المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تأصيل في دلالة الألفاظ على أسماء الله وصفاته بين السلف والخلف ..



مالك مناع
03-21-2010, 11:37 PM
فهذه من المسائل الهامة التي زاغت بسببها كثير من الفرق عن منهج الحق في تقرير أسماء الله وصفاته ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وأمر عباده بتدبره، وتعقله، كما قال تعالى: " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب" [ص:29]. وقال: " إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون " [يوسف:2]. ومحال أن يدع الله تعالى أعظم أبواب الدين، وأشرف أنواع العلوم، وهو العلم بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، محلاً للاحتمالات، ونهباً للتخرصات، ومحال أن يهمل نبيه صلى الله عليه وسلم تعليم أمته أعظم ما بعثه الله به من التعريف بالله، وبيان ما نزل إليه من ربه. فما وجدنا حديثاً واحداً يأمرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصرف فيه معاني نصوص الصفات عن ظاهرها إلى شيء من المعاني المجازية المدعاة.

ومعلوم أن الكلام:

1- لفظ يعبر عنه.
2- ولهذا اللفظ معنى يدل عليه ذلك اللفظ.
3- ولهذا المعنى كيفية هي عليه في الواقع.

فأما الأول (اللفظ)، فمحل إجماع بين المسلمين، فالقرآن محفوظ، منقول بالتواتر، لا زيادة فيه ولا نقصان، إلا ما تدعيه بعض فرق الشيعة من تحريف القرآن ونقصه، وذلك من موجبات الكفر، ومخالفة المعلوم من الدين بالضرورة.

أ. فقال بعضهم: المعاني التي دلت عليها ألفاظ الصفات، هي المعهودة في الأذهان، المدركة بالحواس، فله سمع كسمعنا، وبصر كبصرنا، ووجه كوجهنا، واستواء كاستوائنا، إلخ. وهؤلاء هم المشبهة، أهل التمثيل. وطريقتهم باطلة بالعقل والنقل، كما لا يخفى.

ب. وقال بعضهم: ليس لهذه الألفاظ معانٍ مدركة، ولا سبيل للعلم بالمعنى مطلقاً، ولا يجوز أن نستحدث معنى مجازياً من تلقاء أنفسنا، بلا أثارة من علم، فنكتفي بقراءة القرآن تعبداً بتلاوة الألفاظ، دون إثبات معنى! وهؤلاء هم أهل التفويض، الذين يظن بعض الناس أن طريقتهم هي طريقة السلف المتقدمين؛ من الصحابة والتابعين.

جـ. وقال بعضهم: لا يمكن أن يتصف الله بالصفات الثبوتية، لأن إثبات الصفات يستلزم التشبيه. فينكرون وجود معنى بالكلية، ويفسرون ما أثبت لنفسه من الصفات بنفي أضدادها فقط؛ فيقولون: المراد بصفة العلم: نفي الجهل، وصفة القدرة: نفي العجز، ولا يثبتون الرب إلا وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق، دون إضافة صفة إليه. وهؤلاء هم الجهمية، والمعتزلة.

د. وقال بعضهم: لابد من إثبات معانٍ للألفاظ، ولا يمكن أن يُترك الناس يقرؤون ما لا معنى له، ولكن المعنى المتبادر إلى الذهن يوهم التشبيه، فعلينا أن نعمل عقولنا في استخراج معانٍ مجازية، خلاف المعاني الحقيقية، لنحمل عليها كلام الله، وإن كنا لا نقطع يقيناً بأن ذلك هو مراد الله، فنقول: المراد بالوجه: الثواب، والمراد بالمجيء: مجيء أمره، والمراد باليد: النعمة، أو القدرة. وهؤلاء هم أهل التأويل، الذين سلك السائل طريقتهم، ومنهم فرق الصفاتية؛ كالكلابية، والأشاعرة، والماتريدية.

هـ. أما طريقة السلف، أهل القرون المفضلة، فإنها إثبات المعنى اللائق بالله الذي دل عليه اللفظ. وبيان ذلك أن المعنى قضية ذهنية مشتركة، فإذا أضيفت تخصصت.

فـ (السمع) مثلاً يعني: إدراك الأصوات، وهذا معنى مشترك، تتفاوت فيه المخلوقات، فما بين الخالق والمخلوق من باب أولى، ولهذا قالت عائشة، رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، فكان يخفى علي كلامها، فأنزل الله عز وجل: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما" رواه البخاري، والنسائي، وابن ماجه..

فثم معنى مشترك في الأذهان لكل لفظ، فإذا أضيف ذلك اللفظ إلى مخلوق صار المعنى لائقا به، وإذا أضيف إلى الخالق الذي ليس كمثله شيء صار لائقاً به. وهذا هو (المثل الأعلى) الذي أراده الله بقوله: "ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم" [النحل:60]. وقوله: "وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم" [الروم:27]. أما (الكيفية) فإن السلف يفوضون علمها إلى الله، فالله في نفوسهم أعظم وأجل أن تدرك كنهه العقول، أو تحيط به الأوهام، سبحانه وبحمده.

يتبع ..

مالك مناع
03-21-2010, 11:43 PM
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الماتع -بدائع الفوائد- ص292-290 :

الرابع عشر: أن الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات:

- اعتبار من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالرَّب تبارك وتعالى أو العبد.

- الاعتبار الثاني: اعتباره مضافاً إلى الرب مختصاً به.

- الثالث: اعتباره مضافاً إلى العبد مُقَيداً به، فما لزم الاسم لذاته وحقيقته كان ثابتا للرب والعبد وللَّرب منه ما يليق بكماله وللعبد منه ما يليق به.

وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات والبصير الذي يلزمه رؤية المبصرات والعليم والقدير وسائر الأسماء فإن شرط صحة إطلاقها حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها، فما لزم هذه الأسماء لذاتها فإثباته للرب تعالى لا محذور فيه بوجه، بل ثبتت له على وجه لا يماثل فيه خلقَه ولا يشابههم. فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق أَلحد في أسمائه وجحد صفات كماله، ومن أثبته له على وجه يماثل فيه خلقه، فقد شبهه بخلقه ومن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أثبته له على وجه لا يماثل فيه خلقه بل كما يليق بجلاله وعظمته، فقد بريء من فرث التشبيه ودم التعطيل وهذا طريق أهل السنة.

وما لزم الصفة لإضافتها إلى العبد وجب نفيه عن الله كما يلزم حياة العبد من النوم والسنة والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك، وكذلك ما يلزم إرادته من حركة نفسه في جلب ما ينتفع به ودفع ما يتضرر به وكذلك ما يلزم علوه من احتياجه إلى ما هو عال عليه وكونه محمولا به مفتقرا إليه محاطا به، كل هذا يجب نفيه عن القدوس السلام تبارك وتعالى.

وما لزم صفة من جهة اختصاصه تعالى بها فإنه لا يثبت للمخلوق بوجه كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب والإحاطة بكل معلوم وقدرته وإرادته وسائر صفاته فإن ما يختص به منها لا يمكن إثباته للمخلوق فإذا أحطت بهذه القاعدة خبرا وعقلتها كما ينبغي خلصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين: آفة التعطيل وآفة التشبيه فإنك إذا وفيت هذا المقام حقه من التصور أثبت لله الأسماء الحسنى والصفات العلى حقيقة فخلصت من التعطيل ونفيت عنها خصائص المخلوقين ومشابهتهم فخلصت من التشبيه فتدبر هذا الموضع واجعله جُنَّتك التي ترجع إليها في هذا الباب والله الموفق للصواب.


يتبع ..

مالك مناع
03-21-2010, 11:51 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ في تعليقه على كلام شيخ الإسلام في الحموية: (إنما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم حق لا مرية فيه، يُفهم من حيث مقصود المتكلم بكلامه):

هذه الكلمة دقيقة؛ وذلك أن مقصود المتكلم بكلامه: تارة يكون من جهة أفراد الكلام، وتارة يكون من جهة التركيب.

مثلا يقول هذا كتابي، تفهم معنى الكتاب هو الذي في ذهنك منه، يقول مررت بفلان، تفهم معنى المرور حيث هو كلمة وفلان تتصوره، هذا استعمال للألفاظ وفهم المعنى العام مبني على فهم هذه الألفاظ، هذا يسمى المعنى الإفرادي للكلام؛ يعني يفهم الكلام بفهم أفراده، هذا نوع.

والثاني وهو مهم في هذا الباب أن المتكلم يُفهم كلامه بتركيب الكلام بسياق الكلام، وهذا هو الذي يسمى عند الأصوليين بالدلالة الحملية للكلام، هذا في غاية الأهمية للناظر في هذا الباب باب الأسماء والصفات؛ لأن من ادعوا التأويل وأن السلف أوّلوا في باب الأسماء والصفات احتجوا ببعض كلامهم في هذا الأمر، وهم إنما أرادوا دلالة التركيب ومعلوم أن الكلام إذا دل بتركيبه فإنه لا يكون نفيا بما دلت عليه أفراده.

مثال ذلك: قول الله جل وعلا ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾[الفرقان:45]، الظاهر الإفرادي للكلام (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) أن الرؤية تكون لله؛ يعني يرى اللهَ جل وعلا يرى الرب جل وعلا (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ)؛ لكن لما قال (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) علمنا بدلالة التركيب وهو ما يُفهم به مقصود المتكلم من كلامه أنه أراد قدرة الله جل وعلا ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾[الفرقان:45].

كذلك قوله جل وعلا ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾[النحل:26]، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) هل هذه من آيات الصفات فيها الإتيان؟ لا، ولم يحملها السلف على ذلك، وليست من آيات صفة الإتيان؛ لأن المقصود بالإتيان إذا أثبتت الصفة إتيان الذات وليس إتيان الصفات، هنا (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) نقول ليس هذا دليلا على صفة الإتيان لأن التركيب تركيب الكلام يدل على أن المراد إثبات الصفة بقوله (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) ومعلوم أن المتقرر في أنه جل وعلا ليس كمثله شيء أن الله جل وعلا لا يأتي بذاته للبنيان من قواعده، فهو جل وعلا أجلُّ من ذلك ومستوٍ على عرشه سبحانه، وإنما المقصود إتيان صفاته اللائقة في هذا الموضع وهي قدرته وبسطه وقوته وعقابه ونكاله بالكافرين لذلك قال: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).

أيضا من أمثلته –نطيل فيها لأجل أهمية ذلك- قوله جل وعلا في سورة البقرة: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾[البقرة:115]، هنا فسر السلف الوجه بالقبلة؛ لأن الوجه من حيث اللفظ يطلق على الجهة ويطلق على الصفة، وجه بمعنى وِجهة، والوجه وجه الله بمعنى الصفة التي هي الوجه المعروفة، هنا ما حُمل على الصفة مع أنها إضافة وجه الله، إضافة صفة إلى متصف، وذلك لدلالة السياق لدلالة التركيب، وهذا ظاهر لقوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) لسياق الآيات في القبلة (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يعني القبلة؛ ولهذا خرجت هذه الآية من أن تكون من آيات الصفات.

كذلك قوله جل وعلا ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾[القلم:42]، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) هذه هي الآية الوحيدة التي اختلف فيها السلف هل هي من آيات الصفات أم ليست من آيات الصفات؟ وبعضهم قال من آيات الصفات وبعضهم فسرها بما يخرجها عن كونها من آيات الصفات، لم؟ لتنازع هذا الموضع بين أن يُقصد الفرد فتكون من آيات الصفات، أو أن يكون المقصود التركيب فتكون من غير آيات الصفات، يعني هل يفهم الكلام بفهم كلمة (سَاقٍ)، أو نفهمه مع سباقه ولحاقه فمن فهمه مع سباقه ولحاقه، العرب تقول كشفت الحرب عن ساقٍ إذا كشفت عن هول وشدة، وهذا استعمال تركيبي تستعمله العرب للدلالة على الهول والشدة، فلهذا قال ابن عباس وغيره (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني عن هول وشدة.
وآخرون كأبي سعيد وغيره: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني عن ساق الرحمن جل وعلا فيما جاء في الحديث في الدلالة على ذلك.

المقصود هذا البحث مهم وطويل فروعه، تضبطه بأن ظاهر الكلام قد يكون من جهة اللفظ، وقد يكون من جهة التركيب؛ لأن الذي يفهم به مقصود المتكلم من جهة ظاهر كلامه، لأننا لا نعلم بواطن الكلام، لكننا نعلم ظاهر الكلام، هذا مقصود المتكلم نفهمه من جهة ظاهر الكلام، وهذا الظاهر قد يكون من جهة الأفراد، وقد يكون من جهة التركيب، ولهذا ينقسم الظاهر إلى ظاهر إفرادي وتركيبي.

هذا البحث أطال عليه شيخ الإسلام في مواضع كثيرة من كتبه، وهو معروف من جهة أصول الفقه في الركن الثالث من علم الأصول وهو دلالة الألفاظ أو الاستدلال. وقال عن قول السلف: في الصفات تجرى على ظاهرها: أنك لم تحتج إلى التأويل فتفهم المعنى على الظاهر. فإذن تعريف التأويل يكون النزاع أدق فيه مع من يقول: هذا اللفظ ظاهره غير مراد، وإنما المراد كذا وكذا من الاحتمال المرجوح لقرينة كذا وكذا.

وجوابه فيما يورد من آيات الصفات أن الظاهر هو الذي ينبغي أن يفهم الكلام عليه؛ ظاهر اللفظ أو ظاهر الكلام؛ لأن السلف قالوا أمروها كما جاءت، وقال بعضهم تجرى على ظاهرها، وإجراؤها على ظاهرها ليس راجعا إلى لفظ، وإنما يرجع إلى اللفظ والتركيب جميعا، فإجراء الكلام على ظاهره يعني ما تفهمه من الكلام على ظاهره، والكلام هذا قد يكون كلمة وقد يكون جملة، فإذا قلنا بهذا فلا احتياج إلى إدخال التأويل في نصوص الغيبيات أصلا، وذلك لسببين:
الأول: أنَّ نصوص الغيبيات لا يُعلم فيها المعنى والكيفية جميعا حتى نقول إنَّ الاحتمال الراجح غير مراد وإنما المراد الاحتمال المرجوح، ومن المتقرر أنَّ صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه أو عن الاحتمال الراجح في تعريف التأويل مشروط بعدم مناسبة الاحتمال الراجح أو الظاهر -كما ذكرتُ لك-، وهذا في نصوص الغيبيات غير متحقق؛ لأننا لا نعلم حقيقة الكيفية وإنما نعلم تأويلها بمعنى المعنى؛ نعلم معناها، أما الكيفية فلا.

فإذن صرفُها ليس له وجه لأنَّ الحقيقة بكمالها معنى وكيفية لا نعلمها، وإنما نعلم المعنى فقط، والمعنى لا يخوِّلنا أن نصرف اللفظ عن احتماله الراجح؛ لأن اللفظ مشتمل على معنى وكيفية، والكيفية غير معلومة فلا بد من إبقاء دلالة اللفظ على ما هي عليه. هذا واحد.

الثاني: أن ظاهر الكلام إذا فهمناه فإننا لا نحتاج معه إلى التأويل؛ لأنَّ ظاهر الكلام يُفهم المراد.

فإذن ظاهر الكلام يفهم منه العربي شيئا لا يحتاج الذي يريد فهمه إلى أن ينظر إلى كلمة فيه؛ لأنه إذا نظر إلى كلمة حجبته عن رؤية الكل، فلهذا احتاج كثير من العجم إلى التأويل؛ لأنهم ما يفهمون الكلام إلا بتركيب أفراده كلمة كلمتين ثلاثة، أما الكلام بعمومه ليس عندهم من فهم إلا بفهم مفرداته، مثل عندما تأتي تدرس مثلا اللغة الإنجليزية أو تدرس لغة أخرى، حتى تفهم الجملة لابد تحللها، تقول هذه معناها كذا وهذه معناها كذا ثم تتصور الجميع، العربي الذي يفهم العربية لا يحتاج إلى أن يحلل الألفاظ، وإنما يفهمه جميعا بفهم واحد وهو المسمّى: الظاهر التركيبي.

فإذن الظاهر يكون ظاهر الكلام بتركيبه وهو الذي يُفهم منه وهذا لا يُحتاج معه إلى التأويل.

وهذا بخلاف قول الله جل وعلا، قالوا –يعني أهل التأويل- ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾[الفجر:22]، وجاء أمر ربك، فتلحظ من الكلام أنه على هذا التأويل ظاهر الكلام يضطرب ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾[الفجر:22]، يصبح المعنى وجاء أمر ربك والملك صفا صفا، هذا تلحظ أن المعنى اختلّ بهذا، ولهذا نقول الظاهر هنا –ما يفهم من ظاهر الكلام- هذا غير ما أولوا به وإنما هو على ظاهره من أن المجيء هو صفة وهكذا.

فإذن المقصود هنا أنّ الظاهر تارة يُفهم بكلمة، وتارة يفهم من تركيب، فما أُدعي فيه التأويل من المواطن التي أُحتيج فيها إلى التأويل مثل الأمثلة التي ذكرنا، فإنه نقول ليس ثم تأويل فيها هنا على اصطلاحكم، وإنما هذا ظاهر فالكلام لم يزل باقيا على ظاهره، والمقصود به الكلام التركيبي.

فتحصلنا من هذا البحث -وله طول تراجعونه في مظانه- أنَّ التأويل صار له ثلاث استعمالات: اثنان منها جاءت في الكتاب والسنة، وواحد في اصطلاح المتأخرين وهو الذي حملوا آيات الصفات عليه وهذا باطل لأنه:

أولا: لفظ محدث اصطلاحي فلا تحكم الاصطلاحات على النصوص.

وثانيا: ما ذكرنا من أن ذلك يُبطل دِلالة الأخبار الغيبية، وهذا باطل أيضا.


يتبع ..

مالك مناع
03-22-2010, 11:41 PM
فعندنا فيما تحمل عليه آيات الصفات وأحاديث الصفات بل آيات وأحاديث الأمور الغيبية بعامة ؟ أنه يجب حملها على ظاهرها وعلى حقائقها، ولا يجوز حملها على التأويل ولا على المجاز.

والظاهر قسمان كما أن الحقيقة قسمان، فنحمل الآيات والأحاديث على الظاهر، والظاهر للآيات والأحاديث على قسمين:

- منها ظاهر للألفاظ بمفردها، وهذا يسمى الظاهر الإفرادي، الظاهر للمفردات، فهذا يُفهم الكلام على ظاهره في اللفظ، ولا يجوز أن يحال اللفظ عن ظاهره إلى شيء آخر.

وذلك لأن تعريف التأويل عندهم: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، وسبب الصرف -أنهم صرفوه عن ظاهره-، أنه لا يجوز نسبة هذا الظاهر إلى المنسوب إليه، وهذه مقدمة هي الدعوى، هي الدعوى جعلوها مقدمة، لماذا صرفوا اللفظ عن ظاهره؟ قالوا لأنه لا يجوز أن يوصف الله بصفات الأجسام، فجعلوا الدعوى هي البرهان، ولذلك باطل أن يسلط التأويل على الظاهر؛ ظاهر الألفاظ كما في قوله مثلا ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾[المائدة:64]، ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[ص:75]، ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾[التوبة:6]، ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾[النساء:164] وأشباه ذلك، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ﴾[الفرقان:59]، فهذه ظواهر، ظواهر هذه الآيات فيها إثبات الصفة على ما دل عليه معنى الصفة في اللغة، فاليد في اللغة ليست هي القدرة؛ لأن القدرة إذا أريد باليد القدرة أو النعمة فإنها لا تضاف بل تقطع عن الإضافة، فتقول مثلا لفلان علي يدٌ، أو عندي لفلان يدٌ، هذا جاء في كلام العرب وأرادوا بها النعمة؛ لأن النعمة تسدى باليد، ولكن لا يقال يد فلان عليَّ ويراد بها النعمة، أو يدا فلان عليَّ ويراد بها النعمة، فإذا ثنيت وأضيفت فإنه لا يمكن بحال أن يراد بظاهرها هذا المعنى الذي ذهبوا إليه، فيكون الذي ذهبوا إليه غلطا في اللغة، وأيضا فيه تأويل والتأويل لا يجوز لهذا لأنه لا برهان عليه.
إذا تبين ذلك فهذا الظاهر نفهم الآيات على ظاهرها، يعني اللفظ هذا ظاهره فنؤمن به على ما دل به ظاهره، ولا نتشاغل بتأويله ولا برده، ولا بضرب الأمثلة إلى آخره بل نؤمن، والله جل وعلا وصف نفسه بذلك، نؤمن بذلك ولا نخوض فيه.

- النوع الثاني من الظاهر: ظاهر الجمل الظاهر التركيبي، والظاهر التركيبي أو ظاهر الجمل، هذا معناه ما يفهم من ظاهر الكلام بمجموعه لا بمفرداته. فإن المقصود من الكلام إفهام المتكلم المخاطَب بما يريد، وقد يُفهم المخاطِبُ المخاطَبَ بمفردات يعني المفرد، وقد يفهمه بمجموع الكلام فإذا ظهر المراد بمجموع الكلام سمي ذلك ظاهرا تركيبيا، والأول ظاهر أفرادي أو لفظي.

ولهذا لما قيل لشيخ الإسلام إن هناك آية أجمع السلف على تأويلها -وهي قوله جل وعلا في سورة البقرة ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾[البقرة:115]-، فقال: أعلم ما تريدون، تريدون قوله تعالى هذه الآية أصلا ليست من آيات الصفات حتى يقال إن السلف أولوا آيات الصفات؛ بل هذه الآية تركيبها المراد بالوجه هنا الوِجهة، وليس المراد بالوجه الذي هو صفة الله جل وعلا، قال (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) يعني فثم القبلة، فثم الوِجهة وِجهة الله التي أمركم بالتوجه إليها دل عليها قوله قبلها (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) سبحانه وتعالى.

كذلك الحقيقة منقسمة إلى حقيقة إفرادية وإلى حقيقة تركيبية. وهذا البحث أجاد فيه شيخ الإسلام في أوائل المجلد الثالث من رده على الرازي وهو لم يطبع بعد؛ لأن الرازي ذكر تأويل الآيات والأحاديث، فأصل شيخ الإسلام تأصيلا عميقا قويا كعادته رحمه الله في بيان الظاهر والتأويل وأقسام الظاهر والحقيقة وهذه المباحث. المقصود أن هذا الذي ذكر أن نؤمن بالظاهر ولا نتشاغل بالتأويل، هذا هو الحق، والظاهر على قسمين والحقيقة على قسمين.


يتبع ..

مالك مناع
03-22-2010, 11:54 PM
أهل السنة قاعدتهم في هذه الصفات أنهم يؤمنون بما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات ويفهمون ذلك ويثبتونه على مقتضى اللسان العربي، ومعلوم أن اللسان العربي من حيث فيه المعاني الكلية وفيه المعاني الإضافية ، فهناك معاني كلية هذه - بشرط الكلية - لا توجد إلا في الأذهان ، يعني أن نتصور معنى عام للاستواء من غير إضافته لأحد ، هذا بحث لغوي بحت لكنه في الواقع غير موجود ، فكيف إذن تفسر الألفاظ اللغوية ؟

الألفاظ اللغوية تفهمها العرب وتفسرها بالمعنى العام الكلي الذي يكون في الذهن، وإذا صار مضافا في الخارج إلى لأشخاص فإنه تكون الإضافة فيه بحسب ما يليق بالمضاف إليه .

فمثلا الاستواء ، الاستواء في اللغة معلوم المعنى غير مجهول المعنى ومعناه معنى الاستواء العلو والارتفاع ، فتقول مثلا (استويت على الراحلة) إذا علوت عليها ، الاستواء هو العلو والارتفاع لكن هذا العلو والارتفاع مضاف إلى أي شيء ؟
علو وارتفاع المخلوق ، علو وارتفاع رجل ، علو وارتفاع صاعد لجبل ؟
هل هو علو وارتفاع الخالق ؟ أي علو وارتفاع ؟
فإذن تفسير الاستواء بالمعنى العام في اللغة هذا هو الذي ينفي التشبيه وينفي التمثيل لأنه يقع التمثيل إذا سوِّي في الخارج بين من أضيف له الاستواء فقيل في الرجل استوى والله جل وعلا على العرش استوى الملك استوى على عرشه والله جل وعلا استوى على عرشه الاستواء من حيث كونه معنى كليا في الذهن معناه واحد ، لكن إذا أضيف ، إذا خصص به فإن المعنى يختلف ، يكون بحسب من خصص به وهذه قاعدة مهمة (أن المعاني الكلية تختلف معانيها بالإضافة والتخصيص) الإضافة والتخصيص إلى من فعل الفعل أو من اتصف بالوصف.

فعندنا صفة المحبة ، الله جل وعلا له المحبة والمخلوق أيضا له المحبة، المحبة من حيث اللغة إذا قال ما المحبة ؟
إذا فسرها لغوي بما يجعل في ذهنه أن المراد بالمحبة محبة المخلوق فإنه هنا يغلط.
لأن الواجب في تفسير الألفاظ اللغوية أن تفسر بالمعاني الكلية التي لا توجد في الخارج. لكي تشمل جميع الأصناف : تشمل محبة المخلوق تشمل محبة الإنسان الطبيعة كمحبة الرجل للمرأة ، المرأة للرجل محبة الحيوانات الأم لولدها والولد لأمه ، محبة الملائكة ، تشمل محبة الله
هذا المعنى الكلي هو الذي يشمل الجميع ، وإنما يختلف في الخارج باختلاف الإضافة والتخصيص.

ولهذا في الاستواء الله جل وعلا أثبت أن بعض خلقه له الاستواء فقال ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾، يعني علوتم وارتفعتم على الفلك ﴿فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ .

وقال أيضاً:إذا أُطلق اللفظ؛ لفظ الصفة: غضب، رضا، محبة، إلخ... فإن بعض الناس يأتي في ذهنه معنا للغضب، يأتي في ذهنه معنا للرضا، وذلك لأن الإنسان لم يستقبل المعاني إلا لما رأى المسمّيات؛ يعني لم يفهم الشيء إلا لما رأى صورة أمامه جعلت المعنى يرتبط في ذهنه بهذه الصورة، وإلا في الحقيقة فإنّ هناك ثلاثة أشياء في أبواب الصفات:

الشيء الأول: المعنى الكلي للصفة، ما معنى المعنى الكلي؟ يعني غير المتعلق لا بالرب جلّ وعلا وغير المتعلق بالإنسان بالمخلوق، معنىً كلي. هل في الحقيقة في الحياة، هل في الوجود هناك معنىً كلي تراه يمشي أمامك؟ إنما المعاني الكلية من اللغة ودلالات الألفاض من حيث المعنى هذه إنما موجودة في الذهن للتّصوّر، هذا التصور لا يُدركه كل أحد لأن جمهور الخلق إنما يتصوّرون من المعاني بعد رؤية الصّور التي تدلهم عليها، فلا يتصور شيئا لم يره، لا يتصور شيئا؛ لأنه لا يمكن أن يتصور شيء قدرته ما تستوعبه، لهذا نأتي هنا إلى:

الشيء الثاني وهو الصفة، أو هذا المعنى الكلي المضاف إلى الله جلّ جلاله.

الحالة الثالثة: المعنى الكلي المضاف إلى المخلوق المعيَّن.

فإذا أُضيف المعنى الكلي إلى المخلوق فإنه في الحقيقة لا ينطبق كليا وإنما لابد أن يتخصص بشيء، يدلّ عليه أنك ترى في السمع مثلاً فإن البعوضة لها سمع وبصر، والإنسان له سمع وبصر، هل نقول هنا: السمع والبصر هو كلي في الإنسان وفي البعوضة؟، لا، وإنما هو كلي من جهة فهمك ما معنى السمع، ما معنى البصر، فإذا كان عندك قدرة لاستعاب المعاني الكلية دون تأثير لما ترى وما تسمع للمعاني والقواعد التي في ذهنك، فإنه يمكن أن تتصور المعاني الكلية، وإلا فإنه في الخارج، في الواقع، في الحياة، لا يوجد إلا مخصصا، تقول: سمع الإنسان وبصر الإنسان، سمع المخلوق، سمع البعوض وبصر البعوض، سمع الفيل وبصر الفيل، سمع الوطواط وبصر الوطواط، وهكذا...

الغضب والرضا، المولود الذي وُلد أليس عنده أساس من الرضا والغضب؟ يرضى عن والديه فيفرح ويبتسم ويغضب فيعبر بطريقة أخرى، هل تعبير الطفل في غضبه ورضاه هوكتعبير أبيه في غضبه ورضاه؟ لا.

بل الإنسان في نفسه لما كان طفلا فإنه يعبّر عن غضبه ورضاه بشيء، وإذا صار شاباً يعبر عن غضبه ورضاه بشيء، وإذا صار كهلا وشيخا فإنه يعبّر عن رضاه وغضبه بشيء.

وهذا يدلّك على أن هذه المعاني لا يمكن أن تُنفى عن الله جلّ وعلا وهذه الصفات بإعتبار النظر للمخلوق، لأن أصلا المخلوقات تختلف في حياتها وتختلف في آثار الغضب والرضا، وكيف يغضب ومتى يغضب وإلخ... فإذا كان المخلوق يختلف فالله جلّ وعلا له المثل الأعلى والصفات العليا.

وهذه قاعدة مهمة فاستمسك بها في الرد على المتأولين في الصفات والخائضين في عموم الغيبيات، فاستمسك بها وادرسها شيئا فشيئا فإنها مهمة، لهذا نقول: إن الذين يقولون الغضب والرضا هو الإرادة نفوا الصفة ونفيهم لهذه الصفة لأجل اتصاف المخلوق بها، فإن هذا تعد على النص، وأيضاً جهل في العقليات على الحقيقة.

وقال: والمسائل الغيبية في الرجوع إلى المعنى اللغوي العام، والمعاني اللغوية العامة قد يمكن تفسيرها، وأحيانا لا يمكن لكل أحد أن يفسرها؛ لأن المعنى العام الكلي ليس له وجود في الخارج، إنما يوجد كليا في الأذهان، وفي الخارج يوجد مخصصا مضافا؛ يعني في الواقع يوجد مخصصا مضافا.

وإذا كان كذلك فتفسيره يغلب على ذهن الأكثرين حتى من أهل اللغة أن يفسره بما في الخارج لغرض التقريب؛ ولكن المعنى الكلي الذي يصدق على ما تراه وما لا تراه، هذا قد لا يوفق إليه كل أحد، ولهذا إذا جاء بعض الناس فتكلم في معنى الرحمة أو في معنى النزول أو في معنى الغضب أو في معنى الرضا أو في معنى الأسف أو في ما أشبه ذلك، ربما فسرها بما يراه في الخارج، فيغلبه الحس الذي يراه؛ ما يحسه وما اكتسبه من معارف على الأمر الكلي النظري الذي لا يوجد إلا في الذهن.

ومعلوم أن الله جل وعلا في اتصافه بالصفات وما أثبت لنفسه في كتابه أو في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام فإنه له أكمل المعنى سبحانه، أكمل المعنى للصفة، وأشمل المعنى وأعظمه وأنزهه، وهذا ما لا يمكن كل أحد أن يعبر عنه لغلبة النظر إلى الخارج خارج الذهن في التعبير عن المعاني.

هذا تنتبه له كثيرا لأن بعضهم يأتي إلى أفراد أهل السنة ممن ليسوا بمحققين أو ليسوا بمتمكنين بالعلم، فإذا اراد أن يثبت الصفة قال بيِّن لي معنى الغضب، بيِّن لي معنى الرضا، بيّن لي معنى المعية، فإذا أخذ في البيان ربما عجز لأنه لا يعرف القواعد الكلية للغة في تفسير الألفاظ، ولا المعنى الكلي المجرد عن الإضافة والتخصيص.

إذن فالرجوع إلى المعنى الكلي بشرط كونه كليا، هذا من أعظم الحجج في رد التأويل؛ لأن الخارج خصص وأضاف، والمعنى الكلي يضاف على الله جل وعلا بما تستحقه ذاته على قاعدة ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11].
.. أنا ما أعلم كتابا من كتب اللغة تكلم على الكليات بشرط كونها كليات، ما فيه؛ لأنهم يريدون أهل اللغة إيضاح المعاني التي يستعملها الناس، والناس إنما يستعملون كلامهم، ويستعملون في أشعارهم وخطبهم، وجاء أيضا في كلام العرب الأولين وفي كلام الناس المتأخرين جاء في كلامهم ما هو في الخارج، ما هو واقع أمامهم؛ يعني المعاني المضافة المخصصة، فلذلك يأتي التفسير للمعاني المضافة المخصصة؛ لكن الفقيه في اللغة قد يأخذ من أصل الاشتقاق معنى كلي.

والكتب المؤلفة في هذا الباب في اللغة بعضها يصيب في المعنى العام، وبعضها يغلب عليه التخصيص مثل ما ذكرت لك لأجل الإفادة، لأن المعنى العام نظري، فتحديده لا حاجة إليه، والإيمان بصفات الله جل وعلا إيمان لما اشتملت عليه من المعنى الذي تعرف مطلقه، أما المعنى المطلق الكامل فهذا كلي، البيان له يحتاج إلى علوم كثيرة.


يتبع ..

مالك مناع
04-01-2010, 09:54 AM
قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: يبين لك أن هذه الحقائق التي جاءت في النصوص حق على ظاهرها؛ لكن مشكلة البشر أنهم لا يعقلون من الحقائق إلا ما أدركوه بحواسهم، هذا يعطل باب الإيمان بالغيبيات، الغيبيات مطلقة والحواس مقيدة، فلا يجوز الحكم على المطلق بالمقيد في هذه الأمور، ما أطلق شيء ماله حدود، كيف تقيده بما له حدود، فإذن الأرض كلها صغيرة بالنسبة للسموات صغيرة بالنسبة للكرسي، والكرسي بالنسبة للعرش كيف مقامه والله جل وعلا قدرته وعظمته، فإذن صارت الأرض بمن عليها متناهي في الصغر.
لكن خلاصة ذلك أن تنتبه إلى أصل هذه المسألة، وأصلها راجع إلى دلالات الألفاظ في اللغة، ودلالات اللفظ في اللغة على ثلاثة أقسام:

- إما أن يدل اللفظ على المعنى بلا تخلف لأي فرد من الأفراد، هذا يسمى النص.
- وإما أن يكون دلالة اللفظ على المعنى أو على أفراد المعنى ظاهرة، وهذه قد يتخلف فيها بعض الأفراد؛ يعني احتمالا لغويا، هذا الذي يسمى عندهم حقيقة اللفظ وظاهر اللفظ، والحقيقة يقابلها المجاز، والظاهر يقابله عندهم -يعني عند المتأخرين- التأويل.
- والثالث المجمل الذي لم يستبن معناه، يحتمل هذا ويحتمل هذا ويسمى مجملا.
فإذن الألفاظ:
- إما أن تكون نصا.
-وإما أن تكون ظاهرة، وهذا الظاهر الثاني قد يكون حقيقة التي يقابلها المجاز، وقد يكون ظاهرا الذي يقابله التأويل.
-والثالث قد تكون مجملة.
والصفات صفات الله جل وعلا دائرة ما بين كونها نصا وما بين كونها ظاهرا، فبعضها نص لا يحتمل التأويل، واستفادة التنصيص قد يكون من دليل واحد وقد يكون من مجموع أدلة:
فمثال الدليل الواحد كقوله سبحانه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾[الأعراف:59، 65، 73، 75، هود:50، 61، 84، المؤمنون:23، 32]، هذا نص صريح في عموم بطلان الآلهة جميعا بلا استثناء، وإثبات العبادة الحقة في الله جل وعلا، هذا إذا كانت من دليل واحد.
إذا كانت من مجموع أدلة مثل صفة العلو لله سبحانه، ومن مثل صفة اليدين لله جل وعلا، وجميع الصفات الذاتية، الرحمة صفة الوجه وأشباه ذلك لله جل وعلا، فإن هذه تنصيصية لا تحتمل غيرها؛ لأنها جاءت بها أدلة كثيرة تنفي الاحتمال الذي قد يعرض -طبعا نعني بالاحتمال الاحتمال اللغوي، لا الاحتمال العقلي- تنفيه وتحدد المراد لو كان ثم احتمال في اللغة.
فهذا وجه مجيء التنصيص أو كيف نعرف أنها نص ولذلك من أنكر ما نُصَّ عليه، وقولنا نُصَّ عليه يعني ما صار اللفظ دالا على مراده بالنصية فإنه كافر، إلا إذا كان ثم شبهة قوية عرضت، مثل ما عرض لنفاة العلو ما عرض، وكثير من أهل العلم يكفر من أنكر علو الرحمن جل وعلا على خلقه.
والثاني من الألفاظ؛ الألفاظ التي دلت على المعنى لما هو دون النص وهو الظاهر، وهذا -كما ذكرت لك- قد يكون من جهة –يعني عند المتأخرين– جهة الحقيقة، قد يكون من جهة الظاهر، وتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وظاهر ومؤول، هذا اصطلاح حادث وإلا فكلام العرب يدل على معناه إما بنصية وإما بظهور، وهذا الظهور قد يكون من جهة الحقيقة وقد يكون من جهة الظاهرية، كما أن النص يكون حقيقة لا غير.
إذا تبين لك ذلك، فالظهور هنا إذا قلنا دل ظاهر المعنى على كذا فإن كلام العرب دال على ما اشتمل عليه المعنى بظاهره وبحقيقته، ولكن الحقيقة والظاهر تنقسم إلى حقيقة إفرادية وحقيقة تركيبية، وكذلك الظاهر إلى ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي؛ يعني ما نستفيد منه المعنى يعني من الألفاظ بلفظ واحد، فهذا يسمى حقيقة إفرادية، وبالسياق أو بأدلة مختلفة فهذه تكون تركيبية.
كذلك الظاهر كقوله مثلا ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾[الفرقان:45]. (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) هنا (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) هذا فيه إضافة الرؤية إليك توجه إلى الرب جل وعلا، ومعلوم أن ذلك غير مراد، وهذا لا يعني تأويلا أو صرفا عن الظاهر؛ بل ظاهر الكلام أن المراد، ظاهر الآية أن المراد هو رؤية قدرة الله جل وعلا وآثار صنعته في خلقه، لأنه قال بعدها (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وكقوله جل وعلا في آية النحل ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ﴾[النحل:26] ليست هذه من آيات الصفات فيها الإتيان؛ لأن المقصود هنا إتيان صفات الله إتيان قدرة الله جل وعلا لقوله بعدها (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) هذا يقال له حقيقة تركيبية أو الظاهر المركب وهو الظاهر الذي يفهم من السياق.
فكلام العرب يفهم على حقيقته يفهم على ظاهره والظاهر معناه المعنى الذي دل عليه اللفظ على ما ذكرت لك، وهذا كما ذكرت يحتاج إلى تفصيل طويل في شرحه وبيانه؛ لأنه يجمع ما بين العقيدة والأصول.
التنبيه الذي يلي هذا على هذه المسألة التي تكلم عليها شيخ الإسلام أن من تكلم في أن الظاهر غير مراد نظر إلى المعنى الإضافي، فقال إن الظاهر غير مراد. والآيات التي في الصفات والأحاديث التي في الصفات أو في الغيبيات عموما لا يُنظر فيها إلى المعاني الإضافية؛ لأنه إذا نظر فيها إلى المعاني الإضافية كان ثم تمثيل أو تشبيه مذموم، وإنما ينظر فيه إلى المعنى الكلي الذي لا يدخله التخصيص أو لا تدخله الإضافة، فإذا نُظر إلى المعنى الكلي لظهوره أضيف إلى الرب جل وعلا ما يليق به سبحانه وتعالى وتقدس وتعاظم ربنا.
وهذا المعنى الأصلي أو الكلي قد يكون بالوضع معروفا، وقد يكون بكلية تقعيدية في اللغة يُنَصُّ عليها، والوضع الأول كما هو معلوم الوضع الأول هو الأصل في اللغة، والوضع الأول على قسمين:
- وضع أسماء وهذه قد علمها الله جل وعلا آدم في أصل اللغة التي تكلم بها آدم، ثم تشعبت إلى لغات أهل الأرض على اختلاف بينهم في الألفاظ؛ لكن على اشتراك في الدلالات ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾[البقرة:31].
- ثم المعاني والاشتقاقات والأفعال والمصادر وتنوع الدلالات فهذا يختلف باختلاف أهل الأرض في لغاتهم وقواعدهم ولهجاتهم إلى آخره.
فإذن الوضع الأول من جهة الأسماء يمكن أن يُعقل؛ لكن من جهة المعاني فإنه -كما ذكرت لك- مبني على أن المعاني لم تُعَلَّم، فإذن صارت راجعة إلى الناس في مواضعتها، والناس فيها توضعوا عليه يرجعون فيما تواضعوا عليه إلى ما أدركوه؛ يعني إلى ما جعلوه مضافا مخصصا بخلاف المعاني الكلية فإنهم لا يدركونها، ولهذا صار هناك فرق ما بين الأسماء والمعاني فيقع الاختلاف في المعاني كثيرا، وأما في الأسماء فيقل الاختلاف.
فإذا ذكر الوجه وذكرت اليدين وأشباه ذلك من الصفات التي هي راجعة إلى الأسماء -يعني أسماء أشياء ليست مصادر ولا معاني- فهذه تجد أن الخلاف فيها -يعني حتى مع المخالفين الخلاف فيها مع المخالفين قليل-؛ لأن هناك من يثبتها وإنما يأتي الكلام في المعاني، مثل صفة الرحمة والغضب والرضا والنزول والاستواء إلى غير ذلك من الصفات، وهذا سببه كما ذكرت لك أن المعاني كلية ينظرون فيها إلى ما تواضع عليه طائفة من أهل اللغة أو من الناس أو من العرب المتقدمين مع أن كلامهم إذا ورد فإنه يرد مخصصا مضافا وقد يرد أمثلة من المعاني الكلية تستنبطها.
نذكر مثالا لذلك: مثل لفظ الجناح كلمة جَناح هذه جعلها المتأخرون أصلا في الطاهر قالوا الجناح حقيقة في الطائر؛ لأنه هو الذي له الجناح، وأما الإنسان فتشبه يده بالجناح أنها كجناح الطائر من جهة الاستعارة، ويجعلون قوله تعالى ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ﴾[الإسراء:24] الجناح هو اليد أو اليدين هذا على جهة الاستعارة، وذلك لأنهم جعلوا الجناح الذي هو من الأسماء ولكنه في الأصل معنى جعلوه صادقا على الطائر دون غيره.
وفي الحقيقة هو راجع إلى المعنى لا إلى الاسم، وذلك لأن لفظ جَنَحَ يَجنح جنوحا والاسم منه الجَناح والجُناح هذا كله راجع إلى الميل.
فالمعنى الكلي الذي يتفرع منه بأنواع الإضافة والتخصيص وما يناسب الأعيان المختلفة هذا راجع إلى الميل فقال جل وعلا ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾[الأنفال:61] يعني مالوا إليه ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾[الممتحنة:10] يعني لا ميل عن الشريعة، لا ميل عن طاعة الله، لا إثم عليكم في ذلك لاحظنا هذا من جهة المعنى.
فجاء من جهة الاسم أطلق على ما كان يميل من أعضاء المخلوق، أطلق عليه جناح في الطائر، لأن بدن الطائر الأصل فيه الاستقامة ولا يميل نفس البدن، وهذا الجسم الذي يميل يذهب ويجيء سمي جناحا في الطائر، وأيضا في الإنسان ويصدق عليه هذا الاسم فهو جناح، جناح فيه، ولهذا قال جل وعلا لموسى ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾[القصص:32] فسمَّى اليد جناحا، وقال في موضع آخر ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾[طه:22] يعني إلى جنبك وأشباه ذلك فهذا كله راجع إلى أصل المعنى.
فإذن تنتبه إلى أن هناك أسماء قد تكون أسماء من جهة اللغة؛ لكنها من جهة الاشتقاق جُعلت أسماء برؤية المعاني، وهذا يبين لك أن قاعدة الحقيقة والظاهر هو الأصل عندنا في جميع ما يفهم من اللغة وفي التفسير، وهذا يرجع إلى انقسامها إلى أسماء مما علَّمها ربنا جل وعلا آدم، وأنه علمه بلغة غير اللغة العربية كما هو معروف؛ لكن نقول من حيث الألفاظ تغيرت؛ لكن من حيث الدلالات دلالات الأسماء بقيت لأن المسميات موجودة لكن الألفاظ التي يعبر بها عن المسميات اختلفت، ثم المعاني التي اشتقت للأشياء، اشتقت للأسماء؛ المصادر، أسماء اشتقت من المعاني يعني معناه أنها ليست أسماء جامدة.
وهذا موضع يحتاج أيضا منك إلى توسع فيه لأنه هو العمدة في فهم إبطال التأويل، هو العمدة في إبطال المجاز، هو العمدة في إبطال دعوى من قال إنَّ الوضع الأول هو كذا؛ لأن الوضع الأول لا يُعلم، إن كان معاني كلية وفُسِّرت بالتخصيص والإضافة، فنعلم أنها ليست الوضع الأول، الوضع الأول فيها غير مسلم به، وإن كانت من جهة الأسماء التي لا يدخلها اشتقاق، عرفنا أن هذه تدخل فيما علمه الله جل وعلا آدم على اختلاف في ذلك.
إذا تقرر لك هذا، فإن قول من قال ظاهر الآيات والأحاديث غير مراد، فهذه الكلمة محتملة إن قال ظاهرها غير مراد ويريد بهذا الظاهر الذي هو غير مراد بالتمثيل فإن هذا صحيح، ظاهرها الذي يبدو للأذهان السقيمة من أن ثم فيها تمثيل صفات الله بصفات خلقه، فإن هذا لاشك أنه غير مراد، وإذا قلنا قال الله جل وعلا ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[ص:75]، فتصور أن الظاهر من يدي الرحمن جل وعلا كيدي المخلوقات فهذا باطل قطعا، نقول ظاهرها غير مراد قطعا؛ لأن الرب سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]، كذلك في صفة الوجه وفي غيرها من الصفات للرب جل وعلا.
وإن كان المراد من تلك المقالة أن الظاهر غير مراد يعني أن الظاهر الذي فيه إثبات الصفة غير مراد حتى تُؤوَّل، فلاشك أن هذا لا يجوز أن ينسب للسلف، ولا أن يحكى عن السلف أصلا؛ لأن السلف أثبتوا ما دلت عليه الآيات والأحاديث دون دخول في التفسير الذي يخرجها عن معناها الظاهر.
وبالجملة وكما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله -فيما سمعتم- هذه المقالة مقالة خاطئة ولا يسوغ أن تستأنف لقول القائل ظاهرها غير مراد؛ لأنّ الظاهر مراد، والظاهر ليس الذي فيه التمثيل؛ لأن الله الذي وصف نفسه بهذه الصفات هو الذي قال ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى:11]. فمن صرفها عن ظاهرها فلأجل سوء في فهمه وسوء في عقيدته؛ لأنه أولا مثَّل وشبَّه ثم بعد ذلك أوّل وصرف عن الظاهر.
وكذلك الحقيقة كل نص فهو حقيقة وظاهر في الدلالة على معناه، وظاهرها مراد، وقول القائل وظاهرها غير مراد هذا غلط ولا يصح أن ينسب إلى السلف.
ومن أجله قال من قال إنه لا فرق ما بين التأويل والتفويض، لا فرق ما بين مذهب المؤولة ومذهب السلف -كما يزعمون-؛ لظنهم أن مذهب السلف أيضا أنه ينفي المعنى اللائق بالله جل وعلا ويكون المعنى غير مراد وكذلك أهل التأويل يقولون المعنى غير مراد على ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.
المقصود من هذا أن هذه المسألة كبيرة جدا، وهي أصل باب الكلام في الصفات، وأصل الكلام مع المخالفين، وهي مرتبطة بمباحث لغوية وأصولية وعقدية والجمع بينها يحرر المقام ويتَّضح به حقيقة قول السلف وقوة قول السلف رحمهم الله، وضعف قول المخالفين في المسائل، لا من جهة لغوية، ولا من جهة أصولية؛ ولكن على التحقيق، ولكن جاء الخلط والغلط من جهة أن المتأخرين درجوا على فنون وعلوم أصلوها وجعلوا لها ألفاظا ومصطلحات وصاروا يحملون الشريعة أو يحملون لغة العرب -التي هي قبل ورود هذه العلوم والمصطلحات- يحملونها على قول من تأخر في اصطلاحاتهم فيجعلون كلام العرب منقسم إلى حقيقة ومجاز وظاهر ومؤول إلى آخره، بناء على تقسيماتهم، مع أن كلام العرب كان قبل هذه التقسيمات ولم يخطر ببالهم أصلا أن ثم مثل هذه التقسيمات حين تكلموا بما تكلموا.
وهذا كثير في استعمالاتهم مثل كلام في الوضع الأول هو كذا، وهذا استعارة لأن أصل المعنى هو كذا، ويمكنك أن تنازع في كل موضع يخالف ما عليه أهل التحقيق في أصل ما قالوه بقولك: من قال هذا؟ قالوا والوضع الأول كذا، من قال لك إن الوضع الأول كذا؟ ما فيه دليل عنده إلا نقل، الوضع الأول يعني ما تواضع عليه الناس ما تواضع عليه العرب ما تواضع عليه أهل اللغة، وهل أهل اللغة اجتمعوا في مؤتمر -يعني في الزمن الأول- اجتمعوا في مؤتمر أو في مجتمع عام وقالوا نضع لهذا المعنى كذا ونضع لهذا المعنى كذا يعني مما لا يتصور، وإنما انتشر في اللغة هكذا بمعاني كلية موجودة في الأذهان لكن تخرج بحسب ما يحتاج إليه، تخرج بحسب ما يضاف إليه تلك المعاني.
المعاني الكلية قد لا تجد تفسيرها لأنها كلية لا وجود لها في الخارج ولكنها موجودة في لَمِّ شتات المعاني.
هذه مسألة كبيرة لكن ذكرت لك بعض ما يفتح لك الباب في فهمها، فتنتبه لعظم هذه المسألة.
وقال:أولا المجاز عرَّفوه: بأنه نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما رجع إلى نقل عن الوضع الأول. فإذا كان كذلك فنقول: من قال إن الوضع الأول للفظ الأسد والعرب هو أنه على الحيوان المفترس؟ هذه تحتاج إلى نص وإلى دليل، ولا دليل يثبت ذلك، إلا أن يقول: هذا معروف.
وكل موضع أدعي فالمجاز فارجع فيه إلى التعريف: نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما. فقل: من قال إن هذا الوضع الأول؟ من قال إن هذا –مثل الجناح قالوا الجناح هذا حد الطائر- من قال لك إن الأسد هذا في الوضع الأول هو الحيوان المفترس؟ كما ذكرنا لك أنه يكون ثم معنى كلي، فبالتخصيص يختلف.
فلفظ الأسد -من جهة المعنى الكلي هذا- يدخل في كل -يعني المعنى الكلي له- كل من بلغ القوة والقهر لغيره، فهذا يطلق عليه أسد، فما كان من الحيوانات الذي يقهر غيره هو أسد، وعند العرب أسد غير الأسد عندك، الأسد الآن الحيوان المعروف، لكن عند العرب الأسد أوسع، أوسع في الدلالة وكل حيوان قهر غيره التي تفرس هذه يدخلونها في الأسد، فالأسد المعروف أسد، والنمر أسد عندهم، والفهد أسد إلى آخر ذلك، هذا شيء.
الشيء الثاني أن يقال إن القول بالمجاز بالاتفاق باتفاق أهله: أن كل مجاز يصح نفيه، كل مجاز يصح نفيه على اعتبار النفي سُلط على الوضع الأول، فإذا قلت فلان أسد، يصح أن تقول بعدها ولكنه ليس بأسد، وهذا إذا دخلنا في صفات الله جل وعلا فإنه تَجَرُّؤ وتكذيب أيضا.
إذا قلت مثلا في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) لكنه لم يستوِ، هذه قاعدة في المجاز باتفاق أهله.
تقول (الرحمن الرحيم) ولكنه ليس بذي رحمة.
وأشباه ذلك في كل موضع أدعي فيه المجاز فإن ضابط المجاز أنه يصح نفيه، على اعتبار نفي الوضع الأول والانصراف للثاني.
رأيت أسدا فكلمني ولكنه ليس بأسد. هذا جناحك اخفضه ولكنه ليس بجناح، في نظائر ذلك.
الثالث مما يبطل القول بالمجاز في مثل ما ذكرت أن المجاز في كلام العرب إذا وجد فهو موجود بلا اسم مجاز -واضح؟- موجود هكذا في لغتهم ولا اسم له عندهم ولم يضعوا له اسما يعنونون لذلك كصنيع المتأخرين من جهة فنية.
وإذا كان كذلك، فإن قول القائل هذا مجاز يحتمل أن يكون:
فيفرع عليه أحكاما وقوانين للمجاز أصَّلَها قبل استقراء كلام العرب وهذا باطل؛ لأنه تحكيم لقوانين متأخرة على وضعٍ قبل ذلك.
والثاني أن يكون سماه مجازا ولكن لن يزيد فيه على ما ورد.
وإذا كان هذا الثاني فنقول هذا صحيح لك أن تسميه مجازا لكن لا تجري عليه قوانين أهل المجاز، لذلك بعض العلماء المتقدمين سموا كتبهم بالمجاز مثل أبي عبيدة معمر بن مثنى سمى كتابه مجاز القرآن يعني ما جاز في اللغة من التفسير، وهنا لم يجر عليه قوانين أهل العقائد أو أهل الأصول المعتزلة وغيرهم في ذكر المجاز وتعريفه، لا، ولكنه اعتبر أن هذا جاء عن العرب في موضع كذا، وجاء عنهم في الموضع الثاني كذا فهذا مما يجوز في لسان العرب أن تفسر هذه بهذه.
وثَم فرق ما بين إجراء كلام العرب على المجاز اصطناعيا يعني على جهة أهل الاصطلاح المتأخرين.
والقول الثاني الذي يسمى مجاز دون إرجاع إلى قواعدهم. والفرق بينهما أن صاحب القانون الذي عرف المجاز عرفه بتعريف سيطبقه على كلام العرب، سيطبقه على كلام المتقدمين، سيطبقه على كلام الله جل وعلا وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا تحكم في الحقيقة لأنه قَنَّنَ قانونا ثم أراد أن يجري عليه كل الكلام.
لكن نقول الذي يقضي به البرهان الصحيح السليم من الهوى أن يقال كل موضع استعملته العرب في كلامها فهو حقيقة وظاهر ومجاز أيضا، هو حقيقة باعتبار ما دل عليه، وظاهر باعتبار دلالة المعنى دلالة ظاهر اللفظ على معناه، ومجاز يعني بمعنى أنه يجوز في لغتها.
هذه الثلاث حقيقة وظاهر ومجاز إلى آخره إذا استعملتها فهي ألفاظ لا تؤول إلى كلام المتأخرين.
فنرجع من هذا كله إلى أن كلام العرب حجة، والله جل وعلا أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فما استعمل في كلام العرب صار حجة سمِّه حقيقة، سمِّه مجازا، سمِّه ما شئت؛ لكن لا على قوانين أهل الاصطلاح، فإذا قلت هذا حقيقته كذا، هذا ظاهره كذا، هذا مجازه كذا، باعتبار ما يجوز وما يظهر وحقيقة اللفظ كونه دليلا على حقيقة الأمر، فهذا لا شيء فيه.
لكن الإشكال جاء من كونهم قننوا القوانين ثم حكموها على اللغة، وقولنا سمه ما شئت هذا يجعل الدائرة ضيقة، إذْ يخرج هذا الباب عن الأقيسة يخرج هذا الباب عن القياس، وأما القول بالقوانين فإنه يدخل ما لم يرد في كلام العرب -مما يجوز- يدخله في التأويل أو في صرف الحقيقة عن ما هي عليه لأجل القانون.
فتلحظ أنه إذا اقتصرنا على كلام العرب سميناه مجازا، سميناه حقيقة، ظاهرا فإن الدائرة تكون ضيقة، وإذا سلطنا اصطلاح المتأخرين فإنه سيصرف اللفظ عن ظاهره، سيصرف اللفظ عن حقيقته بالقانون، وإن لم يرد ثم استعمال لكلام العربي به، وإن لم يرد استعمال يقال: لا، هذا غير مراد.
وفي الحقيقة إذا قلنا: صرف اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما. أو في تعريف التأويل صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، هذا القرينة ما هي باتفاق أنها قرينة عقلية، العلاقة ما هي؟ العلاقة منها علاقة لغوية ومنها علاقة عقلية.
إذا كان كذلك فكل واحد يمكن أن يقول: عقلي يصرف هذا اللفظ عن ظاهره، عقلي ينقل هذا اللفظ عن حقيقته، في الأمور الغيبية التي لم ير أمثالها، أما التي رأى أمثالها هذه يقرب الناس فيها؛ لأنه لو قال عقلي يخالفه يكذبه الحس؛ لكن في الأمور الغيبية سيأتي كل أحد يدعي أن عقله ينفي ذلك، هذا معناه أن يرجع القانون إلى أمر غير منضبط، وهذا باتفاق أهل المنطق وأهل الحدود أنه يرجع على القانون بالإبطال، فكل ضابط في قانون أو في حد أو في تعريف لا ينضبط لكون حد فيه أو جملة فيه لا تنضبط فإنه لا يصح أن يكون تعريفا.
ولذلك نحن ننازع أصلا في التعريفات هذه، تعريف التأويل ننازع، تعريف المجاز ننازع إلى آخره، في هذه الأشياء التي أحدثت البلبلة في العقيدة، وأحدثت البلبلة في الغيبيات، وفرقت الأمة وكل ذلك من جراء أهل البدع؛ لأنهم اعتقدوا اعتقادات ثم سعوا في العلوم ما يؤصلها، لذلك ما تجد عند أهل السنة هذه التعريفات، ما تجدها، والعلوم ما فسدت إلا لما دخلتها التعريفات، من جميع الفنون.