المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فصول مختصرة من كتاب (معارج القبول بشرح سلم الوصول) للحكمي



بكار
04-08-2010, 05:56 AM
الفصـل السابـع
في بيان ما وقع فيه العامة اليوم
مما يفعلونه عند القبور،
وما يرتكبونه من الشرك الصريح
والغلو المفرط فى الأموات

[حكم من أوقد سراجاً على القبر أو بنى على الضريح مسجداً]
ومن على القبر سراجاً أوقدا
فإنه مجدد جهارا
كم حذر المختارُ عن ذا ولعنْ أو ابتنى على الضريح مسجدا
لسُنن اليهود والنصارى
فاعله كما روى أهل السننْ

وقال : (لتتبُعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) أخرجاه من حديث أبى سعيد ، وقد وقع الأمرُ والله كما أخبر  به، فالله المستعان.
[النهى عن رفع القبور والزيادة عليها]
(قال المصنف):
بل قد نهى عن ارتفاع القبرِ
وكل قبر مشرف فقد أمرْ
وأن يزاد فيه فوق الشبرِ
بأن يُسوى هكذا صح الخبرْ

عن عائشة رضى الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله  كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها ماريةُ، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله : (أولئك قوم إذا مات فيهم العبدُ الصالحُ -أو الرجل الصالح- بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرارُ الخلق عند الله).
وعنها هى وعبدِ الله بنِ عباس  قال: لما نزل برسول الله  طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا.
وعن جابر  قال: نهى النبى  أن يُجصص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه .
وعن أبى هريرة  قال: قال رسول الله : (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبرى عيداً، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم).
(وقد نهى) النبى  (عن ارتفاع القبر) بالبناء أو نحوه كما تقدم من النهى عن تجصيصها والبناء عليها، وكما سيأتى من الأمر بتسويتها (وأن يزاد فيه فوق الشبر) كما فى السنن عن جابر  قال: "نهى النبى  أن يُبنى على القبر أو يُزاد عليه أو يُجصص".
(وكل قبر مشرف) يعنى مرتفع (فقد أمر) النبى  (بأن يسوى) بالأرض أو بما عداه من القبور التى لم تُجاوز الشرع فى ارتفاعها، (هكذا صح الخبر) وهو ما رواه مسلم عن ثُمامة بن شفى قال: كنا مع فضالة بن عُبيد بأرض الروم برودس، فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسُوى ثم قال: سمعت رسول الله  يأمر بتسويتها.
[تحذير النبى  الأمة عن إطرائه والغلو فيه]
وحذر الأمة عن إطرائه
فخالفوه جهرة وارتكبوا
فغرهم إبليسُ باستجرائه
ما قد نهى عنه ولم يجتنبوا

(وحذر) النبى  (الأمة عن إطرائه) أى الغلو فيه، كما فى الصحيحين عن عمر  أن رسول الله  قال: (لا تُطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا! عبد الله ورسوله).
وعن ابن عباس أن رسول الله  قال: (إياكم والغلو فى الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو فى الدين).
وهذا كله من حماية النبى  جناب التوحيد، وكما قال لمن قال: تعالوا بنا نستغيث برسول الله  من هذا المنافق، قال: (إنه لا يستغاث بى، وإنما يستغاث بالله).
[اغترار الأمة بإبليس ومخالفتهم نهى الرسول وتحذيره]
(فغرهم) أى أكثر الأمة بعد ما سمعوا الزواجر والنواهى (إبليس) لعنه الله وأعاذنا منه (باستجرائه) أى باستهوائه إياهم، واستدراجه لهم، وإدخالهم فى الهلكات شيئاً فشيئاً كما فعل بالأمم السالفة قوم نوح فمن بعدهم، وأتاهم على ما يهوون، إما بغلو وإما بجفاء، لا يبالى ما أهلك العبد به.
(فخالفوه) أى الذين استهواهم الشيطان خالفوا النص من الكتاب والسنة (جهرة وارتكبوا، ما قد نهى عنه) من الغلو والإطراء وما لم يأذن به الله (ولم يجتنبوا) ذلك ولا شيئاً، فنهى عن الحلف بغير الله عز وجل وهؤلاء لا يحلفون إلا بغيره، وقد يحلفون بالله على الكذب، ولا يحلفون بالند فيكذبون.
ونهى أن تُقرن مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى، وهؤلاء يثبتون له ذلك على سبيل الاستقلال، ويهتفون باسمه فى الغدو والآصال، ويسألون منهم قضاء الحوائج دون ذى الجلال، بل يعتقد فيهم الغلاة منهم أن بعض الأولياء هو المتصرف فى الكون والمدبر له فى كل حال.
[الغلو المفرط فى الأموات وتعظيم قبورهم]
فانظر إليهم قد غلوا وزادوا
بالشيد والآجر والأحجارِ
ورفعوا بناءها وشادوا
لاسيما فى هذه الأعصارِ

(فانظر) أيها المؤمن (إليهم) وإلى أعمالهم (قد غلوا) فى أهل القبور الغلو المفرط الذى نهاهم الله تعالى ورسوله  عنه (وزادوا) عما حذرهم عنه الرسل (ورفعوا بناءها) أى بناء القبور المنهى عن مجرده قليله وكثيره (وشادوا) أى ضربوه (بالشيد) وهو الجص (والآجر) اللبن المحرق (والأحجار) المنقشة المزخرفة (لا سيما) بزيادة (فى هذه الأعصار) القريبة بعد ظهور دولة العبيدين الذين قال فيهم أهلُ العلم: ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فاعتنوا ببناء القباب على القبور وزخرفتها وتشييدها وجعلها مشاهد، وندبوا الناس إلى زيارتها وأتوا بذلك باسم محبة أهل البيت.
وللقناديل عليها أوقدوا
ونصبوا الأعلام والرايات
بل نحروا فى سوحها النحائر
والتمسوا الحاجات من موتاهم
وكم لواء فوقها قد عقدوا
وافتتنوا بالأعظم الرفات
فعل أولى التسييب والبحائز
واتخذوا إلههم هواهم

(والتمسوا الحاجات) التى لا يقدر عليها إلا الله عز وجل (من موتاهم) من جلب الخير ودفع الشر (واتخذوا إلههم هواهم) وهذا هو السبب فى عبادة غير الله بل فى جميع معاصى الله، وهو الذى كلما هوى أمراً أتاه، ولم يأتهم الشيطان من غير باب الهوى ولم يصطد أحداً بغير شبكته؛ لأن الهوى يُعمى عن الحق، ويضل عن السبيل أتباعه، وهو سبب الشقاوة.
قد صادهم إبليس فى فخاخه
يدعو إلى عبادة الأوثانِ
بل بعضهم قد صار من أفراخه
بالمال والنفس وباللسانِ

(قد صادهم إبليس فى فخاخه) التى نصبها لهم كما نصبها لمن قبلهم من تزيين المعاصى وتصويرها فى صورة الطاعات، فأول ما زين لقوم نوح العكوف على صور صالحيهم ليتذكروا عبادتهم الله تعالى فيقتفوا أثرهم فيها.
(بل بعضهم قد صار من أفراخه) المساعدين له الداعين إلى ما دعا إليه حزبه ليكونوا من أصحاب السعير (يدعو إلى عبادة الأوثان) من القبور وغيرها (بالمال والنفس واللسان) وليس هذا خاصاً بقبور الصالحين الذين عرفوا فى الدنيا بالأمانة والديانة، بل أى قبر تمثل فيه الشيطان أو حكيت له حكاية أو رئيت له رؤيا صدقا كانت أو كذباً فقد استحق عندهم أن يبنى عليه القباب ويعكف عنده وينذر له، ويذبح عليه، ويستشفى به المرضى، ويستنزل به الغيث، ويستغاث به فى الشدائد، ويسأل منه قضاء الحوائج، ويُخاف، ويُرجى، ويتخذ ندا من دون الله عز.

الفصـل الثامن
بيان حقيقة السحر وحكم الساحر
وذكر عقوبة من صدَّق كاهنا
أى [بيان] ما عليه من العقوبة شرعاً، وأن منه، أى من السحر علم التنجيم؛ وهو النظر فى النجوم الآتى بيانه، وذكر عقوبة من صدق كاهناً بقلبه؛ ويعنى عقوبته الوعيدية.
والبحث فى هذا الفصل فى أمور:
(الأول): هل السحر حقيقة وقوعه ووجوده أم لا؟
(الثانى): أنواعه.
(الثالث): حكم متعلمه إن عمل به أو لم يعمل.
(الرابع): عقوبته شرعاً ووعيداً.
[بيان حقيقة السحر وتأثيره]
والسحر حق وله تأثير
أعنى بذا التقدير ما قد قدره
لكن بما قدره القدير
فى الكون لا فى الشرعة المطهره

هذا هو البحث الأول فى حقيقته وتأثيره.
(والسحر حق) يعنى متحقق وقوعه ووجوده، ولو لم يكن موجوداً حقيقة لم ترد النواهى عنه فى الشرع، والوعيد على فاعله، والعقوبات الدينية والأخروية على متعاطيه والاستعاذة منه أمراً وخبراً.
وقد أخبر الله تعالى أنه كان موجوداً فى زمن فرعون وأنه أراد أن يعارض به معجزات نبى الله موسى عليه السلام فى العصا بعد أن رماه هو وقومه به بقولهم: إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ -إلى قوله- يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشعراء: 34 - 37].
(وله تأثير) فمنه ما يمرض، ومنه ما يقتل ومنه ما يأخذ بالعقول، ومنه ما يأخذ بالأبصار، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، (لكن) تأثيره ذلك إنما هو (بما قدره القدير) سبحانه وتعالى، أى بما قضاه وقدره وخلقه عندما يلقى الساحر ما ألقى، ولذا قلنا (أعنى بذا التقدير) فى قوله بما قدره القدير (ما قد قدره فى الكون) وشاءه (لا) أنه أمر به (فى الشرعة) التى أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه (المطهرة)، من ذلك وغيره، كما تقدم أن القضاء والأمر والحكم والإرادة كل منها ينقسم إلى كونى وشرعى، فالكونى يشمل ما يرضاه الله ويحبه شرعاً، وما لا يرضاه فى الشرع ولا يحبه، والشرعى يختص بمرضاته سبحانه وتعالى ومحابه، ولهذا قال تعالى فى الشرعى: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]، وقال الله عز وجل: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7].
[ما نقله النووى عن المازرى فى إثبات السحر وحقيقته]
قال الإمام النووى رحمه الله تعالى فى شرح مسلم: "قال المازرى رحمه الله تعالى: مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافاً لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى فى كتابه وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضاً مصرح بإثباته وأنه أشياء دُفنت وأخرجت، وهذا كله يبطل ما قالوه، فإحالة كونه من الحقائق محال، ولا يستنكر فى العقل أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق، أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر، وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم، ومنها مسقمة كالأدوية الحادة، ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض؛ لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتاله أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة.
قال: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهذا الذى ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقة وصحته، وعصمته  فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطلٌ.
فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التى لم يبعث بسببها ولا كان مفضلا من أجلها -وهو مما يعرض للبشر- فغيرُ بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قيل: إنه إنما كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا فى المنام فلا يبعد تخيله فى اليقظة ولا حقيقة له، وقيل: إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله، ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقادته على السداد.
قال القاضى عياض رحمه الله تعالى: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله فى الحديث: "حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن"، ويروى "يخيل إليه" أى يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كم يعترى المسحور. أهـ.
قلت: قد ثبت وتقرر من هذا وغيره تحقق السحر وتأثيره بإذن الله بظواهر الآيات والأحاديث وأقوال عامة الصحابة، وجماهير العلماء بعدهم رواية ودراية، فأما القتل به والإمراض والتفرقة بين المرء وزوجه وأخذه بالأبصار فحقيقة لا مكابرة فيها، وأما قلب الأعيان: كقلب الجماد حيواناً وقلب الحيوان من شكل إلى آخر، فليس بمحال فى قدرة الله عز وجل ولا غير ممكن؛ فإنه هو الفاعل فى الحقيقة وهو الفعال لما يريد، فلا مانع من أن يحول الله ذلك عند ما يُلقى الساحر ما ألقى امتحاناً وابتلاءً وفتنة لعباده.

[بيان حكم الساحر وأنه كافر]
واحكم على الساحر بالتكفيرِ كما أتى فى السنة المصرحهْ
عن جندب وهكذا فى أثرْ
وصح عن حفصة عند مالكْ
وحده القتل بلا نكيرِ
مما رواه الترمذى وصححهْ
أمرٌ بقتلهم روى عن عمرْ
ما فيه أقوى مرشد للسالكْ

هذا هو المبحث الثانى، وهو حكم الساحر (واحكم على الساحر) تعلمه أو علمه، عمل به أو لم يعمل (بالتكفير) أى بأنه كفر بهذا الذنب الذى هو السحر، وذلك واضح صريح فى آية البقرة بأمور:-
(1) منها سبب عدول اليهود إليه وهو نبذهم الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة: 101].
(2) (ومنها) قوله: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ [البقرة: 102] تتقوله وتزوره عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة: 102]، أى فى ملكه وعهده، ومعلوم أن استبدال ما تتلوه الشياطين وتتقوله.
(3) ومنها قوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ [البقرة: 102] برأ الله سبحانه وتعالى نبيه عليه السلام من الكفر، وهذا الكفر الذى برأه تعالى منه هو علم السحر وعمله، وإن كان بريئاً من الكفر كله معصوماً مما دونه.
(4) (ومنها) قوله تعالى: وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102]، أكذب الله تعالى اليهود فيما نسبوه إلى نبيه سليمان عليه السلام بقوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ  [البقرة: 102]، وهم إنما نسبوا السحر إليه، ولازم ما نسبوه إليه هو الكفر؛ لأن السحر كفر، ولهذا أثبت كفر الشياطين بتعليمهم الناس السحر، فقال تعالى: وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102].
(5) ومنها قوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة: 102]، يعنى من حظ ولا نصيب، وهذا الوعيد لم يطلق إلا فيما هو كفر لا بقاء للإيمان معه، فإنه ما من مؤمن إلا ويدخل الجنة، وكفى بدخول الجنة خلاقاً، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ثم قال تعالى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
(6) ومنها قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ أى بمحمد  والقرآن واتَّقَوْا السحر وسائر الذنوب لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 103].
وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر ونفى الإيمان عنه بالكلية؛ فإنه لا يقال للمؤمن المتقى: ولو أنه آمن واتقى، وإنما قال تعالى ذلك لمن كفر وفجر، وعمل بالسحر، واتبعه وخاصم به رسوله، ورمى به نبيه، ونبذ الكتاب وراء ظهره، وهذا ظاهر لا غبار عليه، والله أعلم.
[حدُ الساحر القتل]
[وهذا هو المبحث الثالث]
(وحده القتل بلا نكير كما أتى فى السنة المصرحة مما رواه الترمذى وصححه) موقوفا (عن جندب) ابن عبد الله البجلى.
قال الترمذى رحمه الله تعالى: "باب ما جاء فى حد الساحر: عن الحسن عن جندب قال: قال رسول الله : (حد الساحر ضربه بالسيف) ، هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه.
(وهكذا فى أثر، أمر بقتلهم) يعنى السحرة (روى عن عمر) بن الخطاب .
(وصح عن حفصة بنت عمر بن الخطاب) أم المؤمنين (عند مالك) بن أنس (ما فيه أقوى) دليل مرشد للسالك وهو ما رواه فى "موطئه" فى "باب ما جاء فى الغيلة والسحر من كتاب العقول: عن سعد بن زرارة "أنه بلغه أن حفصة زوج النبى  قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقُتلت، قال مالك: الساحر الذى يعمل السحر، ولم يعمل ذلك له غيره، وهو مثل الذى قال الله تعالى فى كتابه: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة: 102]، فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك هو نفسه" أهـ.
[ما قرره أبو المظفر بن هبيرة فيمن يتعلم السحر ويستعمله]
وقال ابنُ كثير رحمه الله تعالى: فصل. وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هُبيرة رحمه الله تعالى فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، ومن أصحاب أبى حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليتجنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافرٌ.
قال ابن هبيرة: وهل يُقتل بمجرد فعله واستعماله؟
فقال مالك وأحمد: نعم، وقال الشافعى وأبو حنيفة: لا، فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند مالك والشافعى وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك، أو يقر بذلك في حق شخص معين. وإذاً فإنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعى فإنه قال يقتل والحالة هذه قصاصاً.

قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟
فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد فى المشهور عنه: لا تقبل، وقال الشافعى وأحمد فى رواية: تقبل.
وأما ساحر أهل الكتاب، فعند أبى حنيفة أنه يُقتل كما يقتل الساحر إذا كان مسلماً، وقال مالك وأحمد والشافعى: لا يقتل، يعفى [عنه]؛ لقصة لبيد بن الأعصم. أهـ
وأما الساحر المسلمُ، فإن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيره، لقوله تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة: 102].
[من أنواع السحر علم التنجيم]
هذا ومن أنواعه وشعبهْ
علم النجوم فادر هذا وانتبهْ

هذا هو المبحث الرابع وهو (بيان أنواعه):
(1) فمنها علمُ التنجيم، وهو أنواع: أعظمها ما يفعله عبدة النجوم ويعتقدونه فى السبعة السيارة وغيرها.
(2) (ومنها) ما يفعله من يكتب حروف أبى جاد، ويجعل لكل حرف منها قدراً من العدد معلوماً، ويُجرى على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والأمكنة وغيرها، ويجمع جمعاً معروفاً عنده، ويطرح منه طرحاً خاصاً ويثبت إثباتاً خاصاً، وينسبه إلى الأبراج الاثنى عشر المعروفة عند أهل الحساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها.
(3) (ومنها) النظر فى حركات الأفلاك ودورانها وطلوعها وغروبها واقترانها وافتراقها، معتقدين أن لكل نجم منها تأثيرات فى كل حركاته منفرداً، وله تأثيرات آُخرُ عند اقترانه بغيره فى غلاء الأسعار ورخصها، وهبوب الرياح وسكونها، ووقوع الكوائن والحوادث، وقد ينسبون ذلك إليها مطلقاً. ومن هذا القسم الاستسقاء بالأنواء.
(4) (ومنها) النظر فى منازل القمر الثمانية والعشرين مع اعتقاد التأثيرات فى اقتران القمر بكل منها ومفارقته، وأن فى تلك سعوداً أو نحوساً، وتأليفاً وتفريقاً وغير ذلك.
وكل هذه الأنواع اعتقادُ صدقها محادة لله ورسوله، وتكذيب بشرعه وتنزيله، واتباع لزخارف الشيطان.
(5) ومن أنواع السحر زجرُ الطير والخط بالأرض حدثنا يحيى حدثنا عوف -حدثنا حيان -قال غير مسدد: حيان بن العلاء - عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال: سمعت رسول الله  يقول: (العيافة والطيرة والطرق من الجبت).
والجبت هو السحر قاله عمر ، وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم
(6) ومن أنواعه العقد والنفث فيه، قال الله تعالى: وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق: 4]، وقد ثبت فى حديث نزول المعوذتين ورقية جبريل النبى  بهما أنه كان كلما قرأ آية انحلت عقدة.
[حكم حل السحر بالطرق المشروعة والممنوعة]
وحلة بالوحى نصاً يشرع
أما بسحر مثله فيمنع

(وحله) يعنى حل السحر عن المسحور (بـ) الرقى والتعاويذ والأدعية من (الوحى) الكتاب والسنة (نصاً) أى بالنص (يشرع) كما رقى جبريل النبى  بالمعوذتين، وكما يشمل ذلك أحاديث الرقى المتقدمة فى بابها التى أمر بها الشارع  وندب إليها، ومن أعظمها فاتحة الكتاب وآية الكرسى والمعوذتان، فإن ضم إلى ذلك الآيات التى فيها التعوذ من الشياطين ،وحديث عثمان بن أبى العاص أنه قال: أتانى رسول الله  وبى وجع قد كاد يهلكنى، فقال رسول الله : (امسح بيمينك سبع مرات وقل: أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد)، قال: ففعلت، فأذهب الله ما كان بى فلم أزل آمرُ به أهلى وغيرهم.
(أما) حل السحر عن المسحور(بسحر مثله فيحرم)، فإنه معاونة للساحر وإقرار له على عمله، وتقرب إلى الشيطان بأنواع التقرب ليبطل عمله عن المسحور، ولهذا قال الحسن: "لا يحل السحر إلا ساحر".
[تصديق الكاهن كفرٌ]
ومن يصدق كاهنا فقد كفرْ
بما أتى به الرسول المعتبرْ

(ومن يصدق كاهناً) يعتقد بقلبه صدقة فيما ادعاه من علم المغيبات التى استاثر الله تعالى بعلمها (فقد كفر) أى بلغ درجة الكفر بتصديق الكاهن (بما أتى به الرسول) محمد  عن الله عز وجل من الكتاب والسنة، وبما أتى به غيره  من الرسل عليهم السلام.
فنقول: الكاهن فى الأصل هو من يأتيه الرئُى من الشياطين المسترقة السمع تتنزل عليهم
[أسباب كفر الكاهن]
وأما كفر الكاهن فمن وجوه منها:
1. كونه ولياً للشيطان، فلم يوح إليه الشيطان إلا بعد أن تولاه، قال الله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ [الأنعام: 121].
2. والشيطان لا يتولى إلا الكفار ويتولونه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257].
3. قوله تعالى: يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ [البقرة: 257]، أى نور الإيمان والهدى.
4. قوله تعالى: إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257]، أى ظلمات الكفر والضلالة. وقال تعالى: وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا [النساء: 119].
5. تسميته طاغوتاً فى قوله عز وجل: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا [النساء: 60]، نزلت فى المتحاكمين فى كاهن جهينة.
6. وقوله: وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ [النساء: 60]، أى بالطاغوت.
7. أن من هداه الله للإيمان من الكهان كسواد بن قارب  لم يأته رئيه بعد أن دخل فى الإسلام، فدل أنه لم يتنزل عليه فى الجاهلية إلا لكفره وتوليه إياه، حتى إنه  كان يغضب إذا سُئل عنه حتى قال له عمر : "ما كنا فيه من عبادة الأوثان أعظم".
8. وهو أعظمها: تشبهه بالله عز وجل فى صفاته ومنازعته له تعالى فى ربوبيته.
9. أن دعواه تلك تتضمن التكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله.
10. النصوص فى كفر من سأله عن شىء فصدقه بما يقول: فكيف به هو نفسه فيما ادعاه، فعن أبى هريرة : "من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد" .
[الكاهن كل من ادعى معرفة المغيبات]
ثم اعلم أن الكاهن وإن كان أصله ما ذكرنا فهو عام فى كل من ادعى معرفة المغيبات ولو بغيره، كالرّمال الذى يخط بالأرض أو غيرها، والمنجم الذى قدمنا ذكره، أو الطارق بالحصىَ وغيرهم ممن يتكلم فى معرفة الأمور الغائبة، كالدلالة على المشروع ومكان الضالة ونحوها، أو المستقبلة كمجىء المطر أو رجوع الغائب أو هبوب الرياح ونحو ذلك مما استأثر الله عز وجل بعلمه فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا من طريق الوحى، كما قال تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26-27].
الفصـل التاسـع
يجمع معنى حديث جبريل فى تعليمنا الدين وأنه ينقسم إلى ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان،
وبيان كل منها
[الدين قول وعمل]
اعلم بأن الدين قولٌ وعمل
فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل

(اعلم) يا أخى وفقنى الله وإياك والمسلمين (بأن الدين) الذى بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لأهل سمواته وأرضه، وأمر أن لا يعبد إلا به، ولا يقبل من أحد سواه، ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه، ولا أحسن دينا ممن التزمه واتبعه هو (قول) أى بالقلب واللسان (وعمل) أى بالقلب واللسان والجوارح. فهذه أربعة أشياء جامعة لأمور دين الإسلام:
الأول: قول القلب، وهو تصديقه وإيقانه، قال الله تعالى: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ . لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 33-34].
الثانى: قول اللسان، وهو النطق بالشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بلوازمها. قال الله: قُولُواْ آمَنَّا [البقرة: 136]، وقال تعالى: وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ [القصص: 53]، وقال تعالى: وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ [الشورى: 15]،
الثالث: عمل القلب، وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والإقبال على الله عز وجل والتوكل عليه ولوازم ذلك وتوابعه، قال الله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52]، وقال النبى : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه).
الرابع: عمل اللسان والجوارح، فعمل اللسان ما لا يؤدى إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك
فإذا حققت هذه الأمور الأربعة تحقيقاً بالغاً وعرفت ما يراد بها معرفة تامة وفهمت فهماً واضحاً ثم أمعنت النظر فى أضدادها ونواقضها تبين لك أن أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة:
1. كفر جهل وتكذيب.
2. وكفر جحود.
3. وكفر عناد واستكبار.
4. وكفر نفاق.
فأحدها يخرج من الملة بالكلية، وإن اجتمعت فى شخص فظلمات بعضها فوق بعض، والعياذ بالله من ذلك؛ لأنها إما أن تنتفى هذه الأمور كلها -قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح- أو ينتفى بعضها.
1. فإن انتفت كلها؛ اجتمع أنواع الكفر غير النفاق، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ [البقرة: 6 - 7].
2. وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق؛ فكفر الجهل والتكذيب، قال الله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: 39]، وقال تعالى أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 84].
3. وإن كتم الحق مع العلم بصدقه؛ فكفر الجحود والكتمان، قال الله تعالى وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14].
4. وإن انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة والإذعان مع انقياد الجوارح الظاهرة؛ فكفر نفاق سواء وجد التصديق المطلق أو انتفى وسواء انتفى بتكذيب أو شك، قال الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ إلى قوله وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 8-20].
5. وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان؛ فكفر عناد واستكبار، ككفر إبليس وكفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه أمثال حُيى بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم، وكفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً، ومحال أن ينتفى انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبى  (إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب).
ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة فى الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة أنهم إنما عنوا التصديق الإذعانى المستلزم للانقياد ظاهراً وباطناً بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق
[مراتب الدين]
كفاك ما قد قاله الرسول
على مراتب ثلاث فصله
الإسلام والإيمان والإحسان
إذ جاءه يسأله جبريل
جاءت على جميعه مشتمله
والكل مبنى على أركان

(كفاك) أيها الطالب الحق (ما قد قاله الرسول) محمد  (إذ جاءه يسأله) عن مراتب الدين وشرائعه (جبريل) عليه السلام (على مراتب ثلاث فصله جاءت) أى الثلاث المراتب (على جميعه) أى على جميع الدين (مشتمله) ولهذا سمى النبى  تلك الأمور "الدين" فقال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
[أولاً : مرتبة الإسلام]
(الإسلام) هذه هى المرتبة الأولى فى حديث عمر وما وافق لفظه.
والإسلام لغة: الانقياد والإذعان، وأما فى الشريعة فلإطلاقه حالتان:
(الحالة الأولى) أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان. فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله، كقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ [آل عمران: 19]، ونحو ذلك من الآيات.
وفى حديث عمرو بن عبسة  قال: قال رجل: يا رسول الله ! ما الإسلام؟ قال: (أن يسلم قلبك لله عز وجل، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك) قال: فأى الإسلام أفضل؟ قال: (الإيمان) قال: وما الإيمان؟ قال: (تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت) فجعل  الإيمان من الإسلام وهو أفضله.
فإن الانقياد ظاهراً بدون إيمان لا يكون حسن إسلام بل هو النفاق، فكيف تكتب له حسنات أو تمحى عنه سيئات؟ ونحو ذلك من الأحاديث.
(الحالة الثانية) أن يطلق مقترناً بالاعتقاد، فهو حينئذ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة كقوله تعالى: قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] الآية، وقوله  لما قال له سعد : مالك عن فلان، فوالله إنى لأراه مؤمناً. فقال : (أو مسلم) يعنى أنك لم تطلع على إيمانه، وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة. وفى رواية النسائى (لا تقل: مؤمن، وقل: مسلم) ، وكحديث عمر هذا، وغير ذلك من الآيات والأحاديث.
[ثانياً : مرتبة الإيمان]
(والإيمان) هذه المرتبة الثانية فى الحديث المذكور، والإيمان لغة: التصديق، قال إخوة يوسف لأبيهم: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: 17]، [أى]: بمصدق، وأما فى الشريعة فلإطلاقه حالتان:
(الحالة الأولى) أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله، كقوله عز وجل: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ [البقرة: 257]، وقوله: وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68]، ، وقوله  (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).
ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطناً وظاهراً فى قوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2-4] وغيرها من الآيات.

[أقوال الناس فيما يدخل تحت مسمى الإيمان]
[(1) قول السلف الصالح وهو الحق:]
قال السلف الصالح رحمهم الله تعالى: إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وإن الأعمال كلها داخلة فى مسمى الإيمان. وحكى الشافعى على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم.
وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكاراً شديداً، وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولا محدثاً ممن سمى لنا سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختيانى، والنخعى، والزهرى، وإبراهيم، ويحيى بن أبى كثير، والثورى، والأوزاعى، وعمر بن عبد العزيز،
[(2) قول ابن الراوندى وبعض المعتزلة:]
[وممن قال: (الإيمان هو التصديق فقط)] ابن الراوندى ومن وافقه من المعتزلة وغيرهم؛ إذ على هذا القول يكون اليهود الذين أقروا برسالة محمد  واستيقنوها ولم يتبعوه مؤمنين بذلك، وقد نفى اله الإيمان عنهم.
[(3) قول جهم بن صفوان وأتباعه:]
وقال جهم بن صفوان وأتباعه: هو المعرفة بالله فقط. وعلى هذا القول ليس على وجه الأرض كافر بالكلية، إذ لا يجهل الخالق سبحانه أحد.

[(4) قول المرجئة والكرامية:]
وقالت المرجئة والكرامية: الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب. فيكون المنافقون على هذا مؤمنين.
[(5) قول آخر:]
وقال آخرون: التصديق بالجنان والإقرار باللسان. وهذا القول مخرج لأركان الإسلام الظاهرة المذكورة فى حديث جبريل، وهو ظاهر البطلان.
[(6) قول الخوارج ونظرائهم:]
وذهب الخوارج والعلاف ومن وافقهم إلى أنه الطاعة بأسرها فرضاً كانت أو نفلا، وهذا القول مصادم لتعليم النبى  لوفود العرب السائلين عن الإسلام والإيمان. وكل ما يقول له السائل فى فريضة: هل على غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوع شيئاً).
[(7) قول الجبائى وأكثر المعتزلة:]
وذهب الجبائى وأكثر المعتزلة البصرية إلى:
(أ) أنه الطاعات المفروضة من الأفعال والتروك دون النوافل. وهذا أيضا يدخل المنافقين فى الإيمان وقد نفاه الله عنهم.
(ب) وقال الباقون منهم: العمل والنطق والاعتقاد.
والفرق بين هذا وبين قول السلف الصالح أن السلف لم يجعلوا كل الأعمال شرطاً فى الصحة، بل جعلوا كثيراً منها شرطاً فى الكمال كما قال عمر بن عبد العزيز فيها: من استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان والمعتزلة جعلوها كلها شرطاً فى الصحة. والله أعلم.
و(الحالة الثانية) أن يطلق الإيمان مقروناً بالإسلام، وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة كما فى حديث جبريل هذا وما فى معناه، وكما فى قول الله عز وجل: والَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [النساء: 57] فى غير ما موضع من كتابه، وكما فى قول النبى  فى دعاء الجنازة: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) ، وذلك أن الأعمال بالجوارح، وإنما يتمكن معها فى الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله.
[الجمع بين هذين الإطلاقين:]
والحاصل أنه إذا أفرد كلاً من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، بل كل منهما على انفراده يشمل الدين كله، وإن [قرن] بين الاسمين كان الفرق بينهما بما فى هذا الحديث الجليل. والمجموع مع الإحسان هو الدين كما سمى النبى  ذلك كله دينا، وبهذا يحصل الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث التى فيها تفسير الإيمان بالإسلام، والإسلام بالإيمان، وبذلك جمع بينه وبينها أهل العلم.
ونصوص الكتاب والسنة وأقوال أئمة الدين -سلفاً وخلفاً- فى هذا الباب يطول ذكرها.
[ثالثاً : مرتبة الإحسان]
(والإحسان) هذه المرتبة الثالثة من مراتب الدين فى هذا الحديث.
والإحسان لغة، إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه.
وفى الشريعة هو ما فسره النبى  بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
والمقصود أنه  فسر الإسلام هنا بالأقوال والأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأقوال والأعمال الباطنة، والإحسان هو تحسين الظاهر والباطن، ومجموع ذلك هو الدين، (والكل) من هذه المراتب (مبنى على أركان) لا قوام له إلا بقيامها.

[أركان الإسلام الخمسة]
فَقَد أتى الإسلامُ مبنيّاً على
أوَّلها الرُّكنُ الأساسُ الأعظمُ
ركنُ الشهادتين فاثبت واعتصم
وثانياً إقامةُ الصلاةِ
والرابعُ الصيامُ فاسمع واتبعْ
خمسٍ فحقّق وادرِ ما قد نُقِلا
وهو الصراطُ المستقيمُ الأقومُ
بالعروةِ الوثقى التى لا تنفصم
وثالثاً تأديةُ الزكاةِ
والخامسُ الحجُ على مَنْ يستطع

وهذه أركان المرتبة الأولى مرتبة الإسلام، وهى على قسمين: قولية، وعملية.
فالقولية: الشهادتان، والعملية: الباقى. وهى ثلاثة أقسام:
بدنية وهى الصلاة والصوم، ومالية وهى الزكاة، وبدنية مالية وهو الحج. وقول القلب وعمله شرط فى ذلك كله.
[وإليك شرح كل ركن من هذه الخمس على حدة].
[ الركن الأول: الشهادتان]
(أولها) أول هذه الأركان (الركن الأساس الأعظم).
الركن فى اللغة الجانب الأقوى، وهو بحسب ما يطلق فيه كركن البناء وركن القوم ونحو ذلك، فمن الأركان ما لا يتم البناء إلا به، ومنها ما لا يقوم بالكلية إلا به. (وهو الصراط المستقيم الأقوم) أى الأعدل، من سلكه أوصله إلى جنات النعيم، ومن انحرف عنه هوى فى قعر الجحيم. (ركن الشهادتين)، وهما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلا يدخل العبد فى الإسلام إلا بهما، ولا يخرج منه إلا بمناقضتهما إما بجحود لما دلتا عليه أو باستكبار عما استلزمتاه
(فاثبت) أيها العبد المريد نجاة نفسه من النار والفوز بالجنة على هذا الصراط المستقيم، ولا تستوحش من قلة السالكين، وإياك أن تنحرف عنه فتهلك مع الهالكين.
(واعتصم) أى استمسك (بالعروة) أى بالعقد الأوثق فى الدين، والسبب الموصل إلى رب العالمين (الوثقى) تأنيث الأوثق (التى لا تنفصم) أى: لا تنقطع، وقد تقدم فى الكلام على لا إله إلا الله أنها هى العروة الوثقى، وذلك واضح فى قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 256].

[الركن الثانى: إقامة الصلاة]
(وثانياً) من الأركان الخمسة (إقامة الصلاة) بجميع حقوقها ولوازمها. (وثالثاً: تأدية الزكاة) إعطاؤها على الوجه المشروع.
[فضل الصلاة]
اعلم -هدانا الله وإياك- أن الصلاة قد اشتملت على جل أنوع العبادة من الاعتقاد بالقلب والانقياد والإخلاص والمحبة والخشوع والخضوع والمشاهدة والمراقبة والإقبال على الله عز وجل وإسلام الوجه له والصمود إليه والإطراح بين يديه. وهى ثانية أركان الإسلام فى الفرضية؛ فإنها فرضت فى ليلة المعراج بعد عشر من البعثة لم يدع الرسول  قبلها إلى شىء غير التوحيد الذى هو الركن الأول، ففرضت خمسين، ثم خففها الله عز وجل إلى خمس كما تواترت النصوص بذلك فى الصحيحين وغيرهما.

[حكم تارك الصلاة]
[ولبيان حكم تارك الصلاة، نذكر ما استدل به أهل العلم من الآيات والأحاديت والآثار].
[أولاً: الآيات]
[وقد ورد فى حكم تاركها كثير من الآيات] (منها) ما فى عقاب تاركها كقوله عز وجل:  فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4-5] وقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، إِلا مَنْ تَابَ [مريم: 59-60]، وقوله تعالى:  يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم: 42-43].
[ثانياً: الأحاديث]
فى صحيح مسلم عن أبى هريرة  قال: قال رسول الله : (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى يقول: يا ويله -وفى رواية: يا ويلى- أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلى النار).
وفيه عن جابر  قال: سمعت رسول الله  يقول: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة).
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله : (العهد الذى بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
وعن عبد الله بن شقيق العقيلى قال: "كان أصحاب محمد  لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة".
وأما الآثار فى شأنها عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم فأكثر من أن تحصر.
[خلاصة أقوال أهل العلم فى تارك الصلاة]:
[1] وقد أجمعوا على قتله كفراً إذا كان تركه للصلاة عن جحود لفرضيتها أو استكبارًا عنها وإن قال: لا إله إلا الله.
[2] وأما إن كان تركه لها لا لجحود ولا لاستكبار بل لنوع تكاسل وتهاون كما هو حال كثير من الناس فقال النووى رحمه الله تعالى فى شرح مسلم: قد اختلف العلماء فيه:
[أ] فذهب مالك والشافعى رحمهما الله تعالى والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب، فإن تاب وإلا قتلناه حداً كالزانى المحصن، ولكنه يقتل بالسيف.
[ب] وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروى عن على بن أبى.
[جـ] وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزنى صاحب الشافعى رحمهم الله تعالى إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلى.
[الركن الثالث: الزكاة]
ومما يتعلق بها على انفرادها قوله عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103]، وقوله تعالى فى وعيد مانعيها مطلقاً: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34-35].
وفى الصحيح عن أبى هريرة  قال: قال رسول الله  (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها فى نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد فيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قيل: يا رسول الله! فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدى منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها. إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحداً تطأه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أُولاها أعيد عليه أُخراها فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قيل: يا رسول الله! فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدى منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها، كلما مر عليه أُولاها رد عليه أُخراها فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) الحديث.
[حكم مانع الزكاة]
وأما حكم تاركها:
[1] فإن كان منعه إنكاراً لوجوبها فكافر بالإجماع بعد نصوص الكتاب والسنة.
[2] وإن كان مقراً بوجوبها وكانوا جماعة ولهم شوكة قاتلهم الإمام لما فى الصحيحين عن أبى هريرة  قال: لما توفى رسول الله  وكان أبو بكر  وكفر من كفر من العرب فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل) فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، ولو منعونى عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله  لقاتلتهم على منعها. قال عمر : فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبى بكر  فعرفت أنه الحق - وفى رواية - فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق.
[3] وأما إن كان الممتنع عن أداء الزكاة فرداً من الأفراد فأجمعوا على أنها تؤخذ منه قهراً.
واختلفوا من ذلك فى مسائل:
إحداها: هل يكفر أم لا؟
فقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله لا يرون من الأعمال شيئاً تركه كفر إلا الصلاة. هو قول جمهور أهل الحديث.
المسألة الثانية: هل يقتل أم لا؟
[قولان لأهل العلم]
الأول: [يقتل] وهو المشهور عن أحمد رحمه الله تعالى: ويستدل له بحديث ابن عمر رضى الله عنهما (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) الحديث.
والثانى: لا يقتل، وهو قول مالك والشافعى ورواية عن أحمد رحمهم الله تعالى.
المسألة الثالثة لمن لم ير قتله، هل ينكل بأخذ شىء من ماله مع الزكاة؟
وقد روى فى خصوص المسألة حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده  قال: قال رسول الله  (فى كل سائمة إبل فى أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنَّا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شىء) ، وعلق الشافعى القول به على ثبوته؛ فإنه قال: لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به.

[الركن الرابع: الصيام]
والرابعُ الصيامُ فاسمع واتبعْ
والخامسُ الحجُ على مَنْ يستطع

وهو فى اللغة: الإمساك.
وفى الشرع: إمساك مخصوص فى زمن مخصوص بشرائط مخصوصة.
وكان فرض صوم شهر رمضان فى السنة الثانية من الهجرة هو والزكاة قبل بدر، قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 183-185] إلى آخر الآيات، وقد تقدمت الأحاديث فيه.
وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع كفر من جحد فرضيته، وتقدم القول بقتل تاركه مع الإقرار والاعتراف بوجوبه، وقوله (فاسمع واتبع) مأخوذ من قول الله عز وجل:  فَبَشِّرْ عِبَادِي . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ [الزمر: 18].


[الركن الخامس: الحج]
قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97] قد ذكر الله تعالى تفصيله فى سورة البقرة من قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196].
واشتراط الاستطاعة فيه مصرح به فى الآية وفى حديث جبريل وفى حديث معاذ وغيرها .
ولا خلاف فى كفر من جحد فرضيته، وتقدم الخلاف فى كفر تاركه مع الإقرار بفرضيته.
ذكر أمور تدخل فى مسمى الإيمان والإسلام
من الأوامر والمناهى والأخبار
قال الله عز وجل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران: 133-136] الآيات.
وأما الأحاديث فمنها قوله : (الإيمان بضع وسبعون شعبة: فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).


انتهى الملخص من (2/661) الى (2/807)