مالك مناع
02-15-2010, 09:32 PM
• التسلسل في الماضي والتسلسل في المستقبل:
التسلسل في العلل والمعلولات والآثار غير ممتنع عند أهل السنة فقد يكون أثر ينتج عن أثر، وأثر ينتج عن أثر، والله سبحانه وتعالى هو الذي عمل الأول سبحانه وتعالى وأجرى سنته في أن الأول ينتج الثاني والثاني ينتج الثالث إلى آخره.
والتسلسل معناه: أنه لا يكون شيء إلا وقبله شيء تَرتَّبَ عليه، أو لا يكون شيء إلا و بعده شيء ترتب عليه.
والتسلسل على اعتبارات:
* الجهة الأولى المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل: التسلسل في صفات الرب - عز وجل -.
وللناس في التسلسل المتعلق بصفات الرب - عز وجل - مذاهب:
1 - المذهب الأول:
من قال إنَّ الرب - عز وجل - يمتنع تسلسل صفاته في الماضي، ويمتنع تسلسل صفاته في المستقبل:
فلا بد من أمد يكون قد ابْتَدَأَ في صفاته أو قد ابْتَدَأَتْ صفاتُه، ولا بد أيضاً من زمن تنتهي إليه صفاته، وهذا هو قول الجهمية -والعياذ بالله- وقول طائفة من المعتزلة كأبي الهذيل العلاَّف وجماعة منهم.
2 - المذهب الثاني:
هو أنَّ التسلسل في الماضي ممتنع، والتسلسل في المستقبل لا يمتنع:
يعني أنَّ الاتصاف بالصفات لا بد أن يكون له زمن ابتدأ فيه، وهذا الزمن قريب من خلق هذا العالَم الذي تعلّقت به الأسماء والصفات أو الذي ظهرت فيه آثار الأسماء والصفات، و في المستقبل هناك تسلسل في الصفات يعني عدم انقطاع للصفات، وهذا هو قول أهل الكلام والأشاعرة والماتريدية.
3 - المذهب الثالث:
المذهب الثالث هو مذهب أهل السنة والحديث وهو أنّ التسلسل ثابت في الماضي وثابت في المستقبل، وثبوته في الماضي غير متعلق بخَلقٍ تَتَسَلْسَلُ فيهم الصفات أو تظهر فيهم آثار الصفات، بل يجوز أو نقول بل تتنوع التعلقات باختلاف العوالم، وفي المستقبل - يعني في الآخرة- هو - عز وجل - آخر بصفاته سبحانه وتعالى، فهناك التسلسل في جهة المستقبل.
مقتضى القسمة أن يكون ثَمَّ قسم رابع: وهو أنه لا تسلسل في المستقبل وهناك تسلسل في الماضي.
هذا مقتضى السبر والتقسيم في القسمة، وهذا لا قائل به من المذاهب المعروفة، يعني لا يُعْرَفُ أنَّ أَحَدَاً قال بهذا القسم.
* الجهة الثانية المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل: التسلسل في المخلوقات:
و التسلسل في المخلوقات للناس فيه مذهبان فيما أعلم:
1 - المذهب الأول:
تسلسل في الماضي، وهذا ممتنع عند عامة الناس إلا الفلاسفة الذين قالوا إنه لا عَالَم إلا هذا العالم، وأنَّ هذا العالم لم يزل في الماضي، وأنه ما من عِلَّة فيه إلا وهي مُؤَثرة لمعلول فيه أيضاً، وأنَّ هذا العالم ترتب التسلسل فيه الآخر عن الأول والثاني عما قبله وليس ثَمَّ غيره.
نقول إنَّ هذا من هذه الجهة عامة الناس عدا الفلاسفة على ما ذكرنا، يعني اتفق عليها المعتزلة وأهل السنة على أَنَّ التسلسل؛ تسلسل المخلوقات في الماضي أنه ممتنع إلا قول الفلاسفة.
والفلاسفة كما هو معلوم من قالوا بهذا القول خارجون عن الملة؛ لأنهم يرون قِدَمَ هذا العالم مُطْلَقَاً، وأَنَّ المؤثر فيه الأفلاك بِعِلَل مختلفة يبحثونها.
2 - المذهب الثاني:
في المستقبل التسلسل في المخلوقات غير ممتنع عند الجمهور إلا في خلاف جهم وبعض المعتزلة في أنّ تسلسل الحركات والمخلوقات في المستقبل أيضا ممتنع وأنهم لا بد أن يصيروا إلى عَدَمٍ أو إلى عدم تأثير؛ إمّا عدم محض أو عدم تأثير.
*الجهة الثالثة المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل؛ تسلسل الأثر والمؤثر والسبب والمُسَبَّبْ والعلة والمعلول:
وهذا لابد من النظر فيه وأيضا نقول أشهر المذاهب فيه اثنان:
1 - المذهب الأول:
مذهب نفاة التعليل والعِلَلْ والأسباب الذين يقولون لا أثر لعلةٍ في معلولها، ولا أثر لسببٍ في مُسَبَبْ، وإنما يفعل الله - عز وجل - عند وجود العلة لا لكونها علة.وهذا هو مذهب نفاة التعليل، كقول الآشاعرة، القدرية، وابن حزم، وجماعات.
2 - المذهب الثاني:
أنَّ الأسباب تُنْتِجُ مُسبَّباتِها ويتسلسل ذلك، وأَنَّ العلة تُنْتِجُ معلولاً ويتسلسل ذلك - يعني جوازاً - ولكن ذلك كله بخلق الله - عز وجل - له، وأنّ التسلسل في الآثار ناتجا عن المؤثرات ليس لذاتها بل لسنة الله - عز وجل - التي أجراها في خلقه {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[فاطر:43]
قال ابن أبي العز الحنفي في بيان اعتقاد السلف: (وَالتَّسَلسُلُ لفْظٌ مُجْمَلٌ, لمْ يَرِدْ بِنَفْيِهِ وَلا إِثْبَاتِهِ كِتَابٌ وَلا سُنَّةٌ, لِيَجِبَ مُرَاعَاةُ لفْظِهِ, وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلى وَاجِبٍ وَمُمْتَنِعٍ وَمُمْكِنٍ: فََالتَّسَلسُلُ فِي المُؤَثِّرِينَ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ, وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اسْتَفَادَ تَأْثِيرَهُ مِمَّا قَبْلهُ لا إِلى غَايَةٍ . وَالتَّسَلسُلُ الوَاجِبُ: مَا دَل عَليْهِ العَقْلُ وَالشَّرْعُ, مِنْ دَوَامِ أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالى فِي الأَبَدِ, وَأَنَّهُ كُلمَا انْقَضَى لِأَهْلِ الجَنَّةِ نَعِيمٌ أَحْدَثَ لهُمْ نَعِيمًا آخَرَ لا نَفَادَ لهُ, وَكَذَلِكَ التَّسَلسُلُ فِي أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ طَرَفِ الأَزَلِ, وَأَنَّ كُل فِعْلٍ مَسْبُوقٌ بِفِعْلٍ آخَرَ, فَهَذَا وَاجِبٌ فِي كَلامِهِ, فَإِنَّهُ لمْ يَزَل مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ, وَلمْ تَحْدُثْ لهُ صِفَةُ الكَلامِ فِي وَقْتٍ, وَهَكَذَا أَفْعَالُهُ التِي هِيَ مِنْ لوَازِمِ حَيَاتِهِ, فَإِنَّ كُل حَيٍّ فَعَّالٌ, وَالفَرْقُ بَيْنَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ: الفِعْلُ, وَلِهَذَا قَال غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلفِ: الحَيُّ الفَعَّالُ, وَقَال عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ: كُلُّ حَيٍّ فَعَّالٌ, وَلمْ يَكُنْ رَبُّنَا تَعَالى قَطُّ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ مُعَطَّلا عَنْ كَمَالِهِ, مِنَ الكَلامِ وَالإِرَادَةِ وَالفِعْلِ .
وَأَمَّا التَّسَلسُلُ المُمْكِنُ: فَالتَّسَلسُلُ فِي مَفْعُولاتِهِ مِنْ هَذَا الطَّرَفِ, كَمَا تَتَسَلسَلُ فِي طَرَفِ الأَبَدِ, فَإِنَّهُ إِذَا لمْ يَزَل حَيًّا قَادِرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا, وَذَلِكَ مِنْ لوَازِمِ ذَاتِهِ فَالفِعْلُ مُمْكِنٌ لهُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لهُ, وَأَنْ يَفْعَل أَكْمَلُ مِنْ أَنْ لا يَفْعَل, وَلا يَلزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لمْ يَزَلِ الخَلقُ مَعَهُ, فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَقَدِّمٌ عَلى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَقَدُّمًا لا أَوَّل لهُ, فَلِكُلِّ مَخْلُوقٍ أَوَّلُ, وَالخَالِقُ سُبْحَانَهُ لا أَوَّل لهُ, فَهُوَ وَحْدَهُ الخَالِقُ, وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لمْ يَكُنْ .
قَالُوا: وَكُلُّ قَوْلٍ سِوَى هَذَا فَصَرِيحُ العَقْلِ يَرُدُّهُ وَيَقْضِي بِبُطْلانِهِ, وَكُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالى لمْ يَزَل قَادِرًا عَلى الفِعْلِ لزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ, لا بُدَّ لهُ مِنْهُمَا: إِمَّا أَنْ يَقُول بِأَنَّ الفِعْل لمْ يَزَل مُمْكِنًا, وَإِمَّا أَنْ يَقُول لمْ يَزَل وَاقِعًا, وَإِلا تَنَاقَضَ تَنَاقُضًا بَيِّنًا, حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالى لمْ يَزَل قَادِرًا عَلى الفِعْلِ, وَالفِعْلُ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ, لوْ أَرَادَهُ لمْ يُمْكِنْ وُجُودُهُ, بَل فَرْضُ إِرَادَتِهِ عِنْدَهُ مُحَالٌ وَهُوَ مَقْدُورٌ لهُ . وَهَذَا قَوْلٌ يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا .
وَالمَقْصُودُ: أَنَّ الذِي دَل عَليْهِ الشَّرْعُ وَالعَقْلُ, أَنَّ كُل مَا سِوَى الهَِ تَعَالى مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لمْ يَكُنْ, أَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ تَعَالى لمْ يَزَل مُعَطَّلا عَنِ الفِعْلِ ثُمَّ فَعَل, فَليْسَ فِي الشَّرْعِ وَلا فِي العَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ, بَل كِلاهُمَا يَدُلُّ عَلى نَقِيضِهِ) .
يتبع بإذن الله ..
مالك مناع
02-17-2010, 08:19 PM
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
في صحيحِ البخاريِّ وغيرِه مِن حديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ - رضي اللهُ عنه - أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم - قال : " يا بني تَميمٍ اقبلوا البُشْرى" قالوا : قد بشَّرْتنا فأعِطنا .
فأقبلَ على أهلِ اليمنِ فقال : " يا اهلَ اليمنِ : اقْبلوا البًُشرى ؛ إذ لم يقبلها بنو تَميمٍ " .
فقالوا : قدْ قبلنا يا رسول الله , قالوا : جِئْناك لِنَتفقهَ في الدِّينِ , ولِنَسْألك عن أوَّلِ هذا الأمرِ .
فقال : " كان اللهُ ولم يكُنْ شيءٌ قبلَه [وفي لفظٍ : " معه " وفي لفظٍ : " غيرَه " ] وكان عرشُه على الماءِ , وكتبَ في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ , وخلقَ السمواتِ والأرضَ [ وفي لفظٍ : ثمَّ خلق السمواتِ والأرضَ ] " . ثم جاءني رجلٌ فقال : أدْرِكْ ناقتَك . فذهبتُ فإذا السَّرابُ ينقطعُ دونَها. فَوَاللهِ لوَدَدَِتُ أنّي تركتُها ولم أقُمْ .
والناسُ في هذا الحديثِ على قولين :
منهم مَنْ قال : إنَّ مقصودَ الحديثِ إخْبارُه بأنَّ اللهَ كان موجودًا وحدَه , ثم إنّه إبْتدأ إحداثَ جميعِ الحوادثِ , وإخبارُه بأنَّ الحوادثَ لها إبتداءٌ بِجِنْسِها , وأعيانُها مسبوقةٌ بالعدمِ , وأنَّ جِنْسَ الزَّمانِ حادثٌ , لا في زمانٍ , وجنْسُ الحركاتِ والمتحركاتِ حادثٌ , وأنَّ اللهَ صارَ فاعِلاً بعد أنْ لم يكُنْ يفعلُ شَيْئًا من الأزلِ إلى حِينِ إبْتَدَأ الفِعْلَ , ولا كان الفعلُ مُمْكِنًا .
والقولُ الثاني في معنى الحديثِ : أنَّه ليسَ مُرادُ الرسولِ هذا , بل إنَّ الحديثَ يُناقِضُ هذا , ولكنَّ مُرادَه : إخبارُه عن خلقِ هذا العالمِ المشهودِ الذي خلقه اللهُ في سِتةِ أيامٍ ثم إستوى على العرش ,كما أخبرَ القرآنُ العظيمُ بذلك في غيرِ موضعٍ , فقال تعالى : { وهُوَ الذي خلقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتةِ أيَّامٍ وكان عَرْشُهُ على الماءِ } .
وقد ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ عن عبدٍ الله بنٍ عمرٍو , عن النبيِّ - صلى اللهُ عليه و سلمَ - أنَّهُ قال : " قَدَّرَ اللهُ مقاديرَ الخلائِقِ قبلَ أنْ يَخْلُقَ السمواتِ والأرضَ بِخمسينَ ألفِ سَنةٍ , وكان عرشُهُ على الماءِ " . فأخبرَ - صلى اللهُ عليهِ وسلم - أنَّ تقديرَ خلقِ هذا العالَمِ المخلوقِ في سِتةِ أيامٍ , وكان حِينئِذٍ عَرْشُه على الماءِ ,كما أخبرَ بذلك القرآنُ , والحديثُ المتقدمُ الذي رواه البُخاريُّ في صحيحِه عن عِمْرانَ - رضي اللهُ عنه - .
ومِنْ هذا : الحديثُ الذي رواه التِّرْمِذيُّ وأبوداودَ وغيرُهما عن عُبادةَ بنِ الصامتِ عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : " أولَّ ما خلق اللهُ القلمَ فقال له : اكتُبْ , قال : وما اكتبُ ؟ قال : ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ " . فهذا القلمُ خلقَهُ لَمَّا أمَرَهُ بالتقديرِ المكتوبِ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ بِخمسينَ ألفِ سنةٍ , وكان مخلوقاً قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ , وهو أولُّ ما خُلِقَ من هذا العالمِ , وخَلَْقُه بعدَ العرشِ ,كما دلَّتْ عليه النصوصُ , وهو قولُ جمهورِ السلفِ ,كما ذكرتُ أقوالَ السلفِ في غيرِ هذا الموضعِ . والمقصودُ هنا بيانُ ما دلَّتْ عليه نصوصُ الكتابِ والسنَّةِ .
والدليلُ على هذا القولِ الثاني وجوهٌ :
أحدُها : أنَّ قولَ أهْلِ اليمنِ : " جِئْناك لِنسْألَك عن أوَّلِ هذا الأمرِ " إما أنْ يكونَ الأمرُ المشارُ إليه : هذا العالَمَ , أو جِنْسَ المخلوقاتِ . فإنْ كان المُرادُ هو الأوَّلَ , كان النبيُّ - صلى الله عليه و سلم – قدْ أجابَهم ؛ لأنَّه أخبرهم عن أوَّلِ خلقِ هذا العالَمِ .
وإنْ كان المرادُ الثانِي , لمْ يكُنْ قدْ أجابَهم ؛ لأنَّه لم يذكرْ أوَّلَ الخلقِ مُطلقًا , بل قالَ : " كان اللهُ ولا شيءَ قبلَه , وكان عرشُه على الماء , وكتب في الذِّكْرِ كلَّ شيءٍ , ثم خلق السمواتِ والأرضَ " . فلم يذكرْ إلا خلقَ السمواتِ والأرضَ , لم يذكرْ خلقَ العرشِ , معَ أنَّ العرشَ مخلوقٌ أيضًا ... فعُلِمَ أنَّه أخبرَ بأوَّلِ خلقِ هذا العالَمِ , لا بأوَّلِ الخلقِ مطلقاً .
وإذا كان إنّما أجابَهم بِهذا , عُلِمَ أنّهم إنّما سألوه عن هذا , لم يسألوه عن أوّلِ الخلقِ مطلقًا ؛ فإنّه لا يجوزُ أنْ يكونَ أجابَهم عمّا لم يسألوه عنه , ولم يُجبْهم عمّا سألوا عنه , بل هو – صلى الله عليه وسلم - مُنَزَّهٌ عن ذلك .
وإخبارُه بِخلقِ السمواتِ والأرضِ , بعدَ أنْ كان عرشُه على الماءِ , يقصِدُ به الإخبارَ عن ترتيبِ بعضِ المخلوقاتِ على بعضِ ؛ فإنَّهم لم يسألوه عن مُجرَدِ الترتيبِ , وإنّما سألوه عن أوّلِ هذا الأمرِ , فعُلم أنّهم سألوه عن مبدأِ خلقِ هذا العالَمِ فأخبرهم بذلك .
الوجهُ الثانِي : أنَّ قولَهم : " هذا الأمر " إشارةٌ إلى حاضرٍ موجودٍ , والأمرُ يُرادُ به المصدرُ , ويُرادُ به المفعولُ به , وهو المأمورُ الذي كوَّنَه اللهُ بأمرِه , وهذا مرادُهم ؛ فإنَّ الذي هو قوله : " كن " ليس مشهودًا مُشارًا إليه , بلِ المشهودُ المُشارُ إليه : هذا المأمورُ به . ولو سألوه عن أوّلِ الخلقِ مُطلقاً لم يشيروا إليه بِ " هذا " ؛ فإنّ ذاك لَم يشهدوه , فلا يُشيرون إليه بِ " هذا " بل لَم يعلموه أيضاً ؛ فإن ذاك لا يُعلمُ إلا بِخبرِ الأنبياءِ , والرسولُ لم يُخبِرْهم بذلك , ولو كان قد أخبرهم به لما سألوه عنه , فعُلِمَ أنّ سُؤالَهم كان عن أوّلِ هذا العالَمِ المشهودِ .
الوجهُ الثالثُ : أنَّه قال : " كان اللهُ ولم يكن شيءٌ قبلَه " , وقد رُويَ : "معه " , ورُويَ : " غيرَه " والألفاظ الثلاثةُ في البخاريِّ , والمَجلسُ كان واحدًا , وسؤالُهم وجوابُه كان في ذلك المَجلسِ , وعِمرانُ الذي روى الحديثَ لَم يَقمْ منه حين انقضى المَجلسُ , بل قام لما أُخْبِرَ بذَهابِ راحِلتِهِ قبلَ فراغِ المَجلسِ , وهو المُخبرُ بلفظِ الرسولِ , فدلَّ على أنّه إنّما قال أحدَ الألفاظِ , والآخرانِ رُوِيا بالمعنى ؛ وحِينئِذٍ فالذي ثبت عنه لفظُ القبلِ ؛ فإنّه قد ثبت في صحيحِ مسلمٍ عن أبي هريرةَ عنِ النبي – صلى الله عليه وسلم - أنّه كان يقولُ في دُعائِه : " أنت الأوّلُ فليس قبلَك شيءٌ , وأنت الآخِرُ فليس بعدَك شيءٌ , وأنت الظاهرُ فليس فوقَك شيءٌ , وأنت الباطنُ فليس دونك شيءٌ " وهذا موافقٌ ومفسرٌ لقولِه تعالى : { هو الأوَّلُ والآخِرُ والظاهِرُ والباطِنُ } [ الحديد : 3 ] .
وإذا ثبت في هذا الحديثِ لفظُ ( القبل ) فقد ثبت أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه و سلم - قاله , واللفظانِ الآخرانِ لَم يثبُتْ واحدٌ منهما أبدًا , وكان أكثرُ أهلِ الحديثِ إنّما يروونه بلفظِ ( القبل ): " كان اللهُ ولا شيءَ قبلَه " مثلُ الحُمِيديِّ والبَغَويِّ وإبنِ الأثيرِ وغيرِهم .
وإذا كان إنّما قال : " كان اللهُ ولم يكنْ شيءٌ قبلَه " لم يكُنْ في هذا اللفظِ تَعَرُّضٌ لإبتداءِ الحوادثِ , ولا لأوَّلِ مخلوقٍ .
الوجهُ الرابعُ : أنه قال فيه : " كان اللهُ ولم يكن شيءٌ قبلَه – أو : معه , أو : غيرَه - وكان عرشُه على الماءِ , وكتبَ في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ " , فأخبر عن هذه الثلاثةِ بلفظِ الواو , لَم يذكرْ في شيءٍ منها " ثم " وإنِّما جاء " ثم " في قولِه : " خلق السموات والأرض " .
فأمَّا الجملُُ الثلاثُ المتقدمةُ فالرُّواةُ متفقون على أنه ذكرها بلفظِ الواو . ومعلومٌ أنَّ لفظَ الواو لا يُفيد الترتيبَ على الصحيح الذي عليه الجمهورُ. فلا يفيدُ الإخْبارَ بتقديم بعضِ ذلك على بعضٍ , وإنْ قُدِّرَ أنَّ الترتيبَ مقصودٌ , فإنَّما فيه تقديمُ كَوْنِه على كَوْنِ العرشِ على الماءِ , وتقديمُ كَوْنِ العرشِ على الماءِ على كتابتِه في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ , و تقديمُ كتابتِه في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ على خلقِ السمواتِ والأرضِ . وليس في هذا ذِكرُ أوَّلِ المخلوقاتِ مُطلقا , بل ولا فيه الأخبارُ بِخلقِ العرشِ والماءِ , وإنْ كان ذلك كلُّه مخلوقاً ,كما أخبر به في مواضعَ أُخَرَ .
لكنْ في جوابِِ أهلِ اليمنِ إنّما كان مقصودُه إخبارَه إيَّاهم عن بَدْءِ خلقِ السمواتِ والأرضِ وما بينهما , وهي المخلوقاتُ التي خُلِقتْ في ستةِ ايامٍ, لا بإبْتداءِ ما خلقه اللهُ قبلَ ذلك .
الوجهُ الخامسُ : أنّه ذكرَ تلك الأشياءَ بِما يدلُّ على كَوْنِها ووجودِها , ولم يَتعرَّضْ لإبتداءِ خلقِها , وذكرَ السمواتِ والأرضَ بِما يدُلُّ على خلقِها ؛ فإنه قد عُلِم أنًّه لم يكنْ مقصودُه الإخبارَ بِخلقِ العرشِ , ولا الماءِ فضلاً عن أنْ يقصدَ أنَّ خلقَ ذلك كان مُقارناً لخلقِ السمواتِ والأرضِ .
وإذا لم يكن في اللفظِ ما يدلُّ على خلقِ ذلك إلا مقارنةُ خلقِه لخلقِ السمواتِ والأرضِ - وقد أخبر عن خلقِ السمواتِ معَ كونِ ذلك - عُلِم أنَّ مقصودَه أنَّه خلق السمواتِ والأرضَ حين كان العرشُ على الماءِ كما أخبر بذلك في القرآنِ ؛ وحينئذٍ يَجبُ أنْ يكونَ العرشُ كان على الماءِ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ , كما أخبر بذلك في الحديثِ الصحيح حيث قال : " قدَّرَ اللهُ مقاديرَ الخلائِق قبلَ أنْ يَخلقَ السمواتِ والأرضَ بِخمسينَ الفِ سنةٍ , وكان عرشُه على الماءِ " فأخبر أنَّ هذا التقديرَ السابقَ لخلقِ السمواتِ والأرضِ بِخمسينَ ألفِ سنةٍ حين كان عرشُه على الماءِ .
الوجهُ السادسُ : أنَّ النبيَّ – صلى اللهُ عليه وسلمَّ -إمّا أنْ يكونَ قد قال : " كان اللهُ ولَم يكنْ قبلَه شيءٌ " وإمّا أنْ يكونَ قد قال : " ولا شيءَ معه " أو : " غيرَه ". فإن كان إنّما قال اللفظَ الأوّلَ , لم يكن فيه تعرُّضٌ لوجودِه - تعالى -قبلَ جَميعِ الحوادثِ .
وإن كان قد قال الثانِيَ , أو الثالثَ , فقوله : " ولم يكنْ شيءٌ معه وكان عرشٌُه على الماءِ وكتبَ في الذِّكرِ " , إمّا أنْ يكونَ مرادُه : أنَّه حين كان لا شيءَ مَعَه كان عرشُه على الماءِ , أو : كان بعد ذلك كان عرشُه على الماءِ . فإنْ أراد الأوّلَ كان معناه : لم يكن معه شيءٌ من هذا الأمر المسؤول عنه وهو هذا العالَمُ , ويكونُ المرادُ أنَّه كان اللهُ قبل هذا العالَمِ المشهودِ , وكان عرشُه على الماءِ .
وأما القِسمُ الثالثُ , وهو أنْ يكونَ المرادُ به : كان لا شيءَ معه , وبعد ذلك كان عرشُه على الماء , وكتبَ في الذِّكرِ , ثم خلق السماواتِ والأرضَ , فليس في هذا إخْبارٌ بأوَّلِ ما خلقه اللهُ مُطلقاً , بل ولا فيه إخبارُه بِخلقِ العرشِ والماءِ , بل إنّما فيه إخبارُه بِخلقِ السمواتِ والأرضِ.
ولا صرّح فيه بأنَّ كوْنَ عرشِه على الماءِ كان بعد ذلك , بل ذكره بِحرفِ الواو , والواوُ للجَمْعِ المطلقِ والتشريكِ بين المعطوفِ و المعطوفِ عليه . وإذا كان لَم يُبيِّنْ الحديثُ أوَّلَ المخلوقاتِ , ولا ذكر متى كان خلقُ العرشِ الذي أخبرَ أنه كان على الماء مقروناً بقولِه : " كان اللهُ ولا شيءَ معه " دلَّ ذلك على أنّ النبيَّ - صلى الله عليه و سلم - لم يقصِدْ الإخبارَ بوجودِ اللهِ وحدَه قبلَ كلِّ شيءٍ وبإبتداءِ المخلوقاتِ بعد ذلك ؛ إذ لم يكن لفظُه دالاً على ذلك . وإنّما قصَدَ الإخبارَ بإبتداءِ خلقِ السمواتِ والأرضِ .
.
.
.
الوجهُ الثامنُ : أنْ يٌقالَ : هذا المطلوبُ لوكان حقّاً لكان أجَلَّ مِن أنْ يُحْتجَّ عليه بلفظٍ مُحتملٍ في خبرٍ لم يرْوِه إلا واحدٌ .
.
.
.
الوجهُ الحادي عَشَرَ : أنَّ كثيرًا من الناس يَجعلون هذا عُمدتَهم _ من جهةِ السَّمْعِ - أنَّ الحوادثَ لها إبتداءٌ , وإنَّ جِنْسَ الحوادثِ مسبوقٌ بالعدمِ ؛ إذ لم يَجدوا في الكتابِ والسنةِ ما ينطقُ بهِ , مع أنّهم يَحكون هذا عن المسلمين واليهودِ والنصارى .
كما يوجدُ مثلُ هذا في كتبِ أكثرِ أهلِ الكلامِ المُبْتدَعِ في الإسلام - الذي ذمَّه السلفُ - وخالفوا به الشرعَ والعقلَ , وبعضُهم يَحكيه إجْماعاً للمسلمين , وليس معَهم بذلك نقلٌ , لا عن أحدٍ من الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان , ولا عن الكتابِ والسُّنةِ , فضلا عن أنْ يكونَ هو قولَ جَميعِ المسلمين .
وبعضُهم يظنُّ أنَّ من خالف ذلك فقد قال بِقِدَمِ العالَمِ , ووافقَ الفلاسفةَ الدَّهْريةَ ؛ لأنه نظر في كثيرٍ من كتبِ الكلامِ فلم يَجدْ فيها إلا قولين : قولَ الفلاسفةِ القائلين بِقِدَمِ العالَمِ , وقولَ مَنْ ردَّ على هؤلاءِ مِنْ أهلِ الكلامِ ؛ الجهْميَّةِ والمعتزلةِ والكرَّامِيَّةِ الذين يقولون : إن الربَّ لَمْ يَزلْ لا يفعلُ شيئا , ولا يتكلمُ بشيءٍ , ثم أحدث الكلامَ والفِعلَ بلا سببٍ أصلا.
ومعلومٌ أنَّ هذا القولَ أشبهُ بِما أخبرت به الرسلُ مِنْ أن اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ , وأنَّ اللهَ خلق السمواتِ والأرضَ فى ستةِ أيام , فمن ظنَّ أنَّه ليس للناس إلا هذان القولانِ , وكان مؤمنا بأنَّ الرُّسلَ لا يقولون إلا حقا , يظنُّ أنَّ هذا قولُ الرسلِ ومن اتبعهم , ثم إذا طُولِبَ بنقلِ هذا القولِ عن الرسلِ لم يُمكِنْه ذلك , ولم يُمكنْ لأحدٍ أنْ يأتِيَ بآيةٍ ولا حديثٍ يدلُّ على ذلك , لا نصّاً ولا ظاهراً , بل ولا يُمكنُه أنْ ينقلَ ذلك عن أحدٍ من أصحابِ النبيِّ والتابعين لهم بإحسان .
وقد جعلوا ذلك معنى حدوثِ العالَمِ الذي هو أوَّلُ مسائلِ أصولِ الدِّين عندهم , فيبقى أصلُ الدِّين - الذي هو دينُ الرُّسلِ عندهم - ليس عندهم ما يعلمون به أنَّ الرسولَ قاله . ولا في العقلِ ما يدُلُّ عليه , بلِ العقلُ والسَّمْعُ يدلُّ على خلافِه . ومَنْ كان أصلُ دينِه - الذي هو عنده دينُ اللهِ ورسولِه - لا يعلمُ أنّ الرسولَ جاء به ,كان مِن أضَلِّ الناسِ في دينِه .
الوجهُ الثانِي عشرَ : أنّهم لما اعتقدوا أنّ هذا هو دينُ الإسلامِ أخذوا يَحْتجّون عليه بالحِججِ العقليةِ المعروفةِ لهم , وعُمدتُهم التي هي أعظمُ الحِججِ مَبْناها على إمْتِناعِ حوادثَ لا أوَّلَ لها , وبِها أثبتوا حدوثَ كلِّ موصوفٍ بصفةٍ , وسَمّوا ذلك إثباتاً لحدوثِ الأجسامِ , فلزمهم على ذلك نفيُ صفاتِ الربِّ - عزّ وجلّ - وأنه ليس له علمٌ ولا قدرةًُ ولا كلامٌ يقومُ به .
الوجهُ الثالثُ عَشَرَ : أنّ الغلطَ في معنى هذا الحديثِ هو من عدمِ المعرفةِ بنصوص الكتابِ والسنّةِ , بل والمعقولِ الصريحِ ؛ فإنه أوقعَ كثيراً من النُّظّار وأتباعِهم في الحَيْرةِ والضلال ؛ فإنّهم لَم يعرفوا إلا قولين :
قولَ الدهريةِ القائلين بالقِدَمِ .
وقولَ الجهميَّةِ القائلين بأنّه لَم يزلْ مُعَطّلا عن أنْ يفعلَ أو يتكلمَ بقدرتِه ومشيئتِهِ , ورأوْا لوازمَ كلَّ قولٍ تقتضي فسادَه وتُناقضُه , فبَقوا حائرين مُرتابين جاهلين . وهذا حالُ من لا يُحصى منهم ، ومنهم من صرّحَ بذلك عن نفسِه ,كما صرّح به الرازيُّ وغيرُه .
ومن أعظم أسبابِ ذلك أنّهم نظروا في حقيقةِ قولِ الفلاسفةِ , فوجدوا أنّه لَم يزلْ المفعولُ المُعَيّنُ مُقارناً للفاعلِ أزلاً وأبداً .
وصريحُ العقلِ يقتضي بأنه لا بدَّ أنْ يتقدَّمَ الفاعلُ على فِعلِه , وأنَّ تقديرَ مفعولِ الفاعلِ , معَ تقديرِ أنَّه لَم يزلْ مُقارناً له , لَم يتقدمِ الفاعلُ عليه , بل هو معه أزلاً وأبداًُ , أمرٌ يُناقضُ صريحَ العقلِ .
وقد إستقرَّ في الفِطرِ أنَّ كوْنَ الشيءِ المفعولِ مخلوقاً , يقتضي أنَّه كان بعدَ أنْ لَم يكنْ ؛ ولهذا كان ما أخبر اللهُ به في كتابِه مِنْ أنّه خلق السمواتِ والأرضَ , مِمّا يُفْهِمُ جَميعَ الخلائِقِ أنّهما حدثتا بعد أنْ لَم تكونا. وأمّا تقديرُ كوْنِهما لَم يزالا معَهُ - معَ كوْنِهما مخلوقين له - فهذه تُنكرُهُ الفِطرُ. ولَم يقلْهُ إلا شِرْذِمَةٌ قليلةٌُ مِنَ الدَّهْريّةِ ,كابنِ سينا وأمثالِه .
وأمّا جُمهورُ الفلاسفةِ الدَّهْريّةِ , كأرسطو وأتباعِه , فلا يقولون : إنّ الأفلاكَ معلولةٌ لِعِلةٍ فاعلةٍ ,كما يقوله هؤلاء , بل قولُهم وإنْ كان أشدَّ فساداً مِن قولِ مُتأخِّريهم , فلم يُخالفوا صريحَ المعقولِ في هذا المقامِ الذي خالفه هؤلاء . وإن كانوا خالفوه من جهاتٍ أخرى , ونظروا في حقيقةِ قولِ أهلِ الكلامِ ؛ الجَهمِيّةِ والقدَرِيّةِ ومن اتبعهم , فوجدوا أنّ الفاعلَ صارَ فاعلاً بعدَ أنْ لَم يكنْ فاعلاً , من غيرِ حدوثِ شيءٍ أوجبَ كونَه فاعلاً .
ورأوْا صريحَ العقلِ يقتضي بأنه إذا صارَ فاعلا بعدَ أنْ لَم يكنْ فاعلا , فلا بُدّ مِن حدوثِ شيءٍ , وأنه يَمتنعُ في العقلِ في أن يصيرَ مُمكناً بعدَ أن كان مُمتنعاً بلا حدوثٍ , وأنه لا سببَ يُوجِبُ حصولَ وقتٍ حدثَ وقتَ الحدوثِ , وأنّ حدوثَ جِنْسِ الوقتِ مُمتنعٌ . فصاروا يظنون إذا جَمعوا بين هؤلاءِ أنه يلزمُ الجمعُ بين النقيضين .
ومن أسبابِ ذلك أنَّهم لَم يعرفوا حقيقةَ السَّمْعِ والعقلِ , فلم يعرفوا ما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنّةُ , ولَم يُميِّزوا في المعقولاتِ بين المشتبهاتِ ؛ وذلك أنّ العقلَ يُفرِّقُ بين كونِ الْمُتكلمِ مُتكلما بشيءٍ بعدَ شيءٍِ دائماً , وكونِ الفاعلِ يفعلُ شيئاً بعدَ شيءٍ دائماً , وبين آحادِ الفعلِ والكلامِ , فيقولُ : كلُّ واحدٍ من أفعالِه لا بُدَّ أنْ يكونَ مسبوقاً بالفاعلِ , وأنْ يكونَ مسبوقاً بالعدمِ , ويَمتنعُ كونُ الفعلِ المُعَيّن معَ الفاعلِ أزلاً وأبداً . وأمّا كونُ الفاعلِ لَم يزلْ يفعلُ فِعْلاً بعدَ فعلٍ , فهذا مِنْ كمال الفاعلِ .
فإذا كان الفاعلُ حيّاً , وقيلَ : إنّ الحياةَ مُسْتلزمةٌ الفعلَ والحركةَ ,كما قال ذلك أئمّةُ أهلِ الحديثِ ,كالبُخاريِّ والدّارِمِيِّ وغيرِهِما , وأنه لَم يزلْ مُتكلماً إذا شاءَ , وبِما شاءَ , ونَحْوُ ذلك , كما قاله ابنُ المبارَكِ وأحْمدُ وغيرُهُما من أئمّةِ أهلِ الحديثِ والسُّنةِ , كان كونُه مُتكلماً , أو فاعلا من لوازم حياتِه , وحياتُه لازمةٌ له , فلم يزلْ مُتكلماً فعّالاً , مع العلم بأنّ الحيَّ يتكلمُ ويفعلُ بِمشيئتِه وقدرتِه , وإنّ ذلك يوجبُ وجودَ كلامٍ بعدَ كلامٍ , وفعلٍ بعدَ فعلٍ , فالفاعلُ يتقدمُ على كلِّ فِعْلٍ مِن أفعالِه , وذلك يوجبُ أنَّ كلَّ ما سواه مُحْدَثٌ مخلوقٌ , ولا نقولُ : إنه كان في وقتٍ من الأوقاتِ ولا قُدْرَةَ , حتى خلق له قدرةًَ . والذى ليس له قدرةٌ هو عاجزٌ . ولكن نقولُ : لَم يزلِ اللهُ عالِما قادراً مالكاً , لا شِبْهٌ لهُ ولا كَيْفٌ .
فليس معَ اللهِ شيءٌ من مفعولاتِه قديمٌ معه , لا بل هو خالقُ كلِّ شيءٍ , وكلُّ ما سواه مخلوقٌ له , وكلُّ مخلوقٍ مُحدَثٌُ كائنٌ بعدَ أنْ لَم يكن , وإنّ قُدِّرَ أنّه لَم يزلْ خالقا فعّالاً .
وإذا قيلَ : إنّ الخلقَ صفةُ كمالٍ ؛ لقولِه تعالى : { أَفمَنْ يَخلُقُ كمَنْ لا يَخلقُ } , أمكنَ أنْ تكونَ خالِقِيَّتُهُ دائمةً , وكلُّ مخلوقٍ له مُحْدَثٌ مسبوقٌ بالعدمِ , وليس مع اللهِ شيءٌ قديمٌ . وهذا أبلغُ في الكمالِ من أنْ يكونَ مُعَطَّلاً غيرَ قادرٍ على الفعلِ , ثم يصيرُ قادراً والفعلُ مُمكناً له بلا سببٍ .
وأما جَعْلُ المفعولِ المُعيّنِ مُقارِناً له أزلاً وأبداًُ , فهذا في الحقيقةِ تعطيلٌ لخلقِه وفِعلِهِ ؛ فإنَّ كونَ الفاعلِ مُقارناً لمفعولِه أزلاً وأبداً مُخالفٌ لصريحِ المعقولِ .
الوجهُ الرابعُ عَشَرَ : أنَّ اللهَ - تعالى - أرسلَ الرسلَ وأنزل الكتبَ لدعوةِ الخلقِ إلى عبادتِه وحدَه لا شريك له , وذلك يتضمّنُ معرفتَه لما أبْدَعَه مِن مَخْلوقاتِه , وهي المخلوقاتُ المشهودةُ الموجودةُ ؛ من السمواتِ والأرضِ وما بينهما , فأخبر في الكتابِ – الذي لَم يأتِ من عندِه كتابٌ أهدى منه - بأنَّه خلق أُصولَ هذه المخلوقاتِ الموجودةِ المشهودةِ في ستَّةِ أيامٍ , ثم إستوى على العرش .
وشرع لأهلِ الإيِمانِ أنْ يَجتمعوا كلَّ أسبوعٍ يوماًَ يعبدون الله فيه , ويَحتفلون بذلك , ويكونَ ذلك آيةً على الأسبوعِ الأوّلِ الذي خلق الله فيه السمواتِ والأرضَ .
ولَمّا لَم يُعرفِ الأسبوعُ إلا بِخبرِ الأنبياءِ , فقد جاء فى لغتِهم - عليهم السلام - أسْماءُ أيّامِ الأسبوعِ . وحينئذٍ ؛ فأخبروا الناسَ بِخلقِ هذا العالَمِ الموجودِ المشهودِ , وإبتداءِ خلقهِ وأنَّه خلقه في ستّةِ أيامٍ .
وأمَّا ما خلقه قبلَ ذلك , شيئاً بعدَ شيءٍ , فهذا بِمنْزلةِ ما سيخْلُقه بعدَ قيامِ القيامةِ , ودخولِ أهلِ الجنةِ وأهلِ النارِ منازلَهما . وهذا مِمّا لا سبيلَ للعبادِ إلى معرفتِه تفصيلاً .
ولِهذا قال عمرُ بنُ الخطابِ - رضيَ اللهُ عنه - : " قام فينا رسولُ اللهِ مقاماً فأخبرَنا عن بَدْءِ الخلقِ حتى دخلَ أهلُ الجنةِ منازلَهم , وأهلُ النارِ منازلَهم " . ( رواه البُخاريُّ ) . فالنبيُّ أخبرهم بِبَدْءِ الخلقِ إلى دخولِ أهلِ الجنَّةِ والنارِ منازلَهما .
وقولُه : " بَدْءُ الخلق " مثلُ قولِه فى الحديثِ الآخَرِ : " قدَّرَ اللهُ مقاديرَ الخلائِقِ قبلَ أنْ يَخلقَ السمواتِ والأرضَ بِخمسين ألفِ سنةٍ " فإنَّ (الخلائقَ ) هنا المرادُ بِها : الخلائقُ المعروفةُ المخلوقةُ بعدَ خلقِ العرشِ , وكَوْنِه على الماءِ ؛ ولهذا كان التقديرُ للمخلوقاتِ هو التقديرُ لخلقِ هذا العالَمِ , كما في حديثِ القلمِ : " إنّ اللهَ لما خلقه قال : اكتُبْ , قال : وماذا أكتُبُ ؟ قال : اكتُبْ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ " .
وكذلك في الحديثِ الصحيحِ : " إنَّ اللهَ قدَّرَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يَخلقَ السمواتِ والأرضَ بِخمسين ألفِ سنةٍ , وكان عرشُه على الماءِ " وقوله في الحديثِ الآخرِ الصحيح : " كان اللهُ ولا شيءَ قبله , وكان عرشُه على الماءِ ، وكتب في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ ، ثمّ خلق السمواتِ والأرضَ " , يُرادُ به : أنّه كتبَ كلَّ ما أراد خلقَه مِنْ ذلك ؛ فإنَّ لفظَ : (كلَّ شيءٍ) يَعُمُّ في كلِّ موضعٍ بِحَسْبِ ما سِيقتْ له , كما في قولِه : { بكلِّ شيءٍِ عليم } , { على كلِّ شيٍء قدير } , وقوله : { اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ} , { تُدَمِّرُ كلَّ شيءٍ } , { أوتِيَتْ مِنْ كلِّ شيءٍ } , { فتحنا عليهم أبوابَ كلِّ شيءٍ } , { مِنْ كلِّ شيءٍ خلقنا زوجين } .
وأخبرتِ الرُّسُلُ بتقدُّمِ أسْمائِه وصفاتِه كما في قولِه : { وكان اللهُ عزيزًا حكيماً } , { سَميعاً بصيرًا } , وأمثالِ ذلك . قال ابْنُ عبّاسٍ : " كان ولا يَزالُ " , ولَم يُقيِّدْ كوْنََه بوقتٍ دون وقتٍ .
ويَمتنعُ أنْ يُحْدِثَ له غيْرُه صفةً , بل يَمتنعُ توَقُّفُ شيءٍ من لوازمِه على غيرِه - سبحانه – فهوالمستحِقُّ لغايةِ الكمالِ , وذاتُه هي المُسْتوْجِبةُ لذلك فلا يَتوَقفُ شيءٌ من كمالِه ولوازمِ كمالِه على غيرِه .
وإذا قيلَ : لَمْ يكنْ مُتكلماً ثمّ تكلمَ , أو قيل : كان الكلامُ مُمْتنِعاً ثمّ صار مُمْكِنا له ,كان هذا - معَ وصفِهِ له بالنقصِ في الأزلِ , وأنه تَجَدَّدَ له الكمالُ , ومعَ تشبيهِهِ له بالمخلوقِ الذي ينتقلُ من النقصِ إلى الكمالِ - مُمْتنِعاً مِنْ جهةِ أنَّ المُمْتنعَ لا يصيرُ مُمْكِنا بلا سببٍ , والعدمُ المَحْضُ لا شيءَ فيه , فامْتنعَ أنْ يكونَ المُمْتنِعُ فيه ؛ يصيرُ مُمْكناً بلا سببٍ حادثٍ .
وأمّا القائلون بِقِدَمِ هذا العالَمِ , فهُم أبعدُ عن المعقولِ والمنقولِ مِنْ جَميعِ الطوائفِ ؛ ولِهذا أنكروا الكلامَ القائمَ بذاتِه , والذي يَخلقه في غيرِه . ولم يكنْ كلامُه عندهم إلا ما يَحدُثُ في النفوسِ من المعقولاتِ والمُتَخيَّلاتِ.
وهم ليس لهم دليلٌ قطُّ على قِدَمِ شيءٍ مِن العالَم , بل حُجَجُهم إنَّما تدُلُّ على قِدَمِ نوعِ الفِعلِ , وأنَّه لَم يَزلِ الفاعلُ فاعلاً , أو لَم يَزلْ لِفِعلِه مُدّةٌ . وليس في شيءٍ من أدلتِهم ما يدُلُّ على قِدمِ الفلكِ , ولا قِدَمِ شيءٍ من حركاتِه , ولا قِدَمِ الزمانِ الذي هو مِقدارُ حركةِ الفلكِ . والرسلُ أخبرت بِخلقِ الأفلاكِ , وخلقِ الزمانِ الذي هو مِقدارُ حركاتِها .
الوجهُ الخامسُ عَشَرَ : أنَّ الإقرارَ بأنَّ اللهَ لَم يزلْ يفعلُ ما يشاءُ , ويتكلمُ بِما يشاءُ , هو وصفُ الكمالِ الذي يليقُ به , وما سوى ذلك نقصٌ يَجبُ نفيُه عنه ؛ فإنَّ كونَه لَم يكنْ قادرا ثم صار قادرا على الكلامِ أو الفعلِ - مع أنّه وصفٌ له - فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً عن صِفةِ القدرةِ التي هي من لوازمِ ذاتِه , والتي هي من أظهرِ صفاتِ الكمالِ . فهو مُمتنعٌ في العقلِ بالبرهانِ اليقينيِّ ؛ فإنه إذا لم يكنْ قادرا ثم صارَ قادراً , فلا بدَّ مِنْ أمرٍ جعله قادراً بعدَ أنْ لَم يكنْ , فإذا لم يكن هناك إلا العدمُ المَحضُ , امتنعَ أنْ يصيرَ قادراً بعد أنْ لَم يكنْ . وكذلك يَمتنعُ أن يصيرَ عالِماً بعد أنْ لَم يكنْ قبلَ هذا , بِخلافِ الإنسانِ ؛ فإنه كان غيرَ عالِمٍ ولا قادرٍ ثمّ جعله غيرُه عالِماً قادراً .
وهذا مِمّا أوردَه الإمامُ أحمدُ على الجهميةِ ؛ إذ جعلوه : كان غيرَ مُتكلمٍ ثمّ صار مُتكلماً . قالوا : كالإنسان . قال : فقد جَمعتم بين تشبيهٍ وكفرٍ . وقد حكيتُ ألفاظه في غيرِ هذا الموضعِ .
وأيضاً فما مِن حالٍ يُقدِّرُها العقلُ إلا والفِعْلُ فيها مُمْكِنٌ , وهو قادرٌ. وإذا قدَّرَ قبل ذلك شيئاً , شاءَه اللهُ , فالأمرُ كذلك . فلم يزلْ قادراً , والفعلُ مُمكِنٌ , وليس لقدرتِه وتَمَكُّنِه من الفعلِ أوَّلٌ , فلم يزلْ قادراً يُمْكنُه أنْ يفعلَ , فلم يكنِ الفعلُ مُمتنِعاً عليه قطٌّ .
وأيضاً فإنّهم يزعمون أنه يَمْتنعُ في الأزلِ , والأزلُ ليس شيئاً محدوداً يقفُ عنده العقلُ , بل ما مِنْ غايةٍ ينتهي إليها تقديرُ الفِعلِ إلا والأزَلُ قبلَ ذلك بلا غايةٍ محدودةٍ , حتى لو فُرِضَ وجودُ مدائنَ أضعافِ مدائنِ الأرضِ , في كلِّ مدينةٍ مِنَ الخرْدَلِ ما يَمْلؤها , وقُدِّرَ أنّه كلما مضتْ ألفُ ألفِ سنةٍ فنِيَتْ خرْدلةٌ , فنِيَ الخرْدَلُ كلُّه والأزلُ لم ينتهِ , ولو قُدِّرَ أضعافُ ذلك أضعافاً لا ينتهي . فما مِنْ وقتٍ يُقدَّرُ إلا والأزل قبلَ ذلك , وما مِنْ وقتٍ صدَرَ فيه الفعلُ إلا وقد كان قبلَ ذلك مُمْكناً , وإذا كان مُمْكناً فما الموجِبُ لتخصيصِ حالِ الفعلِ بالخلقِ دون ما قبلَ ذلك فيما لا يتناهى ؟!
وأيضاً , فالأزلُ معناه عدمُ الأوَّليَّةِ , ليس الأزلُ شيئاً محدوداً , فقولنا : لَم يزلْ قادراً بِمنزلةِ قولِنا : هو قادرٌ دائماً . وكونُه قادراً وصفٌ دائمٌ لا إبتداءَ له , فكذلك إذا قيل : لَم يزلْ مُتكلماً إذا شاءَ , ولَم يزلْ يفعلُ ما شاء , يقتضي دوامَ كونِه مُتكلماً وفاعلاً بِمشيئتِه وقدرتِه .
وإذا ظنَّ الظانُّ أنّ هذا يقتضي قِدَمَ شيءٍ معَهُ ,كان مِن فسادِ تصوُّرِهِ ؛ فإنه إذا كان خالقُ كلِّ شيءٍ , فكلُّ ما سِواهُ مخلوقٌ مسبوقٌ بالعدمِ , فليس معه شيءٌ قديمٌ بِقِدَمِه .
وإذا قيل : لَم يزلْ يَخلقُ كان معناه : لَم يزلْ يَخلقُ مخلوقاً بعدَ مخلوقٍ , كما لا يزالُ في الأبدِ يَخلقُ مخلوقاً بعدَ مخلوقٍ . . وليس فى ذلك إلا وصفُه بدوامِ الفعلِ , لا بأنَّ معَهُ مفعولاً من المفعولاتِ بعينِه . وإنْ قُدِّرَ أنّ نوعَها لَم يزلْ معَهُ , فهذه المَعِيَّةُ لَم ينفِها شرعٌ ولا عقلٌ , بل هي مِنْ كمالِه . قال تعالى : { أفَمَنْ يَخْلقُ كمَنْ لا يَخْلُقُ أفلا تذَّكرون} . والخلقُ لا يزالون مَعَه , وليس في كونِهم لايزالون معه في المستقبلِ ما يُنافي كماله , وبين الأزلِ فى المستقبلِ * , مع أنه في الماضي حدثَ بعدَ أنْ لَم يكنْ ؛ إذ كان كلُّ مخلوقٍ فله إبتداءٌ , ولا نَجزمُ أنْ يكونَ له انتهاءٌ .
وهذا فرقٌ في أعيانِ المخلوقاتِ , وهو فرقٌ صحيحٌ , لكن يشتبهُ على كثيرٍ من الناس النوعُ بالعَيْنِ , كما اشتبه على كثيرٍ من الناس في الكلامِ , فلم يُفرقوا بين كوْنِ كلامِه قديِماً , بِمعنى أنه لَم يزلْ مُتكلماً إذا شاء , وبين كونِ الكلامِ المُعيَّنِ قديِماً . وكذلك لم يُفرِّقوا بين كونِ الفِعلِ المعَيَّنِ قديِماً , وبين كونِ نوعِ الفِعْلِ المُعَيّنِ قديِماً ,فالفَلَكُ مُحْدَثٌ مَخلوقٌ مسبوقٌ بالعدمِ , وكذلك كلُّ ما سِواهُ .
وهذا الذي دلَّ عليه الكتابُ والسُّنةُ والآثارُ , وهو الذي تدلُّ عليه المعقولاتُ الصريِحةُ الخالصةُ من الشُّبَهِ .كما قد بسطنا الكلامَ عليها في غيرِ هذا الموضعِ وبيّنا مُطابقةَ العقلِ الصريحِ للنقلِ الصحيحِ .
[ مجموع الفتاوى : 18 / 210 ] .
عبد الغفور
07-30-2010, 06:50 PM
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم (133): ( إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ، وأمره أن يكتب كل شيء يكون ) .
في الحديث إشارة إلى رد ما يتناقله الناس , حتى صار ذلك عقيدة راسخة في قلوب كثير منهم , وهو أن النور المحمدي هو أول ما خلق الله تبارك وتعالى , وليس لذلك أساس من الصحة , وحديث عبدالرزاق غير معروف إسناده , ولعلنا نفرده بالكلام في الأحاديث الضعيفة إن شاء الله تعالى .
وفيه رد على من يقول بأن العرش هو أول مخلوق , ولا نص في ذلك عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وإنما يقول به من قال كابن تيمية وغيره استنباطاً واجتهاداً , فالأخذ بهذا الحديث – وفي معناه أحاديث أخرى – أولى , لأنه نص في المسألة , ولا اجتهاد في مورد النص كما هو معلوم .
وتأويله بأن القلم مخلوق بعد العرش باطل , لأنه يصح مثل هذا التأويل لو كان هناك نص قاطع على أن العرش أول المخلوقات كلها , ومنها القلم , أما ومثل هذا النص مفقود , فلا يجوز هذا التأويل .
وفيه رد أيضاً على من يقول بحوادث لا أول لها , وأنه ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بمخلوق قبله , وهكذا إلى ما لا بداية له , بحيث لا يمكن أن يقال : هذا أول مخلوق , فالحديث يبطل هذا القول , ويعين أن القلم أول مخلوق , فليس قبله قطعاً أي مخلوق .
ولقد أطال ابن تيمية رحمه الله في الكلام في رده على الفلاسفة محاولاً إثبات حوادث لا أول لها , وجاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول , ولا تقبله أكثر القلوب , حتى اتهمه خصومه بأنه يقول بأن المخلوقات قديمة لا أول لها , مع أنه يقول ويصرح بأن ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بالعدم , ولكنه مع ذلك يقول بتسلسل الحوادث إلى ما لا بداية له , كما يقول هو وغيره بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية , فذلك القول منه غير مقبول , بل هو مرفوض بهذا الحديث , وكم كنا نود أن لا يلج ابن تيمية رحمه الله هذا المولج , لأن الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام الذي تعلمنا منه التحذير والتنفير منه , ولكن صدق الإمام مالك رحمه الله حين قال : ( ما منا من أحد إلا رد عليه إلا صاحب هذا القبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
Powered by vBulletin™ Version 4.2.1 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, ENGAGS © 2010