المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صلة العلم بالعلم الحديث



يحيى
01-26-2010, 03:19 PM
يقول ريتشارد دوكنز أحد المبشرين الإلحاديين من بريطانيا متظاهرا بالعلمية و العقلانية في وقت هو غارق في العلموية و الدوغمائية من رأسه حتى أخمص قدميه:
التنوير تحت التهديد و كذلك العقل و كذلك الحقيقة.
مبالغة لا داعي لها, هذا واضح لكن عندما يكون خطابك فارغ من المحتوى العلمي فلابد و أن تبحث إلى مستند مثير سواء كان نفسي أو فكاهي, إلا أني أشعر بأنه يتكلم بجدية فالتنوير مُهدد و إذا كان كلامه يصح من الناحية التاريخية و يقصد بالتنوير حرية العلم و العلماء, إلا أنه يتكلم هنا من زاوية ايديولوجية فعودة الناس للايمان بالله عنده تهديد للتنوير, و عودة الناس للبحث عن السعادة و الأجوبة في الدين (حتى لو كان محرف لكن فيه أجزاء صحيحة) تهديد للتنوير, أما الوثنية العصرية و صناعة الأوثان الجديدة من الطبيعة و المادة و الصدف فحضارة و ارتقاء, قيادة الحياة الجماعية ماديا, الأمر الذي أغرق الغرب في الظلمات و امتدت آثاره إلى العالم الخاضع لسيطرتهم الظالمة, فتقدم و أي تقدم.

نعم, أشعر بأنه يتكلم بجدية, على أية حال هناك الكثير من الناس يحصل عندها التباس فتخلط بين "العلم الحديث" و "الحقيقة". الحقيقة في هذا السياق مفهوم غامض لذلك سأقول "الواقع" لأن هذا في رأيى سينقص من احتمال حصول مثل هذا الألتباس. العلم الحديث يقدم نموذج للواقع لكن لا يقدم وصفا كاملا لهذا الواقع فقد ننطلق مثلا من ملاحظة (واقع) معينة فنضع فرضيات لتفسيرها و ربما نجحنا و طورنا نظرية علمية حولها, لكن العلم لا يقدم وصفا كاملا لها بل يقدم نموذج لهذا الواقع. لأني أعتقد أن داوكنز هذا متأثر في طريقة تفكيره بالوضعية, فأنا أرى أن الاحتمال ضئيل جدا بأننا في يوم ما نستطيع أن نقدم وصف كامل للواقع بواسطة العلم الحديث, ففكرة الانسجام و النمو حتى نصل لمعرفة نهائية, هي فكرة مثالية جدا, لأن حتى مفهوم "العقل" و "العقلانية" هنا يتم (عمدا؟) تجاهل اشكالياته.

و يقول المبشر الالحادي:
نحن عازمون على رعاية و دعم الأبحاث في الأسس النفسية لللاعقلية (الجهل)
عندما يتكلم الثالوثي عن التوحيد فابحث عن أقرب باب للهروب قبل أن تنفجر قنابل الجهل و الخرافات, إلا أن الأخطر من هذه القنابل هي تلك القنابل الجهلية و الخرافية التي تحوم حول ألفاظ رنانة من قبيل العلم و العقلانية. إن كلامه هذا لا يغتر به إلا الجاهل الذي يظن أنه يسمع كلاما علميا بمجرد أن تتطرق إلى أذنيه تعابير من نوع "الأبحاث العلمية" و "الأسس النفسية" فهذا المغتر المسكين يستسلم للدوغمائية بدون اعمال عقله و بدون تفكير, فأي فرق إذن بين حالته هذه و حالته السابقة التي كان يستسلم فيها للقسيس؟ لا فرق, إطلاقا.

بعضهم يعتقد أن الإنسان آلة منطقية فإذا كان المتوقع هو إضاءة 67 مصباح لتشكيل حرف ((أ)) ثم 45 مصباح لتشكيل حرف ((ب)) فإن إضاءة 67 على التوالي بدون 45 ستعني هناك مشكلة تقنية يمكن البحث عنها و ايجاد حل لها, و لكن الإنسان ليس بهذه البساطة فهو ليس بآله فهناك جهل و جهل متعمد و كذب و تزوير للحقائق و تسمية الاشياء بغير مسمياتها و الكبر و العناد و حب الظهور و هلم جرا, أمراض نفسية و انسلاخ أخلاقي ما كانت بدعة الالحاد ستظهر في البشرية بتاتا لو لم يكن الإنسان عزم على أن يرد نفسه إلى أسفل سافلين رافضا التقويم الحسن الذي خُلق عليه و رافضا الفطرة التي فُطر عليها, فلذلك لا نستغرب إذا أنكر آدميته و بشريته و وضع خيط اتصال و وصال مع أجداده من الحياونات الأخرى (أنا أرفض الداروينية الايديولوجية و ليس الداروينية). الإنسان كائن مفكر لامحالة و هذا يظهر من خلال التحضر الذي وضع الانسان أسسه فطوّر أساليب و نظم في حياته اليومية, لكن الانسان بعقله هذا يضل و يشقى أيضا و هذا يظهر من خلال الأخطاء التي نجدها في البنيات و الكائنات التي نطورها, فمثل هذه الخطابات العاطفية التي تخاطب العواطف و تتكلم عن دعم البحث في الاسس النفسية للاعلقلية قد حددت -تأثرا بالوضعية- أن ما يدخل في "العلم الحديث" عقلية و علمية و ما هو خارج إطارها "لا عقلية و لا علمية" و هذا هو الخطأ السيكولوجي و المنطقي من أساسه.

ثم يواصل القسيس الملحد و يقول:
ما هي علاقة التدين و الخرافة من جهة, و الذكاء, المستوي التعلمي و نوع التعليم من جهة أخرى؟
نعم, إن مجرد طرح مثل هذه الأسئلة بطريقة سيكولوجية معينة يمكن أن تصطاد بها في الماء العكر, لأن المشكلة مشكلة الإعلام و حل الثقافة الاقتصادية محل الثقافة الشعبية فصار الانسان يهتم بالشكليات و يُبرمَج بالإعلانات و الإشهارات و تسيطر على عقليته و طريقة تفكيره سيناريوهات الأفلام و خيالات الألعاب بكل أنواعها, فالانسان ليس عنده شيء آخر فقد أصابه الملل من كل أنواع الكوميديا في جميع الميادين و لم يبقى له إلا كوميديا تستهزأ بالدين بغطاء علماوي مفضوح. أنا أتصور و أتخيل الآن شاب يقف في محاضرة هذا القسيس الملحد و يقول له يا قسيس أنت تعلم أن ما نسميه إنسان هو كائن بيولوجي و ما يحدث في داخله هي عمليات و معالجات بيولوجية فلماذا إذا أفرزت شكلا من التعامل أطلقنا عليه دين و إذا أفرزت شكلا آخر قلنا خرافة و شكل آخر قلنا ذكاء و شكل آخر قلنا قنينة غاز و شكل آخر قلنا هوية و شكل آخر قلنا يينمنمثنثنخثنث ينتينتبت ؟؟ و أنا لا أتوقع منك جوابا لأن جوابك أيضا من إفرازات جهازك البيولوجي.. و الآن أتخيل جواب القسيس: "كوح كوح -.. كأس ماء يشرب..- و نحن كما نعلم جيمعا نحن لا ننتقد الدين و إنما يمكن أن تتصور العالم بدون أحداث 11 شتنبر و بدون البوصنة و الهرسك, كيف كان سيكون العالم؟ تصور العالم ليس فيه هتلر الذي قتل 6 مليون يهودي لأنه كان كاثوليكي و قد فعل هذا لأن كان كاثوليكي فالكاثوليكي تعني اقتل 6 مليون يهودي, و تصور العالم بدون الصراع الفلسطيني و الاسرائيلي و بدون أحداث لندن, نعم كيف كان سيكون العالم؟... بلا بلا بلا..".

في تساؤله هذا تظهر الثغرات الكبيرة في خطابه فالبحث النزيه و الحيادي يجب أن يُمارس في إطار لا تُفرض فيه على العقل خطوات معينة أو مبادئ قبلية في شكل مصادرات على الواقع الموضوعي. في العلوم الصعبة من المستبعد أن تفرض مصادراتك على الموضوع الذي تدرسه, الشيء الذي يجعل الانسان ينسى بأن هذا الأمر يكون أكثر خطورة إذا ما تم ممارسته في العلوم السلوكية. تساؤل القسيس دوكنز هنا هو تساؤل من هذا النوع فكيون هو بالتالي في تناقض مع نفسه, و بناءا على هذا يمكن القول بأن النظرة الوضعية هذه نفسها خرافة؟ هذا ما يمكن أن ندرسه و نحلله و الله الموفق.

كدت أنفجر من كثرة الحماقات التي كنت أصغي إليها في محاضرة يلقيها أحد من يتظاهرون بالعلموية حول موضوع الوعي, فأخذ يتكلم و يأخذ و يرد و يحلل و يفتش بدون أن أسمع كلمة ((ربما)) أو ((قد يكون)) أو ((إذا صحت كذا كذا..)) أو ((إذا افترضنا..)) أو ((في حالة كذا..)) أو ((أمر مشكوك فيه لكن..)) أو ((نحن لا نعلم لكن أظن..)) ... لا لا .. و لا تعبير واحد من هذا النوع يمكن يترك انطباع بأن "البروفيسور" يخوض في تخمينات و فرضيات هي أقرب للفلسفة الخرافية من الفلسفة العلمية, ثم يقول في نهاية الأمر بصوت كاد يتعمد تخفيضه و بشكل قهقري و كأنه تعب من المحاضرة آآآه يسرح ذراعيه و ينجذب و يعود بالكرسي إلى الوراء و أخيرا و أخيرا و أخير .. يا ربي يخرج الكلام من فمه... يا لصعوبة الكلام آآآآع ع ع ه ه : "نعم, لكن لابد من الانتباه إلى حقيقة و هي أن علم النفس التطوري ، وعلم الوراثة السلوكي و حتى الفسيولوجيا العصبية هي علوم رضيعة (جديدة) بحيث أن نتائجها لم تؤدي بعد إلى نظرية علمية متجانسة, فمن الصعب تقدير معاني هذه النتائج." ... أووووففف و أخيرا خرج الكلام:

نعم, لكن لابد من الانتباه إلى حقيقة و هي أن علم النفس التطوري ، وعلم الوراثة السلوكي و حتى الفسيولوجيا العصبية هي علوم رضيعة (جديدة) بحيث أن نتائجها لم تؤدي بعد إلى نظرية علمية متجانسة, إذن من الصعب تقدير معاني هذه النتائج.

إذا كان ذلك كذلك يا "بروفيسور" فعلى من تضحك و لماذا تستهزئ بعقول الناس؟ ثم أولا و أخيرا لماذا تبني على تخيلاتك باسم العلم (بينما تمارس أنت هنا العلموية) استنتاجات لها علاقة بما تؤمن به الناس سواء كان ايمانهم ايمان أو خرافة؟؟ إذا كان هذا النوع من العلم ما زال رضيعا فعن أي شيء تدندن؟ بل أقول إذا كانت العلوم الأخرى مثل الفيزياء التي أكل عليها الدهر و شرب و صُرفت فيه الملاييير من الدولارات و أطنان من البحوث, تأتي بنظريات لا ترحمها سهام النقد القاتلة الغير الرحيمة, فما بالك بعلم رضيع؟؟

يحيى
01-26-2010, 05:47 PM
صلة العلم بالعلم الحديث

هذا عنوان الموضوع فالعلم يمكن تعريفه ببساطة أي نضع له تعريف بسيط و كلما كان الشيء أبسط كان للحقيقة أقرب و العكس صحيح, هناك كلام يُنسب للإمام على (كرم الله وجهه): العلم نقطة كثرها الجهلاء. هو كلام سليم سواء صدر فعلا من علي (عليه السلام) او لم يصدر و نحن طبعا نؤمن بأن الحكماء أمثال علي (رضي الله عنه) لا يصدر عنهم إلا حكمة.

يقول د.عزالدين المعيار

العلم لغة واصطلاحا :
العلم في اللغة اليقين ، و هو معرفة الشيء على ما هو به ، أو هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ...
وجاء العلم بمعنى المعرفة كما جاءت بمعناه وهما مسبوقان بالجهل وفي القرآن الكريم :{مما عرفوا من الحق } أي علموا و هو كذلك في قوله تعالى :{لا تعلمونهم الله يعلمهم } و منه قول الشاعر :
و أعلم علم اليوم و الأمس قبله " " " و لكني عن علم ما في غد عم
أما في الاصطلاح فيختلف مدلوله باختلاف حقوله ، و من ثم اختلف العلماء من أصوليين و متكامين و مناطقة في تعريفه ، بل قال بعضهم إنه مستغن عن التعريف ...
و الأصل في حقيقة العلم أنه الإدراك عن دليل ، و يطلق على المعلوم ، و على الملكة عرفا أو اصطلاحا أو مجازا مشهورا .

المصدر (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=20370#9)


أي نقول العلم إدراك الشيء على ما هو عليه.

فما علاقة هذا العلم بالعلم الحديث أو ما علاقة العلم الحديث بهذا العلم؟ إذا كان تعريف العلم ممكن بشكل بسيط فتعريف العلم الحديث ليس بهذه البساطة أو تحديد العلم في العلم الحديث ليس بأمر هين, بله أن كثير من البسطاء يعتقد أن كل كلام يسمع فيه ألفاظ معرفية حديثة هو علم. مثل هذا المسكين كمثل من سمع ألفاظ غير مفهومة و تعابير معقدة فظن أنها فلسفة!!

هل تعرفون فريق جيطاط لكرة القدم؟ المهم أن مدرب هذا الفريق يدعى سيماو فيضاوي.

لقد قام "فريق من الباحثين" يضم في صفوفه "خبراء" و "علماء" ب "دراسة" سيماو فيضاوي دراسة "نقدية" لمبادئ سيماو, و لخططه و نتائجه, بقصد "تحليل" تحركاته "الجيطاطوجية" (نسبة لفريق جيطاط) و لبيان قيمته "الفنية" و حصيلته "الموضوعية" ب "ميثودولوجيا" "متطورة" توصل إليها العالم Rte NNoUJ يمكن من خلال هذه الميثودولوجيا تكهن رقم اللاعب الذي سيدخل مكان اللاعب الآخر على أساس "دراسة إحصائية" لعدد الإصابات كل أسبوع, و قد قام "فريق طبي" بتحليل "جزئيات" "DNA" التي أصيب به اللاعب 13 في "المختبر" فتوصلوا أن كل لاعب مصاب ورقمه أكبر من 9 يصاب في الملعب على بعد يزيد عن 10 متر من مرمى الخصم و نتائج DNA تقول بـأنه من صنف A فإن اللاعب ((أ)) الذي ينبغي أن يضرب الكرة ليسجل الهدف يمكن تكهنه بالمعادلة التالية:
((أ)) = A13 - 10 / 9
و بهذه المعادلة نجح العلماء في وضع أسس النظرية العلمية الفيضاوية (نسبة ليسماو فيضاوي).

هكذا أغلب الناس تعتقد أن كل كلام تختلط فيه تعابير معرفيه جديدة هو علم بينما تكون الحقيقة أن هذا النوع أو ذاك مجموعة من الارهاصات و الفلسفات و الفرضيات و النظريات, لكن طبعا لا ندعي عدم وجود "علم" في "العلوم الحديثة" فالنظرية ليس علما لكن فيها "علم" و لولا هذا العلم لما كانت هناك نظرية أصلا, فالنظرية نفسها ليس علما, لكن كيف تكون النظرية ليست بعلم و فيها علم؟ تساؤل في محله و الجواب عليه سيأتي بين أسطر هذا الموضوع إن شاء الله.

ماذا نقصد بالسؤال: هل هناك علم في العلم الحديث؟
نقصد: إمكانية أو استحالة بلوغ اليقين (إدراك الشيء على ما هو عليه) في الميدان العلمي (العلم الحديث).

هل ممكن أم مستحيل؟ الجواب على هذا السؤال كما سبق لن يكون سهلا, بل حتى إذا قمنا بتبسيط السؤال و تسهيله لنسأل السؤال: متى تصبح النظرية صحيحة/خاطئة؟ حتى هذا السؤال ليس بتلك البساطة التي قد يفكر فيها من يفكر بشكل سطحي لكن في العلم و في التفكير العلمي يمكن أن نقول: بالدليل.

هذا سهل جدا لكن في العلم الحديث هذا الجواب غير واضح فكارل بوبر Karl Popper الفيلسوف الذي تخصص في فلسفة العلوم علق على صحة/خطأ النظرية فقال ليس هناك قدر من التجارب يمكن أن تثبت يوما ما "نظرية علمية" لكن تجربة واحدة يمكن أن تفعل العكس (يعني تنسف النظرية), و هذا الكلام طبعا يؤدي إلى أسئلة أخرى من قبيل: هل التجربة دليل؟ هل يكفى أن تكون لديك مقدمة بديهية يقينية حتى تحصل منها على نتيجة يقينية أم هناك شروط أخرى؟ و أسئلة أخرى قد نتطرق إليها مباشرة أو بين الأسطر في هذا الموضوع.

و ليس هذه الأسئلة فقط هي التي تصعب إعطاء جواب كاف و مقتع, بل إن تاريخ النظريات نفسها يوضح الأمر, و هذا يعرفه المتخصصون أو من تابع تاريخ تطور نظرية من النظريات أو حاول أن يضع خط اتصال بين نظرية آينشتاين, نظرية ماكسويل و تصور نيوتن للواقع. كذلك دراسة الصراع التاريخي المعروف بين التصور الموجي للضوء و التصور القائم على مفهوم الجسيمات.. الخ

و اذا عممنا السؤال و دخلنا اليه من باب معرفة آخر لنفهم الذين حاولوا تفسير اللغة العلمية أو من حاول تشييد فكر علمي على أساس المعطيات العلمية, فستجد نفسك أمام تيارات متنوعة و متضادة تحاول الاجابة على سؤالنا هل هناك علم في العلم الحديث و ان كان العلم في العلم الحديث ممكنا فكيف؟

إذا استعرضنا هذه التيارات بطريقة اشارية فقط (اكتفي في هذه المقدمة بالاشارات الى بعض المحطات فقط و ممكن أستمر في الموضوع بأبحاث أخرى أكثر وضوحا إن شاء الله) فسنلاحظ اصطباغ التأويلات الفلسفية (في فلسفة العلوم) للكشوف العلمية بالصبغة الايديولوجية مما يصعب معه تحديد المواقف بشكل موضوعي و واضح و أقرب للحقيقة منه للباطل, فقد ذكرت في موضوع آخر التعارض الذي حصل بين علماء الوراثة و علماء الآثار في تحديد عمر الانسان على أساس بحث علمي حول موضوع شجرة العائلة البشرية أنتجته قناة ناشيونال جيوغرافيك حول بحث قام به عالم جينات (متخصص في علم الوراثة) اسمه Spencer Wells, هذا العالم قام بتحليل ال DNA لأنواع البشرية في بقاع الارض فتوصل الى نتيجة مفادها أن جميع الناس من نسل أول "رجل" من أفريقيا عاش قبل 60,000 سنة و أن الانتشار لم يحدث الا بعد هذا الوقت بينما تجد أن معظم علماء الآثار يتكلمون عن بداية النزوح قبل 100,000 سنة و هذا التناقض بين البيولوجي و الاركيولوجي يقول 40,000 سنة.

طبعا يجب أن نطرح هنا سؤال أين المشكلة؟ في المنهاج العلمي بشكل عام أم في المنهج العلمي الخاص بعلم الوراثة ام في المنهاج العلمي الخاص بعلم الآثار؟

إذا كانت المناهج تختلف و هي أيضا قابلة للتصويب فكيف نثق بها و نحدد ما المعرفة العلمية و ما شروطها على أساسها؟
لقد أدى الغلو و التطرف في الالحاد باغوست كونت (مؤسس الوضعية) إلى القول بوجوب حصر المعرفة العلمية و بحوثه في معالجة ما يقبل الملاحظة, و الامتناع عن وضع فرضيات تطمح الى تفسير ما وراء الظواهر, أي الميدان الذي لا يوجد فيه أي شيء يمكن تصوره أو اثباته و في هذا الاتجاه صارت الوضعية الالمانية او الظاهراتية و بنفس المنطلقات و لنفس الأسباب تلتقي الوضعية مع الوضعية الجديدة أو الوضعية المنطقية التي ترى أن التجربة هي مصدر المعرفة عن الواقع لكن يمكن الوصول إلى يقينيات شريطة الالتزام بالمنطق.

من طبيعة الحال لا يمكن أن أتكلم عن الوضعيين بشكل عام فهم بينهم مختلفين و تجد الواحد ينفرد برأي و قناعة تختلف عن رأي و قناعة الآخر في نفس الوضعية, لا يمكن أن نقصد بالوضعيين الوضعية و لا العكس, كما لا يمكن أن نقصد بالأشاعرة الأشعرية و لا العكس. نجد كثير من الوضعيين كلامهم في المعرفة و حدودها أو قيمتها على مذهب العقلانيين لكن يتفقون مع الوضعية في بعض الجوانب أو العكس و مناصري الفلسفة الحديثة في العلوم و هي الفلسفة التي تتمسك بالعقلانية و ترفض الوضعية بمصادراتها كما ترفض المادية الجدلية لأنها خليط من المعتقد و المنهاج تفرض على العقل خطوات معينية لكن هم في الأخير يلتقون مع الوضعية المنطقية في جوانب و يسايرون التطورية في جانب آخر و بدون أن ننسى السفسطة التي وقع في قبضتها هذه التيارات بشعور أو بلاشعور و هي نتيجة حتمية ترفضها البيئة التي تستسلم لغنوصيات و خرافات باسم العقل في حين يُترَك فيه الهوى يلعب دوره فيسيطر ما هو ايديولوجي على ما هو موضوعي, نفس الشيء بالتحديد هو الذي حدث عند الاغريق القدماء و ما مذهب النسبيين و البراجماتيين عن السفسطة و الفجور الفكري ببعيد.

المهم أن حصرة المعرفة العلمية في حدود ما وضعته الوضعية هو موقف ايديولوجي و فلسفي قائم على رفض الميتافيزيقيا, لا يمكن ان يعتبر موقف علمي, حتى إذا سلمنا لهم بتعريف العلم فإن العلم نفسه لن يقر لهم بالموقف الايديولوجي الذي يرفض أنواع المعارف الأخرى, هذا من جهة من جهة ثانية فالمعرفة العلمية لا تقيم نفسها بل لابد و أنها مستندة إلى مسلمات غير خاضعة للتجربة بتاتا و هذا يعني أن هناك ما يعلو العلم بمفهومهم للعلم فالملاحظ هنا أن المنطق, العلة و الرياضيات عالية فوق هذا العلم الحديث بمفهوم الوضعية. ثالثا تحديد المعرفة الممكنة ليس بالعلم الحديث بل هذا من اختصاص مباحث نظرية المعرفة بمناهجها و أساليبها الخاصة. رابعا إن تقييم المعرفة العلمية في العلم الحديث لا يمكن تحقيقه بالعلم الحديث نفسه لأن هذا العلم يسير على منهاج معين و هذا المنهاج العلمي بدونه لا يكون هناك علم حديث, ثم إن كل علم يتميز بخصائص خاصة به لأن كل علم يختص بموضوع مختلف و إذا كان هذا كذلك فإن المنهاج أو علوم المناهج هي التي تحدد الطريقة الصحيحة في اكتساب المعرفة في الميدان العلمي (العلم الحديث) إلا أن هذه المعرفة قد تصل الى نتائج غير صحيحة أو تظهر أزمات و بالتالي وجب إعادة النظر في المنهاج المتبع, فعلم المناهج إذن لاحق لممارسة العلم و ليس العكس و بالتالي لا يمكن الحكم بالعلم الحديث على معرفة معينة أ يقينية و مثمرة هي أم لا.


سأخرج قليلا من محاولة الاجابة على السؤال المطروح و أعود مرة أخرى إلى التفكير السطحي الذي يسيطر على بعض البسطاء, لأن تحليل السؤال من هذه الناحية دون ربط التحليل بالواقع و ما تفكر فيه الناس, أمر غير محمود. يقول قائل إذا كانت هناك هذه التضاربات و الاختلافات و السفسطة داخل العلم الحديث نفسه, فلماذا نجد هناك تقدم هناك سيارة و هناك راديو و تلفاز و أنترنيت و دواء ووو الخ, في الحقيقة لابد أن نعرف بوجود فرق كبير جدا بين العلم و التقنية, و بالتحديد بين العلم الحديث و التقنية, فالعلم الحديث ليس تقنية و التقنية ليست العلم الحديث لكن كما نجد في العلم الحديث علما هناك علم ايضا في التقنية, الإغريق مارسوا علما هو أقرب للعلم الحديث لكن المصريون القدماء و الصينيون و الهنديين الذي صنعوا و ابتكروا كثير من الوسائل و الأدوات تنفعهم في الزراعة و الري و الحساب (فكر هنا في أول حاسوب في التاريخ و هو حاسوب أباكوس الذي اُبتكر أول مرة في بلاد الرافدين أو في مصر القديمة) و البناء هي أقرب لما يسمى اليوم بالتقنية, فلا مجال للخلط بين العلم الحديث و التقنية. عندما نذهب الى الجامعة و نجد كلية العلوم و الزراعة أو كلية العلوم و التكنولوجيا أو كلية العلوم و الهندسة, فهذه ليست مجرد شعارات فارغة من المعنى.

و للحديث بقية

يحيى
01-29-2010, 04:45 PM
((فلسفة العلوم)) مصطلح متجدد و ليس جديد لأن كل تفكير في العلم أو في جانب من جوانبه أو في نتائجه و تطبيقاته هو بشكل أو بآخر فلسفة العلم و يُعتبر عند البعض مصطلح جديد وضع أسسه مؤسس الوضعية لكن هذا كلام غير صحيح, ماذا يعني التفكير في العلم؟ إنه يعني التفكير في ما يبحث فيه العلم , فإذا بحث العلم الطبيعي في الطبيعيات فإن الفلسفة الطبيعية فلسفة علوم, و هكذا كان كثير من الفلاسفة القدماء فلاسفة العلوم بهذا المعنى و كذلك كان المتكلمون الذي اشتغلوا في دقيق الكلام, كانوا يمارسون فلسفة العلوم و إن شئت قل فلسفة إسلامية للعلوم.

هذه الفلسفة تنمو الآن بشكل سريع نتيجة التقدم السريع الذي يحصل في ميدان التقنية و هذا الأخير بسبب استمرار التنافس الاقتصادي و التجاري, إن تقدم الصناعة هو تقدم للعلم فوسائل التقنية الحديثة و الدقيقة هي التي تساعد العالم للحصول على معلومات جديدة, الشيء الذي دفع بفلاسفة العلوم للتفكير مجددا بإمعان و احتراس حول العلم "الحديث": ما هو العلم؟ و قد يساعدون بأسئلة من هذا النوع لمحاولة صياغة نموذج يمكن من خلاله أن نتوقع كيف سيكون مستقبل العلم.

فلسفة العلوم تشمل التفكير الفلسفي حول العلم و فلاسفة العلم لا يطرحون أسئلة في العلم لأن هذا من اختصاص العلماء, كل عالم في ميدانه, لكن فيلسوف العلم يطرح أسئلة حول العلم, مثلا: ما العلم؟ ما الذي يميز العلم عن اللا-علم؟ و كيف يتقدم و يرتقي العلم؟ هل يمكن أن نصل إلى يقين في الميدان العلمي؟ كيف؟ و أسئلة أخرى تركز على المفاهيم التي يطبقها و يطرحها العلم. على سبيل المثال: ما معنى قانون طبيعي؟ و سؤال آخر هو حول المواضيع التي تجعلنا نبرر واقعية موضوعات علمية معينة, مثلا: هل الإلكترون له وجود حقيقي أم أنه مجرد وهم "مفيد"؟

ميزان الدليل
من أهم الأسئلة المركزية التي يفكر فيها فلاسفة العلوم تتمحور حول: الإثبات. إن العلماء يبنون نظريات يعتقدون أن ما يلاحظون يؤكدها, و مع ذلك, فإن هذه التأكيدات درجات و مراتب. قد يعتقد البعض أن هذا من اختصاص نظرية المعرفة, لكن كما لا يمكن أن نفصل في الإسلام بين الديني و الدنيوي, كذلك لا يمكن أن نفصل بين فلسفة العلوم من جهة, و نظرية المعرفة, تاريخ العلوم, المنطق و علم المناهج من جهة ثانية.

كل نظرية يمكن أن يحصل ثبوتها بشكل ضعيف أو بشكل قوي, و عليه نفترض أنه كلما كان الإثبات أقوى كلما كان الايمان بها أكثر عقلانية و العكس صحيح أي كلما كان الإثبات أضعف كلما كان الايمان بها أقرب للخرافة. و سؤال آخر يمكن أن نفكر فيه في نفس السياق هو: ما الذي يًُثبت نظرية معينة بشكل أقوى من نظرية تالية؟ هذا سؤال يؤدي بنا إلى سؤال جوهري حول مع إذا حصل هناك أصلا يوما ما ثبوت نظرية من النظريات !!؟ أحد الفلاسفة التجريبيين من القرن الثامن عشر, دافيد هيوم, جادل في هذه المسألة ليقول بينما نفترض أن ما قمنا برصده حتى الآن يمكن أن يثبت نظرياتنا العلمية, إلا أن الحقيقة تبقى أن هذه المشاهدات لا تُثبت أي شيء! إذا صح كلامه هذا فإن جميع النظريات من "نظرية دوران الأرض حول الشمس" إلى النظرية التي تقول بأن نواة الأرض مصنوعة من الجبن, سواء!! معروف عن هيوم انه يُنكر مبادئ عقلية يقينية كالعلة بسبب سفسطته و غلوه في المذهب التجريبي لكن هذا في المعرفة بشكل عام و أما هنا فالاقتصار على الجانب الذي يتعلق بالعلم فقط. الإشكالية التي يثيرها هنا هيوم هي التي تعرف ب مشكلة الاستقراء The problem of induction و هي أحد الإشكاليات التي حاول كثير من المفكرين معالجتها من خلال الفلسفة.

نعتمد كثيرا على الاستنتاج الاستقرائي, مثلا نتوقع أن الشمس ستشرق اعتمادا على تكرار هذه الظاهرة لكن إذا كان هيوم محقا في اعتقاده فإن ما حصل في الماضي لا يٌثبت أي شيئ في المستقبل, فكون الشمس طلعت كل مرة في الماضي لا يعني أنها ستشرق في الغد أيضا.

توقعات عظيمة
يمكن القول بأن أحد أوثق الحجج هي الحجج الاستنباطية, فبرهان استنباطي صالح , يمكن الادعاء بأن المقدمات تتضمن الاسنتناجات, على سبيل المثال:
- محمد رياضي.
- كل الرياضيين يتمتعون بصحة جيدة.
-- لذلك, محمد يتمتع بصحة جيدة!

ستقول أننا دخلنا في جزئية هي من اختصاص المنطق و هذا صحيح لكن كما قلت أعلاه لا يمكن الفصل بين فلسفة العلوم و المنطق, غير أن مباحث المنطق بشكل تفصيلي فيما يتعلق بالمعرفة و الرياضيات و العلة ليس من اختصاص فلسفة العلوم, و لكن سأخرج هنا قليلا عن الموضوع لأشير إلى نقطة مهمة ذكرها الدكتور أبو مريم -جزاه الله خير- في هذه المسألة, لأنها مهمة و حبذا لو أن المسلمين يهتموا بها و يدرسوها و يبحثوا فيها ليتعرفوا على تراثنا الإسلامي المُشرِق و للتعرف على نظافة و سلامة عقول و تفكير أئمتنا -رحمهم الله-. ذكر د. أبو مريم في أحد مشاركاته في هذا المنتدى ما يلي:
"... فقد استخلصت منه ما يمكن أن يمت إلى الاستدلال وهو استدلال قائم على أكثر من مقدمتين ( ولمن يدرس المنطق ومناهج البحث فقد ذكر الرازى فى المطالب العالية وغيرها كما ذكر ابن تيمية فى الرد على المنطقيين أن ليس من شروط الاستدلال الاعتماد على مقدمتين فقط وأشار الرازى إلى اعتماد المتكلمين فى بعض استدلالاتهم على ست مقدمات كلها ضرورية )".

..

لذلك, فمحمد يتمتع بصحة جيدة...
إذا حاولت الادعاء بأن ما قدمته صحيح و ما استنتجته خاطئ فإنك ستقع في تناقض منطقي, و على النقيض من ذلك ففي الحجة الاستقرائية لا تحتوى المقدمة قيمة يمكن تثبت صحة الاستناج, بالأحرى, يُتوقع من المقدمة انتاج دليل على صحة الاستنتاج, على سبيل المثال:
الدجاجة 1 حمراء
الدجاجة 2 حمراء
الدجاجة 3 حمراء ...
الدجاجة 1000 حمراء
إذا قمنا برصد ألف دجاجة, كلها حمراء, نستنتج بأن لون الأحمر هو لون كل الدجاج. إن هذه المقدمات تقنعني بمعقولية هذا الاستنتاج , لكن لن يكون هناك أي تناقض منطقي بين رصد 1000 دجاجة كلها حمراء ثم القول بعد ذلك أن الدجاجة الواحدة بعد الألف ممكن لا تكون حمراء.
إننا نعتمد على الاستنتاج الاستقرائي طوال الوقت, كلما فكرنا فيما نتوقعه في المستقبل أو في الماضي أو الآن أو ربما حتى في أماكن أخرى في الكون, نعتمد على الاستنتاج الاستقرائي لتبرير ادعاءاتنا. مثلا أنا أتوقع بأن الكرسي الذي سأجلس عليه الآن سوف يوفر لي امكانية الجلوس عليه بدون أن ينهار أو ينكسر بسبب وزني, لماذا؟ حسنا, في الماضي جلست عليه أكثر من مرة و لم ينهدم, و لذلك أستنتج بأن ذلك سيتكرر هذه المرة أيضا يعني أنا أعتمد هنا على استقراء المشاهدات الماضية. هناك امكانية حصول العكس إلا أني أؤمن بأن الكرسي سيستمر في تقديم وظيفته المعتادة بدون حصول أي مشكلة !!!
العلماء أيضا يعتمدون على الاستنتاج الاستقرائي. إنهم يُشيّدون نظريات ثم يتوقعون صلاحيتها في كل زمان و مكان, بما في ذلك المستقبل, ربما قد علمهم التاريخ شيء آخر, لكن مبدئيا ذلك ما يحصل. يبررون نظرياتهم بما رصدوه. لكن الادعاءات حول ما تم رصده طوال الوقت لا يستوجب بشكل منطقي أي شيء عن ماذا يمكن أن يحصل بعد حين. لهذا, فإذا حاول العلماء تبرير نظرياتهم, فإن هذا يحصل بالاستقراء, لا الاستنباط.

هل الطبيعة منتظمة؟
هيوم يتسائل ما إذا كان هناك أي تبرير لاستنتاج مثل هذه الاستنتاجات حول ما لم يُرصد أصلا, على الرغم من تفكيرنا الاستقرائي, إلا أننا نخرج في النهاية بظنون, نظن أن الطبيعة منتظمة, نظن بأن نفس الأنماط العامة موجودة في كل أنحاء الطبيعة و جوانبها. ماذا لو لم نأخذ بهذه الظنون؟ لم نكن لنستنتج انتظام الطبيعة, لم أكن لأستنتج ذلك على أساس المرات الماضية التي جلست فيها على الكرسي فقاوم فيها وزني و أدى وظيفته, أنا فقط أظن بأن نفس الاعتيادات تمتد و تستمر في جميع أنحاء الطبيعة بما في ذلك المستقبل. هنا يرى هيوم إشكالية. متى ما فكرنا بشكل استقرائي, إلا أن آعتقادنا بأن الطبيعية منتظمة مجرد "ظن", و إذا ما حاولنا تبرير ادعائنا هذا بالقول أن التتفكير الاستقرائي منهاج جدير بالثقة للوصول الى الحقائق, فلابد من تبرير هذا الظن نفسه.

تبرير ادعاءاتنا
هناك احتمالين: إما نحاول اثبات الادعاء بأن الطبيعة منتظمة بالتجربة, و إما نحاول ذلك بدون تجربة, مثلا بافتراض أن الطبيعة منتظمة نوع من الحقيقة المنطقية. الإشكال في الاحتمال الثاني "واضح", فطبعا ليس هناك أي تناقض بين الافتراض الذي يقول أن الطبيعة منتظمة على أساس المشاهدات المُسَجّلة إلى الآن من ناحية و الافتراض الذي يقول ممكن فجأة يصير الكون فوضى يتصرف عشوائيا بطريقة لا يمكن التنبئ بها من ناحية أخرى. و بذلك يكون الاحتمال الأول هو الأصح, يعني لمعرفة هل الطبيعة منتظمة يجب أن نعتمد على أكتاف التجربة و الطريقة الوحيدة لإثبات هذا هو رصد الطبيعة كلها و هذا مُحال, فقط جانب أو جزء من الطبيعة يمكن إخضاعه -بشكل مباشر- للتجربة, و بالتأكيد لا نستطيع أن نخضع المستقبل للرصد بشكل مباشر. لماذا لا يمكن أن نقوم بتجربة جزئية لاثبات انتظام الطبيعة ثم بعذ ذلك نستنتج بأن الطبيعة كلها منتظمة؟ هذه الجزئية نفسها استنتاج استقرائي و الاستنتاج الاستقرائي لا يمكن أن يعطي لنفسه قيمه حتى نثق به, يمكن مقارنة هذه الدائرة المفرغة بتصديق الكاذب لأنه هو يقول أنه صادق أو الثقة بالمجنون لأنه هو يقول أنك تستطيع أن تثق به!! الكرسي الذي سأجلس عليه يدعم وزني, و القلم الذي أطلقه من يدي يسقط و الشمس ستشرق غدا, ليس هناك أي مبرر منطقي يدفعني للاعتقاد بأن العكس أو شيء آخر لن يحصل. يبدو أن آستنتاجات هيوم مجنونة. لو قال قائل أن عجلة سيارة عرضُها مليون كيلومتر ستحل غدا محل الشمس و تقترب من الأرض 50 مليون كيلومتر, لما ترددنا لحظه في وصفه بالمجنون, لكن إذا كان هيوم محقا فإن هذا الكلام الجنوني ليس أقل أو أكثر عقلية من كلام العلماء الذين يتوقعون شروق الشمس كالمعتاد!!.


http://img189.imageshack.us/img189/2461/fortunen.jpg
هل ستثق بالعراف لأنه هو يقول عن نفسه أنه صادق؟

لكنه منهج ناجح؟
قد يعلق أحد على إشكالية التفكير الاستقرائي بالقول أن الاستقراء ناجح و لولاه لما حقق العلم أي تقدم: من المصابح الكهربائية و الحاسوب إلى السفر جوا و الهندسة الوراثية. هذه الانجازات العظيمة في مجال التقنية و الهندسة كلها توقفت على الاستقراء. ألا يشكل هذا كله أرضية قوية للاعتقاد بأن الاستقراء منهج فعال و موثوق للوصول إلى إيمان صحيح؟ المشكلة في تبرير هذا الاستنتاج , مرة أخرى, هو أنه هو نفسه جزء من الاستنتاج الاستقرائي, لأنه مبني على ملاحظات مفادها ان الاستقراء نجح و بالتالي الاستنتاج أن هذا سيحصل باستمرار! و هنا ندخل في نفس الدائرة الفارغة أي بالاستقراء نقول أن الاستقراء موثوق و يمكن مقارنة هذا بالثقة في إعلان (اشهار) معين لأن الإشهار نفسه يقول أنه موثوق!!

العقلانية
بينما نؤمن بأننا مُبَرّرون في استنتاجاتنا حول ما سيحدث, و بينما نؤمن أن توقعات العلماء الكبار هي الأرجح للتحقيق من توقعات شخص مجنون, يأتي هيوم ليفاجئنا بقوله أن مثل هذه المعتقدات باطلة, فليس هناك فرق بين من يتوقع أن الحصان ((أ)) سيسافر من ((ب)) و يصل إلى ((ت)) و من يتوقع أنه لن يصل و من يتوقع بأن الحصان سيقف لا يسير و لا يتحرك و بين من يتوقع أن يصير للحصان صدر رجل.


http://img69.imageshack.us/img69/2896/65077317.jpg

الفلاسفة تعاملوا مع هذه المشكلة العويصة للتصدي لها و منهم من لمح إلى أن معنى "عقلي" هو التفكير الاستنباطي و الاستقرائي. إذن نحن لسنا بحاجة لإثبات "الاستقراء عقلي" كما أننا لسنا بحاجة لإثبات "كل العزاب غير متزوجين" أو "كل الأمهات نساء" فهذه الادعاءات, إن أحببت قل, صحيحة بالضرورة أو صحيحة بحكم تعريفها. المشكلة في هذه المحاولة هي: إذا قبلنا "الاستقراء عقلي" صحيح بحكم تعريفه فإن السؤال يبقى هو نفسه أو ربما تم تعقيده فهيوم يتسائل كيف يمكن أن نعرف أن الاستقراء سوف يؤدي بنا بشكل موثوق إلى إيمان صحيح حول المستقبل؟ الاصرار على أن الاستقراء عقلي سوف يثير سؤال هو: على أي أساس نفترض أن العقلية هذه ستوصلنا إلى يقين؟ ما الفرق بين الاعتماد على العقلانية و الثقة بكلام المجنون حول ما يمكن أن يحصل في المستقبل؟
هنا لابد و أن نفكر هل في ميدان العلم الحديث عوائق تدفع بالإنسان إلى مثل هذا التفكير؟
بشكل عام في المعرفة بأسرها ربما هيوم محقا في جانب و مخطئ في آخر فإذا كان معه حق فهو في سياق (( قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)) و (( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس )) و ((أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه)) و ((وما تدري نفس ماذا تكسب غدا))... و إذا كان معه حق فالمواقف مختلفة و المقدمات متفاوتة فالدجاجة حمراء ليس كالأعزب غير متزوج.. الخ.. و لا ننسى دور الفكر التجريبي في تقدم الهندسة و التقنية كما لا ننس أن إشكالية التفكير/الاستنتاج الاستقرائي (الاستقراء) و الإشكاليات في إشكالية الاستقراء دفعت كثير من المفكرين إلى البحث عن البديل لاكتساب المعرفة و الحصول على معرفة يقينية و الوصول إلى إيمان صحيح في الميدان العلمي و أحد أهم هذه الانجازات هي أن النظرية العلمية لا تكون علمية بدون أن تتميز على الأقل بميزتين: قابلية الخطأ falsification و قابلية التحقق verification.

طريقة أخرى في التفكير
إن "انزياح الأحمر" (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%86%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AD_%D8%A3%D8%AD% D9%85%D8%B1) صحته هنا (و الآن) في الجزء من الطبيعة الذي جربناه فيه لا يعني صحته في خارج هذه الجزئية (أو في وقت آخر), قد يكون هذا "الانزياح" صحيح في مجموعتنا الشمسية أو في مجرتنا لكن لا يعني أنه صحيح في كل أرجاء الكون و في المجرات الأخرى.. الخ.. و الآن نفكر بطريقة أخرى: هذا الانزياح مُشاهَد و مُجرّب, لوصف هذه الظاهرة يمكن أن نبني نظرية (و هذا هو العلم الحديث أي محاولة لوصف الواقع ||في الحقيقة محاولة نخرج منها بنموذج لوصف الواقع||) ....

يحيى
01-31-2010, 06:29 AM
يُقال أن كارل بوبر (ت. 1994) يقدم حل جذري لإشكالية -هيوم- الاستقرائية و الشك الذي تُلقي بظلاله على النظريات العلمية, فبالنسبة لكارل بوبر العلم ("الحديث") يعتمد على الارتقاء (تقدم و تحسن) بدل الاستقراء من خلال قابلية النظرية للنقض.


http://img297.imageshack.us/img297/7648/kaarsjeghazali.jpg

افترض أنا أؤمن بأن كل الدجاج أحمر. بعد ذلك, سافرت إلى تركيا فرأيت دجاجة صفراء. هذه المشاهدة تنقض نظريتي الأصلية "كل الدجاج أحمر".

المُلاحظ هنا هو استعمال 'الاستنتاج الاستنباطي' لا 'الاستنتاج الاستقرائي':
- كل الدجاج أحمر.
- رأيت دجاجة صفراء في تركيا.
-- "ليس" كل الدجاج أحمر.

إذن, رؤية كارل بوبر هي أن العلم في الحقيقة يتقدم كون النظرية قابلة للنقض من خلال الاستنباط, و هذه الرؤية تختلف عن التي ترى أن التقدم يتحقق من خلال إثبات النظريات بالاستقراء. العلماء يشيّدون نظرية يمكن من خلالها استنباط نتائج معينة قابلة للاختبار (قابلة للتحقيق فيها) و إذا فشلت التجارب في نقض النظرية فإن هذه النظرية يتم الاحتفاظ بها و إذا حدث العكس فإن النظرية ستُنبذ و يتم بعد ذلك تشييد نظرية جديدة على أساس ما نقضها, مثال: نفترض {كل الدجاج أحمر} نظرية علمية قابله للنقض, بعد السفر إلى تركيا شاهدنا دجاجة صفراء, إذن المشاهدة هذه تنقض النظرية الأولى و بالتالي سيتم نبذها و سنبني نظرية جديدة على أساس هذا النقض... و هكذا.

السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا هو: إذا كانت النظرية العلمية هي تلك النظرية التي تقبل النقض و الاختبار فليس هناك فرق بين نظرية و أخرى, أو ربما حتى بين نظرية شيّدها العلماء و نظرية شيدها الهواة؟!!


"الدراسات الانسانية التي ازدهرت في عصرنا هذا جديرة بالحفاوة و التدبر. و كلما اعتمدت على المنطق العقلي, و الملاحظة العلمية, شدت إليها انتباهنا, و أستقبلنا نتائجها بمزيد من يقظة الحس و الفكر, لأنها ستزودنا بحصيلة من الحقائق المحترمة و الثمرات الطيبة."

محمد الغزالي - ركائز الايمان بين العقل و القلب

نظريات "جيدة"
نظرية بوبر لا تعني أن كل النظريات (القابلة للنقض) "جيدة" على حد سواء. بعض النظريات تبقى أفضل من غيرها. ما الذي يجعل نظرية معينة أفضل من الأخرى؟ كل ما كانت القابلية للنقض أسهل كلما كانت النظرية أفضل, لكن ما الذي يجعل نظرية معينة أكثر (أو أسهل) قابلية للنقض من غيرها؟ نطاق التطبيق مثلا, فكلما كان هذا النطاق أوسع كلما كانت النظرية أفضل. خذ هذا المثال:

{كل الأشياء تسقط نحو مركز الأرض}
{كل الأشياء في كوالالمبور -عاصمة ماليزيا- تسقط نحو مركز الأرض}

النظرية الأولى نطاقها أوسع, إنها تتنبأ بكل ما تتنبأ به الثانية, لكن تتنبأ بأكثر من الثانية و هذا يجعلها أكثر عُرضة للنقض و بالتالي هي أفضل!!.. و النظرية التي لا تجتاز مبدأ "القابلية للنقض" ليست بنظرية علمية, و لهذا نجد كارل بوبر يرفض نظرية كارل ماركس حول التاريخ و يرفض نظرية فرويد العقل الباطن معللا ذلك بأن مثل هذه النظريات ليست نظريات "رديئة" فقط بل ليست علمية أصلا.

الشيء الآخر الذي يجعل نظرية معينة أكثر قابلية للنقض هو دقة المضمون, خذ هذا المثال:

{طلاب الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا مسرورون}

السرور؟ ما السرور بالضبط و ما السبيل لقياسه و كيف؟ و أين الفاصل الدقيق بين السرور و عدم السرور؟
إذا حاولت - بمشاهدة أو بتجربة أو بقياس أو بحساب أو بمُراجعة الفرضية التي قامت على أساسها هذه النظرية أو حصلتَ على معلومات جديدة بواسطة وسائل متقدمة دقيقة جَعلتكَ تُعيدُ صياغة الوصف أو أو ..- نقض هذه النظرية, فالاحتمال كبير جدا أن يقفز واحد أو أكثر من هنا أو هناك و يعلق: "هذا ليس قصدي الحقيقي بالسرور." أو "لكن أنا لم أقصد هذا الطالب!" .. و إذا كان يدافع عن نظريته هذه لسبب ايديولوجي أو نفسي فسوف يصيح: "لا!!... لا :wallbash:.. لا .. ليس هذا ما أقصده أنا بالسرور.. لاااااا:204: نووو نو لاء..لااااءءّّا:107:.. أبدا, ليس هذا قصدي!!!" و ربما قال لك "لا" بعشرات اللغات.. و هذا طبعا يجعل قابلية النقض أمر صعب و عسير و بالتالي فالأفضلية للنظرية التي تكون أدق.


http://img30.imageshack.us/img30/4497/lec1717.png

حالة خاصة و استمرارية النظرية
يمكن أن تضيف فرضية لإنقاذ نظرية معينة من الانهيار لكن هذا التعديل ربما قد يكون حالة خاصة و يمنع استمرارية القابلية للنقض, هذه الحالة تَحُول دون القابلية للفحص و بالتالي تفتح الباب للعلم الزائف, فالنظرية التي تسقط في مثل هذه الحلقة المفرغة ليست بنظرية علمية. خذ هذا المثال:

{كل الأرز في مطعم الجامعة الإسلامية العالمية يُستَهلك}

و بعد ذلك استلم المطعم بضاعة جديدة من الأرز لن تُستهلك, هذا الأمر سينقض هذه النظرية, و لنفترض أقوم بهذا التعديل:

{كل الأرز في مطعم الجامعة الإسلامية العالمية يُستَهلك إلا الذي تم تسلميه الأسبوع الماضي}

هذا التعديل لا يضيف أي شيء للنظرية الأصلية من حيث عدم القابلية للنقض/للفحص, مثلا الأسبوع المقبل سأستلم أرز جديد, فكيف أطبق عليه نظريتي الجديدة {كل الأرز في مطعم الجامعة الإسلامية العالمية يُستَهلك إلا الذي تم تسلميه الأسبوع الماضي}؟؟ هل أعيد الوقت للوراء لأعود إلى الأسبوع الماضي؟؟ لكن ليس كل تعديل للنظرية هو حالة خاصة و يمنع الاستمرارية فممكن يكون التعديل لتحسين النظرية, مثال:

{كل الأرز في مطعم الجامعة الإسلامية العالمية يُستَهلك إلا الأرز ذو الحبة الطويلة}

يعني في المرة القادمة عندما أستلم الأرز (ذو الحبة القصيرة, المتوسطة, الطويلة..) فإن النظرية تبقى قابلة للفحص و النقض.

إشكالية مبدأ القابلية للنقض
الإشكالية التي قد تُطرح هنا هي إشكالية مبدأ القابلية للنقض, المبدأ يُتوقع منه أن يحل مشكلة الاستقراء, لا أشك أن هذا المبدأ أفضى على البحث العلمي مزيد من النظام و المعقولية و فتح آفاق جديدة أمام البحث العلمي و الرؤية الفلسفية المتطورة كما أنه أغلق الباب أمام العلمويين و الدوغماتيين الذي يريدون آستغلال المعطيات العلمية في سبيل تشييد فلسفات طبيعية لدعم ايديولوجيات معينة, لكن يبقى السؤال المطروح هل هناك مخاوف تدور حول المبدأ؟ و هل بمقدره أن يصف كيف يتقدم (و ينبغي أن يتقدم) العلم؟ هذه أسئلة تطرح إشكاليات جديدة و مثل هذه الإشكاليات تُعالجها فلسفة العلوم التي هي روح ديناميكية العلم (الحديث)..

عندما قال كوبرنيكوس (ت. 1543) بحركة الأرض حول الشمس (فكرة افترضها مفكرين قبله لكن هو طرحها في سياق و جو مختلف), واجهت هذه النظرية انتقادات و بمبدأ التخطيء نفسه, يعني من المعارضين من كان يقول إذا كانت الأرض بالفعل تتحرك و رميت شيء فوق فيجب أن يسقط مشكلا زاوية و ليس في خط مستقيم, هذه الملاحظة (و غيرها) كانت كافية لنقض النظرية, لكن التاريخ انحاز لكوبرنيكوس كما يبدو.

.. أمثلة من الأسئلة التي دفعت كثير من الفلاسفة إلى معارضة الوضعيين و الوضعيين "المنطقيين".. عارضهم من يرى أن الأرز المستهلك في مطعم الجامعة الإسلامية العالمية ليس ذلك "الأرز المستهلك في المطعم" الذي يحاول العلماء تفسيره لنا, بل هي تلك الانتقادات التي وُجهت إلى {كل الأرز في مطعم الجامعة الإسلامية العالمية يُستَهلك}, و عارضهم من يرى أن التمييز بين ما له معنى و ما ليس له معنى تمييز بدون معنى, ففكرة الذرة التي كانت عند الفلاسفة مسألة ميتافيزيقية أصبحت اليوم نظرية قابلة للنقض و الفحص, أي أصبحت نظرية علمية ..

يمكن طرح السؤال بصياغة أخرى: هل يمكن الوثوق بالأساليب التي يتم بها إثبات فرضية ما أو نقض نظرية ما؟ و هل النظرية الغير القابلة للنقض لا يمكن أن تصبح يوما ما نظرية علمية قابلة للنقض و الفحص؟

.. الكلام في هذا الجانب من فلسفة العلوم أي الجانب الذي يتعلق بالرغبة في تبرير قناعات ايديولوجية على أساس نتائج العلم يشمل ميادين شتى و متشعب لكن الجانب الأهم بالنسبة لي هو البحث عن العلم في العلم الحديث إلا أن بعض الإشارات إلى الجانب الأول قد توضح أشياء مهمه أيضا... المهم أن ما تقدم يوضح لنا شيء مهم جدا في العلم الحديث و هو أن العلم يصف و لا يفسر أو يقدم نموذج لتفسير الواقع و لا يفسر واقع محدد بشكل نهائي.


...

يحيى
02-01-2010, 07:33 PM
فلسفة العلوم فرع من فروع الفلسفة يهتم بدراسة افتراضات, مناهج و نتائج العلوم المختلفة, دراسة نقدية, فمجال هذه الفلسفة غير منحسر في العلوم الطبيعية فقط بل يبحث كذلك في العلوم الاجتماعية, علم النفس و الاقتصاد.

تعميم
هذه الفلسفة لها علاقة بنظرية المعرفة و الانطولوجيا (أي علم الوجود) لكن هناك طبعا نقط اتصال و انفصال. ففلسة العلم تحاول وصف مسائل منها:
- طبيعة المقولات و المفاهيم العلمية
- الطريقة التي يتم بها تطوير هذه المقولات و المفاهيم
- كيف يفسر العلم الطبيعة و كيف يتنبأ بها و كيف يؤثر فيها
- مناهج لتحديد صحة المعطيات العلمية
- وصف و تطبيق المنهج العلمي
- طريقة التفكير في الوصول إلى استنتاجات
- الآثار المترتبة على المناهج العلمية و النماذج بالنسبة للعلم و للمجتمع ككل

و في هذه الفلسفة يحاول البعض التمييز بين:
- الخصائص الوجودية: ما هي "الكينونة"
- الخصائص الايبيستيمولوجية: ما السبيل لمعرفتها (اي معرفة هذه الكينونة)
- الخصائص المنهجية: كيف يتم بحثها و دراستها
- الخصائص الاجتماعية و الفلسفية: كيف يؤثر البحث (بحث, دراسة, نقد.. الكينونة) و البيئة على بعضهم البعض


http://img535.imageshack.us/img535/7752/fysic1.png

يمكن أن نقول بأن كل علم له فلسفته الخاصة و قد يتم تجاهل هذا أو إنكاره لكن هذا كلام لا يخلو من مبالغة لكن يمكن أن نقول بأن هذا العلم يختلف عن الآخر من حيث طبيعته الخاصة التي تفتح باب أوسع نحو التفلسف فيه مثل العلوم الاجتماعية, و أيضا العلوم التي لها علاقة مباشرة بمحاولة تشيد فلسفة ميتافيزيقية أي من خلالها إنشاء تصور معين حول الكون و الانسان و الحياة و بهذا فإن فلسفة الفيزياء الاجتماعية و فلسفة الرياضيات و فلسفة الاحياء كلها مختلفة تختلف باختلاف طبيعة العلم الذي تقوم عليه و تبحث فيه و تحاول تحليل مناهجه و تتبع تاريخه و تطوره .. الخ.

خذ فلسفة الأحياء مثلا فإن فهم هذه الفلسفة ستوضح لنا الخلفية الفكرية التي أدت بالداروينية للانتشار في الأوساط الأكاديمية, ليس بسبب محتواها العلمي و هذا ما سوف أشير إليه في مشاركة أخرى بإذن الله, لكن بسبب محتواها الفلسفي الذي يتخذ أبعادا إيديولوجية, هذا المحتوى يفتح الباب لكثير من الابداعات الخيالية و التخمينية الشيء الذي يفتح نوافذ على إمكانيات شتى في تشييد فلسفة طبيعية حول الإنسان. خذ على سبيل المثال: اللأدرية, التطور الألوهي, الإلحاد المادي, الحلول و الاتحاد, وحدة الوجود, التطورية (تطورية هربت سبنسر و من سار على طريقه).. كلها عقائد تستعمل أفكار الداروينية لتبرير افتراضاتها.

أما الفيزياء (الميكانيك القديمة, الميكانيك الكلاسيكية, النسبية و مكيانيكا الكم) فهو علم يتحرك في اتجاهين عندما يتعلق الأمر بالفلسفة لأنك تستطيع أن تفلسف فيه: فلسفة الفيزياء و تستطيع أن تفلسف به: تأثير الفيزياء على الفلسفة و هذا منذ القديم سواء من ينطلق من الكون ليعرف أصله أو من ينطلق من الأصل ليعرف الكون:

الكون --> التفكير --> الحقيقة العليا
الحقيقة العليا --> التفكير --> الكون

أحد الباحثين مثّل الطريقتين بالفلاسفة و المتكلمين (دقيق الكلام), فالفيلسوف يعرف الكون ثم يفكر فيه ثم يعرف يصل لأصله, أما المتكلم فهو يعرف أصله من خلال الوحي ثم يفكر ليفهم الكون من خلال فهم صفات الأصل و يحدث هنا أيضا عملية انعكاسية فيما يتعلق بالصفات لكن هذا من تخصص جليل الكلام..


خلافا لإبن رشد الذي بنى تصوره للكون من منطلق رؤية فلاسفة اليونان, فإن حجة الإسلام أبى حامد الغزالي قال بإمكانية توسع و/أو إنكماش الكون.

الميكانيك القديمة, الميكانيك الكلاسيكية, النسبية و مكيانيكا الكم, لكن يمكن أن ندخل الثيرموديناميكا و الكهرومغناطيس و أشياء أخرى تتعلق بالفيزياء لكن هذه الفروع لا تؤثر في الفلسفة التي يتم من خلالها تشييد فلسفة طبيعية لبناء تصور معين عن الكون.

و قد تتطور فلسفة الاحياء و خصوصا فلسفة التطور البيولوجي في المستقبل لتشق نفس طريق الفيزياء الذي يمكن أن تفلسف به و تفلسف فيه لكن تصور الحياة هو تابع لتصور الكون و هذا يؤثر على الآخر لكن العكس لا يحدث و لهذا حاول المتطرفون في الالحاد النظري صياغة تصور معين للكون على أسس فيزيائية بتأويل الفرضيات و النظريات العلمية و معروف في فلسفة العلوم أن النظريات التي يتم تطويرها في الفيزياء الكبيرة (الفلك) هي أسوأ النظريات من حيث الجودة بمعيار القابلية للنقض الذي طوره كارل بوبر و أبدع فيه فلسفيا و علميا, و كذلك بمعيار التجربة, هذا التصور يكون مبني على فرضيات أو نظريات أو ربما تخيمنات, يختلف عن التصورات الأخرى للكون المبنية بشكل مباشر على المُشاهدات و فيما يخص هذا الثاني أتذكر تعليق ريتشارد دوكينز في أحد محاضراته على ارتداد الفيلسوف أنطوني فلو عن الالحاد و اعتناقه للربوبية: " أنطوني فلو الذي كان بطل الالحاد ترك الالحاد و اعتنق الربوبية و كثير من العظماء فعلوا نفس الشيء, و لكن ما أثار استيائي هو أنه أعلن عن ردته و صرح بأن فكرة التصميم الذكي هي التي أثرت فيه و جاء ذلك بعد قرائته لأحد كتب مايكل بيهي [...] قد تكون هناك دوافع جيدة للايمان بخالق, لكن إذا كانت هناك دوافع فأتوقع أن تأتي من علم الكون و الفيزياء الحديثة...و أظن بأني دحضت هذا في كتابي..."

مجرد دعاية باطلة و فارغة فهو لم يدحض و لا جزء من المائة من رُبع حجة من الحجج الكلامية التي نقلها في كتابه و نسبها لتوماس أكويناس, الحجج التي قال عنها توماس نفسه "حجج كلامية" نسبة للكلاميين, لكن من يحاول طمس تاريخ المسلمين, ينسب الحجج طبعا لتوماس, لكن المنصفون لا يخلو منهم مكان, فهناك من يعبر بالحجج الكلامية Kalam cosmological argument.


ندم أنطوني فلو بعد 66 عاما من الإلحاد (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=12608)
لماذا آمن هؤلاء .. و كفر هؤلاء ؟ (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=20677)

http://img14.imageshack.us/img14/3871/fysic2.png

خصائص المقولات و المفاهيم العلمية
العلم يشيد فرضيات حول الواقع, و يبيّن علاقة النظرية بالواقع.

التجربة
يُقال أن العلم الحديث (المنهاج العلمي) بدأ بغاليلو, كبلر و كوبرنيكاس, لكن هذا ادعاء يحاول طمس أو تجاهل تاريخ المسلمين, فالمنهج العلمي شيده إبن هيثم و هو الذي حاول أول مرة في التاريخ إجراء التجارب لدعم نظرياته و هو الذي نقل الرياضيات من النظريات الى التطبيق بصياغة أفكاره العلمية صياغة رياضية. المهم في هذا العلم الحديث هو التجربة التي تأخذ حصة مهمة من فلسفة العلوم, فالتجربة هنا تعني المعارف التي نكتسبها بواسطة تجاربنا في الحياة أو بواسطة المشاهدات و الرصد و الملاحظات.. الخ.

فالملاحظات هذه ما دامت تتكرر فإننا نحسبها دليل علمي و هناك نوع من التفاعل بين هذه المشاهدات أو تجاربنا و فهمنا لنظام الواقع و هيكليتها فإذا تغير هذا الفهم, فإن هذا يعني أن شيء آخر تم مُشاهدته. و دور العالِم هو جمع هذه الملاحظات و المشاهدات في محاولة لصياغة هيكلة متجانسة متسقة بواسطة الاستقراء و الاستنتاج (الاستنباط) و "شبه" مناهج تجريبية من خلال الاستعارة و توظيف اللغة التي تتحول للغة علمية بدورها في حاجة لتحليل.

الواقعية و الأداتية العلمية
الواقعية العلمية هي الرؤية التي تقول بأن الكون هو بالفعل ما يتسق مع ما تقدمه المقولات العلمية. الواقعيين يرون أن الالكترون و الأمواج المغناطيسية و الأشياء الأخرى موجودة فعلا, أي لها وجود حقيقي, هي رؤية ساذجة و واقعية, و الواقعية هنا بمعنى أن العلم يقدم نموذج لفهم هذا الواقع (الكون مثلا) و ليس تفسير لهذا الواقع.

و في المقابل نجد الأدواتية التي لها رؤية مخالفة فالمفاهيم العلمية و النظريات أشياء لا تتصف بوجود محدد ثابت يمكن أن تؤسس لرؤية موثوقة حول الواقع, لكنها تبقى أدوات فعالة و مفيدة في الدراسة و البحث لفهم الواقع و من ثم التنبأ بالتوقعات و تسيير هذا الواقع أو حتى السيطرة عليه. الفيلسوف الأدواتي يعتبر الالكترون فكرة مفيدة بغض النظر عن وجوده أحقيقي هو أم لا. الفيلسوف الأدواتي يستخدم المناهج التجريبية لتوضيح اتساق النظرية مع الواقع.

نحن لا نبدأ نشك في الرافعات و الطائرات التي بُنيبت على أساس فهم قوانين نيوتن حتى لو جاء آينشتين و قلب هذه المفاهيم رأس على عقب, فأنا لن أقف ضد البحوث عن كيفية الاستفادة من الأمواج الكهرومغناطيسية في تطوير آلات الاتصال حتى لو لم يكن هناك شيء اسمه موج كهرومغناطيسي أصلا, فقد يكون شيء آخر أون لأن معرفتي بالظاهرة تتغير فوجب تغيير الفكرة العلمية عنها لكن ما وصلت اليه من نتائج قبل تغير المعرفة شيء مستقر و مفيد, لكن الفكرة موجودة و قابلة للدراسة و اجراء التجارب عليها و من ثم الاستفادة منها, و أنا ممكن (افتراض انا في عصر كوبرنيك) لن أشك لحظة في فرضية كوبرنيك التي تقول بدوران و حركة الأرض, لكن هل سيمنعني هذا من رمي الرصاصة على عدوي لأني أعتقد بإمكانية إصابة صديقي الذي يُقاتِل إلى جانبي نتيجة اعتقادي بحركة الأرض؟؟

الأداتية أو الأدواتية هذه تتطورت على أساس برغماتية جون ديوي John Dewey.


http://img706.imageshack.us/img706/6187/fysic3.png
الظاهراتية و الوضعية المنطقية
العالم الفيزيائي ارنست ماكس Ernst Mach (ت. 1916) هو سلف النظرية النسبية العامة و هناك ما يبرر ذلك حسب ألبرت آينشتاين نفسه, ربما ذلك راجع لنزعته الظاهراتية التي ارتبطت بمعارضة المثالية الهيغيلية من جهة و النزعة الميكانيكية الكلاسيكية من جهة ثانية. الظاهراتية ترى ان الاحساس هو مصدر المعرفة و الشيء مجرد رمز ذهني يتمتع باستقرار نسبي لانه ليس في الطبيعة ما لا يتغير فما نطلق عليه "شيء" هو رمز لتركيبات معينة تتكون من العناصر الحسية و العناصر ليست الموضوعات كالمادية و الأجسام لكنها الطرق التي نحس بالاشياء مثل اللون و الصوت و اللمس و المكان اي ما نسميه الاحساس, و لذلك وجب حصر المعرفة العلمية في ما يقبل الاحساس بدل البحث عن ما وراء الظوهر.

على أساس هذا الاتجاه الظاهراتي المتطرف في الحس قامت الوضعية المنطقية التي تختلف عن وضعية اغونست كونت لانها ليست تجريبية فقط (اي ترى ان التجربة المصدر الوحيد للمعرفة) و إنما أيضا منطقية بمعنى امكانية قيام معرفة ترتبط بتحليل منطقي للفروض و المفاهيم. إذن الأمور مثل الجمال, الأخلاق و الميتافيزيقيا هي عندهم مرفوضة, و السؤال هل هذا الرفض مبني على تجربة ما و تحليل تركيبي منطقي للتجربة؟ و ماذا يدخل في التحليل التركيبي و لا يدخل فيه؟ هل تحديد ذلك بالتجربة و التحليل التركيبي أم بمصادرات؟ الوضعية المنطقية ترفض التطورية و الماركسية بسبب أن المادية الجدلية ترفض على العقل خطوات معينة و مصادرات قبلية, لكن هم يفعلون نفس الشيء تماما لكن بصيغة أخرى. الفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين (ت. 1951) الذي كان يُعتبر واحد من الوضعيين المنطقيين حتى أن الوضعيين أنفسهم كانوا ينظرون إليه كواحد منهم, آعتبر الوضعية المنطقية "نصف الفلسفة", يتفق معهم إذا لم يُعمّم المذهب أي مادام يتكلم في المعرفة التجريبية فهو معهم, لكن هو ليس معهم لأنه أعطى لمعارف أخرى مثل الأخلاق و الجمال أهمية أكثر, و تشترك مدرسة فرانكفورت Frankfurter Schule مع لودفيج في رأيه هذا ضد الوضعية المنطقية كما لهم اعتراضات شديدة على التمييز الصارم بين الحقائق الطبيعية و الاجتماعية.

و يعتبر فيلسوف العلوم كارل بوبر بعقلانيته النقدية أبرز منتقدي الوضعية المنطقية لأنه يرى أن مبدأ القابلية للفحص يجب أن يخدم مبدأ القابلية للنقض, يعني أن مبدأ الفحص أو التحقق من شيء لا يثبت النظرية بل يجعل النظرية فرض قائم حتى يثبت ما ينقضه, فالتجربة نفسها لا تثبت تصورك للموضوع الذي تدرسه بل تثبت تلك الجزئيات و أنت تجمع هذه الجزئيات لتشكل الكل و الكل هذا يجب أن يكون متناسق متجانس و نطلق عليه "نظرية" لكن استنتاج منطقي صحيح يكون على أساس تلك الجزئيات لا الكل الذي تفترضه أنت ثم تجري تحليل منطقي تكويني لتشكل هذا الكل, لأنه ليس هناك مانع من إجراء تجربة أخرى ثم تحصل على جزئيات أخرى أو أن الطريقة التي أجريت بها التجربة خير من الأولى.. الخ.

التحليل و الاختزال
الحديث عن نظرية بشكل عام هو شيء يتسم بالغموض إذا لم يتم تحليل هذه النظرية الى أجزاء, بحيث لا يكون أي آنتقاد لجزئ معين انتقاد لكل النظرية. أما أرمي حجرة و تسقط, ماذا لو رميتها و بقيت عالقة؟ هل سأكفر بالجاذبية؟ ماذا لو ذهبت إلى البرازيل حيث هناك مكان فيه مجرى مائي يطلع لأعلى و إذا دخلته فيجب أن تمسك بشيء لأنك ترتفع لفوق, هل أكفر بالجابية و بكل ما يتصل بها أم أحللها أي أحلل أجزاء فأضيف إليها و أزيل منها ثم تشكيل الكل من جديد دون نسيان مبدأ التحليل الذي يعطي للكل قيمة.

إن مشاكل جمة ظهرت في مذاهب فلسفية "علموية" في فلسفة العلوم أدت إلى تطوير الفلسفة نفسها, تطوير الفلسفة التحليلية, فلسفة اللغة.. الخ

أما الاختزال فهي فكرة تريد أن تتفق مع الوضعيين الرافضين لما وراء التجارب أو ما وراء الاحساس, لاعادة الاعتبار ل "الفلسفة (قل السفسطة) المادية" لكن بطريقة أخرى فالحدث التاريخي يمكن تفسيرة اجتماعيا و سيكولوجيا و التفسير الأخير بالفيسيولوجي و هذا بالبيولوجي و هذا بالكيمياء ثم بالفيزياء.



http://img691.imageshack.us/img691/8808/mkbwo2.png

...

أخيلة ريفية
02-06-2010, 08:29 PM
يرفع
يرفع
يرفع
رفع الله قدر كاتبه في الدنيا والآخرة

mouqin
11-03-2012, 12:42 AM
يرفع
يرفع جزى الله الكاتب خيرا