المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرات في فقه التيسير



الشيخ عبدالرحمن عيسى
02-23-2010, 11:28 PM
نظرات
في فقه التيسير
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
حينما يكون الإسلام الحق , مسؤولاً عن قيادة المجتمع والدولة : فعلاً وحكماً , فإن التعامل مع الشريعة , لا يكون إلا بفقه التيسير , وما يوفره من أجواء إيجابية , محبَّبة إلى النفس , بعيداً عن القسر والإحراج , والشدة والإكراه .. فإنه : ( لا إكراهَ في الدين ) ..
وحينئذ يكون تطبيق ما يمكن تطبيقه , من أمر الدين والتدين , مسؤولية الجميع والمجتمع : قناعة واختياراً ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ عبد الرحمن ــــــــــــــــــــ
مقدمة وتقريب :
هذا البحث المُهـِم والحيوي , جاء على البديهة , وبعفو الخاطر والفكر , دونما عودة إلى مرجع أو مصدر .. فهو من مخزون النفس , وفيض الصدر ..
والمؤلفات والأبحاث في هذا السياق , مدروسة ومطروحة , ومدعَّمة بالبراهين والأمثلة والأدلة , الماثلةِ في مظانـِّها من الشريعة ..
وهذه المقالة , كأنها تختصر تلك المؤلفات والأبحاث , دون الرجوع إليها , والاستفادة منها . فهي غنية بذاتها , وتـَصِح أن يُطلق عليها :
مقدمة في فقه التيسير ..
ومن الضروري جداً , للقاريء المتابع على المواقع , أن تكون بين يديه وناظريه تـَقـدمة مكـثـَّفة وموجزة , لهذا النوع من الفقه الإسلامي العريق , الذي ينضح روحانية ونوراً , وحميمية صادقة , تجاه المسلم الذي يقع عليه عبء التكليف الشرعي , والذي يكابد أوزار هذه الدنيا الفاتنة , وغير الآمنة : وحيداً ومخذولاً !..
فيجد المسلم المعاصر نفسه , وقد أحاطت به ولازمته : أوضاع وملابسات وتحديات , لا عهدَ له بها من قبل , وهو يتلفت باحثاً عن مخرج , دون جدوى ..
ورجال الفتوى والشريعة , مشغولون بدنياهم , وأهمتهم أنفسُهم , يعتمدون النقل الحرفي , ويقدمون الفتاوى المسطورة , المودعة في المتون والحواشي والشروح , دون مشاركة وجدانية , من الفقيه المفتي , أو رأفةٍ تأخذه بالمستفتي , ورحمة يرحمه بها .. وأكثرها مرتجَلة , ومن بنات الأفكار السريعة !..
وهذا الزمن الرديء , يحمل إلينا كل يوم , ما لا يَجْمُـل ذكره , من خيانة لله ورسوله , ومداهنة في الدين , وموافقة لأهواء الناس , الباحثين عن أسباب التبرير والتسويغ , لما يرتكبون من أخطاء وخطايا , ويخالفون روح الدين والشرعَ المطهـَّر ..
فمن أجلهم يتم التلاعب بالألفاظ , والتحريف في الأدلة , والتنويه بكل قول ضعيف , وأثر موضوع , ويُعممون ما هو استثنائي ونادر , ويبنون عليه أحكاماً دائمة ويتخذونه منطلقاً إلى كثير من الأمر المحرَّم ..
وقد يوحون بأن هذا من باب التيسير والتطور , وتجديد الخطاب الديني , وهو ليس كذلك , بل هو خلط للأوراق , وتلفيق مذموم , وحرف ظاهر ..
وإنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امريء ما نوى .. وفرق كبير حتماً , بين مَنْ يأخذ بالتيسير : طاعة لله ورسوله , وبين مَنْ يفعل ذالك ابتغاء الفتنة , وقضاء لوطر في الصدر , وموافقة لأهواء أهل الأهواء , أو مرضاة ً للأغنياء والأقوياء والنساء !..


في البداية :
أردت أن أبين قيمة هذا الفقه في الحياة , كحل لصعوبة التعامل مع الشريعة , في
الظروف الراهنة .. وابتداء يقول عليه الصلاة والسلام : ( إن الدين يُسر ولن يُشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه ) . أي غلبه الدينُ , وكـبُر عليه , وبالتالي عجز الإنسان عنه , فيما إذا شدد على نفسه , ليكون متديناً في زعمه .. كانت البشرية في عماء عن الحقيقة الدينية , وكانت الواجبات والتكاليف : أشغالاً شاقة , وأغلالاً في الأعناق , وآصاراً ثقيلة على النفوس , حتى جاء الفرج الكبير ورُفع الحرج الأشد , بالإسلام وشريعته , وروحانية نبيه ودعوته , وخلـقـُه الفائق والرائع ..
إن ملة الحبيب محمد , صلى الله عليه وآله وسلم , حب ومودة ومرحمة , وإن رسالته إلى كل الأجيال والأمم , رسالة غوث وإغاثة , وتخفيف وتدارك , وبشرى عظيمة , بخلاص حقيقي , وانعتاق أخير , من أزمان التخلف والعقوبات , والمتاهة المُضِلة والمحيرة , والوعي الضئيل والقليل !..
إن الجُنوح إلى اليسر والتيسير , في الشريعة الإسلامية , أمر مقرر حكماً وفعلاً وممارسة وتطبيقاً , وهو يمثل قاعدة أساسية متقدمة , لدى تحقيق السلوك الأمثل , والعمل ِ بهذه الشريعة ..
يقول سبحانه : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) . ويقول أيضاً :
( يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفاً ) . وقال : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) . وقال عليه الصلاة والسلام : ( يَسِّروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ) ..
وما خُـيِّـر صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين , إلا اختار أيسرَهما , ما لم يكن إثماً .. وإن اختياره عليه الصلاة والسلام , للتيسير واليُسرى , في سائر مراحل حياته الشريفة , هو منهج نبوي لا يحيد عنه مطلقاً , ويَعيب على المتشددين والمعسِّرين ويصفهم بالـفـَتـَّانين !..


ويقول الله تبارك وتعالى له : ( ونـُيسرك للـيُسرى ) ..
وقد يترك عليه الصلاة والسلام , بعض العمل والعبادة , تخفيفاً على الناس , وخشية الحرج والمشقة .. ( وخشية أن تـُفـرض عليكم ) ..

وجاء في السنة النبوية المؤكدة : أن النبي عليه الصلاة والسلام , كان يترك العمل , وهو يحب أن يعمله , كراهية أن يَـسْـتنَّ به الناس , فيُفرضَ عليهم .. وكان يحب ما خـَفـف عليهم الفرائضَ ..
وجاء في السنة أيضاً : أنه عليه الصلاة والسلام , رخَّص في أمر , فتنزه عنه ناس , فبلغه ذلك , فغضب حتى بان الغضب في وجهه .. ثم قال : ( ما بالُ أقوامٍ يرغبون عما رُخِّص لي فيه , فوالله لأنا أعلمهم بالله , وأشدهم له خشية ) ..
وقال صلى الله على روحه السمحة : ( الحمد لله الذي جعل في الأمر سَعَة ً) .. ووصفه ربه بقوله : ( ويُحل لهم الطيباتِ ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصْرهم والأغلالَ التي كانت عليهم) فالرسول مفوَّض إليه : أن يفعل كل ما فيه تخفيف ورحمة.
ويقول النبي الأكرم : ( إن هذا الدين متين فأوغلْ فيه بـِرِفق .. ) ..
يُسْر الشريعة :
إن الإسلام في جانبه الأهم , هو آخر ما شرع الله للبشر , لكي يكون باقياً وخالداً ما دامت السموات والأرض , وإن الشريعة الإسلامية الغراء , طافحة باليسر واليسرى والتيسير , والتنوع في الاستنباط والحلول , وتقديم ما هو أخفُّ كلفة وتكليفاً , مع كثرة الأعذار والتبريرات الوقائية والعلاجية , والتوسع في المآخذ والمصادر الفقهية , حسب الوُسْع والطاقة , وحسب الظروف الطارئة , وحاجة المسلم إلى مُعطيات فقهية جديدة ..
وقد جاءت هذه الشريعة , بعد شدائد التشدد والعسرى , والحرج العظيم , حيث كانت تسود مادية التشريع , وجدَلية الفقه الحرفي المتزمِّت , وضبابية المعاني , وضخامة الإشكالات , وتضخمُ حجم المحرمات والمحظورات , وقلة الفرص المواتية .
إن مجيء الشريعة الإسلامية , على النحو الذي جاءت عليه , برهان ومؤشر على تطور القـدُرات العقلية , ونضج الإدراكات والمدرَكات المعنوية والفكرية , لدى المجموعات البشرية , خصوصاً في البيئة العربية , المقصودة أولاً بهذه الشريعة ..
فكان الإسلام : تخفيفاً ورحمة , وتكثيفاً لأمر التكاليف الإلهية , وتلطيفاً واختصاراً للأوامر والنواهي والممنوعات , وإلقاءً بالعهدة والمسؤولية , على ضمير المسلم , ووعيه الحضاري , وسعيه الأخروي ..
وإن السياسة الشرعية الراشدة , في الإسلام , تقوم في مجملها على قاعدة فقه التيسير , الذي يأخذ به الحاكم المسلم , عند مباشرة أمور السياسة , ومسؤولية الحكم ..
سماحة الفقه :
فالفقه الإسلامي في مُجمله , فقه سمْح ومَرِن ومتنوع , وباب الاجتهاد والبحث فيه مفتوح , وهو يساعد على تطور الحياة الإنسانية , وتقدمها وازدهارها , وتفعيل طاقاتها , وتحريض القوى العقلية والفكرية والنفسية فيها .. فيشعر الناس أن الله معهم , وأنهم يُرضون ربهم .. باتباع ما رضيه الشرع لهم ..
إن الفقه الحقيقي , في معناه الأعمق والأسمى , هو روح العلم والفهم , وهو سيد الأدلة والبراهين المرجِّحة , وهو جوهر حياة الفروض والأحكام الواردة , ومن يُردِ الله به خيراً يفقهه في الدين .. وهو فقه النفس , وفقه الروح والعقل والفكر والقلب , وذلك قبل أن يكون فقهَ الفتاوى الموضوعة , والأحكام الجاهزة ..
هذا بالإضافة إلى الهوامش المتسعة , وفـُرص الاستنباط المختلفة , المتاحة أمام الفقهاء والمجتهدين , والقضاة والساسة والحاكمين , لكي يقرروا ما يرونه مناسباً , في مجال البيئات والأعراف والمتغـَيرات , وسد الذرائع , وتجدد المقاصد والمطالب , التي هي مَرعية الإجراء , وواجبة الأداء : درءاً للمفاسد , وجلباً للمنافع , حسبما هو مقرَّر ومستقر , في علوم أصول الفقه الناظمة , والاجتهاد المطلق والمقـيَّد ..
التفات واهتمام :
هذا وإن الالتفات والاهتمام بشرح وتبرير فقه التيسير , في هذه الآونات والمآلات , له ما يوجبه ويؤكده , ويقدمه على أنه ضرورة مُلجئة , ومطلب عاجل , لدى أجيال العالم , وأجيال المسلمين بالذات , التي تمر بما لم يَمرَّ عليها مطلقاً ..
فإن هذه الأجيال , التي عانت طويلاً من أساليب القمع والقسوة , ولأواء الظروف الصعبة , كما عانت من فقدان العدل والرحمة , هذه الأجيال المحرومة من أبسط الحقوق الإنسانية , لدى الجماهير المسحوقة والـمَـنسية , ليست في حاجة بعد ذالك إلى مزيد من الحَجر والحَظر , والمنع والردع , والتعسير والعسر , وإنها كلها تطلع وتلهـف , إلى ما هو أيسر عليهم , وأرحم بهم , من الـمباديء الـصالحة لإنقاذهـم وإعادة الاعـتبار لهم , وإيصال فـضل الله إليهـم , الذي حُرموا منه , على حـساب تضخم قلة منهم .. قد صاروا مليئين وأثرياء , بأموال الفقراء والأرامل , واليتامى والمساكين , والرشاوى والمتاجرة بالدين ..
إشارة وتنويه :
ولا بد هنا من الإشارة والتنويه , بأن تأخر الأمة , واضمحلال وجودها , وتحجرَها عند حدود جمودها , مرده إلى حالة البعد والعزوف عن نهج النبي وخـُلقه العظيم , وفقهه المبسط والميسر والفطري , وانجراف الأمة وقواها العاقلة , إلى أسلوب التنطع والإكراه , والإرهاب الفكري والديني , والهرطقة الكهنوتية , والانسياق وراء الجزئيات والخلافيات , وتضييق دائرة المباحات والحوافز والإيجابيات , وتوسيع دائرة الكبائر والمحرمات , وصارت كلمة هذا حرام : دارجة ً على ألسنة الكبار والصغار , وطلاب العلم , وطوائف العوام ..
لقد جاء الإسلام : عقيدة وتشريعاً , وعبادة ومعاملة , وسياسة واقعية ومنطقية , ليزحزح عن كاهل البشر , الضغوط والضواغط والأهوال , والفرص الضيقة , والتنوع الضئيل , والتشدد الصارم , فصار جانب الروحانية والمعاني , والفكر المتنور, والنفس الملـهَمة , مقدماً على الجانب المادي البحت , والتقنين المَبرمج , والمحدودية المتشددة في الفكر والتصور , والسلوك الهابط والأدنى ..
تنبيه وتذكير :
ويجب أن يكون معلوماً , أن فقه التيسير , ليس أمراً اعتباطياً ولا كيفياً , ولا يخضع للأمزجة الشخصية , والأهواء المضلة , بل هو مرهون بضوابط وقواعد ومسوغات ضرورية , تؤدي إليه , وترفع الحرج والعسر والمشقة , عن المكلَّفين , وتتيح لهم تديناً سهلاً وميسراً , بحيث لا ضررَ ولا ضِرار .. ولا عذر لمتخلف , ولا مبطـِّيء ولا متباطيء , يتخذ من الظروف وسيلة لحياة التفلت والإباحة ..
ويأتي في طليعة القواعد المقرِّرة لمبدأ التيسير الفقهي : ارتكابُ أخفِّ الضررين والعفـْوُ عما يَشُق الاحترازُ عنه . واختيارُ أيسر الأمرين . وإذا ضاق الأمر اتسع . والضرورات تبيح المحظورات . وإن الله يحب أن تـُؤتى رُخَصُه , كما يحب أن تـُؤتى عزائمُه , والمشقة تجلب التيسير . وقضية ُ الاستحسان , والمصالح المرسلة ..
إلى آخر القواعد , والضرورات الملحَّة , التي ترفع الحرج , وتخفف من ضغط الحياة , وعُسر الظروف , وخطأ الإنسان , وقلة ما في اليد من حيلة , حينما يكون الخيار , بين الوقوع في الحرج والإثم , أو التخفيف والتيسير , وحل الأزمة الطارئة شرعاً , واللجوءِ إلى المخارج , والبدائل المشروعة طبعاً ..
إعادة النظر :
إن الفقه الذي صار بحراً , ذا أمواج متناقضة ومتلاطمة , يغرق فيه المسلمون ويبحثون عن طوق للنجاة , فلا يستطيعون , وضاعوا في متاهات الفتاوى والمفتين , واختلاف أئمة الدين !..الذين ظهروا في بيئات مختلفة , وأزمنة متباعدة ..
هذا الفقه , يجب إعادة النظر فيه , وتقريبُه إلى واقع الحياة المعاصرة , فإنه لم يعد آخرَ الزمن , متـسع لكثرة الضوابـط والـموانع , والحظـر والحـدود والخلافيات , والتـشددِ في كل جزئية , والتناقض في كل مسألة وقضية , وكأن ذلك من جوهر الدين وحقيقة الإسـلام , حتى ضاع الدين نفـسه , وغاب الإسـلام الحـق , بـغـيبوبة الـقائـمين عليه , واهـتمامهم بأمر الدنيـا , قبل الآخرة .. أي بأمر دنيـاهـم قبل دينهم !..
وبعد :
فإن للشريعة الإسلامية : مقاصدَ وأهدافاً وغاياتٍ , يُراد بها أصلاً : حفظ ُ الـدين والنفس , والعقل , والعرض , والمال .. وتحقيقُ المنافع والمصالح المشروعة للـناس , ودفـع الـمضارِّ والمساويء عنهـم , ترجـمة ً وتـنـفـيـذاً لقوله تبـارك وتعـالى :
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ..
ولكن ما هي ماهية فقه التيسير وحَدِّه الأوفى ؟..
إنها إفتاء المستفتي المسلم , بفتوى تـَحل له مشكلته التي عرضت له , بيسر وسهولة , واختيار الأقرب والأخف , من الأقوال والنصوص والاجتهادات , لإخراج المكلفين , الذين حَصِرت صدورهم , من ورطة الإثم , وعُقدة الذنب , وسوء التصرف وإشكالية الحال .. الذي يعجز الإنسان عن مقاومته ودفعه , فيقع تحت تأثيره !..
إذ كل ما يجلب المفسدة , ويُفوِّت المصلحة , ويوقع في الحرج والعسر , فيجب العدول عنه , إلى ما يريح ضمير المسلم , ويحقق له طمأنينة القلب , والوجدان والضمير .. وحسنَ المنقلب والعاقبة والمصير , دون ازدواجية ولا أنانية ..
وحتى في مجال الحدود والعقوبات المقـدَّرة بالشرع , على الجرائم والجنايات المنوَّه عنها , والموصوفة بصفات مخصوصة , فإنها قد تـُؤخذ : تخفيفاً أو إلغاء , بمقتضي القاعدة النبوية , المشهورة والثابتة , التي تقول : (ادرأوا الحدود بالشبهات)..
ولأنْ يخطيء الحاكم في العفو , خير من أن يخطيء في العقوبة !.
شأن المفتين :
وعلى كل , فإن التعويل على فقه التيسير , إنما هو شأن المتصدين للفتوى , وبيان حكم الشريعة , ومعالجةِ قضايا الناس والمجتمع , وهم الذين علموا بوجوه الاختلاف , ومصادر الأحكام , وترجيح الأدلة , وتنوع الخيارات والحلول , وصار لهم حِس فقهي , وملكة فقهية , بحيث يعلمون ما يأتون وما يتركون , وكانت لهم قناعات فقهية , يتحملون معها المسؤولية , وهم على درجة من الثقة واليقين , تخولهم الحق فيما يفتون .. فلا يفتون بغوغائية , ولا يخشون في الحق لومة لائم ..
وكانوا بحق هداة للمسلمين , ورعاة لمصالح عباد الله المؤمنين , بأمانة وحيادية بهم يكشف الله الكرب , ويزيل الخطب , ويحقق الصلاح والإصلاح بين الناس , ويصون الأسرة المسلمة , من التفكك والضياع , لمجرد النزق والغضب , ويحفظ لها كيانها , المؤسسَ على كلمة الله , وأمانة الله , وإرادة الحياة , واستمرار التجربة ..
أخيراً :
لعل فقه التيسير , الذي يأخذ حـيِّـزاً كبيراً , من موسوعة الفقه الإسلامي العام , وأصوله المعتمدة , يكون هو المخرجَ من الحرج , الذي يلوح ويبدو , حينما يراد الأخذ بالشريعة , لدى عودة الإسلام المرتقبة والموعودة , في مآلات هذه الدنيا , التي تفيض وتجري : فتناً ودماء ودماراً , وظلماً صارخاً , وقسوة غير مسبوقة , وشدائد مذهلة , واختلالاً مُخِلاً بكل توازن , وانفلاتاً من كل ربقة وقانون , وفوضى عارمة ورهيبة , ليس فيها متسع لتعقل ولا لتظلم ولا لمحزون .. ولا لعدل مُقـْسط وموزون ..
أضف إلى كل ذلك , أن الأعداء الكافرين والمنافقين , والمفسدين في الأرض , لا يدعون فرصة لذلك أصلاً , ويجعلون هذه الأمة تبكي وتنزف دماً !..
فكم يمضي من الزمن والجهد والتحول , حتى تستوي الأمور , وتنضج النفوس المؤمنة والصالحة , والمؤهلة لتقبل الشرع العتيد : شرع العزائم والحدود والتجديد !..
ترياق وشفاء :
إن فقه التيسير , هو الترياق في الزمن العسير , وهو فحوى التكليف , على الضعفاء والمستضعفين , والبعيدين عن موضوع التدين بالكلية , والناشئين والناشئات , في الإباحات والحريات والإباحية ..
وقد هلك المتنطعون , ولم يُـفلح ِ المتشددون ..
ومن فقه الحياة والدين , انطلقت مواكب الأمة , وتم فتح العالم , ودخل الناس في دين الله أمماً وأفواجاً , وتم بناء صرح الحضارة , التي ما عرف التاريخ لها مثيلاً ..
ولعل المقصود بفقه التيسير , ما كان خاصاً بالمعاملات والعقود , والعلاقات والأحوال الشخصية , والسياسات المرعية , والبيوع والأحكام المختلفة الأخرى , وما أكثرَها , وتتجدد مع الأيام .. وهي تخضع لقانون التغيير , بتغير ظروف الزمان والمكان , وما هو معترف به عـُرفاً , وخاضع وقابل للاجتهاد حقاً , وهذا بابه واسع وكبير جداً .. وحتى الـعـبادات , لا تخـرج عـن هـذا الإطار والاعـتـبار , ولكن بـنـسبة أقـل , لا مُـشاحَّـة َ في ذلك .. وهناك التيمم , والمسح عن الخُفين , واختصار الصلاة ..
إن اختلاف المذاهب الفقهية , وتنوع مصادرها وحلولها , قد يتيح للمسلم فرصة الحرية والاختيار للأنسب والأسهل , والأقربِ نفعاً , والأظهر وضعاً , وما فيه المخرج والفرج , وزحزحة الشدة والحرج .. وهذا موكول بالطبع , لأولي العلم والشرع .. الذين يبلغون رسالات الله , ويخشوْنه ولا يخشون أحداً إلا الله ..
لعلي بذلك , أكون قد وفـَّيت الموضوع بعض ما يستحق , من التبيين والإيضاح والاحتجاج بضرورات ومسوغات الأخذ به , أي بفقه التيسير , كي تفقه الأمة البعيدة عن الفقه في الدين , وما هو اللازم لها , واللائق بها , من هذا الفقه , بعد أن عانت طويلاً , من أساليب القمع والظلم , والولوغ في حمأة الموبقات والإثم , ولأواء الحياة العسيرة والمريرة , وفرض ِ أنماط من فقه القناعات المستوردة والمكذوبة والملفقة , وكيف السبيل إلى التدين الصحيح , حينما تتاح حرية الرأي والاعتقاد , التي ما عرفتها مجتمعات هذا الزمن , المليءِ بالادعاءات والمباديء : الفارغة والرنانة والخاطئة ...
حقائق وملاحظات :
ومن الملاحظ حضارياً وتاريخياً , أن فقه أي مبدإ أو دين , إنما يكوم ويتكوَّن ,
مـن خـلال الـحـركـة الـحيـاتيـة , الـتي يـقـوم بها الـمؤمنـون والملـتزمـون , بهـذا المبدإ , وهذا الدين ..
وحينما لا تسمح الظروف الصعبة بالالتزام , كما هي حالنا اليوم , فلا فقه يمكن تطبيقه , أو الفتوى به , إلا بشق النفس .. وإذا تعرض أتباع أي دين ودعوة , إلى فترة انحلال وتحلل , واستباحة للمحرَّم , واعتناق لمباديءَ وشعارات , مغايرةٍ تماماً لما كانوا عليه , فإن فقههم الذي شُرع لهم , يتم تعليقه تلقائياً , وتهميشه بالكامل , وتبقى رسوم وشكليات , لا تقدم ولا تؤخر ولا تؤثر , كآثار في المتاحف , وتراث غابر , أو كالأيقونات الخربة أو الموميات المحنـَّطة , وتصطفق أبواب دوائر الفتوى بالرياح , دون أن يطرقها زائر إلا من يظن أن الفتوى له , وليست لخصمه , وما أقلهم !..
وحينما يكون الدين , في مرحلته الابتدائية , فإن الفقه حينئذ : هو فقه المستضعَـفين والمضطهدين , وهو فقه الصبر والعذاب والأذى , والانتظار والارتقاب وتحَمِّـل ِ الهجوم المعاكس والظالم , حتى يأتي الله بالفتح , أو أمر من عنده سبحانه ..
وفي أزمنة الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني , يتكون فقه العبادات والمعاملات والعلاقات , وتوجيه وضبط ٌ لسنن الحياة , وسلوكيات الناس فيها ..
وما لا شك فيه , أن أجيال هذه الأمة , وأتباع هذا الدين , يعيشون في هذه الآونات , أسوأ فترة مرت عليهم , تذكرهم بأصحاب الأخدود , والعهد المكي , والجاهلية الأولى .. فأنىَّ للفقه المُـقـَنن , أن يكون له دور فاعل , أو فرصة مواتية , أو مَناط ُ تكليف معمول به , إلا في أضيق الفرص , وأندر القضايا ؟!..
الأمر الذي يجلو عنا : غياهب الغفلة والغباء والغرور , وكونـَنا يَخدع بعضنا بعضاً , ونظن أننا على شيء , وأن الفقه والدين وأهله بخير , وأنه لا بأس ولا ضيْر ..
لا بد لهذه الكبْوة الطويلة من نهاية , ولا بد للصبح أن ينجلي , وللقيد أن ينكسر , وللعدو أن ينحسر , وللأمة الموعودة من عودة , والحمد لله على أنه ليس الأمة ُ كلها , في استسلام واسترخاء , وأنه ما زالت بقية وطائفة , في ظهور وصمود واستعصاء ..
والله الموفق , وإليه المرجع والمآب .. وهو أجل وأعلم ..