المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قرآنيات



الشيخ عبدالرحمن عيسى
02-02-2010, 05:51 PM
قـُرآنيَّات
أسرار .. وتفسير
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم :
هذه أبحاث ومقالات , كُتبت في أواخر عاميْ : 1430 هـ ــ 2009 م .
المقالة الأولى بعنوان : على هامش القرآن المجيد .
والثانية بعنوان : فاتحة الكتاب .
والثالثة بعنوان : آية الكرسي .
والرابعة بعنوان : سنُريهم .
والخامسة بعنوان : وهذا ذكر مبارَك .
وكلها كما يبدو , نبعُها الفياض , من كتاب الله الخالد : القرآن المجيد .. نبعُ ماء الحياة الخالدة .. الذي يجدد ويعيد للناس روح الحياة , كلما ماتت فيهم الحياة ..
أبحاثها تدور حول مفهومات جديدة , تلقي مزيداً من الضوء , على حياتنا المعاصرة , بكل ما فيها من حُلو ومُر , ونفع وضر , وتنشر ألواناً من القراءات , الفاحصة عن مكنون بعض الآيات , وتدل على الله العظيم , من ثنايا كلامه الذاتي القديم , المفسر للوجود , والداعم بالحكمة الإلهية , ما يجرى على ظهر هذا الكوكب ..
لقد دخلتُ بها بحبوحة العالم الأكبر , والملكوت الأنور , وعُدتُّ منها بمدرَكات ومُعْطيات , يعز وجودها في هذا الزمن الردييء , والواقع الوبيئ , حيث الضحالة والسطحية , والتكرار والاجترار , واللغط الإعلامي الجامح , والاكتفاء بظاهر من القول , وغُـثاء من الفكر , وهُراء ساقط , من الإبداع المدَّعى والمزعوم ..
إننا في هذا العصر , مضطرون إلى أسلوب مبتكر وطريف , في كيفية التعامل مع القرآن : فهماً وتدبراً , ومحاولةِ استنباط وعيٍ إسلامي وإنساني , يتفق ويأتلف مع الاحتياجات الضرورية المُلحَّة , التي يستدعيها واقع الزمن , ومآلات الأمور فيه ..
لأن ما ترامى إلينا عبر القرون البعيدة , من تُراثٍ مختلف الألوان والمشارب , لم يعد كافياً ولا مُغنياً , ولا يحقق رداً شافياً , على كل التساؤلات والتحديات , التي لم تكن قبلاً , والتي يتعرض لها كل من يريد أن يستمسك بعرى الإيمان , ويهتدي بهُدى الدين , سيما وأن أكثرية ساحقة من هذه الأمة , تتساقط سلوكياً وعملياً , كأوراق الخريف , في يوم عاصف !..
إن تفاسير القرآن العزيز , على اختلاف ألوانها ومصادرها , كانت لأزمنة مضت : ضرورية وكافية , ومُجْدية في حياة المسلمين الماضية , حيث الفطرة والبساطة , والإيمان والتسليم , والجو الإسلامي الصالح , الذي يُعين المؤمن , ويُمده بطاقة الدفع والسير والسلوك , والتعبد والاتباع الحقيقي , والإخلاص لله سبحانه ..
وأما الآن , فأصبحت تراثاً وخبراً .. في أجواءٍ راهنة , مشحونةٍ بمنكرات وموبقات غير مسبوقة , وخطيئات ترتج لها السموات , وجرائمَ مبرَّرة , وخيانات مسوَّغة , ومخترعات وسرعات واتصالات , تـُذهل عقول صانعيها وتعطل المدارك والأفهام .. وتـُغشـِّي السمع والبصر , وتفسر الحياة بشكل مختلف ..
ومَثل ذلك , كمثل من يتداوى بمحلول عُـشبي , وهو مصاب بأوجاع لم تكن في أسلافنا قط , وأمراض مستعصية , وفيروسات متمردة , وخلايا متسرطنة , ولا ينفع معها حتى غـرفُ العناية المشدَّدة . نسأل الله الوقاية والعافية . وحسن الخاتمة .. آمين ..
مستوى المكتوبات :
فتأتي هذه الكتابات المكتوبة , على قدَر مقدَّر , تـَدحض الجهل المهيمن على العقول والنفوس , وماران على قلوب العباد , بما كانوا يكسبون : من غِشاوة الغفلة والغرور , والرضى والقناعة بالخنا والفجور!.. وتؤسس وتؤصِّل لوعي قرآني جديد أي هذه الكتابات .. إنها خطابات مضيئة , في أزمنة الظلمات المثيرة , وفي غمار الانحراف الكبير وتَفجر الإثم ما ظهر منه وما بطن , وانهيار الأخلاق والقيم , ونشوء قيم ومزاجيات , غريبة كل الغرابة , عن روحنا وديننا الحنيف , وهُويتنا الأصيلة , وأحالت عيشنا وعلاقاتنا ومعاملاتنا , إلى أسوإ ما يكون , وإلى خوف ورعب , ومستوىً غير نظيف ولا طاهر , حيث يتم تناول الحياة , بعيداً عن الشرعية والعقل ..
إن ارتباط هذه الأمة بالقرآن , ارتباطاً وثيقاً , هو ــ في الحقيقة ــ فوق كل الارتباطات , ومن وراء جميع الأواصر والعلائق , ارتباطاً تنمحق فيه الأنانية , والمصالح الشخصية , والمآرب المادية , وما هو انتماء ومرجعية , إلا انتماء النبوة , ومرجعية القرآن : قولاً وعملاً , وفكراً وتصوراً ..
وفي الأصل الأصيل , فإن الأمة التي تنتمي إلى القرآن : نهجاً وسلوكاً وعقيدة , لا مكان للضلال , ولا لليأس والبؤس في حياتها , ولا للظلم والإثم في سيرتها ومسيرتها .. وتسطيرِها صفحاتٍ مشرقة , في سجل التاريخ الصاعد ..
لأن القرآن المجيد , يغطي كل المناحي والظواهر , بكل ما يلزم من العناية الحقة , وتأمين أسباب الهداية , وتقديمِ التفسير الأمثل والأحسن , لما يَعترض من مشكلات وعقبات ومنعطفات . ((ولا يأتونك بمثـَل إلا جئناك بالحق وأحسنَ تفسيراً))..
فالمشكلات يحلها , والعقبات يتجاوزها , والمنعطفات يُـقومها , والتساؤلات القلقة والمقلقة , يجيب عليها بمصداقية وحيادية , وكشفٍ للغطاءات الخفية ..
وحينما هذه الأمة , تـَضل سواء السبيل , وتنطلق هائمة بلا هاديٍ ولا دليل , فإن معنى ذلك , إدبارٌ عن القرآن , واتخاذه مهجوراً , وتركه مهملاً ومغموراً , إلا من بعض تلاوات صورية , هنا وهناك , وفي المآتم والمناسبات , ومن أجل الجوائز والمـسابـقات , وتأمين العـيش الرغـيد , وقضاء الوطر والحاجة , وجمع المال : حرصاً وطمعاً , وممارسة الشهوات والمصالح : جنوناً وإثماً ..
كما يحصل الآن , بكل التفاصيل , وعلى المكشوف , إذ لم يَعُـد خافياً ما يتعرض له كتاب الله الخالد : كتاب الحياة والوجود : من امتهان مقصود وغير مقصود , على أيدي رجال قراءٍ ومرجعيات , تتكسب بالقرآن , وتأكل به الدنيا , وتـُثري على حساب الكرامة الإيمانية , وافتقاد النزاهة , ومصداقية الدين والمتدين والقاريء ..

الهدف الكبير :
لقد كان الهدف من نزول القرآن : تدعيمَ الإيمان في القلوب , والتزكية في النفوس , وتثبيتَ فؤاد الرسول , وبناءَ الحضارة القرآنية الفائقة , ومواكبة سير الأمة منذ البداية , وحمايـتـَها من التعثر , ومُضِلات الهوى والفتن , وتقويمَ كل اعوجاج قد يتعرض له المؤمنون , ورأبَ الصدع ومنعَ التصدع , في حياة المسلمين , وإحباطَ الوساوس والغوايات , التي يقوم بها جماعة الشياطين , وحلفاؤهم من أشرار الإنس !..
إن القرآن المجيد , هو أعظم منهج للحفظ الإلهي , في حياة الأمة : رجالاً ونساءً فرادى ومجتمعين , يحفظهم ويصونهم , من كل ما يؤذيهم ويُرْديهم , ويَحْظر أن تكون قالة السوء فيهم , وذلك بما ينصحهم ويوجههم إليه , ويحذرهم منه , ويجعلهم يعتبرون ويستبصرون .. ويستعصون على الخداع والمكر , فلا يُخدعون ..
هذا وإن تعامل الصحابة والتابعين , مع القرآن المبين , هو التعامل المثالي الأفضل , فقد كانوا يحفظون الآيات تباعاً , ويعملون بها فوراً , كلٌّ حسْب الوُسْع والطاقة , فجمعوا بين العلم والعمل , وأخذوا النص إلى حـيِّـز التطبيق , فصارت حياتهم مُصحفاً وقرآناً , ونشأ المجتمع الإسلامي الصادق , وشبَّت وترعرعت خير أمة أخرجت للناس , وتكونت أروع حضارة أخلاقية إنسانية , في التاريخ على الإطلاق !..
وما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب , وذلك بفضل القرآن العظيم , الذي كان الراية الكبرى , ينضوي تحتها كل مسلم : حاكماً كان أم محكوماً , قائداً أم مَقوداً , كبيراً أم صغيراً .. وهذا شأن مؤكَّد ومسلَّم به : تاريخاً وعهداً , وعصراً زاهراً , وأخلاقياتٍ باهرةً , وسيرة عَجيبة عجيبة ..
قابلية القرآن :
وقابلية القرآن , لأن يؤخذ به , ويـُتـَّبعَ هديه ونصحه , غير قابلة للشك والتردد بهيكلية مفتوحة على كل الأعصار والأطوار , دونما حرج ولا ضيق , ولا دونيةٍ ولا رجعية , ولا مثالية لا تقبل أن تكون واقعاً مُعاشاً , ولا حرفيةٍ محدودة , تجمد الفكر , وتمنع من الإبداع والتجدد , وتؤكد على العسر والتشدد ..
وما دام الأمر كذلك , فما مَـثـَلنا حينما ندير ظهورنا للقرآن , ونضل هذا الضلال العديمَ النظير , إلا كمثـَل العيس في البيداء يقتلها الظما : والماء فوق ظهورها محمولُ ! فمائدة القرآن ممدودة , والدعوة مفتوحة , ونحن نموت جوعاً وجهلاً , وظمأ إلى معرفة ما وراء ظاهر الحياة الدنيا , وننكفيء على أعقابنا مدبرين , ومن أعدائنا الكافرين والحاقدين , نلتمس أن تكون لنا هُوية , وحضارة ومدنية !.. ثم أليس الضعيف مُولَعاً أبداً , بمحاكاة القوي , ومجاراته في تصرفاته , خصوصاً إذا كان يمتلك ناصية عِلم كوني مقتدر , يهيمن به على هذا الكوكب , ويتحكم في آفاقه وأقطاره, الأمر الذي يجعلنا مَدينين له , حتى في قدح الماء , ورغيف الخبز , ووصفة الدواء , وتحقيق الشفاء , وتعبيد الطريق .. الخ ..
اللهم إلا أن تكون حضارة النار والحديد , والنفط والفحم الحجري , والإباحية المطلقة , والوحشية الهمجية الضارية !.. وهذا هو الوجه الآخـَر , لحضارة الغرب , وثقافته الاستعمارية العدوانية .. التي عشناها أكثر من قرن كامل ..
ونعود إلى القرآن .. وكما قال عليه الصلاة والسلام , فإن القرآن لا يضل من تمسك به , وهو حبل اعتصام لمن اعتصم به , ورائد فـَذٌّ لمن اتبع والتزم هداه , ولم يكن للأمة نصر بعد نكبة , ونهضة بعد كبوة , إلا وللقرآن الكريم , الفضل الأول , والقِـدْح المُعلىّ , إذ يفيء المسلمون عند الضرورة الملجئة , إلى ما يأمر به كتاب الله , تبارك وتعالى , ويأخذون بالجدوى من هَدي الله ورسوله ..
ولكن التعامل مع القرآن , على هذا النحو والمِنوال , ليس بالأمر الهين , وليس موكولاً إلى الأفراد , أن يفعلوه ويصنعوه , أي هذا التحول القرآني , بل لا بد من قيادة مؤمنة قوية , وريادة واقعية ومنطقية , تمسك بتلابيب الأمة , وتأخذ بناصيتها إلى وحدة الهدف والغاية , ومنطلق العمل الجماعي الواعد , والحشد الجامع لكل طاقة واستعداد وتأهب , تحت مِظلة القرآن , وبناء الإنسان الصالح ..
ولا بد لكل نهضة رشيدة , وعودة حميدة , من إرهاصات ومقدمات , توحي بما هو قادم , وتبشر بعكس ما هو قائم , مما لا يحتمله الواقع المتأزم , وعاداتـُه التي تكتسب صفة الاستمرار والديمومة , مع طول الأمد , وتراخي الزمن , فيظن الناس , وقد يعتقدون : أنْ لا مناصَ , وأن لا سبيل للخلاص .. وإن التقاليدَ المتبعة , والعوائد المعتادة , والانحرافاتِ المتجذرة , تنفي أية إمكانية لحصول منقلَب , وتغييرٍ محتملٍ ومرتقب .. فيمضي مركب الحياة , يمخر عـُباب بحر هائج ..

سنة التغيير القرآني :
ولكـنْ في الـقـرآن المجـيد , آليّات الـتـغـيير الإيجابي والسلـبي , ومقـتضى كل منهما , في إنجاز ذلك التغيير وتحقيقه ..
ومن الواضح لدى تدبر القرآن , أنه منهج كل التغييرات في الكون , وهذه التغييرات , دائمة ومستمرة , على شكل منعطفات وتحولات , في مراكز القوى والمسؤوليات ..
إن الحياة من عهد آدم , تجرى على هذا النمط الدؤوب : من مداولة الأيام بين الناس , وتوزيع المهام والأنـْصِـبة والأدوار , وتقليب هذه الدنيا , على كل جنب ووجه واتجاه ..
فدوام الحال من المُحال , كما يقولون , وإحداث تغييرات وتعديلات , في واقع الأوضاع والشؤون , مرهون بقانون الموت , والنزع والعزل , وتجريد من بيده الأمر من أولي الأمر , وجعله واحداً من الذين تجري عليهم الأحكام , كما تجري على غيرهم من الأنام ..
فبينا ترى ملكاً مُطاعاً , ورئيساً مرهوباً , وأميراً مُسَلطاً , إذا بهؤلاء جميعاً يخرجون عن كونهم كذلك , بموت يموتون به , أو عزل يواجهونه , أو مرض وعجز لا يطيقونه !..
وهذه تقاليد سنة التغيير , لا يمكن تجاهلها , ولا الهروبُ منها , وهي بالمرصاد لكل من يريد أن يجمد الحياة , عند وضع مُعـيَّـن , وأن تركع عند قدميه , وتتوقفَ حركة التاريخ : إكراماً لهواه ومصلحته وعينيه ..
وإن الحديث يدور حول التغيير الكلي , في بنية الوضع الإنساني , الذي يَطال أمماً وشعوباً , ويحـوِّل مسارها تحويلاً , ويُدخلها في مسار جديد , من المفاهيم والقيم والقناعات , وابتكار المباديء والشعارات , فيعتاد البشر عليها , وتصبح ملامح حياة مستقرة , ولكن إلى حين .. كما هو رائج ومؤكد , في نطاق الرصْد والملاحظة , والاستقراء المنطقي الثابت !..
ومن ثـَمَّ تحصل بعده التغييرات , لقلب صفحة الحياة مجدداً , بإحداث المعجزات الخارقة للعادات , وذلك بثورة شعبية , أو انقلاب عسكري , أو إتيان إلهي غير محتـسَب ولا محسوب .. وهكذا دَوالـيْـك ..
ولكن التغيير بشِـقيه : الإيجابي والسلبي , هو تغيير مختلف الموجبات والبواعث والنتائج والمقتضيات ..
فالتغيير الإيجابي : يحصل بمحض المنة الإلهية ابتداء , بعد ليل طويل , وظلام وظلم وكربات , وأهوال تـَشيب لها رؤوس الأطفال , وتـَظهر هذه المنة , على شكل روّاد يصنعون الحياة الجديدة .. حسْب استراتيجية مفـترَضة ومتصوَّرة ..
وأما التغيير السلبي , فإنما يكون وينجم , نتيجة تفلتٍ متـعــمَّـد , وتـَخففٍ من أعباء الحق والصدق والأمانة , وتغيير ما بالنفس من نية الطاعة لله , والإصرار على معصية الله , ومجافاة طريق الله : إيثاراً لطاعة النفس والشيطان , واتباع خطواتهما الـمُـذلـة .. التي تـَزيد الأمة رهَـقاً على رهَـق ..
وهنا يأتي قوله تعالى : (( إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم .. )) وهو التغيير السلبي , الذي يُودي بالناس , إلى أن يخرجوا من النور إلى الظلمات , ومن الحياة الـطيبة , إلى الحياة الرديئـة والـفـاسـدة !. استـبدالاً للذي هو أدنـى بالـذي هو خير , وتبديل نعمة الله كفراً , واتباعاً للهوى , وغـروراً بالدنيا : قناعة وإيثاراً ..
ويخطيء كثير من الناس , حينما يفسرون هذه الآية , بأن إحداث تغيير في حياتهمُ الـمُعْـوَجَة , مرهون ومرتبط بتغيير ما بأنفسهم , تغييراً إيجابياً هم يُحْدثونه , وهذا خطأ فـاحش , فإن الناس لو تـُركـوا وشأنهم ألـفَ عام , فـإنهـم لن يستـطـيـعوا أن يفعلوا ذلك , بمحض إرادتهم النفسية الأمارة بالسوء , وإلا كان لهم الفضل على الله !..
وما أشد غباءَ الذين يقولون للناس ــ بلغة الخطابة ــ : غيروا ما بأنفسكم , حتى يغير الله ما بكم من النقمة والضراء , وعيشة الضنك والبأساء , وعودوا إلى الكتاب والسنة .. هكذا بدون أسوة رائدة , ولا مُعيد مُـؤهَّـل , ومبعوثٍ للعناية الإلهية الحقة !..
ومنهم من ألف بعنوان : حتى يُغـَيروا ما بأنفسهم ..
وبهذه البساطة وباديَ الرأي , يحكمون على الأمة , أن تستمر في ضياعها وشتاتها , ويُسقطون دور العناية الإلهية , والتدخل الإلهي في هذا السياق ابتداءً ومِنة , وفرجاً ومخرجاً , وأسبابَ هداية فاعلة , تهدي قلوبهم , وتأخذ بأيديهم ونواصيهم ..
ويقول الله سبحانه , مبيناً سنة التغيير السلبي : (( ذلك بأن الله لم يكُ مُغيـِّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )).((ألمْ تـَرَ إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً))
وأما سنة التغيير الإيجابي , ففي قوله تعالى :
(( لقد مَنّ الله على المؤمنين ...)). (( وعَـلمك ما لم تكن تعلم ...)) . (( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ... )). (( واذكروا إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )) . (( الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهمُ الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ... )) ..
عاقبة التوليِّ والإعراض :
ولكن ومهما يكن من أمر , فإنه لا عذر أصلاً , لمن يُعرض عن ذكر الله , ويأخذ بنصائح أعداء الله , ودعوة الشيطان , ليكون حزبه من أصحاب السعير .. ويخالفون عن أمر سيدنا رسول الله , صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ..
وقد قال عز مِنْ قائل : (( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) ..
ومن مجموع المخالفين والمعرضين والفاسدين , تتكون الأمة المهزوزة الكيان , المتداعية القوة والسلطان , التي يُفترض فيها حينئذ , أن تتلقى الأوامر والتعليمات والشروط , من أعدائها الألداء والأقوياء , الذين لا يريدون لها عزاً ولا مَنعة , ويخططون لعارها ودمارها .. وسوء مصيرها ..
لقد كـُتب على هذه الأمة , أن يكون ــ في الأصل ــ قـدَرها سامياً , ومنصبها عالياً , ومسؤوليتها غالية وكبيرة : خلاصاً وإنقاذاً لأهل الأرض جميعاً , وهكذا كان ..
وأما الحالة الراهنة , فهي استثناء من القاعدة , وقد ضل العالَم بضلال المسلمين وماذا خسر هذا العالم بانحطاطهم , وخروجهم من دائرة الحركة التاريخية المشهودة , إلى هامش حياة التداعي والهبوط ؟..
ولكن الله ذو فضل على العالمين , وذو مِنة خاصة على هذه الأمة , بالإبقاء على القرآن المجيد , خالداً إلى قيام الساعة , ويتيح لها الفرص النادرة , كلما عبس الزمان , كي تعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية , ويَعودَ الحق إلى نصابه وأربابه , وتستعيدَ الأمة مقعدها تحت الشمس , في سياق آلـيّات وأحداث وملاحم , وقائدٍ رائد ملـهَم , تمهد له , وتـُوَطيء لقدومه : تطورات وتحولات وسياسات , قد تختلط فيها الأشلاء , وتسيل الدموع والدماء , ومن ثـَمَّ تنشأ ناشئة المستضعفين والمعذبين والمظلومين , من المؤمنين , المحتسبين الصابرين , الذين على عواتقهم تنهض الرسالة , وإليهم تكون الإمامة , في المحصِّلة والنتيجة .. والعاقبة ُ للمتقين ..
والآن يكتشف الجميع , أن الله هو الحق المُحِـق : في قوله وفعله وحكمته , وأن الأعداء هم المُدانون والمفـرِّطون , وهم الذين يملأون الأرض : فساداً وظلماً وجوراً ويطبقون منهج الشيطان الرجيم .. ويأبى الله إلا أن يُتم نوره , وإلا أن يأتي أعداءه من حيث لم يحتسبوا , ويُخرجَ الحي من الميت , ويُطلعَ الصبح من ظلمات الليل والويل ..
التحول الأكبر :
مما لا شك فيه , أن القرآن المجيد , قد أحدث نزوله : ثورة وتحولاً جذرياً , في بقاع هذا العالم , كما كانت البعثة النبوية المحمدية , هي كذلك أيضاً ..
كانت الحياة قتاماً وظلاماً , كما كانت ظلماً واضطهاداً للأنبياء المرسَلين , ففريقاً يُكـذبون , وفريقاً يُـقـتـَلون !..
ولم تتمكن رسالة من النجاح الواعد والصاعد , في عهد ما قبل الإسلام !.. بسبب المقاوَمة الغالبة المتغلبة , التي كانت تتعرض لها تلك الرسالات , في تلك الأزمنة العصيبة , التي لم يكن لأهل الإيمان فيها من خيار : سوى الإيمان أو الـموت : حرقـاً أو صلباً , أو طعاماً للأسود و الفهود !..
وكان العقاب وعذاب الاستئصال , يحصد الأمم والأقوام حصداً , ويبيدهم من الوجود , ويَـقـلب قراهم ومساكنهم عليهم , ويجعلهم كجذوع نخلٍ خاوية , أو كهشيمِ المحْتظِر , أو كعصْفٍ مأكول ..
ولكن ذلك كله , قد رُفع بنزول القرآن دُفعة واحدة , وأنهيَ هذا الأسلوبُ إلى الأبد , بالرحمة المهْداة : نبينا محمد صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم ..
أما هذه الأمة , فقد أعطيت أمانيْن , وليس أماناً واحداً .. يقول سبحانه :
(( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبَهم وهم يستغفرون )) .
ويقول : (( ويضع عنهم إصْرهم والأغلال التي كانت عليهم .. )) ..
فصار سكان الكرة الأرضية جميعُهم : أمة للحبيب الأعظم , مرحومة رحمة عامة شاملة .. وكما قال سبحانه : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ..
فحِدة الاضطهاد والحرج الشديد والتضييق , قد خـُففت إلى حد كبير , والمؤمنون يستمتعون بحماية إلهية , غير مسبوقة , والإتاحات والفرص الربانية , قد مَنَّ الله بها أخيراً , وتجلياتُ الصبر والإمهال , والتوسعة والصفح الجميل , تملأ السمع والأفئدة والأبصار : يقيناً وتطميناً , ورخصة مفتوحة , ومَخرجاً متنوعاً , وفرجاً قريباً ..
في حين أن جماعة الأنبياء المرسَلين , لم تكن فرص النصر والغلبة كافية لهم , ليحققوا نبوتهم , وينشروا رسالتهم ..
وأما المؤمنون بهم , فإنهم على قلتهم , لم يكونوا بمنجاة من أشد التعذيب والتحريق , والتنكيل الأشد فظاعة وهولاً ..
قصص الأنبياء : مسلسل مُرعب ومُرهب , لا يكاد يكون له نفاد و انتهاء , وتستمر آليات البلاء والعناء , وتجبر الأشقياء , بحق المؤمنين والأنبياء ..
فهل أدركنا مدى الرحمة العظمى , التي عمت الكوكب وسكانـَه , بالقرآن والإسلام , وبسيد الأنام ؟.. وهل انتبهنا ولاحظنا كونَ الرسالة النبوية , كان لها هذا الحشد الكبير , من الانتصار الباهر والخالد , الذي لم تعرفه الأزمنة والظروف قبلاً !..
وهل حمدنا الله سبحانه الذي رفع عنا : ما كان مفروضاً على مَنْ قبلنا , وأيَّة حرية لم تشهد الدنيا لها مثيلاً , قد تفضل الله بها علينا , فكنا حقاً أحراراً في إيماننا وديننا , وخيارات ربنا التي كلها يُسر وتيسير وسهولة , وتخفيفٌ إلى أقصى حد ممكن ورحـمة جـديـدة ومـديـدة من رب غـفـور رؤوف رحـيم , يَـمن بالخـير , ثم يُـثـيـب علـيـه الجزيل , ويتقبل من العمل والإيمان ما نـُطيق , دونما إحراج ولا تضييق ..
والله سبحانه وتعالى أجلُّ وأعلم , والحمد لله رب العالمين ..