المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المفكرون العرب : بين الحرب على الأصالة ومتاهات العمالة ( رموز ومناهج )



حازم
06-19-2005, 09:48 PM
بقلم : فتى الادغال


من القضايا المُهمّةِ التي شغلتْ حيّزاً كبيراً في الفكر ِ الإسلاميِّ المُعاصر ِ ، قضيّة ُ الموقفِ من النصِّ والتراثِ والنظر ِ في قضيّةِ الخطابِ الدينيِّ والدّعويِّ ، ويكثرُ الكلامُ عن هذه القضيّةِ الشائكةِ في الأزماتِ الفكريّةِ أو الصراعاتِ الحركيّةِ ، التي تُحاولُ استمدادَ شرعيّتها من النصوص ِ المُباشرةِ ، أو من مواقفَ تأريخيّةٍ مشابهة ً ارتبطتْ ببعض ِ العلماءِ والمُصلحينَ .

وهناكَ فئة ٌ من المُتابعينَ للصّراعاتِ الفكريّةِ المُعاصرةِ ، تجهلُ حقيقة َ الصراع ِ في هذهِ المسألةِ ، وذلكَ أنَّ الصراعَ في قضايا ما يُسمّى بالموقفِ من النصِّ وإعادةِ قراءتهِ ، أو الخطابِ الدّينيِّ وتجديدهِ ، في عصورِنا المتأخّرةِ ، له جذورٌ تأريخيّة ٌ وأخرى فكريّة ٌ .

فمن ناحيةٍ تاريخيّةٍ : يعودُ النظرُ فيها إلى بدايةِ الاتصال ِ المباشر ِ للعالم ِ الإسلاميِّ بالحضارة ِ الغربيِّةِ ، حدثَ ذلكَ – تقريباً – قبلَ ما يزيدُ على قرنين ِ ، حينَ بدأت تفِدُ على أوروبا إرسالياتٌ من دول ٍ إسلاميّةٍ ، بغرض ِ الدراسةِ والتعليم ِ ، بينما كانتْ أوروبا تعيشُ فورة َ الحركاتِ التجديديّةِ والمدارس ِ الفلسفيّةِ والنقديّةِ ، وكذلك تعيشُ انفجار َ الثورةِ الصناعيّةِ ، وتشكّلتْ من هذه المجموعاتِ التي خرجتْ فئاتٌ تأثروا بالنمطِ الغربيِّ ، وكانَ مجموعة ٌ من هؤلاءِ في بدايةِ أمرِهم من أهل ِ الدّيانةِ والمُحافظةِ ، فتغيّروا في الاتجاهِ الآخر ِ تغيّراً كبيراً ، وكوّنوا لاحقاً تيّاراً تغريبيّاً ، ساعدتِ الظروفُ الاستعماريّة ُ على تقويّتهِ ومدِّ نفوذهِ في المؤسّساتِ الحاكمةِ .

ومن المُهمِّ هنا أن أشيرَ إلى ما أشارَ إليهِ روجيه جارودي في كتابهِ " وعودُ الإسلام ِ " حينَ ذكرَ أنَّ الغربَ في عمومهِ سعى إلى تشويهِ صورةِ الإسلام ِ وتعاليمهِ ، فلم يكتفِ باستعمار ِ الأرض ِ ونهبِ الخيراتِ ، بل زادَ على ذلكَ أنّهُ هدمَ معالمَ الدّين ِ الإسلاميِّ ، ولم يسعَ إلى المُصالحةِ معهُ أو إزالةِ القطيعةِ بينهما ، أو حتّى فهمهِ بنزاهةٍ ، وهذا ما أدّاهُ إلى تقويةِ نفوذِ التغريبيينَ داخلَ العالم ِ الإسلاميِّ ، إمعاناً منهُ في الحربِ على الإسلام ِ وقصداً لتشويههِ عن صورةِ الحقّيقيّةِ .

وأمّا الجذورُ الفكريّة ُ : فقد تأثّرَ بعضُ الطلبةِ بما يوجدُ لدى الغربِ من الحضارةِ والحداثةِ ، في شقّيها : الماديِّ والفكريِّ ، ونظروا في الظروفِ التي أدّتْ إلى هذه الحداثةِ ، وفي طريقةِ تكوّنها ، فأعجبوا بالنهج ِ الغربيِّ ، ورأوا ضرورة َ نقل ِ تلكَ الفكرةِ إلى العالم ِ الإسلاميِّ ، وبما أنَّ أساسَ المنهج ِ الأوربيِّ كانَ التحرّرَ من القديم ِ ، وقيامَ حركاتٍ ومناهجَ تصحيحيّةٍ ، تقومُ على أساس ٍ ماديٍّ تجريبيٍّ ، فقد تطوّعوا بنقل ِ الأفكار ِ الغربيّةِ إلى العالم ِ الإسلاميِّ .

كانَ هذا العصرُ يمثّلُ نكسة ً خطيرة ً للكثير ِ من المفكّرينَ والدارسينَ ، إذ سقطَ عددٌ منهم في مُستنقع ِ الحضارةِ الغربيّةِ وانهزمَ إليها ، وأصبحَ لا يرى حاضراً أو مجداً أو تقدّماً إلا بتلكَ العين ِ الغربيّةِ ، وهذه الهزيمة ُ النفسيّة ُ تلاها هدمٌ لأغلب ِ القيَم ِ والأصول ِ الشرعيّةِ ، تحتَ حُجّةِ التغيّر ِ والصيرورةِ ، وكانتِ النتيجة ُ أنَّهُم أخذوا يُقرّرونَ أن لا ثباتَ لأمر ٍ من الأمور ِ مُطلقاً ، وجميعُ الأمور ِ قابلة ٌ للتغيير ِ أو الإزالةِ ، والتغيّرُ دائماً كان باتجاهِ الحضارةِ المادّيةِ الغربيّةِ ، وما اشتملتْ عليهِ من العلوم ِ الإنسانيّةِ ونحوِها .

وهذا ما يؤكّدهُ ابنُ خلدون ٍ بقولهِ في المقدّمةِ : " والمغلوبُ مولعٌ أبداً بالاقتداءِ بالغالبِ في شعارهِ وزيّهِ ونحلتهِ وسائر ِ أحوالهِ وعوائدهِ " ، ولا قولَ فوقَ ما قالهُ النبيُّ الكريمُ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - : " لتتبعُنَّ سَننَ من كانَ قبلكم ، حذوَ القذّةِ بالقُذّةِ ، حتّى لو دخلوا جُحرَ ضبٍّ لدخلتموهُ معهم " ، والحديثُ في الصحيح ِ .

ولم يكنْ هذا أوّلَ العهدِ بالنظر ِ في قضيّةِ النصِّ ، بل سبقَ ذلكَ في القرن ِ الثاني الهجريِّ ، عندما نشأتْ الطوائفُ المنحرفة ُ كالجهميّةِ والمُعتزلةِ والأشاعرةِ ، والتي تتعاملُ مع النصِّ تعطيلاً تارة ً وتأويلاً أخرى ، وهذا نوعٌ من النقدِ للنصِّ ، أو ما يُسمّيهِ بعضُ المفكّرينَ المُعاصرينَ : المرحلة َ الأولى لتطوير ِ النصِّ وإعادةِ قراءتهِ ، وهم يُريدونَ بهذا إضفاءَ الأصالةِ على طرحِهم ، والبحثِ عن جذور ٍ تاريخيّةٍ تؤكّدُ فكرتَهم .

ومن هنا بدأ الصراعُ في العالم ِ الإسلاميِّ حولَ القديم ِ والجديدِ ، وحولَ المحافظةِ والحداثةِ ، والتّراثِ والأصالةِ ، وفي بدايةِ القرن ِ الماضي اجتاحتِ العالمَ الإسلاميَّ حمّى سُمّيتْ حمّى النقدِ الذاتيِّ والمُراجعةِ الداخليّةِ ، بعدَ أنَّ عاشَ العالمُ الإسلاميُّ فوضى فكريّة ً عارمة ً ، حينَ انتشرَ الإلحادُ وسادَ التغريبُ المكشوفُ والتبعيّة ُ المفضوحة ُ للغربِ ، بل والعمالة ُ الصريحة ُ التي أبداها المفكّرونَ إذّاكَ للمُستعمر ِ وقواهُ ، ممّا أدّى إلى فضحِهم وسقوطِهم من أعين ِ النّاس ِ ، وبدأ بعدها الأمرُ يأخذ ُ طابعَ التنظير ِ والبحثِ العلميِّ المُتجرّدِ ! ليكونَ أدعى للقبول ِ ، ويمكنَ تمريرهُ تحتَ غطاءِ النقدِ الذاتيِّ والمراجعةِ الداخليّةِ ! .

فظهرتْ مجموعة ٌ من الدراساتِ والمشاريع ِ النقديّةِ ، كانَ الغرضُ منها في ظاهرِها هو الخروجُ من مأزق ِ التخلّفِ والجمودِ الذي يُعاني منهُ العالمُ الإسلاميُّ ، في كافّةِ مجالاتهِ ، المادّيةِ والإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ ، وقامَ أصحابُ هذه المشاريع ِ باستقراءِ الواقع ِ في بلدانهم ، وقارنوا بينها وبينَ ما تعيشهُ الدّولُ الغربيّة ُ من التقدّم ِ والحضارةِ ، خلصوا بعدَ ذلكَ إلى نتيجةٍ واحدةٍ وهي أنَّ سببَ تخلّفِ العالم ِ الإسلاميِّ هو الحالة ُ الثقافيّة ُ والفكريّة ُ المُتخلّفة ُ التي يعيشُ فيها ، والتي شكّلتْ ما يُسمّى " بُنية العقلَ الإسلاميِّ " .

وهذا العقلُ الإسلاميُّ تشكّلَ من خليطٍ هائل ٍ من المعلوماتِ والمعارفِ المُتراكمةِ ، وبحسبِ رأيهم فإنَّ أغلبَ هذه المعارفِ أصبحَ غيرَ نافع ٍ للعصر ِ الحديثِ ، بل ذهبَ بعضُهم إلى أنَّ المعارفَ المُشكّلة َ للثقافةِ العربيّةِ المعاصرةِ ، هي ممّا يُعيقُ التقدّمَ ، ويقفُ حائلاً دونَ الحضارةِ .

وكانَ المكوّنَ الأبرزَ للثقافةِ في العالم ِ الإسلاميِّ هو التُراث ُ الإسلاميُّ ، ويأتي على رأس ِ التُراثِ : النّصوصُ الشرعيّة ُ ، يقولُ أدونيسُ " هذا النصُّ مفتاحٌ لفهم ِ العالم ِ الإسلاميِّ ، ولن يفهمَ أحدٌ المسلمينَ وتأريخهم ، إلا بدءاً من استيعابِ هذا النصِّ ، والإحاطةِ بمستوى العلاقةِ القائمةِ بينهُ وبينَ المُسلم ِ " ، إذن مقدّماتُ القضيّةِ ونتيجتُها هي: أنَّ هذه النصوصَ الشرعيّة َ لقوّتها ومكانتِها في النّفوس ِ ، جعلتْ من البلادِ الإسلاميّةِ بلاداً تسودُ فيهِ الأغلبيّة ُ المُحافظة ُ وروحُ الصحوةِ الإسلاميّةِ ، وحتّى تكتملَ مسيرة ُ التحديثِ للعالم ِ الإسلاميِّ ، فلا بُدَّ من تنقيح ٍ للتراثِ ، ومراجعةٍ للنصِّ ، والذي شكّلَ المُكوّنَ الأكبرَ للثقافةِ ، المُحرّكةِ للطبقةِ المُحافظةِ ، التي تُعتبرُ أكبرَ الشرائح ِ .

ومن هنا تمَّ اختزالُ المشكلةِ في جزئيةٍ واحدةٍ ، هي الثقافة ُ النصيّة ُ السائدة ُ في المنطقةِ ، والتي حوّلتِ الثقافة َ والمعرفة َ الدينيّة َ الخاصّة َ إلى ثقافةٍ معياريّةٍ معرفيّةٍ عامّةٍ .

.... يتبعُ .

حازم
06-20-2005, 05:34 PM
تابعٌ لما سبقَ :

وبدأ هؤلاءِ المفكّرونَ بمحاولةٍ لاختراق ِ ما يسمّونهُ السياجُ الدوغمائيُّ المُغلّقُ ، والذي تكوّنَ بفعل ِ الأيدلوجيةِ الاستلابيّةِ ، ويقصدونَ بهذا تسليمَ المسلمينَ أمرَهم للكتابِ والسنّةِ ، واتباعهم لتعاليمِها دونَ خروج ٍ عليها أو إبداءٍ للرأي حيالها ، وإنّما هو السمعُ والطاعة ُ والرّضا عن اللهِ ورسولهِ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - : (( سمِعنا وأطعنا غفرانكَ ربّنا وإليكَ المصيرُ )) ، و في ذلكَ كتبوا مؤلفاتِهم عن العقل ِ الإسلاميِّ : في نقدِهِ ، وإعادةِ تشكيلهِ .

وأغلبُ هذه المشاريع ِ النقديّةِ - كما في مشاريع ِ أركون ، الجابري ، زكي نجيب محمود ، حنفي ، وغيرِهم - كُتبتْ بلغةٍ متقعّرةٍ ، وبأسلوبٍ جافٍّ ، وراحَ أصحابُها يُعالجونَ قضايا فلسفيّةٍ ومباحثَ فكريّةٍ غايةٍ في الدقّةِ والتعقيدِ ، سطوا عليها من الحركاتِ النقديّةِ الغربيّةِ ووقعوا أسرى لمناهج ِ الفلسفةِ المُعاصرةِ دونَ أن يأتوا بجديدٍ يُذكرُ ، وهم الذين زعموا أنّهم سيخلّصونَ العالمَ الإسلاميَّ من حالةِ الجمودِ التي يعيشُها ، فوقعوا في جمودٍ أشدَّ منهُ ، وأصبحَ المُسلمُ البسيطُ من عامّةِ النّاس ِ – وهو المقصودُ ابتداءً بهذه المشاريع ِ – لا يعلمُ عنها شيئاً ، فهي لا تبحثُ فيما يُعالجهُ من هموم ٍ ، والشعوبُ في العالم ِ الإسلاميِّ بكافّةِ طوائفِها في جهةٍ ، وأطروحاتُ هؤلاءِ المفكّرينَ في ناحيةِ أخرى ، أولئكَ تُحرّكهم القضايا البسيطة ُ ، وهؤلاءِ يُفلسفونَ لمسائلَ غايةٍ في التعقيدِ والدقّةِ ، حتّى صارَ الوصفُ المُناسبُ لها أنّها مشاريعُ خاصّةِ الخاصّةِ ، وتحوّلَ البحثُ فيها من كونِها مشاريعَ تحملُ التبشيرَ الحضاريَّ للأمّةِ وعلاجاً لمشكلاتِ الحداثةِ والتواصل ِ مع الآخر ِ ، إلى حروبٍ وصراعاتٍ جديدةٍ ، وباتَ الشغلَ الشاغلَ لهؤلاءِ المثقفينَ هو : نقدُ المشروع ِ الفلانيِّ ، ومُراجعة ُ الفكر ِ الفلانيِّ ، وصارتِ البحوثُ نوعاً من الأفكار ِ الذهنيّةِ ، والمنازعاتِ الفلسفيّةِ المُملّةِ .

وأصبحتِ القراءة ُ في هذه الكتبِ والمشاريع ِ ، لا يتهيّأ لكثير ٍ من الباحثينَ في قضايا الفكر ِ ، والمُتخصّصينَ في الواقع ِ ، ولا يُكلّفُ نفسهُ عناءَ النظر ِ فيها أو الوقوفِ على جديدِها ، فكيفَ بمن عداهم من عامّةِ النّاس ِ ! .

بل إنَّ خطبة َ الجمعةِ المُعتادةِ ، في أحدِ الجوامع ِ النائيةِ ، من خطيبٍ لا يعرفُ النّاسُ اسمهُ ، تُحرّكُ من مشاعر ِ المُسلمينَ وأحاسيسِهم ما لا تفعلهُ أكثرُ المشاريع ِالتنويريّةِ دقّة ً وإحكاماً .

كما أنَّ السمة َ الغالبة َ على هذه المشاريع ِ هو نقدُ التديّن ِ والصحوةِ الإسلاميّةِ بروافدِها وأدوارِها ، والهجومُ على القيَم ِ المحافظةِ ، وعلى جميع ِ الدعواتِ الداعيةِ إلى تحكيم ِ الكتابِ والسنّةِ في جميع ِ شئون ِ الحياةِ ، بدءاً من إدارةِ الدولةِ ، وانتهاءً بالآدابِ العامّةِ ، ووصفُ جميع ِ ذلكَ بالفكر ِ الماضوي المُتخلّفِ ، ومن تلطّفَ منهم في العبارةِ فإنّهُ يصفها بالجمودِ والانغلاق ِ الفكريِّ الذي يُحتاجُ معهُ إلى تجديدٍ وتنوير ٍ ، يقولُ الجابريُّ في كتابهِ " وجهة نظر " : " والحقُّ أنَّ ما يحتاجُ إليهِ المسلمونَ اليومَ هو التجديدُ ، وليسَ مُجرّدَ الصحوةِ ، إنَّ التحديّاتِ التي تواجهُ العالمَ العربيَّ والعالمَ الإسلاميَّ تتطلبُ ليسَ فقط ردَّ الفعل ِ ، بل الفعلَ ، والفعلُ في العصر ِ الحاضر ِ هو أوّلاً وأخيراً فعلُ العقل ِ ! " .

يقولُ هاشم صالح مُعلّقاً على كتابِ محمّد أركون " الفكر ِ الإسلاميِّ واستحالةِ التأصيل ِ " : " انتصارُ الغزاليِّ على ابن ِ رشدٍ كانَ يعني انتصارَ الفكر ِ اللاهوتيِّ المُتشدّدِ والمنغلق ِ ، على الفكر ِ العقلانيِّ المُنفتح ِ على الفلسفةِ الإغريقيّةِ ، وكانَ إيذاناً بالدّخول ِ بعصور ِ الانحطاطِ الطويلةِ ، ويُمكنُ القولُ بأنّنا لم نقم من تلكَ الضربةِ حتّى الآنَ ، فانتصارُ الأصوليّةِ حالياً فهو انتصارٌ للغزالي وابن ِ تيميّةِ ، وهزيمة ٌ لابن ِ رُشدٍ والفارابيِّ وابن سينا والمعرّي والتوحيديِّ ومسكويهِ ، وكلِّ المفكّرينَ الأحرار ِ في أرض ِ الإسلام ِ ، وإذن فهزيمة ُ الفكر ِ في العالم ِ العربيِّ أو الإسلاميِّ ليستْ حديثة َ العهدِ ، وإنّما تعودُ إلى الماضي البعيدِ ، من هنا صعوبة ُ النهضةِ أو النهوض ِ بعدَ تلكَ الكبوةِ الطويلةِ " .

وهذا النقلُ عن هاشم صالح ، يكفي في الدلالةِ على مدى حنق ِ وتغيّظِ مبشّري الحضارةِ والتنوير ِ على سلفِ هذه الأمّةِ ، حيثُ يرى هاشم صالح أن انتصارَ الغزاليِّ وابن ِ تيميّة َ يعني الركونَ إلى التخلّفِ والانغلاق ِ والجمودِ ! ، مع أنَّ ابنَ تيميّة َ يُعتبرُ من روّادِ المنطق ِ التجريبيِّ القائم ِ على أساس ِ الحسِّ والتجربةِ ، وهو من الأسس ِ التي قامتْ عليها الحضارة ُ الغربيّة ُ المُعاصرة ُ ، وقد سبقَ بذلكَ أساطينَ الفلاسفةِ الغربيينَ من أمثال ِ بيكون ومل ، بينما – في المقابل ِ - يرى هاشم أنَّ التحرّرَ إنّما يكونُ في متابعةِ الفلاسفةِ وأهل ِ الإلحادِ ، الذي اشتهروا بذلكَ ، وعاشوا على الحيرةِ والقلق ِ ، وهذا الكلامُ هو أيضاً كلامُ أستاذهِ محمّد أركون .

ويقولُ زكي نجيب محمود هادماً تُراثَ المُسلمينَ جميعهُ : " إنَّ هذا التراثَ كلّهُ بالنسبةِ إلى عصرِنا قد فقد مكانتهُ ! ، لأنّهُ يدورُ أساساً على محور ِ العلاقةِ بين الإنسان ِ واللهِ ، على حين أنَّ ما نلتمسهُ اليومَ في لهفةٍ مؤرقةٍ ، هو محورٌ تدورُ عليهِ العلاقة ُ بينَ الإنسان ِ والإنسان ِ ! " - من كتابهِ " تجديد الفكر العربيِّ - .

ولعلَّ قائلاً يقولُ : لقد كانَ للفلاسفةِ والنظّار ِ والأدباءِ تأثيرٌ شديدٌ في صناعةِ الثورةِ الفرنسيّةِ ، وما أعقبها من تغيير ٍ كامل ٍ في الحياةِ الغربيّةِ ، فما بالُكَ تستقلُّ هذه الجهودَ من أن تؤتيَ ثِمارها ؟ ، فإنَّا نقولُ لهُ جواباً على كلامهِ : أنَّ أولئكَ الفلاسفة َ إنّما أثّروا في النّاس ِ لدنوِهم إليهم وتواضعِهم معهم ، حتّى أصبحَ لهم أثرٌ فعّالٌ في حياتِهم ، بعكس ِ هؤلاءِ المُعاصرينَ ، والذين لا يعرفُ النّاسَ من أحوالِهم شيئاً ، بل مع الأسفِ يسكنُ أكثرُهم خارجَ بلادهِ ولا يعرفُ شيئاً عن وطنهِ وأهلهِ .

إنَّ العجيبَ حقّاً في قضيّةِ التنوير ِ والنهضةِ المزعومةِ ، أنَّ أربابها ودعاتها لا ينفكّونَ يُحاربونَ الإسلامَ ودعاتهُ ، ويرونَ أنَّ الدعوة َ إلى تحكيم ِ الشريعةِ الإسلاميّةِ دعوة ٌ للتخلّفِ والرجوع ِ إلى عصور ِ الظلام ِ والانحطاطِ ، ويرونَ كذلكَ في سيادةِ قيَم ِ المُحافظةِ سيادة ً للرجعيّةِ ، مع أنَّ هؤلاءِ المُفكّرينَ يُحسبونَ على المسلمينَ !! ، ولكنّهم أشدُّ عداءً لها من العدوِّ الأجنبيِّ ، بل إنَّ هناكَ من الأعداءِ الخارجيينَ من هم أنصفُ للإسلام ِ وأهلهِ من هؤلاءِ المفكّرينَ ! .

ومن هؤلاءِ الغربيينَ الذين أنصفوا الحركاتِ والجماعاتِ الإسلاميّةِ ، وأنصفوا الدّينَ الإسلاميَّ جملة ً ، المُستشرقُ الفرنسيُّ " جاك بيرك " ، يقولُ فؤاد زكريّا في كتابهِ " الصحوة ُ الإسلاميّة ُ " : " فقد تنبّهَ المستشرقُ الفرنسيُّ جاك بيرك الذي عاشَ فترة ً طويلة ً من حياتهِ في شمال ِ أفريقيا ، إلى الدور ِ الكبير ِ الذي لعبهِ الدّينُ الإسلاميُّ في الثورةِ الجزائريّةِ ، وفي حركةِ مقاومةِ الاستعمار ِ الفرنسيِّ في شمال ِ أفريقيا عامّة ً ، وجعلَ من هذهِ الظاهرةِ موضوعاً رئيسياً لعددٍ غير ِ قليل ٍ من كتبهِ ، وكانتِ الحقيقة ُ التي توصّلَ إليها هي أنَّ الدينَ في هذه المنطقةِ من العالم ِ ، لم يكنْ على الإطلاق ِ عاملاً مُخدّراً للشعوبِ ، بل على العكس ِ من ذلكَ كانَ سلاحاً عظيمَ الفاعليّةِ ، نبّهَ الشعوبَ إلى حقيقتِها ، وساعدها على حفظِ أصالتِها ، وصون ِ تراثِها ، في وجهِ استعمار ٍ يملكُ قدرة ً هائلة ً على التغلغل ِ والتسلّطِ ، لا في الميدان ِ السياسيِّ والاقتصاديِّ فحسب ، بل في الميدان ِ الفكريِّ والحضاريِّ أيضاً " .

ويقولُ شيخُنا سفرٌ الحواليُّ في مقالتهِ عن نقدِ الصحوةِ الإسلاميّةِ : " وهناكَ أكثرُ من مسئول ٍ غربيٍّ – فضلاً عن دراساتٍ كثيرةٍ جدّاً – صرّحَ بأنَّ الشعوبَ الإسلاميّة َ لو أتيحَ لها حُرّية ُ الاختيارُ ، لما اختارتْ سوى الإسلام ِ ، ولو أعطيتْ فرصة َ الجهادِ لاندفعتْ إليهِ من كُلِّ مكان ٍ ، فالعلمانيّة ُ والانهزاميّة ُ إذن مفروضتان ِ على الأمّةِ فرضاً ، وكفى بذلك إنجازاً وسبباً للتفاؤل ِ " .

وهذه النقولُ وأشباهُها تبيّنُ للباحثِ المُنصفِ ، أنَّ من يُسمّونَ بالمفكّرينَ العربِ ، إنّما هم أدواتٌ في يدِ الغربِ ، يطعنونَ بها خاصرة َ الأمّةِ ، ويمرّرونَ عن طريقِهم - علموا أو لم يعلموا - غزواتِ التغريبِ والعلمنةِ والإلحادِ ، بعدَ أن عجزوا طويلاً عن اختراق ِ صفوفِها من الداخل ِ ، فلجئوا إلى بعض ِ مفكّريها واستخدموهم لذلكَ ، وهذا الأمرُ ليسَ جديداً ، ففي السابق ِ وبعدَ فشل ِ حركاتِ الحروبِ الصليبيّةِ ، في فرض ِ الأنماطِ الأوربيّةِ على حياةِ الشرق ِ المُسلم ِ ، لجأ أولئكَ الغزاةِ إلى الاستشراق ِ ، وجعلوهُ أداة ً جديدة ً من أدواتِ الاستعمار ِ ، تحت غطاءِ البحثِ العلميِّ ، بينما هم في حقيقةِ الأمر ِ جيشٌ جديدٌ من الغزاةِ على العالم ِ الإسلاميِّ ، بقصدِ تهشيمهِ من داخلهِ ، كما كانَ الحالُ في حركاتِ الكشوفِ الجغرافيّةِ ، ولا تعجبوا إذن من كون ِ أكثر ِ المفكّرينَ العربِ المُعاصرينَ ممّن تربّوا في محاضن ِ الاستشراق ِ ، وبهذا تتضحُ العلاقة ُ بينهم في حربِهم المُتّحدةِ على أصالةِ الفكر ِ الإسلاميِّ ، وهدمهِ بمعاول ِ النهضةِ والتنوير ِ والحداثةِ ، وذلك أنّهُ باتَ من لوازم ِ الحضارةِ والتنوير ِ الاستسلامُ للمخطّطِ الغربيِّ والذوبان ِ فيه دونَ مقاومةٍ لهُ .

والفضلُ ما شهدتْ بهِ الأعداءُ .

.... يتبعُ .

حازم
06-21-2005, 09:06 PM
تابعٌ لما سبق َ :

ومهما يكنْ من أمر ٍ ، فإنَّ التيّاراتِ التغريبيّة َ اختزلتِ المشكلة َ في الثقافةِ السائدةِ في العالم ِ الإسلاميِّ ، بما تحويهِ من مواردَ وتطبيقاتٍ ، وبدأ من هنا توجيهُ النقدِ للنصِّ وللخطابِ الدينيِّ ، وهذا ما يُفسرُ لنا سببَ اعتناءِ كثير ٍ من ملاحدةِ العربِ وزنادقتهِ بالنصوص ِ الشرعيّةِ ، مع عدم ِ إيمانِهم بها أو بمكانتِها ، والتصدّي للبحثِ فيها والكلام ِ عليها ، وذلكَ ليكتملَ لهُم ما يُريدُونهُ من نقدِ النصِّ نقداً مُباشراً .

ظهرتْ كتاباتٌ كثيرة ٌ في مسألةِ النصِّ وكيفيّةِ التعامل ِ معهُ ، ورأى أصحابُها أنَّ العقلَ العربيَّ لا بُدَّ أن يتطوّرَ وهذا التطوّرُ يقفُ دونهُ حواجز ُ كثيرة ٌ ، على رأسِها النصُّ ، فكانَ لا بُدَّ من إخضاع ِ النصِّ لعمليّةِ التطوير بتأويلهِ ليتكيّفَ مع معطياتِ الواقع ِ الجديدةِ ، ويُصبحَ نصّاً مُتفاعلاً مع الصيرورةِ التأريخيّةِ ، وليسَ نصّاً جامداً مُتعالياً على الواقع ِ ، أو بتجاوز ِ النصِّ وهدمهِ عبرَ التشكيكِ فيهِ ، إمّا ثبوتاً أو دِلالة ً ، ويتلخّصُ رأي هؤلاءِ في قول ِ أحدِهم واصفاً فكرهم : " أنّهُ الفكرُ الذي ينهضُ على النصِّ ، لكنْ بتأويل ٍ يجعلُ النصَّ قابلاً للتكيّفِ مع الواقع ِ وتجدّدهِ ، أو الفكر ِ الذي لا يرى في النصِّ أيّة مرجعيّةٍ ، ويعتمدُ أساساً على العقل ِ لا النقل ِ " .

ويلاحظ ُ في النقل ِ السابق ِ أنَّ تطويرَ النصَّ بتأويلهِ يوازي عندهم إلغاءهُ بالكليّةِ ، وذلكَ أنَّ عمليّة َ التأويل ِ هي تعطيلٌ في حقيقتهِ للنصِّ ، وقد ذكرَ قريباً من ذلكَ فيما مضى الإمامُ ابنُ القيّم ِ في كتابهِ " الصواعقُ المُرسلة ُ " .

وثمة أمراً مُهمّاً وهو أنَّ أطروحاتِ التحديثِ في العالم ِ الإسلاميَّ ، لو اقتصرَ أصاحبُها فيها على الجانبِ المادّيِّ ، لما وجدوا تلكَ الصعوباتِ في نشر ِ ما يُريدونَ ، ولكنّهم جعلوا التحديثَ الفكريَّ لازماً للتحديثِ الماديِّ ، وقرنوا العلومَ التجريبيّة َ والماديّة َ بالعلوم ِ الفكريّةِ والإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ ، ورأوا ضرورة َ تشرّبِ الفكر ِ الإسلاميِّ للفكر ِ الغربيِّ ، وهذا ما جعلَ مشاريعهم تواجهُ برفض ٍ شديدٍ ، ممّا حداهم إلى ضرورةِ إيجادِ مخرج ٍ من هذا الأمر ِ ، على أن تستمرَّ قضيتُهم في إطارها المُحدّدِ ، وهو الرفضُ التامُّ للفصل ِ بينَ الأمرين ِ – التحديثِ الماديِّ والفكريِّ - ، وإن أدّاهم ذلكَ إلى رفض ِ الإسلام ِ .

وهذا ما يؤكّدهُ محمّد أركون في معرض ِ حديثهِ عن معوّقاتِ الحداثةِ قائلاً : " ولا تزالُ تحولُ دونَ تشكّل ِ المُجتمع ِ المدنيِّ ودولةِ الحقِّ والقانون ِ والشخص ِ – الفرد – المواطن ِ ، بصفتِهم فاعلينَ مُتداخلينَ للمسار ِ التاريخيِّ ، الهادفِ للوصول ِ إلى الحداثةِ الفكريّةِ والروحيّةِ والسياسيّةِ التي لا تنفصمُ !! " ، وهذا الرأي هو رأيُ الأغلبيّةِ من المفكّرينَ التغريبيينَ ، ممّن يرونَ الحداثة َ بكامل ِ أشكالِها أمراً لا بُدَّ منهُ للوصول ِ بالأمّةِ إلى مصافِّ التحضّر ِ ، وتخلّفُ أحدِ الصور ِ – الفكريُّ منها أو الماديُّ – يعني سقوطَ المشروع ِ الحضاريِّ بتمامهِ ! .

بدا واضحاً ممّا سبقَ أنَّ معاركَ الحداثةِ كانتْ تصطدمُ على صخرةِ الإسلام ِ ، وتُواجهُ بالنصوص ِ الشرعيّةِ ، الأمرُ الذي أدّى بهؤلاءِ التغريبيينَ إلى رفض ِ النصوص ِ ومُحاولةِ التشكيكِ فيها والنيل ِ من مكانتِها ، رغبة ً في الوصول ِ إلى الحداثةِ الغربيّةِ الشاملةِ .

وهُنا لا بُدَّ لي من نقل ِ كلام ٍ مهمٍّ لهاشم صالح ، يعترفُ فيهِ بفشل ِ المشروع ِ التنويريِّ في العالم ِ الإسلاميِّ ، وهذا الفشلُ - كما سبقَ وأشرتُ - مردّهُ إلى الحربِ المفضوحةِ لأولئكَ على الدّين ِ ، وكذلكَ تبعيتهم للغربِ ، إضافة ً إلى جهلهم الفاضح ِ بالدين ِ الإسلاميِّ ، وظنّهم أنّهُ مليءٌ بالثغراتِ المؤديةِ إلى سقوطهِ أمامَ النفوذِ المتسارع ِ للعلم ِ ، والذي جعلهُ هؤلاءِ المفكّرونَ نِدّاً للدّين ِ ، بل يعتقدونَ أنَّ الدّينَ لا يمكنُ أن تثبتَ حُججهُ أمامَ نظريّاتِ العلم ِ المُعاصرةِ .

يعترفُ هاشم صالح قائلاً : " يُشيرُ أركونَ - في كلام ٍ سابق ٍ - هُنا إلى فشل ِ عصر ِ النهضةِ ، وأسبابِ هذا الفشل ِ ، فلو نجحَ النهضاويونَ في مُحاولتِهم الرائعةِ ! ، لما وصلنا اليومَ إلى عصر ِ الأصوليّةِ ! - التعجّب من هاشم - ، والواقعُ أنَّ مُهمّة َ النهضويينَ كانتْ شبهَ مُستحيلةٍ ، فقد أرادو النضالَ ضدَّ قرون ٍ عديدةٍ من الجمودِ والانحطاطِ ، ولم يكنْ من السهل ِ القضاءُ عليها من أوّل ضربةٍ ، أو الخروجُ منها من أوّل ِ محاولةٍ ، ولذلك ينبغي أن نحاولَ صنعَ عصرَ نهضةٍ جديدٍ ، مرّة ً أخرى !! " .

ولو أنَّهُ أمعنَ في الأسبابِ الحقّةِ لفشلِهم ورفض ِ النّاس ِ لهم ، لما تندّبَ على مشروع ِ النهضةِ ، أو رثى لحالهِ ، وذلكَ أنّهم قصدوا إلى نزع ِ الثقّةِ من الدّين ِ ، وهو أشرفُ ما لدى المسلمينَ ، وأرادوا منهم بعدَ ذلكَ أن يثقوا فيهم وفي طرحِهم !! ، وفي الجملةِ فإنّ انتزاعَ نتيجةِ النهضةِ الأوربيّةِ ومقدّماتِها الثوريّةِ ، ومحاولةِ تطبيقِها على واقع ٍ آخرَ - وهو واقعُ المسلمينَ - ، إنّما هو ضربٌ من المجازفةِ ، فذاك سياقٌ وهذا سياقٌ ، ولا يمكنُ أن يتلقيَ الأمران ِ أبداً ، وكم بينَ يقين ِ المسلمينَ في دينِهم ورضاهم بهِ ، ورحمةِ الإسلام ِ بأتباعِهِ ورِجالهِ ، وبينَ تشكّكِ النصارى في دينهم ، وتهاوي حُججهِ أمامَ العلم ِ والواقع ِ ، وتسلّطِ الكنيسةِ ورِجالها على المُجتمع ِ .

وعوداً على بدءٍ :فلا بُدَّ لي هنا أنْ أبيّنَ الفرقَ بينَ النصِّ وبينَ الخطابِ الدينيِّ ، فأمّا النصُّ الذي يتحدّثُ عنهُ المفكّرونَ في كُتبِهم فهو غيرُ النصِّ الذي يقصدهُ الأصوليّونَ ، والنصُّ عندَ الأصوليينَ هوَ الذي لا يحتملُ إلا معنىً واحداً ، فإذا قالَ فقيهٌ : هذا نصٌّ في المسألةِ ، أي أنّهُ نُصَّ على حكمِها نصّاً صريحاً ، ويُقابلُ النصَّ عندَ الأصوليينَ : الظاهرُ ، والظاهرُ ما احتملَ معنيين ِ أحدُهما أظهرُ من الآخر ِ ، وأمّا في الفكر ِ المُعاصر ِ فالنصُّ هو السلطة ُ الخبريّة ُ التي تُلزمُ النّاسَ أن يرجعوا إليها ، وفي كثير ٍ من الأحيان ِ يُقصرُ النصُّ على القرءان ِ ، وذلكَ لأنَّ أكثرَ هؤلاءِ لا يعتدّونَ بالسنّةِ جملة ً وتفصيلاً .

وأمّا الخطابُ الدينيُّ فهو طرقُ ووسائلُ تبليغ ِ المنظومةِ الدّينيّةِ ، وكيفيّة ُ التعبير ِ عنها ، وهناكَ من يخلطُ بينَ هذين ِ الأمرين ِ ، فيجعلُ الخطابَ الدينيَّ مُرادفاً للنصِّ ، ولهذا يجبُ تحريرُ المصطلح ِ قبلَ الخوض ِ في نقاشهِ وتبيينهِ ، حتّى لا نجورَ في الأحكام ِ ، أو نقعَ أسرى لبريق ِ مصطلح ٍ بينما صاحبهُ يقصدُ أمراً آخرَ .

.... يتبعُ .

حازم
06-26-2005, 04:38 PM
تابعٌ لما سبق َ :

ومهما يكنْ من أمر ٍ ، فإنَّ التيّاراتِ التغريبيّة َ اختزلتِ المشكلة َ في الثقافةِ السائدةِ في العالم ِ الإسلاميِّ ، بما تحويهِ من مواردَ وتطبيقاتٍ ، وبدأ من هنا توجيهُ النقدِ للنصِّ وللخطابِ الدينيِّ ، وهذا ما يُفسرُ لنا سببَ اعتناءِ كثير ٍ من ملاحدةِ العربِ وزنادقتهِ بالنصوص ِ الشرعيّةِ ، مع عدم ِ إيمانِهم بها أو بمكانتِها ، والتصدّي للبحثِ فيها والكلام ِ عليها ، وذلكَ ليكتملَ لهُم ما يُريدُونهُ من نقدِ النصِّ نقداً مُباشراً .

ظهرتْ كتاباتٌ كثيرة ٌ في مسألةِ النصِّ وكيفيّةِ التعامل ِ معهُ ، ورأى أصحابُها أنَّ العقلَ العربيَّ لا بُدَّ أن يتطوّرَ وهذا التطوّرُ يقفُ دونهُ حواجز ُ كثيرة ٌ ، على رأسِها النصُّ ، فكانَ لا بُدَّ من إخضاع ِ النصِّ لعمليّةِ التطوير بتأويلهِ ليتكيّفَ مع معطياتِ الواقع ِ الجديدةِ ، ويُصبحَ نصّاً مُتفاعلاً مع الصيرورةِ التأريخيّةِ ، وليسَ نصّاً جامداً مُتعالياً على الواقع ِ ، أو بتجاوز ِ النصِّ وهدمهِ عبرَ التشكيكِ فيهِ ، إمّا ثبوتاً أو دِلالة ً ، ويتلخّصُ رأي هؤلاءِ في قول ِ أحدِهم واصفاً فكرهم : " أنّهُ الفكرُ الذي ينهضُ على النصِّ ، لكنْ بتأويل ٍ يجعلُ النصَّ قابلاً للتكيّفِ مع الواقع ِ وتجدّدهِ ، أو الفكر ِ الذي لا يرى في النصِّ أيّة مرجعيّةٍ ، ويعتمدُ أساساً على العقل ِ لا النقل ِ " .

ويلاحظ ُ في النقل ِ السابق ِ أنَّ تطويرَ النصَّ بتأويلهِ يوازي عندهم إلغاءهُ بالكليّةِ ، وذلكَ أنَّ عمليّة َ التأويل ِ هي تعطيلٌ في حقيقتهِ للنصِّ ، وقد ذكرَ قريباً من ذلكَ فيما مضى الإمامُ ابنُ القيّم ِ في كتابهِ " الصواعقُ المُرسلة ُ " .

وثمة أمراً مُهمّاً وهو أنَّ أطروحاتِ التحديثِ في العالم ِ الإسلاميَّ ، لو اقتصرَ أصاحبُها فيها على الجانبِ المادّيِّ ، لما وجدوا تلكَ الصعوباتِ في نشر ِ ما يُريدونَ ، ولكنّهم جعلوا التحديثَ الفكريَّ لازماً للتحديثِ الماديِّ ، وقرنوا العلومَ التجريبيّة َ والماديّة َ بالعلوم ِ الفكريّةِ والإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ ، ورأوا ضرورة َ تشرّبِ الفكر ِ الإسلاميِّ للفكر ِ الغربيِّ ، وهذا ما جعلَ مشاريعهم تواجهُ برفض ٍ شديدٍ ، ممّا حداهم إلى ضرورةِ إيجادِ مخرج ٍ من هذا الأمر ِ ، على أن تستمرَّ قضيتُهم في إطارها المُحدّدِ ، وهو الرفضُ التامُّ للفصل ِ بينَ الأمرين ِ – التحديثِ الماديِّ والفكريِّ - ، وإن أدّاهم ذلكَ إلى رفض ِ الإسلام ِ .

وهذا ما يؤكّدهُ محمّد أركون في معرض ِ حديثهِ عن معوّقاتِ الحداثةِ قائلاً : " ولا تزالُ تحولُ دونَ تشكّل ِ المُجتمع ِ المدنيِّ ودولةِ الحقِّ والقانون ِ والشخص ِ – الفرد – المواطن ِ ، بصفتِهم فاعلينَ مُتداخلينَ للمسار ِ التاريخيِّ ، الهادفِ للوصول ِ إلى الحداثةِ الفكريّةِ والروحيّةِ والسياسيّةِ التي لا تنفصمُ !! " ، وهذا الرأي هو رأيُ الأغلبيّةِ من المفكّرينَ التغريبيينَ ، ممّن يرونَ الحداثة َ بكامل ِ أشكالِها أمراً لا بُدَّ منهُ للوصول ِ بالأمّةِ إلى مصافِّ التحضّر ِ ، وتخلّفُ أحدِ الصور ِ – الفكريُّ منها أو الماديُّ – يعني سقوطَ المشروع ِ الحضاريِّ بتمامهِ ! .

بدا واضحاً ممّا سبقَ أنَّ معاركَ الحداثةِ كانتْ تصطدمُ على صخرةِ الإسلام ِ ، وتُواجهُ بالنصوص ِ الشرعيّةِ ، الأمرُ الذي أدّى بهؤلاءِ التغريبيينَ إلى رفض ِ النصوص ِ ومُحاولةِ التشكيكِ فيها والنيل ِ من مكانتِها ، رغبة ً في الوصول ِ إلى الحداثةِ الغربيّةِ الشاملةِ .

وهُنا لا بُدَّ لي من نقل ِ كلام ٍ مهمٍّ لهاشم صالح ، يعترفُ فيهِ بفشل ِ المشروع ِ التنويريِّ في العالم ِ الإسلاميِّ ، وهذا الفشلُ - كما سبقَ وأشرتُ - مردّهُ إلى الحربِ المفضوحةِ لأولئكَ على الدّين ِ ، وكذلكَ تبعيتهم للغربِ ، إضافة ً إلى جهلهم الفاضح ِ بالدين ِ الإسلاميِّ ، وظنّهم أنّهُ مليءٌ بالثغراتِ المؤديةِ إلى سقوطهِ أمامَ النفوذِ المتسارع ِ للعلم ِ ، والذي جعلهُ هؤلاءِ المفكّرونَ نِدّاً للدّين ِ ، بل يعتقدونَ أنَّ الدّينَ لا يمكنُ أن تثبتَ حُججهُ أمامَ نظريّاتِ العلم ِ المُعاصرةِ .

يعترفُ هاشم صالح قائلاً : " يُشيرُ أركونَ - في كلام ٍ سابق ٍ - هُنا إلى فشل ِ عصر ِ النهضةِ ، وأسبابِ هذا الفشل ِ ، فلو نجحَ النهضاويونَ في مُحاولتِهم الرائعةِ ! ، لما وصلنا اليومَ إلى عصر ِ الأصوليّةِ ! - التعجّب من هاشم - ، والواقعُ أنَّ مُهمّة َ النهضويينَ كانتْ شبهَ مُستحيلةٍ ، فقد أرادو النضالَ ضدَّ قرون ٍ عديدةٍ من الجمودِ والانحطاطِ ، ولم يكنْ من السهل ِ القضاءُ عليها من أوّل ضربةٍ ، أو الخروجُ منها من أوّل ِ محاولةٍ ، ولذلك ينبغي أن نحاولَ صنعَ عصرَ نهضةٍ جديدٍ ، مرّة ً أخرى !! " .

ولو أنَّهُ أمعنَ في الأسبابِ الحقّةِ لفشلِهم ورفض ِ النّاس ِ لهم ، لما تندّبَ على مشروع ِ النهضةِ ، أو رثى لحالهِ ، وذلكَ أنّهم قصدوا إلى نزع ِ الثقّةِ من الدّين ِ ، وهو أشرفُ ما لدى المسلمينَ ، وأرادوا منهم بعدَ ذلكَ أن يثقوا فيهم وفي طرحِهم !! ، وفي الجملةِ فإنّ انتزاعَ نتيجةِ النهضةِ الأوربيّةِ ومقدّماتِها الثوريّةِ ، ومحاولةِ تطبيقِها على واقع ٍ آخرَ - وهو واقعُ المسلمينَ - ، إنّما هو ضربٌ من المجازفةِ ، فذاك سياقٌ وهذا سياقٌ ، ولا يمكنُ أن يتلقيَ الأمران ِ أبداً ، وكم بينَ يقين ِ المسلمينَ في دينِهم ورضاهم بهِ ، ورحمةِ الإسلام ِ بأتباعِهِ ورِجالهِ ، وبينَ تشكّكِ النصارى في دينهم ، وتهاوي حُججهِ أمامَ العلم ِ والواقع ِ ، وتسلّطِ الكنيسةِ ورِجالها على المُجتمع ِ .

وعوداً على بدءٍ :فلا بُدَّ لي هنا أنْ أبيّنَ الفرقَ بينَ النصِّ وبينَ الخطابِ الدينيِّ ، فأمّا النصُّ الذي يتحدّثُ عنهُ المفكّرونَ في كُتبِهم فهو غيرُ النصِّ الذي يقصدهُ الأصوليّونَ ، والنصُّ عندَ الأصوليينَ هوَ الذي لا يحتملُ إلا معنىً واحداً ، فإذا قالَ فقيهٌ : هذا نصٌّ في المسألةِ ، أي أنّهُ نُصَّ على حكمِها نصّاً صريحاً ، ويُقابلُ النصَّ عندَ الأصوليينَ : الظاهرُ ، والظاهرُ ما احتملَ معنيين ِ أحدُهما أظهرُ من الآخر ِ ، وأمّا في الفكر ِ المُعاصر ِ فالنصُّ هو السلطة ُ الخبريّة ُ التي تُلزمُ النّاسَ أن يرجعوا إليها ، وفي كثير ٍ من الأحيان ِ يُقصرُ النصُّ على القرءان ِ ، وذلكَ لأنَّ أكثرَ هؤلاءِ لا يعتدّونَ بالسنّةِ جملة ً وتفصيلاً .

وأمّا الخطابُ الدينيُّ فهو طرقُ ووسائلُ تبليغ ِ المنظومةِ الدّينيّةِ ، وكيفيّة ُ التعبير ِ عنها ، وهناكَ من يخلطُ بينَ هذين ِ الأمرين ِ ، فيجعلُ الخطابَ الدينيَّ مُرادفاً للنصِّ ، ولهذا يجبُ تحريرُ المصطلح ِ قبلَ الخوض ِ في نقاشهِ وتبيينهِ ، حتّى لا نجورَ في الأحكام ِ ، أو نقعَ أسرى لبريق ِ مصطلح ٍ بينما صاحبهُ يقصدُ أمراً آخرَ .

.... يتبعُ .

حازم
06-28-2005, 06:32 AM
اختلفتْ طرق ُ المفكّرينَ المعاصرينَ في التعامل ِ مع النصِّ ، ويأتي على رأس ِ ذلكَ أربعة ُ مدارسَ :

- المدرسة ُ الإلحاديّة ُ : وهم الذين لا يرونَ للنصِّ أيّة قيمة ً تُذكرُ ، وتأثيرهُ كانَ محدوداً بالزمن ِ الذي نشأ فيهِ والظروفِ البدائيةِ التي عالجها ، وأمّا الآن فقد انتهى عصرُ النصوص ِ وجاءُ عصرُ العقل ِ والبراهين ِ الثابتةِ – الماديّةِ والتجريبيّةِ - ، ويرى هؤلاءِ ضرورة َ فكِّ الارتباطِ بينَ العقل ِ والنصِّ ، وإزالةِ القدسيّةِ عن جميع ِ ما يُخالفُ العقلَ ، والعقلُ عندهم مقصورٌ على المحسوس ِ التجريبيِّ .

كما أنّهم يميلونَ إلى النظرةِ التشكيكيّةِ ، وينطلقونَ منها نحوَ النقدِ وإعادةِ التشكيل ِ للفكرةِ ، وهذا مذهبٌ باطلٌ ، ولا يشكُّ عاقلٌ في أنَّ المعارفَ لا تنشأ من فراغ ٍ ، أو تولدُ من الصفر ِ ، وإنّما هي مجموعة ٌ متوالية ٌ تترسّخُ بمرور ِ الوقتِ ، ولا يمكنُ لباحثٍ مهما بلغتْ درجة ُ حياديتهِ أن ينفيَ عن نفسهِ التأثيرَ والتكوينَ المعرفيِّ ، وأثرَ ذلكَ على نتيجةِ بحثهِ وحكمهِ .

وبعضُ هؤلاءِ – خاصّة ً الماركسيينَ منهم – يرى أنَّ النصَّ إنّما هو قيمة ٌ جماليّة ٌ ، وأدبٌ راق ٍ ، شأنهُ شأنُ بقيّةِ الآدابِ ، يُعاملُ كقطعةٍ نثريّةٍ ، ويُخضعُ لمعايير ِ النقدِ الحديثةِ .

وهذه المدرسة ُ تضمُّ في ثناياه أطيافاً شتّىً منهم : التغريبيّونَ ، والماركسيّونَ ، والعلمانيّونَ ، وملاحدة ُ العقلانيّةِ ، وآخرونَ يظهرُ ذلكَ من خلال ِ مفرداتِ أبحاثِهم ، ويجمعُهم جميعاً أنَّ منطلقاتِهم إلحاديّة ٌ صِرفة ٌ ، فلا يرونَ أثراً للدّين ِ في حياةِ النّاس ِ ، ويعدّونهُ طريقة ً اجتماعيّة ً ، وينتحلونَ مذاهبَ معاصرةٍ تسلُكَ طريقَ الإلحادِ والرفض ِ التامِّ للدّين ِ الإسلاميِّ ، أو تأويلهِ تأويلاً يأتي على أصلهِ بالبطلان ِ ، كمن يفرّقُ بينَ الدّين ِ في روحانياتهِ وبينهُ في تطبيقهِ في الحياةِ ، أو يرونَ الدّينَ مرحلة ً من مراحل ِ الماركسيّةِ .

- المدرسة ُ العقلانيّة ُ : وهم الذين يرون ضرورة َ إخضاع ِ النصوص ِ الشرعيّةِ للعقل ِ ، فما وافقَ العقلَ قُبلَ ، وما تعارضَ معهُ وجبَ رفضهُ : فإنْ كانَ نصّاً من القرءان ِ وجبَ تأويلهِ ، وذلكَ لأنّهم لا يقدرونَ على رفض ِ القرءان ِ مباشرة ً ، حتّى لا يُكفّرهم النّاسُ ، وإنْ كانَ النصُّ من السنّةِ فإنّهم يردونهُ ولو كانَ مُتواتراً .

وهؤلاءِ برغم ِ أنّهم ينطلقونَ من منطلق ِ واحدٍ وهو تقديسُ العقل ِ ، إلا أنّهم يتباينونَ كثيراً في النتائج ِ والصورةِ النهائيةِ للفكر ِ الذي يتوصّلونَ بالعقل ِ إليهِ ، فمنهم من أغلَ في العقلانيّةِ حتّى وصلَ إلى مشارفِ العقلانيّةِ المُلحدةِ ، ومنهم من خرجَ بالدّين ِ إلى حياض ِ العلمانيّةِ ، ومنهم من تظاهرَ بالعلم ِ والديانةِ ، ليؤخذ َ عنهُ العلمُ ويمُرّرَ آراءهُ ، وهي في حقيقتِها آراءٌ مُصادمة ٌ لأصول ِ الشريعةِ .

- المتأثرونَ بالعقلانيّةِ : وهؤلاءِ لا يُعارضونَ النّصوصَ بالعقل ِ ، ولكنْ وقعَ عندهم تأويلٌ للكثير ِ من النّصوص ِ ، أو قاموا بتأويل ِ بعضِها حتّى تتكيّفَ مع الواقع ِ ، ولكنّهم لم يُوافقوا المدرسة َ العقليّة ُ في جميع ِ الأصول ِ الفكريّةِ .

ويدخلُ ضمنَ هؤلاءِ كثيرٌ من العصرانيينَ المُعاصرينَ ، وكذلكَ بعضُ الذين لم يكتملْ خلاصُهم من الأفكار ِ القديمةِ التي تبنّوها .

- المدرسة ُ السلفيّة ُ : وهم الذين يرونَ حُجّية َ النصوص ِ باعتبارِها مورداً رئيساً للأحكام ِ والتشريعاتِ ، ويرونَ صلاحيتها لكلِّ زمان ٍ ومكان ٍ ، حسبَ ما وردَ في مقاصدِ الشريعةِ التي راعتِ المصالحَ والمفاسدَ .

الغرضُ من التقسيم ِ السابق ِ – تقسيمٌ لفهم ِ المسألةِ فقط – هو تمييزُ الدعواتِ التي تنطلقُ بينَ فينةٍ وأخرى ، ويُطالبُ فيها أصحابُها بضرورةِ المراجعاتِ في النصِّ والخطابِ الدينيِّ .

أصحابُ المدرسةِ الإلحاديّةِ لا يرونَ للنصِّ – بقسميهِ كِتاباً وسُنّة ً - أي قيمةٍ دلاليّةٍ ، ويرونَ الدّينَ ظاهرة ً اجتماعيّة ً فقط ، ولهذا فهم في نقدِهم للنصِّ إمّا أن يقوموا بالتشكيكِ في ثبوتهِ ويجعلونهُ من الأساطير ِ ، أو أن يُضيّقوا دائرة َ تأثيرهِ ليجعلوهُ في الماضي ، وأمّا الحاضرُ فهو عصرٌ تحكمهُ التغيّراتُ المتلاحقة ُ – الصيرورة ُ – ويتطلّبُ من الذين يعيشونَ فيهِ أن يتفاعلوا معهُ ويتكيّفوا عليهِ بكافّةِ صورهِ وأشكالهِ ، والنصُّ لجمودهِ وثباتهِ يعوقُ حركة َ التاريخ ِ والتقدّم ِ ، فوجبَ تجاوزهُ .

ومنهم من يرى أنَّ النصَّ القرآنيَّ عِبارة ٌ عن مجازاتٍ ، ليسَ لها حقيقة ٌ واحدة ٌ ثابتة ٌ ، ويحقُّ لمن شاءَ أن يُفسّرهُ ، وهذا التفسيرُ محكومٌ بالحركةِ التاريخيّةِ ، فأبطلوا التفسيرَ الذي اختارهُ الصحابة ُ وأهلُ العلم ِ ولو كانَ مُتفقاً عليهِ ، وأتوا بتفسيراتٍ جديدةٍ توافقُ ما يريدونهُ من أفكار ٍ ومذاهبَ ، وهذا يجري كثيراً في كلام ِ محمّد أركون ، وهو أيضاً رأي أغلبِ الماركسيينَ ، فهم برغم ِ حربِهم على الإسلام ِ ، وتأصيلهم للمذهبِ الماركسيِّ المُصادم ِ للدّين ِ ، إلا أنّهم يستشهدونَ بالآياتِ القرآنيّةِ في سبيل ِ إثباتِ نظريّاتِهم الماركسيّةِ ، وقد فعلَ هذا كثيراً حُسين مروة وطيب تيزينيِّ وغيرُهم من أقطابِ الماسونيّةِ العربيّةِ .

وهؤلاءِ في نقدهم للنصِّ أو الخطابِ الدينيِّ إنّما يُريدونَ التحرّرَ من الدّين ِ كلّهِ ، فإذا قرأتَ لأحدِ هؤلاءِ كلاماً حولَ النصِّ أو الخطابِ الدينيِّ ، فلا بُدَّ من معرفةِ منطلقهِ الإلحاديِّ ، والسياق ِ الذي وردَ فيهِ كلامهُ ، ولا يكفي أن يغترَّ الإنسانُ بظاهر ِ كلامهم ، فهم يعمدونَ إلى التزييفِ كثيراً ، وإلى تلطيفِ العبارةِ ، كقولِهم مثلاً : النصوصُ مجازاتٌ ، أو أنَّ النّصوصَ متعالية على الواقع ِ ، وما إلى هنالكَ من الألفاظِ المشابهةِ لها .

ويأتي على رأس ِ هذه المدرسةِ : محمّد أركون ، هشام جعيط ، زكي نجيب محمود ، فؤاد زكريا ، نصر حامد أبو زيد ، حُسين مروة ، طيب تيزيني ، وغيرُهم كثيرٌ – لا كثّرهم اللهُ - .

ويكثرُ تعلّقُ هؤلاءِ بالمذاهبِ الفكريّةِ والأدبيّةِ المُعاصرةِ المُلحدةِ ، وتجدُ نفَسَ الاستشراق ِ ظاهراً فيما يكتبونهُ ، مع أنّهم يدعونَ التجرّدَ والموضوعيّة َ بعيداً عن تأثير ِ الأيدلوجياتِ والأفكار ِ أيّاً كانَ مصدرُها : فمحمّد أركونَ – مثلاً - يحتذي كثيراً طريقة َ أستاذهِ ميشيل فوكو في البنيويّةِ والتحليل ِ التفكيكيِّ ، كما أنّهُ ينتمي إلى المدرسةِ الاستشراقيّةِ في طريقةِ تعرّضهِ ودراستهِ للإسلام ِ وعلومهِ ، وزكي نجيب محمود يمشي على طريقةِ الوضعيينَ ، وحُسين مروة وطيب تيزيني ماركسيّونَ ماديّونَ ، وفؤاد زكريّا أخذ َ كثيراً من آراءهِ النقديّة َ من المفكّر ِ العقلانيِّ اليهوديِّ سبينوزا ، صاحبِ المذهبِ التشكيكيِّ النقديِّ الذي نقدَ بهِ الدّيانة َ اليهوديّة َ .

والحديثُ عن محمّد أركونَ خاصّة ً لهُ مناسبة ٌ قادمة ٌ ، في مقالةٍ عنهُ وعن فكرهِ – بحول ِ اللهِ تعالى - .

والنّقاشُ مع هؤلاءِ هو من جنس ِ النّقاش ِ مع الملاحدةِ ، يكونُ بتقرير ِ أصول ِ المسائل ِ العقديّةِ وإثباتِها ، ببراهين ِ الحسِّ والعقل ِ والخبر ِ العاضدِ ، إذ أنَّ أكثرَهم لا يؤمنُ بشيءٍ إلا المحسوسَ فقط ، ولهذا يقولُ فؤاد زكريّا في ردّهِ على من طلبَ مناقشتهُ أنّهُ سوفَ يُجيبهُ ، شريطة َ أن لا يُحاكمهُ أو يُلزمهُ بأي سُلطةٍ ، والسلطة ُ التي يقصدُها إنّما هي النصُّ الشرعيُّ ، يقولُ في ذلكَ : " وإذا كانَ لمؤلّفِ هذا الكتابِ من أمنيّةٍ ، فهو إلا يلجأ المعترضونَ عليهِ – وهم قطعاً كثيرونَ – إلى منهج ِ السُّلطةِ في مناقشةِ آرائهِ ، أعني أن لا يضعوا أفكارهُ في مواجهةِ سُلطةِ النصِّ " ، والنقلُ السابقُ من كتابهِ " الصحوة ُ الإسلاميّة ُ في ميزان ِ العقل ِ " .

ومن السماتِ الواضحةِ لمن يقرأ في كتبِ من سلفتْ أسمائهم ، أنّهم يحتذونَ المناهجَ الغربيّة َ في البحثِ والدراسةِ والنقدِ والتحليل ِ ، ويقضونَ لها بالدقّةِ والعمق ِ ، ويُحاكمونَ إليها نصوصَ الشريعةِ الإسلاميّةِ ، ويُخضعونَ لها التراثَ الإسلاميَّ بكافّةِ تفاصيلهِ ، ومع البون ِ الشاسع ِ بين ِ التراثِ الإسلاميِّ الذي مرّتْ عليهِ قرونٌ من النقدِ والمناقشةِ والتحليل ِ ، حتّى ثبتَ وصارَ نقيّاً وأُرسيتْ لهُ معاييرُ ثابتة ٌ للنقد ِ والبحثِ العلميِّ ، وبينَ المدارس ِ النقديّةِ الغربيّةِ المُعاصرةِ ، والتي تصلحُ أن تطبّقَ على النظريّاتِ الغربيّةِ ، تلكَ النظرياتُ التي لا تقومُ على قدم ِ البحثِ العلميِّ أبداً ، ويكفي أن أشيرَ هنا إلى أنَّ نظريّة َ داروين في النشوءِ والارتقاءِ والانتخابِ الطبعيِّ ، مرَّ عليها ما يزيدُ على مئةِ سنةٍ ، ووضعتْ على ميزان ِ النقدِ والتحليل ِ فأثبتتْ فشلها الذريعَ ، مع أنّها كانتْ يوماً من الأيّام ِ ثورة ً في مجال ِ العلوم ِ ، وفتحاً عظيماً ! ، وقل مثلَ ذلكَ على نظريّاتِ ماركس ، وفرويد ، وغيرِهم .

هذا السقوطُ السريعُ للنظريّاتِ الغربيّةِ ، ومن قبلهِ الفشلُ الذريعُ للكنيسةِ أن تثبتَ في وجهِ العلم ِ التجريبيِّ بعد أن حاربتهُ قروناً طويلة ً ، جعلَ أصحابَ المناهج ِ الغربيّةِ يقعونَ في إسقاطاتٍ كثيرةٍ جرّاءَ ذلكَ الأمر ِ ، ويُلصقونها بالإسلام ِ وتعاليمهِ ومنهجهِ في الحياةِ ، وبحمدِ اللهِ أنَّ نظرياتِهم تهاوتْ أمامَ الحُجج ِ العلميّةِ التي قامَ عليها الإسلامُ ، ومشاريعهم النهضويّة ُ المزعومة ُ ماتتْ في مهدها ، وبقيَ الإسلامُ عزيزاً شامخاً مهيباً ، بالرّغم ِ من ضعفِ المسلمينَ في الدراساتِ الخاصّةِ بنقدِ الحضارةِ الغربيّةِ ونقدِ مناهجِها .

انتهى