المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معالم تربوية/أهمية التربية



أبو حمزة السلفي
02-11-2010, 08:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

مــعـالـم تـربـويـة

تـــمـهيـــــد

أهميـة التربيـة (ج1)

الحمد لله الذي ربى أنبياءه وأولياءه بقرآنه، ورقاهم بالتقى فكانوا أفضل الناس في ميزانه، وجعل الخيرية في مَن تبعهم وتقفى آثارهم بفضله وإحسانه، والصلاة والسلام على خيرة خلقه وخليله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه الكرام ومن والاه.

وبعد ..

في مفتتح حديثنا عن المعالم التربوية التي اخترناها لإخواننا في كلية الحسبة الإسلامية -وفقهم الله للخير- ، سنتحدث عن أهمية التربية ولماذا اخترنا التربية دونًا عن بقية الفنون العلمية، و لماذا التركيز عليها, وسنجد بين ثنايا هذه الأسطر الإجابة مفصلة أو بشكل عام عن هذه الأسئلة:

فالمعالم: جمع مَعْلَم .
و المعلم: هو العلامة أو هو من كل شيء مظنته، فيقال معالم الطريق أي علاماته.[1]

و هنا سنتحدث عن معالم لازمة في طريق تربيتنا، تعظم الحاجة إليها في هذا الوقت بالذات، الذي اشتدت فيه الهجمة على أمة الإسلام قاطبة وعلى أهل الثغور من العلماء العاملين والدعاة المخلصين والمجاهدين خاصة من قبل أعداء الملة والأمة من كفار ومنافقين ومخذلين وغيرهم، ولهذا كان لزاماً علينا أن نتناول هذا الجانب المهم الذي كما رأينا بعد تدقيق النظر وإمعان الفكر والاطلاع على تجارب السابقين ونصائح المشفقين وأحوال المسلمين أنه لم ينل الأهمية المعتبرة التي يستحقها، لا سيما وأن كل رمز من أهل الحق والخير مضيقٌ عليه ومرصودةٌ حركتُه ، أو مُكرَه على التكلُّم بالباطل وإلا فُتِن وصُبَّ عليه العذاب، وكل من ظهرت عليه ملامح التأثر بعقيدة الولاء والبراء فثار حمية لدين الله يغضب له وينكر على من خذله ويناوئ من عاداه فلا شك أنه إما مسجونٌ مغلول أو مُخَوَّف مُهدد أو مُتابَع مُضيَّق عليه لئلا تخرج منه كلمة حق، وفي كل الحالات نرى أن النتيجة هي تبعثر الصف وعدم إيجاد المحضن التربوي الذي يُخرِّج لنا أجيالاً همها نصرةُ الإسلام ورفع كلمة الرحمن وإعلاء شأن أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أجيالاً تكون متميزة بحق في دينها وخُلقها ليحصل التغيير الذي ننشده، لا فرق في ذلك أكانت هذه الصفة في المجاهدين أو في مَن يخلفهم لتربية غيرهم أو في المتربين، فطالما أن العقيدة واحدة والمنهج صحيح سليم فالكل يُعتبر مكملاً لبعضه البعض، والكل يرفد كل نقص سيحدث في أي ثغر من ثغور الإسلام ويكمله، وبهذا نكون قد مددنا أهل الثغور بما يحتاجونه من رجال، وفي نفس الوقت نكون قد حافظنا على رصيدنا الذي نسعى لنمائه داخل الأمة المسلمة التي نعمل في إطارها الذي هو السند الطبيعي لطليعة الأمة المجاهدة.

وقبل التعمق في الحديث عن أهمية التربية نعرّف بالتربية :

(التربيةبالمنظور الإسلامي السلفي : العمل على بناء أفراد بعقائد سلفية صحيحة, ومفاهيم إسلامية نقية وأخلاق زكية, وأعمال مرضية, وتجهيزهم كلبناتلإعادة بناء المجتمع المسلم).[2]

ولا شك أن هذا التعريف يحمل أسمى المعاني التي يدعو إليها الإسلام بسماحته ووسطيته، سماحته في الخير الذي فيه، و يدعو الناس ويحملهم على اعتقاده والتحلي به ليرتقوا بالفعل إلى درجة العبودية التي خلقهم الله سبحانه وتعالى لأجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[3] ، ووسطيته بين الأديان, والوسطية تقتضي دائماً التصدر والبروز والشرف والرفعة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}[4] ، وحتى إن عُوديَ الدعاةُ وحملةُ الحق والمجاهدون فلا يعادَون أبداً لذواتهم -وإن تُعدّيَ عليهم بالنقص والافتراء والتكذيب- بل لأجل دعوة الحق والخيرالتي يدعون إليها{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُلَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَوَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}[5]، ولذا فمن المهم الانتباه لهذا الأمر المهم في دعوتنا وتركيز وتسليط شيء من الضوء عليه بدلاً من تركه بالكلية، ليعرف الناس مقدار كذب وبهتان من يعادون أهل الحق، فالصدق في حمل همّ الدعوة له من العظم والثقل ما يكون أثره أبلغ من الكلام، ولعلنا في مُقبل حديثنا عن معالم تربوية في الدعوة نتناول هذا الأمر بإذن الله - تعالى- بشيء من التفصيل .

ولنا وقفات مع التعريف ليستقر الفهم على المراد :

قوله : ( التربية بالمنظور الإسلامي السلفي ) :

لماذا بالمنظور الإسلامي السلفي ؟
لأن هنالك من عرّفها من المسلمين وغيرهم بتعريفات شتى، وكل مَن عرّفها ركّز على جانب معين فيها سواء أكان جانبًا اجتماعيًا أو أخلاقيًا أو غير ذلك، ولكن هنا تم التعريف بمنظور إسلامي واسع شامل .

وقوله : ( سلفي) :

لا يعني المفهوم الضيق للسلفية أي انحصاره في جماعة أو مَن يسمون أنفسهم بالسلفية تمايزاً [6] ، بل هو معنى واسع يشمل ما تحتويه كلمة سلفي من معانٍ ( عقيدة و عملاً ) أي هي نسبة للسلف الصالح عليهم الرضوان بالمفهوم العام .

قوله : ( العمل على بناء أفراد ) :

وهذا يقتضي أن أمر التربية أمر عظيم ليس بالهين، تُقضَى فيه الأوقات الثِّمان، وتنفق لأجله كرائم الأموال، وتنُدب بل تُستنفر له طائفة من الأمة من أهل التخصص وهو ما اصطلح عليه قديماً بـ(المؤدِّبين)، و إن انعدم المتخصصون وجب تعليم من تكفي به الحاجة ويسد الثغر ويحقق الكفاية، ويقتضي ذلك أن يكون الصبر راحلتنا خلال مسيرة التربية التي تحتاج لوقت ليينع الزهر وينضج الثمر .
"فالعنب يحتاج إلى أشهر من الري والعناية حتى يكبر ويحلو"

فالعمل ليكون مثمراً يجب أن يتصف بالاستمرارية فهو عمل دؤوب لا ينبغي إغفاله لأهميته ولا أن تكلّ الهمم عن السعي في بعثه و إيجاده، واستحداث الأساليب لتقويته وتطويره .

و قوله ( بناء أفراد ) :

بناؤهم البناء الصحيح الذي يؤهلهم لتحمل مسؤولياتهم في المجتمع الإسلامي، من قيادة ودعوة وجميع أفعال الخير .

لأن التربية تبني نفس الإنسان، أما ترى الخسيس الخليع المنحط حين تخالط بشاشةُ الإيمان قلبه يُنزع نزعاً مما كان فيه ويترقى درجة درجة في سلم الرقي والاحترام ويبني شخصيته بناءً مغايراً لما كانت عليه، و يرفع الله قدره بعد انحطاط، ويسلم عرضه بعدما كان علكة يلوكها كل من هبَّ ودبَّ، ويسير على استقامة من أمره وينطلق واثق الخطى من اعتقاد راسخ ومنهج صافٍ و كأنه بنى ذلك على أساس متين بعدما كانت نفسه مضطربةً وشخصيته مهزوزة تؤزها الشياطين أزًّا ، ويحفزها للبهائمية كل شهوة طارئة ونزوة عابرة، من سفك دم وسرقة وهتك عرض ؟

فعلى هذا فالعمل والبناء تظهر أهميتهما بتعريفهما بضد ما تكون عليه الصورة المرادة من التربية، وبضدها تتبين الأشياء .

قوله : ( بعقائد سلفية صحيحة):

( العقيدة ) : الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده , و(في الدين) ما يقصد به الاعتقاد دون العمل كعقيدة وجود الله و بعثه الرسل, والجمع عقائد[7]
و عَقَدَ الشيء : أي ربطه و أكَّده .
وسلفية : نسبة لما كان عليه سلف هذه الأمة من الاعتقاد .
وصحيحة : الصحة ضد السقم .

وهذا يقتضي سلامة المعتقد من كل شائبة إفراط أو تفريط ، ومن هذا الحرصُ على سلامة المنبع المتلقَّى منه، والحرص كل الحرص على هذا الأمر، وهذا سيقودنا للحديث عن منهج التلقي والاستدلال وضوابطه - كما سيأتي بإذن الله لاحقاً- في المعالم الخاصة به .

و حين نأتي لنضرب مثالاً لوجوب صحة المعتقد نضرب مثالاً للانحرافات الماثلة في عالمنا اليوم، لنعرف مدى الحاجة لأن تكون عقيدتنا صحيحة سليمة صافية، أما ترون أن الناس انقسموا في الكفار فئاتٍ عدة بدل أن تكون كلمتهم واحدة فمنهم موالٍ لهم, ومنهم مدافع عنهم، ومنهم من وضع نحره دون نحرهم ، ومنهم من والاهم ونصرهم على أهل الإسلام ومكّن لهم، وكل هذا لأن العقيدة فيها دخن والمنبع المتلقى منه ليس بالصافي .

وبالمقابل غلا البعض فأخرجوا الناس من دين الله بواهي الشُّبه، واستحلوا دماءهم بهذا حتى أننا سمعنا من يقول بردة المجاهدين ومشايخهم وأمرائهم ناهيك عن العلماء وعوام المسلمين، وهذا والله من أعجب العجب!

و لقد ظُلم المجاهدون كثيرًا في هذا الباب، من كثرة ما افترى عليهم أهل الأهواء و الضلالة .
وفي كلامنا عن معالم تربوية في العقيدة تفصيل هذا بإذن الله لتتضح الصورة أكثر .

و قوله : (و مفاهيم إسلامية نقية):

وهنا تأتي أهمية الفكر أو الفهم أو المفاهيم أو التصور، أيًّا كان المعنى المهم هو نقاء هذا المعنى وصفاؤه، فبراءة هذه المفاهيم من التلوث والتكدر والتعكر يجعلنا نتقدم خطواتٍ للأمام، ليس خطواتٍ فحسب بل أميالاً إن نحن تمكنا من تصفية المفاهيم والتصورات من الشوائب، وبالمثال يتضح المقال :
فمثلاً: مصطلح الشورى، هذا المصطلح القرآني السامي الراقي، انظروا كيف خلطه من شابتهم لوثة الانبهار بالغرب والحريات المتاحة فيه من حرية الرأي والكلمة والتعبير والمعارضة ...إلخ ، خلطه بمصطلح الديموقراطية الكفري !الذي ينقل الناس من عبادة الله إلى عبادة البشر وأهوائهم وتحكيم آرائهم وأفكارهم.
وغيره من المصطلحات حتى صرنا نسمع بالإسلام الديموقراطي المدني! والإسلام السياسي والإسلام الاشتراكي! إلى غير هذه العبارات والمصطلحات التي تدل على عظم اللوثة الفكرية التي أصابت عقول هؤلاء، ووصل إليها المتأثرون بهذه الإطلاقات والمصطلحات التي تظهر للمتأمل فيها والمتبصر بحال القوم أن الهدف من هذه المصطلحات هو هدف بعيد المدى تتربى عليه أجيال وأجيال لنجد محصلة ذلك أن الشورى كممارسة حقيقية ومعنى له قدسيته قد ضاعت وسط ركام العلمانية وتطبيقاتها، وهذا مشاهد اليوم في من انخرط في البرلمانات، فالشورى التي كانت لتحديد خير الخيرين ودفع شر الشرين وتحقيق أكبر المصالح وجلبها للبلاد والعباد تخضع اليوم وتسلط لتحليل ما حرمه الله وتحجيم ما أحله الله بل ما أوجبه وفرضه على عباده وتجريمه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد !

ونجد أن هذه اللوثات الفكرية والخلل في المفاهيم في نهاية مطافها ستُكَوِّن ممن يتأثرون بها حائط صدٍّ منيع يقف في وجه الدعاة إلى الله وطلاب الخير، والهدف من هذا توسيع الهوة أمام من يسعى لتجسيرها ليصل إلى الهدف المنشود: خلافة على منهاج نبوة !

وهذا ماثلٌ اليوم في توجه بعض الجماعات التي ترفع شعار الإسلام بينما هي قلبًا وقالبًا تسير في ركاب الصليبيين وتحارب أهل الحق والمجاهدين !

لهذا فنقاءُ المفاهيم وصفاؤها من الأهمية بمكان عظيم، فشابٌّ يتربى على الشورى كشرع رباني ومنهج قرآني وسنة نبوية مصطفوية، ويكون هدفه رحمةُ الأمة وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد وإقامة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة؛ لن يكون ولا شك كمثل من تربى وعطن بلوثات الغرب وشقشقات المبطلين من جواز العمل بالديموقراطية والانخراط بصفوفها والتربع على مقاعد التشريع من دون الله تحت ظلها، والدفاع عنها كنظام قائم باعتبارها تتيح لنا شيئًا من الحرية لنعبر عن أنفسنا ونظهر بمظهر الذي عنده برنامج إسلامي للحياة! في حين هو يهدم من مهمات الدين وضرورياته ما يهدم من تحكيم لغير شرع الله ورضاً بالتحاكم للطاغوت، أو من يتربى على مفاهيم الوطنية وتقديسها وإزالة الفوارق العقدية بيننا وبين ملل الكفر الأخرى لحساب تقوية وتمتين الوحدة الوطنية ! التي ولا شك ستزول معها هيبة الإسلام وسلطانه ولن تقوم له دولة تحكم بشرع الله، فمن سيطالب بهذا وهو يقر باعتراض المعترضين ولو كانوا من عباد البقر والصليب بل وأحقيتهم في ذلك الاعتراض حسب الديموقراطية التي يعتقد صحتها !
فمن هنا يتضح لنا أن سلامة المفاهيم والتصورات ونقاءها أمر لا يمكن إغفاله وإلا حصلت الفتنة وتبددت الجهود، وإلا فما نفع التربية والمفاهيم مختلطة مختلة! وما نفعها إن كان سيقطف ثمرتها عُبَّاد الصليب وأهل النفاق ؟

ولعلنا إن مدَّ الله في آجالانا نتحدث عن المفاهيم المغلوطة التي يجب أن تُصحح و تُقوَّم حتى يسلم التصور ويعود لنقائه، فإن كان جيل الصحوة ومن يناصر المجاهدين لم يسلموا من لوثة تعكر المفاهيم فمَن دونهم أحق بهذا وأولى، لذلك إن تيسر الوقت سنتناولها بإذن الله بالنقد والتفنيد ليظهر الحق ويبطل الباطل، فأعداؤنا يحاربوننا بهذه المصطلحات البراقة ويعاونهم خبالة الأمة من المنافقين ومن خُدع ببريق هذه الشعارات، لذلك فمجابهتهم تكون أولاً بالوعي الصحيح العميق بمدلول كل مصطلح، وحين ننقد وننقض بنيانه علينا أن نعرف ما يقابله في الإسلام ، لتكون عملية إحلال وإبدال، نستبدل مفهومًا مغلوطًا بآخر صحيح وهكذا حتى تسلم تصوراتنا بإذن الله تعالى .

قوله : ( و أخلاق زكية) :

الأخلاق الزكية هي التي يعطر حُسنها صاحبها ومن ثم يصيب الخير كل من يقترب منه، فلا تجد منه إلا الخير, ولعل أبلغ عبارة في توصيف هذه الكلمة هو حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في (حامل المسك ونافخ الكير) ، فالمسلمُ حقَّ الإسلام هو كحامل المسك وهو ما نطمح للوصول إليه إن لم يكن بأنفسنا لتقصير فينا فبغيرنا بحثهم على الخير والاستجابة لأمر الله، والسعي للتحلي بمكارم الأخلاق كما قال ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ولقد سُئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن خُلقه صلى الله عليه و سلم, فقالت: "كان خُلقه القرآن", و أنعم به من وصف لو يسعى الناس للتحلي به .

و أما نافخ الكير فهو ما نحذر منه ونعاديه ونتمنى زوال شره وإبعاده، لأن ضرره على أمة الإسلام كبير جدًّا ، أذاه يبدأ من الفرد حتى يبلغ الأمة، وكم في الأمة من نافخ كير فعله حقير! فمن جيوش المريدين للفاحشة أن تشيع بين المؤمنين، إلى من يفتي لعبدة الصليب، إلى من يقاتل أهل الحق والإيمان, وهكذا كلٌ بحسب ناره التي يوقدها وينفخ فيها كبُرت أو صغُرت .

ثم إن الأخلاق الزكية شعار خيرٍ وعلامة تزكية للأمة، ألا ترون أنه من المحزن أن يوصم عبدة الصليب بالصدق والدقة في المواعيد والهمة والرقي، بينما يوصم المسلم بأنه متخلف منتهز اتكالي خامل لا همَّ له إلا إرضاء شهواته وإشباع رغباته ونزواته ؟ بينما هم في حقيقتهم كفرة فجرة و جُلُّ خيرهم من استيلائهم على تراثنا السابق، تراثنا الإسلامي العلمي والفكري والمنهجي، الذي فرطنا فيه فأحسنوا استغلاله ثم استفادوا من طاقات عقول أبناء الأمة والمتميزين فيها وسخروها لأجل رفاهيتهم وزيادة رصيدهم العلمي، فصاروا بعد ذلك بخيرنا أصحاب الفضل علينا والله المستعان !
بل إن كل خزايا الدنيا وبلاياها عندهم وفيهم، وهم يسعون في تصديرها إلينا بعدما اكتووا بها واكتفوا منها فيما يعرف بالغزو الفكري والثقافي !

فمجابهة الخلاعة والتفسخ والعهر تكون بالعفة والحياء، ومجابهة الفساد الحكمي والإداري تكون بمراقبة الله تعالى وتحقيق شريعته وقول الحق وإن كان في ذلك طيران الرؤوس وصولاً لذروة الإسلام الجهاد في سبيل الله تعالى، ومجابهة الفساد المالي تكون بالرضى بقسمة الله على عباده تقتيراً وسعة وسؤاله من فضله سبحانه، ومجابهة فساد الأخلاق من كذب ونفاق تكون بالكلمة الصادقة والتعامل الواضح والمنهج الصحيح الذي يسد على كل لاعب بذيله الطريق، إلى غير ذلك من أنواع الخير, والإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمن تمثَّلها والتزم بها سيكون لبنة في بناء الأخلاق الزكية ولا شك .

و قوله : ( و أعمال مرضية) :

الأعمال المرضية هي كل أعمال الخير التي تزيد الحسنات وترفع الدرجات وتزيد العبد قربًا من ربه، وعلى رأسها الطاعات والعبادات بصورها وأنواعها المختلفة، وكل أعمال الخير التي تنفع المجتمع المسلم، فكل عمل ينفع المرء في خاصة نفسه ثم يتعدى الخير لغيره يزيد النفس زكاة ولاشك ويرقيها في مدارج السالكين، لتصل لدرجات عالية مرضية من رب العالمين، وهل هناك أحسن من صحبة من أنعم الله عليهم {وَمَنيُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُعَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءوَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً}[8] ؟؟؟

ومن عجب أن المجاهدين أهل الثغور أعطاهم الله بصيرة بها يميزون أولياءه من أعدائه، وبها يبينون الصادق النقي من المنافق المندس، وهو نظرهم في أحوال الناس وطاعاتهم، فالمسلم الصادق قلبه متوقد وإن اعتراه ضعف في الإيمان فإنه لا يفرط في جنب ربه و يتلظى لتقصيره، أما المنافق خبيث النفس فلا يرفع بذلك رأسًا وسرعان ما تمل نفسه فالزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيبقى، فحتى طاعته زبد وإن كانت لنفسه ولكنها لغير الله وسترًا لما في نفسه من عفونة ردية وخبث في الطوية، فيجلي الله أمره ويهتك ستره ويكشف نفاقه لأهل الحق والبصيرة، فمن أراد النجاة فعليه بالأعمال المرضيّة يصدق فيها مع ربه، فهو إن خادع نفسه فلن يخدع ربه { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}[9].

وقوله : ( و تجهيزهم كلبنات لإعادة بناء المجتمع المسلم) :

بعد العمل والبناء كما تقدم، نأتي للتجهيز، والتجهيز يكون استعدادًا للانطلاق، فلا ينطلق من لم يكمل جاهزيته إلا لضرورة تُلجئ لذلك ، وإلا فإن الخير في تمكين وتأصيل وتجذير ما تم تعلُّمه نظريًا, ثم الزجِّ بالمتربي والمتعلم تدريجيًّا وبرفق في ساحة العمل، ليصقل علمه ويزكيه حتى يتمكن ويكون قد أخذ نصيبه من التدريب والتربية التي تؤهله للتصدر والتقدم، فإذا وصلنا لهذه المرحلة نكون قد وضعنا اللبنات الأساسية التي سيقوم عليها مجتمعنا الإسلامي المنشود، ونكون قد وفرنا كوادر ورموز للإرشاد والنصح والإصلاح والتقاضي والقيادة، سواءا لساحات القتال أو في الإطار العام للمجتمع المسلم، وفي أقل الأحوال نكون قد أصلحنا حال عوام المسلمين ووضعناهم في موضعهم الصحيح بتمسكهم بدينهم، وما أحوجنا لهذا الأمر الآن وقد طلب قادةُ الجهاد أهلَ الاختصاص، و من أبرز الذين تمس الحوجة إليهم هم المشايخ وطلبة العلم والمربون والوُعَّاظ والقضاة .

فبناء الأمم و الدول البناء المجتمعي الأخلاقي هو أصعب مرحلة من مراحل بناء الحضارة، هذا كحضارة قد تجمع من هبَّ ودبَّ ويتواضع الناس على قيمها وأخلاقها بغض النظر عن صحتها من الأمراض سلامتها من العيوب، فما بالكم بالإسلام الذي يجد من العداء ما يجد! وما بالكم بالإسلام الذي يتطلبُ الالتزامُ به خلعَ الجاهلية على أولى عتباته، والتركة الجاهلية ثقيلة بكافة درجاتها، من لوثات فكرية إلى بدع في الممارسات والعبادات إلى فسق وفجور إلى جهل بحقيقة الإسلام ذاته، إلى غير هذه التركة القبيحة، فهذا يتطلب أنفسًا متربية على الخير لتبذله بصبرٍ جميل دون تبرُّم أوضيق وتضجُّر, تؤثر في غيرها بحُسن سمتها وطيب كلماتها وصدق فعالها، و كذلك يتطلب أنفسًا تتلقى هذا الخير وتُسايَرُ برفقٍ على ما فيها من شر حتى تبلغ بر الأمان ولو بعد حين .

و لعظم أمر التربية قُدمت على التعليم، فيقال وزارة التربية و التعليم، ولولا أهميتها ما قدمت وإلا فما نفع التعليم من غير تربية ؟

فلقد صرنا نسمع طبيبًا لا يحترم مهنته بل يتاجر بأعضاء المرضى ممن استأمنوه على أرواحهم وأجسادهم وهم في حالة ضعف وغياب عن الوعي، وهذا يختلس من مال أؤتمن عليه ويغش ليداري فعلته دون أن يكون في نيته إرجاع هذا المال، وتاجر يغش في بضاعته ويخلط تالفاً بجيد ويعمي على الشاري بحلاوة لسانه، وهكذا، متعلمون بلا أخلاق لأن الجانب التربوي عندهم مختل ولم يأخذوا القسط الوافر من التربية التي تحول بينهم وبين الانحراف، و صدق من قال العلم بلا أخلاق كالشجر بلا أوراق.

ولعلنا نتناول في مُقبل حديثنا عن هذا الموضوع في جزئه الثاني الحديث عن المحضن التربوي وأهميته وفيه أمورٌ من الأهمية بمكان تساعدنا في إيضاح الصورة وتمهد لتحقيق هدفنا المنشود بإذن الله تعالى .

وتحسن الإشارة إلى أننا في مجمل حديثنا سنلتزم بالمصطلح الشرعي المنضبط قدر الإمكان، تدربًا على ضبط المصطلحات ونبذ الوارد الدخيل منها علينا، فسنتناول مصطلحات مثل الوسطية، والإفراط والتفريط وغيرها في إطارها الصحيح لا كما يتداولها أحبار ورهبان السوء من علماء السلاطين .

وسنتكلم عن المرحلة المكية (كمرحلة استضعاف ومرحلة دعوة سرية) بمفهوم خاص يعاكس ما يذهب إليه المنبطحون من أنه يجب أن نخضع للكفار ونخنع لهم ولا نجاهدهم ولا نعاديهم ولو بالكلام!

هذا و أستغفر الله العظيم من كل خلل وزلل وتقصير



[1] كما جاء في المعجم الوسيط .

[2] التربية على منهج أهل السنة والجماعة لأحمد فريد – بتصرف يسير - ط الدار السلفية للنشر والتوزيع ( 19 ) .

[3]سورة الذاريات آية ( 65 ) .

[4] سورة البقرة آية رقم ( 143 ) .

[5] سورة الأنعام آية رقم (33) .

[6] - لأنه يوجد من انتسب للسلف ولكنه خالفهم في اعتقادهم كمرجئة العصر .

[7] - كما جاء في المعجم الوسيط .

[8] - سورة النساء آية رقم (69) .

[9] سورة البقرة آية رقم ( 9 ) .