عبد الغفور
01-26-2010, 12:25 AM
من قوله تعالى :
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ : توكيد في معرض بيان استحقاقه ، عز وجل ، وصف الربوبية العامة .
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا : إطناب بذكر أوصاف الربوبية على حد دليل الاختراع أو الإيجاد ، وهو أحد دليلي الربوبية بالاستقراء ، والإتيان بالموصول منزل منزلة التشويق إلى الوصف الذي دلت عليه الصلة ، إذ دلالة الموصول مجملة عقبت بالبيان ، وهو آكد في تقرير الوصف من الإتيان به صريحا فهو الذي خلق بكلماته الكونيات ، علة صدور هذا العالم على سبيل الفور ، على حد قوله تعالى : (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فشاء التكوين قدرا نافذا ، فوقع كما أراد عقب الكلمة التكوينية ، فلا مبدل لكلماته ، واستوى على الوجه اللائق بجلاله ، فله من وصف العلو الخاص بالاستواء على العرش ما لا يحيط به العقل استدلالا أو كيفا ، إذ ذلك من صفات الكمال التي لا تثبت إلا بالخبر الصحيح الصريح ، وله من وصف العلو العام ما دل عليه العقل ، وإن لم يكن العمدة في باب الإلهيات ، فجاءت دلالته الصريحة موافقة لدلالة النص الصريحة ، فله جميع أوصاف العلو على حد الكمال المطلق : العلو الذاتي : فهو علي بذاته على خلقه ، علي بشأنه فلا يقدر أحد على مغالبته ، علي بقهره فهو الغالب على أمره القاهر فوق عباده قد قهرهم بأوصاف جلاله ، كما امتن عليهم بأوصاف جماله .
والعلو الفعلي : بالاستواء على أعظم المخلوقات استواء الغني عن كل ما سواه ، فلا يفتقر إلى شيء من خلقه ، فاستوى على أعظم المخلوقات بأعظم الأوصاف على حد قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، والاستواء بعد الخلق مئنة من تمام ملكه وتدبيره لكونه ، فخلق وعلا على عرشه بمشيئته ، فذلك من أوصاف الجلال ، ودبر الأرزاق والأقوات بمشيئته ، فذلك من أوصاف جماله ، وذلك : دليل العناية ، على حد قوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) ، وكما قدر في الأرض ما تصلح به الأبدان ، قدر من الوحي ما تصلح به القلوب والألباب .
فقوله تعالى : (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا) : دليل الاختراع والإبداع ، فقد خلق الأرض وأرسى فيها الجبال على غير مثال سابق .
وقوله تعالى : (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) : دليل العناية .
ودليل الاختراع والعناية من الأدلة التي قررها المتكلمون في أصول الدين ، كابن رشد الحفيد ، رحمه الله ، وهو دليل عقلي صريح تشهد له كثرة متكاثرة من نصوص التنزيل فمن ذلك :
قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) ، فقوله تعالى : (فاطر السماوات والأرض) : دليل الاختراع والإيجاد من عدم والإبداع على غير مثال سابق ، على حد أثر ابن عباس رضي الله عنهما : "كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها" . اهــ
فهو ، جل وعلا ، بديع السماوات والأرض ، وتلك من أخص أوصاف ربوبيته ، عز وجل ، وإن لم تكن أخصها ، فتفرده بالخلق من العدم والإبداع على غير مثال سابق من أخص أوصاف ربوبيته ، وتفرده بالتدبير الكوني لخلقه من أخص أوصاف ربوبيته ، فلم يترك الخلق هملا ، وإنما قدر لهم ما يصلح أديانهم وأبدانهم ، كما تقدم ، وتفرده بمعاني الكمال المطلق من الغنى والقدرة النافذة والعلم المحيط ......... إلخ من أخص أوصاف ربوبيته .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
"ومن أخص أوصاف الرب القدرة على الخلق والاختراع فليس ذلك لغيره أصلا ............. وأخص وصف الرب ليس هو صفة واحدة بل علمه بكل شيء من خصائصه وقدرته على كل شيء من خصائصه وخلقه لكل شيء من خصائصه" . اهـــ
بتصرف من : "الرد على البكري" ، ص126_130 .
وأما قوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) : فهو دليل العناية : عناية الغني ، جل وعلا ، الذي لا يفتقر إلى سواه ، بالفقير الذي يحتاج من يطعمه ، فامتن الغني ، جل وعلا ، على الفقير ، بأسباب الحياة ، فقدر له ، كما تقدم في أكثر من موضع ، قوت الأبدان وقوت القلوب ، فذلك أمر يتكرر التنويه به بتكرار صور العناية الربانية بالعباد ، فثنائية الرب الغني والمربوب الفقير مظنة الإطناب في بيان صور ربوبية العناية في معرض بيان المنة الربانية السابغة ، وطباق السلب بين : "يُطْعِمُ" ، و : "وَلَا يُطْعَمُ" آكد في تقرير المعنى ، إذ الإثبات في معرض الوصف الفعلي المتعدي ، والنفي في معرض الوصف الذاتي اللازم ، فهو الذي يُطْعِم لكمال عنايته بخلقه ، ولا يُطْعَم لكمال غناه عنهم ، فلا يبلغ أحد نفعه ، تبارك وتعالى لينفعه ، فضلا عن دلالة الجناس الاشتقاقي بين صورتي الفعل : المبني لما سمي فاعله : "يُطْعِم" ، والمبني لما لم يسم فاعله "يُطْعَم" ، إمعانا في إثبات الوصف له على وجه التعيين والانفراد ، ففاعل الإطعام المثبت معلوم ، لا شريك له ، في أفعال ربوبيته : جلالا بمعاني العزة والقهر ، أو : جمالا بمعاني التدبير والرزق ، وفاعل الإطعام المنفي مجهول ، إرادة العموم ، فلا يطعمه أحد ، أيا كان ، ولا يمده أحد بأسباب البقاء والغنى والعزة ......... إلخ ، فغناه عن خلقه : مطلق ، فهو ذاتي لازم باعتبار الوصف ، بل فعلي متعد إليهم ، فهو المغني لغيره ، الممد له بأسباب البقاء ، فكل أوصاف الكمال في عباده منه على جهة الإيجاد والإمداد ، فأوجد الحياة فيهم وأمدهم بأسبابها ، وأوجد البقاء الأبدي فيهم في دار القرار وأمدهم بأسبابه ........... إلخ ، وفي المقابل : كل أوصاف الكمال الثابتة له : ذاتية لا تفتقر إلى سبب يوجدها من العدم ، فهي أزلية بأزلية الذات القدسية ، ولا إلى سبب يمدها بمعاني الكمال فله منها منتهى الكمال الذي لا يعتريه النقص بأي حال من الأحوال .
وإنما خص الإطعام بالذكر لكونه من آكد صور الافتقار ، فنفيه من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، فلا يفتقر إلى خلقه في شيء من وصف كماله الذاتي اللازم أو وصف كماله الفعلي المتعدي إلى غيره الذي به يدبر كونه على سبيل الانفراد فلا شريك له في وصف كماله ، ولا شريك له في أمره الكوني النافذ : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) : فنفى استقلالهم بملك مثقال ذرة من الكون ، ونفى شركتهم ، بل ومظاهرتهم ، ففي السياق تدرج من نفي الأعلى إلى نفي الأدنى . فكل مسخر بأمره الكوني : تسخير المربوب المقهور لربه القاهر .
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ : إطناب في تقرير معاني ربوبية الجلال : ربوبية القهر والتسخير بالأمر الكوني النافذ .
وفي قوله :
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ : تذييل لما تقدم من دليل الإيجاد والاختراع ، فنبه إلى ذلك بــ : "ألا" الاستفتاحية ، وقدم ما حقه التأخير حصرا وتوكيدا ، فضلا عما للام : "له" من معاني الاستحقاق والانفراد ، فله وحده ، عز وجل ، الخلق خصوصا ، إذ هو ، كما تقدم ، من آكد أوصاف الربوبية ، وهو من أمره الكوني ، والأمر : عموما ، فــ : "أل" جنسية استغراقية ، فهو مفرد الأوامر التكوينية التي تكون بها الأمور على حد قوله تعالى : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ، فالأولى : بمعنى المأمور المفعول ، والثانية : من الأمر الذي به يكون المأمور .
ويقال من جهة أخرى : الخلق ، بمعنى المخلوق على حد قوله تعالى : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، أي : مخلوقه ، يكون بالأمر ، فيكون العطف في : (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) من عطف السبب على مسبَِّبَه ، وذلك مما استدل به من رد مقالة خلق القرآن ، إذ هو من آحاد صفة كلامه ، عز وجل ، والأمر الذي يكون به الخلق من آحاد كلامه أيضا : فذاك شرعي ، وهذا كوني ، فلما عطف على الخلق علم أنه غير داخل فيه ، فهو غير مخلوق ، بل به توجد المخلوقات .
قال قوام السنة رحمه الله :
"قال الله عز وجل : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقال عز وجل : (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فبان بقوله أن أمره غير خلقه وبأمره خلق ويخلق ، وقال عز وجل : (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)" . اهــ
"الحجة في بيان المحجة" ، (1/228) .
ويقال أيضا في معرض تقرير الألوهية الشارعة فرعا عن الربوبية الموجدة المدبرة :
الخلق من أمره الكوني على جهة وقوعه بكلماته الكونية ، فلو زيد في عموم "أل" في : "الأمر" ليشمل الكلام الكوني والكلام الشرعي الحاكم الذي جاءت به النبوات ، لآل المعنى إلى كونه ، عز وجل ، الشارع الحاكم المستحق لتمام التأله بأفعال عباده ، ومن آكدها إجراء شرعه على الأفراد والجماعات في شتى مناحي الحياة ، فرعا عن كونه الخالق بالكلمات الكونيات النافذات ، فله الخلق ربوبية وله الأمر ألوهية .
والشاهد من ذلك :
أن دليل الاختراع والعناية ، كما سيأتي إن شاء الله ، في آيات أخر ، إن يسر الله ، عز وجل ، ذلك في مداخلات تالية ، لا يحصل المراد منه في ذاته ، بل هو مراد لغيره ، فجمهور العقلاء على الإقرار به ، على حد قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وإن كابر منهم من كابر ، وعلى حد قول موسى لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) فهو مقدم أهل الجحود على مر العصور ، وعلى حد وصف أهل الجحود عموما : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ، فلا يكتمل معنى الربوبية إلا بضم معنى الألوهية إليه ، إذ هي لازمه الذي لا ينفك عنه ، ولذلك تذيل آيات دليل العناية والاختراع بآيات الأمر بالتأله والتذلل على جهة الاختيار ، فبعد هذه الآية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، فالدعاء عبادة والنهي عن الإفساد : حكم شرعي تكليفي ، ولا يكون بيان ذلك إلا من طريق النبوات الهاديات ، إذ علومها أنفع العلوم ، وأعمالها أصلح الأعمال للقلوب والأبدان .
فالألوهية تتضمن الربوبية وزيادة ، إذ مدار الربوبية على الخبر ، والألوهية تقتضي : تصديق الخبر عن الرب ، عز وجل ، ذاتا وأسماء وصفاتا وأفعالا ، وتزيد على ذلك : امتثال الحكم الشرعي فعلا للمأمور وتركا للمحظور .
وهذا ما قصر المتكلمون في إثباته إذ حصروا معنى الشهادة في إثبات ربوبية الله ، عز وجل ، فصارت : لا إله إلا الله : لا قادر على الإيجاد إلا الله ، فاكتفوا بإثبات الملزوم فقط ، والصحيح أن معناها : لا معبود بحق إلا الله فرعا عن تفرده بالخلق والإيجاد ، فيثبت الملزوم ولازمه الذي هو مراد الله ، عز وجل ، من عباده ، فمن خلق وأوجد هو المستحق لكل صور العبادة سواء أكانت عبادات محضة كالشعائر ، أم معاملات ، أم سياسات ، أم سلوكيات وزهديات ......... إلخ .
وكثير منا قد نحا نحو المتكلمين وإن لم يشعر بذلك ، فظن النجاة في الإقرار المجرد ، الذي هو تصديق الخبر ، دون أن يشفع ذلك بلازمه من امتثال الشرع سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات .
وقوله تعالى : (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) : تذييل آخر في معرض الثناء على الرب ، جل وعلا ، بأوصاف كماله ، فذلك ثناؤه على نفسه ، والعبد مكلف بالثناء عليه قدر استطاعته ، فلن يحصي ذلك ، فقد أثنى ، عز وجل ، على نفسه بما هو له أهل من الكمال المطلق ، فلا يضره أن قدح في ذلك من قدح من ملاحدة الأمم ، فهو الرب المنفرد بالكمال ، وإن كفر به أهل الأرض جميعا ، وإنما يثني عليه من يثني طلبا للنجاة ، فــ : (فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) . فلن ينفع العبد ربه ، عز وجل ، وإنما الرب ، جل وعلا ، هو الذي نفع عبده لما أوجده واستخلفه على جهة الابتلاء ، وأيده بروح الوحي ، فبعث الأنبياء بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام ، لتتم نعمته الكونية السابغة على عباده بصلاح الدين والدنيا .
المصدر :
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=48633
يتبع ..
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ : توكيد في معرض بيان استحقاقه ، عز وجل ، وصف الربوبية العامة .
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا : إطناب بذكر أوصاف الربوبية على حد دليل الاختراع أو الإيجاد ، وهو أحد دليلي الربوبية بالاستقراء ، والإتيان بالموصول منزل منزلة التشويق إلى الوصف الذي دلت عليه الصلة ، إذ دلالة الموصول مجملة عقبت بالبيان ، وهو آكد في تقرير الوصف من الإتيان به صريحا فهو الذي خلق بكلماته الكونيات ، علة صدور هذا العالم على سبيل الفور ، على حد قوله تعالى : (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فشاء التكوين قدرا نافذا ، فوقع كما أراد عقب الكلمة التكوينية ، فلا مبدل لكلماته ، واستوى على الوجه اللائق بجلاله ، فله من وصف العلو الخاص بالاستواء على العرش ما لا يحيط به العقل استدلالا أو كيفا ، إذ ذلك من صفات الكمال التي لا تثبت إلا بالخبر الصحيح الصريح ، وله من وصف العلو العام ما دل عليه العقل ، وإن لم يكن العمدة في باب الإلهيات ، فجاءت دلالته الصريحة موافقة لدلالة النص الصريحة ، فله جميع أوصاف العلو على حد الكمال المطلق : العلو الذاتي : فهو علي بذاته على خلقه ، علي بشأنه فلا يقدر أحد على مغالبته ، علي بقهره فهو الغالب على أمره القاهر فوق عباده قد قهرهم بأوصاف جلاله ، كما امتن عليهم بأوصاف جماله .
والعلو الفعلي : بالاستواء على أعظم المخلوقات استواء الغني عن كل ما سواه ، فلا يفتقر إلى شيء من خلقه ، فاستوى على أعظم المخلوقات بأعظم الأوصاف على حد قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، والاستواء بعد الخلق مئنة من تمام ملكه وتدبيره لكونه ، فخلق وعلا على عرشه بمشيئته ، فذلك من أوصاف الجلال ، ودبر الأرزاق والأقوات بمشيئته ، فذلك من أوصاف جماله ، وذلك : دليل العناية ، على حد قوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) ، وكما قدر في الأرض ما تصلح به الأبدان ، قدر من الوحي ما تصلح به القلوب والألباب .
فقوله تعالى : (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا) : دليل الاختراع والإبداع ، فقد خلق الأرض وأرسى فيها الجبال على غير مثال سابق .
وقوله تعالى : (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) : دليل العناية .
ودليل الاختراع والعناية من الأدلة التي قررها المتكلمون في أصول الدين ، كابن رشد الحفيد ، رحمه الله ، وهو دليل عقلي صريح تشهد له كثرة متكاثرة من نصوص التنزيل فمن ذلك :
قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) ، فقوله تعالى : (فاطر السماوات والأرض) : دليل الاختراع والإيجاد من عدم والإبداع على غير مثال سابق ، على حد أثر ابن عباس رضي الله عنهما : "كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها" . اهــ
فهو ، جل وعلا ، بديع السماوات والأرض ، وتلك من أخص أوصاف ربوبيته ، عز وجل ، وإن لم تكن أخصها ، فتفرده بالخلق من العدم والإبداع على غير مثال سابق من أخص أوصاف ربوبيته ، وتفرده بالتدبير الكوني لخلقه من أخص أوصاف ربوبيته ، فلم يترك الخلق هملا ، وإنما قدر لهم ما يصلح أديانهم وأبدانهم ، كما تقدم ، وتفرده بمعاني الكمال المطلق من الغنى والقدرة النافذة والعلم المحيط ......... إلخ من أخص أوصاف ربوبيته .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
"ومن أخص أوصاف الرب القدرة على الخلق والاختراع فليس ذلك لغيره أصلا ............. وأخص وصف الرب ليس هو صفة واحدة بل علمه بكل شيء من خصائصه وقدرته على كل شيء من خصائصه وخلقه لكل شيء من خصائصه" . اهـــ
بتصرف من : "الرد على البكري" ، ص126_130 .
وأما قوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) : فهو دليل العناية : عناية الغني ، جل وعلا ، الذي لا يفتقر إلى سواه ، بالفقير الذي يحتاج من يطعمه ، فامتن الغني ، جل وعلا ، على الفقير ، بأسباب الحياة ، فقدر له ، كما تقدم في أكثر من موضع ، قوت الأبدان وقوت القلوب ، فذلك أمر يتكرر التنويه به بتكرار صور العناية الربانية بالعباد ، فثنائية الرب الغني والمربوب الفقير مظنة الإطناب في بيان صور ربوبية العناية في معرض بيان المنة الربانية السابغة ، وطباق السلب بين : "يُطْعِمُ" ، و : "وَلَا يُطْعَمُ" آكد في تقرير المعنى ، إذ الإثبات في معرض الوصف الفعلي المتعدي ، والنفي في معرض الوصف الذاتي اللازم ، فهو الذي يُطْعِم لكمال عنايته بخلقه ، ولا يُطْعَم لكمال غناه عنهم ، فلا يبلغ أحد نفعه ، تبارك وتعالى لينفعه ، فضلا عن دلالة الجناس الاشتقاقي بين صورتي الفعل : المبني لما سمي فاعله : "يُطْعِم" ، والمبني لما لم يسم فاعله "يُطْعَم" ، إمعانا في إثبات الوصف له على وجه التعيين والانفراد ، ففاعل الإطعام المثبت معلوم ، لا شريك له ، في أفعال ربوبيته : جلالا بمعاني العزة والقهر ، أو : جمالا بمعاني التدبير والرزق ، وفاعل الإطعام المنفي مجهول ، إرادة العموم ، فلا يطعمه أحد ، أيا كان ، ولا يمده أحد بأسباب البقاء والغنى والعزة ......... إلخ ، فغناه عن خلقه : مطلق ، فهو ذاتي لازم باعتبار الوصف ، بل فعلي متعد إليهم ، فهو المغني لغيره ، الممد له بأسباب البقاء ، فكل أوصاف الكمال في عباده منه على جهة الإيجاد والإمداد ، فأوجد الحياة فيهم وأمدهم بأسبابها ، وأوجد البقاء الأبدي فيهم في دار القرار وأمدهم بأسبابه ........... إلخ ، وفي المقابل : كل أوصاف الكمال الثابتة له : ذاتية لا تفتقر إلى سبب يوجدها من العدم ، فهي أزلية بأزلية الذات القدسية ، ولا إلى سبب يمدها بمعاني الكمال فله منها منتهى الكمال الذي لا يعتريه النقص بأي حال من الأحوال .
وإنما خص الإطعام بالذكر لكونه من آكد صور الافتقار ، فنفيه من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، فلا يفتقر إلى خلقه في شيء من وصف كماله الذاتي اللازم أو وصف كماله الفعلي المتعدي إلى غيره الذي به يدبر كونه على سبيل الانفراد فلا شريك له في وصف كماله ، ولا شريك له في أمره الكوني النافذ : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) : فنفى استقلالهم بملك مثقال ذرة من الكون ، ونفى شركتهم ، بل ومظاهرتهم ، ففي السياق تدرج من نفي الأعلى إلى نفي الأدنى . فكل مسخر بأمره الكوني : تسخير المربوب المقهور لربه القاهر .
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ : إطناب في تقرير معاني ربوبية الجلال : ربوبية القهر والتسخير بالأمر الكوني النافذ .
وفي قوله :
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ : تذييل لما تقدم من دليل الإيجاد والاختراع ، فنبه إلى ذلك بــ : "ألا" الاستفتاحية ، وقدم ما حقه التأخير حصرا وتوكيدا ، فضلا عما للام : "له" من معاني الاستحقاق والانفراد ، فله وحده ، عز وجل ، الخلق خصوصا ، إذ هو ، كما تقدم ، من آكد أوصاف الربوبية ، وهو من أمره الكوني ، والأمر : عموما ، فــ : "أل" جنسية استغراقية ، فهو مفرد الأوامر التكوينية التي تكون بها الأمور على حد قوله تعالى : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ، فالأولى : بمعنى المأمور المفعول ، والثانية : من الأمر الذي به يكون المأمور .
ويقال من جهة أخرى : الخلق ، بمعنى المخلوق على حد قوله تعالى : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، أي : مخلوقه ، يكون بالأمر ، فيكون العطف في : (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) من عطف السبب على مسبَِّبَه ، وذلك مما استدل به من رد مقالة خلق القرآن ، إذ هو من آحاد صفة كلامه ، عز وجل ، والأمر الذي يكون به الخلق من آحاد كلامه أيضا : فذاك شرعي ، وهذا كوني ، فلما عطف على الخلق علم أنه غير داخل فيه ، فهو غير مخلوق ، بل به توجد المخلوقات .
قال قوام السنة رحمه الله :
"قال الله عز وجل : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقال عز وجل : (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فبان بقوله أن أمره غير خلقه وبأمره خلق ويخلق ، وقال عز وجل : (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)" . اهــ
"الحجة في بيان المحجة" ، (1/228) .
ويقال أيضا في معرض تقرير الألوهية الشارعة فرعا عن الربوبية الموجدة المدبرة :
الخلق من أمره الكوني على جهة وقوعه بكلماته الكونية ، فلو زيد في عموم "أل" في : "الأمر" ليشمل الكلام الكوني والكلام الشرعي الحاكم الذي جاءت به النبوات ، لآل المعنى إلى كونه ، عز وجل ، الشارع الحاكم المستحق لتمام التأله بأفعال عباده ، ومن آكدها إجراء شرعه على الأفراد والجماعات في شتى مناحي الحياة ، فرعا عن كونه الخالق بالكلمات الكونيات النافذات ، فله الخلق ربوبية وله الأمر ألوهية .
والشاهد من ذلك :
أن دليل الاختراع والعناية ، كما سيأتي إن شاء الله ، في آيات أخر ، إن يسر الله ، عز وجل ، ذلك في مداخلات تالية ، لا يحصل المراد منه في ذاته ، بل هو مراد لغيره ، فجمهور العقلاء على الإقرار به ، على حد قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وإن كابر منهم من كابر ، وعلى حد قول موسى لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) فهو مقدم أهل الجحود على مر العصور ، وعلى حد وصف أهل الجحود عموما : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ، فلا يكتمل معنى الربوبية إلا بضم معنى الألوهية إليه ، إذ هي لازمه الذي لا ينفك عنه ، ولذلك تذيل آيات دليل العناية والاختراع بآيات الأمر بالتأله والتذلل على جهة الاختيار ، فبعد هذه الآية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، فالدعاء عبادة والنهي عن الإفساد : حكم شرعي تكليفي ، ولا يكون بيان ذلك إلا من طريق النبوات الهاديات ، إذ علومها أنفع العلوم ، وأعمالها أصلح الأعمال للقلوب والأبدان .
فالألوهية تتضمن الربوبية وزيادة ، إذ مدار الربوبية على الخبر ، والألوهية تقتضي : تصديق الخبر عن الرب ، عز وجل ، ذاتا وأسماء وصفاتا وأفعالا ، وتزيد على ذلك : امتثال الحكم الشرعي فعلا للمأمور وتركا للمحظور .
وهذا ما قصر المتكلمون في إثباته إذ حصروا معنى الشهادة في إثبات ربوبية الله ، عز وجل ، فصارت : لا إله إلا الله : لا قادر على الإيجاد إلا الله ، فاكتفوا بإثبات الملزوم فقط ، والصحيح أن معناها : لا معبود بحق إلا الله فرعا عن تفرده بالخلق والإيجاد ، فيثبت الملزوم ولازمه الذي هو مراد الله ، عز وجل ، من عباده ، فمن خلق وأوجد هو المستحق لكل صور العبادة سواء أكانت عبادات محضة كالشعائر ، أم معاملات ، أم سياسات ، أم سلوكيات وزهديات ......... إلخ .
وكثير منا قد نحا نحو المتكلمين وإن لم يشعر بذلك ، فظن النجاة في الإقرار المجرد ، الذي هو تصديق الخبر ، دون أن يشفع ذلك بلازمه من امتثال الشرع سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات .
وقوله تعالى : (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) : تذييل آخر في معرض الثناء على الرب ، جل وعلا ، بأوصاف كماله ، فذلك ثناؤه على نفسه ، والعبد مكلف بالثناء عليه قدر استطاعته ، فلن يحصي ذلك ، فقد أثنى ، عز وجل ، على نفسه بما هو له أهل من الكمال المطلق ، فلا يضره أن قدح في ذلك من قدح من ملاحدة الأمم ، فهو الرب المنفرد بالكمال ، وإن كفر به أهل الأرض جميعا ، وإنما يثني عليه من يثني طلبا للنجاة ، فــ : (فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) . فلن ينفع العبد ربه ، عز وجل ، وإنما الرب ، جل وعلا ، هو الذي نفع عبده لما أوجده واستخلفه على جهة الابتلاء ، وأيده بروح الوحي ، فبعث الأنبياء بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام ، لتتم نعمته الكونية السابغة على عباده بصلاح الدين والدنيا .
المصدر :
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=48633
يتبع ..