المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قرآنيات



الشيخ عبدالرحمن عيسى
02-23-2010, 11:26 PM
قرُآنيَّات
أسرار .. وتفسير
نسخة جديدة ومَزيدة
الشيخ عبد الرحمن العيسى
------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
بوابة وعبور :
إن المقالاتِ المودعة َ في هذا الكتاب , قد كـُتبت في الأصل , ونـُشرت على
( الانترنت ) موقع منتدى التوحيد .. وهي في مجملها وتفصيلها , إبحار في كتاب الله : القرآن المجيد , وغوصٌ في بحار لآلئه وجواهره , حسْب الوُسْع والطاقة طبعاً , وما سمحت به عناية الله , وفـضله العـظيم , وما شاء من إحاطة بشيء من علمه وحكمته ..
وإنْ هي في حقيقة الأمر وواقعه , إلا قراءات ومكتشفات , ومفهومات فكرية وأدبية رائدة , مستفادة ومستقاة , من فحوى القرآن , وملهَماته الساطعة , ودلائله القاطعة , مما يشكل حجة إلهية لا تـُدحض , وإجابة ً وافية , وخطاباً قرآنياً فائق البحث والتصور , وسط بيئات وأوساط ومواقع , علا فيها زبد الباطل , ورغا الجمل الأرعن وتم كتم الحق المبين , وسادت أبجدية الظلم والإباحية , والفتنة والفساد العريض ..
وقامت أسواق النخّاسين : الفكريين والعـَلمانيين والإعلاميين , لتزيد الطينَ بـِلـّة , ولتؤجـج نيران الزيغ عن الإسلام الحق , ولتحيط َ جماهير الأمة : بمياه آسنة ومـلوَّثة , ولتـُمعن في غسيل الأدمغة , وتخدير المشاعر والأحاسيس , ونشرِ وبـثِّ ألوان من الثقافة والتثقيف , تزيد الناس : ضياعاً ورهَـقاً , وانهياراً في الأخلاق والسلوكيات ..
وأما الفكر الديني والإسلامي , فإنه رغم تمزقه , يأتي متراجعاً ومتعثراً , ومفعولاً به من قِـبل أولئك الآنفِ ذكرُهم , الذين يقفون بالمرصاد , سَدَنة وكهنة للوثنية الفكرية , وللشرك وعبادة الأصنام : فناً مكذوباً , وأدباً مكشوفاً , ورواياتٍ ملـفـَّقـة , ونـَتاج أقلام وألسنة : غـَثـَّة ومُجْـتـثة , وتأليهاً لمن لا يساوى جناح بعوضة ..
وأما ما هو رائع قرآنياً حقاً , فهو الرد بفوقية فائقة , على كل هذا الغـُثاء , والزبـَد الجُـفاء , وحجة إلهية قاهرة , فيها مزيد من بسطة العلم والقول والفكر , حيث تنحسر وتنكسر تلك الجحافل الجرارة , من العابثين والانتهازيين والمنافقين , الذين يلعبون بالنار , ويُـؤَصلون لعار الهزيمة , ويمهدون لكل أمر غير صالح , ويعتمون على آيات الله : في الآفاق , وفي الأنفس , وفي ثنايا واقع الحياة والمجتمع ..
إنها أنماط من الأسرار , والتفسير القرآني المحْـدَث , مودعة في طوايا هذا السِّفـْر , المفعم بما يُـثلج صدور المؤمنين , ويخفف عنهم بعض ما يعانون : من إحصار وحصار نفسي وعقلي , وإرهاب فكري وأمني , ويجعلهم يقفون على ما هو ذكر من الله جديد ومُحْدث , مرجعيته القرآنُ المجيد , وآياتـُه الناطقة بالحق , في أزمنة جنون الباطل , وبالحجة الإلهية الداحضة , لما يـُدندن به أعداء الله , من المستشرقين , وأتباعهم المستعربين , عُشاق كل مستحدث وحديث , يقذف به أولئك الأعداء المتربصون , والمتابعون لعملية إذلال المسلمين , وترسيخ مبدإ التفرق بينهم !..
والحقيقة : أن واقع هذا العصر , يحتم على أولي الأمر , من أهل العلم والفكر , أن يجأروا ويلهجوا بالـدين الخالـص لله , دون انتقائية ومـزاجية , وأن يـوجد فيهم من لا يخشى في الله لومة لائم حقاً , حينما يفصحون عن حالة الغموض والغوغائية , التي تكتنف الحياة المعاصرة لهذه الأمة , وما آلت إليه أمورها , التي لا ترفع رأساً , ولا تـَسر صديقاً , ولا تنكأ عدواً , وتدور في حلقة مفـْرغة , من التصادم والخصومة والعداوة , والتبادل للتهم المريرة , التي ينـْدى لها الجبين , ويذوب المؤمن الغيور : أسىً وحسرة , وابتئاساً شديداً , وحيـْرة محيرة ومذهلة ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. وحسبنا الله ونعم الوكيل.. عبد الرحمن
تقديم :
هذه أبحاث ومقالات , كُتبت في أواخر عاميْ : 1430 هـ ــ 2009 م .
المقالة الأولى بعنوان : على هامش القرآن المجيد .
والثانية بعنوان : فاتحة الكتاب .
والثالثة بعنوان : آية الكرسي .
والرابعة بعنوان : سنُريهم .
والخامسة بعنوان : وهذا ذكر مبارَك .
وكلها كما يبدو , نبعُها الفياض , من كتاب الله الخالد : القرآن المجيد .. نبعُ ماء الحياة الخالدة .. الذي يجدد ويعيد للناس روح الحياة , كلما ماتت فيهم الحياة ..
أبحاثها تدور حول مفهومات جديدة , تلقي مزيداً من الضوء , على حياتنا المعاصرة , بكل ما فيها من حُلو ومُر , ونفع وضر , وتنشر ألواناً من القراءات , الفاحصة عن مكنون بعض الآيات , وتدل على الله العظيم , من ثنايا كلامه الذاتي القديم , المفسر للوجود , والداعم بالحكمة الإلهية , ما يجرى على ظهر هذا الكوكب ..
لقد دخلتُ بها بُحبوحة العالم الأكبر , والملكوت الأنور , وعُدتُّ منها بمدرَكات ومُعْطيات , يعز وجودها في هذا الزمن الردييء , والواقع الوبيئ , حيث الضحالة والسطحية , والتكرار والاجترار , واللغط الإعلامي الجامح , والاكتفاء بظاهر من القول , وغُـثاء من الفكر , وهُراء ساقط , من الإبداع المدَّعى والمزعوم ..
إننا في هذا العصر , مضطرون إلى أسلوب مبتكر وطريف , في كيفية التعامل مع القرآن : فهماً وتدبراً , ومحاولةِ استنباط وعيٍ إسلامي وإنساني , يتفق ويأتلف مع الاحتياجات الضرورية المُلحَّة , التي يستدعيها واقع الزمن , ومآلات الأمور فيه ..
لأن ما ترامى إلينا عبر القرون البعيدة , من تُراثٍ مختلف الألوان والمشارب , لم يعد كافياً ولا مُغنياً , ولا يحقق رداً شافياً , على كل التساؤلات والتحديات , التي لم تكن قبلاً , والتي يتعرض لها كل من يريد أن يستمسك بعرى الإيمان , ويهتدي بهُدى الدين , سيما وأن أكثرية ساحقة من هذه الأمة , تتساقط سلوكياً وعملياً , كأوراق الخريف , في يوم عاصف , أو كبناء تداعى قواعده وأركانه !..
إن تفاسير القرآن العزيز , على اختلاف ألوانها ومصادرها , كانت لأزمنة مضت : ضرورية وكافية , ومُجْدية في حياة المسلمين الماضية , حيث الفطرة والبساطة , والإيمان والتسليم , والجو الإسلامي الصالح , الذي يُعين المؤمن , ويُمده بطاقة الدفع والسير والسلوك , والتعبد والاتباع الحقيقي , والإخلاص لله سبحانه ..
وأما الآن , فأصبحت تراثاً وخبراً .. في أجواءٍ راهنة , مشحونةٍ بمنكرات وموبقات غير مسبوقة , وخطيئات ترتج لها السموات , وجرائمَ مبرَّرة , وخيانات مسوَّغة , ومخترعات وسرعات واتصالات , تـُذهل عقول صانعيها وتعطل المدارك والأفهام .. وتـُغشـِّي السمع والبصر , وتفسر الحياة بشكل مختلف , وغير مؤتلف ..
ومَثل ذلك , كمثل من يتداوى بمحلول عُـشبي , وهو مصاب بأوجاع لم تكن في أسلافنا قط , وأمراض مستعصية , وفيروسات متمردة , وخلايا متسرطنة , ولا ينفع معها حتى غـرفُ العناية المشدَّدة . نسأل الله الوقاية والعافية . وحسن الخاتمة .. آمين ..
مستوى المكتوبات :
فتأتي هذه الكتابات المكتوبة , على قدَر مقدَّر , تـَدحض الجهل المهيمن على العقول والنفوس , وماران على قلوب العباد , بما كانوا يكسبون : من غِشاوة الغفلة والغرور , والرضى والقناعة بالخنا والفجور!.. وتؤسس وتؤصِّل لوعي قرآني جديد أي هذه الكتابات .. إنها خطابات مضيئة , في أزمنة الظلمات المثيرة , وفي غمار الانحراف الكبير وتَفجر الإثم ما ظهر منه وما بطن , وانهيار الأخلاق والقيم , ونشوء قيم ومزاجيات , غريبة كل الغرابة , عن روحنا وديننا الحنيف , وهُويتنا الأصيلة , وأحالت عيشنا وعلاقاتنا ومعاملاتنا , إلى أسوإ ما يكون , وإلى خوف ورعب , ومستوىً غير نظيف ولا طاهر , حيث يتم تناول الحياة , بعيداً عن الشرعية والعقل ..
إن ارتباط هذه الأمة بالقرآن , ارتباطاً وثيقاً , هو ــ في الحقيقة ــ فوق كل الارتباطات , ومن وراء جميع الأواصر والعلائق , ارتباطاً تنمحق فيه الأنانية , والمصالح الشخصية , والمآرب المادية , وما هو انتماء ومرجعية , إلا انتماء النبوة , ومرجعية القرآن : قولاً وعملاً , وفكراً وتصوراً , وسلوكاً رشيداً ..
وفي الأصل الأصيل , فإن الأمة التي تنتمي إلى القرآن : نهجاً وسلوكاً وعقيدة , لا مكان للضلال , ولا لليأس والبؤس في حياتها , ولا للظلم والإثم في سيرتها ومسيرتها .. وتسطيرِها صفحاتٍ مشرقة , في سجل التاريخ الصاعد ..
لأن القرآن المجيد , يغطي كل المناحي والظواهر , بكل ما يلزم من العناية الحقة , وتأمين أسباب الهداية , وتقديمِ التفسير الأمثل والأحسن , لما يَعترض من مشكلات وعقبات ومنعطفات . ((ولا يأتونك بمثـَل إلا جئناك بالحق وأحسنَ تفسيراً))..
فالمشكلات يحلها , والعقبات يتجاوزها , والمنعطفات يُـقومها , والتساؤلات القلقة والمقلقة , يجيب عليها بمصداقية وحيادية , وكشفٍ للغطاءات الخفية ..
وحينما هذه الأمة , تـَضل سواء السبيل , وتنطلق هائمة بلا هاديٍ ولا دليل , فإن معنى ذلك , إدبارٌ عن القرآن , واتخاذه مهجوراً , وتركه مهملاً ومغموراً , إلا من بعض تلاوات صورية , هنا وهناك , وفي المآتم والمناسبات , ومن أجل الجوائز والمـسابـقات , وتأمين العـيش الرغـيد , وقضاء الوطر والحاجة , وجمع المال : حرصاً وطمعاً , وممارسة الشهوات والمصالح : جنوناً وإثماً ..
كما يحصل الآن , بكل التفاصيل , وعلى المكشوف , إذ لم يَعُـد خافياً ما يتعرض له كتاب الله الخالد : كتاب الحياة والوجود : من امتهان مقصود وغير مقصود , على أيدي رجال قراءٍ ومرجعيات , تتكسب بالقرآن , وتأكل به الدنيا , وتـُثري على حساب الكرامة الإيمانية , وافتقاد النزاهة , ومصداقية الدين والمتدين والقاريء !..
الهدف الكبير :
لقد كان الهدف من نزول القرآن : تدعيمَ الإيمان في القلوب , والتزكية في النفوس , وتثبيتَ فؤاد الرسول , وبناءَ الحضارة القرآنية الفائقة , ومواكبة سير الأمة منذ البداية , وحمايـتـَها من التعثر , ومُضِلات الهوى والفتن , وتقويمَ كل اعوجاج قد يتعرض له المؤمنون , ورأبَ الصدع ومنعَ التصدع , في حياة المسلمين , وإحباطَ الوساوس والغوايات , التي يقوم بها جماعة الشياطين , وحلفاؤهم من أشرار الإنس !..
إن القرآن المجيد , هو أعظم منهج للحفظ الإلهي , في حياة الأمة : رجالاً ونساءً فرادى ومجتمعين , يحفظهم ويصونهم , من كل ما يؤذيهم ويُرْديهم , ويَحْظر أن تكون قالة السوء فيهم , وذلك بما ينصحهم ويوجههم إليه , ويحذرهم منه , ويجعلهم يعتبرون ويستبصرون .. ويستعصون على الخداع والمكر , فلا يُخدعون ..
هذا وإن تعامل الصحابة والتابعين , مع القرآن المبين , هو التعامل المثالي الأفضل , فقد كانوا يحفظون الآيات تباعاً , ويعملون بها فوراً , كلٌّ حسْب الوُسْع والطاقة , فجمعوا بين العلم والعمل , وأخذوا النص إلى حـيِّـز التطبيق , فصارت حياتهم مُصحفاً وقرآناً , ونشأ المجتمع الإسلامي الصادق , وشبَّت وترعرعت خير أمة أخرجت للناس , وتكونت أروع حضارة أخلاقية إنسانية , في التاريخ على الإطلاق !..
وما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب , وذلك بفضل القرآن العظيم , الذي كان الراية الكبرى , ينضوي تحتها كل مسلم : حاكماً كان أم محكوماً , قائداً أم مَقوداً , كبيراً أم صغيراً .. وهذا شأن مؤكَّد ومسلَّم به : تاريخاً وعهداً , وعصراً زاهراً , وأخلاقياتٍ باهرةً , وسيرة عَجيبة عجيبة .. ليس للبشرية عهد بها من قبل ..
قابلية القرآن :
وقابلية القرآن , لأن يؤخذ به , ويـُتـَّبعَ هديه ونصحه , غير قابلة للشك والتردد بهيكلية مفتوحة على كل الأعصار والأطوار , دونما حرج ولا ضيق , ولا دونيةٍ ولا رجعية , ولا مثالية لا تقبل أن تكون واقعاً مُعاشاً , ولا حرفيةٍ محدودة , تجمد الفكر , وتمنع من الإبداع والتجدد , وتؤكد على العسر والتشدد , وكل ما هو اجترار وتجمد ..
وما دام الأمر كذلك , فما مَـثـَلنا حينما ندير ظهورنا للقرآن , ونضل هذا الضلال العديمَ النظير , إلا كمثـَل العيس في البيداء يقتلها الظما : والماء فوق ظهورها محمولُ ! فمائدة القرآن ممدودة , والدعوة مفتوحة , ونحن نموت جوعاً وجهلاً , وظمأ إلى معرفة ما وراء ظاهر الحياة الدنيا , وننكفيء على أعقابنا مدبرين , ومن أعدائنا الكافرين والحاقدين , نلتمس أن تكون لنا هُوية , وحضارة ومدنية !.. ثم أليس الضعيف مُولَعاً أبداً , بمحاكاة القوي , ومجاراته في تصرفاته , خصوصاً إذا كان يمتلك ناصية عِلم كوني مقتدر , يهيمن به على هذا الكوكب , ويتحكم في آفاقه وأقطاره, الأمر الذي يجعلنا مَدينين له , حتى في قدح الماء , ورغيف الخبز , ووصفة الدواء , وتحقيق الشفاء , وتعبيد الطريق , وحمل الأثقال , والهاتف النقال .. الخ ..
اللهم إلا أن تكون حضارة النار والحديد , والنفط والفحم الحجري , والإباحية المطلقة , والوحشية الهمجية الضارية !.. وهذا هو الوجه الآخـَر , لحضارة الغرب , وثقافته الاستعمارية العدوانية .. التي عشناها أكثر من قرن كامل ..
ونعود إلى القرآن .. وكما قال عليه الصلاة والسلام , فإن القرآن لا يضل من تمسك به , وهو حبل اعتصام لمن اعتصم به , ورائد فـَذ ٌَ لمن اتبع والتزم هداه , ولم يكن للأمة نصر بعد نكبة , ونهضة بعد كبوة , إلا وللقرآن الكريم , الفضل الأول , والقِـدْح المُعلىّ , إذ يفيء المسلمون عند الضرورة الملجئة , إلى ما يأمر به كتاب الله , تبارك وتعالى , ويأخذون بالجدوى من هَدي الله ورسوله ..
ولكن التعامل مع القرآن , على هذا النحو والمِنوال , ليس بالأمر الهين , وليس موكولاً إلى الأفراد , أن يفعلوه ويصنعوه , أي هذا التحول القرآني , بل لا بد من قيادة مؤمنة قوية , وريادة واقعية ومنطقية , تمسك بتلابيب الأمة , وتأخذ بناصيتها إلى وحدة الهدف والغاية , ومنطلق العمل الجماعي الواعد , والحشد الجامع لكل طاقة واستعداد وتأهب , تحت مِظلة القرآن , وبناء الإنسان الصالح ..
ولا بد لكل نهضة رشيدة , وعودة حميدة , من إرهاصات ومقدمات , توحي بما هو قادم , وتبشر بعكس ما هو قائم , مما لا يحتمله الواقع المتأزم , وعاداتـُه التي تكتسب صفة الاستمرار والديمومة , مع طول الأمد , وتراخي الزمن , فيظن الناس , وقد يعتقدون : أنْ لا مناصَ , وأن لا سبيل للخلاص .. وإن التقاليدَ المتبعة , والعوائد المعتادة , والانحرافاتِ المتجذرة , تنفي أية إمكانية لحصول مُنقلَب , وتغييرٍ محتملٍ ومرتقب .. فيمضي مركب الحياة , يمخر عـُباب بحر هائج ..
سنة التغيير القرآني :
ولكـنْ في الـقـرآن المجـيد , آليّات الـتـغـيير الإيجابي والسلـبي , ومقـتضى كل منهما , في إنجاز ذلك التغيير وتحقيقه , وبسط سلطان توازناته وموازينه ..
ومن الواضح لدى تدبر القرآن , أنه منهج كل التغييرات والتعديلات في الكون , وهذه التغييرات , دائمة ومستمرة , على شكل منعطفات وتحولات , في مراكز القوى والمسؤوليات .. التي تساهم في صنع واقع يتجدد مع الأيام , في هذه الحياة ..
إن الحياة من عهد آدم , تجرى على هذا النمط الدؤوب : من مداولة الأيام بين الناس , وتوزيع المهام والأنـْصِـبة والأدوار , وتقليب هذه الدنيا , على كل جنب ووجه واتجاه .. حيث يحصل التنوع والتطور , والترقي في سلم الأولويات والتصورات ..
فدوام الحال من المُحال , كما يقولون , وإحداث تغييرات وتعديلات , في واقع الأوضاع والشؤون , مرهون بقانون الموت , والنزع والعزل , وتجريدِ من بيده الأمر من أولي الأمر , وجعله واحداً من الذين تجري عليهم الأحكام , كما تجري على غيرهم من الأنام , سواء بسواء , دون تمييز ولا امتياز ..
فبينا ترى ملكاً مُطاعاً , ورئيساً مرهوباً , وأميراً مُسَلطاً , إذا بهؤلاء جميعاً يخرجون عن كونهم كذلك , بموت يموتون به , أو عزل يواجهونه , أو مرض وعجز لا يطيقونه !.. فتجرى عليهم أحكام التجريد , وإنشاءِ الأدوار من جديد ..
وهذه تقاليد سنة التغيير , لا يمكن تجاهلها , ولا الهروبُ منها , وهي بالمرصاد لكل من يريد أن يُجَمد الحياة , عند وضع مُعـيَّـن , وأن تركع عند قدميه , وتتوقفَ حركة التاريخ : إكراماً لهواه ومصلحته وعينيه .. وترجعَ عقارب الساعة إلى الوراء ..
وإن الحديث يدور حول التغيير الكلي , في بنية الوضع الإنساني , الذي يَطال أمماً وشعوباً , ويحـوِّل مسارها تحويلاً , ويُدخلها في مسار جديد , من المفاهيم والقيم والقناعات , وابتكار المباديء والشعارات , فيعتاد البشر عليها , وتصبح ملامح حياة مستقرة , ولكن إلى حين .. كما هو رائج ومؤكد , في نطاق الرصْد والملاحظة , والاستقراء المنطقي الثابت , في المقدمات والنتائج !..
ومن ثـَمَّ تحصل بعده التغييرات , لقلب صفحة الحياة مجدداً , بإحداث المعجزات الخارقة للعادات , وذلك بثورة شعبية , أو انقلاب عسكري , أو إتيان إلهي غير محتـسَب ولا محسوب .. وهكذا دَوالـيْـك ..
ولكن التغيير بشِـقيه : الإيجابي والسلبي , هو تغيير مختلف الموجبات والبواعث والنتائج والمقتضيات , التي تبرره وتسوغه , وتجعله يعبر عن أهداف القائمين عليه ..
فالتغيير الإيجابي : يحصل بمحض المنة الإلهية ابتداء , بعد ليل طويل , وظلام وظلم وكربات , وأهوال تـَشيب لها رؤوس الأطفال , وتـَظهر هذه المنة , على شكل روّاد يصنعون الحياة الجديدة .. حسْب استراتيجية مفـترَضة ومتصوَّرة ..
وأما التغيير السلبي , فإنما يكون وينجم , نتيجة تفلتٍ متـعــمَّـد , وتـَخففٍ من أعباء الحق والصدق والأمانة , وتغيير ما بالنفس من نية الطاعة لله , والإصرار على معصية الله , ومجافاة طريق الله : إيثاراً لطاعة النفس والشيطان , واتباع خطواتهما الـمُـذلـة .. التي تـَزيد الأمة رهَـقاً على رهَـق , وضياعاً على ضياع ..
وهنا يأتي قوله تعالى : (( إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم .. )) وهو التغيير السلبي , الذي يُودي بالناس , إلى أن يخرجوا من النور إلى الظلمات , ومن الحياة الـطيبة , إلى الحياة الرديئـة والـفـاسـدة !. استـبدالاً للذي هو أدنـى بالـذي هو خير , وتبديل نعمة الله كفراً , واتباعاً للهوى , وغـروراً بالدنيا : قناعة وإيثاراً ..
ويخطيء كثير من الناس , حينما يفسرون هذه الآية , بأن إحداث تغيير في حياتهمُ الـمُعْـوَجَة , مرهون ومرتبط بتغيير ما بأنفسهم , تغييراً إيجابياً هم يُحْدثونه , وهذا خطأ فـاحش , فإن الناس لو تـُركـوا وشأنهم ألـفَ عام , فـإنهـم لن يستـطـيـعوا أن يفعلوا ذلك , بمحض إرادتهم النفسية الأمارة بالسوء , وإلا كان لهم الفضل على الله !. وكان على الله أن ينتظرهم , إلى مالا نهاية !. أي فقد يأتي تغيير الله حينئذ !..
وما أشد غباءَ الذين يقولون للناس ــ بلغة الخطابة ــ : غيروا ما بأنفسكم , حتى يغير الله ما بكم من النقمة والضراء , وعيشة الضنك والبأساء , وعودوا إلى الكتاب والسنة .. هكذا بدون أسوة رائدة , ولا مُعيد مُـؤهَّـل , ومبعوثٍ للعناية الإلهية الحقة !..
ومنهم من ألف بعنوان : حتى يُغـَيروا ما بأنفسهم ..
وبهذه البساطة وبادي ِ الرأي , يحكمون على الأمة , أن تستمر في ضياعها وشتاتها , ويُسقطون دور العناية الإلهية , والتدخل الإلهي في هذا السياق ابتداءً ومِنة , وفرجاً ومخرجاً , وأسبابَ هداية فاعلة , تهدي قلوبهم , وتأخذ بأيديهم ونواصيهم ..
ويقول الله سبحانه , مبيناً سُنة التغيير السلبي : (( ذلك بأن الله لم يكُ مُغيـِّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )).((ألمْ تـَرَ إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً)) (( وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .. )) ..


وأما سنة التغيير الإيجابي , ففي قوله تعالى :
(( لقد مَنّ الله على المؤمنين ...)). (( وعَـلمك ما لم تكن تعلم ...)) . (( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ... )). (( واذكروا إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )) . (( الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهمُ الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ... )) ..
قد يحلو للبعض أن يجادل وكأن الأمر مجردُ تمنيات وأحلام , وأن الأمة في قعود ويركزعلى دورالبشر في التغيير , دون أن يلحظ أن الملحمة على أشدها , وأن كل الفرقاء يخوضون الحرب من أجل التغيير , وأن الله يصنع النصر الأكبر , من خلال طوفان الدماء والدموع , التي تجري وجرت من هذه الأمة , والتي تشكل الآن : أكبر نهر في التاريخ , يتدفق عناء وعطاء , فكيف يُصنع النصر , وكيف يُصنع التغيير ؟!..
عاقبة التوليِّ والإعراض :
ولكن ومهما يكن من أمر , فإنه لا عذر أصلاً , لمن يُعرض عن ذكر الله , ويأخذ بنصائح أعداء الله , ودعوة الشيطان , ليكون حزبه من أصحاب السعير .. ويخالفون عن أمر سيدنا رسول الله , صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ..
وقد قال عز مِنْ قائل : (( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) .. عذاب يعتصر أفئدتهم بالألم , الذي هو فوق طاقة التحمل ..
ومن مجموع المخالفين والمُعْـرضين , والفاسدين والمفسدين , تتكون الأمة المهزوزة الكيان , المتداعية القوة والسلطان , التي يُفترض فيها حينئذ , أن تتلقى الأوامر والتعليمات والشروط , من أعدائها الألداء والأقوياء , الذين لا يريدون لها عزاً ولا مَنعة , ويخططون لعارها ودمارها .. وسوء مصيرها ..
لقد كـُتب على هذه الأمة , أن يكون ــ في الأصل ــ قـدَرها سامياً , ومنصبها عالياً , ومسؤوليتها غالية وكبيرة : خلاصاً وإنقاذاً لأهل الأرض جميعاً , وهكذا كان ..
وأما الحالة الراهنة , فهي استثناء من القاعدة , وقد ضل العالَم بضلال المسلمين وماذا خسر هذا العالم بانحطاطهم , وخروجهم من دائرة الحركة التاريخية المشهودة , إلى هامش حياة التداعي والهبوط , والإمعان في إدمان السُّـكر والسقوط ؟..
ولكن الله ذو فضل على العالمين , وذو مِنة خاصة على هذه الأمة , بالإبقاء على القرآن المجيد , خالداً إلى قيام الساعة , ويتيح لها الفرص النادرة , كلما عبس الزمان , كي تعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية , ويَعودَ الحق إلى نصابه وأربابه , وتستعيدَ الأمة مقعدها تحت الشمس , في سياق آلـيّات وأحداث وملاحم , وقائدٍ رائد ملـهَم , تمهد له , وتـُوَطيء لقدومه : تطورات وتحولات وسياسات , قد تختلط فيها الأشلاء , وتسيل الدموع والدماء , ومن ثـَمَّ تنشأ ناشئة المستضعَـفين والمعذبين والمظلومين , من المؤمنين , المحتسبين الصابرين , الذين على عواتقهم تنهض الرسالة , وإليهم تكون الإمامة , في المحصِّلة والنتيجة .. والعاقبة ُ للمتقين ..
والآن يكتشف الجميع , أن الله هو الحق المُحِـق : في قوله وفعله وحكمته , وأن الأعداء هم المُدانون والمفـرِّطون , وهم الذين يملأون الأرض : فساداً وظلماً وجوراً ويُطبِّـقـون منهج الشيطان الرجيم .. ويأبى الله إلا أن يُتم نوره , وإلا أن يأتي أعداءه من حيث لم يحتسبوا , ويُخرجَ الحي من الميت , ويُطلعَ الصبح من ظلمات الليل والويل ..
التحول الأكبر :
مما لا شك فيه , أن القرآن المجيد , قد أحدث نزوله : ثورة وتحولاً جذرياً , في بقاع هذا العالم , كما كانت البعثة النبوية المحمدية , هي كذلك أيضاً ..
كانت الحياة قتاماً وظلاماً , كما كانت ظلماً واضطهاداً للأنبياء المرسَلين , ففريقاً يُكـَذبون , وفريقاً يُـقـتـَلون .. وهذا ناجم عن حقيقة أن الناس , لا يحبون الناصحين ..
ولم تتمكن رسالة من النجاح الواعد والصاعد , في عهد ما قبل الإسلام !.. بسبب المقاوَمة الغالبة المتغلبة , التي كانت تتعرض لها تلك الرسالات , في تلك الأزمنة العصيبة , التي لم يكن لأهل الإيمان فيها من خيار : سوى الإيمان أو الـموت : حرقـاً أو صلباً , أو طعاماً للأسود و الفهود !.. في قسوة ووحشية فاضحة ..
وكان العقاب وعذاب الاستئصال , يحصد الأمم والأقوام حصداً , ويبيدهم من الوجود , ويَـقـلب قراهم ومساكنهم عليهم , ويجعلهم كجذوع نخلٍ خاوية , أو كهشيمِ المحْتظِر , أو كعصْفٍ مأكول . فما بكت عليهم السماء والأرض , وما كانوا منظرين ..
ولكن ذلك كله , قد رُفع بنزول القرآن دُفعة واحدة , وأنهيَ هذا الأسلوبُ إلى الأبد , بالرحمة المهْداة : نبينا محمد صلى الله عليه وأله وصحبه وسلم ..
أما هذه الأمة , فقد أعطيت أمانيْن , وليس أماناً واحداً .. يقول سبحانه :
(( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبَهم وهم يستغفرون )) ..
ويقول : (( ويضع عنهم إصْرهم والأغلال التي كانت عليهم .. )) ..
فصار سكان الكرة الأرضية جميعُهم : أمة للحبيب الأعظم , مرحومة رحمة عامة شاملة .. وكما قال سبحانه : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ..
فحِدة الاضطهاد والحرج الشديد والتضييق , قد خـُففت إلى حد كبير , والمؤمنون يستمتعون بحماية إلهية , غير مسبوقة , والإتاحات والفرص الربانية , قد مَنَّ الله بها أخيراً , وتجلياتُ الصبر والإمهال , والتوسعة والصفح الجميل , تملأ السمع والأفئدة والأبصار : يقيناً وتطميناً , ورخصة مفتوحة , ومَخرجاً متنوعاً , وفرجاً قريباً ..
في حين أن جماعة الأنبياء المرسَلين , لم تكن فرص النصر والغلبة كافية لهم , ليحققوا نبوتهم , وينشروا رسالتهم .. وينقذوا أقوامهم ..
وأما المؤمنون بهم , فإنهم على قلتهم , لم يكونوا بمنجاة من أشد التعذيب والتحريق , والتنكيل الأشد فظاعة وهولاً .. دون رخصة ولا استثناء ..
قصص الأنبياء : مسلسل مُرعب ومُرهب , لا يكاد يكون له نفاد و انتهاء , وتستمر آليات البلاء والعناء , وتجبر الأشقياء , بحق المؤمنين والأنبياء ..
فهل أدركنا مدى الرحمة العظمى , التي عمت الكوكب وسكانـَه , بالقرآن والإسلام , وبسيد الأنام ؟.. وهل انتبهنا ولاحظنا كونَ الرسالة النبوية , كان لها هذا الحشد الكبير , من الانتصار الباهر والخالد , الذي لم تعرفه الأزمنة والظروف قبلاً !..
وهل حمدنا الله سبحانه الذي رفع عنا : ما كان مفروضاً على مَنْ قبلنا , وأيَّة حرية لم تشهد الدنيا لها مثيلاً , قد تفضل الله بها علينا , فكنا حقاً أحراراً في إيماننا وديننا , وخيارات ربنا التي كلها يُسر وتيسير وسهولة , وتخفيفٌ إلى أقصى حد ممكن ورحـمة جـديـدة ومـديـدة من رب غـفـور رؤوف رحـيم , يَـمن بالخـير , ثم يُـثـيـب علـيـه الجزيل , ويتقبل من العمل والإيمان ما نـُطيق , دونما إحراج ولا تضييق ؟!..
والله سبحانه وتعالى أجلُّ وأعلم , والحمد لله رب العالمين ..