المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تأصيل قوي: في منهج التلقي ومعرفة الدليل، وأن الدين قائم على البرهان ..



مالك مناع
02-04-2010, 08:52 AM
قال العلامة صالح آل الشيخ -حفظه الله- (نقلاً عن الأخ حامد بن حسين بدر):

مسألة عظيمة من مسائل الاعتقاد والعمل وهي: أنّ الدّين قائم على البرهان، والأمور التي يتعاطاها النّاس ثلاثة:

- أمور عاطفية؛ يعني برهانها العاطفة الغرائز، يعرف الجوع، يعرف العطش، يعرف الخوف، يعرف الرحمة بعاطفته وفطرته.

- والنوع الثاني برهان عقلي وهي الأمور التي يتعاطاها بعقله فيقيس ويُعَلِّم ونحو ذلك من الأمور العقلية، وهي التي خدمها المنطق بشكل عام.

- والنوع الثالث من البراهين: البراهين الدّينية، والبرهان الدّيني مبني على مقدمة، وهي مقدمة الاستسلام لمصدر التلقي.

ولهذا لا يصحّ أن يُخلط بين هذه البراهين، فالدّين ليس مصدره العقل وليس مصدره العاطفة، وإنما مصدره نوع من البراهين، وذلك لم يتكلم عليه الفلاسفة ولا المناطقة وهو البرهان الديني المنبني على مقدمات دينية بحتة.

وهذه المقدمات الدينية الشرعية -في التصديق بها- مبنية على براهين متنوعة؛ التصديق بوجود الله، استحقاقه للعبادة، التصديق بالرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، التصديق بالرسل الآيات التي أوتيها والبراهين، فيما ذكرنا لك كل هذه براهين.

وهذه البراهين عقلية في أولها ودينية في ثانيها؛ يعني أنّنا حين نستسلم سنستسلم للبرهان الذي استسلمت له الأمم التي قبلنا، فالصحابة رضوان الله عليهم رَأَوا هذه البراهين واستسلموا لها بصدق عن قناعة وعن ديانة، ثم بعد ذلك تبعهم من تبعهم في التسليم لأنهم سلَّموا، ثم تبعهم من بعدهم في التسليم لأن من قبلنا سلم في كثير من الدلائل.

ويبقى الدليل العام للشريعة في العقيدة وفي الفقه وهو أنه ما كان في كتاب الله جل وعلا أو في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق وهو البرهان.

وما قبل هذا البرهان ثَم براهين أُخر لا مجادلة في هذه الملّة -يعني في أتباع الفرق- على صحة هذا البرهان من الكتاب ومن السنة؛ لأن الجميع يُقرّون بهذا البرهان ما جاء في كتاب الله وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حق، فإنه هو برهان؛ لكن هل هو البرهان الأول أو هو البرهان الثاني؟ هل يُسلَّط العقل على الكتاب والسنة أم لا يسلط والعقل تبع؟ ونحو ذلك، هو جاء من جهة الخلط ما بين أنواع البراهين الثلاثة التي ذكرتها لك.

هذه مقدمات بين يدي المسائل؛ مسائل البحث.

العقلانيون خلطوا بين البراهين الثلاثة، فجعلوا البرهان العقلي والبرهان الديني واحد؛ بل جعلوا البرهان العقلي متسلطا على البرهان الديني، لأنَّ العقل به عُرف الشرع به عُرفت صحة الشرع، وهذا ليس بصحيح كما سيأتي في رد هذه المقالة.

فإذا صدَّقت وأيقنت أن الكتاب والسنة هما الحق المطلق؛ لأنّها من عند الله جل وعلا -فالسنة وحي-، فإذن الرجوع في البرهان والدليل سيكون إلى الكتاب والسنة، وإذا كان ثَم شك أو ثَم تردّد فإنّ المرء لا يسلم في دينه؛ لأنّ البراهين كما ذكرنا لك ثلاثة:
- برهان عاطفي.
- وبرهان عقلي.
- وبرهان ديني.

والبرهان العاطفي لا ينضبط -عواطف الناس مختلفة-.

البرهان العقلي لا ينضبط؛ لأنّ القائل حينما قال -وهم العقلانيون من المعتزلة والأشاعرة وجماعات- حينما قالوا: العقل ينبغي أن يُقدّم على الشرع. فالعقل غير منضبط، عقل من؟ هل ثم عقل واحد أُجمع عليه في النظر إلى الأشياء؟ لا، في النظر إلى الكونيات ليس ثَم عقل واحد عند الفلاسفة، اختلفوا في النظر إلى الطبيعيات في الأرض، الذين قدّسوا العقل اختلفوا في مقتضيات ذلك، اتّفقوا على قاعدة: العقل، لكن عقل من؟ هل اجتمعوا؟ لا، ولذلك اختلف أصحاب المدرسة العقلية إلى أنواع شتّى:

فالجهمية من أصحاب المدرسة العقلية.
والمعتزلة من أصحاب المدرسة العقلية.
والأشاعرة أيضا من أصحاب المدرسة العقلية إلى حد ما، ونحو ذلك.

ولكنهم مختلفون في عقولهم وإدراكاتهم.

إذن فإذا كان البرهان العاطفي غير منضبط، والبرهان العقلي غير منضبط، فإذن البرهان الديني يجب أن يبدأ من المستوى أو يبدأ من المقدمة التي هي ثابتة بيقين، وهذه المقدمة الثابتة بيقين هي الكتاب والسنة؛ لأنَّ الكتاب وحي الله جل وعلا، وآمنا بذلك عن برهان،... فإذا كان كذلك كان البرهان الذي يصحّ أن يقال إنه يُتفق عليه بلا خلاف هو برهان الكتاب والسنة.

ولهذا إذا جاء إشكال في الاعتقاد تُرجعه إلى التّسليم لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فالكتاب والسنة برهان صحيح، فإذا لم تُدرك العلة فإنّ ذلك ليس معناه أنّه خلل في البرهان إنما هو خلل في التلقي، خلل في إيضاح ذلك البرهان، أو لأنّ البرهان الذي هو الدّليل لم يوضح لنا هذه الأسرار.

كذلك في أمور العبادات الصلوات ليش خمس؟ ليش أربع؟ الفجر ثنتين ثلاث، لماذا الحجّ على هذه الصفة؟ لماذا الطهارة على هذه الصفة؟ كل هذه مبنية على مقدمة من التّسليم، وهو التسليم للكتاب والسنة.

فلهذا هذا البحث الذي ذكره الطحاوي في هذه الجمل يسمّيه بعض المعاصرين تسمية حديثة وهي: وحدة مصدر التلقي، فمصدر التّلقي من أهمّ المسائل التي يجب أن يُبحث فيها فإذا اختلفت أنت وأناس على شيء، فلا بد أن يكون هناك مرجعية في البرهان حتى تنطلقوا منها........

إذن هنا مسائل:

المسألة الأولى: أنَّ الناس في تلقّي الشريعة -الناس؛ يعني هذه الأمة الفرق جميعا- انقسموا إلى أقسام:

القسم الأول: من كان عقليا محضا؛ يعني جعل العقل حكما على الشريعة، وجعل الشريعة تابعة للعقليات.

الثاني: من جعل الشريعة خالية من البرهان العقلي البتة؛ بل الشريعة جميعا عندهم ليس فيها علل ولا تعليل بقسميها العقيدة والشّريعة.

الثالث: من توسّط بين الفئتين، وقال: إنَّ الحكم الشرعي، إنَّ الشّريعة العقيدة الأمور الغيبية وكذلك في العمليات: العقل مفيد فيها، والعقل خادم للشريعة وليس حكما عليها، فنستفيد بالعقل في بيان العلل والأحكام وفهم الشريعة واستخراج الأفكار؛ لأن الله جل وعلا جعل القرآن لقوم يعقلون.

هذه الثلاث مدارس كبيرة:

- المدرسة الأولى يمثلها الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة في أصول مباحثهم.
- والمدرسة الثانية يمثلها الظاهرية في الفقه وكذلك في الاعتقاد، ويمثلها الأشاعرة والماتريدية في مسائل الأسباب.
- والثالثة منهج أهل السنة والجماعة.

.................

المسألة الثانية: أنَّ التسليم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم هو تسليم للحق المطلق، والبراهين التي يتعاطاها الناس في العقليات وفي مصدر التلقي هذه البراهين تختلف -كما ذكرت لك تنقسم إلى أقسام ثلاثة-، والتسليم يعني أن البرهان الديني الشرعي يقين، وأنَّ البرهان العقلي ناقض، وأن البرهان العاطفي فطري؛ معنى ذلك أنَّ البرهان الديني يقيني في مقدماته نصل إلى صدق الكتاب والسنة.

أنواع البراهين التي اعتمدتها المدرسة العقلية:

- الأول يعتمد على الحس.
- والثاني يعتمد على التجربة.
- والثالث يعتمد على تصديق اللاحق بالسابق.

- أما البرهان الأول وهو البرهان العقلي الضروري: فالله جل وعلا جعل للإنسان أعضاء سمع بصر لسان؛ يعني جعل له حواسّا كما قال سبحانه ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[النحل:78]، فهذه الثلاث هي التي يسميها الفلاسفة والمناطقة يسمّونها وسائل تحصيل المعرفة، هذه وسائل ضرورية حسية؛ يعني بعينك حصل لك البرهان، بسمعك حصل لك البرهان، بيدك لمست الشيء حصل لك البرهان، فالمعرفة جاءت من براهين ضرورية مُحَسَّة ليست خارجة عن المحسوس، ولذلك ما يُجادل أحد في هذا بهذه البراهين إلا طائفة لا يُعبأ بها يجادلون في الضروريات.

ثم بعد ذلك بُنيت المعرفة من الحسيات من طريق المقارنة بين هذه المعلومات التي جاءت بالوسائل الحسية؛ يعني نأتي نقول:

هذا طويل، هذا العمود طويل، الآخر ليس في طوله. عرفنا حجم هذا وطوله بالعين، فصار الحجم وصار الطول مدركا محسوسا بأمر ضروري، ثم بعد ذلك يُنسب له الشيء آخر، فإذا رأينا ما هو أقل منه قيل هذا أطول، فيأتي آخر وينازع ويقول القصير أطول من الطويل، لا يُقبل، لماذا؟ لأنه المقارنة ما بين هذا وهذا حَصلت بمقدمات يقينية؛ لأن المقدمات الحسية يقينية، مقدّمة العين أنها حست بهذا أنه أطول من ذاك، لا يمكن أن يأتي يجادل ويقول هذا أطول، القصير أطول من الطويل؛ لأن هذا شيء مدرك بالعين، وهذا ينتج في كل المقدمات الحسّية.

وانتبه لمسألة المقدمات الحسّية؛ لأنها أقوى البراهين للضروريات، تشرب ماء تقول هذا بارد يأتي آخر ويقول –إذا كان بارد جدا- يأتي آخر ويقول: هذا حار يغلي. لا يمكن، لماذا؟ لأن البرهان عليه الحسّ.

فلان مثلا ملتحي، يأتي آخر، يقول: لا هذا حالق لحيته. هذا لا يمكن أن يكون ثم لأن البرهان حسّي.

كذلك السمع يقول هذا صوت إنسان، قال آخر: لا هذا صوت مثلا إيش؟ صوت سيّارة مثلا، لا يمكن، هذا يتكلم لهذا؛ لأن البرهان جاء سمعي.

وهذه تعتمدها هذه النقطة لأنها تفيد في قضية الاستسلام.

هذا البرهان الحسي هو الذي بنى عليه طائفة من الناس الكلام على نظرية المعرفة وتكلّموا فيه.

قلنا اعتمدوا على الحس -يعني أهل العقل-:

- اعتمدوا على الحس.
- وعلى التجربة.
- وعلى تقليل أو متابعة اللاحق للسابق.
- التجربة ما يصلح للتجربة تكون التجربة برهانا صحيحا له؛ لكن ما لا يدخل تحت التجربة، كيف تكون التجربة برهانا صحيحا له؟ فنقول: الله جل وعلا جعل الخلق على قسمين، بل نقول؛ جعل الأشياء –أحسن من الخلق-على قسمين:

- قسم لا تدخله الأهواء لتغير حقائقه.
- وقسم يدخله الهوى ليغيّره.

والله جل وعلا جعل كلماته تامّة ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾[الأنعام:115]، ما لا يدخله الهوى لم تأتِ الشرائع ببيانه، وهو غاص فيه الفلاسفة، وغاص فيه العلماء، وغاص فيه الباحثون، لم تأتِ الشرائع ببيانه؛ لأنه لا يدخله الهوى، واحد زائد واحد يساوي اثنين يساوي ثلاثة يساوي أربعة لم تأتِ به الشرائع؛ لأن هذا خلق الله جل وعلا الأشياء واحد زائد واحد يساوي اثنين، خلق الله جل وعلا الجبل فيه من المكونات كذا وكذا، خلق الله جل وعلا الجاذبية على هذا النحو وقوانين الجاذبية على هذا النحو، لا يمكن لهذه الأشياء أن تدخلها الأهواء، ولهذا لم تتعرّض لها الشرائع، ولم تتعرض لها الديانات، وتُرك إنتاجها والبحث فيها للناس؛ لأن هذه سيصلون إليها بالتجربة، سيخطَّأ المخطئ وسيصوّب المصيب؛ لأنّ الشيء ماثل أمامهم، ليس لهم هوى في أن يجعلوا معامل الجاذبية كذا يزيدون واحد أو ينقصون واحد من عشرة ما لهم، الهوى ما يدخل في هذه المسائل.

التجربة، إذن قلنا إن الشرائع جاءت لما فيه إخراج الإنسان من داعية هواه.

فالأشياء التي يتحكم فيها الهوى جاءت الرّسالات لها، يتحكّم الهوى في علاقات الناس بعضهم ببعض، يتحكّم الهوى في العبادة، واحد يريد أن يخرج من التّكاليف، يريد أن يعمل ما يشاء، يفعل ما يشاء، يقتل، يسرق، يفعل ما يشاء، الهوى يدخل في حرّية الإنسان، يدخل في هل يتعبّد أم لا يتعبّد، في علاقته بأهله، في علاقته بمجتمعه، في علاقته بأسرته، إلى آخره، هذه أشياء يدخلها الهوى؛ لهذا جاءت الشريعة بضبطها.

إذن فنقول: التجربة في العقليات صحيحة لكن فيما لا يدخله الهوى، أما ما يدخله الهوى فلا تصح التجارب فيه، قال جل وعلا ﴿وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾[المؤمنون:71]؛ لأن الأهواء غير منضبطة، والحق واحد لا يخضع لهوى.

تجارب المجربين تصلح إذن فيما يمكن عمل التجارب عليه....

هل ثَم سلطان للتجربة عليها؟ لا، الأمور الكونية لا مجال للتجربة عليها ولهذا قال [العلماء العصريين] في الأمور الدنيوية -الغربيين وغيرهم من الحذاق-: إن المرء كلما أوْغل في العلم بالكونيات كلما ازداد معرفة بأن فيها أسرارا لا تدرك.

ولهذا الأمور الكونية صعب أن تخوض فيها بإدراك تام، تجارب لكن ستبقى تجارب، وإذا كانت ليست مسلّمات، فإذن لا يمكن أن نُخضع لها الحق المطلق.

- النوع الثالث من البرهان العقلي أو المدرسة العقلية التي اعتمدتها المدرسة العقلية: أنَّ المتأخر يسلّم للسابق، يأتي يقول.

أنظر مثلا للمعتزلة، المعتزلة في أصلهم سلَّموا للفلاسفة بصحّة أنواع البرهان العقلي، فإذن ثَم تقليد.

المتأخرون سلّموا لمن قبلهم.

الأشاعرة سلّموا للأولين في البرهان.

إذن ثَم تقليد، فقولهم برهان عقلي، وهذا عقل؛ لأن الشرائع مبنية على التقليد، هذا غير صحيح منطقيا؛ لأنه أيضا أهل البرهان العقلي يسلمون لأوائلهم الصحة في البرهان، فيبتدئ من برهان الأشعري، الأشعري مثلا بدأ ووصل إلى شيء، فيبتدئ أصحابه من النقطة التي وصل إليها، وينطلقون منها.

فإذن قولهم العقليات تُخْلِي من التقليد ومن التسليم ومن الاستسلام وتطلق الحرية، فهذا غير صحيح؛ لأنه ما من أحد إلا ويسلم لمقدمات من سبقه، فإذا كان التسليم لبشر ليس معصوما من الخطأ، فالتسليم لمن هو معصوم من الخطأ من جهة البرهان أولى، فإذا كانت المسألة مسألة تسليم واستسلام، فالتسليم لمن لا يخطئ أولى.

لهذا تجد أنّ من المتأخرين -حتى في العصر الحاضر من أهل العقليات- تجد أنهم يحيلونك على شيء؛ لكن هذا الشيء بنوه على التقليد، يقولون طبعا هو كذا، طبعا في عُرْفِ من؟ لماذا هذا صار طبعا؟ لأنه شيء غير مشكوك فيه، لماذا صار غير مشكوك فيه؟ إذا كان المرجع إلى حس فلا مجادلة إلى الحسيات، إذا كان المرجع على أمور تجريبية أو إلى نظريات فالذي يُحيل الأمور في الاستسلام إلى الدّين أَوْلى فيمن يحيل الأمور في الاستسلام على أصحاب العقليات؛ لأن أصحاب العقليات يقلد بعضهم بعضا، وأصحاب الديانات صحيح نقول صحيح المتأخر يسلم للأول براهينه ولكنه يصل إلى برهان يقيني هو الكتاب والسنة، وأما تقليد العقليات فإذا كانت راجعة إلى أشياء صحيحة فهذا تسليم لاشك فيه ما نجادل فيه؛ لكنهم في كثير من مباحثهم يتابع المتأخر الأول.

أنظر مثلا إلى قضية ترتيب الأفلاك، الناس قرون بل آلاف، منذ بدأ اليونان الكلام على ترتيب الأرض والشمس والكواكب السبعة في الكون وهم على نحو ما، إلى وقت قريب تغيّر، هذه الأمم آلاف السنين التي مرت من الفلاسفة الفلكيين الإسلاميين والفلكيين اليونان والمدرسة الرومانية إلى آخره، هذه الأمم والمدرسة الهندية في الأمور العلمية والفلك، التتابع في الطب كذلك، كلّ هذه ألم يسلم المتأخر للأول؟ سلّم له، ظهر الآن أن تلك الأشياء جميعا غير صحيحة، لماذا كانت غير صحيحة؟

لأنهم -كما ذكرنا لك- وضعوا تجارُبا؛ لكن التجارُب صارت على أمور خارجة عن حيز التجربة الذي يُنتج نتائج صحيحة.

المقصود من هذا -هذه مسألة عظيمة ما نحب نطيل فيها- هذه المسألة راجعة إلى البرهان الحقّ في أنَّ أقوى البراهين هو البرهان الديني.

لذلك نقول لك: هذه الثلاثة من الأشياء العقلية:

- البرهان الحسي نقول صحيح، ما فيه إشكال فيه، وكل المعرفة قامت على هذه البراهين الحسية.
- برهان التجربة منقسم إلى ما يكون ثَم تجربة ناجحة فيه، وما لا تنجح فيه التجربة.
- البرهان الثالث برهان متابعة اللاحق للسابق، هذا أيضا لابد يخضع للدراسة لأنه قد يكون الأول مخطئا في برهانه العقلي، كما هي كثير من الأمور العلمية والنظرية، فضلا عن أمور الغيبيات والإلهيات.

إذن نستخلص من هذه المسألة الثانية إلى أنّ أنواع البراهين الثلاثة، من قال البرهان العقلي، هذا تجده عند جميع العقلانيين حتى في العصر الحاضر ....

فإذن نقول: المنطق أو العقل منقسم على ثلاثة أقسام:

- شيء حسي.
- تجربة.
- فيه أشياء فيها تقليد.

كيف عرفت أنّ هذا المنطق؟ قال: فلان. فيحيله على من قبله، فإذن تكون المناقشة مع من قبله، إذن تبقى المسألة خاضعة لبحث ورد.

أما المصدر المتيقّن بمقدماته هو مصدر الكتاب والسنة، وما ذكرتُ لك وبرهان كون الكتاب من عند الله جل وعلا تقدم، برهان وجود الله جل وعلا معروف، برهان النبي؛ برهان النبوة متقدم.

هذا تأصيل مهم في منهج التلقي ومعرفة الدليل والاستسلام له لأنه ما يسوغ أن يقال في علم العقيدة بالخصوص أن يكون غير مبرهن، العقيدة ليست قضايا نظرية! لا، برهانية ، برهانية واضحة مثل هذه اللّمبة التي أمامنا مثل الشمس في رابعة النهار، ما عندنا شك في ذلك؛ لكنها بأنواع البرهان الذي ذكرت.

يحيى
02-04-2010, 02:13 PM
هممممم...

مقالك في مجمله جميل و بين أسطره ما يسبب بعض التساؤلات أو قل استفسارات.
أستاذنا الفاضل مالك
شكرا لك و بارك الله فيك

لكن قبل أن أطرح سؤالي أود أن أفهم أولا ما مفهوم العقل عندك؟
هل يمكن أن أجد إجابة في هذا الموضوع القيم: (مفهوم العقل بين الأصوليين والفلاسفة (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=14301)) أم عندك شيء آخر تُعرّف به مفهوم العقل الذي استخدمته هنا في مقالك؟

مالك مناع
02-04-2010, 09:45 PM
بارك الله فيك أخي الكريم .. كنت قد وضعت هذه المشاركة من قبل في موضوع "حقيقة الروح"، تجد فيها الإجابة على سؤالك:

إنَّ العقل في اللغة يُطلق على المنع والحبس، ووجه تسمية العقل بهذا الاسم: كونه يمنع صاحبَه عن التورطُّ في المهالك, ويحبسُه عن ذميم القول والفعل.

وللعقل معان أربعة:

المعنى الاول: الغريزة ـ التي هي إحدى معاني العقل ـ شرطٌ في المعقولات والمعلومات, وهي مناط التكليف؛ فإذا عُدِمَتْ في الإنسان, سقطت عنه التكاليف الشرعيَّة. وهو منقول عن الامام أحمد.

يقول أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) , إنَّه: "الوصفُ الذي يُفارق الإنسان به سائر البهائم, وهو الذي استعدّ به لقبول العلوم النظريَّة, وتدبير الصناعات الخفيَّة الفكريَّة".

وعن هذا المعنى نفسه, يقول ابن تيمية: "العقلُ شرطٌ في معرفة العلوم, وكمال وصلاح العمال, وبه يكمل العلم والعمل, ولكنَّه ليس مستقلاً بذلك, لكنَّه غريزةٌ في النَّفس, وقوَّة فيها, بمنزلة قوَّة البصر التي في العين".ويُلاحَظ تشبيه العقلَ بالبصرِ.

وقد سبقه إلى هذا التشبيه البليغ قومٌ, قالوا عن العقل: "هو نورٌ وضعه الله طبعاً وغريزة, يُبصر به, ويُعبّر به. نورٌ في القلب, كالنُّور في العين, وهو البصر.."، لكنّ هذا البصر إنَّ اتصل به نور الشمس, أو ضوء النَّار, صار أشد قوَّة وإبصاراً, وإن انفرد بنفسه, ضَعُفَ، كذلك صاحب العقل إن وصله بنور الإيمان والقرآن, اهتدى وسَعُدَ. وإذا لم يتصل بهما عجز عن إدراك الأمور التي لا يُمكن أن يستقلّ بإدراكها.

وهذا معنى قول ابن تيمية عن العقل, إنَّه: "بمنزلة قوَّة البصر التي في العين؛ فإن اتّصل به نور الإيمان والقرآن, كان كنور العين إذا اتَّصل به نور الشمس والنَّار. وإن انفردَ بنفسه, لم يُبصر الأمورَ التي يعجز وحدَه عن دَرْكِهَا"، وهذا التشبيه الرائع مع ابن تيمية ـ ومِمَّن سبقه ـ ينطبق على أولئك الذين اعتصموا بالكتاب والسنَّة, وعلى مخالفيهم الذين اتّكلوا على عقولهم, معرضين عن الاهتداء بنور الوحي, فعموا عن الحقّ, وضلّوا عنه, وآل أمرهم إلى التخبُّط والحيرة.

المعنى الثاني: العلومُ التي تُلازم الإنسان العاقل؛ فتقع في نفسه ابتداءً, ولا تنفكّ عن ذاته؛ كالعلم بالممكنات, والواجبات, والممتنعات. كالعلم بأنّ الاثنين أكثر من الواحد, وأنَّ الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقتٍ واحدٍ", وأنَّ "الشيء لا يخلو من وجودٍ أو عدم, وأنَّ الموجود لا يخلو من حدوثٍ أو قِدَم, وأنَّ من المحال اجتماع الضدَّين". وهذه العلوم "تشمل جميعَ العقلاء".

المعنى الثالث: العلوم المستفادة من التجارِب, والمكتَسَبَةُ بواسطة العقل, والتي يضبطها الإنسان, ويُمسكها، وهذا العقل يُعدُّ نتيجةً للعقل الغريزيّ, وهو "نهاية المعرفة, وصحّة السياسة, وإصابة الفكرة. وليس لهذا حدٌّ؛ لأنَّه ينمو إنَّ استُعمل, وينقُص إنَّ أُهمل".

وعنه يقول الغزالي: "الثالث: علومٌ تُستفاد من التجارب بمجاري الأحوال؛ فإنَّ من حنَّكَتْهُ التجاربُ, وهذَّبَتْهُ المذاهبُ, يُقال: "إنَّه عاقلٌ في العادة, ومن لا يتصف بهذه الصفة, يُقال: "إنَّه غبيّ, غُمْرٌ, جاهلٌ. فهذا نوعٌ آخر من العلوم يُسمَّى عقلاً".

المعنى الرابع: الأعمال التي يستوجبها العلم؛ من إيمان بالله, وتصديق بكتبه, ورسله, والتزام بأمره ونهيه؛ كحَبْس النفس عن الطاعات, وإمساكها عن المعاصي.

وهذا معنى رابع من معاني العقل, وعنه يقول ابن تيمية: ".. لفظ العقل يُطلق على العملِ بالعلمِ".

فالعمل من لوازم العقل؛ لأنَّ صاحب العقل إذا لم يعمل بعلمه, قيل: إنَّه لا عقلَ له؛ "فإنَّ العقل مستلزمٌ لعلومٍ ضروريَّةٍ يقينيَّةٍ, وأعظمها في الفطرة: الإقرار بالخالق".

فحالُ مَنْ لم يعمل بعلمه, أنَّه صاحبُ عقلٍ يُمسكُ علوماً ضروريَّةً فطريَّةً, يعرِف بها ربَّه, ولكنّ هواه صدَّه عن اتباع موجب العقل, فصار لا عقل له بهذا الاعتبار، وقد اتّصف هذا بمعاني العقل الثلاثة المتقدِّمة؛ فمعه غريزة العقل التي فرَّق الله بها بين العقلاء والمجانين, ومعه علومٌ ضروريَّة فطريَّة, ولديه علومٌ مكتسَبَةٌ؛ فقد جاءته الرسل بالبيِّنات, ولكنَّه لم يحظ بشرف الاتّصاف بهذا المعنى الرابع؛ وهو العمل بعلمه, لذلك يُقال عنه: إنَّه غيرُ عاقلٍ عن الله .

لذلك لمّا وُصِفَ رجلٌ ـ ممتنعٌ عن الدخول في الإسلام ـ بالعقل أمام أحد العلماء, قال: "مَه, إنَّما العاقل مَنْ وَحَّدَ الله, وعَمِلَ بطاعتِهِ".

والله تعالى قد حكى عنهم قولَهم ـ وهم في النَّار ـ: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10].

"وقد كانت لهم عقولٌ وأسماع, لزمتهم بها الحجَّة لله, وإنَّما عنى أنَّها لم تعقِل عند الله فَهْمَاً لما قال؛ من عظيم قدرِه, وقدر عذابه, فندمت, وتأذَّت بالويل والندم, لا لأنَّها لم تكن تسمع ولا تعقل, ولا كانوا مجانين, ولكن يعقلون أمر الدنيا, ولا يعقلون عن الله ما أخبر عنه, وتوعَّد ووعد".

فالعملُ ثمرةُ العقل وفائدتُه, ولا عقلَ لمن لم يعمل بموجب ما دلَّه إليه عقلُهُ.

إذا تبيَّنْتَ هذا, فاعلم أنَّ العقلَ يُطلق على كلّ هذه المعاني الأربعة مجتمعةً؛ الغريزة, والعلوم الضروريَّة, والعلوم المكتسبة, والعمل بالعلم.

ويشهد لهذا قول ابن تيمية عن العقل: "هو علمٌ, أو عملٌ بالعلمِ, وغريزةٌ تقتضي ذلك".

فالعقل لا يُسمَّى به مجرَّد العلم الذي لم يَعمل به صاحبُه, ولا العمل بلا علمٍ؛ بل إنَّما يُسمَّى العلمُ الذي يُعملُ به, والعمل بالعلم, ولهذا قال أهل النَّار: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10], وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ أَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ) [الحج: 46].

يحيى
02-05-2010, 12:50 PM
جزاك الله خير على الإفادة الطيبة.

أنا سآخذ كل هذه التعريفات بعين الاعتبار:

إذا تبيَّنْتَ هذا, فاعلم أنَّ العقلَ يُطلق على كلّ هذه المعاني الأربعة مجتمعةً؛ الغريزة, والعلوم الضروريَّة, والعلوم المكتسبة, والعمل بالعلم.

نقرأ في الوحي الإلهي: "لهم قلوب لا يفقهون بها".

ممكن نضيف الآن القلب؟

هنا لابد و أن يكون هناك فرق بين "الهوى" و "العقل" إذا أردنا التمييز بينهما, و إذا صح التمييز فكيف نميز بين غريزة و أخرى؟ ممكن يكون العقل كالمخ فالمخ مخ واحد لكن وظائفه متعددة (الحواس مثلا), و إلا كيف يختلف العقل عن الآخر بنفس المعنى الذي لا يختلف فيه الهوى عن الآخر مثلا الهوى بمعنى الشهوة: شهوة الأكل مثال؟

أعتقد أن القلب مثل المخ, وظائفه متعددة لكن العقل تقسمه وظائف مخية و آخرى قلبية و ثالثة روحية, أما الهوى بمعنى العاطفة فمقره القلب.

هناك إمكانية في "العلوم المكتسبة" فقد يختلف العقل عن الآخر لأن الواحد اكتسب معرفة لم يكتسبها الآخر.
أو إمكانية عدم العمل ب "العلم المُكتسب".
أو إمكانية التلاعب ب 'العلم الضروري" مثلا: السفسطة.

سؤال 1:
و الآن سؤالي:

كيف نقول الاستسلام للنص و النص نفسه لا يمر إلا من خلال قناة العقل؟
بمعنى آخر: نحن نعرف الاختلاف الذي حصل حول صلاة العصر في عهد الرسول (ص), هنا نرى الفريقين استسلموا للبديهية (مسلّم بها و غير خاضعة للنقاش) و هذه البديهية هي سنة الرسول (ص) أو أمره, لكن مع ذلك حصل الاختلاف, و الآن كيف نصنف أحد الفريقين؟

خذ الفريق الذي صلى في الطريق:
هل استخدم برهان عاطفي, برهان عقلي أو و برهان ديني؟

سؤال 2:
لا أفهم استخدام البرهان هنا لأن البرهان هو معيار اليقين, فإذا عندك بُرهان عاطفي فالمعنى هو أن العاطفة هذه حقيقة يقينية .. بُرهان عقلي أي لا تناقض بين هذا العقل و الحقيقة.. بُرهان ديني يعني لا تناقض بين هذا الدين و اليقين.. الخ

كيف نقول واحد استخدم برهان عقلي ثم نقول أنه وقع في الخطأ؟ هذا تناقض.
طبعا أنا أفرق بين البرهان و الحجة و الدليل, كتبت في مشاركة سابقة:



"قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"

صحيحة فيما يسمى في العلوم الشرعية ب: الاجتهاد.
صحيحة فيما يسمى في العلوم الطبيعية ب: النظرية.

أنت اجتهادك و أنا اجتهادي, لك نظريتك و لي نظريتي, أنت تأتي بحججك و أنا بحججي.

أما في اليقينيات فلا مجال للنظرية أو الاجتهاد لأن الحاكم هو البرهان, و لا الدليل حتى لكن البرهان.

الدليل (عندي) أقوى من الحجة و البرهان هو الأقوى, لأني أعتبر proof أقوى من evidence و هذه الاخيرة أقوى من argument و بالتالي اعتمد الترجمة: برهان -> دليل -> حجة