المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قطع الشوك عن علم السلوك ..



مالك مناع
02-15-2010, 10:28 PM
قطع الشوك عن علم السلوك

مقدمة عن علم السلوك

اختلاف الناس في طرق الوصول إلى الحق:

لقد اختلف الناس منذ الزمان القديم وإلى يومنا هذا، ومعهم المسلمون في أقوم الطرق التي يجب أن يسلكها الإنسان في العلوم الإلهية ليعرف الحقيقة، ومن ثم يدرك السعادة بمعرفتها، والسعادة باتّباعها.

فمنهم من سلك طريق النظر والقياس والعقل ظنا منه أنّ العقل يفضي دائما إلى النتائج البرهانية ولمّا وصل إلى حقائق الغيب توقّف وعاد أدراجه إلى المنهج التجريبي عندما أدرك أنّ الغيب طور آخر لا مطمع للعقل أن يدركه أو يتجاوزه، فأحسّ النّاس بالخيبة إذ أسمى الغايات وهي معرفة الخالق وأسرار هذا الخلق عجز عنه العقل، ولمّا عجز هذا النوع من العقل عن إدراك هذه المطالب العالية زعم أنّ الغاية من وجود الإنسان هو أن يتحرّر هذا الإنسان ويترفّه ويزدهر، فتبرير الهزائم فطرة مغروسة في عقل الإنسان جُبِل على طلب الأسباب ومعرفة العلل ليعلم أنّه حين لا يقدر على معرفة الأسباب و ربط العلل بالمعلولات يستخلص أنّ هناك عالما و علما و معرفة يقصر دونها فعليه أن يلتمس إليه طريقا أخرى.

ولمّا كان العقل لا يعرف من طرق العلم المزدوجة معه إلاّ طريق المعرفة القلبية، فإنّه أدرك منذ القدم أنّ جميع نظرياته مبنية على المعارف الضرورية التي يمدّه بها القلب، وأنه بدونها ينتهي إلى مرضه العضال وهو السفسطة ثم الوساوس.

فإذا كانت البديهيات مغروسة في فطرة الإنسان فيعني أنّ أحدا قد غرسها و حرص على أن يكون للقلب دور في مسالك العلوم.

إلاّ أنّ من أدرك هذه الحقيقة ظنّ المعرفة القلبية طورا أعلى من المعرفة العقلية ولذلك أراد أن يستقلّ بها مهملا المعرفة العقليّة، فانتهى به هو الآخر الأمر إلى تعظيم الوله و الحيرة و الجنون، إذ المعرفة القلبية معرفة وجدانية شعورية تقود غالبا إلى تعظيم المطلق و الكليّ ، والقلب أعجز المسلكين عن تبرير العلل الفرعية ومعرفة الأسباب العقلية التي لابدّ للإنسان منها لأعمار الأرض وتحقيق جانبه الماديّ، فانتهى الأمر إلى الروحانية المفرطة التي أهملت الحياة وبإهمالها الحياة أهملت البناء الأساسي الذي تقوم عليه الروحانية.

وعند المسلمين لم يختلف الأمر عن غيرهم، فإمّا الفلسفة والكلام والعقلانية، وإمّا الوجد والتجرد والروحانية، فما موقف أهل السنة والجماعة من كل هذا، وأية طريق سلكوا وما حجتهم؟.

إنّ الذي يلاحظه الباحث في هذا المجال لأول وهلة هو أنّ المسلمين كلّهم أي من الطرق الثلاث يقرون ببعثة الأنبياء ولكنهم يتعاملون مع مقام النبوة معاملة مختلفة، فأهل الكلام يعتبرون علم النبوة علما سمعيا نقليا لا يحمل في طياته الأدلة العقلية والبراهين المنطقية، ولذلك لابد عند توضيحه من الاستعانة بالطرق العقلية والحجاج عنه ببراهين العقل وطرق الجدال، فدخلوا هذا المضمار وانتهوا إلى ما يعرفه كثير من الناس إلى التناقض والحيرة أو تكافؤ الأدلة وضياع الحق والحقيقة بين ذلك.

فهذا إمامهم الرازي يزعم أنّ الدليل اللفظي السمعي لا يفيد اليقين إلاّ بعشر شروط هي:عصمة رواة تلك الألفاظ، وإعرابها وتصريفها، وعدم الاشتراك، والمجاز، والنقل، والتخصيص بالأشخاص والأزمنة، وعدم الإضمار، والتقديم والتأخير، والنسخ، وعدم المعارض العقلي.

ولو طبقنا هذه الشروط على كلامه هو لبطل كلامه.

أمّا الآخرون وهم أهل التجرّد والوجد فظنوا كأهل الكلام أنّ الأنبياء جاؤوا بعلوم لتنظيم العامة أن النبوة طور معرفي من أطوار المعرفة القلبية، ولذلك فإنّ ما يمكن أن يأخذ من النبي بواسطة السنّد يمكن أن يأخذ بواسطة الرياضة والتجرد أي الفيض و الإلهام.

طريقة أهل السنة و حججهم:

إنّ المقدمة التي تنطلق منها دعوة أهل السنة و الجماعة في طرق العلم المختلفة مقدمة إيمانية علمية، ليست مقدمة وجدية صوفية بحتة، ولا مقدمة عقلية كلامية صرفة، بل تجمع بين مخاطبة العقل الفطري الصحيح الخالي من الشبهات، والقلب السليم من الشهوات، أو بالأحرى تقود إلى ذلك.

لقد انحرف المتكلمون والصوفيون عن أصل العلم عند أهل السنة، ذلك أن طريقي النظر والوجد كل منهما واجب ولا بد منه، ولا تتم السعادة إلا به، لكن النظر النافع أن يكون في دليل ،فإن النظر في غير دليل لا يفيد العلم بالمدلول عليه ، والدليل هو الموصل إلى المطلوب والمرشد إلى المقصود ،والدليل التام هو الرسالة ، وكذلك العبادة التامة فعل ما أمر به العبد وما جاءت به الرسل ، فالقرآن ذكر القوة النظرية العلمية والقوة الإرادية العملية ، كقوله تعالى:{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} فالهدى كمال العلم، ودين الحق كمال العمل ، ويتوضح هذا الأمر بذكر مكانة العقل عند المتكلمة والمتصوفة وأهل السنة ، ثم ذكر كيف يكون النظر في الدليل الهادي.

فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة ، والأقوال المخالفة للعقل باطلة ، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه ، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه ، لكن المسرفين فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به ، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة ودخلوا في أحوال و أعمال فاسدة ، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم.

ومن أهل الحديث من يقترب إلى المتكلمة فيعارض به السنن الثابتة، ومنهم من يقترب إلى المتصوفة فيعزل العقل عن محل الولاية، ومثل ما هم في العقل هم في الوجد سواء بسواء. (انظر المجموع:210/3).

أخطأ المتكلمون والصوفيون في سلوك طرقهم ابتداء مجرّدة عن الإيمان بالله وبرسوله، مقتصرين على مجرد ما يحصله نظر القلب والعقل الموافق لما جاءت به الرسل تارة والمخالف له تارة أخرى، فمجرّد النظر العقلي، ومجرد التجرد السلوكي مجرد تعبد عقلي دون النظر الشرعي والعمل الشرعي.

فذكر الله يعطي الإيمان وهو أصل الإيمان، والله سبحانه هو رب كل شيء ومليكه، وهو معلم كل علم وواهبه، فكما أن نفسه أصل لكل شيء موجود ، فذكره والعلم به أصل لكل علم.

والقرآن يعطي العلم المفصل فيزيد الإيمان ، كما قال جندب بن عبد الله البجلي وغيره من الصحابة: " تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا "

ولهذا كان أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم:{ اقرأ باسم ربك الذي خلق} العلق، فأمره أن يقرأ باسم الله ، فتضمن هذا الأمر بذكر الله، وما نزل من الحق، وقال:{ خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}.

فذكر سبحانه أنه خلق أكرم الأعيان الموجودة عموما وخصوصا وهو الإنسان، وأنّه المعلم للعلم عموما وخصوصا للإنسان، وذكر التعليم بالقلم، الذي هو آخر المراتب ليستلزم تعليم القول، وتعليم العلم الذي في القلب.

وحقيقة الأمر أنّ العبد مفتقر إلى من يسأله من العلم والهدى، طالب سائل فبذكر الله والافتقار إليه يهديه الله ويدله، كما قال: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم " رواه مسلم في البر.

السلفي المقدمات المسلمة التي ينطلق منها هي: المقدمات الإيمانية المبنية على الطاعة والتسليم، والذكر المستوجب للعلم والمعرفة، بينما المتكلم والصوفي يسلم بمقدمات يبني عليها مشواره العلمي هي في الأخير ضلالات وجهليات .

وعليه نقول: أن ينطلق المسلم في طلب العلم باستيعاب العقائد السلفية والآثار السنية تسليما بصدق المخبر بها، وأنّها الوحي الذي لا يأتيه الباطل من أي جهة، هو الكفيل له بدرك ما يتفرع عن ذلك من علوم أخرى كأصول الفقه والفقه والسلوك وغيرها، غير أن يبدأ بهذه العلوم التي أساسها عقلي مجرد، أو وجدي مجرد عن المقدمة الإيمانية.

العلم بمعاني ما أخبر به الله تعالى، وأخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل فيه التفكير والتقدير كما جاء به الكتاب والسنة.

2ـ النظر الصحيح يكون في دليل حق ليتنزه عن الباطل، فالنظر إن كان في دليل هاد كالقرآن والسنة وسلم من معارضات الشيطان من شبهات وشهوات تضمن العلم والهدى، ولذلك أمر الله بالاستعاذة عند القراءة، أما إذا كان في دليل مضل، والناظر يعتقد صحته كمن ينظر في أصول المتكلمين معتقدا صحتها غير مميز بينها وبين أصول أهل السنة، أو قد تكون المقدمات صحيحة لكن التأليف بينها غير مستقيم، وفي الحالتين يدخل قلبه بعض الاعتقاد الفاسد.

فإذا كان الناظر لابدّ له من منظور فيه، والنظر في نفس المتصور المطلوب حكمه لا يفيد علما، بل ربما خطر له بسبب ذلك النظر أنواع من الشبهات يحسبها أدلة لفرط تعطّش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك التصور، وهذا ما قد حصل بالفعل لبعض المنتسبين للسنة عند ما نظروا في المنطق وهو نظر في دليل غير هاد بل مضل، ولم يكن معهم من العلم بطرق النظر القرآنية، والسنية السلفية الإيمانية نصيب كبير، استوجب لهم نوع اعتقاد فاسد، وشبهات تشابكت خيوطها فجاءوا بعلم خليط من أصول سنية وأخرى كلامية.

إنّ النظر المفيد للعلم هو ما كان في دليل هاد، والدليل الهادي على العموم والإطلاق كتاب الله وسنة نبيه، فبذكر الله وما نزل الحق يحصل النفع والهدى في العلم.

مقام النبوة:

من المعلوم عند كافة المسلمين الذين في دينهم نصيب صحيح من العلم أنّ الأنبياء والمرسلين عرفوا الله بالوحي المعرفة التي هي حقيقة المعرفة الموافقة للحقيقة المطابقة لها، وعبدوه العبادة التي هي حق له بحسب ما منحهم، وعرفوا من خصوص الربوبية ما لا يقوم به مجرد القياس النظري، ولا يناله مجرد الذوق الإرادي.

فهذه أم المقدمات العلمية وأساسها، و أي انحراف عنها يستلزم الباطل لا محالة، فمن اعتقد أنّ في النظر أو الوجد علما لم يعرفه الأنبياء فقد ضلّ سواء السبيل، وهو إلى الضرب والحبس أحوج منه إلى المجادلة والمناظرة.

المقدمة الثانية: وهي صنو الأولى ولا تقل عنها أهمية: أنهم قد أخبروا بالمقدمة الأولى وبلغوها البلاغ الكامل التام الذي ليس بعده بلاغ.

فإذا عرف الأنبياء الحق في العقائد والأحكام وبلّغوه كما عرفوه لزم أنّ معرفة هذا الحق متوقفة بالدرجة الأولى على معرفة أخبارهم، ولا يكون ذلك إلاّ بالسند أقصد بعلم الحديث، فبعلم الحديث نعرف الحق الذي عرفه الأنبياء وأخبروا به، فلزم أن أول طرق العلم؛ العلم بالسنة والآثار.

وعليه فما لا يتم معرفة الله ورسوله إلاّ به فهو مقدّم في المعرفة.

وبهذا يتبين أن:

1 ـ الطريقة الحديثية النقلية الجامعة بين النظر في الدليل الهادي "الكتاب والسنة"، والعبادة بالعمل الشرعي "السلوك الشرعي" موصلة إلى عين المقصود، وغيرها من الطرق لا توصل إلاّ إلى نوع المقصود لا إلى عينه، فلم توافق الطريقة السلفية لا في الوسائل، ولا في المقاصد.

2ـ الطريقة السلفية بناء الفرع على الأصل، وتقديم الأصل على الفرع، وهذا هو الحق الموافق للكتاب والسنة، وهذا أصلهم في العلم.

تعريف السلوك:

السلوك هو علم أحوال القلب وأعماله ولذلك يسمى" أعمال القلوب"، ويسمى كذلك "الرقائق" و"الزهد".

أهمية علم السلوك:

علم السلوك من العلوم التي سهّل الله إدراكها ومعرفتها، فتلقي السلوك عن الرسول صلى الله عليه و سلم من أسهل العلوم حتى إنّه أسهل من تلقي الفروع عنه، وما ذلك إلاّ أنّ السلوك هو الطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات و العبادات و الأخلاق، فهو للمؤمن بمنزلة الغذاء لابدّ له منه.

ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول، لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة، ولم يحصل بين الصحابة نزاع في ذلك كما تنازعوا في بعض مسائل الفقه التي خفيت على أكثر الصحابة.

ففي السلوك كان الصحابة كلهم يعلم ويبين أما في الفتيا والأحكام فلم تتكلم إلا طائفة منهم.

لقد كان الصحابة على علم كبير بأحوال النفس، وكانت سيرتهم أروع أمثلة السلوك، قال عمر يوم الحديبية لما أراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يصالح المشركين: يا أبا بكر أليس هذا برسول الله؟. قال:بلى، قال: أ لسنا بالمسلمين؟ قال:بلى، قال:أ ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا، فقال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنّه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني" فكان عمر يقول: فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق وأصلي من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي التي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا " البخاري.

فهذا العمل من عمر هو امتثال لقوله تعالى:{ إنّ الحسنات يذهبن السيئات} وقول النبي صلى الله عليه و سلم:"اتبع السيئة الحسنة تمحوها".

فالسيئة لا تخرج من القلب إلاّ بحسنة من جنسها، كالماء يطرد البول بالتكثير فيستحيل النجس داخل الطاهر.

والكتاب والسنة مملوء بمسائل السلوك، بل وعلى لطائف قضايا السلوك، كمقام الهمة والعزيمة، وفيه فصل لكثير من مسائله.

ويمكن استخراج السلوك من القرآن في أهم مسائله كـ: الصبر، اليقين، المحبة، الخوف، الرجاء، الرضا، الصدق، الإخلاص، التوبة، الشكر وغيرها.

قال أبو حازم:ما الدنيا؟ أما ما مضى فأحلام، وأما ما بقي فأمان وغرور، وما الشيطان حتى يهاب منه! لقد أطيع فما نفع و عصي فما ضر.

وهذا يمكن استخراجه من القرآن كما في قوله تعالى:{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور}"الحديد".

فالماضي عدم قد ولى و المستقبل عدم لم يأت، فلا تؤخر عمل اليوم لغد.

و أكبر قضية في السلوك الصوفي هي مسألة "الفناء" وقع فيها نزاع كبير فصله ابن القيم في"مدارج السالكين" بعد أخذ ورد بآية من كتاب الله وهي قوله تعالى:{ولقد رآه نزلة أخرى ـ عند سدرة المنتهى ـ عندها جنة المأوى ـ إذ يغشى السدرة ما يغشى ـ ما زاغ البصر وما طغى ـ لقد رأى من آيات ربه الكبرى}"النجم".

و لذلك إذا جئت إلى أئمة السلوك وجدتهم في العلم العظيم لا يرجعون فيه إلى أئمة الفقهاء وما ذلك إلا لسهولة مأخذه من الكتاب والسنة، أما في الفتيا والأحكام فغالبيتهم إن لم يكونوا كلهم مقلدة للأئمة الأربعة، لأنهم لا يستطيعون الاجتهاد في مسائل الفروع الدقيقة مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني على جلالته في علم السلوك كان في الفروع على مذهب أحمد بن حنبل.

سبب ظهور البدع في السلوك:

وبهذا تعرف سبب ظهور البدع في العبادات أعظم مما كثرت في باب الاعتقاد والقول، لأن السلوك و العبادة و الأخلاق من جنس الإرادة والاعتقادات من جنس القول، والإرادة يشترك فيها كل الناس أكثر من اشتراكهم في القول، لأن القول لا يكون إلا بعقل، والنطق من خصائص الإنسان، أما جنس الإرادة فهو مما يتصف به كل حيوان.

أسباب الاختلاف في علم السلوك:

وإنما وقع الاختلاف في علم السلوك كما وقع الاختلاف في الاعتقادات والأحكام عندما ترك شيوخ السلوك علم الكتاب والسنة، فخفي عليهم بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أو استعاضوا عنه بغيره من العلوم السلوكية كأخبار زهاد اليونان وفارس والهند، فوقعت الطامة وظهر الكفر والشرك في أصحاب السلوك، وهو المتمثل في الحلول والاتحاد.

وقد بدأ انحراف الزهاد والعباد بشكل ظاهر عندما ترك هؤلاء الرباط في الثغور، وتركوا طلب العلم الشرعي كما كان القدماء يفعلون، فلما أعجزهم العلم الشرعي لجئوا إلى الشطح وهو تحريف الكلم عن مواضعه بالتشدق فيه، وذكر العبارات الهائلة الفارغة من كل معنى صحيح، وهو ما اصطلح عليه فيما بعد بإشارات الصوفية وهي في الحقيقة الشطح الصوفي، وحقيقة هذه الإشارات في أكثرها مجهولات هائلة تميل إليها النفوس الجاهلة لأنها تستعظم ما لا تعرف معناه، قال الغزالي في "الإحياء" الشطح قسمان:

شطح هو ظلم وعدوان،وشطح هو جهل و هذيان،و الإنسان ظلوم جهال.

ومن هذا الشطح الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية، والمشافهة بالخطاب،جاء في "الحلية " عن بعضهم أنّه قال: فإذا صاروا إلى أعلاها ـ المحبة ـ شغلهم وجدان الخلوات عن كثير من أعمال الطاعات"، فهذا الصنف الأول.

أما الصنف الثاني: فكلمات غير مفهومة لها ظواهر رائعة، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءها طائل، وهي إما تكون غير مفهومة عند قائلها أطلقها في حالة اصطلام، أصدرها عن خبط في عقله وتشوش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه.

قال الغزالي: ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلاّ أنّه يشوش القلوب، ويدهش العقول، ويحيّر الأذهان.

الخلاصة:

1 ـ السلوك هو الاعتقاد والعبادة والأخلاق التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا حقيقة إلاّ حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا سلوك إلا سلوكه، ولا هدي إلاّ هديه.

2 ـ تعليم السلوك لا يكون إلاّ بالكتاب والسنة وإلاّ كان بدعة، فالسلوك المبني على دعوة التجوهر والتفريق بين الشريعة والحقيقة سلوك باطل ومن هنا يكون الرد على قول الشعراني:" لا يدع الشريعة تعترض عليه في شيء من أحواله".

لا سلوك و مجاهدة النفس إلا بالسنة:

ـ قال المعتمر بن سليمان التيمي: مات صاحب لي كان يطلب الحديث فجزعت عليه، فرأى أبي جزعي عليه، فقال: يا معتمر صاحبك هذا على السنة؟ قلت: نعم، قال: فلا تجزع عليه ولا تحزن.

ـ قال يونس بن عبيد: ليس شيء أعز من شيئين: درهم طيب ورجل يعمل بالسنة.

ـ قال أبو عثمان الحيري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لقوله تعالى:{وإن تطيعوه تهتدوا}"النور".

ـ قال أبو حفص النيسابوري: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال.

ـ قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.

ذكر ابن أبي حاتم عن عباس الهمداني أبو أحمد - من أهل عكا- في قول الله:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قال: الذين يعملون بما يعلمون، يهديهم لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه، وقال: ليس ينبغي لِمَنْ ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في نفسه.

3 ـ الوجد والتجريد على منهج أهل السنة من طرق المعرفة، فإنّ ما يحصل للقلب من صفاء وبصيرة ودفع لخواطر الشيطان الملبّسة على الناس الحقّ بالباطل أمر يجل عن الوصف، وفي الترجمة الصحيحة لبعض العلماء والصالحين خاصة شيخ الإسلام ابن تيمية ما يحير العقول.

والحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين.

أرزيو/ الجزائر في 09/08/2009

مختار الأخضر طيباوي