المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تنبيه الله فوق السماء وليـس في كـل مـكان؟؟؟



ابوعبدالرحمن السلفي
03-16-2010, 09:02 AM
الله فوق السماء
وليـس في كـل مـكان



كتبه:
أبو عمار علي الحذيفي




المقدمــــــة:






الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله صحبه أجمعين، وبعد:
فهذه نبذة مختصرة فيها بيان أن الله العظيم سبحانه مستو على عرشه فوق سماواته وليس كما يقول بعض عوام الناس: إنه معنا في كل مكان، بل هذا ما يقوله كثير من المتصوفة.
وعلو الله على نوعين:
الأول: العلو العام وهو علوه على جميع الخلائق.
والثاني: العلو الخاص وهو علوه على العرش.
وسيأتي في هذه النبذة إن شاء الله حقيقة العلوين وبيان الفرق بينهما.
وتتكون هذه النبذة من عدة فصول مختصرة:
الفصل الأول: صفة العلو العام لله عز وجل.
الفصل الثاني: شبهات نفاة العلو والرد عليها.
الفصل الثالث: صفة العلو الخاص لله عز وجل.
الفصل الرابع: شبهات نفاة الإستواء والرد عليها.
الفصل الخامس: في صفة المعية لله تعالى.





الفصل الأول: صفة العلو العام لله عز وجل:

المبحث الأول: العــلو العــام على جميع الخلائق:

1- مقدمة في صفة العلو:



وهذا العلو من صفاته الذاتية أي: الملازمة لذاته، ونحن أهل السنة والجماعة نؤمن بأن الله عز وجل عليٌّ أي: متصف بالعلو على جميع خلقه، وما من شيء إلا والله فوقه، فهو عليٌ على كل شيء، ولا شيء فوقه كما قال تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى) وفي الحديث: "(أنت الظاهر فليس فوقك شيء).
قال ابن خزيمة في "كتاب التوحيد":(فالأعلى: مفهوم في اللغة: أنه أعلى شيء، وفوق كل شيء).
وقال شيخ الاسلام: (والأعلى: أبلغ من العلي). "الفتاوى"(5/237).
وقال الطحاوي في "عقيدته": ( محيط بكل شيء وفوقه) أي: محيط بكل شيء وفوق كل شيء.
وعلوه سبحانه نوعان:
الأول: علوه على خلقه بذاته: فليس فوقه شيء، كما قال: (سبح اسم ربك الأعلى).
والثاني: علوه على خلقه بـ صفاته: فليس مثله شيء كما قال: (ليس كمثله شيء).




2- الأدلة على علو الله بذاته:



أما العلو الأول - وهو العلو بذاته سبحانه - فهو ثابت بعدة أدلة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، والعقل.



أولاً: أدلة الكتاب:



قال ابن القيم في "إعلام الموقعين"(2/281-284): (رد الجهمية النصوص المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده من ثمانية عشر نوعاً:
أحدها: التصريح بالفوقية مقرونة بأداة "من" المعيّنة لفوقية الذات، نحو: "يخافون ربهم من فوقهم".
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله: "وهو القاهر فوق عباده".
الثالث: "التصريح بالعروج إليه، نحو: "تعرج الملائكة والروح إليه" وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم".
الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله: "إليه يصعد الكلم الطيب".
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله: "بل رفعه الله إليه" وقوله: "إني متوفيك ورافعك إلي".
السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله: "وهو العلي العظيم" وقوله: "وهو العلي الكبير" وقوله:"إنه علي كبير".
السابع: التصريح بتـنزيل الكتاب منه، كقوله: "تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم" وقوله: "تنزيل من حكيم حميد" وقوله: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق" وهذا يدل على شيئين:
1- على أن القرآن ظهر منه لا من غيره، وأنه الذي تكلم به لا غيره.
2- الثاني على علوه على خلقه، وأن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده، من أعلى مكان إلى رسوله.
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: "إن الذين عند ربك" وقوله: "وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون".
ففرق بين من له عموماً، ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصاً.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: "إنه عنده على العرش".
التاسع: التصريح بأنه سبحانه في السماء، وهذا عند أهل السنة على أحد وجهين:
1- إما أن تكون "في" بمعنى "على".
2-وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك ولا يجوز حمل النص على غيره.
العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة "على" مختصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة "ثم" الدالة على الترتيب والمهلة، وهو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العلو والارتفاع ولا يحتمل غيره البتة.
الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله سبحانه كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً".
الثاني عشر: التصريح بنـزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا، والنـزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل.
الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم به وما يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزلة والفلاسفة، في أعظم مجمع على وجه الأرض يرفع أصبعه إلى السماء ويقول: "اللهم اشهد" ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه.
الرابع عشر: التصريح بلفظ "الأين" الذي هو عند الجهمية بمنزلة "متى" في الاستحالة، ولا فرق بين اللفظين عندهم البتة، فالقائل أين الله ؟ ومتى كان الله ؟ عندهم سواء، كقول أعلم الخلق به وأنصحهم لأمته وأعظمهم بياناً عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه "أين الله" في غير موضع.
الخامس عشر: شهادته التي هي أصدق شهادة عند الله وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال: "إن ربه في السماء" بالإيمان، وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر وصرح الشافعي بأن هذا الذي وصفته من أن ربها في السماء إيمان، فقال في كتابه في "باب عتق الرقبة المؤمنة": "وذكر حديث الأمة السوداء التي سودت وجوه الجهمية وبيضت وجوه المحمدية فلما وصفت الإيمان قال: "أعتقها فإنها مؤمنة وهي إنما وصفت كون ربها في السماء وأن محمداً عبده ورسوله" فقرنت بينهما في الذكر فجعل الصادق المصدوق مجموعهما هو الإيمان.
السادس عشر: إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبر به من أنه سبحانه فوق السموات فقال: "يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً" فكذب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء، وعند الجهمية لا فرق بين الإخبار بذلك وبين الإخبار بأنه يأكل ويشرب، وعلى زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به، وكذب موسى في إخباره بذلك، إذ من قال عندهم: "إن ربه فوق السموات" فهو كاذب، فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون مخالفون لموسى ولجميع الأنبياء، ولذلك سماهم أئمة السنة فرعونية، قالوا: وهم شر من الجهمية، فإن الجهمية يقولون: إن الله في كل مكان بذاته، وهؤلاء عطلوه بالكلية وأوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض، فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه كان قولهم خيراً من قولهم.
السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى وبين الله، ويقول له موسى: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فيرجع إليه ثم ينـزل إلى موسى فيأمره بالرجوع إليه سبحانه فيصعد إليه سبحانه ثم ينـزل من عنده إلى موسى عدة مرات.
الثامن عشر: إخباره تعالى عن نفسه وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عياناً جهرة كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، والذي تفهمه الأمم على اختلاف لغاتها وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المقابلة والمواجهة التي تكون بين الرائي والمرئي، فيها مسافة محدودة، غير مفرطة في البعد فتمتنع الرؤية، ولا في القرب فلا تمكن الرؤية، لا تعقل الأمم غير هذا، فإما أن يروه سبحانه من تحتهم تعالى الله، أو من خلفهم، أو من أمامهم، أو عن أيمانهم، أو عن شمائلهم، أو من فوقهم، ولابد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقاً وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم كما في حديث جابر الذي في "المسند" وغيره: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: "يا أهل الجنة سلام عليكم" ثم قرأ قوله: "سلام قولاً من رب رحيم" ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم.
ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية أصلهم وصرحوا بذلك وركبوا النفيين معاً وصدّق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما وصار من أثبت الرؤية ونفى علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه مذبذباً بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة إذا بسطت أفرادها كانت ألف دليل على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه، فترك الجهمية ذلك كله، وردوه بالمتشابه من قوله: "وهو معكم أينما كنتم") أ.هـ
ولشيخ الاسلام نحو ذلك كما في "مجموع الفتاوى" (5/164-166)، وإنما اخترت كلام ابن القيم لأنه أوسع وأوضح.



ثانياً: أدلـة السـنة:



والسنة تدل على أنواع العلو كلها، ودلالتها على العلو فيها ظاهرة، وأحاديثها في ذلك متواترة، وقد نص على التواتر جماعة من أهل العلم، كما قال الذهبي في "العلو"(ص80/ مختصره)، وهي تتنوع إلى ثلاث أنواع:
1- السنة القولية.
2- السنة الفعلية.
3- السنة الإقرارية.




أ- السنة القولية:




وأدلة السنة القولية كثيرة، نذكر منها:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) رواه مسلم.
2- قصة معراج الرسول إلى ربه، وهذا أمر معروف ومشهور حتى عند عوام الناس، فأحاديث الإسراء والمعراج متواتـرة كما قال غير واحد منهم: شيخ الاسلام: فقد قال كما في "مجموع الفتاوى"(13/173-174): (ومحمد صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى ربه وفرض عليه الصلوات الخمس ذكر أنه رجع إلى موسى، وأن موسى قال له: ارجع إلى ربك فسله التخفيف إلى أمتك كما تواتر هذا في أحاديث المعراج) أ.هـ
ومنهم العلامة ابن القيم: فإنه بعد أن ساق الآيات الدالة على العلو في "اجتماع الجيوش الإسلامية" قال رحمه الله (ص47):
(وأما الأحاديث فمنها قصة المعراج وهي متواترة، وتجاوز النبي السموات سماء سماء، حتى انتهى إلى ربه تعالى، فقربه وأدناه وفرض عليه الصلوات خمسين صلاة، فلم يزل بين موسى عليه السلام وبين ربه تبارك وتعالى وينـزل من عند ربه تعالى إلى عند[كذا] موسى، فيسأله كم فرض عليك فيخبره، فيقول: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فيصعد إلى ربه فيسأله التخفيف).
ومنهم السيوطي: حيث ذكر تواتر قصة الإسراء في "الأزهار المتناثرة" (ص263).
قلت: وحادثة "المعراج" من أظهر الأدلة على علو الله سبحانه بالنسبة لعوام الناس كما قال شيخنا مقبل رحمه الله، وإنما ذكرناه في السنة القولية لأنه قص ذلك صلى الله عليه وسلم عن نفسه.
3- ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، ففي الحديث أن الملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم.. إلى آخره، وهو متفق عليه.
3- وقوله في الحديث الصحيح: (إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي) رواه مسلم.
4- قوله في حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى ..) وهو في "المسند" عن البراء بن عازب، وسيأتي إن شاء الله.
5- قال عليه الصلاة والسلام: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). رواه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم وغيرهم، وصححه الألباني في "الصحيحة" برقم (920).



ب- السنة الفعلية:



ونريد بالسنة الفعلية إشارته صلى الله عليه وسلم إلى السماء ليشير إلى ربه، وقد وقع ذلك في "حجة الوداع" وقد جاء من حديث جابر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في "صحيح مسلم" وفيه: (وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون" ؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس "اللهم اشهد، اللهم اشهد").
قال ابن القيم في "تهذيب السنن": (وثبت عنه في الصحيح " أنه جعل يشير بأصبعه إلى السماء في خطبته في حجة الوداع وينكسها إلى الناس ويقول اللهم اشهد "وكان مستشهداً بالله حينئذ لم يكن داعياً حتى يقال: السماء قبلة الدعاء).



ج- السنة الإقـرارية:




يدل على ذلك الحديث المشهور والمسمى بـ"حديث الجارية" وهو في "صحيح مسلم" من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، وهو طويل وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: ("أين الله ؟" فقالت: في السماء، فقال: "من أنا ؟" فقالت: أنت رسول الله") فأقرها ولم ينكر عليها، بل شهد لها بالإيمان فقال: "اعتقها فإنها مؤمنة".
ولشيخ الاسلام رحمه الله تعليق على قوله صلى الله عليه وسلم: "أين الله ؟ قالت: في السماء" فقد قال كما في "الفتاوى"(5/258): (لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السموات تحصره وتحويه، فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته) أ.هـ
قلت: وقد صحح حديث الجارية جماعة من العلماء: كالإمام مسلم، فقد أورده في "صحيحه"، وأبو عوانة وابن عبد البر في "الاستيعاب" ترجمة "معاوية"، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وابن الوزير في "العواصم والقواصم" وغيرهم.



كثرة أدلة العلـو:



قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"(5/226):(فنقول: قد وصف الله نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض كبار أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله عال على الخلق وأنه فوق عباده، وقال غيره: فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك) أ.هـ



ثالثا: الإجماع:




والإجماع الذي نذكره هنا ليس إجماعاً خاصاً بهذه الأمة، بل هو إجماع جميع الأمم، ثم إجماع هذه الأمة.




إجماع الأمم السابقة:




1- قال الإمام الدارمي في "الرد على الجهمية"(ص21): (إن الأمة كلها، والأمم السالفة قبلها، لم يكونوا يشكون في الله تعالى أنه فوق السماء، بائن من خلقه، غير هذه العصابة الزائغة عن الحق المخالفة للكتاب وأثارات العلم كلها).
2- وقال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث": (والأمم كلها عربيها وعجميها تقول إن الله تعالى في السماء ما تركت على فطرها ولم تنقل عن ذلك بالتعليم، وفي الحديث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة أعجمية للعتق فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله تعالى فقالت: في السماء قال: فمن أنا قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: هي مؤمنة وأمره بعتقها هذا أو نحوه).




أهل الجاهلية:




حتى أهل الجاهلية كانوا يعرفون ذلك كما يعرف في أشعارهم:
قال عنترة:
يا عبلُ أين من المنية مهربي إن كان ربي في السماء قضاها
وقال أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله وهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسـى كبيراً




هــذه الأمة




ومنها هذه الأمة، فقد أجمعت هذه الأمة - سواء كانوا من العلماء أو غيرهم - على أن الله فوق خلقه، على السماء بذاته فوق السماء السابعة، علواً يليق بجلاله.
قال الدارمي في "الرد على المريسي": (وقد اتفقت كلمة المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه، فوق سماواته)، وقد نقل الإجماع أيضاً: ابن بطة في "الإبانة" وغيرُه.
وقال شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" (1/264): (وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين: أن الله في السماء).
فهذا إجماع نقله غير واحد، ولا يعرف من خالف في ذلك إلا عند المتأخرين من بعد القرون الثلاثة التي هي خير القرون.
فإذا قيل: كيف عرفتم الإجماع، وهل وجدتم تصريحاً منهم؟!
قيل: لقد كان الصحابة ومن بعدهم يمرون على الآيات الواضحات في العلو، ويثبتونها كما جاءت بدون تأويل ولا تحريف، فعرفنا أنهم أجمعوا على ذلك، ومن ادعى خلاف هذا فهو الملزم بأن يأتي بدليل على دعواه.




رابعاً: الفطرة:




أما الفطرة فوجهها ما يجده الإنسان في نفسه من الاعتراف بعلو الله، واضطراره إلى رفع اليدين إلى السماء إذا دعا ربه، وإذا تأمل في السماء فإنه مقهور على اعتقاد أن الله فوقها.
والعجائز والصغار إذا سألتهم: "أين الله ؟" أشاروا إلى السماء، وهذه هي أقوى أدلة هذين الصنفين من الناس: العجائز والصغار.
قال ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" (ص204): (باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنـزيله وعلى لسان نبيه عليه السلام، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين، علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وإناثهم، بالغيهم وأطفالهم، كل من دعا الله جل وعلا: فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله، إلى أعلاه لا إلى أسفل).
وقال ابن عبد البر في "التمهيد"(6/127): (ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر، أو نزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى،وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم) أ.هـ
وهذا الفطرة تبقى نقية صافية إذا لم تتلوث بعلم الكلام، أو البدع، أو غيرهما.



شبهة والجواب عنها:




فإذا قيل: إن سبب التوجه إلى السماء هو أن السماء قبلة الدعاء !!
فيقال: إن هذا مردود من أوجه:
أولاً: هذا قول ليس عليه دليل، ولم يقله أحد من السلف.
ثانياً: قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا خطب بهم في الاستسقاء استدار إلى القبلة ورفع يديه بالدعاء، كما جاء من حديث عبد الله بن زيد في "صحيح البخاري"قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقى، فدعا واستسقى ثم استقبل القبلة وقلب رداءه) وقد قال البخاري: "باب: الدعاء مستقبل القبلة".
ولو كان الأمر كما قالوا من أن السماء قبلة الدعاء لم يحتج إلى الاستدارة.
ثالثا: قد أشار بإصبعه إلى السماء في غير الدعاء، وقد تقدم كلام ابن القيم في ذلك حيث قال: (وكان مستشهداً بالله حينئذ لم يكن داعياً حتى يقال: السماء قبلة الدعاء).




خامساً: العقل:




العقل يقرر: أن الله تعالى إما أن يكون متصلاً بخلقه، أو منفصلاً عنهم، والأول باطل فتعين الثاني، وإذا كان منفصلاً عنهم وبائناً منهم، فإما أن يكون تحتهم، أو مساوٍ لهم أو فوقهم ؟ و الأول والثاني باطلان فتعين الأخير.
قال شيخ الاسلام رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"(5/152): (قاعدة عظيمة في إثبات علوه تعالى:
وهو واجب بالعقل الصريح والفطرة الإنسانية الصحيحة، وهو أن يقال: كان الله ولا شيء معه ثم خلق العالم، فلا يخلو إما أن يكون خلقه في نفسه وانفصل عنه وهذا محال - تعالى الله عن مماسة الأقذار وغيرها - وإما أن يكون خلقه خارجاً عنه ثم دخل فيه وهذا محال أيضاً - تعالى أن يحل في خلقه، وهاتان لا نزاع فيهما بين أحد من المسلمين، وإما أن يكون خلقه خارجاً عن نفسه الكريمة ولم يحل فيه، فهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ولا يليق بالله إلا هو، وهذه القاعدة للإمام أحمد من حججه على الجهمية في زمن المحنة) أ.هـ
قلت: هو في "الرد على الجهمية" (ص104)، ومعنى كلامهما رحمهما الله أنه إذا تقرر أن الله خلق الخلق منفصلين عن ذاته، فهو إما فوقهم أو تحتهم أو مساو لهم، والثاني والثالث باطلان فتعين الأول.



3- ثمار الإيمان بالعلو:




1- سلامة الاعتقاد، وموافقة العقيدة الصحيحة، وذلك من جهتين أحدهما: أن الله مباين للخلائق، والثانية: أن الله في جهة العلو.
2- النجاة من عقيدة "الحلول والاتحاد".
قال شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى" (4/59): (وهذا هو الذي أوقع الاتحادية في قولهم: هو نفس الموجودات، إذ لم تجد موجوداً إلا هذه الموجودات، إذا لم يكن فوقها شيء آخر).


وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين" (ص20-21): (فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه قاهر فوق عباده "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه" "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" صار لقلبه أمماً يقصده، ورباً يعبده وإلهاً يتوجه إليه بخلاف من لا يدري أين ربه ؟ فإنه ضائع، مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها، ولا معبود يتوجه إليه قصده، وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إلهاً يسكن إليه، ويتوجه إليه، وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلا العدم، وأنه ليس فوق العالم إله يعبد، ويصلى له ويسجد، وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يرفع إليه العمل الصالح، جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الاتحاد ولا بد). أ.هـ




الفصل الثاني: شبهات نفاة العلو والرد عليها:




أهل البدع والانحراف يعرفون أن باطلهم لا يقبل إلا إذا غطي بعبارات جميلة، تجعل هذا الباطل ينطلي على ضعفاء العلم، وفي باب العلو لهم عدة شبهات، فمنها:




الشبهة الأولى:
القول بأن العلو في الآيات علو معنوي
،أي: علو قهر وقدر:




والجواب عن هذه الشبهة من أوجه:
1- العلو المعنوي يعني أن الله خير من عباده، وأفضل منهم، كما يقال: الأمير أعلى من الوزير، والدينار فوق الدرهم، ولا شك أن هذا المعنى ليس مراداً من آيات "العلو" لأن هذا المعنى معلوم وواضح من جهة، ومن جهة أخرى أن النفوس السليمة تشمئز من هذا التفسير، لأنه يتضمن عقد مقارنة ومفاضلة بين الله وعباده، وهذا تنقص كبير لجناب "الرب"، وهذا كقول القائل:
ألم تر أن السيف ينقص قـدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
وهذا المعنى ليس فيه تمجيد ولا تعظيم ولا مدح لله سبحانه، وكلام الله أعظم وأنزه من مثل هذه الأساليب، بخلاف العلو الحقيقي الذي يتضمن الثناء على الله.
2- هذا المعنى المذكور – وهو العلو المعنوي - يثبت لله ضمناً، فله سبحانه وحده العلو المطلق: علو القهر، علو القدر، وعلو الذات، ومن حصر هذا الإطلاق على شيء واحد فقد تنقص الله وقال بما لا يليق بالله سبحانه.
3- هذا الذي ذكروه يعتبر تأويلاً والذي هو بمعنى التحريف، وخروجاً عن ظاهر النصوص، وحصراً لمعانيها الكثيرة بشيء واحد.
4- الدليل الذي أثبتم به علو القدر والقهر هو دليلينا على إثبات علو الذات لله سبحانه، فإذا أثبتم علواً وأولتم علواً آخر، فقد فتحتم باباً لغيركم في تأويل ما أثبتموه أنتم أنفسكم.
فإن قالوا:
إذا أنكرتم تأويلنا لنصوص العلو بأنه علو القدر والقهر، أنكرنا عليكم تأويل المعية بمعية العلم !!.
والجواب:
ليس تفسير المعية بالعلم من التأويل، والذي هو عند المتأخرين بمعنى صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، وإنما هو تفسير "للمعية" بلغة العرب، فإننا إذا رجعنا إلى لغة العرب وجدناهم يطلقون المعية ويريدون مطلق المصاحبة، ولا يلزم من ذلك المخالطة.
وإنما قلت: (التأويل عند المتأخرين بمعنى صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح) لأن التأويل عند المتقدمين يأتي بمعنى التفسير، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (5/35): (التأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهرة تأويلا على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله-تعالى- بلفظ التأويل ذلك، وان للنصوص تأويلا يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله ولا يعلمه المتأولون).
وقال في "مجموع الفتاوى" (4/6): (وتسمية هذا تأويلا لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلا طائفة من المتأخرين الحائضين في الفقه وأصوله والكلام).



الشبهة الثانية: الاستدلال بآيات المعية
على نفي العلو:




استدل النفاة بآيات المعية على نفي "العلـو"، كقوله تعالى: (ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) وقوله: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير).
والجواب: أنه لم يفهم أحد أن آيات "العلو" تصادم آيات "المعية" وتعارضها، إلا المتأخرين ممن تلوثت أفكارهم بالبدع، وإلا فلا تعارض مطلقاً.
قال ابن عبد البر في "التمهيد": (أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله).
وقال الآجري في "الشريعة": (والذي يذهب إليه أهل العلم: أن الله عز وجل سبحانه على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السماوات العلا، وبجميع ما في سبع أرضين وما بينهما وما تحت الثرى).
إلى أن قال: (فإن قال قائل: فإيش معنى قوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم الآية التي بها يحتجون ؟ قيل له: علمه عز وجل والله على عرشه، وعلمه محيط بهم، وبكل شيء من خلقه، كذا فسره أهل العلم والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم).
فآيات المعية لا تنافي آيات العلو من أي وجه وذلك لأن كلمة "مـع" في "لغة العرب" تأتي ويكون لها معنى على حسب السياق، وهي كل الأحوال لا تعني الاختلاط والامتزاج أبداً.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(5/103): (وذلك أن كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال).
وعندنا على ذلك عدة أمثلة تدل على أن "المعية" لا يلزم منها الاختلاط:
المثال الأول: فإن الرجل يخرج من صنعاء مع غروب الشمس ذاهباً إلى حضرموت، ويبقى سائراً طوال الليل، ولا يمر بمكان إلا ويرى القمر معه حيثما ذهب وحيثما نزل، فيقول: "لم أذهب مكاناً إلا والقمر معي حيثما ذهبت". فلا يفهم العرب من هذا أن القمر كان يرافقه في السيارة، ولا يفهمون من ذلك الامتزاج به.
المثال الثاني: وقد يتكلم الرجل في أمريكا بالهاتف مع رجل في اليمن، فيعرض عليه موضوعاً ثم يقول: "كيف ترى ذلك" ؟! فيرد عليه قائلاً: "افعل ما تراه مناسباً وأنا معك".، أو يسأله قائلاً: هل تسمعني يا فلان ؟! فيقول: أنا معك يا فلان !!
المثال الثالث: قال شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى"(5/104): (وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف، أنا معك، أو أنا هنا، أو أنا حاضر ونحو ذلك).
المثال الرابع: وقال شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى"(5/403-404): (ونحن نقول في قوله: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" أنه معهم بالعلم بما هم عليه، كما تقول لرجل وجهته إلى بلد شاسع ووكلته بأمر من أمرك: "احذر التقصير والإغفال لشيء مما تقدمتُ فيه إليك، فإني معك" يريد أنه لا يخفى عليّ تقصيرك أو جدك، بالإشراف عليك والبحث عن أمورك، فإذا جاء هذا في المخلوق والذي لا يعلم الغيب فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز.
وكذلك هو بكل مكان يراك لا يخفى عليه شيء مما في الأماكن هو فيها بالعلم بها والإحاطة، فكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه بكل مكان على الحلول).




الشبهة الثالثة:
الاستدلال بآيات القرب على نفي العلو:




والمقصود قوله تعالى: (فإني قريب) وقوله تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون)، قالوا: وهؤلاء الآيات تدل على قرب الله منا، وهذا ينافي العلو.
والجواب:
أولاً: إن القرب في القرآن يأتي على ضربين:
الأول: يذكر الله قربه بصيغة المفرد: كقوله تعالى: (فإني قريب) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون من هو أقرب إلى أحدكم ...). وهو في "الصحيحين".
والثاني: يذكر الله القرب بصيغة الجمع: كقوله تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم)، والمراد بالقرب هنا هو قرب الملائكة من المحتضر، كقول الملك: نحن فتحنا بلدة كذا، وإنما الذي فتحها جنوده.
وهذا كقوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) مع أن النصوص الأخرى تبين أن الذي يتوفى الأرواح هو ملك الموت كما قال تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت) و (توفته رسلنا).
وكذلك قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك) وإنما الذي تلاها عليه جبريل عليه السلام.
فالمراد من قوله تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) هم الملائكة.
ثانياً: القرب لا ينافي العلو مطلقاً، والقول في ذلك كالقول في "المعية" تماماً.
قال شيخ الإسلام في "الواسطية": (وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته، لا ينافي ما ذكر من علوه، وفوقيته فإنه سبحانه "ليس كمثله شيء" في جميع نعوته وهو علي في دنوه، قريب في علوه) أ.هـ
وقال شيخ الاسلام كما في "الفتاوى"(5/247): (ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان، إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى).
وقال كما في "مجموع الفتاوى" (5/128-129): (وأما القرب:فذكره تارة بصيغة المفرد: كقوله: "وإذا سألك عبادي عني فاني قريب" وفي الحديث: "أربعوا على أنفسكم" إلى أن قال: "إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
وتارة بصيغة الجمع: كقوله: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"....
ومن هذا الباب قوله تعالى: "الله يتوفى الأنفس" فإنه سبحانه يتوفاها برسله الذين مُقدمهم ملك الموت كما قال: "توفته رسلنا" "قل يتوفاكم ملك الموت" وكذلك ذوات الملائكة تقرب من المحتضر وقوله: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد".
فإنه سبحانه وتعالى هو وملائكته يعلمون ما توسوس به نفس العبد من حسنة وسيئة، والهم في النفس قبل العمل.
فقوله: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" هو قرب ذوات الملائكة وقرب علم الله، فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد، فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إلى بعضه من بعض، ولهذا قال في تمام الآية: "إذ يتلقى المتلقيان" فقوله:"إذ" ظرف، فأخبر أنهم أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان ما يقول، فهذا كله خبر عن الملائكة.
وقوله: "فإني قريب" "وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" هذا إنما جاء في "الدعاء" لم يذكر أنه قريب من العباد في كل حال، وإنما ذكر ذلك في بعض الأحوال، كما في الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" ونحو ذلك.
وقوله: "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن أتاني يمشى أتيته هرولة").




الشبهة الرابعة:
قولهم: إن إثبات العلو يعني أن الله في مكان، وجهة:




قالوا: إننا إذا أثبتنا لله العلو فمعناه أنا نثبت لله "المكان" لأنه سيكون في جهة العلو وهذه الجهة لاشك أنها مكان وأنها مخلوقة، فكيف يكون الرب تعالى في بعض مخلوقاته ؟!!
والجواب:
أولاً: نقول: إن "الجهة" و "المكان" في "باب العلو" مصطلحان لم يعرفهما السلف الصالح، ولذلك فإن الأولى عدم التكلم بهما إلا وقت الحاجة للرد على شبهات أهل الزيغ والانحراف، وبقيود وشروط.




1- المكان:




ثانياً: كلمة "المكان" تحتمل معنيين:
1- مكان وجودي: وهذا مخلوق خلقه الله، والله لا يحل في شيء من مخلوقاته، فالله منـزه عن المكان إذا كان بهذا المعنى.
2- مكان عدمي: وهذا يسمى مكاناً، ولكنه ليس بمخلوق.
وزيادة في التوضيح نقول: إن السموات فوق الأرض، والعرش فوق السماء السابعة، وفوق العرش مكان، وهذا المكان ليس مخلوقاً حتى يقال: إن الله قد حل في مخلوق.
قال الشيخ محمد خليل هراس في "شرح العقيدة الواسطية": (فماذا يعني هذا المخرف بالمكان الذي كان الله ولم يكن ؟! هل يعني به تلك الأمكنة الوجودية التي هي داخل محيط العالم ؟! فهذه أمكنة حادثة، ونحن لا نقول بوجود الله في شيء منها، إذ لا يحصره ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.
وأما إذا أراد بها المكان العدمي الذي هو خلاء محض لا وجود فيه، فهذا لا يقال: إنه لم يكن ثم خلق، إذ لا يتعلق به الخلق، فإنه أمر عدمي، فإذا قيل: إن الله في مكان بهذا المعنى، كما دلت عليه الآيات والأحاديث، فأي محذور في هذا ؟!) أ.هـ



2- "الجهة":




ثالثاً: كلمة "الجهة" فيها تفصيل:
1- قال شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى"(7/663-664): (وكذلك لفظ الجهة إن أراد بالجهة أمراً موجوداً يحيط بالخالق أو يفتقر إليه، فكل موجود سوى الله فهو مخلوق والله خالق كل شيء وكل ما سواه فهو فقير إليه وهو غني عما سواه، وإن كان مراده أن الله سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذا صحيح، سواء عبر عنه بلفظ الجهة أو بغير لفظ الجهة).
وقد قال شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى"(6/39):
(فإذا قال القائل: هو في جهة أو ليس في جهة ؟ قيل له: الجهة أمر موجود أو معدوم، فإن كان أمراً موجوداً ولا موجود إلا الخالق والمخلوق والخالق بائن عن المخلوق، لم يكن الرب في جهة موجودة مخلوقة، وإن كانت الجهة أمراً معدوماً بأن يسمى ما وراء العالم جهة، فإذا كان الخالق مبايناً العالم، وكان ما وراء العالم جهة مسماة، وليس هو شيئاً موجوداً كان الله في جهة معدومة بهذا الاعتبار، لكن لا فرق بين قول القائل: هو في معدوم، وقوله: ليس في شيء غيره، فإن المعدوم ليس شيئاً باتفاق العقلاء).
2- وقال ابن القيم في "الصواعق المرسلة":
(وكذلك قولهم ننـزهه عن "الجهة" إن أردتم أنه منـزه عن "جهة" وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف للمظروف وحصره له، فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى، ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى.
وإن أردتم بالجهة أمراً يوجب مباينة الخالق للمخلوق وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه فنفيكم لهذا المعنى باطل، وتسميتكم له "جهة" اصطلاح منكم، توسلتم به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل والفطرة، فسميتم ما فوق العالم جهة وقلتم منـزه عن الجهات وسميتم العرش حيزاً وقلتم الرب ليس بمتحيز).




قاعدة عامة في مثل هذه الألفاظ:




والقاعدة العامة في مثل هذه الألفاظ أن يقال: (الألفاظ المجملة التي تدل على وصف لله تعالى، ولم يدل عليها السمع فلا يوصف الله بها، وأما معناها فيستفصل قائلها منها: فإن كان المعنى حقاً، فهو حق، وإن لم يكن حقاً نفيناه عنه سبحانه وتعالى، وذلك مثل "الجسم" و "المكان" و "الجهة" و "الحد" وغير ذلك).
وهذه القاعدة ذكرها شيخ الاسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"(7/663-664)، وتلميذه العلامة ابن القيم، وعلى هذا سار من تأثر بكتبهما مثل ابن أبي العز "شارح الطحاوية".



الشبهة الخامسة:

استدلالهم بحديث: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه، فلا يبصق قبل وجهه".



والجواب:
قال شيخ الاسلام (5/107): (الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر، لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه).
وقال الشيخ ابن عثيمين في "القول المفيد على كتاب التوحيد":
(ولا يلزم من المقابلة أن يكون بينه وبين الجدار أو السترة التي يصلي إليها، فهو قبل وجهه وإن كان على عرشه، ومثال ذلك: الشمس حين تكون في الأفق عند الشروق أو الغروب، فإن من الممكن أن تكون قبل وجهك وهي في العلو).




الفصل الثالث: العلو الخاص وهو الاستواء على العرش:

المبحث الأول: معنى الاستواء:




(و) نحن نؤمن بهذه الصفة كما أخبر الله تعالى عن نفسه (بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر).
والاستواء في اللغة: العلو والصعود والارتفاع.
قال ابن عبد البر في "التمهيد"(6/125): (والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة: في قوله تعالى: "استوى" قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت).
قال أبو عمر ابن عبد البر: (الاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل، وقال: "لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه" وقال: "واستوت على الجودي" وقال: "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك". قال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفـــرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى.
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى، لأن النجم لا يستولي) أ.هـ
مع بيان الفارق بين استواء الخالق والمخلوق.
قال شيخ الاسلام (5/199): (ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين، فإن الله لا يفتقر إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء، بل هو الغني عن كل شيء، والله تعالى يحمل العرش وحملته بقدرته ويمسك السموات والأرض أن تزولا).




المبحث الثاني: هل يأتي الاستواء بمعنى الاستقرار ؟




ذكر جماعة من العلماء الاستقرار على أنه أحد معاني الاستواء، منهم ابن عبد البر كما تقدم وشيخ الاسلام والعلامة ابن القيم في "النونية" وغيرهما.
وذكر الذهبي في العلو (ص280/مختصره) وبعض المتأخرين كالعلامة الألباني في مقدمة "مختصر العلو"(ص40) وبكر أبو زيد في "معجم المناهي" (ص91) أنه لا يحمل نفس المعنى.
ويمكن أن يقال: إذا ثبت أن الاستقرار من المعاني اللغوية للاستواء، فهو استقرار ليس كاستقرار المخلوق، فالمسألة راجعة إلى البحث اللغوي، مع مراعاة ما قاله ابن عبد البر: "الاستواء الاستقرار في العلو".
قال شيخ الاسلام كما في "المجموع"(5/404): (مع قوله: "الرحمن على العرش استوى" أي: استقر، قال الله تعالى: "فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك" أي: استقررت).
وقال كما في "مجموع الفتاوى"(5/519):
(وقال عبد الله بن المبارك ومن تابعه من أهل العلم - وهم كثير -: "إن معنى استوى على العرش استقر").
قال الفوزان في "شرح الواسطية"(ص76): (والاستواء له في لغة العرب أربعة معان هي: علا، وارتفع، وصعد، واستقر، وهذه المعاني الأربعة تدور عليها تفاسير السلف للاستواء الوارد في هذه الآيات الكريمة).




المبحث الثاني: الفروق بين العلو العام والعلو الخاص:




واستواؤه سبحانه على العرش: هو علوه عليه بذاته علواً خاصاً وهو غير العلو العام الذي تقدم ذكره، فذاك نوع وهذا نوع آخر، ويمكن حصر الفروق بما يلي:
الأول: العلو العام دلت عليه خمسة أدلة إجمالية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، والعقل، والعلو الخاص دلت عليه ثلاثة أدلة فقط، وهي: الكتاب والسنة والإجماع.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(5/227): (والاستواء مختص بالعرش بعد خلق السموات والأرض كما أخبر بذلك في كتابه، فدل على أنه تارة كان مستوياً عليه وتارة لم يكن مستوياً عليه، ولهذا كان العلو من الصفات المعلومة بالسمع مع العقل عند أئمة المثبتة، وأما الاستواء على العرش فمن الصفات المعلومة بالسمع لا بالعقل) أ.هـ
وقال (5/523): (ولهذا كان الإستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر وأما علوه على المخلوقات فهو عند أئمة أهل الإثبات من الصفات العقلية المعلومة بالعقل مع السمع).
والمقصود بالسمع: أدلة الشرع.
الثاني: أن العلو العام صفة ذاتية، والعلو الخاص صفة فعلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (5/523): (فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له كما أن عظمته وكبرياءه وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته ولهذا قال فيه "ثم استوى") أ.هـ
وقد ذكر شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى" (16/395) أن الإستواء للناس فيه قولان: هل هو من صفات الفعل أو الذات ؟ على قولين: ثم قال في (16/397-398):
(وأما الذين قالوا الإستواء صفة فعل فهؤلاء لهم قولان هنا على ما تقدم: هل هو فعل بائن عنه لأن الفعل بمعنى المفعول، أم فعل قائم به يحصل بمشيئته و قدرته ؟
الأول: قول ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري وغيره وهو قول القاضي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم
والثاني: قول أئمة أهل الحديث والسنة وكثير من طوائف الكلام).
واستواء الله يليق بجلاله وعظمته ليس كاستواء المخلوق، فإنه لا يعلم كيفيته إلا هو.
فنحن نؤمن بحقيقة الاستواء - وهو العلو والارتفاع -، ونفوض كيفيته.
قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم والكيف مجهول).




المبحث الثالث: أدلة الاستواء:




وقد دل على صفة الاستواء عدة أدلة من الكتاب والسنة والإجماع، بل دلت عليه الكتب السماوية السابقة، وقد قال شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى"(2/188): (مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل).
أما القرآن: فقد قال الله: (الرحمن على العرش استوى)، وقد ذكر الله الاستواء في عدة مواضع من كتابه الكريم، في سورة (الأعراف) وسورة (يونس) وسورة (الرعد) وسورة (الفرقان) وسورة (السجدة) وسورة (طه) وسورة (الحديد).
وأما السنة:فقد ذكر شيخ الاسلام أنها متواترة:
قال كما في "مجموع الفتاوى"(5/164): (إن القرآن والسنن المستفيضة المتواترة، وغير المتواترة، وكلام السابقين والتابعين وسائر القرون الثلاثة، مملوء بما فيه إثبات العلو لله تعالى على عرشه بأنواع من الدلالات ووجوه من الصفات وأصناف من العبارات).
وقال كما في "الفتاوى"(5/15): (إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علماً يقيناً من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء).
وأما الإجماع: فقد نقله غير واحد:
1- منهم إسحاق بن راهويه: قال الذهبي في "العلو" (1/179): (قال أبو بكر الخلال: أنبأنا المروذي حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري حدثنا أبو داود الخفاف سليمان بن داود قال: قال إسحاق بن راهويه: قال الله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة.
قال الذهبي: اسمع ويحك إلى هذا الإمام كيف نقل الإجماع على هذه المسألة كما نقله في زمانه قتيبة المذكور) أ.هـ وقد نقل ابن القيم في "اجتماع الجيوش" كلام إسحاق.
2- أبو عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البر الأندلسي في "التمهيد" (6/124) في شرح حديث النـزول: (هذا حديث صحيح لم يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل أن الله تعالى في السماء على العرش فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة، وهذا أشهر عند العامة والخاصة وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم).
3- أبو عمر الطِلْمَنكي حيث قال: "وأجمعوا – يعني: أهل السنة والجماعة - على أن لله عرشاً، وعلى أنه مستو على عرشه، وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه".
4- وقال الصابوني في "عقيدة السلف": (وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته).
5- وممن نقل الإجماع أبو نعيم الأصبهاني صاحب "الحلية" والصوفية يرونه من المتصوفة، فهو عندنا حجة عليهم !! فقد نقل الذهبي في "العلو" عنه أنه قال: (طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة) إلى أن قال: (وأن الأحاديث التي ثبتت في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل، وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه).
6- شيخ الإسلام حيث قال كما في "مجموع الفتاوى"(2/188): (أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل) أ.هـ
7- ونقل الإجماع ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية".



المبحث الرابع: استغناء الله عن العرش وغيره:




واستواؤه سبحانه على العرش لا يعني حاجته إليه، فعلوه يختلف عن علو المخلوق، فالمخلوق إذا ارتفع على شيء احتاج إليه وإلا سقط، وأما الخالق تبارك وتعالى فهو مع علوه على الشيء إلا أن ما تحته يحتاج إليه كما قال تعالى: "إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده" فالسماء والأرض محتاجتان للرب تبارك وتعالى.
قال الطحاوي في "عقيدته": (وهو مستغن عن العرش وما دونه).
ويدخل في قوله: "وما دونه" أمران:
1- ما دونه في المكان، فيدخل فيه جميع المخلوقات السفلية، لأن العرش أعلى المخلوقات.
2- ما دونه في الحجم، فتدخل فيه كل المخلوقات التي هي أصغر منه، لأن العرش أكبر المخلوقات.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما "مجموع الفتاوى"(2/188): (وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله [أي: تحمله] أو تظله، لما في ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فانه كافر، لأن "الله غني عن العالمين"، "حي قيوم" هو الغني المطلق، وما سواه فقير إليه) أ.هـ



المبحث الخامس: العــرش:




والعرش لغة: هو سرير الملك، وهو ليس كمثل أَسِرَّةِ الملوك في الدنيا، لأنه تعالى "ليس كمثله شيء" في ذاته، فكذلك ليس كمثله شيء فيما اختص به سبحانه، والعرش: أعلى الخلائق، وأما الأحاديث التي فيها (ظل العرش) وغير ذلك مما يوهم أن الشمس فوق العرش، فالمراد ظل يخلقه الله للعرش، وليس المراد أن الشمس فوق العرش.
وقد أول الجهمية العرش بأنه "الملك"، فقالوا: يقال: "سُلّ عرش بني فلان" أي: ملكهم، وقال آخرون: هو جميع الخلائق، أي: استوى على جميع الخلائق، وهم يريدون بذلك تأويل الاستواء.
والجواب: العرش هنا عرش حقيقي لعدة أدلة، منها:
1- أنه محمول في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فقد اختلفوا في عدد الملائكة على أقوال، وأما في الآخرة فكما قال تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية)، فدل على أنه شيء حقيقي محمول.
2- قال صلى الله عليه وسلم: (لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بإحدى قوائم العرش [وفي رواية: بساق العرش] [وفي رواية: بجانب العرش]، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله) متفق عليه، وهذا يدل على أن العرش هنا عرش حقيقي، لأن الملك شيء معنوي ليس له قوائم.
3- وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وفوقها عرش الرحمن) رواه البخاري، وليس المقصود: فوقها ملك الرحمن، فإن ملك الرحمن أوسع من ذلك.
4- قوله صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) متفق عليه وهو متواتر، وليس المراد اهتز ملك الرحمن لموت سعد.
5- والعرش له ظل، ففي الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله).
وقال الذهبي في "العلو": (والقرآن مشحون بذكر العرش وكذلك الآثار، بما يمتنع أن يكون مع ذلك أن يكون المراد بذلك الملك، فدع المكابرة والمراء، فإن المراء في القرآن كفر، ما أنا قلته، بل قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم).
قال الخطابي في "شأن الدعاء"(160): (والعرش: خلق عظيم لله عز وجل، لا يعلم قدر عظمه ورزانة ثقله، أحد غير الله سبحانه وهو مخلوق، ومحدود، ألا تراه يقول: (وترى الملائكة حافين من حول العرش) وهو محمول على كواهل الملائكة، والله سبحانه حامل حملته، لا حاجة به إلى العرش، وليس بمكان له، ولا متمكن فيه، ولا معتمد عليه، لأن هذا كله من صفات الحدث، لكنه بائن منه ومن جميع خلقه).




الفصل الرابع: شبه المبتدعة في إنكار أو تأويل "الاستواء" والرد عليها:

الشبهة الأولى: قولهم: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء:




واستدلوا بقول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق.
أي: استولى على العراق.
والرد على هذا من أوجه:
1- أن قائل هذا هو الأخطل النصراني وهو نصراني كما في ترجمته في "الشعر والشعراء"(ص189) لابن قتيبة و"البداية والنهاية" لابن كثير، فكيف يحتج بكلام نصراني في أبواب "العقيدة"، فنحن لا نأمن أن يكون قد دس هذا الأمر ليفسد على المسلمين عقائدهم، فهو من المناوئين للإسلام وأهله، وهو القائل:



ولست بصائم رمضان طوعاً** ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيسا بكـور** إلى بطحــاء مكة للنجاح
ولســت بزائر بيتاً بعيـداً**بمــكة أبتغي فيه صلاحي
ولسـت بقائم كالعير أدعو**قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشـربها شـمولاً**وأسجـد عند منبلج الصباح



2- أن هذا شيء عجيب من أهل البدع، إذ كيف يتركون الكتاب والسنة وما عرف من لغة العرب، ثم يذهبون إلى قول شاعر، والأسوأ من ذلك أنه نصراني غير مأمون، ولا هو حجة في شعره ولغته.
3- أن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف الصالح من أهل القرون المفضلة، فهؤلاء المبتدعة ليس لهم سلف صدق في هذه المسألة الكبيرة.
4- أن معنى الاستواء معلوم عند السلف، لم يكن بينهم نزاع في ذلك، وأحسن ما يستدل به على ذلك قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم والكيف مجهول".
5- إذا كان الاستيلاء بمعنى السيطرة عندكم فهذا ليس خاصاً بالعرش، بل يشمل العرش وغيره.
6- الاستيلاء يتضمن معنى "المغالبة" أي: كان هناك من يملك العرش قبل ذلك فأخذه الله منه، تعالى الله عن هذا.
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/125): (ومعنى الاستيلاء: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد).
7- وهذا فيه نسبة العجز لله سبحانه وتعالى، إذ لا يؤخذ عليه العرش إلا وهو عاجز، تعالى الله عن ذلك.
8- أنه لا يحتج بلغته، فهو ليس من الشعراء المحتج بلغتهم.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (9/8): (والجهمية تستدل على الاستواء على العرش بأنه الاستيلاء ببيت الأخطل:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق.
وليس فيه دليل، فإن هذا استدلال باطل من وجوه كثيرة، وكان الأخطل نصرانياً).
وقال رحمه الله في "البداية والنهاية"(9/282): (وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعني الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علواً كبيراً).





الشبهة الثانية:
الاستواء على العرش يعني: أن الله جسم:



والرد على ذلك من أوجه:
الأول: ما قاله شيخ الاسلام كما في "الفتاوى"(5/214): (لا يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون [الله] جسداً ...، فإنا نعلم بالضرورة أن الهواء يعلو على الأرض وليس هو بجسد).
الثاني: ما قاله رحمه الله كما في "الفتاوى"(5/224): (يقال: دلالة الكتاب والسنة على إثبات صفات الكمال، وأنه نفسه فوق العرش أعظم من أن تحصر ...
فإن كان إثبات هذا يستلزم أن يكون الله جسماً وجسداً، لم يمكن دفع موجب هذه النصوص ..) أ.هـ أي: إذا كان إثبات العلو وغيره من صفات الكمال يستلزم إثبات أن الله جسم، فلا نمنع من إثبات ذلك، على أن شيخ الاسلام يرى أن كلمة "جسم" تأتي على أحد معنيين:
الأول: ما يحمل معنى الجسد، وما فيه من الدم واللحم والعصب، ومثل هذا المعنى ينـزه الله منه.
الثاني: الشيء الذي يشار إليه، وهذا المعنى حق.




الشبهة الثالثة:
الاستواء على العرش أمر حادث، فإذا سلمنا به، فمعناه أن الله قد قامت به الحوادث:




والرد على ذلك ما قاله شيخ الاسلام كما في "الفتاوى" (5/216): (فإنه يقال له: "الحادث في اللغة: ما كان بعد أن لم يكن" والله تعالى يفعل ما يشاء، فما من فعل يفعله إلا وقد حدث بعد أن لم يكن).




الفصل الرابع: في صفة المعية للّه تعالى:

المبحث الأول: مقدمة في المعـية:




طريقة العلماء هي الكلام على مسألة العلو ثم مسألة المعية فإذا ذكروا صفة "العلو" أتبعوها بصفة "المعية" حتى لا يتبادر إلى الذهن أن علوه سبحانه ينافي معيته، أو يستلزم غيبته عن الخلائق، بل هو علي على العباد، وفي الوقت نفسه محيط بهم، كما قال تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين).
وممن سلك هذا المسلك الطحاوي في "عقيدته" حيث قال: "محيط بكل شيء وفوقه"، وكذلك شيخ الاسلام في "الواسطية"، والعلامة ابن عثيمين وغيرهم، فرحمهم الله جميعاً ورفع درجتهم.




المبحث الثاني: أقسـام المعـية:




تأتي "مع" في "لغة العرب" ويكون لها معنى على حسب السياق.
قال شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى" (5/103): (ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد ....).
وقال رحمه الله (5/104): (فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضى في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضع بخاصية فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز و جل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها) أ.هـ
وعلى هذا فالمعية نوعان:



أ- معية عامة:



وهذه تعم جميع الخلائق، وهذه المعية تقتضي إحاطته بجميع الخلق، وهي بمعنى "العلم والإحاطة" كما في قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم).
ونحن نؤمن بهذه المعية، أي: بأنه تعالى مع خلقه، وهو على عرشه وهذه المعية تعني لنا أنه تعالى يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويدبر أمورهم بأن يرزق الفقير، ويجبر الكسير، يؤتي الملك من يشاء من الناس،
وينـزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وقد ذهب بعض أفاضل العلماء المعاصرين إلى أن معية الله لا تقتضي العلم فقط، بل تقتضي ما هو أوسع من ذلك كتدبير الخلائق والإحاطة بهم من كل جهة، والقدرة عليهم، وقد سبقه إلى ذلك ابن كثير في "تفسيره" عند آية المجادلة، وهذا رأي وجيه، ولكن السلف يخصون المعية بالعلم فقط كما هو معلوم عنهم، بل نقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر حيث قال: (وقال أبو عمر أيضاً: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في تأويل قوله: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله)، وقد نقله عنه شيخ الاسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (5/193).
وتخصيص "المعية" بالعلم لا يستلزم نفي سائر معاني الربوبية، بل هذه المعية مشتملة على جميع معاني الربوبية، وقد قال شيخ الاسلام في "الحموية" كما في "مجموع الفتاوى"(5/102): (ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: "يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها" إلى قوله: "وهو معكم أينما كنتم" دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف إنه معهم بعلمه).



ب- معية خاصة:




وهذه المعية هي معيته لأشخاص دون غيرهم، فهي خاصة بأنبياء الله وأولياءه، وهي تقتضي "النصر والتأييد" مع سعة اطلاعه وإحاطته، وهي على قسمين:
الأول: معية لوصف:كقوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)، وقوله: (إن الله مع الصابرين).
الثاني: معية لشخص: كما في قوله تعالى لموسى وهارون: (إنني معكما أسمع وأرى) وقوله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).




المبحث الثالث: الفرق بين المعيتين:




والفرق بين المعيتين هو أن المعية العامة صفة ذاتية لا تنفك عن الرب تعالى، وأما المعية الخاصة فهي من الصفات الفعلية التي يتصف بها متى شاء، فيكون بهذه المعية مؤيداً ونصيراً لعباده المؤمنين، ولا شك أنها تختلف من مؤمن إلى آخر، لأن سببها هو الإيمان وهو يتفاوت من شخص إلى شخص آخر، والمعية على المعنيين لا تستلزم شيئاً من المخالطة والامتزاج، وقد تقدم توضيح هذه المسألة.




المبحث الرابع:
أقسام الناس في الجمع بين "الاستواء" و "المعية":




قال شيخ الاسلام كما في "الفتاوى"(5/227-231): (وقد افترق الناس في هذا المقام أربع فرق:
"فالجهمية": النفاة الذين يقولون: ليس داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته ...
وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص، كالخوارج والشيعة والقدرية والرافضة والمرجئة وغيرهم، إلا الجهمية فإنهم ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي.
و"قسم ثان" يقولون: إنه بذاته في كل مكان كما يقوله النجارية، وكثير من الجهمية عبادهم وصوفيتهم وعوامهم، يقولون: أنه عين وجود المخلوقات، كما يقوله أهل الوحدة القائلون: بأن الوجود واحد، ... وهم يحتجون بنصوص "المعية" و"القرب" ويتأولون نصوص العلو والاستواء، وكل نص يحتجون به حجة عليهم، فإن المعية أكثرها خاصة بأنبيائه وأوليائه وعندهم أنه في كل مكان.
و"القسم الثالث": من يقول: هو فوق العرش وهو في كل مكان، ويقول: أنا أقر بهذه النصوص وهذه، لا أصرف واحداً منها عن ظاهره، وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في "المقالات الإسلامية" وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية.
وأما "القسم الرابع": فهم سلف الأمة وأئمتها أئمة العلم والدين، من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم اثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة كله، من غير تحريف للكلم، أثبتوا أن الله تعالى فوق سمواته، وأنه على عرشه بائن من خلقه، وهم منه بائنون وهو أيضاً مع العباد عموماً بعلمه ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية) أ.هـ مختصراً.




المبحث الخامس:
حكم من زعم أن الله معنا بذاته كما تقول الحلولية:




ونحن أهل السنة لا نقول كما تقول الحلولية من الجهمية وغيرهم إنه مع خلقه بذاته في الأرض وسبب قولهم ذلك هو فهمهم الرديء لنصوص المعية، بل نرى أن من قال ذلك فهو كافر إن بلغته الحجة، وأبى قبولها لأنه وصف الله بما لا يليق به من النقائص.
وهذا التفصيل إنما هو في القائل، أما القول فهو كفر على الإطلاق، وإنما قلنا هذا لأسباب:
1- لأن التكفير لا يكون إلا بعد إقامة الحجة، فينظر في توفر الشروط وانتفاء الموانع.
2- هناك فرق في "مسائل التكفير" بين الفعل والفاعل.
وهناك قواعد أخرى، ليس هذا موضعها.



كتبه: أبو عمار علي الحذيفي.

عدن - اليمن.
ربيع الأول /1431 هـ

اضغط هنا لتحميل الملف على صيغة وورد (http://www.noor-alyaqeen.com/up/uploads/files/domain-629671d08c.doc)

ابن القدس
03-23-2010, 02:07 PM
بارك الله فيك موضوع مفيد جدا

ابوعبدالرحمن السلفي
03-24-2010, 08:06 AM
الله يجزاك كل خير