الشيخ عبدالرحمن عيسى
03-11-2010, 05:20 PM
حتى
يأتي أمر الله
بحث مستفيض في ماهية هذا الأمر
الشيخ عبد الرحمن العيسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تبارك وتعالى : ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) ..
مقدمة :
إن أمر الله مختلف المستوى والإتيان , فهناك الأمر التكليفي والتشريعي , وهناك الأمر الكوني والتكويني , وهناك الأمر المُنـْهي لكل أمر , والمنجزُ الوعدِ بالفتح والفرج والنصر ..
فالأمر الأول : موكول إلى البشر فعلـُه وعملـُه , مسؤولية واختباراً , وقد يُعصى هذا الأمر ويخالف , من قبل العصاة والضالين , والمغضوب عليهم , لتشكل تراكماتٍ تسبب عقاباً وعذاباً ..
والأمر الثاني : لا يُـتصور فيه التخلف والمخالفة , بل هو دائم السير والجريان , في الكائنات والأكوان (كن . فيكون) أي إن كن , تُمد الكون بما يلزم من الكينونات والأوامر الناظمة.
وأما الأمر الثالث : فهو الأمر الإلهي المرتقب والمنتظـَر , نتيجة وعاقبة لأحداث وأوضاع وابتلاءات وآليّات , يعيشها المؤمنون المستضعفون , في أزمنة الاضطهاد الديني والسياسي , فيصبرون ويحتسبون , ويتمسكون بما تمليه عليهم عقيدتهم ورسالتهم , حتى يقولوا : ( متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) .. أي هو قريب عند الله , وإن بدا أنه بعيد عند الناس ..
والذي يَعنينا هنا , هو أمر الله الذي وُعد به المتقون , وأمروا بالصبر على مقتضاه وبلواه , إلى أن يأتي هذا الأمر من الله , على شكل إغاثة واستجابة : رفعاً للحرج والتمحيص , وفرجاً من العسر والضيق .. ونصراً لأهل الصدق , وتعزيزاً لمكانتهم في الأرض ..
وفي القرآن المجيد , يصف الله أمره , بأنه روح يحي به الله الأرض بعد موتها , ويصلحها بعد فسادها , ويُحي مَنْ عليها بالحياة الحية والنامية والوافية ..
وبداية الرسالة الإلهية , روح من الله المقدس والقدوس , لإحياء القلوب والنفوس , وقد تكون الروح أمراً , وقد يكون الأمر روحاً , فالحياة الحقيقية , رهن بأمر الله المبارك والطيب , الذي تتم ترجمته إلى نهضة وإفاقة , ومسيرة جديدة , في طريق التنور والتحضر , تنور الأفئدة والعقول , وتحضر الأخلاق والمفاهيم .. التي هي الشأن الأعظم , لأمة الإسلام والقرآن ..
وليست بالضرورة , حضارة الفحم والنفط , والحديد والنار , والصراع المحموم من أجل هضم الشعوب , وسفك دمها وعرضها الحرام , تبعاً لنزوات وخطط القادة المجرمين والمتوحشين
الأمر الذي يجعل من حظنا : أمر الله المتوجِّب , يغيثنا وينجدنا من البأس والشدة , التي طال أمدها , واستعصى طريقها المسدود , ليكون الفضل كله لله وحده , ولأمره العظيم , في خلاصنا , وفكاك أسرنا , ومجيء دورنا : خيرَ أمة أخرجت للناس , تأمر بالمعروف , وتنهى عن المنكر , وتؤمن بالله .. وهي مبررات وجودنا واستمرارنا في هذه الحياة : أعزة كرماء ..
وبدون أمر الله المغيث والمسعف هذا , فإن الحياة لا تطاق أبداً , والمؤمنون يتداولهم الأعداء بالاضطهاد , ويستنفدون وجودهم الإيماني من الأرض , ويخلو الجو للكافرين والمجرمين والمفسدين , ويتمكنون من إحباط مشيئة رب العالمين !.. وإطفاء نور الله من الأرض كلياً ..
ولكن رحمة الله سبحانه , تأبى ذلك قطعاً , وتـُعَـقـِّب على حياة الظالمين , بأحكام النسخ والإدالة , والردع والإدانة , واستلابِ ما في أيديهم , من بسطة وقدرة , وحكم ومسؤولية , وإحالتهم إلى مجاهل النسيان , ومطاوي الزمن , وزوايا التاريخ , فلا يُذكرون إلا بالمذمة واللعنة.
أتى أمر الله :
يخبر الخبير البصير والقدير : أنْ أتى أمر الله , ولكن لا تستعجلوه : ظهوراً وحكماً , بل اصبروا وانتظروا , فعما قليل ينجلي الموقف , وما فيه من غموض وترقب , عن أمر جليل من أمر الله الواحد الأحد , به يغيث الأمة , ويكشف الكرب والغمة , ويحقق الوعـد الموعـود والمفعول .. ( وكان وعداً مفعولاً ) ..
وهذه الآية ( أتى أمر الله ) , ليست لمرة واحدة وتنتهي , بل إنها تفصح وتشير عن إتيان لأمر الله مستمر ومتنوع , وتنهى عن التعجل في حصول ذلك , فقد يستدعي الأمر , آماداً تطول أو تقصر , حسب حجم الأمر , وضخامة النصر , وما قد يستدعيه الموقف المتأزم , والظرف الصعب , واليومُ العصيب , وإصرارُ الدول الكبرى , على اضطهاد العُروبيين والمسلمين ..
فكأنه يقول سبحانه : إن لي في كل فترة متردية , وواقعة متشددة , وحالة مستعصية وسيئة أمراً مُحْـكماً , يفصل فيما كان , ويضع حداً للطغيان , ويُنهي ما قد تفاقم من عوائد الناس المعتادة في الظلم والتجاوز , ورتابة الحياة المرهقة والـمُذلة , واستخفافِ ذوي النفوذ والسلطة , بأية قيمة ذات قيمة , واستعذابِ حياة الإثم والتفلت والجريمة , فلا نهاية تبدو أمام المظلومين , تخفف عنهم بعض ما يعانون , مما هو فوق طاقة التحمل , ويبحثون عن الأمل , يعللون به أنفسهم , فلا يجدون !.. ويتلفتون مذهولين ومشتكين , ولكن ليس من مغيث ولا نصير ..
فعندها يأتي أمر الله بالتغيير الفائق والسريع , واعتدال ميزان العدالة والرحمة , الذي وصل انحطاطه إلى الحضيض .. وكان الجور والحقد والفساد العريض ..
فهل من الممكن في التفسير والتصور , إلا أن يُستنبط لأمر الله الآتي , مثلُ هذا الحجم الرائع , من الإنجازات التي تأتي على قـدَر مقدور : إغاثة لحالة ما في الأرض , من أهوال وعذابات , وحمامات دماء ودموع , تجري أنهاراً وشلالاتٍ , وحضارةِ الوحش المجنون , الذي يزحف كالجراد والطاعون , وينقض من وراء البحار والمحيطات والقرون !. مدمراً التراث والتاريخ , الذي استغرق أحقاباً طِوالاً , وصنعته عقول إنسانية عظيمة !..
أم هل يتصور المؤمنون , وغير المؤمنين , أنْ لا دخلَ لله في كل ما يجري , وأنه ليس بالمرصاد لأعدائه , وأنه لا يحول بينهم وبين ما يشتهون , وأنه في النتيجة ليس له أمر واغل , ولا حكم فاصل , ولا رحمة مُغيثة بخلقه , الذين يُعذبون ويستغيثون , ويستقوون به أمام المتجبرين الذين لا يرحمون , ويقولون : الله ربنا موجود , وسينتقم من القوم الظالمين ..
بلى إن الحق سبحانه , إزاء هذه الحياة الآثمة , له شأنه الأعظم , وأمره المُبـْرم , وإتيانـُه المباغت والمشهود , من حيث لا يحتسب الأعداء الكافرون والمنافقون .. ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) ..
وإن أجل الله إذا جاء , لا يُؤخر لو كنتم تعلمون .. ويا ليتكم تعلمون ..
ويقول سبحانه : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمحٍ بالبصر ) ..
فأمر الله الذي يقضي بالتحول والتغيير , لا يتعدد ولا يتكرر , بل هو أمر لمرة واحدة فقط وفي سرعة مجيئه وإتيانه , كانصباب المطر , أو كلمح بالبصر ..
وإن الله جل في علاه , ليس مَعنياً بأن يستأذن أعداءه , ويحصل على موافقتهم , أو ينتظرَ ضعفهم وعجزهم , حتى يبعث بأمره الحاسم والحاكم , فهذا التصور شر من الكفر , وليس من سُـنة الله التي لا تقبل التبديل ولا التحويل . ( ولا تجد لسنتنا تحويلا ) . فالله ملتزم برحمة خلقه ..
فالله سبحانه , يفعل ما يشاء ويختار , في الوقت الذي يشاء , وبالسبب الذي يريد , أو بدون سبب أصلاً , وإن الله الذي لا يُـسْـتـَفـزُّ ولا يُـبْـتـزُّ , ولا يَعجل لعجلة المخلوقين , وله حكمته وتوقيته الدقيق , في إعادة تدبير أمر الدنيا والدين , على النحو الذي يرضيه , ويعيد التوازن من جديد , بعد ما يلـُجُّ أعداؤه في العُـتـوِّ والطغيان , وامتهان أهل الدين والإيمان ..
الله يأمر بظهور الحق :
ويقول سيد الخلق محمد , صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق , لا يضرهم من خالفهم , حتى يأتيَ أمر الله ) ..
فالرسول عليه الصلاة والسلام , يُـثبت هنا : أن هذه الأمة , مهما كانت في أي ظرف وزمان , لا تخلو ولا يجوز أن تخلو , من وجود جماعة وبقية , هم طائفة تطوف في الأرض , وتبشر بالحق , ويكون لها السمو والظهور الباهر , الذي لا يمكن إخفاؤه , ولا التعتيم عليه ..
وأن هذه الطائفة , تستمر في الوجود والحضور : مَظهراً ورمزاً , تأثيراً وأثراً , تجديداً ورحمة , تذكيراً وتذكرة , فيبقى الناس متذكرين , وأن الحق مع الدين , الذي هو الإسلام الحق , والدين الخالص .. ( ألا لله الدين الخالص ) ..
فإذا ما ضل المسلمون , عن طريق الهدى والنور , ووقعوا فريسة الظلمات والظلم والإثم فإن هذه الطائفة , تشكل طليعة مؤمنة وملتزمة , ورواداً وهداة في أزمنة الانحسار والبلاء , فلا يتحقق مراد أعداء الله , من أن يَـفصلوا الأمة عن دينها بالكلية , ويجردوها من كل أصالة وهوية فتستعصي عليهم , رغم جهودهم المضنية , وجهود المنافقين لهم , والسائرين في ركابهم ..
إن عودة الأمة , إلى شرعها الحنيف , وموقعها الزاهر , مرهونة بالرسالة التي تحملها هذه الطائفة , وتستمر عليها , رغم الضغوط والتحديات , والجسور المدمَّرة , والطرق المسدودة , فلا تضرهم مخالفة المخالفين , ولا تـَثـني من عزيمتهم أراجيف الراجفين والمرجفين .. فبإذن ٍ ومشيئة من الله , يتم التجاوز لكل ذلك , وتنتصر هذه الطائفة , فتنتصر الأمة تبعاً لها .. ومن خلال آليات وأحداث وملاحم , يكون في النتيجة : الفتح المبين , والنصر المؤزَّر , والعودة الحميدة والرشيدة , والنهوضُ من الكبوة الشديدة !.. بقائد ملهَم ومنتظر , يُعده الله جل جلاله , ويصنعه على عينه ..
فأية بشرى عظيمة , يحملها إلينا رسولنا الكريم , حينما ينوه بهذه الطائفة , التي يضيء وجودها مصابيح الأمل , ويوقد شعلة الإيمان , ويمهد لانتصار المؤمنين والموحدين .. الثابتين على الـعهد , والـصابـريـن في الـبـأسـاء والـضراء , وحينَ الـبـأس .. وحين الـغلاء والـبلاء , والـظلم الضاغط , وحياة القهر والحرمان ..
وتصدُّع الأمة على هذا النحو المشاهَد , لن يغير من الحقيقة الإلهية شيئاً , ما دام عباد الله الصالحون , يتحملون أعباء الدعوة والدين , ويشكلون النواة التي منها تنبثق شجرة الإيمان والنصر , في هذا الزمان , لتستعيد أمتنا : حريتها السليبة , وحقوقها المغتصبة ..
كيف يجيء أمر الله :
يقول سبحانه : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور .. ) ..
نوح عليه السلام , كان في مأزق فادح , استمر ألف سنة إلا خمسين عاماً .. ولا يعلم إلا الله , كم مضى من زمن التصبر والترقب , بعد الاستجابة لدعاء نوح , حتى أنجز هذا الدعاء , وتـُرجمت الاستجابة الإلهية , إلى واقع يقتحم على قومه , ما هم فيه من سُكر وغفلة , وإمعان ٍ في الأذى والكفر , وإلحاق الضرر بنوح ومن معه , من أبنائه والمؤمنين والمؤمنات ..
لقد كان الموقف الأخير لنوح , بعد دعوته التي دعا بها , يتطلب تدخلاً سريعاً من الخالق المقتدر , لإحداث الطوفان , الذي يُغرق أهل الكفر والطغيان , ويُنهي هذه المأساة الطويلة جداً ..
وهذا التدخل , جاء على شكل أمر ذاتي مباشر , يصدره الله سبحانه , في لمحة تسبق الزمن , وتقول بالتفصيل : ما ينبغي أن يكون , حيث جبريلُ والمدبراتُ أمراً , على أهْـبة الاستعداد , لتنفيذ موجبات هذا الأمر , وإن الإشارة المشفـَّرة في ذلك : أن يفور التنور , دون أن يذكر الحق سبحانه , ماهية هذا الفوران , المُؤْذن ِ بانفجار الطوفان !..
ولعل الله جل في علاه , يدبر هذا الأمر , من قبل ألفيته العسيرة والمريرة , ويصمم بعلمه الواسع , تفاصيل ذلك العذاب , ويهيء ظروف المناخ القادم , الذي يرتبط توقيته بيوم مُعـيـَّن , وساعة معلومة سلفاً .. غير قابلة للتقديم والتأخير , وحاسمة ً أيضاً ..
فتجيء وقائع الحدث الكبير , حسبما هو مصمم في العلم المحيط , دون زيادة أو نقصان ..
فقد علم الله قبلاً وقِدماً , ما سيكون من نوح وقومه , ومآلاتِ ذلك الصراع الغريب في التاريخ ! فتقرر ذلك كله وترتب , في عالم التنازع والأسباب , والأحداث والتطورات المتلاحقة .
وعِـلمُ الله بما سيكون , ليس بالضرورة حكماً مُسْبقاً منه , وقراراً اتـُّخذ قبل خلق السموات والأرض , وليس فيه جَبْرية يزعمها الجائرون الجـبْـريون , القائلون على الله بلا علم ولا كتاب منير .. وإلا ضاعت المسؤوليات , وكان الملومَ والمفـرِّط َ : ربُّ العالمين !..
والجبريون يخلطون بين العلم والحكم , وبين الأمر التكويني والتشريعي , وبين المقدمات والنتائج , وبين أفعال الكافرين والعصاة والمجرمين , وما به يُجازوْن ويعاقبون !..
وهؤلاء باختصار : لا يُسَبِّحون الله ولا ينزهونه , ولا ينسبون إلى أنفسهم ظلماً ولا إثماً , ولا يقول أحدهم : سبحانك إني كنت من الظالمين , ويقول سبحانه : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) .. ( وقِـفـوهم إنهم مسؤولون ) .. فلماذا السؤال إذا كان جبر , وليس في علم الله جبرية مزعومة , ولا ما يدل عليها .. لأن العلم كشف مسبق بما سيكون , ليس إلا ..
مـُسَـوِّغات أمر الله :
إن الله سبحانه , يعبر عن أمره بالمجيء , من خلال : إذا .. التي هي ظرف لما يُستقبل من الزمان .. فكم يستغرق ذلك من وقت وتسلسل أحداث , وتراكم مسوِّغات واعتبارات , وحصول جملة من التطورات والمخالفات , لتكون القضية جاهزة لدى الحضرة الإلهية , ومستوية ً تماماً , ومستكملة لكل الشروط الموضوعية , التي تـُؤذن في حضرة الله , بمجيء أمر الله وحكمه ..
وكم يصبر الله على ظلم الظالمين , وأعداء النبوة والنبيين , حتى تـَستنفد الأحداثُ المعادية لله , ما قـُدِّر من صبر وحلم وإمهال, في محضر الله جل جلاله .. ( وإن الله يـُمهل ولا يـُهمل ) .. وحيثيات الأمر , لا بد منها لمجيء الأمر .. وإن النتائج المعتبرة , مسبوقة بمقدمات مستوجـِبة ..
وإن جملة الأعداء والظالمين , يستفيدون من صبر الله وحلمه , في عملية الاستمرار والغرور , وكونـِهم يتحركون في دائرة الإمهال والاستدراج والإملاء , فيظن أعداء الله , أن ذلك ضعف من الإله , فيزدادون غروراً , ويتصورون أنهم غير مغلوبين , وأن سلطتهم إلى الأبد !..
ويقول سبحانه : ( وأُمْلي لهم إن كيدي مَـتين ) .. ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) ..
ألا ما أغبى وما أتفهَ المغرورين بالله , الذين يتطاولون على حق الله , ويستهينون بقدرة الله عليهم , وأن ما هم فيه دائم لهم , ولو دام لمن قبلهم , لما وصل إليهم .. فمتى ذلك يعلمون , ومتى من سكرتهم يُـفيقون ؟!.. بل متى يأمر الله , بإخراجهم من دائرة الحلم والإمهال ..
وإن فوران التنور ينتظرهم , ليتقرر البدءُ بنهايتهم , وحينئذ لا تنفعهم أبراج ولا جنود , ولا تحميهم بوارج ولا مُعدات , ولا تحول بينهم وبين أمرالله إذا جاء , استحكامات ولا مِنصات , ودوائر استخبارات !.. وكم من قادة متجبرين وظالمين , كانت نهايتهم على عناصر حمايتهم !..
تساؤلات :
فهل يحق بعد ذلك لأمة القرآن , رغم الغثاء والأغبياء , من أبنائها العاقين , أن تكون الآن في موقع الترقب والانتظار , والتطلع إلى مجيء أعظم أمر لله , يقضي على أكبر فتنة في الأرض قد مرت على هذا الكوكب المنكوب , منذ عهد آدم وإلى اليوم ؟!. وهي فتنة المسيح الدجال !..
وهل من سبيل إلى انفراج كبير , في نهاية هذه الأزمنة المَـقيتة , والأزمات الشائكة , والمصائب المروِّعة , والأهوال المخيفة والمرعبة , والأعداء الطاغين والباغين , والخطط الجهنمية المدمرة , والاستراتيجيات الشيطانية , الوجهِ الآخر لحضارة الغرب والأمريكان ؟!..
وهل على أعداء هذه الأمة وأعداء مستضعفيها , أن يتوقعوا أمراً من أمر الله , يعلمون بموجبه أن الله هو الحق المُحق , وأنه لكل عظمة وانتصار أهل ومستحِـق , وأنهم وحدهم الجناة والقاسطون , وأن تمتعهم في هذه الدنيا , كان اختباراً إلى حين .. فسقطوا في الامتحان , وصاروا جديرين بكل مذلة وامتهان ؟!. ( وأما االقاسطون فكانوا لجهنمَ حطباً ) والقاسط منحرف وجائر ..
ويقول سبحانه : ( وإنْ أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) .. فلا تغتروا أيها المجرمون ..
أخيراً :
فلا أريد بعد ذلك كله , أن يسبق إلى وهم السادرين , أن أمر الله هذا يأتي من فراغ , وأنني أتمنى على الله الأماني , وأن أمة الإجابة والإنابة , لم تقدم أعظم ثمن لأعظم نصر , في ملحمة ضخمة ونادرة , تتناثر فيها الأشلاء والدماء , كأنها ذرات الهواء , وينال المؤمنين الصادقين والمؤمنات , تحت كل سماء , وفوق كل أرض , ما لا يوصف ولا يكاد يُصدَّق , مما تشيب له رؤوس الأجـنـَّة في بطون أمهاتها , وتعجز قواميس اللغة , عن توصيفه وتوثيقه وتسطيره !..
أمرُ الله بالعدل :
يقول سبحانه : ( إن الله يأمر بالعدل .. ) ..
وبالعدل قامت السموات والأرض , وهو عدل الله المطلق , الذي هو في حقيقته وواقعه , غير مَـقدور للبشر , أن يكون مفهوماً لديهم , وواضحاً لهم , بسبب الأمشاج والملابسات !..
فمباديء العدل معروفة ومتداولة عِـلماً , ومن الميسور التعرف عليها , ولكنَّ حقائق العدل المطلق , هي التي لا يعلم إلا الله سبحانه : مداها وفحواها , وأين وكيف تقع , ومَنْ ضحاياها ؟..
إن العدل الذي يأمر به الله الحق , هو العدل الحقيقي في هذا الوجود .. وهو الذي يفعله سبحانه , بكل دقة وحيادية , دون أن يظلم ذرة أو يَحيف .( أم يخافون أن يَحيف الله عليهم .. ) ..
( إن ربي على صراط مستقيم ) ..
ولذلك فإن العدل عدلان : عدل خاص بالبشر , وعدلُ خالق البشر ..
وأما الأول : ففي الغالب الأعم , يَخرج البشر من ملحمة العدل خاسرين , وأكثرهم يكون من الظالمين , خصوصاً على مستوى القضاة والحاكمين , أئمة الجـوْر .. فيعطـَّل ميزان العدالة والعدل , ويُطرح جانباً : إكراماً للرشاوى والشهوات , والأحقاد والمصالح القذرة , واستضعاف الآخـَرين , الذين لا يجدون ناصراً لهم , إلا الله تبارك وتعالى , فيظلِمون مستهينين بعدل الله !..
وأما العدل الإلهي : فلا يُعَطل أبداً , وإذا اقفرت الأرض من عدل البشر , فإن عدل الله قائم الموازين , وقد يُخفـِّف من وطأة الظلم , وينال الظالمين من حيث لا يشعر الناس , ولا ينتبهون !..
وإن عدل الله في غـِمار الحياة الدنيا , المفعمةِ بالمظالم والضغوط والتعديات , يكتنفه الغموض والخفاء غالباً , بسبب التركيبة الدنيوية , المؤسسةِ على قاعدة الابتلاء والتكليف والمسؤولية , التي من مقتضاها إعطاءُ الفرصة والإمهال , لـيُـظهر كلٌّ ما عنده , ولعله يأخذ بالتوبة , وليكون في النهاية , موسوماً بسِـمة الظلـم الذي ينتابه ويوبقه , أو العـدل الـذي ينـْجيه ويطلقه .. أو التوبة النصوح التي قد تـَغفر له , وتـُكـفـِّر ذنبه , ويُعفى عنه بعد الحكم عليه ..
وليست استحقاقات العدل في الدنيا , مستوفاةَ بالكامل , فكثير من الناس يمضون بما كسَبوه من مظالم العباد , ليُوَفـَّوْا جزاءهم العادل يوم الدين .. والحياة ابتلاء بالطبع , وغرس وزرع ..
( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة .. ) ..
ولذلك ترى كثيراً من الظالمين والآثمين , لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون , في دنياهم وحياتهم هذه , بالحكمة التي ذكرناها آنفاً , وبمقتضى الحكم الإلهي , مع وقف التنفيذ غالباً ..
ومن الملاحظ أن العدل الإلهي في الدنيا , قد يتباطؤ مجيئه , كنتيجة وعاقبة للذين ظلموا , ولكنْ يأتي أخيراً : تطهيراً لهم في الدنيا , وإعفاء من العقوبة في الآخرة .. إذا كانوا مؤمنين وموحدين طبعاً .. وقد لا يأتي , فيعاقبون يوم الدين , وهذا ليس في صالحهم حتماً ..
وأما الكفار الملاعين , وأكابر المجرمين , فليسوا في هذا المربَّع من عدل الله قطعاً .. ولهم شأنُ عدل آخر .. قد يُـدخلهم جهنم وبئس المصير .. خالدين فيها أبداً , وما هم منها بمخرجين ..
وفي الخاتمة , فإن العدل معناه : التوازن والمساواة والإنصاف , وإعطاء الحقوق لأربابها كـاملـة غـير مـنقوصة , والأخـذ ُ بيد الـمظلـومين : خـلاصاً وإنقـاذاً ونـصراً , ووقـفـاً لـسياسة الذين لا يرحمون , وينامون مِلء عيونهم , وشعوبهم لا تنام , من الظلم والتسيب واللا مسؤولية..
وقد يكون معناه : عقوباتٍ وحدوداً ومؤاخذاتٍ , تـُوقـَع بأهل الظلم , ومرتكبي الجرائم والفواحش : مُجازاة وقصاصاً , وردعاً وزجراً لسواهم , لكي لا يكونوا أمثالهم !..
الروح .. من أمر الله :
ويقول سبحانه : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي .. ) ..
( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا .. ) ..
وهكذا يبدأ حديث الروح والأمر , في تلازم مستمر , فمصدر الروح ومرجعيته , من عالم الأمر .. فما هو عالم الأمر هذا ؟.. وما هو وجه التلازم بينهما ؟..
في البداية : وصف الله نفسه بأنه رب العالمين , فهي عوالم كثيرة إذن , لا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى .. وليست عالماً واحداً , هو عالم العادات والتقاليد , الذي نحن فيه ..
وعالم الأمر واحد منها , ولعله أكبرُها , بسبب ارتباطه بالروح , التي تُفيض الحيَوات , في الأرض والسموات !.. وموجودات كل منهما .. فالروح سر الوجود , وسر كل مولود ..
إن الروح كلية لا تتجزأ , وهي نفحة متدفقة من عالم الأمر الإلهي , الذي يختزن في دوائره , كلَّ ما لله من أوامر في العوالم , تـَهديها وتـُسويها , وتبعث الروح والحياة والحيوية فيها.. لتمضي سفينة الحياة , محاطة بألطاف خفية وعلنية , من أمر الله الملك القدوس ..
وإن الروح أيضاً , هي ابتداءً : النواةُ الأولى , والبذرةِ الصالحة , لنشوء الـمبادي والقيم الحية , وتـَكوِّن الـحقائـق والـمفـاهـيم الـصادقة , وهي قـاعـدة انطـلاق الـنبوات والرســالات , حسب الآية الآنفة .. وهي قوله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ..) ..
يتمخض عالم الأمر , فتكون الولادة روحاً تملأ الكيانات , وتسري في الخلايا والذرات , وتـُنتج طاقة الحياة .. التي تـُضيء وتُحي الموات من الماديات والترابيات , والخلايا الدقيقات !..
والمباديء على اختلاف ألوانها , مباديها روحانيات مجرَّدة , تـُطوِّف في الأرض والفكر وتـُشعل مَوْقد الأمل , وتكشف عن المستقبل , وتمهد طريق الرواد الأوائل , من أجل صنع واقع مفقود , والتبشير بعهد جديد , من خلال حالة اليأس , والمعيشة الأصعب .. والحكم الذي يصبح عبئاً فاسداً ومستهلكاً .. فتنبعث الحياة في كل ما هو مَنسيُّ وميت , ومستهلـَك ومستنفـَد , مما يطمح إليه البشر , ويثير اهتمامهم , ويدغدغ أحلامهم , وهو محل رضاهم ومناهم ..
وهكذا تنشأ العهود والأدوار في التاريخ , وتتجسد الأحكام والمسؤوليات الجديدة , وتقوم الدول الكبرى على ظهر هذه البسيطة , وتـُصاغ الاستراتيجيات الفاعلة والمهيمنة .. ويأخذ الصراع , وتنازعُ البقاء , شكلاً آخر .. يفضي إلى نمط للحياة جديد وصاعد !..
فالروح آمرة ومُعمِّرة وبنَّاءة , لأنها جاءت من عالم الأمر , وهي لها الفوق والطوق , ومن وراء الماديات والمحسوسات , وهي ذات طبيعة فذة لا تموت , ولا يتطرق إليها التحول والفناء ..
تفنى أثوابها التي ارتدتها , وكياناتها التي تقمصتها , وأجسادها التي سكنت فيها إلى حين , وبَعثت فيها التحرك والسكون .. وهي اللطيفة الربانية , التي تُفعِّل واقع الحياة , وما كان ويكون ..
وهي أمانة الله , ونفخة الله , وروح من روح الله , وسر مكتوم وغير معلوم , لم يُكشف غطاؤه , ولم يُدرك شأوُه وجوهره المقدس .. وحينما تغادر الأجساد , تموت هذه الأجساد !..
ولكنها من خلال مصدرهـا وآثـارها , مُوَلـِّد ضخم , يُـمد الكـون بالـطاقة اللازمة , لـيتحرك كل ما فـيه , حسب ما خـُـلـق له , ووُجد من أجـله , بناء على تركـيبته الـخاصة , وتسويته المتميزة والممَـيَّـزة .. خصوصاً الإنسان , الذي فضله الله على سائر الحيوان ..
الروح عَـين وبها نبصر , وأذن وبها نسمع , ويد وبها نبطِـش , ورجل وبها نمشي , ورئتان وبهما نتنفس , وقلب وهو مصدر الطاقة الحيوية , في البدن وأعصابه .. وهي بَر وبحر , ومد وجزر , وشمس وقمر , وكوكب ونجم , ومَجرات وغابات .. إلخ إلخ ..
وبدون الروح , فلا شيء من ذلك ألبتـَّة , إلا أن يكون موتاً وعدماً , وفراغاً وظلماتٍ , وقحطاً جارفاً , وتصحراً وتحجراً , وطبيعة خامدة .. ومقابرَ كلُّ ما فيها : موحش وأصم , والعبرة فيها بالإشارة والرمز , والحجارة الموحية بما في الأجداث , من أسرار وأخبار وأحداث..
وإذ يأتي أمر من الله , فإنه يترجَم في عالم الأمر , إلى طاقة روحانية فائقة , ذاتِ معاني ودلالات خارقة , تنبثق وتنطلق , وتمضي إلى قـدَرها المقـْدور , وثوبها الصفيق , وكيانها المختلف , وجسدها الكثيف , وأدائها المتنوع والمشهود .. في عالم الملك والشهادة والشهود ..
حيث تظهر وتتبلور آثارها وعطاءاتها , التي تـُذهل أولى الفكر والعقل , وهي الأقرب والأبعد معاً
هبطت إليك من المَحلِّ الأرفع وَرْقاءُ ذات تدلل وتمنع
وهي الروح حتماً هبطت من عالم الأمر , إلى عالم التراب والصخر , فصار جناتٍ وأنهاراً , وحضارة إبداع وإعجاز , ومظهراً للظواهر المدهشة , والمفارقات والمعادلات المحيرة.
الله لا يأمر بالفحشاء :
ويقول سبحانه : ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عـليها آباءنـا والله أمرنا بها قـل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ..
ومن الـمَفـْروغ منه قرآنياً , أن الله سبحانه , يأمر بالعدل والإحسان , والقسط والحق , وأما الظلم والجور , والفحشاء والإثم , فليس لله أوامر مختصة بها .. ومركزة عليها ..
وإن وقوعها , لا يدل على أن الله يرتضيها ويشاؤها , فما نهى الله عنه , لا يأمر به قطعاً , بل يمقته ويمقت فاعليه , ويعاقب عليه .. وهو ليس مسؤولاً عنه , بل مسؤولاً عن كل ما هم ايجابي وصالح , في هذا الوجود ..
وإن أوامر الله ونواهيه : الـتشريعية والتـكلـيفية , فبالإمكان عصيانها ومخالفتها .. وحينئذ لا يقال : وقع في ملكه ما لا يريده .. إذ حكمته العليا والقديمة , هي التي اقتضت ذلك ..
ولأن هذا العصيان ممكن أصلاً , ولا يشير إلى عجز الرحمن , بعد أن منح الحرية للإنسان ..
وإن حرية الإرادة والاختيار , الممنوحة َ للبشر : ابتلاء واختباراً , هي مصدر السوء والـفـُحش , وحصول المظالـم والـظلم , الـذي حـرمه الله عـلى نفسه , وحرمه على خلقه من بني آدم .. ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تـَظالموا ) ..
أوامر الله : قـُدوسية ورحموتية , وهي لصالح الخليقة , ولحساب ما هو نافع ومفيد , ويحقق الحياة المستقرة , على ظهر هذا الكوكب .. وهذه هي شريعة الله , وسبيل التعامل مع الله ..
ولكن النفس الأمارة بالسوء , والشياطين الآمرين بالمنكر , هم الذين تقع عليهم مسؤولية الضلال الديني والدنيوي , والفساد الخلقي والاجتماعي , والحساب والعذاب الأخروي ..
وإن الله طيب لا يفعـل إلا طـيبـاً , وقـدُّوس لا يقـبـل إلا ما كـان مقـدَّساً , ورحمن رحيم , لا يصدر عنه ما هو قسوة وحقد وظلم , ومتسامح كريم , يحب الكرم والعفو , والصفح الجميل , ويكره ما سوى ذلك , مما لا يتورع عنه الظالمون والمجرمون والآثمون , ولكلٍ صفته وسِمته ..
وإن الله سبحانه , رب الصلاح والإصلاح والصالحين , والإيمانُ به طريق النصر والفلاح والمؤمنين , والذين يعصونه , ويخالفون عن أمره , فإنهم هم الفاسدون والمفسدون في الأرض ..
ملاحظة هامة :
إنني أود أن أقول شيئاً : إن الناس في هذا الزمان , يقولون عند كل جريمة وخطيئة يرتكبونها , أو يرتكبها غيرهم : هذا أمر الله , وكأن الله يأمر بذلك , ويُجبـِر عليه !. وبذلك يصدرون صكوك البراءة , إلى أفعال الشيطان , وأفعال أتباعه وأوليائه من الإنس والجان , التي لا يمكن إلا أن تدان : عقلاً وشرعاً .. فالمشكلة قديمة , ومنذ قال عزازيل : ( فبما أغويتني ) ..
وكأن هذه الأفعال , هي من فعل الله ابتداء وبداية , وأنهم مُجْبرون عليها , ولا مَخلصَ لهم منها , وأنهم لا دور لهم في صنعها واجتراحها , وأنهم ضحية ومظلومون !. أستغفر الله العظيم ..
ويُسْـقطون بذلك كامل المسؤولية , في هذه الحياة الدنيوية , التي لا يقول بها عاقل , فضلاً عن مؤمن يقرأ القرآن , ويـتدبر ما فيه من آيات التسبيح لله , المنزهةِ لـه عن أفـعـال المخـلـوقين , وما فـيها من بغي وظـلم وإثـم .. وتلويث للبيئة والقيم , التي أبدعها الله في أكمل حلة وتوازن ..
وسبحان الله في القرآن , طافحة بالنزاهة والتنزيه لله , وبكماله المطلق , الذي لا تشوبه شائبة مما يَصفون .. والمنهج الحق في قوله تعالى : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) .. ويقول : ( فلولا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون ) ..
ويجب نفيُ آثار المذهب الجبْري , من حياة هذه الأمة , الذي دفع بها إلى مهاوي الردى , واستعذاب الظلم , والاستهانة بالمعاصي والذنوب , والاكتفاء بإلقاء العُـهدة على علام الغيوب , وأن الاعتراض على المذنبين , وما يفعله الظالمون , اعتراض على الله ذاته .. ومن يَعترضْ ينتطرد .. وألغيَ الأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر !.. وضاعت حقيقة الدين واليقين .. والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. وأكرم .. عبد الرحمن
يأتي أمر الله
بحث مستفيض في ماهية هذا الأمر
الشيخ عبد الرحمن العيسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تبارك وتعالى : ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) ..
مقدمة :
إن أمر الله مختلف المستوى والإتيان , فهناك الأمر التكليفي والتشريعي , وهناك الأمر الكوني والتكويني , وهناك الأمر المُنـْهي لكل أمر , والمنجزُ الوعدِ بالفتح والفرج والنصر ..
فالأمر الأول : موكول إلى البشر فعلـُه وعملـُه , مسؤولية واختباراً , وقد يُعصى هذا الأمر ويخالف , من قبل العصاة والضالين , والمغضوب عليهم , لتشكل تراكماتٍ تسبب عقاباً وعذاباً ..
والأمر الثاني : لا يُـتصور فيه التخلف والمخالفة , بل هو دائم السير والجريان , في الكائنات والأكوان (كن . فيكون) أي إن كن , تُمد الكون بما يلزم من الكينونات والأوامر الناظمة.
وأما الأمر الثالث : فهو الأمر الإلهي المرتقب والمنتظـَر , نتيجة وعاقبة لأحداث وأوضاع وابتلاءات وآليّات , يعيشها المؤمنون المستضعفون , في أزمنة الاضطهاد الديني والسياسي , فيصبرون ويحتسبون , ويتمسكون بما تمليه عليهم عقيدتهم ورسالتهم , حتى يقولوا : ( متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) .. أي هو قريب عند الله , وإن بدا أنه بعيد عند الناس ..
والذي يَعنينا هنا , هو أمر الله الذي وُعد به المتقون , وأمروا بالصبر على مقتضاه وبلواه , إلى أن يأتي هذا الأمر من الله , على شكل إغاثة واستجابة : رفعاً للحرج والتمحيص , وفرجاً من العسر والضيق .. ونصراً لأهل الصدق , وتعزيزاً لمكانتهم في الأرض ..
وفي القرآن المجيد , يصف الله أمره , بأنه روح يحي به الله الأرض بعد موتها , ويصلحها بعد فسادها , ويُحي مَنْ عليها بالحياة الحية والنامية والوافية ..
وبداية الرسالة الإلهية , روح من الله المقدس والقدوس , لإحياء القلوب والنفوس , وقد تكون الروح أمراً , وقد يكون الأمر روحاً , فالحياة الحقيقية , رهن بأمر الله المبارك والطيب , الذي تتم ترجمته إلى نهضة وإفاقة , ومسيرة جديدة , في طريق التنور والتحضر , تنور الأفئدة والعقول , وتحضر الأخلاق والمفاهيم .. التي هي الشأن الأعظم , لأمة الإسلام والقرآن ..
وليست بالضرورة , حضارة الفحم والنفط , والحديد والنار , والصراع المحموم من أجل هضم الشعوب , وسفك دمها وعرضها الحرام , تبعاً لنزوات وخطط القادة المجرمين والمتوحشين
الأمر الذي يجعل من حظنا : أمر الله المتوجِّب , يغيثنا وينجدنا من البأس والشدة , التي طال أمدها , واستعصى طريقها المسدود , ليكون الفضل كله لله وحده , ولأمره العظيم , في خلاصنا , وفكاك أسرنا , ومجيء دورنا : خيرَ أمة أخرجت للناس , تأمر بالمعروف , وتنهى عن المنكر , وتؤمن بالله .. وهي مبررات وجودنا واستمرارنا في هذه الحياة : أعزة كرماء ..
وبدون أمر الله المغيث والمسعف هذا , فإن الحياة لا تطاق أبداً , والمؤمنون يتداولهم الأعداء بالاضطهاد , ويستنفدون وجودهم الإيماني من الأرض , ويخلو الجو للكافرين والمجرمين والمفسدين , ويتمكنون من إحباط مشيئة رب العالمين !.. وإطفاء نور الله من الأرض كلياً ..
ولكن رحمة الله سبحانه , تأبى ذلك قطعاً , وتـُعَـقـِّب على حياة الظالمين , بأحكام النسخ والإدالة , والردع والإدانة , واستلابِ ما في أيديهم , من بسطة وقدرة , وحكم ومسؤولية , وإحالتهم إلى مجاهل النسيان , ومطاوي الزمن , وزوايا التاريخ , فلا يُذكرون إلا بالمذمة واللعنة.
أتى أمر الله :
يخبر الخبير البصير والقدير : أنْ أتى أمر الله , ولكن لا تستعجلوه : ظهوراً وحكماً , بل اصبروا وانتظروا , فعما قليل ينجلي الموقف , وما فيه من غموض وترقب , عن أمر جليل من أمر الله الواحد الأحد , به يغيث الأمة , ويكشف الكرب والغمة , ويحقق الوعـد الموعـود والمفعول .. ( وكان وعداً مفعولاً ) ..
وهذه الآية ( أتى أمر الله ) , ليست لمرة واحدة وتنتهي , بل إنها تفصح وتشير عن إتيان لأمر الله مستمر ومتنوع , وتنهى عن التعجل في حصول ذلك , فقد يستدعي الأمر , آماداً تطول أو تقصر , حسب حجم الأمر , وضخامة النصر , وما قد يستدعيه الموقف المتأزم , والظرف الصعب , واليومُ العصيب , وإصرارُ الدول الكبرى , على اضطهاد العُروبيين والمسلمين ..
فكأنه يقول سبحانه : إن لي في كل فترة متردية , وواقعة متشددة , وحالة مستعصية وسيئة أمراً مُحْـكماً , يفصل فيما كان , ويضع حداً للطغيان , ويُنهي ما قد تفاقم من عوائد الناس المعتادة في الظلم والتجاوز , ورتابة الحياة المرهقة والـمُذلة , واستخفافِ ذوي النفوذ والسلطة , بأية قيمة ذات قيمة , واستعذابِ حياة الإثم والتفلت والجريمة , فلا نهاية تبدو أمام المظلومين , تخفف عنهم بعض ما يعانون , مما هو فوق طاقة التحمل , ويبحثون عن الأمل , يعللون به أنفسهم , فلا يجدون !.. ويتلفتون مذهولين ومشتكين , ولكن ليس من مغيث ولا نصير ..
فعندها يأتي أمر الله بالتغيير الفائق والسريع , واعتدال ميزان العدالة والرحمة , الذي وصل انحطاطه إلى الحضيض .. وكان الجور والحقد والفساد العريض ..
فهل من الممكن في التفسير والتصور , إلا أن يُستنبط لأمر الله الآتي , مثلُ هذا الحجم الرائع , من الإنجازات التي تأتي على قـدَر مقدور : إغاثة لحالة ما في الأرض , من أهوال وعذابات , وحمامات دماء ودموع , تجري أنهاراً وشلالاتٍ , وحضارةِ الوحش المجنون , الذي يزحف كالجراد والطاعون , وينقض من وراء البحار والمحيطات والقرون !. مدمراً التراث والتاريخ , الذي استغرق أحقاباً طِوالاً , وصنعته عقول إنسانية عظيمة !..
أم هل يتصور المؤمنون , وغير المؤمنين , أنْ لا دخلَ لله في كل ما يجري , وأنه ليس بالمرصاد لأعدائه , وأنه لا يحول بينهم وبين ما يشتهون , وأنه في النتيجة ليس له أمر واغل , ولا حكم فاصل , ولا رحمة مُغيثة بخلقه , الذين يُعذبون ويستغيثون , ويستقوون به أمام المتجبرين الذين لا يرحمون , ويقولون : الله ربنا موجود , وسينتقم من القوم الظالمين ..
بلى إن الحق سبحانه , إزاء هذه الحياة الآثمة , له شأنه الأعظم , وأمره المُبـْرم , وإتيانـُه المباغت والمشهود , من حيث لا يحتسب الأعداء الكافرون والمنافقون .. ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) ..
وإن أجل الله إذا جاء , لا يُؤخر لو كنتم تعلمون .. ويا ليتكم تعلمون ..
ويقول سبحانه : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمحٍ بالبصر ) ..
فأمر الله الذي يقضي بالتحول والتغيير , لا يتعدد ولا يتكرر , بل هو أمر لمرة واحدة فقط وفي سرعة مجيئه وإتيانه , كانصباب المطر , أو كلمح بالبصر ..
وإن الله جل في علاه , ليس مَعنياً بأن يستأذن أعداءه , ويحصل على موافقتهم , أو ينتظرَ ضعفهم وعجزهم , حتى يبعث بأمره الحاسم والحاكم , فهذا التصور شر من الكفر , وليس من سُـنة الله التي لا تقبل التبديل ولا التحويل . ( ولا تجد لسنتنا تحويلا ) . فالله ملتزم برحمة خلقه ..
فالله سبحانه , يفعل ما يشاء ويختار , في الوقت الذي يشاء , وبالسبب الذي يريد , أو بدون سبب أصلاً , وإن الله الذي لا يُـسْـتـَفـزُّ ولا يُـبْـتـزُّ , ولا يَعجل لعجلة المخلوقين , وله حكمته وتوقيته الدقيق , في إعادة تدبير أمر الدنيا والدين , على النحو الذي يرضيه , ويعيد التوازن من جديد , بعد ما يلـُجُّ أعداؤه في العُـتـوِّ والطغيان , وامتهان أهل الدين والإيمان ..
الله يأمر بظهور الحق :
ويقول سيد الخلق محمد , صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق , لا يضرهم من خالفهم , حتى يأتيَ أمر الله ) ..
فالرسول عليه الصلاة والسلام , يُـثبت هنا : أن هذه الأمة , مهما كانت في أي ظرف وزمان , لا تخلو ولا يجوز أن تخلو , من وجود جماعة وبقية , هم طائفة تطوف في الأرض , وتبشر بالحق , ويكون لها السمو والظهور الباهر , الذي لا يمكن إخفاؤه , ولا التعتيم عليه ..
وأن هذه الطائفة , تستمر في الوجود والحضور : مَظهراً ورمزاً , تأثيراً وأثراً , تجديداً ورحمة , تذكيراً وتذكرة , فيبقى الناس متذكرين , وأن الحق مع الدين , الذي هو الإسلام الحق , والدين الخالص .. ( ألا لله الدين الخالص ) ..
فإذا ما ضل المسلمون , عن طريق الهدى والنور , ووقعوا فريسة الظلمات والظلم والإثم فإن هذه الطائفة , تشكل طليعة مؤمنة وملتزمة , ورواداً وهداة في أزمنة الانحسار والبلاء , فلا يتحقق مراد أعداء الله , من أن يَـفصلوا الأمة عن دينها بالكلية , ويجردوها من كل أصالة وهوية فتستعصي عليهم , رغم جهودهم المضنية , وجهود المنافقين لهم , والسائرين في ركابهم ..
إن عودة الأمة , إلى شرعها الحنيف , وموقعها الزاهر , مرهونة بالرسالة التي تحملها هذه الطائفة , وتستمر عليها , رغم الضغوط والتحديات , والجسور المدمَّرة , والطرق المسدودة , فلا تضرهم مخالفة المخالفين , ولا تـَثـني من عزيمتهم أراجيف الراجفين والمرجفين .. فبإذن ٍ ومشيئة من الله , يتم التجاوز لكل ذلك , وتنتصر هذه الطائفة , فتنتصر الأمة تبعاً لها .. ومن خلال آليات وأحداث وملاحم , يكون في النتيجة : الفتح المبين , والنصر المؤزَّر , والعودة الحميدة والرشيدة , والنهوضُ من الكبوة الشديدة !.. بقائد ملهَم ومنتظر , يُعده الله جل جلاله , ويصنعه على عينه ..
فأية بشرى عظيمة , يحملها إلينا رسولنا الكريم , حينما ينوه بهذه الطائفة , التي يضيء وجودها مصابيح الأمل , ويوقد شعلة الإيمان , ويمهد لانتصار المؤمنين والموحدين .. الثابتين على الـعهد , والـصابـريـن في الـبـأسـاء والـضراء , وحينَ الـبـأس .. وحين الـغلاء والـبلاء , والـظلم الضاغط , وحياة القهر والحرمان ..
وتصدُّع الأمة على هذا النحو المشاهَد , لن يغير من الحقيقة الإلهية شيئاً , ما دام عباد الله الصالحون , يتحملون أعباء الدعوة والدين , ويشكلون النواة التي منها تنبثق شجرة الإيمان والنصر , في هذا الزمان , لتستعيد أمتنا : حريتها السليبة , وحقوقها المغتصبة ..
كيف يجيء أمر الله :
يقول سبحانه : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور .. ) ..
نوح عليه السلام , كان في مأزق فادح , استمر ألف سنة إلا خمسين عاماً .. ولا يعلم إلا الله , كم مضى من زمن التصبر والترقب , بعد الاستجابة لدعاء نوح , حتى أنجز هذا الدعاء , وتـُرجمت الاستجابة الإلهية , إلى واقع يقتحم على قومه , ما هم فيه من سُكر وغفلة , وإمعان ٍ في الأذى والكفر , وإلحاق الضرر بنوح ومن معه , من أبنائه والمؤمنين والمؤمنات ..
لقد كان الموقف الأخير لنوح , بعد دعوته التي دعا بها , يتطلب تدخلاً سريعاً من الخالق المقتدر , لإحداث الطوفان , الذي يُغرق أهل الكفر والطغيان , ويُنهي هذه المأساة الطويلة جداً ..
وهذا التدخل , جاء على شكل أمر ذاتي مباشر , يصدره الله سبحانه , في لمحة تسبق الزمن , وتقول بالتفصيل : ما ينبغي أن يكون , حيث جبريلُ والمدبراتُ أمراً , على أهْـبة الاستعداد , لتنفيذ موجبات هذا الأمر , وإن الإشارة المشفـَّرة في ذلك : أن يفور التنور , دون أن يذكر الحق سبحانه , ماهية هذا الفوران , المُؤْذن ِ بانفجار الطوفان !..
ولعل الله جل في علاه , يدبر هذا الأمر , من قبل ألفيته العسيرة والمريرة , ويصمم بعلمه الواسع , تفاصيل ذلك العذاب , ويهيء ظروف المناخ القادم , الذي يرتبط توقيته بيوم مُعـيـَّن , وساعة معلومة سلفاً .. غير قابلة للتقديم والتأخير , وحاسمة ً أيضاً ..
فتجيء وقائع الحدث الكبير , حسبما هو مصمم في العلم المحيط , دون زيادة أو نقصان ..
فقد علم الله قبلاً وقِدماً , ما سيكون من نوح وقومه , ومآلاتِ ذلك الصراع الغريب في التاريخ ! فتقرر ذلك كله وترتب , في عالم التنازع والأسباب , والأحداث والتطورات المتلاحقة .
وعِـلمُ الله بما سيكون , ليس بالضرورة حكماً مُسْبقاً منه , وقراراً اتـُّخذ قبل خلق السموات والأرض , وليس فيه جَبْرية يزعمها الجائرون الجـبْـريون , القائلون على الله بلا علم ولا كتاب منير .. وإلا ضاعت المسؤوليات , وكان الملومَ والمفـرِّط َ : ربُّ العالمين !..
والجبريون يخلطون بين العلم والحكم , وبين الأمر التكويني والتشريعي , وبين المقدمات والنتائج , وبين أفعال الكافرين والعصاة والمجرمين , وما به يُجازوْن ويعاقبون !..
وهؤلاء باختصار : لا يُسَبِّحون الله ولا ينزهونه , ولا ينسبون إلى أنفسهم ظلماً ولا إثماً , ولا يقول أحدهم : سبحانك إني كنت من الظالمين , ويقول سبحانه : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) .. ( وقِـفـوهم إنهم مسؤولون ) .. فلماذا السؤال إذا كان جبر , وليس في علم الله جبرية مزعومة , ولا ما يدل عليها .. لأن العلم كشف مسبق بما سيكون , ليس إلا ..
مـُسَـوِّغات أمر الله :
إن الله سبحانه , يعبر عن أمره بالمجيء , من خلال : إذا .. التي هي ظرف لما يُستقبل من الزمان .. فكم يستغرق ذلك من وقت وتسلسل أحداث , وتراكم مسوِّغات واعتبارات , وحصول جملة من التطورات والمخالفات , لتكون القضية جاهزة لدى الحضرة الإلهية , ومستوية ً تماماً , ومستكملة لكل الشروط الموضوعية , التي تـُؤذن في حضرة الله , بمجيء أمر الله وحكمه ..
وكم يصبر الله على ظلم الظالمين , وأعداء النبوة والنبيين , حتى تـَستنفد الأحداثُ المعادية لله , ما قـُدِّر من صبر وحلم وإمهال, في محضر الله جل جلاله .. ( وإن الله يـُمهل ولا يـُهمل ) .. وحيثيات الأمر , لا بد منها لمجيء الأمر .. وإن النتائج المعتبرة , مسبوقة بمقدمات مستوجـِبة ..
وإن جملة الأعداء والظالمين , يستفيدون من صبر الله وحلمه , في عملية الاستمرار والغرور , وكونـِهم يتحركون في دائرة الإمهال والاستدراج والإملاء , فيظن أعداء الله , أن ذلك ضعف من الإله , فيزدادون غروراً , ويتصورون أنهم غير مغلوبين , وأن سلطتهم إلى الأبد !..
ويقول سبحانه : ( وأُمْلي لهم إن كيدي مَـتين ) .. ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) ..
ألا ما أغبى وما أتفهَ المغرورين بالله , الذين يتطاولون على حق الله , ويستهينون بقدرة الله عليهم , وأن ما هم فيه دائم لهم , ولو دام لمن قبلهم , لما وصل إليهم .. فمتى ذلك يعلمون , ومتى من سكرتهم يُـفيقون ؟!.. بل متى يأمر الله , بإخراجهم من دائرة الحلم والإمهال ..
وإن فوران التنور ينتظرهم , ليتقرر البدءُ بنهايتهم , وحينئذ لا تنفعهم أبراج ولا جنود , ولا تحميهم بوارج ولا مُعدات , ولا تحول بينهم وبين أمرالله إذا جاء , استحكامات ولا مِنصات , ودوائر استخبارات !.. وكم من قادة متجبرين وظالمين , كانت نهايتهم على عناصر حمايتهم !..
تساؤلات :
فهل يحق بعد ذلك لأمة القرآن , رغم الغثاء والأغبياء , من أبنائها العاقين , أن تكون الآن في موقع الترقب والانتظار , والتطلع إلى مجيء أعظم أمر لله , يقضي على أكبر فتنة في الأرض قد مرت على هذا الكوكب المنكوب , منذ عهد آدم وإلى اليوم ؟!. وهي فتنة المسيح الدجال !..
وهل من سبيل إلى انفراج كبير , في نهاية هذه الأزمنة المَـقيتة , والأزمات الشائكة , والمصائب المروِّعة , والأهوال المخيفة والمرعبة , والأعداء الطاغين والباغين , والخطط الجهنمية المدمرة , والاستراتيجيات الشيطانية , الوجهِ الآخر لحضارة الغرب والأمريكان ؟!..
وهل على أعداء هذه الأمة وأعداء مستضعفيها , أن يتوقعوا أمراً من أمر الله , يعلمون بموجبه أن الله هو الحق المُحق , وأنه لكل عظمة وانتصار أهل ومستحِـق , وأنهم وحدهم الجناة والقاسطون , وأن تمتعهم في هذه الدنيا , كان اختباراً إلى حين .. فسقطوا في الامتحان , وصاروا جديرين بكل مذلة وامتهان ؟!. ( وأما االقاسطون فكانوا لجهنمَ حطباً ) والقاسط منحرف وجائر ..
ويقول سبحانه : ( وإنْ أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) .. فلا تغتروا أيها المجرمون ..
أخيراً :
فلا أريد بعد ذلك كله , أن يسبق إلى وهم السادرين , أن أمر الله هذا يأتي من فراغ , وأنني أتمنى على الله الأماني , وأن أمة الإجابة والإنابة , لم تقدم أعظم ثمن لأعظم نصر , في ملحمة ضخمة ونادرة , تتناثر فيها الأشلاء والدماء , كأنها ذرات الهواء , وينال المؤمنين الصادقين والمؤمنات , تحت كل سماء , وفوق كل أرض , ما لا يوصف ولا يكاد يُصدَّق , مما تشيب له رؤوس الأجـنـَّة في بطون أمهاتها , وتعجز قواميس اللغة , عن توصيفه وتوثيقه وتسطيره !..
أمرُ الله بالعدل :
يقول سبحانه : ( إن الله يأمر بالعدل .. ) ..
وبالعدل قامت السموات والأرض , وهو عدل الله المطلق , الذي هو في حقيقته وواقعه , غير مَـقدور للبشر , أن يكون مفهوماً لديهم , وواضحاً لهم , بسبب الأمشاج والملابسات !..
فمباديء العدل معروفة ومتداولة عِـلماً , ومن الميسور التعرف عليها , ولكنَّ حقائق العدل المطلق , هي التي لا يعلم إلا الله سبحانه : مداها وفحواها , وأين وكيف تقع , ومَنْ ضحاياها ؟..
إن العدل الذي يأمر به الله الحق , هو العدل الحقيقي في هذا الوجود .. وهو الذي يفعله سبحانه , بكل دقة وحيادية , دون أن يظلم ذرة أو يَحيف .( أم يخافون أن يَحيف الله عليهم .. ) ..
( إن ربي على صراط مستقيم ) ..
ولذلك فإن العدل عدلان : عدل خاص بالبشر , وعدلُ خالق البشر ..
وأما الأول : ففي الغالب الأعم , يَخرج البشر من ملحمة العدل خاسرين , وأكثرهم يكون من الظالمين , خصوصاً على مستوى القضاة والحاكمين , أئمة الجـوْر .. فيعطـَّل ميزان العدالة والعدل , ويُطرح جانباً : إكراماً للرشاوى والشهوات , والأحقاد والمصالح القذرة , واستضعاف الآخـَرين , الذين لا يجدون ناصراً لهم , إلا الله تبارك وتعالى , فيظلِمون مستهينين بعدل الله !..
وأما العدل الإلهي : فلا يُعَطل أبداً , وإذا اقفرت الأرض من عدل البشر , فإن عدل الله قائم الموازين , وقد يُخفـِّف من وطأة الظلم , وينال الظالمين من حيث لا يشعر الناس , ولا ينتبهون !..
وإن عدل الله في غـِمار الحياة الدنيا , المفعمةِ بالمظالم والضغوط والتعديات , يكتنفه الغموض والخفاء غالباً , بسبب التركيبة الدنيوية , المؤسسةِ على قاعدة الابتلاء والتكليف والمسؤولية , التي من مقتضاها إعطاءُ الفرصة والإمهال , لـيُـظهر كلٌّ ما عنده , ولعله يأخذ بالتوبة , وليكون في النهاية , موسوماً بسِـمة الظلـم الذي ينتابه ويوبقه , أو العـدل الـذي ينـْجيه ويطلقه .. أو التوبة النصوح التي قد تـَغفر له , وتـُكـفـِّر ذنبه , ويُعفى عنه بعد الحكم عليه ..
وليست استحقاقات العدل في الدنيا , مستوفاةَ بالكامل , فكثير من الناس يمضون بما كسَبوه من مظالم العباد , ليُوَفـَّوْا جزاءهم العادل يوم الدين .. والحياة ابتلاء بالطبع , وغرس وزرع ..
( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة .. ) ..
ولذلك ترى كثيراً من الظالمين والآثمين , لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون , في دنياهم وحياتهم هذه , بالحكمة التي ذكرناها آنفاً , وبمقتضى الحكم الإلهي , مع وقف التنفيذ غالباً ..
ومن الملاحظ أن العدل الإلهي في الدنيا , قد يتباطؤ مجيئه , كنتيجة وعاقبة للذين ظلموا , ولكنْ يأتي أخيراً : تطهيراً لهم في الدنيا , وإعفاء من العقوبة في الآخرة .. إذا كانوا مؤمنين وموحدين طبعاً .. وقد لا يأتي , فيعاقبون يوم الدين , وهذا ليس في صالحهم حتماً ..
وأما الكفار الملاعين , وأكابر المجرمين , فليسوا في هذا المربَّع من عدل الله قطعاً .. ولهم شأنُ عدل آخر .. قد يُـدخلهم جهنم وبئس المصير .. خالدين فيها أبداً , وما هم منها بمخرجين ..
وفي الخاتمة , فإن العدل معناه : التوازن والمساواة والإنصاف , وإعطاء الحقوق لأربابها كـاملـة غـير مـنقوصة , والأخـذ ُ بيد الـمظلـومين : خـلاصاً وإنقـاذاً ونـصراً , ووقـفـاً لـسياسة الذين لا يرحمون , وينامون مِلء عيونهم , وشعوبهم لا تنام , من الظلم والتسيب واللا مسؤولية..
وقد يكون معناه : عقوباتٍ وحدوداً ومؤاخذاتٍ , تـُوقـَع بأهل الظلم , ومرتكبي الجرائم والفواحش : مُجازاة وقصاصاً , وردعاً وزجراً لسواهم , لكي لا يكونوا أمثالهم !..
الروح .. من أمر الله :
ويقول سبحانه : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي .. ) ..
( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا .. ) ..
وهكذا يبدأ حديث الروح والأمر , في تلازم مستمر , فمصدر الروح ومرجعيته , من عالم الأمر .. فما هو عالم الأمر هذا ؟.. وما هو وجه التلازم بينهما ؟..
في البداية : وصف الله نفسه بأنه رب العالمين , فهي عوالم كثيرة إذن , لا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى .. وليست عالماً واحداً , هو عالم العادات والتقاليد , الذي نحن فيه ..
وعالم الأمر واحد منها , ولعله أكبرُها , بسبب ارتباطه بالروح , التي تُفيض الحيَوات , في الأرض والسموات !.. وموجودات كل منهما .. فالروح سر الوجود , وسر كل مولود ..
إن الروح كلية لا تتجزأ , وهي نفحة متدفقة من عالم الأمر الإلهي , الذي يختزن في دوائره , كلَّ ما لله من أوامر في العوالم , تـَهديها وتـُسويها , وتبعث الروح والحياة والحيوية فيها.. لتمضي سفينة الحياة , محاطة بألطاف خفية وعلنية , من أمر الله الملك القدوس ..
وإن الروح أيضاً , هي ابتداءً : النواةُ الأولى , والبذرةِ الصالحة , لنشوء الـمبادي والقيم الحية , وتـَكوِّن الـحقائـق والـمفـاهـيم الـصادقة , وهي قـاعـدة انطـلاق الـنبوات والرســالات , حسب الآية الآنفة .. وهي قوله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ..) ..
يتمخض عالم الأمر , فتكون الولادة روحاً تملأ الكيانات , وتسري في الخلايا والذرات , وتـُنتج طاقة الحياة .. التي تـُضيء وتُحي الموات من الماديات والترابيات , والخلايا الدقيقات !..
والمباديء على اختلاف ألوانها , مباديها روحانيات مجرَّدة , تـُطوِّف في الأرض والفكر وتـُشعل مَوْقد الأمل , وتكشف عن المستقبل , وتمهد طريق الرواد الأوائل , من أجل صنع واقع مفقود , والتبشير بعهد جديد , من خلال حالة اليأس , والمعيشة الأصعب .. والحكم الذي يصبح عبئاً فاسداً ومستهلكاً .. فتنبعث الحياة في كل ما هو مَنسيُّ وميت , ومستهلـَك ومستنفـَد , مما يطمح إليه البشر , ويثير اهتمامهم , ويدغدغ أحلامهم , وهو محل رضاهم ومناهم ..
وهكذا تنشأ العهود والأدوار في التاريخ , وتتجسد الأحكام والمسؤوليات الجديدة , وتقوم الدول الكبرى على ظهر هذه البسيطة , وتـُصاغ الاستراتيجيات الفاعلة والمهيمنة .. ويأخذ الصراع , وتنازعُ البقاء , شكلاً آخر .. يفضي إلى نمط للحياة جديد وصاعد !..
فالروح آمرة ومُعمِّرة وبنَّاءة , لأنها جاءت من عالم الأمر , وهي لها الفوق والطوق , ومن وراء الماديات والمحسوسات , وهي ذات طبيعة فذة لا تموت , ولا يتطرق إليها التحول والفناء ..
تفنى أثوابها التي ارتدتها , وكياناتها التي تقمصتها , وأجسادها التي سكنت فيها إلى حين , وبَعثت فيها التحرك والسكون .. وهي اللطيفة الربانية , التي تُفعِّل واقع الحياة , وما كان ويكون ..
وهي أمانة الله , ونفخة الله , وروح من روح الله , وسر مكتوم وغير معلوم , لم يُكشف غطاؤه , ولم يُدرك شأوُه وجوهره المقدس .. وحينما تغادر الأجساد , تموت هذه الأجساد !..
ولكنها من خلال مصدرهـا وآثـارها , مُوَلـِّد ضخم , يُـمد الكـون بالـطاقة اللازمة , لـيتحرك كل ما فـيه , حسب ما خـُـلـق له , ووُجد من أجـله , بناء على تركـيبته الـخاصة , وتسويته المتميزة والممَـيَّـزة .. خصوصاً الإنسان , الذي فضله الله على سائر الحيوان ..
الروح عَـين وبها نبصر , وأذن وبها نسمع , ويد وبها نبطِـش , ورجل وبها نمشي , ورئتان وبهما نتنفس , وقلب وهو مصدر الطاقة الحيوية , في البدن وأعصابه .. وهي بَر وبحر , ومد وجزر , وشمس وقمر , وكوكب ونجم , ومَجرات وغابات .. إلخ إلخ ..
وبدون الروح , فلا شيء من ذلك ألبتـَّة , إلا أن يكون موتاً وعدماً , وفراغاً وظلماتٍ , وقحطاً جارفاً , وتصحراً وتحجراً , وطبيعة خامدة .. ومقابرَ كلُّ ما فيها : موحش وأصم , والعبرة فيها بالإشارة والرمز , والحجارة الموحية بما في الأجداث , من أسرار وأخبار وأحداث..
وإذ يأتي أمر من الله , فإنه يترجَم في عالم الأمر , إلى طاقة روحانية فائقة , ذاتِ معاني ودلالات خارقة , تنبثق وتنطلق , وتمضي إلى قـدَرها المقـْدور , وثوبها الصفيق , وكيانها المختلف , وجسدها الكثيف , وأدائها المتنوع والمشهود .. في عالم الملك والشهادة والشهود ..
حيث تظهر وتتبلور آثارها وعطاءاتها , التي تـُذهل أولى الفكر والعقل , وهي الأقرب والأبعد معاً
هبطت إليك من المَحلِّ الأرفع وَرْقاءُ ذات تدلل وتمنع
وهي الروح حتماً هبطت من عالم الأمر , إلى عالم التراب والصخر , فصار جناتٍ وأنهاراً , وحضارة إبداع وإعجاز , ومظهراً للظواهر المدهشة , والمفارقات والمعادلات المحيرة.
الله لا يأمر بالفحشاء :
ويقول سبحانه : ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عـليها آباءنـا والله أمرنا بها قـل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ..
ومن الـمَفـْروغ منه قرآنياً , أن الله سبحانه , يأمر بالعدل والإحسان , والقسط والحق , وأما الظلم والجور , والفحشاء والإثم , فليس لله أوامر مختصة بها .. ومركزة عليها ..
وإن وقوعها , لا يدل على أن الله يرتضيها ويشاؤها , فما نهى الله عنه , لا يأمر به قطعاً , بل يمقته ويمقت فاعليه , ويعاقب عليه .. وهو ليس مسؤولاً عنه , بل مسؤولاً عن كل ما هم ايجابي وصالح , في هذا الوجود ..
وإن أوامر الله ونواهيه : الـتشريعية والتـكلـيفية , فبالإمكان عصيانها ومخالفتها .. وحينئذ لا يقال : وقع في ملكه ما لا يريده .. إذ حكمته العليا والقديمة , هي التي اقتضت ذلك ..
ولأن هذا العصيان ممكن أصلاً , ولا يشير إلى عجز الرحمن , بعد أن منح الحرية للإنسان ..
وإن حرية الإرادة والاختيار , الممنوحة َ للبشر : ابتلاء واختباراً , هي مصدر السوء والـفـُحش , وحصول المظالـم والـظلم , الـذي حـرمه الله عـلى نفسه , وحرمه على خلقه من بني آدم .. ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تـَظالموا ) ..
أوامر الله : قـُدوسية ورحموتية , وهي لصالح الخليقة , ولحساب ما هو نافع ومفيد , ويحقق الحياة المستقرة , على ظهر هذا الكوكب .. وهذه هي شريعة الله , وسبيل التعامل مع الله ..
ولكن النفس الأمارة بالسوء , والشياطين الآمرين بالمنكر , هم الذين تقع عليهم مسؤولية الضلال الديني والدنيوي , والفساد الخلقي والاجتماعي , والحساب والعذاب الأخروي ..
وإن الله طيب لا يفعـل إلا طـيبـاً , وقـدُّوس لا يقـبـل إلا ما كـان مقـدَّساً , ورحمن رحيم , لا يصدر عنه ما هو قسوة وحقد وظلم , ومتسامح كريم , يحب الكرم والعفو , والصفح الجميل , ويكره ما سوى ذلك , مما لا يتورع عنه الظالمون والمجرمون والآثمون , ولكلٍ صفته وسِمته ..
وإن الله سبحانه , رب الصلاح والإصلاح والصالحين , والإيمانُ به طريق النصر والفلاح والمؤمنين , والذين يعصونه , ويخالفون عن أمره , فإنهم هم الفاسدون والمفسدون في الأرض ..
ملاحظة هامة :
إنني أود أن أقول شيئاً : إن الناس في هذا الزمان , يقولون عند كل جريمة وخطيئة يرتكبونها , أو يرتكبها غيرهم : هذا أمر الله , وكأن الله يأمر بذلك , ويُجبـِر عليه !. وبذلك يصدرون صكوك البراءة , إلى أفعال الشيطان , وأفعال أتباعه وأوليائه من الإنس والجان , التي لا يمكن إلا أن تدان : عقلاً وشرعاً .. فالمشكلة قديمة , ومنذ قال عزازيل : ( فبما أغويتني ) ..
وكأن هذه الأفعال , هي من فعل الله ابتداء وبداية , وأنهم مُجْبرون عليها , ولا مَخلصَ لهم منها , وأنهم لا دور لهم في صنعها واجتراحها , وأنهم ضحية ومظلومون !. أستغفر الله العظيم ..
ويُسْـقطون بذلك كامل المسؤولية , في هذه الحياة الدنيوية , التي لا يقول بها عاقل , فضلاً عن مؤمن يقرأ القرآن , ويـتدبر ما فيه من آيات التسبيح لله , المنزهةِ لـه عن أفـعـال المخـلـوقين , وما فـيها من بغي وظـلم وإثـم .. وتلويث للبيئة والقيم , التي أبدعها الله في أكمل حلة وتوازن ..
وسبحان الله في القرآن , طافحة بالنزاهة والتنزيه لله , وبكماله المطلق , الذي لا تشوبه شائبة مما يَصفون .. والمنهج الحق في قوله تعالى : ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) .. ويقول : ( فلولا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون ) ..
ويجب نفيُ آثار المذهب الجبْري , من حياة هذه الأمة , الذي دفع بها إلى مهاوي الردى , واستعذاب الظلم , والاستهانة بالمعاصي والذنوب , والاكتفاء بإلقاء العُـهدة على علام الغيوب , وأن الاعتراض على المذنبين , وما يفعله الظالمون , اعتراض على الله ذاته .. ومن يَعترضْ ينتطرد .. وألغيَ الأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر !.. وضاعت حقيقة الدين واليقين .. والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. وأكرم .. عبد الرحمن