الشيخ عبدالرحمن عيسى
04-09-2010, 11:47 AM
أفيقي
أيتها الأمة
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
حينما يقدَّر لأمة أن تـَفيق من أزمنة التخدير والسبات ، فإن التاريخ ينحو في اتجاه هذه الإفاقة ، وتـَلوي حركتـُه العِنان ، ويستدير الزمان ..
وتلك من سنة الله في الأكوان والإنسان .. فإن الله مع المستيقظين ، الباحثين عن مقعد عز ، وموطيء قدم ، في دنيا اللـُّغـوب والصراع ، والتدافع من أجل تنازع البقاء , وإحداث التغيير والتجديد , وإعادة البناء ..
وإن أمتنا الحبيبة واحدة من هذه الأمم ، التي يجب أن تنهض من كبوتها وتصحو من رقدتها ، بعد هذه الغيبوبة الحضارية التي طال أمدها ومداها .. حيث سيطر أكابر المجرمين والمجانين ، على هذا الكوكب وسكانه المنكوبين ، وصارت الذئاب البشرية المسعورة ، رعاة الأمم والغنم والقيم ، وأشبعوا دنيانا هذه : فتكاً وهتكاً ، ومصادرة لكل كرامة وآدمية وحرية , وصبغوا العالم بصبغة الدم والوحشية والـجاسوسية , ودمروا القيم الإنسانية , وفرغوا الكون من محتواه الإلهي المقدس ..
ونظرة واحدة وفاحصة إلى واقع العالم ، ترد الطرف حسيراً وخاسئاً، وتـُدمي العين والقلب : أسىً وحسرة على العباد الذين صهرتهم حضارة الحديد والنار ، والنفط والفحم الحجري ، والإباحية التي زلزلت العقول والقيم ، والأخلاقيات والمجتمعات , ودنست كل مقدس وضمير حي ..
وحيثما ذهبت في عالمنا الراهن ، فإنك واجد أكبر النـِّسب والإحصائيات للجرائم والجنايات ، التي ترتج لها السموات ، وتـُزهق الأرواح بدون حساب ، وتترك كثيراً من البشر أيتاماً وثكالى ، وصرعى البغي والتآمر ، وأشلاءَ الفتن والحروب العبثية التي لا معنى لها ، وهائمين في كل أرضٍ عَراءٍ ، وتحت كل سماء ، وباقي البشر في الأرض يصفقون ويرقصون ، على أنغام الموسيقى الصاخبة ، والأغاني الساقطة ، فوق ضحايا العار ، وجثث موتى العرض والشرف والانتحار .. ( حفلات خزي وجنس ونار ) .. تـَنعي إلينا بقايا الوجدانيات , وحياة الأطهار ..
وإن أمتنا ليست في منأى ومعزل عن كل ذلك ، وآن لها أن تستبصر وتـَفيق من سكرة الشهوات والموبقات ، والعيشِ خارج نطاق المنطق والمعقول ، والمقبول من شأفة الحياة , وقيم السلوك الإنساني ..
فيأتي هذا النداء في اليوم العصيب ، يحمل من معاني التذكير والتنبيه والإيقاظ ، ما فيه الكفاية والغَناء ، لإحداث ذكرى قد تنفع المؤمنين .. عملاً بقول الله تبارك وتعالى .. ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) ..
في البداية انقسام الأمة :
مما هو واضح لدى التأمل والنظر ، أن هذه الأمة منقسمة إلى جماهيرَ متوزعة الولاء والانتماء ، وبصورة تدعو إلى الحزن والـرِّثـاء ..
فهذه جماهيرُ لكرة القدم وأبطالها المشهورين ، ومعاركها وانتصاراتها الوهمية الغـُثائية .. ( غيبوبة وغثيان واستهلاك الإنسان ) ..
وهذه جماهير لأنواع آخرى من اللـُّعب والألاعيب ، التي لا حصر لها .. وجماهير للأغاني والمغنين والمغنيات ، من كل فن ولون !..
وجماهير للمذيعين والمذيعات وبرامج كل منهم ، وللقنوات الفضائية وما تبثه من مختلف العروض والمشاهد ، التي تستثير الفضول ، وتشد الناظرين ، وتستدرج اهتماماتهم دون جدوى .. بل إن الضرر متحقق على البصر والدماغ والوقت ، والذات والنفس ، والمشاعر والعواطف أيضاً ..
وجماهيرُ لمشايخ الطرق ، والوعاظ الدينيين المحترفين ، ولكتاب الروايات والمسرحيات ، ولمتابعة الأفلام والممثلين والممثلات والمسلسلات ..
هذا بالإضافة إلى جماهيرَ للأحزاب ، ولرجال السياسة والحكم ، وقادة المجتمع ، وكل ملتزمي الولاءات الخاصة ، في هذه الدنيا العريضة والمريضة ، التي تصطخب فيها الفتن والمصالح ، وتعبث الأيدي الخفية , كأنها أمواج البحر ، وأعاصير النار ، والعصى السحرية !..
وللظالمين جماهيرهم ، وللمفسدين في الأرض عشاقهم ، ولكل ناعق أبناء ومشجعون ، وفوق كل أرض هواة وغواة ومهووسون ، يُدفع بهم في كل طريق واتجاه ، ولا تكاد تجد من هو عُطـْلاً وسالماً من هذه الحبائل والمصائد ، والمطبات المُرْدية في مكان سحيق .. ومصرع حقيق ..
ولكل ساقطةٍ لاقطة ، ممن فقدوا عقولهم وتوازنهم ، وباعوا أنفسهم ووجودهم بثمن بخس ، أو بدون ذلك من الأوهام والترهات ، وتسويلات النفوس الأمارة بالسوء ، والأبالسة المارقين , والمنتجين للإثم والمبدعين..
كان المجتمع خاماتٍ من الطيبة الفطرية ، حتى تم تصنيعه على هذا النحْو والمنوال ، وقـُدمت له قناعات واهتمامات ، ونـُسجت له أساطير وخرافات وموبقات .. فتوزعت ولاءاته وانتساباته ، وصيرته مجرد تركة متروكة وجاهزة ، يتناهبها الطامعون ، ويتداولها الأذكياء والقادرون ، ومَنْ وراءهم من المخرجين والمخططين والمنظـِّرين ..
أمة الغـُثاء والغباء :
لقد تمكن أعداء الإسلام والأمة ، من دفع العرب والمسلمين في طريق الهبوط والسقوط ، وحياة الإفلاس والقنوط ، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها .. ( 1914 ـ 1918 م ) ..
ومنذ القديم تكونت أمة الغثاء ، التي كانت بلاء مقيماً على الصادقين من المؤمنين ، وباباً يعبر منه المستعمرون ، ويوقعون بنا أفدح الخطوب المروِّعة ، والمصائب المذهلة ، التي سجلها التاريخ بمداد الدم والدمع ، والـشـِّلـْو الممزَّع ، والرعب والإرهاب المقـنـَّع ..
وفي هذا العصر , تعاظمت هذه النوعية الخطرة ، وتفاقم أثرها المقـوِّض والمدمِّر على الدين والحق واليقين ، ووجود الصالحين والمخلصين ، والمجاهدين والمرابطين .. أعني أمة الغثاء هذه ..
إن المنافقين والمنافقات ، والانتهازيين والوصوليين ، وكبار المفسدين في الأرض ، والوالغين في حمأة الفجور والخمور ، هم الذين يُطلق عليهم : أمة الغثاء والغباء والعماء ، وهم الطريق الممهَّد والمعبَّد إلى حياة الذل والضَّعة والهوان والشقاء , ويا بؤسى الذين تقودهم أمة الغثاء ..
ومما يُلحق بأمة الغثاء هذه ، ما قد نشأت في هذا الوقت ، من ناشئة التبعية المذلـَّلة والذليلة ، لما يدندن به الساقطون من أعداء الله من لغات ومصطلحات ونظريات : سوقية وإباحية ومزاعم تقدمية ، وإشكاليات وهمية ، من الأدب المكشوف ، والفن الراقص ، والقلم التافه ، واللسان الهارف ، والإعلام الغير هادف ، وكل ما ليس مفهوماً من الشعر والنثر ..
وهذه هي البضاعة التي يسوَّق لها في سوق الإبداع الأدبي المجْني عليه ، والمشار بكل الأصابع إليه , وكلٌّ عاكف في بابه وأعتابه !..
ولا تسل بعد ذلك عن الذين يختانون أنفسهم ، ويخونون الله ورسوله والمؤمنين ، ويخونون أماناتهم ، حينما يتولون الكافرين ، ويتخذونهم أولياء وأصدقاء ، ويعاملون أبناء جلدتهم على أنهم أعداء وخصوم لهم ..
أمة الإجابة والإنابة :
وفي المقابل فإن هناك قلة قليلة ، ونسبة غير كبيرة ، لجمهور متميز عن تلك الأمة الغثاء ، يحاولون وسط هذا اللهيب والحميم ، أن يعيشوا لله تبارك وتعالى : مؤمنين به وواثقين ، وعابدين له ومعتزين ، ومتمسكين بالإسلام : عقيدة وشريعة ، واعتصاماً بحبله ، واهتداء بهديه ..
وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم : أمة الإجابة والإنابة ، وهم الذين تحرروا من ربقة العادات والتقاليد ، والهبَّات الانفعالية والسطحية ، وطريقة المائعين والمخادعين والمداهنين ، وواجهوا ضيم الحياة ، وضغوط الفاسدين بصبر وثبات ، ومقاومة ورفض لمقولات الخنوع والاستسلام ، ومنطق التسيب والهزل والضياع ، ولم يتبعوا أي مهرج وناعق وممثل ، وضليل وأثيم ، وبائعٍ لسانه وقلمه للشيطان الرجيم ..
وبطبيعة الحال ، فإن ما هو أكثر من مليار عربي ومسلم ، على ظهر هذا الكوكب ، ليسوا بمستوى واحد ، ولا يشكلون نسيجاً متناسباً ، وليسوا على قلب رجل منهم .. بل هم أوزاع وأهواء ، منهم الغادرون ومنهم الأوفياء ، ومساعيهم شتى ، وسعيهم مختلف ، ولكل مرجعية ومصدر .. وهذا كله واضح وضوح الشمس ، ولا يحتاج إلى ذكاء وفكر..
وحينما نمدح هذه الأمة ، ونعتز بها وبتاريخها المجيد ، فإنما نقصد إلى الغيارى والأحرار ، والمجاهدين والمناضلين ، والقائمين على العهد والذمة والدين ، منذ جيل الصحابة الكرام ، إلى التابعين لهم بإحسان ، على توالي الأجيال ، وتعاقب الأزمان والأحوال .. وفي هذا الزمن أيضاً ..
وفي كل عصر وفترة غثائيون كثيرون ، تـَهمهم أنفسهم ومصالحهم أكثر من أي شيء آخر ، ولا ينظرون إلى معاني العزة والشهامة ، والصمود من أجل الدين والوطن والكرامة ، وعندهم كل القيم برسم البيع ولا يمتون بصلة إلى المثل العربي القائل :( تجوع الحرة ولا تأكل بثديها ) والمنـِّية ولا الدنيـِّة ، والموت بشرف ، ولا الحياة بضيم ..
وساعة في طاعة الله ، وعزة المسلم ، خير ألف مرة من ألف سنة في انهيار وتبعية ، وانعدام هوية ، وتقمص لشخصية الظالمين ، واتباع سبيل الغاوين ، وهواة الخنا والزنا ، والتلوث الفكري والنفسي ..
وقديماً قال الشاعر العربي :
من يَهـِنْ يسهُـل الهوان عليه ما لجرحٍ بميت إيلامُ
ملحمة التآمر على الإسلام :
من داخل هذه الأمة ، تدور رحى أكبر عملية تآمر مستمر على الإسلام ، بدأت بالدوران منذ مقتل عمر وعثمان ، وهذا مستفيض ومشتهر، حيث بدأت أحداث آخر الزمن ، وأمارات الساعة ، تتشكل منذ ذلك الوقت وحتى اليوم ..والآن على الأبواب علامات الساعة الكبرى !..
وفي عهد التابعين ، أخذ الناس ينتظرون الدجال والمهديَّ ، فقد امتلأت الأرض ظلماً وجوراً وفتناً ، حسبما كانوا يتصورون ويصرحون ، قياساً على عهد النبي والصحابة ، وما أدركه التابعون من أخلاقهم وحياتهم وسيرتهم .. وبعد أن أنكسر باب الفتن الذي لم يغلق أبداً..
وهذا الزمن الذي نحن فيه ، هو زمن أكبر الفتن التي منها ما تكـوَّن الآن ، ومنها تراكمات ومخلفات القرون .. وثالثة الأثافي : فتنة المسيح الدجال ، مسيح اليهود والصهاينة المجرمين ، الذي ينتظرونه ليحكموا العالم ألف عام !.. وفي أمريكة أكبر تجمع للمهووسين بمسيح اليهود هذا ..
وعلى جسر من هذه الفتن ، عبرت جحافل الكفار والأشرار والمسيحانيين من وراء المحيطات ، تمعن في هذه الأمة : ما شاء لها من تدمير وتكفير ، وترسخ في صفوفها جذوع الفرقة والاختلاف والقطيعة ، وتوقد نيران الحرب الضروس ، وتزلزل الإيمان من النفوس ..
ولو اجتمع الكفرة من أقطار الأرض ، على أن تكون لهم الغلبة علينا لما أمكنهم ذلك ، حتى نكون نحن الذين نستدعيهم ونستعديهم ، ويقتل بعضنا بعضاً في سبيلهم ، ويكون بأسنا شديداً بيننا ، في مشهد خاص بنا من دون سائر أمم الأرض , فنحن غِربان الهدم , وفيروسات الوباء ..
ولكن ومهما يكن من أمر ، فلا يمكن إغفال الدور القذر ، الذي يؤديه ويقوم به أعداؤنا المتربصون ، عبر الطويل من التاريخ ، ويسعِّرون هذه الحرب المعلنة من داخلنا ، تمهيداً لاجتياحنا واقتحام حمانا ، واختراق حصوننا التي ما كان لهم أن يدخلوها ، لولا المرتدين والمخدوعين منا ، والمغـرَّر بهم من أبناء جلدتنا ، والمستدرَجين إلى أن يصنعوا المرتع الوخيم ، الذي دلف منه الكافرون ، يعيثون فساداً في أمر الدنيا والدين ..
وبذلك فلا يمكن تبرئة العناصر المنشقة ، والجماعات الضالة ، والفِرق المستعصية من هذه الأمة ، وما أكثرها ، من المسؤولية المباشرة لكل ما حصل ووقع حتى الآن ، من كوارث ونكبات ، تـَهد الجبال الراسيات ، وتزيل أمماً بأكملها من الوجود ، وتجعلها أثراً بعد عين !..
واقع الأمة في أكبر أزمة :
إننا حقاً – نحن هذه الأمة – في مشكلة عويصة جداً ، هي أننا نريد أن نحيا وننتصر بدون الله عز وجل ، في أضخم تعتيم إعلامي ورسمي ، وتهميشٍ متعـَّمد ، تتعرض له الحضرة الإلهية ، من خلال واقع متمرد ، ومُنفلت العِنان ، بعيداً بعيداً عن منهج الرسول والرحمن ..
في إحدى الإذاعات العربية ، أرادت المذيعة أن تقول : إن للقدس رباً يحميه ، بعد أن لم يعد في الأرض من يقدر على ذلك .. ولكن مَنْ تحاوره ، رفض هذا الكلام وقال : لا لا نحن موجودون ، ونسعى ونعمل ونحن خلفاء عن الله , ويجب أن تتضافر الجهود .. إلخ .. وهو مسؤول في منظمة إسلامية عالمية , استغفر الله ..( أمور يضحك السفهاء منها .. ) ..
المشكلة أن اللغط الإعلامي الرسمي للنظام العربي ، يوحي وكأن أقطاب هذا النظام ، دِعامة الأمر ورواد النصر ، ولا فعل للحضرة الإلهية في عملية إنقاذ الأمة ونصرة الحق الذي هم ضيعوه ، ويعتبرون لهجتنا بذكر الله في هذا السياق : غيبية مرفوضة ، ويحرمون علينا أن نؤاوي إلى ركن شديد .. فلعلهم هم هذا الركن الشديد , البديل عن الجبار سبحانه !..
وكأنهم لم يسمعوا بمقولة عبد المطلب : إن للبيت رباً يحميه .. وكيف كانت المفتاح للفتح ، والشرارة التي أوقدت أعظم مشعل للنصر ، وأودت بجيش عرمرم ومدجَّج ، في معركة الفيل والطير الأبابيل !..
بعد أن انسحب العرب وأهل مكة بالذات ، معترفين بعجزهم أمام الجيش الزاحف ، مع الأخذ بعين الاعتبار للظروف الموضوعية آنذاك ..
ولعل الذين يسقطون ذكر الله العظيم الفاعل والمؤثر ، في نطاق الحديث عما هو مطلوب للعلاج والتصدي ، والمواجهة الحقيقية ، والمقاومة الفعالة والمُجْدية ، لعلهم بذلك يطيلون أمد البلاء المحيط بهذه الأمـة ، وأرضها وعِـرضها ، ووجودها كلـه ، ويتيحون للأعـداء فرصة ما كانوا ليحلموا بها ، حينما يزعمون ما ليس لهم ، وليس في مقدورهم أصلاً أن يفعلوه ، وهو فوق طاقتهم وطاقة أهل الأرض أجمعين ..
ويا حسرة على أقطاب النظام العربي والإسلامي ، الذين هم أشد ضياعاً وضعفاً من شعوبهم المقهورة والسجينة ، التي يحكمونها بالحديد والنار ، وأساليب الاستعمار ، ولهم يكنزون الأسلحة والمعدات ، والأجهزة التي يعجز عنها الشيطان نفسه : الرائد والأمَّار !..
ولو كان هؤلاء قادرين وجديرين ، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه ، وهم ينظرون ويتبجحون ، ويطلقون الوعود الكاذبة جزافاً، كي يظلوا على العروش يجلسون ويسترخون , ويكتنزون الفعل المحرَّم ..
انتهت أمور السياسة والحرب ، إلى نقطة الحسم النهائي ، التي هي في صالح عدونا ، وليس في صالح ما نحن فيه ، من خيانة ومروق وتمزق ، وبيع لكل مقدس : بكرسي يهتز ، ومال حرام ، وشهوةٍ رجْس ، وانتماء وانتـساب للوكالات , والمرجعيات الكافرة والمعادية , التي لحسابها يعملون , وبأمرها يأتمرون ..
بوارق الأمل والنصر :
وعلى سبيل المثال يقول الله تبارك وتعالى : ( أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة ) .. في ذلك دليل وبرهان على أن ما أزف واقترب ، من خطر داهم وقائم ، ليس له من يكشفه ويحبطه وينهيه ، وينقذ المحاطين به ، إلا الله بذاته واقتداره ، وحوْله العظيم ، ومِنْ دونه ليس له كاشف ولا ناصر ولا صارف ، بعد أن أحاط العجز الفاضح بجموع القادرين والحاكمين .. وحملة الأوسمة والنياشين ..
أي إن الله سبحانه ، هو الذي يخلق النصر ويصنعه ، ويهيىء أسبابه الفاعلة ، وظروفه الماثلة ، ويُخرج الفرج من قلب الضيق ، والنور من جوف الظلمة ، واليسر من العسر ، وبقولة : كن .. تكون أليات العمل والسعي والمبادرة والنضال ، من خلال تراكمات الكدح الدؤوب ، وما دفعه ويدفعه المؤمنون بالله ، من أثمان باهظة التكاليف ، هي أنهار الدماء والدموع ، وطوفان الأهوال والأشلاء ، التي تعجز الملائكة والجان عن الإتيان بمثله ، أو قريبٍ منه ، مما دفعه بسخاء وسماحة نفس ، رجال ونساء وولدان ، وشجر وحجر ، صابرين محتسبين ومقبلين غير مدبرين .
وإذا كانت أمة الغثاء قاعدة وفاسقة ، فإن أمة الإجابة ليست كذلك حتماً ، وقد دفعت ثمن إنقاذ القدس ، والمسجد الأقصى المبارك ، ما لم يدفع العرب أقل من عُشره في سبيل الكعبة ، تجاه أبرهة وجيشه اللجـِب ..
وأين تضحيات العرب المشركين ، من تضحيات المؤمنات والمؤمنين الموحدين ، في هذا الوقت والحين .. فهل حقاً نـُعد مخطئين وغيبيين ، ولا يحق لنا أن نقول .. إن للقدس رباً يحميه ؟!..
إنها تضحيات غير مسبوقة في التاريخ..
بلى ثم بلى يحق لنا ذلك ، وإن الذين يتصورون أنفسهم ، بديلاً لفعل الله ووعده الحق ، في النصرة والكشف ، والدفاع والدفع ، لا يحق لهم أن يعتموا على ربهم القادر ، في الوقت الذي يطلون علينا من أبراجهم العاجية ، ومكاتبهم الفخمة ، وقصورهم العامرة ، وعيشتهم الرغيدة ، المفعمة بالجنات الوارفة ، وكل ما تشتهيه الأنفس الآثمة ، وما لا يخطر على بال إبليسَ اللعين : ترفاً وسرَفاً , وتنعماً رهيباً وعجيباً ..
مفارقات أغرب من الخيال :
لا ننكر أننا نعيش مفارقاتٍ غريبةَ الأطوار ، من نحو الفوارق والأبعاد التي تباعد بيننا وتفرق ، وتجعلنا يرتطم بعضنا في بعض ، في دوامة مدوخة ، من الحسد والحقد والضغينة ، لا يستفيد منها إلا أعداء الأمس واليوم ..( جماهير مسحوقة وعاطلة ، ومشحونة بما يحرق الأخضر واليابس ) عافانا الله .. ولكن ليس من يسأل من المسؤولين ..
وأخطر ما في الأمر ، أن قطاعات هائلة من هذه الأمة المنكوبة ، يمارسون حياتهم اليومية والمرحلية ، بعيداً جداً عن هموم الأمة ، وخَطبها المقـوِّض ، ومصابها الأليم ، وعيشها الذي كله : مآتم ومآسي وأحزان ..
خصوصاً على مستوى النـُّخَـب المثقفة والمسؤولة ، المليئين والمتخمين : زوراً وتزييفاً وتجبراً وظلماً ، وسُحتاً وغنى فاحشاً ، على حساب الفقراء والمحرومين والمظلومين ، والذين لا يجدون قوت يومهم ، ولا مَنْ ينصفهم من ظالميهم ، ويأخذ بأيديهم , ويرحمهم ويسعى لهم ..
فهؤلاء المستكبرون العائمون على الأمة ، لا علاقة لهم بما يجري إلا في حدود الخطب الحماسية ، والمؤتمرات الصحافية ، وتحليل السياسة ومجرياتها المذهلة ، بأسلوب مُسِفٍّ وسطحي وبارد ، وأجوفَ وميت لا روح فيه ، وهو في جملته مرتجل ومكرر ومجتر ، ومضحك ومبكي معاً.
وكم في الأمة من أناسِيَّ كثيرين ، لا يسألون الله فرجاً ، ولا يرتقبون نصراً ، لأنهم في الفرج وأعظم الفرص يعيشون ، وحوائجهم مقضية بالكامل ، وعل ضفاف هذا الواقع المتردي يستمرون ، فكيف يطلبون التغيير ، الذي إن حصل ذهب بهم ، وبدنياهم العريضة ، وكياناتهم الهشة.
إنني لا أثق بالمترفين المتمطين ، الذين يستمدون أسباب بقائهم على ما هم ، من دماء القتلى والشهداء ، ودموع الثكالى واليتامى والأرامل والبؤساء ، وبقايا الدمار والنار ، من أشلاء الرجال والنساء والصغار ..
كما أنني لا أعير أي اهتمام بمواعظ المترفين دينياً ، الذين يُـثـْرون من وراء ذوي الفقر والمسكنة والمنكوبين ، ويكنزون الذهب من الزكوات والهبات والنذور ، وأثمان الفتوى ، وبيع الدين بالدنيا ..
فحياة المفلسين : قومياً ووطنياً وإسلامياً ، حياة واهية وعنكبوتية ، وعبء علينا يزيدنا رهقا ، ويهبط بنا طبقاً وطبقاً , ويملأنا غيظاً وحنـَقاً ..
وهم بلاء إضافي على كل من يحترق قلبه : أسى وحسرة وقهراً وغيظاً ، على مآلات الأمة ، وقدسها الأسير والجريح ومسجدها الذبيح ..
الخطاب الرسمي البائس :
ومما يزيد الطينَ بِلـَّة وتشيب منه رؤوس الأجنة في بطون أمهاتها : الخطاب الرسمي البائس ، للنظام العربي اليائس ، الذي يمضي مكابراً ولا يلوي على شيء ، حاشداً كل ما لديه من ألسنة وأقلام وأبواق ومرتزقة ، للتبشير بمقولات مستهلـَكة ، مَفادها : أن هذا النظام ما جاد الزمان بمثله ، ولا بمثل رموزه ، وأنه كفيل وجدير بتحقيق ما عجزت عنه الأوائل ، وأنه المخلـِّص الوحيد ، والحريص على مصالح الأمة والشعب والقوم ، وأنه لا أخطاء ولا سلبيات ، ويتمتع بالقداسة وكل الإيجابيات ..
مفردات الخطاب الرسمي العربي : مميتة وقاتلة ، وسهامها موجهة إلى الصميم ، لتحطيم أي أمل ، وإطفاء أي بصيص للنور ، قد يبدو في آخر النفق ، الذي لا تبدو له آخرية أصلاً في سياق هذا الخطاب التعيس ..
إنه خطاب يحب أربابُه أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ، وأن تـُضفى عليهم ألقاب العظمة والجلال ، وأن ظلمهم عدل ، وكذبهم صدق ، وخيانتهم أمانة وتلفيقهم إبداع ، ودعواهم حقيقة ، وتخريبهم حضارة وبناء !..
( مهازلُ ما سمعنا بمثلها ولا قرأنا عنها في الأساطير ) ..
إن التحرر من نير هذا الخطاب ، وأنظمته الصادعة به ، هو جزء من تحرير الأمة حقاً ، واستعادة وعيها المفقود ، وزمنها الضائع ، واستنقاذ مقدساتها وحقوقها من براثن المحو والغزو والاغتيال ، وكونها تعيش في دوائر الوهم والإثم والظلم والمُحال ..
قانون مداولة الأيام :
وفي ذلك يقول الله سبحانه : ( وتلك الأيام نـُداولها بين الناس .. ) ..
وهذا القانون الإلهي الملزِم , غير قابل للتوقف ولا التعطيل , مهما تكن الظروف والوقائع , واتجاهُ الأحداث ..
وهذه المداولة , تكون في الحرب وفي السلم .. ففي الحرب : غلبة وهزيمة , وانتصار وانكسار , بين الفرقاء والخصوم والمتحاربين .. وفي السلم : هناك فرص تتيح إنشاء ملك , واستئناف حكم جديد , لقوم أو أمة أو حزب .. كما أن هناك مصائرَ تنجلي عن حكام يسقطون , ومسؤولين يجردون من السلطة والقدرة , وتنزع منهم أسباب السيادة والعزة ..
وإن أمتنا خضعت لهذا القانون , حسب معطيات صراع القوى , وتنازع المقدرات والقيم , وأن القوة للأقوى , والخذلان للأضعف ..
ومما لا شك فيه أن أمة الإجابة والإنابة , تـُحكم الآن من قبل أمة الغثاء والوهَن , والمسكنة السياسية المخجلة والفاضحة , حسبما هو ظاهر وواضح , ولا بد لهذا الوضع من تغيير , بحكم القانون الآنف الذكر ..
سيما وأن أمة الغثاء هذه , قد حكمت بما فيه الكفاية , ووصلت قِطاعات المسؤولين فيها , إلى طريق مسدود , وانهيار أخلاقي وقومي غير مسبوق ولا معهود .. وانسحب ذلك على أمة الإجابة والنضال ..
ويقول عليه الصلاة والسلام , عن مسلمين في أخر الزمن : ( ولكنكم غـُثاء كغثاء السيل .. ) ..
أمـا أمـة الإجـابة والـصبر والإيـمان والـصمـود , فـقـد عـلـمنا مدى ما تحملوه من أعباء الحرب والبلاء , التي يشنها الأعداء بلا رحمة وبلا إنسانية , وبلا قوانين حرب أصلاً .. بل بوحشية فوضوية عارمة !..
وإن ذئاباً ضارية في غنم شاردة , أرحمُ منهم , وأقلهم جرحاً وذبحاً , ولذلك لا يحق لكائن في العالم , أن يعترض على هذا التحول المرموق والمرتقب , بناء على ذلك القانون الإلهي العظيم ..
لأنه لم يأت من فراغ أولاً , وليس هو بالهدية المجانية , إلى قوم كـُسالى وخاملين , وإن نصر الله لا يتنزل على القوم الظالمين واللاهين ..
وما على أمة الغثاء , إلا أن تجري عليها أحكام قانون الله هذا , بعد أن أتيح لها ما أتيح , وكانت الأيام والأعوام في صالح أن تحكم وتسود , من وراء التاريخ , وعلى هامش الأقوياء النافذين في هذا الكوكب ..
الأيام : مداولة ودول وأدوار , وقد انتهى دور الغثائيين , في مسلسل الرعب والظلم والإثم , ومطاوعة العدو الكافر , وجاء دور من ليسوا هم كذلك , وبقية ٌمن المناضلين والصامدين , في سورية الشام , والمجاهد بشار المؤمن , وقدس الأقصى والمؤمنين , من أمة الإجابة لخاتم النبيين ..
حالة ليست بالخاصة :
والحقيقة : أن أمم الأرض , وليس أمة العروبة والإسلام فحسب , هي في وضع مأساوي لا تـُحسد عليه , بسبب أن عناصر السوء والإجرام وحثالات الأحزاب الخائبة , والمنظمات المشبوهة , هي التي تطغى على سكان المعمورة , من أمم وأقوام وشعوب , ويؤتى بالساقطين : أخلاقياً وقومياً , ليكونوا في مواقع النفوذ والتسلط على الرقاب , بالرعب والإرهاب .. وليبيعوا الشعوب في سوق النخاسة العالمية , وزواياها الخفية !..
وإن المؤمنين بأصالتهم وهويتهم , في هذه المسكونة المسجونة , مضطهدون ومَقـْصيـُّون , ومُحَرم عليهم أن تكون أية كلمة فاعلة لهم ..
فهذا بلاء عم البسيطة بأسرها , وأسقط كل الشعارات , وقـوَّض كل القيم , وفتح الطريق واسعاً أمام المفسدين في الأرض .. والضالعين في صناعة هذا الارتجاج والفوضى والجحيم , والعذاب الشديد والأليم ..
ولكن رب محمد بالمرصاد , ويداول الأيام بين الناس , وإن حقاً على الله عز وجهه وسلطانه , أن ينقذ عباده ويهديهم , كلما شردوا عنه , وضلوا سواء السبيل .. وأضلهم شياطين الإنس والجن ..
ويقول سبحانه : ( وأن علينا للهُدى ) .. ولله عاقبة الأمور جميعاً , وهو وليُّ ذلك والقادر عليه .. والحمد لله رب العالمين ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. عبد الرحمن
أيتها الأمة
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
حينما يقدَّر لأمة أن تـَفيق من أزمنة التخدير والسبات ، فإن التاريخ ينحو في اتجاه هذه الإفاقة ، وتـَلوي حركتـُه العِنان ، ويستدير الزمان ..
وتلك من سنة الله في الأكوان والإنسان .. فإن الله مع المستيقظين ، الباحثين عن مقعد عز ، وموطيء قدم ، في دنيا اللـُّغـوب والصراع ، والتدافع من أجل تنازع البقاء , وإحداث التغيير والتجديد , وإعادة البناء ..
وإن أمتنا الحبيبة واحدة من هذه الأمم ، التي يجب أن تنهض من كبوتها وتصحو من رقدتها ، بعد هذه الغيبوبة الحضارية التي طال أمدها ومداها .. حيث سيطر أكابر المجرمين والمجانين ، على هذا الكوكب وسكانه المنكوبين ، وصارت الذئاب البشرية المسعورة ، رعاة الأمم والغنم والقيم ، وأشبعوا دنيانا هذه : فتكاً وهتكاً ، ومصادرة لكل كرامة وآدمية وحرية , وصبغوا العالم بصبغة الدم والوحشية والـجاسوسية , ودمروا القيم الإنسانية , وفرغوا الكون من محتواه الإلهي المقدس ..
ونظرة واحدة وفاحصة إلى واقع العالم ، ترد الطرف حسيراً وخاسئاً، وتـُدمي العين والقلب : أسىً وحسرة على العباد الذين صهرتهم حضارة الحديد والنار ، والنفط والفحم الحجري ، والإباحية التي زلزلت العقول والقيم ، والأخلاقيات والمجتمعات , ودنست كل مقدس وضمير حي ..
وحيثما ذهبت في عالمنا الراهن ، فإنك واجد أكبر النـِّسب والإحصائيات للجرائم والجنايات ، التي ترتج لها السموات ، وتـُزهق الأرواح بدون حساب ، وتترك كثيراً من البشر أيتاماً وثكالى ، وصرعى البغي والتآمر ، وأشلاءَ الفتن والحروب العبثية التي لا معنى لها ، وهائمين في كل أرضٍ عَراءٍ ، وتحت كل سماء ، وباقي البشر في الأرض يصفقون ويرقصون ، على أنغام الموسيقى الصاخبة ، والأغاني الساقطة ، فوق ضحايا العار ، وجثث موتى العرض والشرف والانتحار .. ( حفلات خزي وجنس ونار ) .. تـَنعي إلينا بقايا الوجدانيات , وحياة الأطهار ..
وإن أمتنا ليست في منأى ومعزل عن كل ذلك ، وآن لها أن تستبصر وتـَفيق من سكرة الشهوات والموبقات ، والعيشِ خارج نطاق المنطق والمعقول ، والمقبول من شأفة الحياة , وقيم السلوك الإنساني ..
فيأتي هذا النداء في اليوم العصيب ، يحمل من معاني التذكير والتنبيه والإيقاظ ، ما فيه الكفاية والغَناء ، لإحداث ذكرى قد تنفع المؤمنين .. عملاً بقول الله تبارك وتعالى .. ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) ..
في البداية انقسام الأمة :
مما هو واضح لدى التأمل والنظر ، أن هذه الأمة منقسمة إلى جماهيرَ متوزعة الولاء والانتماء ، وبصورة تدعو إلى الحزن والـرِّثـاء ..
فهذه جماهيرُ لكرة القدم وأبطالها المشهورين ، ومعاركها وانتصاراتها الوهمية الغـُثائية .. ( غيبوبة وغثيان واستهلاك الإنسان ) ..
وهذه جماهير لأنواع آخرى من اللـُّعب والألاعيب ، التي لا حصر لها .. وجماهير للأغاني والمغنين والمغنيات ، من كل فن ولون !..
وجماهير للمذيعين والمذيعات وبرامج كل منهم ، وللقنوات الفضائية وما تبثه من مختلف العروض والمشاهد ، التي تستثير الفضول ، وتشد الناظرين ، وتستدرج اهتماماتهم دون جدوى .. بل إن الضرر متحقق على البصر والدماغ والوقت ، والذات والنفس ، والمشاعر والعواطف أيضاً ..
وجماهيرُ لمشايخ الطرق ، والوعاظ الدينيين المحترفين ، ولكتاب الروايات والمسرحيات ، ولمتابعة الأفلام والممثلين والممثلات والمسلسلات ..
هذا بالإضافة إلى جماهيرَ للأحزاب ، ولرجال السياسة والحكم ، وقادة المجتمع ، وكل ملتزمي الولاءات الخاصة ، في هذه الدنيا العريضة والمريضة ، التي تصطخب فيها الفتن والمصالح ، وتعبث الأيدي الخفية , كأنها أمواج البحر ، وأعاصير النار ، والعصى السحرية !..
وللظالمين جماهيرهم ، وللمفسدين في الأرض عشاقهم ، ولكل ناعق أبناء ومشجعون ، وفوق كل أرض هواة وغواة ومهووسون ، يُدفع بهم في كل طريق واتجاه ، ولا تكاد تجد من هو عُطـْلاً وسالماً من هذه الحبائل والمصائد ، والمطبات المُرْدية في مكان سحيق .. ومصرع حقيق ..
ولكل ساقطةٍ لاقطة ، ممن فقدوا عقولهم وتوازنهم ، وباعوا أنفسهم ووجودهم بثمن بخس ، أو بدون ذلك من الأوهام والترهات ، وتسويلات النفوس الأمارة بالسوء ، والأبالسة المارقين , والمنتجين للإثم والمبدعين..
كان المجتمع خاماتٍ من الطيبة الفطرية ، حتى تم تصنيعه على هذا النحْو والمنوال ، وقـُدمت له قناعات واهتمامات ، ونـُسجت له أساطير وخرافات وموبقات .. فتوزعت ولاءاته وانتساباته ، وصيرته مجرد تركة متروكة وجاهزة ، يتناهبها الطامعون ، ويتداولها الأذكياء والقادرون ، ومَنْ وراءهم من المخرجين والمخططين والمنظـِّرين ..
أمة الغـُثاء والغباء :
لقد تمكن أعداء الإسلام والأمة ، من دفع العرب والمسلمين في طريق الهبوط والسقوط ، وحياة الإفلاس والقنوط ، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها .. ( 1914 ـ 1918 م ) ..
ومنذ القديم تكونت أمة الغثاء ، التي كانت بلاء مقيماً على الصادقين من المؤمنين ، وباباً يعبر منه المستعمرون ، ويوقعون بنا أفدح الخطوب المروِّعة ، والمصائب المذهلة ، التي سجلها التاريخ بمداد الدم والدمع ، والـشـِّلـْو الممزَّع ، والرعب والإرهاب المقـنـَّع ..
وفي هذا العصر , تعاظمت هذه النوعية الخطرة ، وتفاقم أثرها المقـوِّض والمدمِّر على الدين والحق واليقين ، ووجود الصالحين والمخلصين ، والمجاهدين والمرابطين .. أعني أمة الغثاء هذه ..
إن المنافقين والمنافقات ، والانتهازيين والوصوليين ، وكبار المفسدين في الأرض ، والوالغين في حمأة الفجور والخمور ، هم الذين يُطلق عليهم : أمة الغثاء والغباء والعماء ، وهم الطريق الممهَّد والمعبَّد إلى حياة الذل والضَّعة والهوان والشقاء , ويا بؤسى الذين تقودهم أمة الغثاء ..
ومما يُلحق بأمة الغثاء هذه ، ما قد نشأت في هذا الوقت ، من ناشئة التبعية المذلـَّلة والذليلة ، لما يدندن به الساقطون من أعداء الله من لغات ومصطلحات ونظريات : سوقية وإباحية ومزاعم تقدمية ، وإشكاليات وهمية ، من الأدب المكشوف ، والفن الراقص ، والقلم التافه ، واللسان الهارف ، والإعلام الغير هادف ، وكل ما ليس مفهوماً من الشعر والنثر ..
وهذه هي البضاعة التي يسوَّق لها في سوق الإبداع الأدبي المجْني عليه ، والمشار بكل الأصابع إليه , وكلٌّ عاكف في بابه وأعتابه !..
ولا تسل بعد ذلك عن الذين يختانون أنفسهم ، ويخونون الله ورسوله والمؤمنين ، ويخونون أماناتهم ، حينما يتولون الكافرين ، ويتخذونهم أولياء وأصدقاء ، ويعاملون أبناء جلدتهم على أنهم أعداء وخصوم لهم ..
أمة الإجابة والإنابة :
وفي المقابل فإن هناك قلة قليلة ، ونسبة غير كبيرة ، لجمهور متميز عن تلك الأمة الغثاء ، يحاولون وسط هذا اللهيب والحميم ، أن يعيشوا لله تبارك وتعالى : مؤمنين به وواثقين ، وعابدين له ومعتزين ، ومتمسكين بالإسلام : عقيدة وشريعة ، واعتصاماً بحبله ، واهتداء بهديه ..
وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم : أمة الإجابة والإنابة ، وهم الذين تحرروا من ربقة العادات والتقاليد ، والهبَّات الانفعالية والسطحية ، وطريقة المائعين والمخادعين والمداهنين ، وواجهوا ضيم الحياة ، وضغوط الفاسدين بصبر وثبات ، ومقاومة ورفض لمقولات الخنوع والاستسلام ، ومنطق التسيب والهزل والضياع ، ولم يتبعوا أي مهرج وناعق وممثل ، وضليل وأثيم ، وبائعٍ لسانه وقلمه للشيطان الرجيم ..
وبطبيعة الحال ، فإن ما هو أكثر من مليار عربي ومسلم ، على ظهر هذا الكوكب ، ليسوا بمستوى واحد ، ولا يشكلون نسيجاً متناسباً ، وليسوا على قلب رجل منهم .. بل هم أوزاع وأهواء ، منهم الغادرون ومنهم الأوفياء ، ومساعيهم شتى ، وسعيهم مختلف ، ولكل مرجعية ومصدر .. وهذا كله واضح وضوح الشمس ، ولا يحتاج إلى ذكاء وفكر..
وحينما نمدح هذه الأمة ، ونعتز بها وبتاريخها المجيد ، فإنما نقصد إلى الغيارى والأحرار ، والمجاهدين والمناضلين ، والقائمين على العهد والذمة والدين ، منذ جيل الصحابة الكرام ، إلى التابعين لهم بإحسان ، على توالي الأجيال ، وتعاقب الأزمان والأحوال .. وفي هذا الزمن أيضاً ..
وفي كل عصر وفترة غثائيون كثيرون ، تـَهمهم أنفسهم ومصالحهم أكثر من أي شيء آخر ، ولا ينظرون إلى معاني العزة والشهامة ، والصمود من أجل الدين والوطن والكرامة ، وعندهم كل القيم برسم البيع ولا يمتون بصلة إلى المثل العربي القائل :( تجوع الحرة ولا تأكل بثديها ) والمنـِّية ولا الدنيـِّة ، والموت بشرف ، ولا الحياة بضيم ..
وساعة في طاعة الله ، وعزة المسلم ، خير ألف مرة من ألف سنة في انهيار وتبعية ، وانعدام هوية ، وتقمص لشخصية الظالمين ، واتباع سبيل الغاوين ، وهواة الخنا والزنا ، والتلوث الفكري والنفسي ..
وقديماً قال الشاعر العربي :
من يَهـِنْ يسهُـل الهوان عليه ما لجرحٍ بميت إيلامُ
ملحمة التآمر على الإسلام :
من داخل هذه الأمة ، تدور رحى أكبر عملية تآمر مستمر على الإسلام ، بدأت بالدوران منذ مقتل عمر وعثمان ، وهذا مستفيض ومشتهر، حيث بدأت أحداث آخر الزمن ، وأمارات الساعة ، تتشكل منذ ذلك الوقت وحتى اليوم ..والآن على الأبواب علامات الساعة الكبرى !..
وفي عهد التابعين ، أخذ الناس ينتظرون الدجال والمهديَّ ، فقد امتلأت الأرض ظلماً وجوراً وفتناً ، حسبما كانوا يتصورون ويصرحون ، قياساً على عهد النبي والصحابة ، وما أدركه التابعون من أخلاقهم وحياتهم وسيرتهم .. وبعد أن أنكسر باب الفتن الذي لم يغلق أبداً..
وهذا الزمن الذي نحن فيه ، هو زمن أكبر الفتن التي منها ما تكـوَّن الآن ، ومنها تراكمات ومخلفات القرون .. وثالثة الأثافي : فتنة المسيح الدجال ، مسيح اليهود والصهاينة المجرمين ، الذي ينتظرونه ليحكموا العالم ألف عام !.. وفي أمريكة أكبر تجمع للمهووسين بمسيح اليهود هذا ..
وعلى جسر من هذه الفتن ، عبرت جحافل الكفار والأشرار والمسيحانيين من وراء المحيطات ، تمعن في هذه الأمة : ما شاء لها من تدمير وتكفير ، وترسخ في صفوفها جذوع الفرقة والاختلاف والقطيعة ، وتوقد نيران الحرب الضروس ، وتزلزل الإيمان من النفوس ..
ولو اجتمع الكفرة من أقطار الأرض ، على أن تكون لهم الغلبة علينا لما أمكنهم ذلك ، حتى نكون نحن الذين نستدعيهم ونستعديهم ، ويقتل بعضنا بعضاً في سبيلهم ، ويكون بأسنا شديداً بيننا ، في مشهد خاص بنا من دون سائر أمم الأرض , فنحن غِربان الهدم , وفيروسات الوباء ..
ولكن ومهما يكن من أمر ، فلا يمكن إغفال الدور القذر ، الذي يؤديه ويقوم به أعداؤنا المتربصون ، عبر الطويل من التاريخ ، ويسعِّرون هذه الحرب المعلنة من داخلنا ، تمهيداً لاجتياحنا واقتحام حمانا ، واختراق حصوننا التي ما كان لهم أن يدخلوها ، لولا المرتدين والمخدوعين منا ، والمغـرَّر بهم من أبناء جلدتنا ، والمستدرَجين إلى أن يصنعوا المرتع الوخيم ، الذي دلف منه الكافرون ، يعيثون فساداً في أمر الدنيا والدين ..
وبذلك فلا يمكن تبرئة العناصر المنشقة ، والجماعات الضالة ، والفِرق المستعصية من هذه الأمة ، وما أكثرها ، من المسؤولية المباشرة لكل ما حصل ووقع حتى الآن ، من كوارث ونكبات ، تـَهد الجبال الراسيات ، وتزيل أمماً بأكملها من الوجود ، وتجعلها أثراً بعد عين !..
واقع الأمة في أكبر أزمة :
إننا حقاً – نحن هذه الأمة – في مشكلة عويصة جداً ، هي أننا نريد أن نحيا وننتصر بدون الله عز وجل ، في أضخم تعتيم إعلامي ورسمي ، وتهميشٍ متعـَّمد ، تتعرض له الحضرة الإلهية ، من خلال واقع متمرد ، ومُنفلت العِنان ، بعيداً بعيداً عن منهج الرسول والرحمن ..
في إحدى الإذاعات العربية ، أرادت المذيعة أن تقول : إن للقدس رباً يحميه ، بعد أن لم يعد في الأرض من يقدر على ذلك .. ولكن مَنْ تحاوره ، رفض هذا الكلام وقال : لا لا نحن موجودون ، ونسعى ونعمل ونحن خلفاء عن الله , ويجب أن تتضافر الجهود .. إلخ .. وهو مسؤول في منظمة إسلامية عالمية , استغفر الله ..( أمور يضحك السفهاء منها .. ) ..
المشكلة أن اللغط الإعلامي الرسمي للنظام العربي ، يوحي وكأن أقطاب هذا النظام ، دِعامة الأمر ورواد النصر ، ولا فعل للحضرة الإلهية في عملية إنقاذ الأمة ونصرة الحق الذي هم ضيعوه ، ويعتبرون لهجتنا بذكر الله في هذا السياق : غيبية مرفوضة ، ويحرمون علينا أن نؤاوي إلى ركن شديد .. فلعلهم هم هذا الركن الشديد , البديل عن الجبار سبحانه !..
وكأنهم لم يسمعوا بمقولة عبد المطلب : إن للبيت رباً يحميه .. وكيف كانت المفتاح للفتح ، والشرارة التي أوقدت أعظم مشعل للنصر ، وأودت بجيش عرمرم ومدجَّج ، في معركة الفيل والطير الأبابيل !..
بعد أن انسحب العرب وأهل مكة بالذات ، معترفين بعجزهم أمام الجيش الزاحف ، مع الأخذ بعين الاعتبار للظروف الموضوعية آنذاك ..
ولعل الذين يسقطون ذكر الله العظيم الفاعل والمؤثر ، في نطاق الحديث عما هو مطلوب للعلاج والتصدي ، والمواجهة الحقيقية ، والمقاومة الفعالة والمُجْدية ، لعلهم بذلك يطيلون أمد البلاء المحيط بهذه الأمـة ، وأرضها وعِـرضها ، ووجودها كلـه ، ويتيحون للأعـداء فرصة ما كانوا ليحلموا بها ، حينما يزعمون ما ليس لهم ، وليس في مقدورهم أصلاً أن يفعلوه ، وهو فوق طاقتهم وطاقة أهل الأرض أجمعين ..
ويا حسرة على أقطاب النظام العربي والإسلامي ، الذين هم أشد ضياعاً وضعفاً من شعوبهم المقهورة والسجينة ، التي يحكمونها بالحديد والنار ، وأساليب الاستعمار ، ولهم يكنزون الأسلحة والمعدات ، والأجهزة التي يعجز عنها الشيطان نفسه : الرائد والأمَّار !..
ولو كان هؤلاء قادرين وجديرين ، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه ، وهم ينظرون ويتبجحون ، ويطلقون الوعود الكاذبة جزافاً، كي يظلوا على العروش يجلسون ويسترخون , ويكتنزون الفعل المحرَّم ..
انتهت أمور السياسة والحرب ، إلى نقطة الحسم النهائي ، التي هي في صالح عدونا ، وليس في صالح ما نحن فيه ، من خيانة ومروق وتمزق ، وبيع لكل مقدس : بكرسي يهتز ، ومال حرام ، وشهوةٍ رجْس ، وانتماء وانتـساب للوكالات , والمرجعيات الكافرة والمعادية , التي لحسابها يعملون , وبأمرها يأتمرون ..
بوارق الأمل والنصر :
وعلى سبيل المثال يقول الله تبارك وتعالى : ( أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة ) .. في ذلك دليل وبرهان على أن ما أزف واقترب ، من خطر داهم وقائم ، ليس له من يكشفه ويحبطه وينهيه ، وينقذ المحاطين به ، إلا الله بذاته واقتداره ، وحوْله العظيم ، ومِنْ دونه ليس له كاشف ولا ناصر ولا صارف ، بعد أن أحاط العجز الفاضح بجموع القادرين والحاكمين .. وحملة الأوسمة والنياشين ..
أي إن الله سبحانه ، هو الذي يخلق النصر ويصنعه ، ويهيىء أسبابه الفاعلة ، وظروفه الماثلة ، ويُخرج الفرج من قلب الضيق ، والنور من جوف الظلمة ، واليسر من العسر ، وبقولة : كن .. تكون أليات العمل والسعي والمبادرة والنضال ، من خلال تراكمات الكدح الدؤوب ، وما دفعه ويدفعه المؤمنون بالله ، من أثمان باهظة التكاليف ، هي أنهار الدماء والدموع ، وطوفان الأهوال والأشلاء ، التي تعجز الملائكة والجان عن الإتيان بمثله ، أو قريبٍ منه ، مما دفعه بسخاء وسماحة نفس ، رجال ونساء وولدان ، وشجر وحجر ، صابرين محتسبين ومقبلين غير مدبرين .
وإذا كانت أمة الغثاء قاعدة وفاسقة ، فإن أمة الإجابة ليست كذلك حتماً ، وقد دفعت ثمن إنقاذ القدس ، والمسجد الأقصى المبارك ، ما لم يدفع العرب أقل من عُشره في سبيل الكعبة ، تجاه أبرهة وجيشه اللجـِب ..
وأين تضحيات العرب المشركين ، من تضحيات المؤمنات والمؤمنين الموحدين ، في هذا الوقت والحين .. فهل حقاً نـُعد مخطئين وغيبيين ، ولا يحق لنا أن نقول .. إن للقدس رباً يحميه ؟!..
إنها تضحيات غير مسبوقة في التاريخ..
بلى ثم بلى يحق لنا ذلك ، وإن الذين يتصورون أنفسهم ، بديلاً لفعل الله ووعده الحق ، في النصرة والكشف ، والدفاع والدفع ، لا يحق لهم أن يعتموا على ربهم القادر ، في الوقت الذي يطلون علينا من أبراجهم العاجية ، ومكاتبهم الفخمة ، وقصورهم العامرة ، وعيشتهم الرغيدة ، المفعمة بالجنات الوارفة ، وكل ما تشتهيه الأنفس الآثمة ، وما لا يخطر على بال إبليسَ اللعين : ترفاً وسرَفاً , وتنعماً رهيباً وعجيباً ..
مفارقات أغرب من الخيال :
لا ننكر أننا نعيش مفارقاتٍ غريبةَ الأطوار ، من نحو الفوارق والأبعاد التي تباعد بيننا وتفرق ، وتجعلنا يرتطم بعضنا في بعض ، في دوامة مدوخة ، من الحسد والحقد والضغينة ، لا يستفيد منها إلا أعداء الأمس واليوم ..( جماهير مسحوقة وعاطلة ، ومشحونة بما يحرق الأخضر واليابس ) عافانا الله .. ولكن ليس من يسأل من المسؤولين ..
وأخطر ما في الأمر ، أن قطاعات هائلة من هذه الأمة المنكوبة ، يمارسون حياتهم اليومية والمرحلية ، بعيداً جداً عن هموم الأمة ، وخَطبها المقـوِّض ، ومصابها الأليم ، وعيشها الذي كله : مآتم ومآسي وأحزان ..
خصوصاً على مستوى النـُّخَـب المثقفة والمسؤولة ، المليئين والمتخمين : زوراً وتزييفاً وتجبراً وظلماً ، وسُحتاً وغنى فاحشاً ، على حساب الفقراء والمحرومين والمظلومين ، والذين لا يجدون قوت يومهم ، ولا مَنْ ينصفهم من ظالميهم ، ويأخذ بأيديهم , ويرحمهم ويسعى لهم ..
فهؤلاء المستكبرون العائمون على الأمة ، لا علاقة لهم بما يجري إلا في حدود الخطب الحماسية ، والمؤتمرات الصحافية ، وتحليل السياسة ومجرياتها المذهلة ، بأسلوب مُسِفٍّ وسطحي وبارد ، وأجوفَ وميت لا روح فيه ، وهو في جملته مرتجل ومكرر ومجتر ، ومضحك ومبكي معاً.
وكم في الأمة من أناسِيَّ كثيرين ، لا يسألون الله فرجاً ، ولا يرتقبون نصراً ، لأنهم في الفرج وأعظم الفرص يعيشون ، وحوائجهم مقضية بالكامل ، وعل ضفاف هذا الواقع المتردي يستمرون ، فكيف يطلبون التغيير ، الذي إن حصل ذهب بهم ، وبدنياهم العريضة ، وكياناتهم الهشة.
إنني لا أثق بالمترفين المتمطين ، الذين يستمدون أسباب بقائهم على ما هم ، من دماء القتلى والشهداء ، ودموع الثكالى واليتامى والأرامل والبؤساء ، وبقايا الدمار والنار ، من أشلاء الرجال والنساء والصغار ..
كما أنني لا أعير أي اهتمام بمواعظ المترفين دينياً ، الذين يُـثـْرون من وراء ذوي الفقر والمسكنة والمنكوبين ، ويكنزون الذهب من الزكوات والهبات والنذور ، وأثمان الفتوى ، وبيع الدين بالدنيا ..
فحياة المفلسين : قومياً ووطنياً وإسلامياً ، حياة واهية وعنكبوتية ، وعبء علينا يزيدنا رهقا ، ويهبط بنا طبقاً وطبقاً , ويملأنا غيظاً وحنـَقاً ..
وهم بلاء إضافي على كل من يحترق قلبه : أسى وحسرة وقهراً وغيظاً ، على مآلات الأمة ، وقدسها الأسير والجريح ومسجدها الذبيح ..
الخطاب الرسمي البائس :
ومما يزيد الطينَ بِلـَّة وتشيب منه رؤوس الأجنة في بطون أمهاتها : الخطاب الرسمي البائس ، للنظام العربي اليائس ، الذي يمضي مكابراً ولا يلوي على شيء ، حاشداً كل ما لديه من ألسنة وأقلام وأبواق ومرتزقة ، للتبشير بمقولات مستهلـَكة ، مَفادها : أن هذا النظام ما جاد الزمان بمثله ، ولا بمثل رموزه ، وأنه كفيل وجدير بتحقيق ما عجزت عنه الأوائل ، وأنه المخلـِّص الوحيد ، والحريص على مصالح الأمة والشعب والقوم ، وأنه لا أخطاء ولا سلبيات ، ويتمتع بالقداسة وكل الإيجابيات ..
مفردات الخطاب الرسمي العربي : مميتة وقاتلة ، وسهامها موجهة إلى الصميم ، لتحطيم أي أمل ، وإطفاء أي بصيص للنور ، قد يبدو في آخر النفق ، الذي لا تبدو له آخرية أصلاً في سياق هذا الخطاب التعيس ..
إنه خطاب يحب أربابُه أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ، وأن تـُضفى عليهم ألقاب العظمة والجلال ، وأن ظلمهم عدل ، وكذبهم صدق ، وخيانتهم أمانة وتلفيقهم إبداع ، ودعواهم حقيقة ، وتخريبهم حضارة وبناء !..
( مهازلُ ما سمعنا بمثلها ولا قرأنا عنها في الأساطير ) ..
إن التحرر من نير هذا الخطاب ، وأنظمته الصادعة به ، هو جزء من تحرير الأمة حقاً ، واستعادة وعيها المفقود ، وزمنها الضائع ، واستنقاذ مقدساتها وحقوقها من براثن المحو والغزو والاغتيال ، وكونها تعيش في دوائر الوهم والإثم والظلم والمُحال ..
قانون مداولة الأيام :
وفي ذلك يقول الله سبحانه : ( وتلك الأيام نـُداولها بين الناس .. ) ..
وهذا القانون الإلهي الملزِم , غير قابل للتوقف ولا التعطيل , مهما تكن الظروف والوقائع , واتجاهُ الأحداث ..
وهذه المداولة , تكون في الحرب وفي السلم .. ففي الحرب : غلبة وهزيمة , وانتصار وانكسار , بين الفرقاء والخصوم والمتحاربين .. وفي السلم : هناك فرص تتيح إنشاء ملك , واستئناف حكم جديد , لقوم أو أمة أو حزب .. كما أن هناك مصائرَ تنجلي عن حكام يسقطون , ومسؤولين يجردون من السلطة والقدرة , وتنزع منهم أسباب السيادة والعزة ..
وإن أمتنا خضعت لهذا القانون , حسب معطيات صراع القوى , وتنازع المقدرات والقيم , وأن القوة للأقوى , والخذلان للأضعف ..
ومما لا شك فيه أن أمة الإجابة والإنابة , تـُحكم الآن من قبل أمة الغثاء والوهَن , والمسكنة السياسية المخجلة والفاضحة , حسبما هو ظاهر وواضح , ولا بد لهذا الوضع من تغيير , بحكم القانون الآنف الذكر ..
سيما وأن أمة الغثاء هذه , قد حكمت بما فيه الكفاية , ووصلت قِطاعات المسؤولين فيها , إلى طريق مسدود , وانهيار أخلاقي وقومي غير مسبوق ولا معهود .. وانسحب ذلك على أمة الإجابة والنضال ..
ويقول عليه الصلاة والسلام , عن مسلمين في أخر الزمن : ( ولكنكم غـُثاء كغثاء السيل .. ) ..
أمـا أمـة الإجـابة والـصبر والإيـمان والـصمـود , فـقـد عـلـمنا مدى ما تحملوه من أعباء الحرب والبلاء , التي يشنها الأعداء بلا رحمة وبلا إنسانية , وبلا قوانين حرب أصلاً .. بل بوحشية فوضوية عارمة !..
وإن ذئاباً ضارية في غنم شاردة , أرحمُ منهم , وأقلهم جرحاً وذبحاً , ولذلك لا يحق لكائن في العالم , أن يعترض على هذا التحول المرموق والمرتقب , بناء على ذلك القانون الإلهي العظيم ..
لأنه لم يأت من فراغ أولاً , وليس هو بالهدية المجانية , إلى قوم كـُسالى وخاملين , وإن نصر الله لا يتنزل على القوم الظالمين واللاهين ..
وما على أمة الغثاء , إلا أن تجري عليها أحكام قانون الله هذا , بعد أن أتيح لها ما أتيح , وكانت الأيام والأعوام في صالح أن تحكم وتسود , من وراء التاريخ , وعلى هامش الأقوياء النافذين في هذا الكوكب ..
الأيام : مداولة ودول وأدوار , وقد انتهى دور الغثائيين , في مسلسل الرعب والظلم والإثم , ومطاوعة العدو الكافر , وجاء دور من ليسوا هم كذلك , وبقية ٌمن المناضلين والصامدين , في سورية الشام , والمجاهد بشار المؤمن , وقدس الأقصى والمؤمنين , من أمة الإجابة لخاتم النبيين ..
حالة ليست بالخاصة :
والحقيقة : أن أمم الأرض , وليس أمة العروبة والإسلام فحسب , هي في وضع مأساوي لا تـُحسد عليه , بسبب أن عناصر السوء والإجرام وحثالات الأحزاب الخائبة , والمنظمات المشبوهة , هي التي تطغى على سكان المعمورة , من أمم وأقوام وشعوب , ويؤتى بالساقطين : أخلاقياً وقومياً , ليكونوا في مواقع النفوذ والتسلط على الرقاب , بالرعب والإرهاب .. وليبيعوا الشعوب في سوق النخاسة العالمية , وزواياها الخفية !..
وإن المؤمنين بأصالتهم وهويتهم , في هذه المسكونة المسجونة , مضطهدون ومَقـْصيـُّون , ومُحَرم عليهم أن تكون أية كلمة فاعلة لهم ..
فهذا بلاء عم البسيطة بأسرها , وأسقط كل الشعارات , وقـوَّض كل القيم , وفتح الطريق واسعاً أمام المفسدين في الأرض .. والضالعين في صناعة هذا الارتجاج والفوضى والجحيم , والعذاب الشديد والأليم ..
ولكن رب محمد بالمرصاد , ويداول الأيام بين الناس , وإن حقاً على الله عز وجهه وسلطانه , أن ينقذ عباده ويهديهم , كلما شردوا عنه , وضلوا سواء السبيل .. وأضلهم شياطين الإنس والجن ..
ويقول سبحانه : ( وأن علينا للهُدى ) .. ولله عاقبة الأمور جميعاً , وهو وليُّ ذلك والقادر عليه .. والحمد لله رب العالمين ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. عبد الرحمن