –تعالى- هو الذي خلق الذرات ثم خلق منها الكون: لذلك كانوا يقولون أن الخلق جمع وتفريق، أي أن الله –تعالى- إذا أراد أن يحدث شيئاً جديداً فإنما يكونه من تلك الذرات التي خلقها أولاً.
ولا تنافي بين نظرية الإسلاميين هذه وبين وجود الخالق كما ترى؛ لأنهم لم يكونوا يقولون إن الذرات أزلية، بل يعتقدون أنها مخلوقة.

2- الفيزياء الكلاسيكية:
ثم جاء (نيوتن) فأعطى هذا القول الفلسفي صبغة علمية، لكن تصوره للذرات كانت كتصور المسلمين لها من حيث اعتقاده أن الله –تعالى- هو الذي خلقها وقدَّر كل ما يتعلق بها، فهو يقول: ((بعد أخذ كل هذه الأشياء في الاعتبار، يبدو لي من المحتمل أن الله كوَّن المادة –في بداية الأمر- في شكل جزئيات مصمتة، كتلية، لا تخترق، وقابلة للتحرك، وفي أحجام وهيئات وبخصائص أخرى، ومقادير بالنسبة إلى الفضاء، هي في غاية الملاءمة للهدف الذي من أجل كوَّنها)).
فليس إذن حتى في فيزياء (نيوتن) ما يثبت أن الذرات التي تتكون منها المادة أزلية، وإنما القول بأزليتها كان مجرد افتراض لم يلبث أن تَطَوُّر علم الفيزياء أن أبطله كما سنرى الآن.
3- الفيزياء الحديثة:
هل الذرَّة هي المادة الأزلية؟ كلا! فقد أبطل تَطَوُّر علم الفيزياء هذا الظن أيضاً؛ إذ قد تبين أن الذرَّة نفسها مركبة من أجزاء أخرى عرفنا منها أولاً: الإلكترون والنيوترون والبروتون، ثم تبين أن هذه المكونات هي نفسها مركبة من أجزاء، آخر ما عرفه الفيزيائيون منها ما يسمَّى بـ(الكوراك).
قد يقول قائل: وإذن فقد وصلنا أخيراً إلى المادة الأزلية، إلى الجزء الذي لا يتجزأ: إنه هذه الكواركات.
والرد على هذا من ناحيتين:
أولاً: أنه قول بغير علم؛ إذ ليس في هذه الكواركات ما يدل على أزليتها، وعدم تكونها هي الأخرى من أجزاء أصغر منها.
ثانياً: إذا كان الشيء أزلياً لا بداية له فهو بالضرورة مستغن عن غيره. أعني أنه لا يعتمد في وجوده ولا استمرار وجوده على غيره.
وإذا كان الشيء قائماً بنفسه مستغنياً في وجوده عن غيره فإنه لا يفنى ولا يتغير ولا يتبدل.
لماذا؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يحسن أن نسأل سؤالاً آخر هو: متى يفنى الشيء وينتهي من الوجود؟
خذ مثلاً عود ثقاب وأشعله. إنه يستمر مشتعلاً لمدة ثوان ثم ينتهي؛ فلماذا انتهى؟ انتهى إما لأن العود الذي كان يمده بالوقود قد احترق كله، وإما لأن الأكسجين قد نفد، وإما لأن أحداً نفخه نفخاً شديداً فأبعد الشعلة عن العود وإما... وإما...
ملخص القول: إن الشعلة انقضت حين تخلف شرط من شروط وجودها، فالشعلة لا تستمر متقدة إلا إذا وجدت وقوداً؛ فالوقود إذن شرط ضروري لوجودها ولا تستمر إلا إذا وجدت الأكسجين؛ فهو إذن شرط ضروري لوجودها.. وهكذا.
نعود إلى سؤالنا: متى يفنى الشيء؟
والجواب الآن واضح: إنه يفنى إذا تخلف شرط من شروط وجوده.
ولكن هذا يعني أن الشيء الذي يفنى هو بالضرورة شيء يعتمد في وجوده على غيره؛ فهو إذن غير مستغن بنفسه. ولكنا قلنا إن الشيء الأزلي من الضروري أن يكون مستغنياً بنفسه؛ وإذن فكل شيء جاز عليه الفناء استحالت عليه الأزلية، وإذن فإذا أردنا أن نختبر شيئاً ما لنعرف ما إذا كان أزلياً أو لا؛ فما علينا إلا أن نتساءل: أهو شيء يمكن أن يفنى أو ينقضي؟ فإذا كان الجواب: نعم؛ فالنتيجة أنه غير أزلي.
والآن هل نعرف مادة معينة يصدق عليها القول بأنها لا تفنى؟
لقد رأينا أن المادة في شكل أجسام كبيرة، وفي شكل عناصر، وفي شكل جزئيات وذرَّات قابلة للفناء بل إنها لتفنى فعلاً، واستدللنا بذلك على أنها لا يمكن أن تكون أزلية.
ولكن ماذا تقول عن آخر أجزاء الذرَّة التي وصلنا إليها حتى الآن؟
إن العلم –كما قلنا- لم يُثبت بعد أن لها مكونات، ولكنه أثبت ما هو بالنسبة لموضوعنا أهم من ذلك؛ لقد أثبت أن هذه الأجزاء قابلة لأن تتحول إلى طاقة، وأن الطاقة نفسها قابلة لأن تتحول إلى مادة، فما نسمِّيه مادة كالهيدروجين مثلاً وما نسميه طاقة كالضوء هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة كما بيَّن إينشتاين في معادلته الشهيرة:
أي أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.

[هذا الفصل ينقصه من ص77 إلى 88]


يتبع... :ANSmile:

DirghaM
01-23-2010, 11:17 AM
الفصل الرابع
[ الإلحـاد ونظريـة الإنفجـار الكبيـر ]


قلنا في بداية هذا البحث أن الإلحاد الحديث اعتمد - قبل مقدم الفيزياء الحديثة - على دعوتين اثنتين هما أزلية المادة وطول المدة التي جعلت من الممكن أن يتكون منها - بمحض المصادفة - هذه الكائنات التي نشهدها.
ثم جاءت نظرية الانفجار العظيم فأبطلت هاتين الحجتين الأساسيتين اللتين اعتمد عليهما الإلحاد الحديث؛ إذ إنها تقتضي أن هذا الكون - بما في ذلك الزمان والمكان - له بداية مطلقة.

((إن العلماء الكونيين يعتقدون أن الانفجار العظيم يمثل ليس فقط ظهور المادة والطاقة من فراغ موجود سابقاً, بل خلق الزمان والمكان أيضاً. إن الكون لم يخلق في زمان ومكان. بل إن الزمان والمكان هما جزء من العالم المخلوق))(1).

وعلى ذلك يوافق (ستيفن هوكنج ) الذي دعاه بعضهم بـ (نيوتن العصر الحديث ), حيث قال: ((إن أعظم سوء فهم للانفجار العظيم هو القول بأنه بدأ كتلة من المادة في مكان ما من خلاء الفضاء. لم تكن المادة وحدها هي التي خلقت أثناء الانفجار العظيم, بل إن الزمان والمكان أيضا خلقا, وإذن فبالمعنى [الذي يقال به] إن للمكان بداية, فللزمان أيضا بداية))(2)
والانفجار العظيم يقتضي أيضاً أن تلك الكمية العظيمة من الطاقة التي انبثقت إثر ذلك الانفجار لم تجد من الوقت ما يكفيها لتتفاعل وتتحول كيف شاءت حتى يتكوَّن منها - بمحض المصادفة - هذا الكون الذي نسكنه, بل كان عليها أن تتحرك منذ البداية بطريقة معينة, وبسرعة محسوبة حتى تتكون منها المجموعات الشمسية والنجوم والأفلاك و الحياة البشرية؛ لهذا يتساءل بعض الفيزيائيين متعجبين: ((لماذا بدأ الكون بما يقارب ذلك المعدل الحرج من التمدد الذي يفرق بين النماذج التي تعود فتتقوض والنماذج التي تستمر في التمدد إلى الأبد, بحيث أنها تظل إلى يومنا هذا - أي بعد عشرة آلاف بليون سنة - متمددة بما يقارب المعدل الحرج؟ لو أن معدل التمدد بعد ثانية واحدة من الانفجار العظيم كان اقل ولو بجزء واحد من مائة ألف مليون جزء, لعاد الكون فتقوَّض قبل أن يصل إلى حجمه الحالي))(1).

ولهذه النظرية - إن صحت - ميزة أخرى بالنسبة لقضية الإيمان بوجود الخالق, إذ أنها تجعل مقدمات الأدلة الكونية في غاية الوضوح والتحديد. لقد كان الفلاسفة واللاهوتيين الغربيون - وما زال كثير منهم - حين يدلل على وجود الخالق بوجود الكون يتحدث عن الكون أو العالم بطريقة عامة غامضة, كما يتحدث عن وجه دلالته على خالقه بالطريقة نفسها. لكن علماء الفيزياء الفلكيين - ومن تبعهم من الفلاسفة واللاهوتيين - يشيرون الآن إلى شيء محدد هو مادة هذا الكون - وما يتعلق بها من زمان ومكان - مجموعة في أصغر حجم. فلم يعد السؤال عن العالم بصفة عامة ولا غامضة وإنما عن هذه المادة المحددة. والسؤال أيضاً صار منضبطاً ومحدداً: إنه سؤال عن خلقها، عن كيفية حدوثها بعد أن لم تكن شيئا.

إن المادة بحسب هذه النظرية - ليست أزلية بل حادثة.
من أين جاءت إذن؟

إما أن يقال إن الله - تعالى - هو الذي خلقها.
أو يقال إنه لم يخلقها شيء بل جاءت من العدم.
أو يقال إنها هي التي خلقت نفسها.
أو يقال إن لها خالقاً غير الخالق الحقيقي.
و بكل من هذا قال بعض الفيزيائيين.
ضاق بعضهم بالنظرية ذرعاً:
هذه المزايا للنظرية هي التي جعلت بعض الفيزيائيين الملحدين يشمئزون منها, ويودون أن لو لم تصح لأنها تقوِّض الأساس الفلسفي الإِلحادي الذي يقوم عليه تصوُّرهم للعلم الطبيعي.

قال (جاسترو) - في بداية كتابه (الخالق الفلكيون) معلقا على شعورهم هذا: (إن في ردود فعلهم لشاهداً لطيفاً على الموقف الذي يتخذه العقل العلمي - وهو عقل يفترض أن يكون في غاية الموضوعية - تجاه دليل - يكشف عنه العلم نفسه يكون مصادماً للمعتقدات التي نعتقها في مهنتنا؛ يتبين من هذا أن العالم يتصرف كما يتصرف كل منا حين تصطدم معتقداته مع الدليل. ينتابنا الضيق, وندَّعي بأن ليس هناك من صدام, أو نخفيه بعبارات لا معنى لها)(1).
ثم نقل بعض أقوالهم ليستشهد بها على ذلك فقال عن (إينشتاين): ((لقد كانت فكرة الكون الذي ينفجر تزعجه؛ لأن لازمها أن للكون بداية. في خطاب إلى (دستر) ... كتب إينشتاين يقول: (إن مسألة كون متمدد هذه تقلقني). هذه لغة عاطفية غريبة في مناقشة معادلات رياضية. أظن أن فكرة البداية في الزمان أقلقت إينشتاين بسبب لوازمها اللاهوتية.))(1).

ونقل عن ( إدنجتون) قوله: ((إن فكرة بداية (الكون) مما أشمئز منه))(2). ثم نقل عن علماء طبيعة آخرين أقل شهرة من هؤلاء أقوالاً مماثلة, ثم عزا ردود فعلهم هذه إلى أنهم لا يستسيغون القول بوجود ظاهرة طبيعية لا يمكن تفسيرها(3).

لو أن (جاسترو) قال: ((لا يمكن تفسيرها تفسيراً طبيعياً)) لكان كلامه أدق. وذلك لأن المؤمن بالله ليس ضد التفسير بما هو تفسير, وإنما هو ضد الفلسفة الإِلحادية التي تدَّعي بأن العَالَم مكتف بنفسه, وأنه لذلك ليس هنالك من تفسير عقلاني ولا علمي لظواهره إلا تفسيراً يبنى على الأسباب الطبيعية. إن كثيراً من العلماء المعتقدين لهذه الفلسفة ينفرون عن تصوُّر خالق يحد من حريتهم؛ ولذلك فإنه حتى عندما يؤمن بعضهم بالخالق؛ فإنهم يريدونه خالقاً لا يتدخل في سير الطبيعة, أو إلهاً كإله (إينشتاين) المتحد مع الوجود, أو الإِله الذي هو مجرد محرك أول, بدأ الخلق ثم تركه وشأنه يسير بمقتضى القوانين الطبيعية التي أودعها إياه.
كن الاشمئزاز لا يغير من الواقع شيئاً, فهذه النظرية هي التي تتولى الشواهد كل يوم لتقوي احتمال صدقها, وليس هناك من نظرية تدانيها في هذا, ولذلك أصبح المعارضون لها قلة شاذة.

[ ناقص الصفحتين 95 و 96 ]

يقول هويل :" ان أكثر الأسئلة بداهة عن الخلق هو هذا (( من أين تأتي المادة المخلوقة ؟)) انها لا تأتي من أي مكان , انها فقط تظهر _ انها تخلق في وقت ما لاتوجد الذرات المتعددة التي تتكون منها المادة , وفي وقت بعده توجد . قد تبدو هذه فكرة في غاية الغرابة وأنا أعترف بأنها كذلك , لكن لا اعتبار لغرابة الفكرة في العلم الطبيعي اذا كانت فكرة عملية , أي مادام من الممكن التعبير عنها بصيغه منضبطة , ومادامت نتائجها متوافقة مع المشاهدة " .
عندما اقترح هويل هذه النظرية ثارت عليه ثائرة كثيرة من العلماء الطبيعين وفلاسفة العلوم , ووصفوا نظريته بأ تفسيرها للأشياء تفسير ديني لايتناسب مع العلم الطبيعي . مع ذلك ماقاله(بونجي) :" هذه النظرية تتضمن افتراض الخلق المستمر للمادة من العدم . وماهذا الذي يعنيه بالعادة احترام الحتمية العلمية حتى بأوسع معانيها , لأن مفهوم انبثاق الأشياء من العدم هو في حقيقته مفهوم ديني أو سحري وان ألبس شكلا رياضيا " .
لست أدري الى أي نظرية علمية أخرى يفسر ( بونجي) , لأنه اذا كانت نظرية الخلق المستمر تقول ان الذرات تخلق من العدم , فان نظرية الانفجار العظيم تقول ان الكون كله بما فيه من زمان ومكان قد خلق أو كان مسبوقا بالعدم . واذا كان (بونجي) قد أنكر نظرية الخلق المستمر لرائحتها الدينية , فان غيره قد فر اليها خوفا من نظرية الانفجار العظيم , ورآها أبعد منها عن الدين ! يرى مؤلف كتاب ( عالم داخل العالم ) ان نظرية الانفجار تؤدي تؤدي طبيعيا الى الى عالم جاء من العدم , وأن هذا هو الذي جعل (واينبيرج)يقول ان اكثر مايجذبه الى نظرية الكون ذي الحال الثابت هو أنها باستبعادها لفكرة البداية الزمانية تعطينا فيها صورة أقل شبه ممكن بالصورة الدينية التقليدية لخلق الكون . ثم نقل عنه قوله :" ان نظرية الكون ذي الحال الثابت هي _ فلسفيا _ الأكثر جاذبية , لأنها الأقل شبها للوصف المذكور في ( النشأة )" .
ان من حق كل عالم وكل مفكر أن يتخير من الأقوال والنظريات ماشاء ومن حقه أن ينكر ماتدعيه بعض الديانات , لكن يجب عليه احتراما للعلم والعقلانية أن يبني اختياره على حجج يراها قوية . أما أن يختار بمجرد الهوى والعصبية ضد هذا الدين أو ذاك ثم لايستحي من التصريح بذلك فأمر يدعو الى العجب . لكن لعله يفيد في تبديد تلك الفكرة الساذجة التي تفترض أن كل عالم من علماء الطبيعه هو انسان مثالي , قد أفلح في تجريد نفسه من كل هوى وكل تعصب في بحثه عن الحقيقة .
ثم نقول ان الفكرة التي لم ترق ل(واينسبيرج) في نظرية الانفجار العظيم موجودة بعينها في نظرية الكون ذي الحال الثابت التي لجأ اليها . أليست هذه النظرية هي التي تقول كما رأينا , ان كل ذرة من ذرات الكون تخلق من العدم , أي لها بداية ؟ نعم , انها لاتقول كما يقول العهد القديم وكما تقول نظرية الانفجار ان الكون كله له بداية . لكن اذا كان واينبيرج انما فر من هذا القول لأنه قول ديني , فان دينا آخر هو الاسلام لايقول بما يقول به العهد القديم ولابما تقول به نظرية الانبثاق العظيم بل يقول كما سنرى أنه مع أن لكل شيئ في الكون بداية , فان سلسلة المخلوقات ليست لها بداية .
واذا كان الملحدون من علماء الطبيعه وفلاسفة العلوم قد اعترضوا فيما مضى على نظرية الخلق المستمر خشية أن تفتح أبواب الفيضان الديني , فان ملحدي اليوم منهم يلوذون بالقول بالخلق من العدم ليستغنوا بذلك عن القول بوجود الخالق , وعليه فان الدين ينبغي أن يكون هو الخاسر في الحالتين . فاذا رؤي أن هنالك بديلا للخلق من العدم , قيل ان وجود الأشياء من العدم ليس من العلم في شيئ وانما هو من خرافات الدين والسحر . واذا لم يكن له بديل الا القول بوجود خالق , قيل أنه شيئ ممكن وعملي ! كل هذا يشير الى أن العداء الغربي القديم بين العلم والدين مازال يعشعش في أذهان كثير من المفكرين الغربيين , فأين الحقيقة في هذا كله ؟
أ- ان كثيرا من الناس لايعلمون أنه بالرغم من شيوع القول ب(الخلق من العدم) بين النتسبين الى الاديان الثلاثة , فانه لاوجود لهذا التعبير في شيئ من كتبهم . يقول شيخ الاسلام ابن تيمية _معلقا على قوله _تعالى :(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ) هود:7
" فقد أخبر أنه خلق السماوات والأرض في مدة ومن مادة . ولم يذكر القرآن خلق شيئ من لاشيئ , بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئا ,كما قال :(وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ) مريم:9 مع اخباره أنه خلقه من نطفه "
وبمثل ماقاله ابن تيمية عن القرآن تقول (دائرة معارف الأخلاق والدين ) عن الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى :"ان عقيدة الخلق من لاشيئ لم تؤكد صراحه في أي مكان من الكتاب المقدس "
ب_ ولكن حتى الاستعمال الشائع لتعبير :(الخلق من لاشيئ) بين المؤمنين

لايعني (أن الأشياء تخلق من العدم المحض ) , وانما يعني ( أن الله_تعالى_يخلقها من العدم ) . والفرق شاسع بين المفهومين , فالأول يعزو خلقها الى العدم بينما الثاني يعزوه الى خالق أزلي ذي ارادة وقدرة .
ج_ واذن فان الخلق من العدم بالمعنى الذي دعا اليه (هويل) ليس مفهوما دينيا , بل هو نقيض مايقوله الدين , ولو صح لم يكن فيه فتح لأبواب الفيضان الديني كما توهم الذين انتقدوه , بل اغلاق أبدي لها , ذلك لأن الدليل الكوني على وجود الخالق انما يرتكز كما رأيناه في صيغته الاسلامية على استحالة وجود المحدثات من العدم .
نعود الى سؤالنا الذي بدأنا فيه هذا المبحث من مقالنا : هل يمكن لشيئ ما أن يأتي من العدم المحض ؟
عندما قال (هويل ) أن ذلك ممكن ثارت عليه _كما رأيناه_ ثائرة الفيزيائيين وفلاسفة العلوم , فاضطر لأن يعدل في نظريته , لكن ماشنع به على (هويل) صار الآن قولا لكثير من علماء الفيزياء . يقول أحدهم في أول كتابه :
" في البداية لم يكن هنالك شيئ , لازمان ولامكان , لانجوم ولاكواكب , لاصخور ولانبات , لا أناس ولاحيوانات , كل شيئ جاء من الفراغ . لقد كانت البداية بالمكان والزمان , وبلازما ساخنة جدا ومكونة من الكواركات , والالكترونات , وغيرها الجسيمات الدقيقة "
ان فكرة حدوث الشيئ من غير محدث , فكرة متناقضة يعسر بل يستحيل التعبير عنها بعبارة مستقيمة . اذا قلت أن الفراغ أو العدم هو الذي أحدث الشيئ أو أوجده أو سببه أو ماشابه ذلك من ألفاظ , كان الكلام متناقضا , لأن الاحداث والايجاد والتسبب أفعال , فهي تحتاج الى فاعل , والفاعل لابد أن يكون شيئا موجودا , العدم هو نفي الوجود , فكيف يحدث أو يوجد ؟؟
واذا قلت كما يقول صاحب النص المنقول ان الشيئ ظهر من العدم , فالكلام أيضا غير مستقيم , اذا فهمنا الفراغ والعدم على اطلاقهما , لأننا سنقول حينئذ أن هذا الشيئ الذي ظهر كان مستخفيا في الفراغ أو في العدم , ثم ظهر منه , ولكن اذا قلت أنه كان مستخفيا في العدم فكأنك قلت أنه لم يكن مستخفيا . انك لاتستطيع أن تثبت للعدم صفة أو فعلا , ولاتستطيع أن تتحدث عنه الا بالنفي . ولذلك قال أهل السنة لمن زعم من غلاة المتأولة الذين لايثبتون لله _ تعالى_ صفة ايجابية , قالوا لهم انكم فررتم من تشبيه الخالق بالمخلوقات , فوقعتم في تشبيهه بالمعدومات , وهو شر مما فررتم منه . ان العدم عدم فلايمكن أن يكون سببا أو موجدا , ولامكانا للاستخفاء . واذا لم يكن الا العدم فلايمكن أن يظهر أو يحدث أو يوجد لازمان ولامكان ولاحجر ولامدر . وبما أن هذه الأشياء قد وجدت فعلا , فان وجودها دليل قاطع على أنها لم تكن مسبوقة بالعدم المحض .
اذا كان وجود الشيئ من العدم أمرا مستحيلا عقلا ومنطقا , فلايمكن أن يقوم على صحته دليل من الواقع , لكن بعض الفيزيائيين يريدون ايهامنا بأن في علمهم مايدل على أن بعض الأشياء تأتي من العدم ..يقول (ديفز):
" قد يكون بملكنا _لأول مرة_ وصف موحد للخلق كله . ليس هنالك من مشكلة علمية أشد أصالة ولا أكثر رهبة من معضلة الكيفية التي وجد بها الكون . أكان من الممكن أن يحدث هذا من غير فعل علوي ؟
يبدو أن الفيزياء الكمية قد فتحت ثغرة في المسلمة القديمة " انك لن تستطيع أن تحصل على شيئ بلاشيئ " ان الفيزيائيين يتحدثون اليوم عن " الكون خالق نفسه " كون يندفع الى الوجود تلقائيا , كما يظهر الجسيم تحت النووي من لامكان في بعض التفاعلات ذات الطاقة العالية . ليس من المهم ان كانت تفاصيل هذه النظرية صحيحة أو ليست بصحيحة , وانما المهم أنه من الممكن الآن تصور تفسير علمي للخلق كله " .
يخبرنا ( ديفز) هنا أن هنالك نظرية فيزيائية جديرة بالاعتبار تفسر لنا كيف أن الأشياء يمكن أن تأتي من العدم . ونقول انك لكي تفسر حدوث شيئ تفسيرا فيزيائيا , فينبغي أن تكون _على الأقل _ قادرا على بيان صلته بالشيئ الذي هو سبب حدوثه , أو الذي يفسر وجوده , ولكن اذا كنت تقول أن ذلك المحدث هو "لاشيئ" فليت شعري كيف تستطيع أن تجد صلة بين "الشيئ" و " اللاشيئ " ؟؟
ان التمثيل بالجسيمات تحت النووية التي تظهر من لامكان لن يفيد بشيئ , لأن هذه ظاهرة مشاهدة لكنها لم تفسر بعد . والدكتور محجوب يرى _كما نقلنا عنه سابقا_ أنه ليس في هذا ماينهض دليلا فيزيائيا على ظهور الأشياء من العدم .
أما (تيلر) صاحب كتاب (عندما دقت الساعة صفرا ) فبالرغم من أنه يشعر بالحرج الذي شعر به ملحدو الفيزيائيين من نظرية الانفجار العظيم , لكنه هو الآخر لايجد مخرجا الا القول بخلق الأشياء من العدم أو خلقها لنفسها . فهو يقول :" تقتضي نظرية الانفجار العظيم أنه في وقت ما من الزمان الماضي خلق الكون فجأة , ثم انه تمدد بعد ذلك بطريقه يمكن استكشافها بتفصيل , لكن قبل ذلك الوقت لم يكن هنالك كون _ولامكان ولازمان _ من الوسائل التي يمكن أن نتفادى بها المشكلات العظيمة التي يأتي بها هذا الانفجار العظيم أن تدعي بأنه لم يحدث قط " .
ثم ذكر أن هذا كان مسلك أصحاب نظرية الكون ذي الحال الثابت التي تبين بعد ذلك بطلانها . ما المخرج اذن ؟؟؟
لم يجد تيلر مخرجا الا القول أن الكون خلق من عدم , ومن غير خالق , فقد ذكر في بداية كتابه أنه قد اقترحت أجوبة غير جازمة على السؤال عن كيف بدأ الكون ؟؟
وأن هذه الأجوبة تعتمد على عنصر مهم جدا من عناصر الميكانيكا الكمية , هو أن الحوادث تحدث بطريقة الاحتمال لا الحتم , وعليه فهنالك مثلا احتمال أن يظهر الكترون من الفراغ . الحق أن الفراغ مليئ باحتمالات كثيرة من بينها ظهور الكون نفسه , لقد خلق من العدم أو كأنه .
ماذا يعني (تيلر) _ والعلماء الذين أشار اليهم _ بالفراغ أو العدم ؟؟
ان كانوا يقصدون بها معنى اصطلاحيا كاللذي أشار اليه الدكتور محجوب , فلا اعتراض لنا عليه من الناحية المنطقية , لكن هذا لن يحل الاشكال , لأننا حينئذ سنسأل :
ومن أين كانت في هذا الفراغ ؟؟جاءت هذه المادة أو الطاقه التي
ثم اذا كان يتحدث على افتراض صحة نظرية الانفجار , كما يدل على ذلك سياق كلامه , فانه هو وسائر العارفين بهذه النظرية يقولون انها تقتضي أن الكون كان مسبوقا بالعدم الخالص وليس بهذا الفراغ الذي هو في الحقيقة ليس بفراغ . أما اذا كان يتحدث عن العدم بمعناه اللغوي المعروف الذي هو نفي الوجود , فان كلامه يصير فعلا مناسبا لحل المشكلة , لكنه يصبح كلاما متناقضا . وأنى للكلام المتناقض أن يأتي بثمرة ؟؟
ان ظهور الالكترون من الفراغ أمر ممكن لأن الفراغ هنا هو الفراغ الاصطلاحي , لكن قياس ظهور الكون من العدم المحض على ظهور الالكترون من فراغ ليس هو في الحقيقة بفراغ هو قياس مع الفارق .
ثم يكرر هذه الفكرة العجيبة فيقول لنا أنه قد لوحظ منذ عام 1970م أن الكون يمكن أن يكون تذبذب الفراغ , ويعترف بأن هذا أمر يصعب تصوره , فيشرحه بتمثيله بقطرة من المطر تظهر فجأة في سماء صافية , فالفراغ _كما يقول _ هو السماء والكون هو قطرة الماء . ثم يقول "انه اذا كان من الممكن _في الفيزياء الكمية _ للجزيئ أن يظهر ويختفي بالمصادفة فكذلك يمكن للكون " .
انه لايصعب تصوره , بل يستحيل . كيف يكون في فراغ حقيقي تذبذب أو غيره مما توصف به الأشياء الوجودية ؟
والقياس بقطرة الماء قياس مع الفارق . ان قطرة الماء _ وان بدا لنا أنها ظهرت فجأة في سماء صافية_ لانملك الا أن نقول انها تكونت من أشياء وبأسباب سابقة لوجودها , والا لو كنا كلما بدا لنا أن شيئا يظهر من العدم , وبغير سبب قلنا انه لاسبب له فعلا , لما كان علم طبيعي ولاغير طبيعي . واذا استطعنا أن نقول هذا عن قطرة الماء , فأنى لنا أن نقوله عن كون مسبوق بالعدم المحض كما يدعي (تيلر) وأمثاله ؟؟؟
وقال بعضهم بل هو الذي خلق نفسه ...
ان فكرة خلق الشيئ لنفسه فكرة متناقضة , اذ لكي يكون الشيئ خالقا لابد أن يكون موجودا , ولكي يخلق لابد أن يكون غير موجود . وبما أنه من المستحيل أن يكون الشيئ موجودا وغير موجود في آن واحد , فيستحيل أن يكون خالقا لنفسه . هذا أمر يقتضيه المنطق الأولي . لكن ( ديفز) يقول لنا :
" القول بأن شيئا محسوسا يتضمن تفسيرا لنفسه قد يبدو متناقضا للرجل العادي , لكنه قول له سابقة في الفيزياء . بينما يمكن للمرء أن يسلم (متجاهلا للآثار الكمية) أن كل حادثة فهي ممكنة , وتعتمد في تفسير ( وجودها ) على حادثة أخرى , فلايلزم من هذا للسلسلة هذه أن تستمر الى مالانهاية له , أو أن تنتهي عند الخالق بل يمكن أن نأخذ شكل حلقة مغلقة , مثلا :
ان أربعة حوادث أو أشياء أو نظم : E1, E2 ,E3 ,E4
يمكن أن تكون معتمدا بعضها على بعض على النحو التالي :


http://img249.imageshack.us/img249/8550/14205554.jpg


وأقول: لتتذكر أننا انما نتحدث هنا عن حواد أو أشياء أو نظم لم تكن موجودة ثم وجدت , فكيف يمكن لها أن توجد ؟
اذا قلنا أنها تظهر جميعا دفعة واحدة , فلايمكن لشيئ منها أن يكون سببا لآخر , لأن العلة لاتكون علة الا اذا تقدمت معلولها بالزمان . واذا قلنا ان بعضا منها يظهر قبل بعض فان على وجود مايظهر منها أولا لايمكن أن يكون شيئ من أفراد هذه السلسلة , كيف وهو لم يظهر بعد ؟! وعليه فلايمكن للحلقة أن تكون مسدودة .
ولايمكن للسلسلة أن تكون حلقة مسدودة كما يريد لها (ديفيز) , لأنها اذا كانت كذلك كان كل فرد فيها علة ومعلولا لفرد آخر , أي سابقا في وجوده لوجود ذاك الفرد ولاحقا له في الوقت ذاته , وهو أمر مستحيل عقلا , وذلك أنه اذا كانت E1 هي علة وجود E2 وكانت هذه علة وجود E3 , وكانت هذه بدور ما علة وجود E4 , ولكن اذا كانت الحلقة مسدودة فان E1 لن توجد حتى توجد E4 وهكذا دواليك , أي انه لن يحدث شيئ البتة من هذه الحوادث أو الأشياء أو النظم , فهل رأيت من حلقة أفرغ من هذه وأكثر استحالة ؟!
يمثل لنا (تيلر) حدوث الذرات من العدم بالفكرة التي تسمى " رباط الحذاء" . وهي كما شرحها الكاتب نفسه ترجع الى زعم روائي ألماني أنه كاد أن يسقط في مستنقع لولا أنه انحنى وجذب رباط حذائه جذبا قويا الى أعلى فرفع نفسه !!
لا أحد ممن يستعمل هذا التعبير يأخذ القصة مأخذ الجد لأن مازعمه الروائي أمر مستحيل , ولكن تعبير ب"رباط حذائه" أصبح يستعمل في اللغة الانجليزية للدلالة على الاعتماد على النفس وعدم الاستعانة بالغير . أما (تيلر) فانه وأمثاله يأخذون هذه الفكرة بحرفيتها مأخذ الجد ليفسروا لنا بها الطريقة التي تأتي بها الجسيمات من العدم .
يقول لنا (تيلر) : " كأن هذه الجسيمات الخاصة تستطيع أن تجذب نفسها الى أعلى بأربطة حذائها (وهي _في حالتها _القوى التي بينها ) لتخلق نفسها من العدم " .
اذا كانت هنالك جسيمات فعلية وكانت بينها قوى , فانها قد وجدت وانتهت , فلاتحتاج لأن تخلق . واذا كان الكاتب انما يتحدث عن جزيئات بالقوة ( أي في حيز الامكان لا الوجود ) فكيف تكون بينها قوة تخلق بها نفسها ؟!
لكن الكاتب يصف فكرة "رباط الحذاء" هذه بأنها سيناريو علمي محترم لخلق كون من العدم !
ان الأنسان ليعجب كيف يصدر هذا الكلام من قوم عقلاء ! ودعك قوما يعتقد أنهم يشقون الشعر بفكرهم الرياضي ؟! لكن الذي أوقعهم في هذا الهوس هو اصرارهم على الكفر ومحاولة اغلاقهم لكل بادرة علمية تفتح للايمان بابا .
ولولا أن هذا الهوس صادر عن أمثال هؤلاء العلماء الفيزيائيين لما استحق أن ينظر فيه أو يرد عليه أو يعار أي اهتمام .
قلت في صدر هذا البحث ان كثيرا من الفيزيائيين الغربيين متأثرون جدا فيما يعبرون عنه من آراء _ولاسيما الآراء الدينية _ بفلاسفة بلادهم . ولهؤلاء ولفلاسفتهم أولئك ومفكريهم آراء غاية الشذوذ والتناقض لكنها حين تشيع تبدو وكأنها أمر عادي . من هذه الآراء فكرة خلق الشيئ نفسه فالفيزيائيون من أمثال (ديفز) ليسوا أول من قال بها , بل سبقهم اليها فلاسفة جعلوا هذه الفكرة عمدتهم في انكارهم لوجود الخالق . من أشهر هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الملحدين , بل الداعين الى الالحاد , بل الذين نشروا الالحاد كما لم ينشره غيرهم حتى بين أبناء المسلمين (كارل ماركس ) اسمع ماذا يقول في تسويغ الحاده :
" ان الكائن لايعد نفسه مستقلا , الا اذا وقف على قدميه , وهو لايقف على قدميه الا اذا كان مدينا لنفسه بوجوده . الانسان الذي يعيش بفضل آخر يعتبر نفسه عالة . ولكنني لا أعتمد كليا على فضل غيري الا اذا كنت مدينا له ليس فقط ببقاء حياتي بل بايجادها أيضا , اذا كان هو مصدر حياتي . واذا لم تكن حياتي من خلقي أنا فان لها _بالضرورة_ مصدرا خارجا عنها , ولذلك فان فكرة الخلق فكرة يصعب اقتلاعها من الوعي العام , ان هذا الوعي لايستطيع أن يتصور الانسان والطبيعة بوصفهما موجودين بوساطة أنفسهما , لأن هذا يتناقض مع كل شيئ محسوس في الحياة العملية ... من السهل أن تقول لفرد معين ماقال أرستطاليس :
لقد ولدت من أبيك وأمك ففيك أنتج الاتصال بين بشريين وهو فعل لازم للجنس البشري _بشر آخر .
من الواضح اذن أن الانسان مدين أيضا بوجوده للانسان حتى بالمعنى الحسي , واذن فينبغي ألا تركز نظرك على جانب واحد فقط . جانب التسلسل اللانهائي الذي يقودك لأن تسأل : ومن أنجب أبي ؟ ومن أنجب جدي ؟ ..الخ
بل ينبغي أن تضع في اعتبارك أيضا الحركة الدائرية المدركة حسيا في ذلك التسلسل والتي بمقتضاها يكرر الانسان نفسه بعملية التناسل , فيبقى الانسان دائما هو الفاعل . لكنك ستقول : سأعترف لك بهذه الحركة الدائرية فاعترف لي أنت أيضا في حقي في أن اتابع التسلسل الى الوراء فأسأل : من الذي أوجد الرجل الأول والطبيعة كلها ؟ ولن أجيبك الا بأن أقول ان سؤالك نفسه جاء نتيجة تجريد . اسأل نفسك كيف وصلت الى هذا السؤال ؟
اسأل نفسك ما اذا كان سؤالك قد وجه من موقف لا أستطيع أن أرد عليه لأنه سؤال عنيد " .
ان الالحاد ليس موقفا عقلانيا لكنه سوء خلق , ان سببه الأساس هو الاستكبار , وقد صرح ماركس نفسه في هذا النص بهذا الدافع وان حاول أن يكسوه ثوب الحجة والعقلانية . انه يبدأ بتقرير حقيقة مهمة , لامراء فيها , لكنه يبدأ بها لاليقرها بل ليتمرد عليها .
نعم ان الكائن لايكون مستقلا اذا كان غيره هو الذي خلقه , ولكن ماذا اذا كانت الحقيقة التي لامناص عنها هي أن الانسان مدين بوجوده لغيره ؟ ماذا يجديه التمرد على هذه الحقيقة ؟ ماذا يجديه أن يعيش في وهم كونه مستقلا ؟ و(ماركس ) نفسه لم يستطع في كلامه اللجلج هذا أن ينجو من كون الانسان مدين بوجوده لغيره , كل ماهنالك أنه جعل هذا الغير انسانا آخر بدلا من أن يعترف بأنه الله تعالى ؟؟ لكن النتيجة واحدة من حيث كون الانسان الفرد المعين لايوجد نفسه بل يوجده غيره .
لكن (ماركس) يلعب بالألفاظ فيريدنا أن نتصور أنه اذا كان الموجد لنا أناس آخرون أمثالنا فنحن البشر نوجد أنفسنا . وهذا ليس بصحيح . ان كون شيئ ما فعله انسان غيري لايعني أنني أنا الذي فعلته مهما كان الشبه بيني وبين ذلك الفاعل .
فحتى لو تنازلنا مع (ماركس) وقلنا ان الذي يخلق الانسان هم أناس آخرون , فان هذا لايعني البتة أن الانسان هو الذي يخلق نفسه , واذن فكل انسان فرد اذا قصر نظره على خلقه وايجاده , فلامناص له من الاعتراف بأنه لم يوجد نفسه بل أوجده غيره , واذن فقد ذهب عنه الاستقلال الذي دفعه الى انكار خالقه الحق . ان من عجيب حجة (ماركس) هذه انه تابعها افتراضا وراء افتراض حتى خنقته فلم يستطع منها فكاكا , لقد قادته حجته الى أن يجعل خصمه يسأل سؤالا مشروعا هو : من الذي خلق الرجل الأول والطبيعه كلها ؟ لم يستطع خلاصا الا بقول ان السؤال سؤال عنادي , لماذا ؟ ملخص اجابة (ماركس) انك عندما تسأل من خلق الانسان والطبيعة فانك تفترضهما غير موجودين , ولكن اذا كانا غير موجودين فأنت أيضا غير موجود , لأنك انسان وطبيعة , واذا كنت غير موجود فلاتستطيع أن تفكر ولا أن تسأل . لكنه يفترض أن خصمه من الذكاء بحيث يبين له مرة أخرى أن سؤاله مشروع , "انني لا أريد أن أفترض عدم وجودهما , وانما أسأل كيف نشآ , كما قد أسأل عالما عن تكوين العظام .. الخ " .
وقال بعضهم تسلسل الحوادث يغني عن الخالق
قالوا: لماذا لايكون سبب تسلسل الشيئ الحادث شيئا آخر حادثا , وسبب هذا الثاني ثالث حادث , وهكذا الى مالانهاية له , وبهذا نستغني عن الحاجة الى الأنتهاء الى خالق أزلي ؟
يبدو أن (ديفز) يظن أن هذا التسلسل أمر ممكن عقلا فهو يقول :
" وباختصار , مادام كل فرد من أفراد السلسلة قد فسر , فان السلسلة تكون بهذا قد فسرت . ومادام كل فرد في السلسلة مدينا بوجوده الى فرد قبله , فان كل فرد من أفراد السلسلة اللانهائية يكون قد فسر . فالسؤال عن سبب لكون كله له وضع منطقي مختلف عن السؤال عن شيئ أو حادث في داخل الكون " .
نقول أولا ان مثل هذا الكلام _مع زيفه الذي سنبينه _ كان يمكن أن يقال قبل نظرية الإنفجار الكبير،

[ ينقصه من الصفحة 111 إلى 115]



يتبع... :ANSmile:

DirghaM
01-23-2010, 11:21 AM
الفصل الخامس
[ رد اعتراضـات وتبديـد شبهـات ]


[ ناقص، من الصفحة 119 إلـى 142 ]




يتبع ... :ANSmile:

DirghaM
01-23-2010, 11:28 AM
الفصل السادس
[ مـن الخالـق ]

مَن الخالق؟

أوصلنا الدليل العقلي إلى وجود خالق للكون؛ فمن هو هذا الخالق؟ إنه لا يمكن عقلاً أن يكون شيئاً غير الخالق الحق الذي تدركه الفطرة والتي دعت إلى عبادته رسل الله, أي إن الخالق الذي أوصلنا إليه الدليل العقلي هو الخالق نفسه الذي يحدثنا عنه النص الديني. ولا غرابة في ذلك؛ لأن الله الذي خلق الكون وجعله دليلاً على وجوده, هو الذي أنزل الكتاب مصدقاً لشهادة الكون ومفصلاً لها.
وإليك أدلة ذلك:
لقد استنتجنا من وجود الأشياء الحادثة وجود خالق لها وبعض صفات هذا الخالق, ويمكن أن نستنتج من تلك الصفات صفات أخرى هي صفات الخالق الحق سبحانه, من هذه الصفات:

أولاً: صفة الخالقية نفسها, وهي التي وردت في مثل قوله -تعالى-:
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) { الزمر:62 }
(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ){الحشر:24}
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) {العلق: 1-2}
(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) {السجدة:7}
( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) {البقرة:117}
ثانياً: كونه أزلياً.
لكن هناك صفات أخرى يمكن استنتاجها عقلياً من هاتين الصفتين, وصفات يمكن استنتاجها من تلك الصفات المستنتجة, نذكر بعضها فيما يلي:

ثالثاً : صفة الأبدية, ذكرنا من قبل البرهان الدال على أن صفة الأزلية تستلزم صفة الأبدية, فلا نعيده هنا.
وما أسميناه بالأزلية والأبدية هما الصفتان الواردتان في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) {الحديد:3}
فالله تعالى سابق في وجوده لكل موجود سواه فهو بهذا المعنى أول, وباق بعد زوال كل مخلوق زائل فهو بهذا المعنى آخر. و إلى هذا المعنى يشير قوله
- تعالى -: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) {الرحمن: 26-27}
وإليه يشير قول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)(1).

رابعاً: وإذا كان كل ما في الوجود – ما عدا الموجود الأزلي – حادثاً, وكان هو سبباً لكل حادث؛ فلا حادث يعتمد اعتماداً كلياً على حادث غيره , لا في مجيئه إلى عالم الوجود, ولا في استمراره موجوداً. وإذن فكما أن الموجود الأزلي خالق الحوادث وموجدها, فهو حافظها وراعيها؛ وهذا هو معنى الربوبية. فالله - تعالى - خالق بمعنى أنه يكوِّن الأشياء ويوجدها, وهو أيضاً ربٌّ وحافظ
ومقيت .. إلخ , بمعنى أنه الذي تعتمد عليه المخلوقات في استمرار وجودها.
وهذا هو المعني بآيات مثل قوله – تعالى -:
(وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) {الحج:65}
(وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) {البقرة:255}
(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا) {هود:6}
(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) {الزمر:62}
وإذا كان كل شي سواه مخلوقاً له، فهو معتمد في استمرار وجوده عليه.
وهذا معنى صفة القيُّومية التي وردت في مثل قوله- تعالى-:
(اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) {البقرة:255}
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) {طه:111}
لأن القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره.

خامساً: الأحدية. الخالق الأزلي الأبدي القيوم لا بد أن يكون واحداَ، واحداً في ذاته وصفاته، فلا ثاني له يماثله، وواحداَ في أفعاله، لا يشركه في فعلها شيء، لأنه لو أشركه:
فإما أن يكون الأثر معتمداً عليهما معاً، بحيث إن أحدهما لا يستطيع الاستقلال به، وفي هذه الحال يكون كل منهما عاجزاً معتمداً في فعله على غيره؛ لأن كلا منهما ما كان ليستطيع الفعل لولا موافقة الآخر أو مساعدته، لكن الدليل ساقناً من قبل إلى أن ما كان أزلياً لابد أن يكون قائماً بنفسه مستقلاً عن غيره، وإذن فالذي يعتمد في فعله على غيره لا يكون أزلياً بل يلزم أن يكون حادثاً.

وإما أن يضاد عمل احدهما عمل الآخر، وبذلك، ومن باب أولى، تنتفي عنهما صفة الأزلية. هذا الدليل هو الذي كان يسميه نظار المسلمين دليل (التمانع)، وقد قرره شيخ الإسلام تقريراً موجزاً وافياً فقال: ((وذلك أن هؤلاء النظار قالوا: إذا قدر رَبَّان متماثلان، فإنه يجوز اختلافهما، فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد الأخر؛ وحينئذ، فإما أن يحصل مراد أحدهما،أو كلاهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما0 والأقسام الثلاثة باطلة0 فيلزم انتقاء الملزوم0
فأما الأول: فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حياً ميتاً، متحركاً ساكناً، قادراً عاجزاً، إذا أراد أحدهما أحد الضدين وأراد الآخر الضد الآخر0

وأما الثاني: فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما ،لزم عجز كل منهما؛ وذلك يناقض الربوبية
وأيضاً فإذا كان المحل لا يخلو من أحدهما، لزم اختلاف القسمين المتقابلين، كالحركة والسكون، والحياة والموت، فيما لا يخلو عن أحدهما.

وإن نفذ مراد أحدهما دون الأخر، كان النافذ مراده هو الرب القادر، والآخر عاجزاً ليس برب؛ فلا يكونان متماثلين.
فلما قيل لهم: هذا إنما يلزم إذا اختلفت إرادتهما، فيجوز اتفاق إرادتهما. أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخرة(1)، امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس مفعول الآخر؛ فإن استقلال أحدهما بالفعل والمفعول يمنع استقلال الآخر به، بل لابد أن يكون مفعول هذا متميزاً عن مفعول هذا0 وهذا معنى قوله - تعالى -: إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ {المؤمنون:91}(2).

وهذا ممتنع لأن العالم مرتبط ارتباطاً يوجب أن فاعل هذا ليس هو مستغنياً عن فاعل الآخر , لاحتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض0
وأيضاً فلا بد أن يعلو بعضهم على بعض؛ فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما, إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما, وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادراً؛ فإن كانا قادرين, لزم جواز اختلاف الإرادة0

وإن قدر أنه لا يجوز اختلاف الإرادة , بل يجب اتفاق الإرادة , كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما, فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله, لزم ألا يكون واحد منهما قادراً إلا إذا جعله الآخر قادراً, ولزم ألا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر.
وعلى التقديرين يلزم ألا يكون واحد منهما قادراً, فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله, والآخر كذلك , وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين؛ لم يكن هذا قادراً مريداً حتى يكون الآخر قادراً مريداً.
وحينئذ فإن كان كل منهما جعل الآخر قادراً مريداً, كان هذا دوراً قبلياً, وهو دور الفاعلين والعلل, كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجده هذا, ولا يوجد هذا حتى يوجده الآخر؛ فإن هذا محال ممتنع في صريح العقل)(1).

سادساً: نأتي الآن إلى صفة عظيمة الشأن لأنها ستكون المفتاح لما يليها من صفات، والبرهان الحاسم على أن الموجود الأزلي الذي قادنا إليه البرهان هو الإله الذي يحدثنا عنه القرآن.

ولنبدأ بسؤال: كيف تصدر المخلوقات عن ذلك الخالق الأزلي؟
إننا نعرف من تجربتنا طريقتين لصدور الحوادث: فالأشياء الجامدة، وبعض الأشياء الحية تصدر عنها آثارها صدوراً طبيعياً أو قل قسرياً، وأما بعض الأشياء الحية الأخرى - وأرقاها الإنسان - فإن بعض آثارها تصدر عنها صدوراً إرادياً؛ فهل تصدر الحوادث عن الخالق صدوراً قسرياً يقتضيه طبعه من غير شعور منه ولا تدبير، أو أنها تصدر عنه بإرادته إن شاء فعل وإن شاء ترك؟

كيف يمكن لهذه الحوادث المختلفة التي نشاهدها أن تصدر عن الخالق صدوراً يقتضيه طبعه من غير شعور منه ولا قصد ولا إرادة؟

دعنا نحاول فهم ذلك بأن نأخذ مخلوقاً واحداً - وليكن الإنسان - ولنتساءل: كيف أوجده الخالق؟ إذا قلنا إن وجود الإنسان أمر تقتضيه طبيعة الخالق، فيلزمنا القول بأن الإنسان أزلي مع الخالق؛ لأنه من المستحيل عقلاً أن يوجد الشيء ولا يوجد معه الشيء الذي تقتضيه طبيعته.

لكننا نعرف أن عمر الإنسان ليس من الأزلية في شيء، بل هو عمر لا يتجاوز بضع آلاف من السنين؛ فكيف تأخر عن الخالق شيء تقتضي طبيعته وجوده؟ قد يقال إن طبيعته اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه من غير تقدم ولا تأخر. لكن هذا قول من لا يتصور معنى الأزلية ولا معنى الاقتضاء؛ لأننا إذا فرضنا الشيء موجوداً من غير أن يوجد معه ما يقتضيه طبعه, فكأننا فرضناه موجوداً بطبع غير طبعه.
وإذا لم نقل أنه يقتضيه طبعه؛ فماذا نقول؟ أنقول إنه يحدث آثاره كما تحدث المخلوقات الطبيعية آثارها, كالمطر الذي ينبت الزرع, والزرع الذي يخرج الثمر, والدفع الذي يحرك الساكن, والضرب الذي قتل .. وهكذا؟ لكنك إذا تأملت هذه الأسباب الطبيعية وجدتها - كما كان يقول علماؤنا - لا تستقل بفعل؛ بل إن أفعالها كلها تعتمد على توفر شروط خارجة عنها. فالمطر لا ينبت الزرع إلا
إذا كان السحاب قد ساقه إليه, وإلا إذا كانت درجة الحرارة مناسبة لتحول السحاب إلى قطرات ماء, وإلا إذا كانت هناك جاذبية تسمح بسقوطه لا بقائه معلقاً في الهواء, وإلا إذا كانت هناك أرض صالحة للزرع, وإلا إذا كان فيها بذر صالح للإنبات, وإلا إذا توفر له الأكسجين, وهكذا وهكذا إلى ما لا يكاد يحصر من هذه الشروط أو الأسباب الخارجة عن نطاق الماء النازل من السماء.

فإذا قلنا إن الخالق أيضاً لا يخلق إلا بمثل هذه الشروط والأسباب الخارجة عن قدرته؛ لم يعد هو الخالق الذي ساقنا إليه دليلنا؛ لأن الدليل ساقنا إلى خالق هو خالق لكل شيء, فمن التناقض أن نقول إنه خالق لكل شيء، ثم نقول إنه لا يخلق إلا بشروط وأسباب خارجة عن إرادته. من الذي خلق تلك الأسباب؟ إذا لم يكن الخالق خالقاً بالمعنيين اللذين ذكرناهما؛ فلم يبق إلا أن يكون خالقاً بالإرادة ؛ إذاً فهذا الخالق مريد. وهذا هو الوصف الذي ورد وصفه به في القرآن الكريم:
(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) {يس:82}
(إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) { المائدة:1}
(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) {هود:107}
(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) {الحج:14}
(وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) {المائدة: 17}
(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) {الحج:18}
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَار ُ) {القصص:68}

سابعاً: إذا كان مريداً فيلزم أن يكون عالماً؛ لأن الإرادة تستلزم العلم. كيف تريد ما لا تعلم؟ إن من يفعل شيئاً بغير علم لا يقال إنه أراده, بل يستشهد بعدم علمه بما فعل على عدم إرادته له؛ وما دام هذا الخالق هو الخالق لكل شيء فيلزم أن يكون عالماً بكل شيء.
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) {الملك:14}
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) {البقرة:29}
ثامناً: وعلمه بما في مخلوقاته من أشكال وألوان وأحوال يقتضي أن يكون سميعاً بصيراً؛ ولذلك فكثيراً ما يقرن القرآن الكريم بين صفتي العلم والسمع, والسمع والبصر.
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) {الأنعام : 115}
(وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) {الأعراف200}
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) {الإسراء:1}
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ) {غافر:20}
تاسعاً: وإذا كان عالماً مريداً سميعاً بصيراً، فلابد أن يكون حياً؛ لأن صفة الحياة من لوازم هذه الصفات، أعني أن الشيء لا يمكن أن يكون مريداً عالماً سميعاً بصيراً، ويكون مع ذلك ميتاً أو جماداً، بل لابد أن يكون حياً وأن تكون حياته أرقى أنواع الحياة.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) {الفرقان:58}
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) {طه:111}
(هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) {غافر:65}هذا القدر من الصفات يكفي الآن لبيان أن الخالق الذي دلنا العقل على وجوده هو الخالق الذي دعانا الشرع للإيمان به وعبادته مع أن صفات غيرها كثيرة مذكورة في الكتاب والسنَّة الصحيحة؛ وعليه فإن كل محاولة لجعله مادة من المواد أو كائناً من هذه الكائنات إنما هو شطط من القول .

ننتقل الآن إلى الحديث عن الذات الحاملة لهذه الصفات فنقول:الأمور التي نتحدث عنها نوعان: نوع له وجود خارجي مستقل عن أذهاننا، فهو موجود سواء علم الناس أو غيرهم من المخلوقات بوجوده أم لم يعلموا، ونوع لا وجود له إلا في أذهاننا؛ فهو لا يوجد إلا إذا وجدت الأذهان. وليس هنالك من نوع ثالث، وإنما هو العدم المحض.

مثال النوع الأول: هذه المخلوقات التي نشاهدها من أناس وحيوانات وبحار وأنهار، وما لا نشاهده كالمخلوقات التي تسكن قاع البحار، وكالمخلوقات التي أخبرنا عنها ربنا ولم نرها من ملائكة وجن، وجنة ونار.

ومثال النوع الثاني: مايتعاورنا من أحوال نفسية من سرور وحزن، وحب وكراهية، ورجاء ويأس؛ وما نستحدثه بخيالنا من كائنات كالغول والعنقاء؛ وما نتصوره معان مجردة كالزيادة والنقصان؛ وما نجرده من الموجودات كجنس المادة وجنس الإنسان، أعني المادة التي لا تتصف بصفة من الصفات، والإنسان الذي يشار إليه ببنان.
الموجودات كلها - سواء ما كان منها له وجود حقيقي موضوعي أو وجود ذهني - لها خصائص تميزها عن المعدومات. أهم هذه الخصائص كونها توصف بصفات ثبوتية؛ فالنهر عميق أو ضحل، طويل أو قصير، كثير التعرج أو قليله، والفكرة التي في الذهن واضحة أو غامضة، معقدة أو بسيطة، حسنة أو خبيثة.
فالموجودات كلها تتميز إذن عن المعدومات بكون الأخيرة لا يمكن أن توصف بصفة ثبوتية، ويمكن أن توصف بما لا نهاية له من الصفات السلبية. فإذا لم يكن الشيء موجوداً، بل كان معدوماً، أمكن بأن نقول عنه إنه ليس بطويل ولا قصير، ولا فوق ولا تحت، ولا في هذه الجهة ولا تلك، ولا مادة ولا روح, ولا تراه الأعين ولا تسمعه الآذان، ولا تلمسه الأيدي ولا تشمه الأنوف، ولا يتحرك
ولا يسكن، وهكذا وهكذا إلى ما لا نهاية له من هذه السلوب.

وللموجودات الخارجية الموضوعية خصائص تميزها ليس عن المعدومات فحسب، بل عن الموجودات الذهنية - إن صحت تسميتها بالموجودات. مما يميزها كونها لها ذوات تَحْمِل صفاتها، ولها صور تميز كلاً منها عن غيره من الموجودات. ومن أهم خصائصها كونها مما يمكن - من حيث المبدأ - مشاهدته والإشارة إليه؛ فهي بهذه الصفة كلها محسوسات, وما لا يمكن مشاهدته على الإطلاق, وتحت أي ظرف من الظروف, وبأي موجود من الموجودات؛ فلا وجود حقيقي له، بل إما أن يكون عدماً أو يكون أمراً ذهنياً مجرداً.
والآن ماذا نقول عن الخالق؟
إنه لا يمكن أن يكون عدماً؛ هذا أمر بديهي. وإذا لم يكن عدماًَ فلا بد أن يوصف بصفات ثبوتية.
ولا يمكن أن يكون ذا وجود ذهني مجرد؛ لأنه هو خالق الأذهان فوجوده سابق لوجودها.
لم يبق إذن إلا أن نقول إنه ذو وجود خارجي حقيقي موضوعي. وإذا قلنا ذلك لزمنا القول بأنه شيء, وأن له ذاتاً تحمل صفاته, وأن له شخصاً, وأن له صورة, وأن له كيفاً يتميز به عن مخلوقاته. وإذا كان كذلك لزم إمكان رؤيته, والإشارة إليه؛ لماذا؟
لأن هذه صفات لازمة لكل موجود, خالقاً كان أم مخلوقاً, فما لا يتصف بها لا يكون موجوداً حقيقياً ودعك أن يكون خالقاً.

أعلم أن بعض الناس سيقف شعرهم مما قلت؛ لأن بعض الأفكار الفلسفية المادية وجدت طريقها مع الأسف الشديد إلى الفكر الإسلامي منذ زمن بعيد فأفسدت على الناس فطرتهم, ثم أفسدت عليهم عقولهم فجعلتهم يأنسون إلى ما تنفر منه الطباع الفطرية, ويقررون ما تنكره العقول السوية.
أصل هذه الفلسفة المادية التي تأثر الجهمية والمعتزلة من ناحية, والمشبهة المجسمة من ناحية أخرى, أن الموجود حقيقة هو هذه المخلوقات المادية المشاهدة, فإذا كان الشيء موجوداً فلا بد أن يكون مثلها وإلا فما هو بموجود.

مَالَ المشبهة إلى جانب إثبات وجود الخالق, ولما كان الموجود عندهم - بحسب تلك الفلسفة - لا بد أن يكون مشابهاً لهذه الموجودات المخلوقة, فقد شبهوا الله - سبحانه – بمخلوقاته , فجعلوا صفاته, من سمع وبصر وكلام ويد وعين مشابهة لصفات الأجسام الحادثة هذه, مع فارق في العِظَم والقوة.

ومَالَ الجهمية إلى جانب تنزيه الخالق عن مخلوقاته, لكنهم لما اعتقدوا أن الموجود حقيقة لابد أن يكون جسماً كهذه الأجسام, اعتقدوا أن كل صفة توصف بها هذه المخلوقات لا يمكن أن يوصف بها الخالق وإلا كان مشابهاً لها، فصار غلاتهم ينكرون كل الصفات الثبوتية للخالق، أو يؤوِّلونها تأويلاً يعطل معانيها، ولا يصفونه إلا بالأوصاف السلبية. وأما غير الغلاة - وتندرج تحتهم جماعات أخرى كالأشاعرة - فجعلوا يفعلون هذا مع بعض الصفات دون بعض، ينكرون أو يؤوِّلون من الصفات ما يرونه دالاً على المشابهة، كالذات والعين واليد، لكن ما لا يوصف إلا بالصفات السلبية إنما هو العدم كما رأينا. لقد فرَّ الجهمية من تشبيه الخالق بالمخلوقات ليقعوا فيما هو شر منه: تشبيهه بالمعدومات!
لذلك قال أهل السنَّة: إن المجسمة يعبدون صنماً، والمعطلة يعبدون عدماً.
هذا التصور الجهمي التعطيلي للخالق صار مع الأسف الشديد هو التصور الشائع الآن بين جماهير المثقفين من المنتسبين إلى الإسلام والنصرانية واليهودية.وإذا كان أصل البلاء إنما جاء من الفلسفة اليونانية المادية؛ فإن هذه الفلسفة هي الإرث الفكري الذي ورثه الغرب وبنى عليه فلسفته المادية الحديثة. وإذا كانت المادية القديمة هي الأصل الذي نشأت عنه المشكلة؛ فإن المادية الحديثة هي الغذاء
الذي يمدها اليوم بالحياة. لقد تغلغل الفكر المادي المعاصر في تصورات الناس كما لم يتغلغل الفكر المادي الأول؛ فصار جزءاً من مفهوم العلم، بل صار عند كثير من الناس - حتى المعارضين له - جزءاً من مفهوم العقل؛ لذلك صرت ترى المؤمنين المستمسكين بالدين الحق يصفون أصحاب هذا الاتجاه بالعقلانيين، كأنما العقلانية والدين الصحيح لا يجتمعان. أما أهل السنَّة السابقون فكانوا يسمونهم بأهل الأهواء؛ لأنهم كانوا يعلمون أن العقل لا يمكن أن يكون سبباً لضلال، وإنما الذي سبب الضلال هو إتباع الهوى.

إن مشكلة المعطل أنه يريد أن يكون مادياً ويريد مع ذلك أن يكون مؤمناً بالله؛ ولهذا يقع في تناقض لا مخرج له منه إلا باللجوء إلى التعطيل أو غير التعطيل. إن ماديته تقتضيه أن يقول إنه لا موجود إلا ما كان مركباً من هذه المادة.

وإيمانه يقتضيه القول بوجود موجود غير مركب منها. فهو لا يريد أن يصف الخالق بأي صفة ثبوتية لأن هذا يجعله مادياً، ولا يريد أن ينفي عنه صفة الوجود لأن هذا يتناقض مع إيمانه؛ فيبقى مؤمناً بوجود شيء يصفه بأنه في كل مكان، وأنه لا يحده زمان ولا مكان، وأنه مطلق لا يشار إليه ببنان، ولا شخص له ولا صورة، ولا يوصف بعلو ولا انخفاض ولا بكونه داخل العالم ولا خارجه، وأنه لا يرى، ولا يتكلم، ولا يتحرك، ولا ولا ولا.

أليس من حق الملحد المنكر لوجود الخالق أن يقول لأمثال هؤلاء ما الفرق الحقيقي بيني وبينكم؟! إنكم تصفون هذا المعدوم بكونه خالقاً، وأنا أقول مادام معدوماً فليس هناك من خالق. لكن إذا اتفقنا على الحقائق فلا مشاحة في الألفاظ.

أما وقد بيَّنا أن هذا الموقف التعطيلي من صفات الخالق ليس موقفاً عقلانياً، فقد آن أن نبيِّن أنه - أيضاً - ليس موقفاً إسلامياً؛ لأنه يخالف صريح النصوص القرآنية والسنِّية، ولأن تأويلاته تخالف قواعد اللغة التي نزلت بها تلك النصوص.

كيف؟
الصفات التي دللنا عليها بالعقل والشرع يلزم أن تكون ثبوتية حقيقية.
العلاقة بين الذوات وبعض الصفات علاقة ضرورية؛ أي إنه إذا كانت هنالك ذات أو ذوات فلا جرم تكون لها صفات، وإذا كانت هنالك صفات وجودية فلا جرم تحملها ذات؛ فالصفات لا تكون مجردة عن الذوات ولا الذوات مجردة عن الصفات إلا في الأذهان. أما الواقع المعاين فلا يعرف صفات مجردة ولا ذوات مجردة.



يتبع....:ANSmile:

DirghaM
01-23-2010, 11:38 AM
الفصل السابع والأخير
[ ماذا بعد الإيمـان بوجود الخالـق؟ ]


هَبْ أن فيزيائياً غربياً لم يكن مؤمناً بوجود الخالق، ثم سمع حججاً مثل حججنا تلك، فقبلها عقله فأصبح صادقا في إيمانه بوجوده، وبأنه متصف بتلك الصفات على ما ذكرنا، فماذا يكون موقفه بعد ذلك؟

إن بعض المعارف تتحول بطبيعتها إلى مشاعر ولا تبقى مجرد حقائق ذهنية يصدق بها الإنسان. إن الإنسان السوي الذي يعلم – أن فلاناً أنقذ ابنه من الغرق - وكاد أن يفقد حياته في سبيل ذلك، لا يملك إلا أن يشعر في قلبه بالشكر له، وإلا أن يعبر له عن هذا الشكر بلسانه، وربما تطور الأمر إلى حب يوثق العلاقة بينهما.

وكذلك وأكثر من ذلك معرفة الإنسان بربه؛ كيف يؤمن الإنسان إيماناً صادقاً بأن له خالقاً هو الذي يطعمه ويسقيه ويحفظه ويراقبه، ثم لا يجد في نفسه أي شعور نحوه؟! إن مجرد معرفة الخالق بصفاته وأفعاله تولد في الإنسان شعورا بحمده وشكره وحبه وخشيته. وما أن يشعر الإنسان بهذه المشاعر إلا وتتملكه رغبة شديدة في القرب من خالقه هذا.

وهنا يسأل نفسه : ولكن ما السبيل إلى ذلك؟
يقول له عقله: إن خالقاً عالماً حكيماً وفَّر لك برحمته كل ما يحتاج إليه بدنك من طعام وشراب وكساء، وأرض وشمس وقمر وسماء، وجبال وزروع وحيوان وماء، كيف لا يوفِّر لك حاجات روحك وهو يعلم أن روحك أهم من جسدك ، وأن قوامها بهذا القرب منه الذي أحسست به؟! إذن لابد أن يكون في هذا العالم هدى من هذا الخالق نتعلم به كيف نتقرب إليه.
ولكن أين هو هذا الهدى؟

يقول له عقله: لابد أن يكون عند بعض هؤلاء الذين يؤمنون به ويعبدونه، لابد أن يكون عند بعض أصحاب هذه الأديان؛ فيبدأ في السؤال عن الأديان، فيقال له إنها نوعان: نوع يزعم أهله أن لديهم هدياً من السماء؛ ولذلك تسمى أديانهم بالسماوية، وهي اليهودية والنصرانية والإسلام. ونوع لا يزعم أصحابه مثل هذا الزعم، ومن أشهرها البوذية والهندوسية.

فيقول: لا حاجة بي إلى هذه الأخيرة لأن الذي أبحث عنه إنما هو هدي السماء.
ثم يقول: فلأبدأ بدراسة النصرانية لأنها أقرب الأديان إليَّ، ولأن الناس في بلادي يدينون بها؛ فإن وجدت طلبي فيها فلا حاجة بي إلى البحث عن غيرها.

فيسأل النصارى: أين الهدى الذي تقولون أنه من عند الله؟
فيعطونه نسخة من الكتاب الذي يسمُّونه بالكتاب المقدس، ويقول له أحد المختصين في علم اللاهوت: إن هذا الكتاب ليس كما قد يتبادر إلى ذهنك كتاباً واحداً لمؤلف واحد وإنما هو كتابان، يتكون كل منهما من عدة كتب ورسائل وأشعار لمؤلفين مختلفين كتبوها في أزمان مختلفة وأماكن مختلفة.

الكتاب الأول هو المسمَّى بالعهد القديم، وثانيهما المسمَّى بالعهد الجديد.
فاليهود يؤمنون بأولهما ولا يؤمنون بالثاني، والنصارى يؤمنون بكليهما، لكنهم يركزون على الثاني.

ثم يقول لي: دعني أقرأ لك فقرات مهمة من مقدمات كتبها المختصون لآخر ترجمتين حديثتين رسميتين أعدَّهما أكابر علمائنا المختصين بدراسة الكتاب المقدس، إحداهما أمريكية نشرت في عام 1952م، والأخرى بريطانية؛ نشر العهد الجديد منها عام 1960م، والعهد القديم عام 1970م. ثم إن كان لك سؤال أجبتك عنه قبل أن تبدأ في القراءة.

يقول القس: هذا بعض ما جاء في مقدمة الترجمة البريطانية المسمَّاة بالترجمة الإنجليزية الحديثة للكتاب المقدس: ((يتكون العهد القديم من مجموعة من الكتابات التي يمتد عهدها من القرن
الثاني عشر قبل الميلاد إلى القرن الثاني قبل الميلاد. كتبت هذه الكتابات باللغة العبرية الكلاسيكية، ما عدا أجزاء قليلة كتبت باللغة الآرامية.
لا توجد مخطوطات لأي من هذه الكتابات (يرجع تاريخها) إلى أوائل تلك الفترة. أقدم مخطوطات تحوي بعض أجزاء من العهد القديم توجد ضمن لفائف البحر الميت التي يمكن أن يرجع تاريخها إلى القرنين الثاني قبل الميلاد، وإن كان بعضها قد يكون أقدم وبعضها أحدث.
في القرن الثاني بعد الميلاد، وربما قبل ذلك جمع الأحبار نصا [الكتاب المقدس] مما تبقى من المخطوطات بعد تخريب القدس في عام سبعين بعد الميلاد، وعلى هذا الأساس أقيم النص التقليدي.

لكن هذا النص حوى الأخطاء التي وقع فيها النساخ على مدى قرون سابقة، وحوى أيضا – وبالرغم من العناية التي أضيفت عليه – أخطاء النساخ المتأخرين.

أقدم مخطوطات بقيت لهذا النص يرجع تاريخها إلى الفترة من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر بعد الميلاد، وقد استعملت هذه أساسا للترجمة الحالية هذه.
هذا هو العهد القديم كما نراه اليوم ماثلا أمامنا، لكن من المؤكد أن هذا لا يمثل دائما ما كان قد كتب في البداية. [ولهذا] فإن على المترجم أن يذهب إلى ما وراء النص التقليدي [هذا] ليكتشف مراد الكاتب)).

ثم يذكر الكاتب عدة مخطوطات في لغات أخرى – يستفيد منها المترجم ليحقق هذا الغرض. أقدم هذه المخطوطات هي الترجمة اليونانية ، وهي مفيدة كما يرى الكاتب بالرغم مما فيها من تحريفات.

ثم يقول: بالرغم من هذه الثروة من النُسخ، وحتى عندما تثبت الصورة الحقيقية لأقدم النصوص المعروفة؛ فإنه تبقى بعد ذلك أمور كثيرة غامضة في العهد القديم.
إن الكلمات العبرية المعروفة اليوم قليلة، ونتيجة لذلك فإن معاني عدد هائل من الكلمات غير معروف أو غير يقيني)).

ثم يذكر بعض الوسائل التي يستعين بها المترجم على معرفة معاني هذه الكلمات؛ من ذلك بعض اللغات، ومنها اللغة العربية لقربها من اللغة العبرية.

ثم يقول: ((ولكن في نهاية المطاف فإن المترجم قد يضطر لأن يصل إلى معنى الكلمة من السياق وحده، أو قد يضطر حتى لإصلاح ما يراه خطأ بيِّناً أحيانا ولأسباب يبدو أنها كافية – غُيّر ترتيب الآيات [يعني عما كان عليه في الترجمة المتداولة])).
ثم يحدثه عن العهد الجديد فيقول إن أول ترجمة إنجليزية له هي الترجمة المسمَّاة بـ (ترجمة الملك جيمز) أو (الترجمة الرسمية) التي نشرت في عام 1611م، ثم الترجمة التي كانت مراجعة لها وتعديلاً والتي نشرت في عام 1881م. ثم يقرأ عليه فقرات – مما تقوله عن العهد الجديد – مقدمة آخر ترجمة لكتابهم المقدس (1): ((كانت هذه الترجمة المعدلة نهجاً جديداً على الأخص في إعراضها عما يسمَّى بالنص المتلقى بالقبول الذي كان سائداً منذ أن بدأت طباعة العهد الجديد،
والذي جعله تطور دراسة نقد النصوص أمراً عفا عليه الزمن. فالمراجعون لم يتبعوا (كما فعل أسلافهم) النص الذي اتفقت عليه معظم المخطوطات؛ فقد كتبت هذه المخطوطات في أزمان متأخرة، وتعرضت لذلك ليس فقط للتحريفات التي تحدث مصادفة بسبب كثرة النسخ المستمر، بل لإصلاحات و((تحسينات)) متعمدة. وإنما اعتمدوا على عدد أقل من المخطوطات الأقدم زمناً، والتي رأوا أنها أحسن الموجود.
وأما كاتبو الترجمة الحديثة فلم يلتزموا بنص معين بل كان منهجهم أن يتخيروا ما يرونه أقرب الروايات إلى ما كتبه مؤلفو العهد الجديد، مستعينين على ذلك بالترجمات اليونانية القديمة، وبترجمات إلى لغات أخرى غير اليونانية، وبما استشهد به من العهد القديم الكتاب المسيحيون السابقون)).

ذلك ما جاء في الترجمة البريطانية. وأما الترجمة الأمريكية الحديثة فتقول: ((لقد كتب الكتاب المقدس على مدى أربعة عشر قرنا))(1).

((كل أجزاء الكتاب المقدس الثلاثة تعبر عن ثقافة البحر المتوسط القديمة))(2).

((بينما نعرف المحيط الجغرافي والسياسي والثقافي لكتب الكتاب المقدس معرفة جيدة؛ فإن معرفتنا بالظروف الخاصة بتأليفها أقل بكثير, إن العادة الجارية في البِيَع و الكنائس من جعل مؤلفيها شخصيات مذكورة في الكتاب المقدس مثل موسى وداود وسليمان والحوارين لا يكاد يوجد لها من سند تاريخي. ومعظم ما يقول العلماء عن المؤلفين والتواريخ والأماكن مبني على الاستنتاج من النصوص نفسها ولهذا يبقى أمرا تقريبيا.

معظم كتب الكتاب المقدس كانت في البداية لمؤلفين مجهولين أو منتحلين، وكثير منها ليس من تأليف مؤلف واحد بل مجموعة من المؤلفين، وكثير منها أُلِّف على مراحل متعددة))(3).

((معلوماتنا عن مؤلفي كتب العهد الجديد قليلة قلة مذهلة. لقد نمت وتأصلت المعتقدات فيهم منذ عهد مبكر، ووجد كثير منها طريقه إلى الكتاب المقدس في صورة عنوانات لكثير من كتبه، لكن هذه المعتقدات لا تثبت أمام الفحص الدقيق))(4).

((معظم كتب العهد القديم كانت (كما كتبت أول مرة) غير معزوة إلى مؤلفين أو معزوة إلى مؤلفين منتحلين))(1).

ثم يبين له أن أهم كتب العهد القديم هي تلك الأناجيل الأربعة المعزوة إلى كل من ماثيو ومارك ولوك وجون.

لكن هنالك مؤلفات أخرى متأخرة بالعنوان نفسه لفِرَق نصرانية تعتبر مارقة، وجد كثير منها في نجع حمادي بمصر عام 1946م. درس العلماء هذه الأناجيل الأربعة دراسة دقيقة ، فكان: ((مما حظي بقبول واسع من نتائج هذه الدراسة أن هذه الأناجيل رويت في البداية شفاها، ثم كتبت في مصادر هي الآن مفقودة، لكنها كانت في حوزة كتَّاب الأناجيل))(2).

((كانت هذه الأناجيل تستعمل في البادية مستقلاً بعضها عن بعض))(3).

يسأل الفيزيائي الباحث عن الهدى قائلاً: هل هذا الذي قاله علماؤكم المختصون هو ما يؤمن به كل النصارى؟
يقول القس: كلا، فهنالك جماعة الأصوليين - مثلاً- الذين يعتقدون أن كل ما في الكتاب المقدس هو كلام الله تعالى.
- هل يعتقدون أن هذا الذي بين أيديهم هو الذي نطق به السيد المسيح؟
- كلا، ولكنهم يعتقدون أن من كتبوه كانوا مهملين؛ فلم يكتبوا إلا ما كان
حقا.

لكن هذا كما ذكرت لك اعتقاد لا سند تاريخياً له، فنحن لا نعرف من الذي
كتب حتى نعرف إن كانوا ملهمين أو غير ملهمين!! وكيف يكون كل ما كتبوه حقاً
من عند الله إذا كنا نجد فيما يقولون تناقضاً، ونجد فيه ما يخالف الواقع؟!
ولا يمكن لكلام يقوله الخالق إلا أن يكون متسقاً لا تناقض فيه، ولا يمكن إلا أن يكون موافقا لحقائق الوجود التي خلقها هو تعالى.
- فماذا تعتقدون فيه أنتم معاشر علماء اللاهوت إذن؟
- نعتقد فيه ما قاله هؤلاء العلماء الذين قرأت لك أطرافاً من كلامهم: أنه من تأليف بشر تأثروا فيما كتبوا ببيئتهم وثقافتهم، وما ورثوه عن سلفهم، فهو لذلك يتضمن حقاً ما جاء به السيد المسيح، لكنه حق خلط ببعض الباطيل، وبما تأثر به المؤلفون من ثقافات محلية. ولهذا فنحن لا نؤخذ كل ما فيه على أنه حق ولا نفسره تفسيرا حرفيا، وإنما نخضع تفسيره لواقع عصرنا وثقافتنا.
- ولكن كيف تفرقون بين ما فيه من حق وما دَاخَله من باطل؟
- لا معيار لنا إلا الدراسة العلمية.
- قد أعرف أن الإنسان يمكن أن يستدل بعقله على أن بعض الكلام لا يمكن أن يكون من كلام الله تعالى، لما يرى فيه من بعض صفات النقص؛ ولكن كيف يستطيع أن يثبت بالعقل وحده في كل كلام يعرض عليه ما إذا كان من كلام الله؟
إنكم – يا أخي – لستم على يقين من أمر دينكم، فلا حاجة بي إليكم، إنني أبحث عن هدى أكون على يقين من أنه هدى الله تعالى.
يقول هذا الفيزيائي الباحث عن الهدى لنفسه: لقد أيقنت بأن رحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون في هذا الكون هدىً منه لعباده، ثم وجدت أن مظان هذا الهدى في أديان ثلاثة لا رابع لها، ثم لم أجده في اثنين منها؛ فهو إذن في ثالثها لا محالة. هذا أمر يوصلني إليه الدليل العقلي، لكن لا بأس من زيادة في البحث لمزيد من اليقين.
ذهب صاحبنا إلى عالم من علماء المسلمين، فيسأله:ماذا تعتقدون في كتابكم هذا؟
- نعتقد أنه كله من أوله إلى آخره كلام الله تعالى.
- هل هذا هو اعتقاد الأصوليين منكم؟
- كلا بل هو اعتقاد المسلمين جميعاً، وإن شئت فاسأل أول مسلم تلقاه في قارعة الطريق تجده يقول بمثل ما قلت لك، وإن شئت فابحث عن سائر علمائنا واسأل من شئت منهم، وإن شئت فارجع إلى مراجع ديننا القديم منها والحديث، فلن تجد فيها ما يخالف هذا الذي قلت لك .. بل إننا نعتقد أن كل من يقول غير هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وصار كافراً.

- هذا الذي أبحث عنه، وهذا الذي كنت أتوقعه. لكن ليطمئن قلبي خبروني أولاً ما دليلكم على أن هذا الكتاب الذي بين أيديكم هو عينه الكتاب الذي زعم نبيكم أن الله أوحاه إليه؟ وكيف وصلكم هذا الكتاب؟ إن إخوانكم اليهود والنصارى خبروني أن ما ينسبونه إلى أنبيائهم هي كتب كتبها بعض من يعدُّونه من صالحيهم، وأنهم كتبوها بعد سنين طويلة من موت أولئك الأنبياء؟ فماذا تقولون أنتم عن كتابكم؟

- إن رسولنا كان يتلقى الكلام من ربه، فيحفظه عن ظهر قلب، ثم يمليه على كُتَّابه،ثم يقرؤه على أصحابه، فيحفظه بعضهم عن ظهر قلب كما حفظه نبيهم، وقد كانوا قوما مشهورين بسرعة الحفظ وجودة الذاكرة. وعليه فعندما توفي رسولنا كان هذا الكتاب قد حُفظ كله في صدور عدد من أصحابه، كما كان قد كتب كله فيما تيسر لهم الكتابة عليه من العظام والجلود ولحى الأشجار، ثم احتفظ الخليفة الأول أبو بكر بكل هذه الوثائق التي كتب عليها القرآن كله، ثم ورثها منه الخليفة الثاني عمر، ثم أمر الخليفة الثالث عثمان بكتابة القرآن كله في مصاحف وتوزيعها على البلاد. فكل ما ترى من نسخ للقرآن الكريم الآن إنما هي نسخ من ذلك المصحف الذي يُسمَّى بـ (المصحف الإِمام).

- هذا شيء مطمئن ولكنه يقودني إلى سؤالي الثاني: بعد أن عرفنا أن هذا الكتاب هو عينه الذي قال نبيكم إنه أنزل عليه؛ كيف نوقن أن ما قاله حق؟ كيف نعرف أن هذا القرآن كلام الله حقاً؟

- تعرفه بوسائل كثيرة: منها أولاً معرفتك بسيرة الرجل الذي قال إنه رسول الله؛ إنك الآن بحمد الله مؤمن بالله، موقن بأنه وحده الذي يستحق أن يُعبد، وأن رحمته تقتضي أن يتفضل على الناس بهدي منه. فمحمد هذا هو واحد من آلاف الرجال الذين ظهروا في التاريخ وقالوا إن الله أرسلهم بهذا الذي تبحث عنه، فانظر في سيرة هذا الرجل لترى هل هو ممن يمكن أن يكذب على الله؟!

- سأفعل هذا إن شاء الله، ولكن خبروني الآن عن أدلتكم الأخرى، إنني أريد دليلا من القرآن نفسه، لا من خارجه يدلني على أنه من عند الله.
- أنت رجل عاقل كثير التفكر؛ فهل سألت نفسك ما المعايير التي تعرف بها ما إذا كان كتاب ما هو من عند الله أو من كلام البشر؟

- نعم فعلت، وتوصلت إلى أن الكلام إذا كان من عند الله فلا يمكن أن يكون متناقضا لأن التناقض نقص والله منزه عن النقص، وتوصلت إلى أنه لا يمكن أن يقرر شيئاً يكون الواقع بخلافه؛ لأنه هو الذي خلق الكون فهو أعلم بما خلق، وحاشاه أن يكذب على عباده فيخلق الواقع على هيئة ثم يكون خبره عنه مخالفا لها.
- وتوصلت إلى أنه لا يمكن أن يكون في كلامه دعوة إلى شيء يخالف مكارم الأخلاق التي فطرنا عليها، كما لا يكون فيه تناقض القواعد العقلية التي فطرنا عليها.
هذه بعض المعايير التي خطرت ببالي حين بدأت بالتفكير في هذا الموضوع.

- كيف إذا قلنا لك أن هذه التي عددتها معايير عقلية محايدة، موجودة بعينها في القرآن الكريم؟ خذ معيار عدم التناقض مثلاً تجده في هذه الآية الكريمة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾. [النساء:82]

فالآية تدلك على أن عدم وجود الاختلاف – والاختلاف أعم من التناقض – هو نفسه دليل على أن القرآن كلام الله. لماذا؟ لأن وقوع الاختلاف أمر لازم لكل منهاج للحياة هو من تأليف البشر؛ وعليه فإذا كان وجود التناقض يدل على أن الدين من صنع البشر؛ فإن خلو الدين منه دليل على أنه من عند الله هذا معيار مهم، فدعنا نغوص قليلاً في تفاصيله. ما الذي يزيد –في رأيك – من احتمال وقوع التناقض والاختلاف في كلام البشر؟

أول ما يخطر ببالي طول الكلام، فإذا كان الكلام قصيراً كان احتمال وقوع التناقض فيه أقل مما لو طال، لأنه إذا طال قد ينسى الإنسان ما قاله أولاً، فيقول في وسط كلامه أو آخره قولاً ينقض ما جاء في أوله ، أو يقول في آخره ما يخالف ما قال في أوله أو وسطه.

ويخطر ببالي ثانياً المدة التي يقال فيها الكلام، فكلما طالت المدة كان احتمال التناقض أكبر، وكلما قصرت كان أقل.
- حقا إنك لرجل موفق، فكل ما قلت صحيح. ولكن ألا ترى أن موضوع الحديث أيضاً له دخل بهذا الأمر؟
- كيف؟
- أعني أنه إذا حصر الإنسان نفسه في مسألة واحدة وكان كلامه كله فيها، كان احتمال خطئه أقل مما لو تعددت المسائل. ولو كان العلم الذي يتحدث فيه واحداً كالفيزياء مثلا.
فكيف إذا لم تتعدد المسائل فحسب، بل تعددت الموضوعات التي يتطرق إليها المتحدث فيكون كلامه عن الفيزياء تارة وفي علم النفس أخرى وفي التاريخ ثالثة, ويتكلم في الأخلاق كما يتكلم في السياسة، ويتكلم في شؤون هذه الحياة كما يفكر فيما يمكن أن يحدث بعدها، وهكذا.

- هذا داخل في موضوعنا بلا شك. ولكن لِمَ سألتموني هذه الأسئلة، ولِمَ فصَّلتم في هذا الموضوع؟
- لأننا نريد أن نطبق هذا المعيار على القرآن الكريم.
- لعلك لا تعلم أن القرآن الكريم لم ينزل على نبينا دفعة واحدة وإنما نزل منجماً بحسب المناسبات، وأنه ظل يوحى به إليه على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، هل تعلم من بشر ظلَّ يكتب في موضوع ما أو يحدِّث الناس عنه على مدى عشرين عاما ثم لم يجد هو ولا غيره في كلامه من تناقض؟!
- كلا فالذي أعلمه عكس ذلك تماما.
- فماذا إذا كان هذا القرآن فيه كل أنواع العلوم فهو يحدثك عن الله تعالى، وعن رسله الذين أرسلهم، وعن الملائكة والدار الآخرة، وعن الأمم السابقة، ويحدثك عن العبادة وعن القيم الخلقية، وعن النفس البشرية، وعما ينبغي على الناس الالتزام به من أنواع السلوك الفردي والجماعي، وعن المبادئ التي ينبغي لهم الالتزام بها في حياتهم السياسية والاقتصادية، وعلاقاتهم الدولية، ويحدثك عن الكون المشاهد وغير المشاهد، وينبئك ببعض ما سيقع في المستقبل إلى آخر ما هنالك من موضوعات لا يكاد يحصيها العاد.

هل تعرف بشراً تطرق إلى موضوعات متنوعة هذا التنوع وظل يكتب على مدى عشرين عاماً ثم لم يوجد فيما قاله من اختلاف؟

- مرة أخرى أقول أن الذي أعرفه هو عكس ذلك تماماً. خذ ذلك المفكر المشهور الذي أثَّرت كتاباته في الآلاف أن لم نقل الملايين من سكان المعمورة في عصرنا هذا, أعني: (كارل ماركس), تجد في كلامه من التناقض والاختلاف ما لا يحصيه إلا رب العباد.

لكن أهم اختلاف تميزت به كتاباته أن الاشتراكية التي دعا إليها في الاقتصاد كانت - على عكس ما أراد و قدَّر - متنافية تماما مع ما أراد تحقيقه في مجال السياسة. لقد كتب (ماركس) عن الحرية كلاما شاعريا محلقاً, ظن أنه سيتحقق كله عند تطبيق الاشتراكية ثم الشيوعية, لكن تبين لمن فحصوا نظامه الاقتصادي بفكرهم الثاقب, أنه لن يوصل إلى ما أراد, بل لعله سيقود إلى عكس ما أراد, ثم جاء التطبيق الواقعي فصدق ظنهم, فلم تكن الاشتراكية كما أراد لها (ماركس) تحريراً للإنسان, وتخليصاً له في النهاية حتى من كل أنواع الحكومات, كما زعم (ماركس), بل أنتجت أكثر أنواع الحكومات جوراً وقهراً وعدواناً على حريات الناس وكرامتهم. فماذا إذا قلنا لك إن القرآن لا يتميز بخلوِّه من التناقض فحسب, بل من خلوِّه من أية مخالفة لأية حقيقة عينية ثبت وجودها ثبوتاً قطعياً, وذلك على الرغم من كثرة تعرضه للحقائق الدنيوية, وبالرغم من تطاول الزمان منذ أن نزل القرآن حتى الآن, تطاولاً تطورت فيه معرفة الإنسان بأمور دنياه , وتكاثرت الحقائق التي أكتشفها كثرة تعد بالأرقام الفلكية لا العادية.

بل إن فيه فوق ذلك لشيئاً أدل على الإعجاز, أعني تقريره لحقائق ما كان للناس أن يعرفوها في زمان النبي  بوسائلهم البشرية العادية.

ولكن عندما تطورت معارف الناس ووسائلهم استطاعوا أن يكتشفوا تلك الحقائق, فوجدوها مطابقة لما قرره القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، وهذا الذي نسميه في عصرنا بالإعجاز العلمي للقرآن, وهو موضوع طويل لكن دعنا نكتفي لك الآن منه بمثَل واحد, هو وصف المراحل التي يمر بها الجنين في مثل قوله -تعالى-: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ{12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ{14}﴾ [المؤمنون:12-14].

لقد كان هذا المثال وحده كافياً لدخول أحد الأطباء الفلبينيين في الإسلام. سمعنا هذا الطبيب يقول في مؤتمر طبي عقد بمدينة الرياض كلاما فحواه أنه كان قد درس على الطبيب الكندي (كيث مور), وأنه كانت بينهما صلة حتى بعد تخرجه ورجوعه إلى بلده, وأن (مور) ذكر له أن في القرآن الكريم شيئاً عن تطور الأجنة يستحق التأمل. يقول إنه رجع إلى ترجمة للقرآن الكريم فقرأ الآيات التي أشار (مور) إليها, فقال في نفسه إن هذه حقائق ما كان يمكن أن يعرفها بشر في الزمن الذي عاش فيه محمد؛ لأن الأجهزة التي تُعرف بها لم توجد إلا في عصرنا هذا ولذلك لا تجد شيئاً من هذه الحقائق في أي كتاب من الكتب قبل عصرنا هذا؛ وإلا فلا بد أن محمداً تلقى هذه الحقائق من مصدر يعرف الحقائق بطريقة غير الطريقة البشرية, ولا يمكن أن يكون هذا غير الله تعالى, فأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

- حُقَّ له أن يشهد هذه الشهادة بعدما عرف هذه الحقيقة المعجزة.
- ولكن هنالك ما هو أهم من هذا كله.
- فماذا عساه أن يكون؟
- إن الذي دعاك للبحث في هذه الأديان هو طلبك للهدى. لقد أردت بعد أن هداك الله للإيمان بوجود الخالق, وكونه وحده الذي يستحق أن يعبد، أن تعرف كيف تعبده، وكيف تعيش حياة مُرضية له. أليس كذلك؟
- بلى.

- فالاختبار الحقيقي لكل كتاب يقال إنه من عند الله تعالى هو ما فيه من هدى يهدي إلى الله. ورأس هذا الهدى هو معرفة الله تعالى؛ إذ كيف يعبده من لا يعرفه؟!
- وكلما كانت المعرفة أتم كانت العبادة أكمل. أليس كذلك؟
- بلى.

ونحن نزعم لك أنك لن تجد في كتب الدنيا كلها – الديني منها والفلسفي, وغير الديني وغير الفلسفي – كتاباً مثل القرآن الكريم في وصفه للذات العليَّة. إنك واجد فيه كل ما يمكن أن يعرفه بشر في هذه الحياة الدنيا من صفات الكمال الموصوف بها هذا الخالق تعالى, وواجد فيه تنزيهاً له لا يدانيه تنزيه؛ ولهذا تجد حتى عند متوسطي التدين من المسلمين من تعظيم الله – تعالى - ما لا تجده عند عظماء المتألهين من أصحاب الديانات الأخرى.

إن بعض الديانات تنسب إلى الله الأبناء وبعضها ينسب إليه البنات، لكن القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4}﴾ [الإخلاص:1-4].

ولا يكفي بتقرير هذه الحقيقة بل يفصل في الأدلة عليها، وتزييف قول القائلين بها. فيبين أنه إذا كان الله خالق كل شيء فإنَّ صلته بغيره هي صلة الخالق بالمخلوق لا غير، فكل شيء غيره فهو مخلوق وعبد له.
﴿قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{68}﴾ [يونس:68].

وإذا كان له ولد فلا بد أن يكون له زوج: ﴿ بدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{101}﴾ [الأنعام:101].

وإذا كان له ولد فلا بد أن يكون ولده مشابهاً له، أي لا بد أن يكون إلهاً مثله، ولكن الله تعالى ليس كمثله شيء، كما يعرف الناس بفطرتهم، وكما تدلهم على ذلك عقولهم. ويستحيل عقلاً أن يكون هنالك إلهان مستحقان للعبادة.
﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ{22}﴾ [الأنبياء:22].
والأمر الثاني الضروري للهداية هو معرفة رسل الله. كيف يعرف الإنسان رسالة الله إذا لم يعرف الرسول الذي جاء بها؟ إن معرفة العبد لرسول الله مكملة لمعرفته بالله. فالخطأ في تصور صفاتهم يدل على خلل في تصور صفات مرسلهم.

وهذا هو الذي تجده في الديانات الأخرى. بعضهم غلا في تعظيم من آمن به من رسل الله حتى جعله ابناً لله , وحتى عبده من دون الله. وبعضهم حطَّ من قدرهم حتى نسب إليهم من الجرائم ما لا يرتكبه بشر سوي, دعك من إنسان ذي دين قوي؛ فكيف من رسول من عند الله أو نبي!

لكن القرآن وصف الرسل – على تفاوت بينهم – بأعلى ما يمكن أن يتصف به بشر من صفات الكمال, فهم موصوفون في القرآن الكريم بالصدق والأمانة والوفاء بالعهد, والزهد في الدنيا وما عند الناس, والشجاعة والكرم, والرحمة بالخلق والحرص على هدايتهم، وموصوفون بالعقل وحسن الفهم وهكذا. قال تعالى عن رسولنا محمد : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{4}﴾ [القلم:4].

لكنه – تعالى - يذكرنا مع ذلك بأنهم مهما بلغوا من درجات الكمال والقرب من الله – تعالى - يظلون بشراً وعبيداً لله. ولهذا وصف رسولنا بأنه عبدا لله، وهو في أعلى حال لا من حالات التكريم التي منَّ بها عليه الله. فقال عنه في حال إسرائه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{1}﴾ [الإسراء:1].

وقال عنه في حال دعوته إلى الله: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً{19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً{20} قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً{21} قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً{22} إِلَّا بَلَاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً{23}﴾ [الجن:19-23].

وقال عنه في حال تلقيه الوحي: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا{1}﴾ [الكهف:1].
﴿تبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً{1}﴾ [الفرقان:1].

إن الذي ينسب الجرائم إلى رسل الله لا يقدِّر الله حق قدره ؛ لأنه إما أن ينسب إليه الجهل بحال هؤلاء الذين اختارهم لتبليغ رسالته, وإما أن ينسب إليه سوء الاختيار, وكلا الأمرين منقصة يتنزه الخالق – تعالى- عنها.

بعد معرفة الإنسان بربه, وبرُسُل ربه, تأتي معرفته بكيفية عبادته. ولن تجد على وجه الأرض دينا فيه دعوة إلى عبادة الله, وبيان مفصل لكيفيتها مثل ما أنت واجد في دين الإسلام هذا.
لكن الناس لا يصلح أمرهم في هذه الدنيا بالشعائر التعبدية وحدها وإن كانت هي أساس كل خير بعد معرفة الله ومعرفة الرسل الله.

لا بد للناس من قيم خُلُقية يتعاملون بها، ولا بد لهم من هدي في معاملاتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، يعرفون به كيف يحفظون لكل إنسان حقه، ويعرفون به كيف يعيشون إخوة مؤتلفين لا أعداء متحاربين, ويجتنبون به ما يضرهم في دينهم ودنياهم من أنواع المآكل والمشارب والمناكح والعلاقات.

والإنسان يريد أن يعرف ماذا له إن هو اتبع هدى الله ، وماذا عليه إن هو خالف أمره؟ وفي القرآن الكريم بيان مفصل للدار الآخرة، وما أعد الله فيها لعباده المؤمنين من أنواع النعيم، وما أعد للكافرين من أنواع العذاب الأليم. وفيه حجج عقلية على إمكانية البعث، وعلى ضرورته، كما بيَّنا شيئاً من ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب.

ولن تجد في غير القرآن الكريم هذا الهدي الشامل للحياة بأكملها مثل ما أنت واجد في القرآن الكريم.

يقرأ الفيزيائي الباحث عن الهدى كتاب الله، فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ويقيم مع المسلمين الصلاة. لكنه يرجع إلى العالم الذي هداه الله به فيخبره أن قراءته للقرآن واتصاله بجماعة المسلمين أثارت في ذهنه أسئلة, فهو يريد الإجابة عنها.

يقول له العالم المسلم :هات ما عندك فإن وفقنا الله للإجابة عنه أجبناك, وإلا أحلناك إلى من هو أعلم بالأمر منا .

يقول :لقد وجدت الله يخبرنا في آيات كثيرة من كتابه الكريم أنه أرسل محمداً ليبين لنا كلامه, ووجدته يأمرنا بأن نطيع أمره, ووجدته يقول إن محمداً خاتم النبيين فلا نبي بعده, فقلت في نفسي, إن محمداً قد مات, ولكن الله - تعالى - عليم حكيم لا يمكن أن يعلِّق فهمنا لكتابه على بيان لم يحفظه لنا كما حفظ كتابه, ولا يمكن أن يأمرنا باتباع رجل قد مات من غير أن يحفظ لنا كلامه.
- كيف عرفت هذا؟
- قلت لك إن الله – تعالى - عليم حكيم, والرجل الحكيم من عباده لا يكتب كتابا ويقول للناس إن كتابه مختصر لا يمكن أن يُفهم إلا بالهوامش الشارحة له, ثم ينشر الكتاب من غير تلك الهوامش. فالله أجلُّ من أن يفعل هذا الفعل الذي يتنزه عنه الحكماء من عباده, وهو رب العالمين, الحكيم العليم. فلا بد إذن أن يكون قد حفظ لنا ما قاله نبيه لأن ديننا لا يتم إلا به.
- تعني أنك الآن تؤمن بأن سنة الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif محفوظة حتى قبل تقرأ عنها شيئا, وقبل أن تعرف كيف حُفظت؟
- أجل يا سيدي. إن معرفتي بربي وإيماني به, يدلاني على أنه لا يمكن أن يضيع سنَّة رسول جعله خاتم النبيين وأرسله رحمة للعالمين, وجعل سنَّته ضرورية لفهم كتابه الكريم.
- إنك لرجل موفق حقاً. لقد أدرك بعقلك المؤمن ما لا يزال يرتاب فيه أناس ولدوا في الإسلام وتربوا عليه, بل أناس يزعمون أنهم من الدعاة إليه المدافعين عنه, بل إنهم ليحسبون أن دفاعهم عنه لا يتأتى إلا بإنكار ما قاله رسوله كله أو بعضه. فالحمد لله الذي هداك لما ضل عنه وارتاب فيه الكثيرون.

إن هذا الذي دلّك عليه فهمك الموفق لكتاب الله – تعالى - هو الذي يصدِّقه الواقع. فالسنَّة - يا أخي - محفوظة ، وقد وصلت إلينا بمنهج علمي لا يشك عاقل يتطلع عليه أن ما أوصل إليه حق لا ريب فيه. فإن شئت ذكرت لك أسماء كتب تعرف بها هذا المنهج وكتب تطّلع فيها على السنة الصحيحة التي أوصلنا إليها هذا المنهج.

- جزاك الله خيراً. وسأبدأ في هذه الدراسة فور حصولي على هذه المراجع. ولكن ألا تستطيع أن تعطيني الآن فكرة عن هذا المنهج أستعين بها على دراستي؟
- أجل. إنك رجل مختص بعلم الفيزياء ، فأنت تعلم أن مناهج العلوم تحددها طبيعة المادة المدروسة إنها ليست كما يظن بعض الجهلاء أمراً متروكاً لأمزجة العلماء، فهذا يقول أنا أُفضِّل هذا المنهج، وذاك يقول لكنني اخترت منهجاً غير منهجك. فالذي يدرس الحقائق الطبيعية المحسوسة الموجودة أمامه لا بد أن يجعل المشاهدة جزءا من منهجه، ثم إذا استطاع أن يضيف إليها التجربة فهذا خير، لكن خيار التجربة ليس متاحاً لمن يدرس الفلك أو المجتمعات البشرية كما هو متاح لمن يدرس الكيمياء مثلاً.

ودارس التاريخ لا يستطيع أن يبني علمه على المشاهدة المباشرة أو التجربة لأن ما يحدث فيه قد حدث وانتهى فهو لا يشاهد الآن وإن أمكن مشاهدة بعض آثاره. لكن العلماء جميعا مهما كانت
طبيعة مادتهم التي يدرسونها، ومهما كان اختلاف مناهجهم يتفقون في استعمال الطرق العقلية لاستنباط حقائق لا يعرفونها من حقائق قد عرفوها.

والآن كيف نعرف أن محمداً http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif قال كذا أو فعل كذا أو قرأ كذا. لقد مات محمد http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif كما يموت سائر البشر؛ فكيف نعرف سنَّته؟
إن الطريق الأساس لمعرفتها هو الطريق الأساس لمعرفة أي أمر تاريخي: إنه الرواية.

أقول الأساس لأن هنالك طرقاً أخرى كالآثار الكتابية أو الصورية أو الحسية لكنها جميعاً طرق ثانوية تصلح شاهدة على الحقائق التاريخية لا دالة عليها.
ما الرواية؟
يشهد المعاصر للواقعة حدوثها فيصفها لمن لم يشاهدها، ويصفها هذا لمن بعده وهكذا حتى يصل الأمر إلينا في صورة أخبار مروية بهذه الطريقة المتسلسلة.

لكن السؤال المهم بالنسبة لنا ولك ومن لم يشهد الحادثة ممن سبقنا هو: كيف نعرف أن ما روي لنا هو الذي حدث فعلاً؟

إن الناس يكذبون، وهم ينسون ويَهِمون. لا طريق لنا نسلكه إلى هذه المعرفة إلا بأن نتحقق من صدق الرواة ومن جودة ذاكرتهم. فإذا اجتمع في الرَّاوية الأول هذان الأمران تأكد من سمع منه من صحة خبره، وهكذا الأمر في كل رَاوية مع من يليه. وهذا هو لب المنهج الذي سلكه علماؤنا في التحقق من صحة ما نسب إلى الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif. لكنهم جوَّدوا هذا المنهج تجويدا لم يَرقَ إليه - فيما نعرف - منهج غيره سلكته أمة في معرفة تاريخها.

لم يقل علماؤنا ((الصدق)) وإنما قالوا ((العدالة))، وهي أشمل من الصدق، ولم يكن مقياس العدالة عندهم أمراً ذوقياً، وإنما قاسوها بالمقاييس الشرعية.

فالعدل عندهم ليس على من عُرف بالصدق فحسب، بل من كان غير متهم في دينه، أي من كان معروفا بمحافظته على أداء الشعائر الإسلامية، ومن لم يعرف عنه ارتكاب لمحرم .. وهكذا.

والذاكرة أيضاً - التي وسَّعوا معناها فجعلوها (ضبطاً) - وضعوا لها مقاييس صارمة، فقد يقبلون رواية الشخص الواحد في فترة من حياته ولا يقبلونها في فترة أخرى عرف فيها ضعف ذاكرته وضبطه.

ثم اشترطوا شروطاً أخرى هي بمثابة مزيد من التثبت من صدق الرواة.

فاشترطوا فيمن يروي عن شخص معاصرته له، بل اشترط بعضهم كالإمام البخاري أن يكون قد التقى به فعلاً. وهذا قادهم لتأسيس علم كامل يسمى علم الرجال يدرسون فيه حال كل راوية من الرواة على مَرِّ العصور، تاريخ ميلاده ووفاته، وشيوخه وخلقه ودينه .. وهكذا.

ثم اشترطوا لصحة الحديث أن تكون سلسلة رواته متصلة ممن تحققت فيه شروط الضبط والعدالة. واشترطوا فيما رووه أن يكون خالياً من عيوب الشذوذ والعلة، أي ألا يروي الراوي شيئا يخالف فيه رواية لمن هو أوثق منه من الرواة، وألا يكون فيما روى علة قادحة إذا ما قيس بحقائق الدين القاطعة.

وقد ساعد على تحقق الثقة من صحة ما يروى عن النبي http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif أمور, منها:
أنه http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif كان يتكلم كلاماً بيِّناً لو أراد العاد أن يعده لفعل, كما وصفته زوجه السيدة عائشة رضي الله عنها, وأنه كان كثيراً ما يكرر كلامه, إما في الجلسة الواحدة أو في مناسبات أخرى.

وأن أصحابه كانوا عرباً تعودوا على الاعتماد على ذاكرتهم, فكانوا يحفظون ما لا يحفظ سائر الناس في العادة, وأنهم سمعوا الله - سبحانه وتعالى - يحثهم على الاستماع إلى الرسول, وسمعوا الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif يحذرهم أشد الحذر من الكذب عليه, ويتوعد من يفعل ذلك بأشد العذاب؛ لذلك كان الواحد منهم لا يروي عن الرسول إلا إذا كان جازماً بأنه سمعه منه، وإذا شك في كلمة أو عبارة بيَّن ذلك؛ لهذا ولأن الله – تعالى - مدح أصحاب النبي http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif ووثقهم لم يحتج العلماء لأن يطبقوا عليهم الشروط التي طبقوها على من جاء بعدهم، بل كان يكفي عندهم أن تثبت للإنسان صحبة لرسول الله http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif ليكون عدلاً يؤخذ منه الحديث.

على أن الذين رووا الغالبية العظمى من أحاديث الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif هم عدد قليل منهم، ومن أحسن الناس علماً وضبطاً.

يذهب الفيزيائي المهتدي فيدرس بعض المراجع في السنَّة النبوية ثم يأتي لشيخه فيقول:

- قد عرفت المنهج الذي اتُّبع في التحقق من وصول القرآن والسنَّة إلينا؛ فهل كان للمسلمين منهج علمي لفهمهما؟
- أجل، وقد كان الحياد عن بعض مقومات هذين المنهجين وما زال هو سبب ضلال كثير من الأفراد والجماعات المنتسبة إلى الإسلام. فبعض الضلال سببه انحراف عن المصدر؛ أي أن ينكر الإنسان السنَّة كلها ويزعم أن القرآن يغنيه عنها ، أو أن ينكر أشياء منها إما لجهله بثبوتها عن الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif بذلك المنهج العلمي، وإما لاعتقاده الفاسد أن الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif قالها برأيه ولم يبين ذلك لأمته.

لكن الإنسان قد يؤمن أن القرآن الكريم كلام الله، ولا ينكر ما ثبت له أنه سنَّة رسول الله ويكون مع ذلك ضالاً إذا هو لم يعرف المنهج العلمي لفهمهما، بل ظنه منهجاً نسبياً يتغير بتغير الأحوال والأوقات والمحال والأذواق. فالدين القويم هو أن تؤمن بكتاب الله وسنة رسول الله على منهج أصحاب رسول الله.
وقد كان منهجهم هذا هو المنهج الذي سار عليه كبار أئمة أهل السنَّة من المفسرين والمحدِّثين والفقهاء والأصوليين والمتكلمين.

- هذا هو المنهج الذي أسأل عنه الآن.
- سأعطيك فكرة وجيزة عنه ثم أترك التفاصيل للمراجع الموسعة التي أرجو أن يوفقك الله للاطلاع عليها.
- جزاك الله خيراً، وكلي لك آذان.
- أول قاعدة في هذا المنهج: هي الالتزام باللغة العربية لأن القرآن أنزل بلغة العرب؛ فما ينبغي أن تعطى كلمة من كلماته أو تركيب من تراكيبه معنى لا تعرفه منها العرب، وإلا كان تفسيراً له بغير لغته.
- يبدو أن هذا أمر بديهي.

- نعم، ولكن ما أكثر الانحرافات التي حدثت بسبب التعامي عن البديهيات. إنك إذا فتشت في كل الاتجاهات التي انحرفت عن الإسلام وإن تسمَّت به، وجدتها كلها تضطر للإخلال بهذه القاعدة البدهية لتجد في النصوص تأييداً لمذاهبها الباطلة. فغلاة المتصوفة يعتمدون على أذواقهم وأهوائهم في تفسير الكلمات القرآنية فيسمِّي أحدهم الريح راحة، والعذاب الأليم عين النعيم، وغلاة الشيعة يفسرون البقرة بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَة ﴾ [البقرة:67]

ويفسرون يأجوج ومأجوج في قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الكهف:94]. بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

والمعطلة يفسرون قوله – تعالى -: ﴿ اسْتَوَى ﴾ [طه:5] باستولى، والفلاسفة يفسرون الحكمة بالفلسفة لكي يقولوا إن الله - تعالى - مدح الفلسفة في مثل قوله – تعالى -: ﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [البقرة:269].
- أما القاعدة الثانية فهي تفسير القرآن بالقرآن وذلك لأن القرآن بما أنه كلام الله تعالى؛ فلا اختلاف فيه ولا تناقض كما ذكرنا، فما ينبغي أن تفسر آية منه تفسيراً يجعلها متناقضة مع آية أخرى. ولأن من عادة الله – تعالى - في كتابه هذا أن يجمل الأمر في آية ويبينه ويفصله في آية وآيات أخرى.

- وأما القاعدة الثالثة: فهي تفسير القرآن بالسنَّة النبوية وهذا أيضاً أمر بدهي؛ لأن الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif لم يؤمر بتبليغ نَصِّ القرآن فحسب وإنما أمر أيضاً ببيانه، فكل أقوال الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif وأعماله هي بمثابة البيان للقرآن. فإنكار السنَّة هو في حقيقته إنكار مغلف للقرآن الكريم. ولكن فهم القرآن من غير السنَّة ممكناً لما بعث الله محمداً رسولاً, ولأنزل على كل بشر نسخة من القرآن، كما طالب بذلك المشركون: ﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَة ﴾ [المدثر:52].

- وأما القاعدة الرابعة: فهي تفسير القرآن بأقوال الصحابة. لماذا هذه المكانة لأقوال الصحابة؟ ما الذي يميزهم عن غيرهم من الأجيال التي جاءت بعدهم؟ إن الصحابة ليسوا معصومين، فقد كتب الله – تعالى - العصمة للنبي وحده، لكنهم خير القرون بشهادة الرسول http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif، والخيرية تشمل العلم ضرورة، فقد قال رسول الله http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين))(1)؛ فأصحاب رسول الله هم الذين كان ينزل القرآن بلغتهم وهم الذين كانوا يشهدون المناسبات التي ينزل فيها الوحي، وتقال فيها الأحاديث، وتحدث فيها الأعمال النبوية .

فهم إذن ذوو فقه يفضلون به على غيرهم، وهم ذوو خشية تمنعهم من أن يقولوا في الدين برأي لا يعرفون له سنداً. لذلك كانت أقوال الصحابة من أصول كل إمام من أئمة المذاهب المتبوعة.

لم تكن هذه القواعد قواعد نظرية وإنما كانت هي المنهج العلمي الذي سار عليه كبار المفسرين من أمثال الطبري والقرطبي وابن كثير، وكانت هي المنهج الذي اتبعه كبار الفقهاء ولا سيما أئمة المذاهب المشهورة، وكان هو الذي اتبعه كل من كتب في أصول الدين من أئمة السنة كالإمام أحمد والدارمي وابن تيمية.

يعود الفيزيائي المهتدي بعد فترة من الزمان ليقول لشيخه: بعد أن درست كتاب الله وسنة رسوله http://eltwhed.com/vb/images/smilies/salla2.gif بالمنهج الذي بينته لي تكوَّن لدي تصورات لبعض المسائل أحب أن أعرضه على فضيلتكم لكي أتحقق من صحته.

- هات ما عندك، زادنا الله وإياك هدى وتقى وتوفيقاً.
- كنت قبل أن يهديني الله إلى الإسلام أعدُّ الكون وحده مصدراً للمعرفة، وقد وجدت الإسلام يقر هذا المصدر، فقلت إذن كل ما أوصلنا إليه الدليل الحسي أو العقلي فهو حق بمقياس ديني كما كان حقاً بمقياس العلم الطبيعي؛ فهل هذا صحيح؟
- أجل لا شك في ذلك.
ـــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب: من يرد الله خيراً يفقه في الدين، رقم 71.ـــــــــــ

- ثم قلت لكنني الآن لا أكتفي بالكون المشاهد مصدراً للمعرفة، بل أضيف إلى ذلك ما يخبرني الله عنه في كتابه وعلى لسان رسوله، فالكون الآن في نظري ليس قاصراً على ما عرفناه بوسائلنا العلمية التجريبية العقلية، بل هو يشمل كل ما أخبرنا الله – تعالى - به من عرش وكرسي، وملائكة وجن، وجنة ونار، هكذا.

وأرى أن هذا ينبغي أن يكون منهجا لكل مسلم يختص بعلم من العلوم الطبيعية أو الاجتماعية.
- ليت علماءنا الدنيويين جميعاً فعلوا هذا. لكن الواقع الآن أنهم انقسموا في تصورهم لهذه العلوم إلى قسمين، فمنهم من يفصل فصلاً كاملاً بين ما يعتقده ديناً وما يراه علماً طبيعياً أو اجتماعياً. فهو في منهجه العلمي وتصوره للعلوم علماني، لكنه في حياته الخاصة مسلم. ومنهم من ظن أن ما يسمَّى بأسلمة العلوم إنما هو تحويل العلوم الدنيوية إلى علوم فقهية لا بد من إقامة الدليل النقلي على كل حقيقة من حقائقها كما يفعل الفقهاء في أبواب الطهارة والصلاة والحج وغيرها. لكن قلة منهم أدركت ما أدركت الآن فكان منهجها كمنهجك، وهذا هو الأمر الوسط الصحيح.
- لكنني أرى أن هذا المنهج لا يقتصر تطبيقه على العلوم، بل ينبغي أن يكون منهجاً لحياتنا العملية كلها.
- ماذا تعني؟
- أعني أننا نجد في كتاب ربنا وسنَّة نبيه أوامر ونواهي تتعلق بحياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وبصلاتنا بالأفراد والأمم والجماعات غير الإسلامية؛ فكيف نكون مسلمين إذا لم نأخذ هذه الأوامر والنواهي كلها مأخذ الجد ثم ننفذ منها ما استطعنا؟
- إن الإسلام إنما هو الاستسلام - بقدر الوسع والطاقة - لأوامر الله ونواهيه، فلا يكون مسلماً من علم شيئاً منها ثم تمرد عليه أو احتقره أو لم يأبه به أو سوَّاه بغيره عن قصد منه واختيار. لكن ما ذكرته أنت عن العلوم الطبيعية والاجتماعية ينسحب على هذه المسائل العلمية.
- ما تعني؟
- أعني أنه كما أنك في دراستك لأي مسألة دنيوية تعدُّ حقا كل ما دلك عليه دليل حسي أو عقلي، فإنك في المسائل العلمية تستفيد من تجربتك وتجربة غيرك في حل المشكلات التي تواجه مجتمعك ما دمت لا تجد فيها ما يعارض أوامر الله ونواهيه، إن الإسلامية في المسائل العلمية التي يسمِّيها الفقهاء بالمعاملات ليست محصورة فيما دلت عليه النصوص دلالة مباشرة، بل إنها لتشمل كل ما لا يتعارض مع النصوص مما فيه فائدة للفرد أو المجتمع.

فباب المعاملات يختلف عن باب العبادات، لأنك في باب العبادات لا يحل لك أن تقدم على فعل لم يأمرك به الشرع، فلا يحل لك إذن أن تبتدع فيها شيئاً جديداً.

وأما في باب المعاملات فإنك لا يحل لك أن تفعل ما نهاك عنه الشرع، لكنه يحل لك أن تفعل كل ما لم ينهك عنه طالما كان تقديرك أن المصلحة فيه راجحة؛ لذلك ترى علماءنا يقولون إن القاعدة في العبادات ألا تفعل إلا ما يأمرك به الشرع، وأما في المعاملات فلك ألا تنتهي إلا عما نهاك عنه الشرع.
ما أروع هذا الإسلام من دين فيه صلاح الدنيا وصلاح الدين، لكن أكثر
الناس - مع الأسف - لا يعلمون!


إنتهي.:emrose: