مالك مناع
03-07-2010, 12:57 PM
ننتصرُ للسُّنَّةِ النبويَّةِ
بالدِّفاعِ عنها؛ لا بالتَّشكيكِ فيها!!
ردًّا على الدكتور محمد سعيد حوّى:
لفضيلة الشيخ: علي بن حسن الحلبي - حفظه الله -.
(مِن المسلَّمات عند العُلماء المُسلمين: حُجِّيَّةُ السُّنَّة النبويَّة، وأنَّها المصدرُ الثاني للتشريع، وأن طاعة رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فرضٌ لازمٌ لا خيار للمسلم فيه)... هذا ما بدأ به الدكتور محمد سعيد حوّى -وفَّقَهُ اللهُ- مقالَهُ المُعَنْوَنَ بـ(كيف ننتصرُ للسُّنَّةِ النبويَّة؟)، والمنشور في (جريدة الدستور) -الأُردُنِّيَّةِ- بتاريخ: (11/ربيع الأول/ 1431هـ)، وهو بدايةٌ حَسَنَةٌ لِعُنوانٍ مُشَوِّقٍ؛ استغلَّ فيه عواطفَ عامَّةِ المُسلمين في إحيائِهم ذِكْرَى مولدِ رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-!
ولكنْ؛ سَرْعان ما نَقَضَ الكاتبُ -غَفَرَ اللهُ له- كلامَهُ بما يهدمُهُ مِن أصله، وينقضُهُ مِن أساسِهِ، وبأُسلوب غير علميٍّ، ليس فيه إلا تَكرارُ كلام الروافض والمستشرقين، وأذنابهم من المستغربين.ولا يشفعُ للدكتور حوّى -هداهُ اللهُ- تخصُّصُه (الأكاديميُّ!) -في عُلومِ السُّنَّةِ النبويَّة- في أنْ يُمَرِّرَ مثلَ هذه الشُّبُهات والطُّعونات -تحت اسم (السُّنَّة)-، وهي البعيدةُ البُعْدَ كُلَّهُ عن منهجيَّةِ عُلماءِ السُّنَّةِ النبويَّةِ الأعلام، وصَفاءِ قُلوبِ أهل السُّنَّةِ النبويَّة تُجاهَ سُنَّة نبيِّهم -عليه الصَّلاة والسلام-. وحتّى لا أُطيلَ في التقديم -فأتأخَّرَ عن البيانِ-؛ أذْكُرُ (أهمَّ) ما أخطأَ به الدُّكتور حوَّى -غَفَرَ اللهُ لهُ-، وأُتْبِعُهُ بالرَّدِّ والتوضيحِ -مُعْرِضاً عمَّا هو دون ذلك- وإلا لَطالَ بنا القولُ-:
1- قال: (فعلَى الأرجحِ: لمْ تُدَوَّن السُّنَّةُ في حياتِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلّم- إلا قليلاً جدًّا)! وهذا باطلٌ مِن القول والادِّعاء العريض! ولو كلَّفَ الدُّكتور حوَّى (!) نفسَهُ بمُراجعةِ كتاب «دراسات في الحديث النبويِّ» للدكتور محمد مصطفى الأعظمي -والذي نالَ عليه أرفعَ جائزةٍ علميَّةٍ إسلاميَّةٍ - لَعَرَفَ بُطلان دَعواهُ، ولأَيْقَنَ أنَّ تسلسلَ التَّدوين العلميّ للسُّنَّةِ النبويَّةِ بَدَأ مُنذُ عصرِ الرسول -صلّى اللهُ عليه وسلَّم-، مُروراً بعصرِ الصَّحابةِ، وإلى عَصرِ التابعين؛ فمَن بعدَهُم مِن غيرِ انقطاعٍ -وبصورةٍ كثيرةٍ كبيرةٍ-؛ لِيُطابِقَ ما في صُدورِ الحُفَّاظ ما في سُطور مُدَوِّنِي السُّنَّةِ، وكُتَّابِها، وجامِعِيها -رحِمَهُم اللهُ- أجمعين-.
2- أمَّا استدلالُهُ -غَفَرَ اللهُ له- بحديثِ: «لا تكتُبُوا عنِّي، ومَن كَتَبَ عنِّي غيرَ القُرآن؛ فلْيَمْحُهُ»؛ فهو استدلالٌ منقوصٌ غيرُ قائم؛ إذ قد بيَّنَ الحافظُ الخطيبُ البغداديُّ في كتابِهِ «تقييد العِلم» الوجهَ الصحيحَ في فَهْمِ هذا الحديثِ، وأنَّهُ خشية «أنْ يُضاهَى بكتابِ الله -تعالى- غيرُهُ، وأنْ يُشتغَلَ عن القُرآنِ بسواه؛ فلمّا أُمِنَ ذلك، ودَعَت الحاجةُ إلى كَتْبِ العِلمِ لمْ يُكْرَهَ كَتْبُهُ» -كما هو نصُّ كلامِهِ -رحمهُ اللهُ-، والذي أقامَ كتابَهُ -كُلَّهُ- مِن أَجْلِ بيانِ الوَجْهِ الصحيحِ الحقِّ لهذا الحديثِ.
3- أمَّا قولُهُ: (إنَّ معظمَ السُّنَّةِ النبويَّةِ رُوِيَتْ بروايةِ الآحادِ، أي: برواية الواحدِ، أو الاثنين، أو الثلاثة)! قلتُ: فكان ماذا؟! هل العبرةُ -في الصحَّةِ والثُّبوتِ- بعددِ الرُّواة، أمْ بثقتِهِم وجلالتِهِم؟ وهل أهملَ عُلماءُ الحديثِ الأفذاذُ هذه القضيَّةَ المهمَّةَ حتَّى يجيءَ -بعدَ قُرون وقرون!- مَن يستدرِكُ عليهم في بديهيَّةٍ مِن أهم بَدِيهِيَّاتِ عِلم مصطلح الحديث، وثبوت الأسانيد -وأوَّلِيَّاتِهِ-؟! فالأصلُ -ولا بُدَّ- هو: ثقةُ الرُّواة؛ فإنْ كَثُروا: زاد ذلك الحديثَ صحَّةً واطمئناناً؛ فكان نُوراً على نُور...
4- أمّا ما ذَكَرَهُ الدُّكتور حوَّى مِن (ظاهرة نَقد المتن مِن قِبَلِ الصَّحابةِ أنفُسِهم؛ حيث لا سَنَدَ أصلاً حتَّى يُنقد، ولمْ يكن الصحابةُ يكذِّبُ بعضُهُم بعضاً)!! فهذه دَعْوَى غيرُ صحيحةٍ، وذلك مِن وُجوه:
أ- أنَّ الصحيحَ المرويَّ مِن ذلك (النقد) يسيرٌ جدًّا، لا يشكِّلُ (ظاهرة) بالمعنى المُدَّعَى -ألْبَتَّة-.
ب- أنَّ تَوَجُّهَ النقدِ كان لحِفظِ الرَّاوِي أصالةً، وليس تكذيباً له، أو نقضاً لخبرِهِ، وإنَّما مِن بابِ التخطئة لروايتِهِ -إنْ صحَّت تلك التخطئةُ وثَبَتَتْ-.
جـ- أنَّ التخطئةَ التي وُوجِهَ بها بعضُ الصحابةِ مِن صحابةٍ آخَرِين -لمرويَّاتِهِم- وُوجِهَتْ -أحياناً- بتخطئةٍ مضادَّةٍ، وثباتٍ على أصلِ الرِّوايةِ؛ دونَ الْتِفاتٍ لهذا النقد، فضلاً عن تغييرٍ للرِّوايةِ. فليست التخطئةُ بذاتِها طريقاً للإيقانِ بالخطأِ -كما هو ظاهرٌ-.
د- أنَّ نصَّ كلامِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ -ولفظَهُ- في تخطئتِهِ لفاطمةَ بنت قيس -وقد أوْرَدَ قصَّتَها الدُّكتور حوَّى- بَيِّنٌ في تحقيقِ هذا المعنى، حيث قال -رضي اللهُ عنهُ-: «لا ندعُ كِتابَ الله وسُنَّةَ نبيِّنا لقَوْلِ امرأةٍ لا ندري أحفِظَتْ أمْ نَسِيَتْ»، وهذا الجُزْءُ مِن الحديثِ لمْ يذكُرْهُ الدُّكتور حوَّى؛ فلماذا؟!
5- أمَّا (ظاهرة الرِّواية بالمعنى) التي أشارَ إليها الدُّكتور حوَّى؛ فليست هي بالصُّورةِ التي ادَّعاها، وبنَى عليها كلامَهُ بعدَها! وإنَّما الأمرُ فيها -مع التسليمِ بها- قائمٌ على ضوابط دقيقة، وشروط وثيقة؛ بَيَّنَها العُلماءُ، ودقَّقُوا فيها. ولعلَّهُ مِن هُنا بَدَأ نشوءُ (علمِ العِلَلِ)؛ الذي له أهلُهُ ورِجالُهُ -على مدارِ التَّارِيخِ العلميِّ الحديثيِّ -قديماً وحديثاً-. والحقُّ أنَّ الأصلَ في كُلِّ روايةٍ يرويها ثقةٌ حافظٌ أنْ تكونَ باللفظِ لا بالمعنى؛ فإنْ ثَبَتَ لنا أنَّها بالمعنى؛ نَظَرْنا: هل المعنى مُؤتَلفٌ، أم مُختلف؟! مُتَّفقٌ مع المُرادِ أمْ مُفترق؟! فليست القضيَّةُ فوضَى -مِن جهةٍ-، ولا دَعاوَى -مِن جهةٍ أُخْرَى-.
6- أمَّا (ظاهرة التفرُّد والغرابة)، التي أشارَ إليها الدُّكتور حوَّى (والتي يُفْتَرَضُ أنْ تُروَى مِن روايةِ الجَمعِ أو العددِ) -كما قال!-؛ فهي دَعْوَى -أيضاً- منقوضةٌ جدًّا؛ إذ للتفرُّدِ أسبابُهُ العلميَّة أو الاجتماعية -كما بيَّنَهُ العُلماءُ-. ولعلَّ أكبرَ ردٍّ على هذه الدعوى: افتتاحُ الإمامِ البخاريِّ «صحيحَه» بِحديثِ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات» -وهو فَرْدٌ-، واختتامُهُ -أيضاً- «صحيحَه» بحديث: «كلمتان خفيفتان على اللسان..» -وهو فَرْدٌ -أيضاً-. وأمّا الغرابةُ؛ فلها معنيان: معنى اصطلاحيّ، وهو لا يُعارِضُ الصِّحَّةَ والثُّبوتَ -مُطلَقاً-. ومعنى لُغَوِيّ، وهو معنىً نسبيٌّ جدًّا؛ فما قد يستغربُهُ (زيد) قد يقبلُهُ (عَمْرو)؛ فكان ماذا؟! أبمثلِ هذه الأوهامِ تُرَدُّ النُّصوصُ، وتُنقضُ المرويَّاتُ؟!
7- ما ذكرَهُ الدُّكتور حوَّى من (ظاهرة الأخذ عن أهل الكتاب، ومِن ثمَّ رواية الكثير من الإسرائيليات المنكَرة) كلامٌ لا وزنَ له؛ وذلك مِن وجهَيْن:
أ- أنَّهُ -أيضاً- ليس (ظاهرة) -ألْبَتَّة-، بل هو مفاريدُ ومُفردات ليس إلا؛ ثم إنَّ أهلَ العلمِ قد بيَّنُوا ذلك، ولمْ يسكُتُوا عنه، ولمْ يترُكُوه لمتمجهدِي القُرون الأخيرة!
ب- أنَّ الاتِّكاءَ على هذه الدعوَى الباطلةِ لإقامةِ ادِّعاءات أُخْرَى -أكثرَ بُطلاناً- متفرِّعةٍ عنها -مِن أنَّ: هذا الحديثَ عن أهل الكتاب!! أو: ذاك الحديثَ مِن الإسرائيليَّات: يُشَكِّلُ عُدواناً صارِخاً قبيحاً على مناهج المحدِّثين الأصيلةِ، وقواعدِهم الراسخةِ التي هي أكبرُ فَخَارٍ عرفه التاريخ -كُلُّهُ- للعرب والمُسلمين؛ فقد بيَّنُوا كُلَّ ذلك، وكشفوا عن حقيقةِ ما هُنالِك...
8- قولُ الدُّكتور حوَّى: (ظاهرة المذهبيَّة العقديَّة والفقهيَّة والتحزُّب لكلِّ مذهب، وكان لذلك آثار خطيرة في الرواية والرُّواة)!! كذا قال -هداهُ اللهُ-، وكأنَّهُ اكتشافٌ عصريٌّ جديدٌ!! فأقولُ: ألَمْ يكشفْ عُلماءُ الحديثِ عن هذا الخَلَل في عُصورِهِم الأُولَى؟! ألمْ ينقُد عُلماءُ الحديثِ الرُّواةَ -على تنوُّعِ أفكارِهِم-، ويُفنِّدُوا عقائدَهُم ومذهبيَّاتِهم؟! ألَمْ يكُنْ لِعُلْماء الحديثِ المنهجيَّةُ الدقيقةُ في الأخذِ عن هؤلاء المذهبيِّين، وتمييز رواياتهم المقبولة والمرذولة؟! ولكنْ؛ حقًّا: إن (ظاهرة المذهبيَّة العقديّة والفقهيَّة) أثَّرَتْ جدًّا في عُقولِ عددٍ ليس بالقليل من الأكاديميِّين العصرانيِّين -تأثُّراً بالمُستشرِقين، أو الروافض!-؛ للتشكيكِ بمُسَلَّماتِ أهل الإسلام، والطعنِ بأحاديث النبيِّ -عليه الصلاة والسلام-...
9- قول الدكتور حوَّى: (ظُهور روايات وطُرُق لأحاديث في كُتُب متأخِّرَة، لم تكن معروفة في القُرونِ الأُولَى، ولا في المدوَّنات المعتبرة -كالكتب التسعة-)!! فهذا من الدكتور حوَّى دليلٌ عَمَلِيٌّ تطبيقيٌّ على تأثُّرِهِ بالمُستشرِقين وأذنابِهِم؛ إذ إنَّ مُصطلَح (الكُتُب التِّسعة) مُصطلحٌ استشراقيٌّ صِرْفٌ؛ لمْ يعرِفْهُ أهلُ الحديثِ إلا بعدَ تأليفِ مُستشرِقِي (جامعة لَيْدن - هولندا) كتابَهُم «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبويّ» -أوائل القرن العشرين-؛ بخلاف مُصطلح (الكتب الستَّة)، أو مُصطلح (السنن الأربعة)؛ اللذَيْنِ كانا معروفَيْن لِعُلماءِ الحديثِ -مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ-. ثُمَّ يُقالُ: ما ليس معروفاً (عندك!) هو معروفٌ عند (غيرِك!) -يقيناً-، وما لم يُطبع مِن كُتُبِ السُّنَّة هذه الأيّام لا يدلُّ على أنَّهُ لمْ يكُنْ معروفاً أيّام الرِّواية، والجَمْع، والتخريج! فلا تخلِط!
10- قولُ الدُّكتور حوَّى: (ظُهور الاختلاف بين النُّسَخ الخطيَّة..) يُريد: لكتب الحديث النبويّ! فكان ماذا؟! أمْ أنَّهُ (تشكيك) جديد، ومِن زاويةٍ أُخْرَى؟! وهل معرفةُ ذلك، وإدراكُهُ -على التحقيقِ- أمْرٌ أُغْفِلَ بيانُهُ والتنبيهُ عليه مِن جهةِ عُلمائنا الأبرار، وأئمَّتنا الكِبار؟! أين أنت -أيها الدكتور- مِن «فتح الباري» وضبطه الدقيق -جدًّا- لكلِّ لفظ، أو كلمةٍ، أو حتَّى حرف- فيما تعرَّضَ له في شَرْحِهِ لـ«صحيح البخاري» -«صحيح» أهل الإسلام -على مرِّ الأزمان-؟! وعليه؛ فإنَّ ما ذَكَرَهُ الدُّكتور حوَّى -بَعدُ- مِن الإشارةِ إلى «شرح البخاري» -حُجَّةٌ عليه، لا له -لِمَن يعقلُ-!
وأمّا «سُنَن الترمذي» -واختلافُ نُسَخِهِ-؛ فلمْ يذكُرْ لنا الدُّكتور حوَّى: هل هذا الفرقُ المُدَّعَى- وقد بيَّنَهُ العُلماءُ في تحقيقاتِهِم، ورجَّحُوا الصحيحَ منهُ -قديماً وحديثاً-، فَرْقٌ مُؤثِّرٌ على أصلِ الثُّبوت والصحَّة؟! أمْ أنَّ ذِكْرَهُ والإشارةَ إليه -هُنا- مُجرَّد تشغيب؟!!
11- إشارتُهُ لـ(عِلم العِلل)، وقولُه -بعد- في وَصْفِهِ بكونِهِ: (ميداناً فسيحاً للاجتهادِ والنَّظَرِ)؛ أقولُ: بضوابطَ دقيقةٍ جدًّا -أوَّلاً-، ولمن هو لذلك أهلٌ -ثانياً-، مع عدم التسليم بكُلِّ ما يُذكَرُ فيه -ثالثاً-. ثُمَّ؛ هل انتقاداتُ الدُّكتور حوَّى لأحاديث «الصحيحَيْن» -أو أحدهما- قائمةٌ على هذا العلم الحديثيِّ الدقيق؟! أمْ أنَّها عنهُ بمَعْزل، ومنه بأبعد منزل!؟! وما ردُّنا عليه -فيما أثارَهُ على عددٍ مِن أحاديث «الصحيحَين» في بعضِ مقالاتِهِ -قبل شهورٍ-في كتابِنا «ردّ الدَّعوَى، وصدّ اعتداءات الدكتور محمد سعيد حوّى» إلا دليلاً واضحاً على بُعد حقيقتِهِ عن دَعواه.
12- زَعْمُهُ بأنَّ (علم الجرحِ والتعديلِ): (ما زالت قضاياهُ بحاجةٍ إلى تحريرٍ دقيق!): زَعْمٌ باطِلٌ؛ ذلكم بأنَّ هذا العلمَ العظيمَ توافَرَتْ على ضَبْطِهِ وتحرير مسائلِهِ جُهودٌ جبّارة، من عُلماء موسوعيِّين، عاشُوا للسُّنَّةِ، وأفْنَوْا أعمارَهُم في حِفْظِها وضَبْطِها -قُروناً مُتَعَدِّدَةً-؛ فكيف يَزْعُمُ خلافَ ذلك مَن لا يستطيعُ (!) أنْ يدَّعِي المقارنةَ بهم، فضلاً عن التفوُّق عليهم؟!
13- وتمثيلُ الدُّكتور حوَّى على النقطة السابقة بـ(مفهوم الصحابيِّ الذي نُثْبِتُ له العدالة المُطلقة) التقاءٌ مع آراء الروافض الذين لا يُقيمُونَ للصحابةِ الكِرام وَزناً، ولا يَرفَعُونَ بهم رأساً؛ والذين بَنَوا كثيراً مِن آرائهِم الرافضيَّةِ الباطلةِ -تلك- على نقض مفهوم (الصحابي) عند أهل السُّنَّة -أصلاً-كما يُحاول به الدكتور حوَّى-! أمْ أنَّ هذا منهُ -غَفَرَ اللهُ له- بدايةٌ لمغازلةٍ سياسيَّةٍ مذهبيَّةٍ (!) لها خلفيَّاتها، ولها نتائجُها؟!!
14- أمّا (مُشكلة الاختلاف بين العُلماء في الجرح والتعديل، والحُكْم على الرُّواة!) -التي أعطاها الدُّكتور حوَّى بُعداً آخَرَ غيرَ علميٍّ-؛ فهي مشكلةٌ محلولةٌ عند عُلمائِنا منذُ العُصورِ العلميَّة الأُولَى؛ فلهم -رحمهُم الله- (قواعدُ) في معرفة العُلماء المتشدِّدين والمُتساهلين، و(قواعدُ) في تعارُض الجرح المفسَّر مع التعديل، و(قواعدُ) في أصل قَبُول الجرح المفسَّر، و(قواعدُ) في: متَى يُقبَلُ الجرح إذا كان مُبهماً، و(قواعدُ) في قَبُولِ التعديلِ على الإبهامِ... وهكذا!! فهل يُريدُ الدُّكتور حوَّى -بسطُورِهِ القليلة هذه!- طيَّ صفحة هذا العِلم العالي الدقيق، أو التشكيك بمنهجيَّتِهِ و(قواعده) في الضَّبطِ والتوثيق؟!
15- وما أجملَ قولَ الدكتور حوَّى -في وسط مقالِهِ!-: (نهضَ عُلماءُ أفذاذٌ جهابذةٌ حُفَّاظٌ ليحرِّرُوا السُّنَّةَ، ويذودوا عن حِياضِها قَدْرَ الاستطاعةِ البشريَّةِ!)؛ فأقولُ: نَعَمْ؛ هُم كذلك -بحمدِ الله- قديماً وحديثاً-، ولذلك لمْ يترُكُوا المجالَ -جزاهُمُ اللهُ خيراً- لأهلِ الأهواءِ الأقدَمِين، ولا لأفراخِهِم المُعاصِرِين: بأنْ يُمِرُّوا باطلَهُم الآثِمَ -تشكيكاً بالسُّنَّةِ المطهَّرَة- تحت سِتار: (حريَّة الفِكر)! وتحت مظلَّة: (الحِفاظ على القُرآن)! وتحت لواء: (العقل)!! وما أشبهَ ذلك من شعارات ظاهرُها فيه الرحمة، وباطنها مِن قِبَلِها العذاب! وإلا؛ فبالله عليك -يا دُكتور حوَّى-: مَن مِن هؤلاء (العُلماء الأفذاذ الجهابذة الحفَّاظ) طعَنَ في «الصحيحَيْن» -أو أحدِهِما- (بمِثلِ) ما طَعَنْتَ، أو -حتّى- (بنحوِ) ما طَعَنْتَ؟! بل أقولُ: هل سَكَتُوا عن الردِّ على مِثلِ عملِك وصنيعِك؟! أم ردُّوا، ونقضُوا، وكشفوا، وبيَّنُوا؟!
ونحن -بمنَّةِ الله- على طريقِهِم سائرون، وبأنوارِهِم مُهتَدُون، ولمنهجِهِم مُقْتَفُون...
إنْ لمْ تكونُوا مثلَهُم فتشبَّهُوا * * * * * إنَّ التشبُّهَ بالكــرامِ فـلاحُ
16- أمَّا قولُهُ: (قرَّرَ العُلماءُ المحقِّقُونَ أنَّ السُّنَّةَ الآحاديةَ الصحيحةَ -فضلاً عن الضعيفة- ظنِّيَّةُ الثُّبوت)! فحشرُهُ لـ(الضعيفة) -ها هُنا- إقحامٌ لا مُرادَ منهُ إلا التشويش؛ لاتِّفاقِ الجميعِ على ردِّ الأحاديثِ الضعيفة، ونفيِ نسبتِها إلى رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلّم-. أمّا (الظنُّ)، و(الآحادُ) -وغيرُهما-؛ فاصطلاحاتٌ كلاميَّةٌ أكثرُ منها اصطلاحاتٍ حديثيَّةً؛ لذلك لا نُعوِّلُ عليها كثيراً، ولا نَقِفُ عندَها كثيراً، وإنّما يكونُ اهتمامُنا -كُلُّهُ- متوجِّهاً إلى الثَّمَرَةِ العَمَلِيَّةِ مِن وَراءِ مثلِ هذه الاصطلاحاتِ -إثباتاً ونَفْياً-؟! فما دامَ الحديثُ صحيحاً جامعاً لشروطِ الصحَّة -سنداً ومَتناً-؛ فلا يُلتفَتُ إلى أوهامِ التخطئةِ والتغليط بالظَّنِّ الباطل، والرأي العاطِل، ولا يُلتفَتُ إلى المُصطلحِ الحادِثِ الدخيل؛ لِيُحْكَمَ به على الحقِّ الراسِخِ الأصيل...
17- أمّا دَعْوَى (الاحتمال في عدم ثُبوتِ الحديثِ الآحاديِّ ظاهر الصِّحَّةِ) -على حدِّ زَعْمِ الدُّكتور حوَّى!-؛ فهي دعوَى -أيضاً- غيرُ قائمةٍ؛ باعتبارِ أنَّ مِن الاحتمالِ -أصلاً- ما هو راجحٌ، ومنه ما هو مرجوحٌ، والمرجوحُ لا وَزْنَ له، ولا قيمةَ له؛ وإلا دَخَلْنا -وأدخَلْناكُم!- في متاهاتٍ لا تستطيعُونَ الفرارَ منها -كإثْباتِ النَّسَبِ- مثلاً-!!! أمْ أنَّكُم (ترفُضونَ) هذا، وتقبَلُونَ ذاك -ضربةَ لازِبٍ-؟!
بالدِّفاعِ عنها؛ لا بالتَّشكيكِ فيها!!
ردًّا على الدكتور محمد سعيد حوّى:
لفضيلة الشيخ: علي بن حسن الحلبي - حفظه الله -.
(مِن المسلَّمات عند العُلماء المُسلمين: حُجِّيَّةُ السُّنَّة النبويَّة، وأنَّها المصدرُ الثاني للتشريع، وأن طاعة رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فرضٌ لازمٌ لا خيار للمسلم فيه)... هذا ما بدأ به الدكتور محمد سعيد حوّى -وفَّقَهُ اللهُ- مقالَهُ المُعَنْوَنَ بـ(كيف ننتصرُ للسُّنَّةِ النبويَّة؟)، والمنشور في (جريدة الدستور) -الأُردُنِّيَّةِ- بتاريخ: (11/ربيع الأول/ 1431هـ)، وهو بدايةٌ حَسَنَةٌ لِعُنوانٍ مُشَوِّقٍ؛ استغلَّ فيه عواطفَ عامَّةِ المُسلمين في إحيائِهم ذِكْرَى مولدِ رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-!
ولكنْ؛ سَرْعان ما نَقَضَ الكاتبُ -غَفَرَ اللهُ له- كلامَهُ بما يهدمُهُ مِن أصله، وينقضُهُ مِن أساسِهِ، وبأُسلوب غير علميٍّ، ليس فيه إلا تَكرارُ كلام الروافض والمستشرقين، وأذنابهم من المستغربين.ولا يشفعُ للدكتور حوّى -هداهُ اللهُ- تخصُّصُه (الأكاديميُّ!) -في عُلومِ السُّنَّةِ النبويَّة- في أنْ يُمَرِّرَ مثلَ هذه الشُّبُهات والطُّعونات -تحت اسم (السُّنَّة)-، وهي البعيدةُ البُعْدَ كُلَّهُ عن منهجيَّةِ عُلماءِ السُّنَّةِ النبويَّةِ الأعلام، وصَفاءِ قُلوبِ أهل السُّنَّةِ النبويَّة تُجاهَ سُنَّة نبيِّهم -عليه الصَّلاة والسلام-. وحتّى لا أُطيلَ في التقديم -فأتأخَّرَ عن البيانِ-؛ أذْكُرُ (أهمَّ) ما أخطأَ به الدُّكتور حوَّى -غَفَرَ اللهُ لهُ-، وأُتْبِعُهُ بالرَّدِّ والتوضيحِ -مُعْرِضاً عمَّا هو دون ذلك- وإلا لَطالَ بنا القولُ-:
1- قال: (فعلَى الأرجحِ: لمْ تُدَوَّن السُّنَّةُ في حياتِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلّم- إلا قليلاً جدًّا)! وهذا باطلٌ مِن القول والادِّعاء العريض! ولو كلَّفَ الدُّكتور حوَّى (!) نفسَهُ بمُراجعةِ كتاب «دراسات في الحديث النبويِّ» للدكتور محمد مصطفى الأعظمي -والذي نالَ عليه أرفعَ جائزةٍ علميَّةٍ إسلاميَّةٍ - لَعَرَفَ بُطلان دَعواهُ، ولأَيْقَنَ أنَّ تسلسلَ التَّدوين العلميّ للسُّنَّةِ النبويَّةِ بَدَأ مُنذُ عصرِ الرسول -صلّى اللهُ عليه وسلَّم-، مُروراً بعصرِ الصَّحابةِ، وإلى عَصرِ التابعين؛ فمَن بعدَهُم مِن غيرِ انقطاعٍ -وبصورةٍ كثيرةٍ كبيرةٍ-؛ لِيُطابِقَ ما في صُدورِ الحُفَّاظ ما في سُطور مُدَوِّنِي السُّنَّةِ، وكُتَّابِها، وجامِعِيها -رحِمَهُم اللهُ- أجمعين-.
2- أمَّا استدلالُهُ -غَفَرَ اللهُ له- بحديثِ: «لا تكتُبُوا عنِّي، ومَن كَتَبَ عنِّي غيرَ القُرآن؛ فلْيَمْحُهُ»؛ فهو استدلالٌ منقوصٌ غيرُ قائم؛ إذ قد بيَّنَ الحافظُ الخطيبُ البغداديُّ في كتابِهِ «تقييد العِلم» الوجهَ الصحيحَ في فَهْمِ هذا الحديثِ، وأنَّهُ خشية «أنْ يُضاهَى بكتابِ الله -تعالى- غيرُهُ، وأنْ يُشتغَلَ عن القُرآنِ بسواه؛ فلمّا أُمِنَ ذلك، ودَعَت الحاجةُ إلى كَتْبِ العِلمِ لمْ يُكْرَهَ كَتْبُهُ» -كما هو نصُّ كلامِهِ -رحمهُ اللهُ-، والذي أقامَ كتابَهُ -كُلَّهُ- مِن أَجْلِ بيانِ الوَجْهِ الصحيحِ الحقِّ لهذا الحديثِ.
3- أمَّا قولُهُ: (إنَّ معظمَ السُّنَّةِ النبويَّةِ رُوِيَتْ بروايةِ الآحادِ، أي: برواية الواحدِ، أو الاثنين، أو الثلاثة)! قلتُ: فكان ماذا؟! هل العبرةُ -في الصحَّةِ والثُّبوتِ- بعددِ الرُّواة، أمْ بثقتِهِم وجلالتِهِم؟ وهل أهملَ عُلماءُ الحديثِ الأفذاذُ هذه القضيَّةَ المهمَّةَ حتَّى يجيءَ -بعدَ قُرون وقرون!- مَن يستدرِكُ عليهم في بديهيَّةٍ مِن أهم بَدِيهِيَّاتِ عِلم مصطلح الحديث، وثبوت الأسانيد -وأوَّلِيَّاتِهِ-؟! فالأصلُ -ولا بُدَّ- هو: ثقةُ الرُّواة؛ فإنْ كَثُروا: زاد ذلك الحديثَ صحَّةً واطمئناناً؛ فكان نُوراً على نُور...
4- أمّا ما ذَكَرَهُ الدُّكتور حوَّى مِن (ظاهرة نَقد المتن مِن قِبَلِ الصَّحابةِ أنفُسِهم؛ حيث لا سَنَدَ أصلاً حتَّى يُنقد، ولمْ يكن الصحابةُ يكذِّبُ بعضُهُم بعضاً)!! فهذه دَعْوَى غيرُ صحيحةٍ، وذلك مِن وُجوه:
أ- أنَّ الصحيحَ المرويَّ مِن ذلك (النقد) يسيرٌ جدًّا، لا يشكِّلُ (ظاهرة) بالمعنى المُدَّعَى -ألْبَتَّة-.
ب- أنَّ تَوَجُّهَ النقدِ كان لحِفظِ الرَّاوِي أصالةً، وليس تكذيباً له، أو نقضاً لخبرِهِ، وإنَّما مِن بابِ التخطئة لروايتِهِ -إنْ صحَّت تلك التخطئةُ وثَبَتَتْ-.
جـ- أنَّ التخطئةَ التي وُوجِهَ بها بعضُ الصحابةِ مِن صحابةٍ آخَرِين -لمرويَّاتِهِم- وُوجِهَتْ -أحياناً- بتخطئةٍ مضادَّةٍ، وثباتٍ على أصلِ الرِّوايةِ؛ دونَ الْتِفاتٍ لهذا النقد، فضلاً عن تغييرٍ للرِّوايةِ. فليست التخطئةُ بذاتِها طريقاً للإيقانِ بالخطأِ -كما هو ظاهرٌ-.
د- أنَّ نصَّ كلامِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ -ولفظَهُ- في تخطئتِهِ لفاطمةَ بنت قيس -وقد أوْرَدَ قصَّتَها الدُّكتور حوَّى- بَيِّنٌ في تحقيقِ هذا المعنى، حيث قال -رضي اللهُ عنهُ-: «لا ندعُ كِتابَ الله وسُنَّةَ نبيِّنا لقَوْلِ امرأةٍ لا ندري أحفِظَتْ أمْ نَسِيَتْ»، وهذا الجُزْءُ مِن الحديثِ لمْ يذكُرْهُ الدُّكتور حوَّى؛ فلماذا؟!
5- أمَّا (ظاهرة الرِّواية بالمعنى) التي أشارَ إليها الدُّكتور حوَّى؛ فليست هي بالصُّورةِ التي ادَّعاها، وبنَى عليها كلامَهُ بعدَها! وإنَّما الأمرُ فيها -مع التسليمِ بها- قائمٌ على ضوابط دقيقة، وشروط وثيقة؛ بَيَّنَها العُلماءُ، ودقَّقُوا فيها. ولعلَّهُ مِن هُنا بَدَأ نشوءُ (علمِ العِلَلِ)؛ الذي له أهلُهُ ورِجالُهُ -على مدارِ التَّارِيخِ العلميِّ الحديثيِّ -قديماً وحديثاً-. والحقُّ أنَّ الأصلَ في كُلِّ روايةٍ يرويها ثقةٌ حافظٌ أنْ تكونَ باللفظِ لا بالمعنى؛ فإنْ ثَبَتَ لنا أنَّها بالمعنى؛ نَظَرْنا: هل المعنى مُؤتَلفٌ، أم مُختلف؟! مُتَّفقٌ مع المُرادِ أمْ مُفترق؟! فليست القضيَّةُ فوضَى -مِن جهةٍ-، ولا دَعاوَى -مِن جهةٍ أُخْرَى-.
6- أمَّا (ظاهرة التفرُّد والغرابة)، التي أشارَ إليها الدُّكتور حوَّى (والتي يُفْتَرَضُ أنْ تُروَى مِن روايةِ الجَمعِ أو العددِ) -كما قال!-؛ فهي دَعْوَى -أيضاً- منقوضةٌ جدًّا؛ إذ للتفرُّدِ أسبابُهُ العلميَّة أو الاجتماعية -كما بيَّنَهُ العُلماءُ-. ولعلَّ أكبرَ ردٍّ على هذه الدعوى: افتتاحُ الإمامِ البخاريِّ «صحيحَه» بِحديثِ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات» -وهو فَرْدٌ-، واختتامُهُ -أيضاً- «صحيحَه» بحديث: «كلمتان خفيفتان على اللسان..» -وهو فَرْدٌ -أيضاً-. وأمّا الغرابةُ؛ فلها معنيان: معنى اصطلاحيّ، وهو لا يُعارِضُ الصِّحَّةَ والثُّبوتَ -مُطلَقاً-. ومعنى لُغَوِيّ، وهو معنىً نسبيٌّ جدًّا؛ فما قد يستغربُهُ (زيد) قد يقبلُهُ (عَمْرو)؛ فكان ماذا؟! أبمثلِ هذه الأوهامِ تُرَدُّ النُّصوصُ، وتُنقضُ المرويَّاتُ؟!
7- ما ذكرَهُ الدُّكتور حوَّى من (ظاهرة الأخذ عن أهل الكتاب، ومِن ثمَّ رواية الكثير من الإسرائيليات المنكَرة) كلامٌ لا وزنَ له؛ وذلك مِن وجهَيْن:
أ- أنَّهُ -أيضاً- ليس (ظاهرة) -ألْبَتَّة-، بل هو مفاريدُ ومُفردات ليس إلا؛ ثم إنَّ أهلَ العلمِ قد بيَّنُوا ذلك، ولمْ يسكُتُوا عنه، ولمْ يترُكُوه لمتمجهدِي القُرون الأخيرة!
ب- أنَّ الاتِّكاءَ على هذه الدعوَى الباطلةِ لإقامةِ ادِّعاءات أُخْرَى -أكثرَ بُطلاناً- متفرِّعةٍ عنها -مِن أنَّ: هذا الحديثَ عن أهل الكتاب!! أو: ذاك الحديثَ مِن الإسرائيليَّات: يُشَكِّلُ عُدواناً صارِخاً قبيحاً على مناهج المحدِّثين الأصيلةِ، وقواعدِهم الراسخةِ التي هي أكبرُ فَخَارٍ عرفه التاريخ -كُلُّهُ- للعرب والمُسلمين؛ فقد بيَّنُوا كُلَّ ذلك، وكشفوا عن حقيقةِ ما هُنالِك...
8- قولُ الدُّكتور حوَّى: (ظاهرة المذهبيَّة العقديَّة والفقهيَّة والتحزُّب لكلِّ مذهب، وكان لذلك آثار خطيرة في الرواية والرُّواة)!! كذا قال -هداهُ اللهُ-، وكأنَّهُ اكتشافٌ عصريٌّ جديدٌ!! فأقولُ: ألَمْ يكشفْ عُلماءُ الحديثِ عن هذا الخَلَل في عُصورِهِم الأُولَى؟! ألمْ ينقُد عُلماءُ الحديثِ الرُّواةَ -على تنوُّعِ أفكارِهِم-، ويُفنِّدُوا عقائدَهُم ومذهبيَّاتِهم؟! ألَمْ يكُنْ لِعُلْماء الحديثِ المنهجيَّةُ الدقيقةُ في الأخذِ عن هؤلاء المذهبيِّين، وتمييز رواياتهم المقبولة والمرذولة؟! ولكنْ؛ حقًّا: إن (ظاهرة المذهبيَّة العقديّة والفقهيَّة) أثَّرَتْ جدًّا في عُقولِ عددٍ ليس بالقليل من الأكاديميِّين العصرانيِّين -تأثُّراً بالمُستشرِقين، أو الروافض!-؛ للتشكيكِ بمُسَلَّماتِ أهل الإسلام، والطعنِ بأحاديث النبيِّ -عليه الصلاة والسلام-...
9- قول الدكتور حوَّى: (ظُهور روايات وطُرُق لأحاديث في كُتُب متأخِّرَة، لم تكن معروفة في القُرونِ الأُولَى، ولا في المدوَّنات المعتبرة -كالكتب التسعة-)!! فهذا من الدكتور حوَّى دليلٌ عَمَلِيٌّ تطبيقيٌّ على تأثُّرِهِ بالمُستشرِقين وأذنابِهِم؛ إذ إنَّ مُصطلَح (الكُتُب التِّسعة) مُصطلحٌ استشراقيٌّ صِرْفٌ؛ لمْ يعرِفْهُ أهلُ الحديثِ إلا بعدَ تأليفِ مُستشرِقِي (جامعة لَيْدن - هولندا) كتابَهُم «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبويّ» -أوائل القرن العشرين-؛ بخلاف مُصطلح (الكتب الستَّة)، أو مُصطلح (السنن الأربعة)؛ اللذَيْنِ كانا معروفَيْن لِعُلماءِ الحديثِ -مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ-. ثُمَّ يُقالُ: ما ليس معروفاً (عندك!) هو معروفٌ عند (غيرِك!) -يقيناً-، وما لم يُطبع مِن كُتُبِ السُّنَّة هذه الأيّام لا يدلُّ على أنَّهُ لمْ يكُنْ معروفاً أيّام الرِّواية، والجَمْع، والتخريج! فلا تخلِط!
10- قولُ الدُّكتور حوَّى: (ظُهور الاختلاف بين النُّسَخ الخطيَّة..) يُريد: لكتب الحديث النبويّ! فكان ماذا؟! أمْ أنَّهُ (تشكيك) جديد، ومِن زاويةٍ أُخْرَى؟! وهل معرفةُ ذلك، وإدراكُهُ -على التحقيقِ- أمْرٌ أُغْفِلَ بيانُهُ والتنبيهُ عليه مِن جهةِ عُلمائنا الأبرار، وأئمَّتنا الكِبار؟! أين أنت -أيها الدكتور- مِن «فتح الباري» وضبطه الدقيق -جدًّا- لكلِّ لفظ، أو كلمةٍ، أو حتَّى حرف- فيما تعرَّضَ له في شَرْحِهِ لـ«صحيح البخاري» -«صحيح» أهل الإسلام -على مرِّ الأزمان-؟! وعليه؛ فإنَّ ما ذَكَرَهُ الدُّكتور حوَّى -بَعدُ- مِن الإشارةِ إلى «شرح البخاري» -حُجَّةٌ عليه، لا له -لِمَن يعقلُ-!
وأمّا «سُنَن الترمذي» -واختلافُ نُسَخِهِ-؛ فلمْ يذكُرْ لنا الدُّكتور حوَّى: هل هذا الفرقُ المُدَّعَى- وقد بيَّنَهُ العُلماءُ في تحقيقاتِهِم، ورجَّحُوا الصحيحَ منهُ -قديماً وحديثاً-، فَرْقٌ مُؤثِّرٌ على أصلِ الثُّبوت والصحَّة؟! أمْ أنَّ ذِكْرَهُ والإشارةَ إليه -هُنا- مُجرَّد تشغيب؟!!
11- إشارتُهُ لـ(عِلم العِلل)، وقولُه -بعد- في وَصْفِهِ بكونِهِ: (ميداناً فسيحاً للاجتهادِ والنَّظَرِ)؛ أقولُ: بضوابطَ دقيقةٍ جدًّا -أوَّلاً-، ولمن هو لذلك أهلٌ -ثانياً-، مع عدم التسليم بكُلِّ ما يُذكَرُ فيه -ثالثاً-. ثُمَّ؛ هل انتقاداتُ الدُّكتور حوَّى لأحاديث «الصحيحَيْن» -أو أحدهما- قائمةٌ على هذا العلم الحديثيِّ الدقيق؟! أمْ أنَّها عنهُ بمَعْزل، ومنه بأبعد منزل!؟! وما ردُّنا عليه -فيما أثارَهُ على عددٍ مِن أحاديث «الصحيحَين» في بعضِ مقالاتِهِ -قبل شهورٍ-في كتابِنا «ردّ الدَّعوَى، وصدّ اعتداءات الدكتور محمد سعيد حوّى» إلا دليلاً واضحاً على بُعد حقيقتِهِ عن دَعواه.
12- زَعْمُهُ بأنَّ (علم الجرحِ والتعديلِ): (ما زالت قضاياهُ بحاجةٍ إلى تحريرٍ دقيق!): زَعْمٌ باطِلٌ؛ ذلكم بأنَّ هذا العلمَ العظيمَ توافَرَتْ على ضَبْطِهِ وتحرير مسائلِهِ جُهودٌ جبّارة، من عُلماء موسوعيِّين، عاشُوا للسُّنَّةِ، وأفْنَوْا أعمارَهُم في حِفْظِها وضَبْطِها -قُروناً مُتَعَدِّدَةً-؛ فكيف يَزْعُمُ خلافَ ذلك مَن لا يستطيعُ (!) أنْ يدَّعِي المقارنةَ بهم، فضلاً عن التفوُّق عليهم؟!
13- وتمثيلُ الدُّكتور حوَّى على النقطة السابقة بـ(مفهوم الصحابيِّ الذي نُثْبِتُ له العدالة المُطلقة) التقاءٌ مع آراء الروافض الذين لا يُقيمُونَ للصحابةِ الكِرام وَزناً، ولا يَرفَعُونَ بهم رأساً؛ والذين بَنَوا كثيراً مِن آرائهِم الرافضيَّةِ الباطلةِ -تلك- على نقض مفهوم (الصحابي) عند أهل السُّنَّة -أصلاً-كما يُحاول به الدكتور حوَّى-! أمْ أنَّ هذا منهُ -غَفَرَ اللهُ له- بدايةٌ لمغازلةٍ سياسيَّةٍ مذهبيَّةٍ (!) لها خلفيَّاتها، ولها نتائجُها؟!!
14- أمّا (مُشكلة الاختلاف بين العُلماء في الجرح والتعديل، والحُكْم على الرُّواة!) -التي أعطاها الدُّكتور حوَّى بُعداً آخَرَ غيرَ علميٍّ-؛ فهي مشكلةٌ محلولةٌ عند عُلمائِنا منذُ العُصورِ العلميَّة الأُولَى؛ فلهم -رحمهُم الله- (قواعدُ) في معرفة العُلماء المتشدِّدين والمُتساهلين، و(قواعدُ) في تعارُض الجرح المفسَّر مع التعديل، و(قواعدُ) في أصل قَبُول الجرح المفسَّر، و(قواعدُ) في: متَى يُقبَلُ الجرح إذا كان مُبهماً، و(قواعدُ) في قَبُولِ التعديلِ على الإبهامِ... وهكذا!! فهل يُريدُ الدُّكتور حوَّى -بسطُورِهِ القليلة هذه!- طيَّ صفحة هذا العِلم العالي الدقيق، أو التشكيك بمنهجيَّتِهِ و(قواعده) في الضَّبطِ والتوثيق؟!
15- وما أجملَ قولَ الدكتور حوَّى -في وسط مقالِهِ!-: (نهضَ عُلماءُ أفذاذٌ جهابذةٌ حُفَّاظٌ ليحرِّرُوا السُّنَّةَ، ويذودوا عن حِياضِها قَدْرَ الاستطاعةِ البشريَّةِ!)؛ فأقولُ: نَعَمْ؛ هُم كذلك -بحمدِ الله- قديماً وحديثاً-، ولذلك لمْ يترُكُوا المجالَ -جزاهُمُ اللهُ خيراً- لأهلِ الأهواءِ الأقدَمِين، ولا لأفراخِهِم المُعاصِرِين: بأنْ يُمِرُّوا باطلَهُم الآثِمَ -تشكيكاً بالسُّنَّةِ المطهَّرَة- تحت سِتار: (حريَّة الفِكر)! وتحت مظلَّة: (الحِفاظ على القُرآن)! وتحت لواء: (العقل)!! وما أشبهَ ذلك من شعارات ظاهرُها فيه الرحمة، وباطنها مِن قِبَلِها العذاب! وإلا؛ فبالله عليك -يا دُكتور حوَّى-: مَن مِن هؤلاء (العُلماء الأفذاذ الجهابذة الحفَّاظ) طعَنَ في «الصحيحَيْن» -أو أحدِهِما- (بمِثلِ) ما طَعَنْتَ، أو -حتّى- (بنحوِ) ما طَعَنْتَ؟! بل أقولُ: هل سَكَتُوا عن الردِّ على مِثلِ عملِك وصنيعِك؟! أم ردُّوا، ونقضُوا، وكشفوا، وبيَّنُوا؟!
ونحن -بمنَّةِ الله- على طريقِهِم سائرون، وبأنوارِهِم مُهتَدُون، ولمنهجِهِم مُقْتَفُون...
إنْ لمْ تكونُوا مثلَهُم فتشبَّهُوا * * * * * إنَّ التشبُّهَ بالكــرامِ فـلاحُ
16- أمَّا قولُهُ: (قرَّرَ العُلماءُ المحقِّقُونَ أنَّ السُّنَّةَ الآحاديةَ الصحيحةَ -فضلاً عن الضعيفة- ظنِّيَّةُ الثُّبوت)! فحشرُهُ لـ(الضعيفة) -ها هُنا- إقحامٌ لا مُرادَ منهُ إلا التشويش؛ لاتِّفاقِ الجميعِ على ردِّ الأحاديثِ الضعيفة، ونفيِ نسبتِها إلى رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلّم-. أمّا (الظنُّ)، و(الآحادُ) -وغيرُهما-؛ فاصطلاحاتٌ كلاميَّةٌ أكثرُ منها اصطلاحاتٍ حديثيَّةً؛ لذلك لا نُعوِّلُ عليها كثيراً، ولا نَقِفُ عندَها كثيراً، وإنّما يكونُ اهتمامُنا -كُلُّهُ- متوجِّهاً إلى الثَّمَرَةِ العَمَلِيَّةِ مِن وَراءِ مثلِ هذه الاصطلاحاتِ -إثباتاً ونَفْياً-؟! فما دامَ الحديثُ صحيحاً جامعاً لشروطِ الصحَّة -سنداً ومَتناً-؛ فلا يُلتفَتُ إلى أوهامِ التخطئةِ والتغليط بالظَّنِّ الباطل، والرأي العاطِل، ولا يُلتفَتُ إلى المُصطلحِ الحادِثِ الدخيل؛ لِيُحْكَمَ به على الحقِّ الراسِخِ الأصيل...
17- أمّا دَعْوَى (الاحتمال في عدم ثُبوتِ الحديثِ الآحاديِّ ظاهر الصِّحَّةِ) -على حدِّ زَعْمِ الدُّكتور حوَّى!-؛ فهي دعوَى -أيضاً- غيرُ قائمةٍ؛ باعتبارِ أنَّ مِن الاحتمالِ -أصلاً- ما هو راجحٌ، ومنه ما هو مرجوحٌ، والمرجوحُ لا وَزْنَ له، ولا قيمةَ له؛ وإلا دَخَلْنا -وأدخَلْناكُم!- في متاهاتٍ لا تستطيعُونَ الفرارَ منها -كإثْباتِ النَّسَبِ- مثلاً-!!! أمْ أنَّكُم (ترفُضونَ) هذا، وتقبَلُونَ ذاك -ضربةَ لازِبٍ-؟!