متروي
03-27-2010, 01:50 AM
الموحدون من النصارى
أصولهم...واقعهم...معاناتهم
للشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي
في ظل الصراع بين الإسلام والغرب الذي تتضح ملامحه يوماً بعد يوم، وتجتهد قوى مؤثرة في الغرب في إيقاده، يبدو جهل الغرب بالإسلام من أهم أسباب إخفاقه في التعامل مع قضايا الصراع؛ حيث يتعامل وفقاً لصورة نمطية مقتضبة. ولكيلا نقع في الخطأ نفسه، ينبغي للأمة الإسلامية أن تعرف خصمها معرفة مفصلة، بدلاً من النظر إليه باعتباره كتلة واحدة ذات توجه واحد، ومن أهم أسباب المعرفة المطلوبة: ربط اتجاهات الصراع بأصولها العقدية، وقياس مدى تأثير تلك الأصول في توجيه الصراع، لا سيما وقد بدأ الغرب يتمايز، وقد تزيده المرحلة القادمة تمايزاً.
وهذه المقالة تلقي الضوء على طائفة نصرانية تكاد تكون مجهولة لدى المسلمين، مع أهميتها عقدياً وعراقتها تاريخياً؛ فقد كان منها خمسة من رؤساء الولايات المتحدة، فضلاً عن حضورها الثقافي والسياسي في الساحة الأمريكية؛ فهم يمثلون دينياً النقيض للحركة الأصولية المتطرفة، وهم في الجملة محسوبون كجزء من التيار الليبرالي الذي لا يرى صراع الحضارات حتماً، ويرفض المشروع الصليبي المسمى «الحرب على الإرهاب».
` المقصود بالموحّدين من النصارى:
لا توحيد ـ على الحقيقة ـ إلا ما أرسل الله به رسله وأنزله في كتبه، وهو الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ واحد، وعبادته وحده لا شريك له؛ فهذا هو التوحيد المطلق. أما إذا قُيِّد بطائفة أو أحد من الناس فهو بحسب من يضاف إليه. ونحن هنا حين نتحدث عن الموحدين من النصارى فإننا نعني بها الفرقة النصرانية التي تعتقد أن الله واحد، وأن المسيح رسول الله، وترفض التثليث، وتتمثل في كنيسة (جماعة دينية) تؤمن بالوحي والعبادة، وبذلك يتميزون عن عامة الكنائس النصرانية التي تؤمن بعقيدة التثليث المنصوص عليها في قانون الإيمان الذي أقرّه مجمع «نيقية»(1)، كما يتميزون في العصر الحديث عن منكري التثليث على أساس إنكار الخالق ـ تعالى ـ مطلقاً، أو على أساس إنكار الوحي مع الإقرار بالخالق؛ لأن هؤلاء على الحقيقة ليسوا من النصرانية في شيء، وإن كان هذا التمييز غير جلي في تاريخ الفكر الغربي الحديث كما سنرى.
` أصولهم وأسماؤهم:
تعود جذور عقيدة الموحدين النصارى إلى الدين نفسه الذي علَّمه المسيح عليه السلام، وهو الإسلام في العقيدة، واتباع التوراة في الشريعة؛ فهم في الأصل الطائفة التي آمنت من بني إسرائيل كما قال ـ تعالى ـ: {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} [الصف: 14] وتمسكوا بالإيمان الذي أعلنه الحواريون كما في قوله ـ تعالى ـ: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] وظل بعضهم على هذا الإيمان إلى البعثة المحمدية، وخلط آخرون ذلك بأنواع من البدع من قبل البعثة وبعدها لا مجال لتقصِّيها الآن.
ومن أسمائهم «الناصريون»: إما نسبة إلى النُّصرة وهو الأقرب؛ كما في الآية، وإما إلى (الناصرة) البلدة التي ينسبون إليها المسيح عليه السلام، فيقولون: (يسوع الناصري)، وفي انتسابهم هذا إعلان لبراءتهم من البدع التي أحدثها بولس وأتباعه.
أما الاسم الذي ظلوا يشتهرون به حتى مطلع العصر الحديث فهو «الآريوسية» ـ أو «الأريانية» ـ نسبة إلى آريوس، أو «السوسنيانية» نسبة إلى «سوسنيان» الذي سنأتي على سيرته.
وقد كان للاضطهاد الذي نالهم من المخالفين أثره في تشويه تاريخهم وطمس كثير من معالمه. فوقع خلط كبير بينهم وبين غيرهم من الفرق المنشقة عن الكنيسة الملكية الرومانية التي تسمي المنشقين جميعاً «هراطقة».
ومن ذلك أنك تجد من لا يفرق بينهم وبين «النسطورية» أو «اليعقوبية» وربما كان سبب ذلك أن الكنيسة الرومانية الملكية الكاثوليكية كانت تنبزهم بأنهم نسطورية أو يعقوبية، وفي الوقت نفسه تنبز النسطورية واليعقوبية بأنهم «موحدون» لتخرجهم من النصرانية وتكفِّرهم عند العامة. وشبهتها في هذا أن النَّسطورية مع اعتقادهم التثليث ينكرون أن يقال عن مريم: والدة الإله، ويقولون: إنما ولدت الناسوت وليس اللاهوت؛ فكفّرتهم الكنيسة الملكية بذلك، واشتبه الأمر على كثير من الباحثين ـ وبعضهم من الموحدين الأوروبيين أنفسهم ـ فظنوا أن النَّسطورية في الشرق يعتقدون أن عيسى ـ عليه السلام ـ مجرد بشر؛ فهم بذلك موحِّدون.
أما اليعقوبية فهم مع اعتقادهم التثليث ينكرون أن يكون للمسيح طبيعتان، ويجعلونها طبيعة واحدة «إلهية» فكفَّرتهم الكنيسة الملكية بإنكار التثليث في نظرها.
ومن هنا أخطأ كثير من الباحثين أيضاً فظنوا ما جعلته الكنيسة توحيداً على سبيل التهمة هو التوحيد الذي عليه الموحدون.
أما نسبة الموحدين إلى «أريوس الإسكندري» و «بولس الشمشياطي»، فهي أقرب إلى الصواب، من جهة أن المنسوب إليهم في كتب النصارى هو إنكار لاهوت المسيح ـ لا سيما الأول منهما ـ على أن وصف الناصريين يظل أصدق الأوصاف وأبعدها عما أحاط بالأوصاف الأخرى من اضطراب.
` اضطهادهم:
تعرض الموحدون لاضطهاد هائل من الكنائس الرسمية، ولعنتهم المجامع النصرانية المخالفة، ووصمتهم بالكفر والهرطقة، ومزقتهم كل ممزق. ومن هنا ـ مع ما أصاب بعضهم من الابتداع ـ صدق على المتمسكين منهم أنهم «بقايا» كما جاء في الحديث: « إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب »(1) وفي قوله ـ تعالى ـ: { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ }[ آل عمران: 113] فإن من كانوا على بقية من الحق عند بعثته -صلى الله عليه وسلم- أعم من أن يكونوا من أتباع المسـيح ـ عليه السلام ـ فحسب؛ وذلك أن كثيراً من اليهود خارج فلسطين لم تبلغهم دعوة المسيح عليه السلام، أو لم يتبينوا حقيقة رسالته، وظلوا على الحق الذي في التوراة حتى أشرق نور الإسلام(2).
فلما ظهر نور الإسلام وأضاء ما بين الخافقين دخل أكثر الموحدين فيه وبقيت منهم بقية على حالها وكانت على صنفين:
الأول: من بلغته دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن به، وعن هؤلاء يقول العالم المهتدي الحسن بن أيوب من علماء القرن الرابع الهجري: «ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفاً منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح ـ عليه السلام ـ ولا يقولون فيه شيئاً مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بُنُوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح، مقرون بما جاء به تلامذته والحاملون عنه. فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق، مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودفع ما جاء من الكتاب والسنة»(3).
والآخر: من لم تبلغه الدعوة لبعد الشُّقَّة، أو بلغته على الصورة البالغة التشويه التي نشرتها الكنيسة الحاقدة على الإسلام ولا سيما كنيسة روما.
والثابت تاريخياً أن التوحيد كان عقيدة منتشرة في أوروبا في القرون الميلادية الأولى، لكن اختلفت أحوال الشعوب الموحِّدة، فبعضها مثل «الأيرلنديين» استطاعت الكنيسة البابوية استئصاله قبل الإسلام، وبعضها مثل «الأندلسيين» ظهر الإسلام والحرب لا تزال قائمة بينهم وبين روما.
ومن الظواهر البارزة في التاريخ الديني الأوروبي أن الشعوب البعيدة عن تأثير السيطرة الرومانية كانت أقرب إلى الفطرة، ومن ثَمَّ أكثر قبولاً للتوحيد من غيرها، وربما كان الاضطهاد الذي مارسه الرومان على الشعوب الخاضعة لهم أعظم أسباب قلة الموحدين فيها.
ففي بريطانيا كان الموحدون أول من أدخل النصرانية إلى الجزر البريطانية، وكان لهم فيها تاريخ طويل حتى انتقال مركزهم إلى أمريكا كما سيأتي. وفي إيرلندا كان الناس يدينون بالتوحيد ويعملون بشرائع التوراة، بل يسمون أنفسهم «ناصريين» حتى غزاهم الرومان في القرن الخامس الميلادي، واستأصلوا عقائدهم، وأحرقوا أناجيلهم المعروفة بالأناجيل «السلتية»(1)، التي كانت خالية من عقيدة التثليث. وفي الأندلس ظلت الحروب بين الرومان وبين الموحدين حتى ظهور الإسلام، ويعزو المؤرخون من شرقيين وغربيين سرعة انتشار الإسلام هناك إلى أنهم كانوا في الأصل على التوحيد.
وإجمالاً يمكن القول: إن تاريخ شعوب أوروبا الغربية وشمال أفريقية قبل الإسلام تاريخ للصراع بين الكنيسة الرومانية وبين الآريوسية ويشمل ذلك القوط والفاندال والسلت والبربر وغيرهم(2). يقول سلفستر شولر: (من المعلوم أن جميع البرابرة الذين استقروا على ضفاف الدانوب وعلى ضفاف الإمبراطورية (الرومانية) قد اعتنقوا أمة بعد أمة المسيحية الآريوسية... وهكذا أخذت الآريوسية تجتاح البلاد التي يقيم فيها البرغوند والسويف والفندال واللومبارد، وغدت ديانة هذه الشعوب الوطنية)(3)، هذا عدا انتشار الموحدين في مصر وبلاد الشام والعراق وفارس والحبشة ومليبار.
ثم كان أبرز الأحداث في تاريخ الموحدين هو قيام مملكة لهم في رومانيا في القرن السادس عشر؛ حيث كان الملك «جون سيقموند» المتوفى سنة 1571م موحداً، ولا يزال فيها أكبر تجمّع للموحِّدين في العالم بعد الولايات المتحدة؛ حيث يبلغ عددهم ثمانين ألفاً. وفي بولندا تكاثر الموحِّدون حتى أرغمهم البرلمان سنة 1658م على اعتناق الكاثوليكية(4)، إلا من فرّ منهم إلى هولندا وإنجلترا، وهناك التقوا مع الفارين من الأندلس بعد سقوطها في يد الملكين الكاثوليكيين «فردِنَنْد» و «إيزابيلا». وفي فرنسا ظهر الموحدون سنة 1550م باسم «الهجونوت» إلا أن الكاثوليك شنوا عليهم حرباً ضروساً في أيام الملكة «كاترين» وابنها «هنري» حتى استأصلوهم سنة 1572م إلا من استطاع الفرار إلى هولندا ثم إلى أمريكا(5).
` روافد وأشباه:
فيما بين عقيدة الموحدين ـ هؤلاء ـ وعقيدة الطائفة الملكية(6)، وهي الطائفة النصرانية الكبرى المتحكمة في الإمبراطورية الرومانية، يوجد عقائد كثيرة تأثرت بالمد الإسلامي العظيم؛ إذ كان استعلاء الإسلام ووضوح حجته قد بهر العالم أجمع، فحرصت كل ملة على أن تفسر عقيدتها وإيمانها بما يشبهه أو يقاربه، حتى إن الطائفة الملكية نفسها أصبحت تدعي التوحيد على تفسير خاص لها(7).
وقد بلغ التأثير ذروته في الحركتين المشهورتين في التاريخ الأوروبي، وهما: حركة تحريم الصور والتماثيل، والحركة الإصلاحية. وقد وفّر كلٌّ منهما نوعاً من الغطاء لعقيدة الموحدين التي كانت تظهر وتختفي بمقدار الحرية المتاحة لها.
1 - حركة تحطيم الصور والتماثيل:
ظهرت هذه الحركة بظهور الإسلام الذي كان حكمه حاسماً جداً في هذا الشأن؛ فعندما عاد المهاجرون إلى الحبشة وذكروا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ما رأوا في الكنائس الحبشية ـ وهي يعقوبية المذهب ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»(8).
وهكذا طمس المسلمون ـ وحطموا ـ الصور والتّماثيل والصّلبان ليس فقط في الكنائس التي أسلم أهلها أو فتحوها عنوة، بل في كل مظاهر الحياة، وبذلك استيقظت الحركة الكتابية التي كانت تفعل ذلك قبل الإسلام عملاً بما جاء في الوصية الثانية من الوصايا العشر في التوراة(9).
وقد بلغت هذه الحركة أوجَها في عهد الإمبراطور البيزنطي (قسطنطين الخامس) الذي عقد مجمعاً خاصاً لذلك في القسطنطينية سنة 754م. ونلاحظ أن الإمبراطورية الشرقية البيزنطية هي الأكثر تأثراً؛ وذلك لقربها من دار الإسلام.
2 - الحركة الإصلاحية:
تأخر ظهور الحركة الإصلاحية في الإمبراطورية الغربية، بسبب بعدها الجغرافي عن دار الإسلام، والحُجُب الكثيفة من الافتراء والتشويه التي فرضتها الكنيسة الكاثوليكية على أوروبا الغارقة حينئذ في الجهل والهمجية، ولكن الاتصال بالمسلمين الذي حدث من طرق شتى - منها مراكز الحضارة الإسلامية في جنوب أوروبا، والحروب الصليبية، والتعامل التجاري، وغيرها ـ أدى إلى ظهور الحركة الإصلاحية البروتستانتية، التي كانت فاتحة التاريخ الأوروبي الحديث، والتي أحدثت زلزالاً هائلاً في الكنيسة الغربية، بل في الحياة الأوروبية عامة. إلا أن تأثيرها الإصلاحي لم يمسّ الجوهر (عقيدة التثليث) بل اقتصر أساساً على الحد من طغيان البابوات، وفساد رجال الدين عامة، وتحطيم الصور والتماثيل(1)، وتعديل بعض الشعائر والطقوس. ويتمثل تأثيرها التاريخي الهائل في تأسيس كنائس جديدة منسوبة لزعماء الحركة، مثل «لوثر» «كالفن» «زونجلي» وكانت الاستجابة الواسعة لها تمثيلاً عميقاً لما عانته النفسية الأوروبية من كبت وضجر تحت سيطرة الاضطهاد البابوي، ولكنها ما لبثت أن ارتكبــت كـل الخطايا التـــي ارتكبتهــا كنيســة روما، ولا سيما اضطهاد المخالفين، وربما زادت عليها أحياناً، وهو الأمر الذي أدخل أوروبا في دوّامة من العنف لم يشهد لها التاريخ العالمي مثيلاً. وحدث من الفظائع والمنكرات ـ من الطرفين ـ ما اقشعرت لها أبدان المؤرخين، ووصفوها بأنها وحشية تترفع عنها الوحوش. وقد نالت هذه الوحشيةُ طائفةَ الموحدين التي انتهزت ـ بادئ الأمر ـ فرصة الصراع وانكسار باب السجن الكاثوليكي لتخرج في جملة من خرج من المأسورين، ولكن الاضطهاد الذي حلّ بها من قِبَل البروتستانت كان أفظع مما تصورت، بل كان مثار دهشة المؤرخين الغربيين ولا يزال.
الموحدون والحركة الإصلاحية النصرانية:
كان أعداء الموحدين ـ من الكاثوليك والبروتستانت سواء ـ ينبزونهم بلقب «سوسنيانية» نسبة إلى رجل دين إيطالي يدعى «سوسنيان» أو «سوسنيوس» (1539ـ 1604م)(2)، ظهرت آراؤه في عنفوان الثورة البروتستانتية على الكنيسة الكاثوليكية بقيادة زعيميها الشهيرين «مارتن لوثر» و«كالفن».
وكان «كالفن» ينافس «لوثر» في تزعّم الإصلاح، إلا أنه كان أكثر منه اعتماداً على التوراة ـ لا سيما في انتهاج القوة ـ وقد قرر كثير من المؤرخين أنه يهودي الأصل، ولعل هذا سبب خطأ من يظن أنه كان موحِّداً(3)، وقد عاصر من الموحدين غير «سوسنيان» الذي تنتسب إليه الطائفة «ميخائيل سرفت» صاحب الآراء المتناقضة والمحسوب على الموحدين، وإن كان بعض مؤرخي الفكر الغربي يجعلونه المؤسس.
اتخذ كالفن «جنيف» مقراً لدعوته، وحكمها حكماً لاهوتياً شديد الصرامة، ويقول «ديورانت»: (إن «كالفن» كان يرى في مذهب الموحدين بداية النهاية للمسيحية، وخشي هذه الهرطقة أكثر من أي شيء آخر؛ لأنه وجدها متفشية في مدينة «جنيف» ذاتها، وفوق كل شيء بين اللاجئين البروتستانت الفارين من إيطاليا، وهذه إشارة إلى سوسنيان وأمثاله). وقد بلغت فظاظة كالفن وبشاعة أحكامه حداً جعل أتباعه وأعداءه يشتركون في التعنيف عليه، وكان الموحدون أكثر المتضررين بذلك، ولا تزال مأساة «سرفت» تعد عند مؤرخي الفكر وصمة عار في جبين الإصلاحيين عامة و (كالفن) خاصة؛ فقد حكم (كالفن) على (سرفت) بأن يحرق حياً على نار بطيئة عقوبة له على إنكار التثليث ســنة 1553م. وكان هـذا ـ إضافــة إلى نبـز (لــوثـر) لـ (سرفت) بأنه «مراكشي» ـ دليل على أن الضغينة عليه كانت بسبب تأثره بالإسلام أكثر من كونه كافراً بالتثليث؛ إذ يقول ديورانت(4)، بعد أن نقل فقرات من كلامه: (إن مفهومه عن المسيح قريب جداً من مفهوم محمد) فنظراً لأصله الأسباني وقراءته للقرآن، واطلاعه على العقائد الإسلامية كان يستحق عندهم أن ينزل عليه أشد العقاب، فيكون عبرة لغيره من الخارجين على عقيدة (لوثر) و (كالفن).
كان (سرفت) في أول الأمر مندفعاً جداً في الثورة على النصرانية، فألّف كتابه «خطأ التثليث» سنة 1531م وفيه شبّه الرب الذي يعبده النصارى بالصنم الخرافي الوثني «سربيروس» الذي كان أتباعه يعتقدون أن له ثلاثة رؤوس(5)، ولكنه آخر الأمر عاد ليكتب كتاباً عنوانه «إعادة المسيحية». وسواء كان ذلك تراجعاً ظاهرياً أو اضطراباً في المعتقد، فالنتيجة أن ذلك لم ينقذه من العقوبة، وكان إحراقه نذيراً صارخاً لأصحاب مذهب التوحيد بالفرار إلى بلاد غير خاضعة للإصلاحيين، فاتجهوا إلى بولندا وهولندا ورومانيا ـ إقليم ترانسلفانيا ـ حيث كان الملك الموحِّد «جون سيقموند» يوفر حماية للفارين منهم في مملكته.
إن مصادر التوحيد لهذه المملكة مجهولة، والظاهر أنها من بقايا الأريوسيين وأن حياتهم في غابة إقليم «ترانسلفانيا» النائي وَقَتْهم شر التسلط الكاثوليكي، ومن المحتمل جداً وجود علاقة لهم بالمسلمين؛ فقد شهدت روسيا وأوروبا الشرقية مرحلة من التواصل مع المسلمين تميز في عهد الخليفة المقتدر العباسي وبعده(6).
على أن العقيدة التوحيدية ظهرت في أوروبا الغربية، ولا سيما في هولندا وبريطانيا، ومنها إلى أمريكا ضمن الخليط الناتج من الأفكار التي شهدها عصر التنوير الأوروبي الذي تُعَدُّ حركة التوحيديين أحد روافده، كما تعد أحد المستفيدين من ثورته.
أصولهم...واقعهم...معاناتهم
للشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي
في ظل الصراع بين الإسلام والغرب الذي تتضح ملامحه يوماً بعد يوم، وتجتهد قوى مؤثرة في الغرب في إيقاده، يبدو جهل الغرب بالإسلام من أهم أسباب إخفاقه في التعامل مع قضايا الصراع؛ حيث يتعامل وفقاً لصورة نمطية مقتضبة. ولكيلا نقع في الخطأ نفسه، ينبغي للأمة الإسلامية أن تعرف خصمها معرفة مفصلة، بدلاً من النظر إليه باعتباره كتلة واحدة ذات توجه واحد، ومن أهم أسباب المعرفة المطلوبة: ربط اتجاهات الصراع بأصولها العقدية، وقياس مدى تأثير تلك الأصول في توجيه الصراع، لا سيما وقد بدأ الغرب يتمايز، وقد تزيده المرحلة القادمة تمايزاً.
وهذه المقالة تلقي الضوء على طائفة نصرانية تكاد تكون مجهولة لدى المسلمين، مع أهميتها عقدياً وعراقتها تاريخياً؛ فقد كان منها خمسة من رؤساء الولايات المتحدة، فضلاً عن حضورها الثقافي والسياسي في الساحة الأمريكية؛ فهم يمثلون دينياً النقيض للحركة الأصولية المتطرفة، وهم في الجملة محسوبون كجزء من التيار الليبرالي الذي لا يرى صراع الحضارات حتماً، ويرفض المشروع الصليبي المسمى «الحرب على الإرهاب».
` المقصود بالموحّدين من النصارى:
لا توحيد ـ على الحقيقة ـ إلا ما أرسل الله به رسله وأنزله في كتبه، وهو الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ واحد، وعبادته وحده لا شريك له؛ فهذا هو التوحيد المطلق. أما إذا قُيِّد بطائفة أو أحد من الناس فهو بحسب من يضاف إليه. ونحن هنا حين نتحدث عن الموحدين من النصارى فإننا نعني بها الفرقة النصرانية التي تعتقد أن الله واحد، وأن المسيح رسول الله، وترفض التثليث، وتتمثل في كنيسة (جماعة دينية) تؤمن بالوحي والعبادة، وبذلك يتميزون عن عامة الكنائس النصرانية التي تؤمن بعقيدة التثليث المنصوص عليها في قانون الإيمان الذي أقرّه مجمع «نيقية»(1)، كما يتميزون في العصر الحديث عن منكري التثليث على أساس إنكار الخالق ـ تعالى ـ مطلقاً، أو على أساس إنكار الوحي مع الإقرار بالخالق؛ لأن هؤلاء على الحقيقة ليسوا من النصرانية في شيء، وإن كان هذا التمييز غير جلي في تاريخ الفكر الغربي الحديث كما سنرى.
` أصولهم وأسماؤهم:
تعود جذور عقيدة الموحدين النصارى إلى الدين نفسه الذي علَّمه المسيح عليه السلام، وهو الإسلام في العقيدة، واتباع التوراة في الشريعة؛ فهم في الأصل الطائفة التي آمنت من بني إسرائيل كما قال ـ تعالى ـ: {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} [الصف: 14] وتمسكوا بالإيمان الذي أعلنه الحواريون كما في قوله ـ تعالى ـ: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] وظل بعضهم على هذا الإيمان إلى البعثة المحمدية، وخلط آخرون ذلك بأنواع من البدع من قبل البعثة وبعدها لا مجال لتقصِّيها الآن.
ومن أسمائهم «الناصريون»: إما نسبة إلى النُّصرة وهو الأقرب؛ كما في الآية، وإما إلى (الناصرة) البلدة التي ينسبون إليها المسيح عليه السلام، فيقولون: (يسوع الناصري)، وفي انتسابهم هذا إعلان لبراءتهم من البدع التي أحدثها بولس وأتباعه.
أما الاسم الذي ظلوا يشتهرون به حتى مطلع العصر الحديث فهو «الآريوسية» ـ أو «الأريانية» ـ نسبة إلى آريوس، أو «السوسنيانية» نسبة إلى «سوسنيان» الذي سنأتي على سيرته.
وقد كان للاضطهاد الذي نالهم من المخالفين أثره في تشويه تاريخهم وطمس كثير من معالمه. فوقع خلط كبير بينهم وبين غيرهم من الفرق المنشقة عن الكنيسة الملكية الرومانية التي تسمي المنشقين جميعاً «هراطقة».
ومن ذلك أنك تجد من لا يفرق بينهم وبين «النسطورية» أو «اليعقوبية» وربما كان سبب ذلك أن الكنيسة الرومانية الملكية الكاثوليكية كانت تنبزهم بأنهم نسطورية أو يعقوبية، وفي الوقت نفسه تنبز النسطورية واليعقوبية بأنهم «موحدون» لتخرجهم من النصرانية وتكفِّرهم عند العامة. وشبهتها في هذا أن النَّسطورية مع اعتقادهم التثليث ينكرون أن يقال عن مريم: والدة الإله، ويقولون: إنما ولدت الناسوت وليس اللاهوت؛ فكفّرتهم الكنيسة الملكية بذلك، واشتبه الأمر على كثير من الباحثين ـ وبعضهم من الموحدين الأوروبيين أنفسهم ـ فظنوا أن النَّسطورية في الشرق يعتقدون أن عيسى ـ عليه السلام ـ مجرد بشر؛ فهم بذلك موحِّدون.
أما اليعقوبية فهم مع اعتقادهم التثليث ينكرون أن يكون للمسيح طبيعتان، ويجعلونها طبيعة واحدة «إلهية» فكفَّرتهم الكنيسة الملكية بإنكار التثليث في نظرها.
ومن هنا أخطأ كثير من الباحثين أيضاً فظنوا ما جعلته الكنيسة توحيداً على سبيل التهمة هو التوحيد الذي عليه الموحدون.
أما نسبة الموحدين إلى «أريوس الإسكندري» و «بولس الشمشياطي»، فهي أقرب إلى الصواب، من جهة أن المنسوب إليهم في كتب النصارى هو إنكار لاهوت المسيح ـ لا سيما الأول منهما ـ على أن وصف الناصريين يظل أصدق الأوصاف وأبعدها عما أحاط بالأوصاف الأخرى من اضطراب.
` اضطهادهم:
تعرض الموحدون لاضطهاد هائل من الكنائس الرسمية، ولعنتهم المجامع النصرانية المخالفة، ووصمتهم بالكفر والهرطقة، ومزقتهم كل ممزق. ومن هنا ـ مع ما أصاب بعضهم من الابتداع ـ صدق على المتمسكين منهم أنهم «بقايا» كما جاء في الحديث: « إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب »(1) وفي قوله ـ تعالى ـ: { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ }[ آل عمران: 113] فإن من كانوا على بقية من الحق عند بعثته -صلى الله عليه وسلم- أعم من أن يكونوا من أتباع المسـيح ـ عليه السلام ـ فحسب؛ وذلك أن كثيراً من اليهود خارج فلسطين لم تبلغهم دعوة المسيح عليه السلام، أو لم يتبينوا حقيقة رسالته، وظلوا على الحق الذي في التوراة حتى أشرق نور الإسلام(2).
فلما ظهر نور الإسلام وأضاء ما بين الخافقين دخل أكثر الموحدين فيه وبقيت منهم بقية على حالها وكانت على صنفين:
الأول: من بلغته دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن به، وعن هؤلاء يقول العالم المهتدي الحسن بن أيوب من علماء القرن الرابع الهجري: «ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفاً منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح ـ عليه السلام ـ ولا يقولون فيه شيئاً مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بُنُوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح، مقرون بما جاء به تلامذته والحاملون عنه. فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق، مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودفع ما جاء من الكتاب والسنة»(3).
والآخر: من لم تبلغه الدعوة لبعد الشُّقَّة، أو بلغته على الصورة البالغة التشويه التي نشرتها الكنيسة الحاقدة على الإسلام ولا سيما كنيسة روما.
والثابت تاريخياً أن التوحيد كان عقيدة منتشرة في أوروبا في القرون الميلادية الأولى، لكن اختلفت أحوال الشعوب الموحِّدة، فبعضها مثل «الأيرلنديين» استطاعت الكنيسة البابوية استئصاله قبل الإسلام، وبعضها مثل «الأندلسيين» ظهر الإسلام والحرب لا تزال قائمة بينهم وبين روما.
ومن الظواهر البارزة في التاريخ الديني الأوروبي أن الشعوب البعيدة عن تأثير السيطرة الرومانية كانت أقرب إلى الفطرة، ومن ثَمَّ أكثر قبولاً للتوحيد من غيرها، وربما كان الاضطهاد الذي مارسه الرومان على الشعوب الخاضعة لهم أعظم أسباب قلة الموحدين فيها.
ففي بريطانيا كان الموحدون أول من أدخل النصرانية إلى الجزر البريطانية، وكان لهم فيها تاريخ طويل حتى انتقال مركزهم إلى أمريكا كما سيأتي. وفي إيرلندا كان الناس يدينون بالتوحيد ويعملون بشرائع التوراة، بل يسمون أنفسهم «ناصريين» حتى غزاهم الرومان في القرن الخامس الميلادي، واستأصلوا عقائدهم، وأحرقوا أناجيلهم المعروفة بالأناجيل «السلتية»(1)، التي كانت خالية من عقيدة التثليث. وفي الأندلس ظلت الحروب بين الرومان وبين الموحدين حتى ظهور الإسلام، ويعزو المؤرخون من شرقيين وغربيين سرعة انتشار الإسلام هناك إلى أنهم كانوا في الأصل على التوحيد.
وإجمالاً يمكن القول: إن تاريخ شعوب أوروبا الغربية وشمال أفريقية قبل الإسلام تاريخ للصراع بين الكنيسة الرومانية وبين الآريوسية ويشمل ذلك القوط والفاندال والسلت والبربر وغيرهم(2). يقول سلفستر شولر: (من المعلوم أن جميع البرابرة الذين استقروا على ضفاف الدانوب وعلى ضفاف الإمبراطورية (الرومانية) قد اعتنقوا أمة بعد أمة المسيحية الآريوسية... وهكذا أخذت الآريوسية تجتاح البلاد التي يقيم فيها البرغوند والسويف والفندال واللومبارد، وغدت ديانة هذه الشعوب الوطنية)(3)، هذا عدا انتشار الموحدين في مصر وبلاد الشام والعراق وفارس والحبشة ومليبار.
ثم كان أبرز الأحداث في تاريخ الموحدين هو قيام مملكة لهم في رومانيا في القرن السادس عشر؛ حيث كان الملك «جون سيقموند» المتوفى سنة 1571م موحداً، ولا يزال فيها أكبر تجمّع للموحِّدين في العالم بعد الولايات المتحدة؛ حيث يبلغ عددهم ثمانين ألفاً. وفي بولندا تكاثر الموحِّدون حتى أرغمهم البرلمان سنة 1658م على اعتناق الكاثوليكية(4)، إلا من فرّ منهم إلى هولندا وإنجلترا، وهناك التقوا مع الفارين من الأندلس بعد سقوطها في يد الملكين الكاثوليكيين «فردِنَنْد» و «إيزابيلا». وفي فرنسا ظهر الموحدون سنة 1550م باسم «الهجونوت» إلا أن الكاثوليك شنوا عليهم حرباً ضروساً في أيام الملكة «كاترين» وابنها «هنري» حتى استأصلوهم سنة 1572م إلا من استطاع الفرار إلى هولندا ثم إلى أمريكا(5).
` روافد وأشباه:
فيما بين عقيدة الموحدين ـ هؤلاء ـ وعقيدة الطائفة الملكية(6)، وهي الطائفة النصرانية الكبرى المتحكمة في الإمبراطورية الرومانية، يوجد عقائد كثيرة تأثرت بالمد الإسلامي العظيم؛ إذ كان استعلاء الإسلام ووضوح حجته قد بهر العالم أجمع، فحرصت كل ملة على أن تفسر عقيدتها وإيمانها بما يشبهه أو يقاربه، حتى إن الطائفة الملكية نفسها أصبحت تدعي التوحيد على تفسير خاص لها(7).
وقد بلغ التأثير ذروته في الحركتين المشهورتين في التاريخ الأوروبي، وهما: حركة تحريم الصور والتماثيل، والحركة الإصلاحية. وقد وفّر كلٌّ منهما نوعاً من الغطاء لعقيدة الموحدين التي كانت تظهر وتختفي بمقدار الحرية المتاحة لها.
1 - حركة تحطيم الصور والتماثيل:
ظهرت هذه الحركة بظهور الإسلام الذي كان حكمه حاسماً جداً في هذا الشأن؛ فعندما عاد المهاجرون إلى الحبشة وذكروا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ما رأوا في الكنائس الحبشية ـ وهي يعقوبية المذهب ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»(8).
وهكذا طمس المسلمون ـ وحطموا ـ الصور والتّماثيل والصّلبان ليس فقط في الكنائس التي أسلم أهلها أو فتحوها عنوة، بل في كل مظاهر الحياة، وبذلك استيقظت الحركة الكتابية التي كانت تفعل ذلك قبل الإسلام عملاً بما جاء في الوصية الثانية من الوصايا العشر في التوراة(9).
وقد بلغت هذه الحركة أوجَها في عهد الإمبراطور البيزنطي (قسطنطين الخامس) الذي عقد مجمعاً خاصاً لذلك في القسطنطينية سنة 754م. ونلاحظ أن الإمبراطورية الشرقية البيزنطية هي الأكثر تأثراً؛ وذلك لقربها من دار الإسلام.
2 - الحركة الإصلاحية:
تأخر ظهور الحركة الإصلاحية في الإمبراطورية الغربية، بسبب بعدها الجغرافي عن دار الإسلام، والحُجُب الكثيفة من الافتراء والتشويه التي فرضتها الكنيسة الكاثوليكية على أوروبا الغارقة حينئذ في الجهل والهمجية، ولكن الاتصال بالمسلمين الذي حدث من طرق شتى - منها مراكز الحضارة الإسلامية في جنوب أوروبا، والحروب الصليبية، والتعامل التجاري، وغيرها ـ أدى إلى ظهور الحركة الإصلاحية البروتستانتية، التي كانت فاتحة التاريخ الأوروبي الحديث، والتي أحدثت زلزالاً هائلاً في الكنيسة الغربية، بل في الحياة الأوروبية عامة. إلا أن تأثيرها الإصلاحي لم يمسّ الجوهر (عقيدة التثليث) بل اقتصر أساساً على الحد من طغيان البابوات، وفساد رجال الدين عامة، وتحطيم الصور والتماثيل(1)، وتعديل بعض الشعائر والطقوس. ويتمثل تأثيرها التاريخي الهائل في تأسيس كنائس جديدة منسوبة لزعماء الحركة، مثل «لوثر» «كالفن» «زونجلي» وكانت الاستجابة الواسعة لها تمثيلاً عميقاً لما عانته النفسية الأوروبية من كبت وضجر تحت سيطرة الاضطهاد البابوي، ولكنها ما لبثت أن ارتكبــت كـل الخطايا التـــي ارتكبتهــا كنيســة روما، ولا سيما اضطهاد المخالفين، وربما زادت عليها أحياناً، وهو الأمر الذي أدخل أوروبا في دوّامة من العنف لم يشهد لها التاريخ العالمي مثيلاً. وحدث من الفظائع والمنكرات ـ من الطرفين ـ ما اقشعرت لها أبدان المؤرخين، ووصفوها بأنها وحشية تترفع عنها الوحوش. وقد نالت هذه الوحشيةُ طائفةَ الموحدين التي انتهزت ـ بادئ الأمر ـ فرصة الصراع وانكسار باب السجن الكاثوليكي لتخرج في جملة من خرج من المأسورين، ولكن الاضطهاد الذي حلّ بها من قِبَل البروتستانت كان أفظع مما تصورت، بل كان مثار دهشة المؤرخين الغربيين ولا يزال.
الموحدون والحركة الإصلاحية النصرانية:
كان أعداء الموحدين ـ من الكاثوليك والبروتستانت سواء ـ ينبزونهم بلقب «سوسنيانية» نسبة إلى رجل دين إيطالي يدعى «سوسنيان» أو «سوسنيوس» (1539ـ 1604م)(2)، ظهرت آراؤه في عنفوان الثورة البروتستانتية على الكنيسة الكاثوليكية بقيادة زعيميها الشهيرين «مارتن لوثر» و«كالفن».
وكان «كالفن» ينافس «لوثر» في تزعّم الإصلاح، إلا أنه كان أكثر منه اعتماداً على التوراة ـ لا سيما في انتهاج القوة ـ وقد قرر كثير من المؤرخين أنه يهودي الأصل، ولعل هذا سبب خطأ من يظن أنه كان موحِّداً(3)، وقد عاصر من الموحدين غير «سوسنيان» الذي تنتسب إليه الطائفة «ميخائيل سرفت» صاحب الآراء المتناقضة والمحسوب على الموحدين، وإن كان بعض مؤرخي الفكر الغربي يجعلونه المؤسس.
اتخذ كالفن «جنيف» مقراً لدعوته، وحكمها حكماً لاهوتياً شديد الصرامة، ويقول «ديورانت»: (إن «كالفن» كان يرى في مذهب الموحدين بداية النهاية للمسيحية، وخشي هذه الهرطقة أكثر من أي شيء آخر؛ لأنه وجدها متفشية في مدينة «جنيف» ذاتها، وفوق كل شيء بين اللاجئين البروتستانت الفارين من إيطاليا، وهذه إشارة إلى سوسنيان وأمثاله). وقد بلغت فظاظة كالفن وبشاعة أحكامه حداً جعل أتباعه وأعداءه يشتركون في التعنيف عليه، وكان الموحدون أكثر المتضررين بذلك، ولا تزال مأساة «سرفت» تعد عند مؤرخي الفكر وصمة عار في جبين الإصلاحيين عامة و (كالفن) خاصة؛ فقد حكم (كالفن) على (سرفت) بأن يحرق حياً على نار بطيئة عقوبة له على إنكار التثليث ســنة 1553م. وكان هـذا ـ إضافــة إلى نبـز (لــوثـر) لـ (سرفت) بأنه «مراكشي» ـ دليل على أن الضغينة عليه كانت بسبب تأثره بالإسلام أكثر من كونه كافراً بالتثليث؛ إذ يقول ديورانت(4)، بعد أن نقل فقرات من كلامه: (إن مفهومه عن المسيح قريب جداً من مفهوم محمد) فنظراً لأصله الأسباني وقراءته للقرآن، واطلاعه على العقائد الإسلامية كان يستحق عندهم أن ينزل عليه أشد العقاب، فيكون عبرة لغيره من الخارجين على عقيدة (لوثر) و (كالفن).
كان (سرفت) في أول الأمر مندفعاً جداً في الثورة على النصرانية، فألّف كتابه «خطأ التثليث» سنة 1531م وفيه شبّه الرب الذي يعبده النصارى بالصنم الخرافي الوثني «سربيروس» الذي كان أتباعه يعتقدون أن له ثلاثة رؤوس(5)، ولكنه آخر الأمر عاد ليكتب كتاباً عنوانه «إعادة المسيحية». وسواء كان ذلك تراجعاً ظاهرياً أو اضطراباً في المعتقد، فالنتيجة أن ذلك لم ينقذه من العقوبة، وكان إحراقه نذيراً صارخاً لأصحاب مذهب التوحيد بالفرار إلى بلاد غير خاضعة للإصلاحيين، فاتجهوا إلى بولندا وهولندا ورومانيا ـ إقليم ترانسلفانيا ـ حيث كان الملك الموحِّد «جون سيقموند» يوفر حماية للفارين منهم في مملكته.
إن مصادر التوحيد لهذه المملكة مجهولة، والظاهر أنها من بقايا الأريوسيين وأن حياتهم في غابة إقليم «ترانسلفانيا» النائي وَقَتْهم شر التسلط الكاثوليكي، ومن المحتمل جداً وجود علاقة لهم بالمسلمين؛ فقد شهدت روسيا وأوروبا الشرقية مرحلة من التواصل مع المسلمين تميز في عهد الخليفة المقتدر العباسي وبعده(6).
على أن العقيدة التوحيدية ظهرت في أوروبا الغربية، ولا سيما في هولندا وبريطانيا، ومنها إلى أمريكا ضمن الخليط الناتج من الأفكار التي شهدها عصر التنوير الأوروبي الذي تُعَدُّ حركة التوحيديين أحد روافده، كما تعد أحد المستفيدين من ثورته.