أبو صلاح الدين
07-07-2005, 02:24 PM
غــزو معــاقـل التـكـفــيــر
تأليف
أبو صلاح الدين
حقوق التأليف والطبع والنشر والتوزيع محفوظة
أرجوا منك أخي القارئ بعد قراءتك لهذا البحث(وأرجوا أن تحمله من الملف المرفق باخر هذا المقال) أن تتحفني بتعليقاتك عليه, وكذلك إن كان في استطاعتك - ولا يكلف الله نفسل إلا وسعها - أن تعرض هذا المقال على المشايخ الكرام, وأهل العلم لنحصل منهم على التعليقات والردود والاستدراكات والتأييدات ...إلخ, لأني أنوي إن شاء الله أن أوسع هذا البحث ليشمل كل الوجوه, وذلك بتحر تام واستقراء لكل الشبهات واستنباط ما أقدر على استنباطه وجمعه من الأدلة... وأنا الان بصدد عرضه على عدد من علماء وشيوخ مصر الأجلاء لنفس الغرض. وقد عرضته الان على بعض أساتذة الشريعة بجامعة القاهرة ومدرس لأصول الدين بمكة المكرمة, وهما بصدد التعليق عليه.., وقد جاءني الرد من بعضهم والحمد لله.
أشكرك أخي القارئ على حسن تعاونك.., ولا تنسى.. (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..)
وأشكرك على كل حال أو جواب, فيكفيني سماحتك وأخوتك في الله.
إهداء إلى:
1- كل مخالف لأهل السنة والجماعة في قضية التكفير.
2- كل مسلم باحث عن الحق والحقيقة بعيدا عن إرجاف المرجفين وشذوذات المتنطعين.
أرجوا من كل الإخوة تحميل هذا البحث المتواضع وقراءته بتأن وتؤدة شديدين, ثم إتحافنا بتعليقاتهم ردا أو تأييدا, استدراكا أو تأكيدا, تعليقا أو تبيينا ...
تنبيه: لم أضم إلى هذا البحث تفسير ايات التكفير لأني بصدد كتابتها وإعدادها الان, وفيه قواصم ظهر للمخالفين بكل ما في الكلمة من معنى - وذلك بفضل من الله وفتح -. وكذلك لم أضم تخريجي لأثر ابن عباس - كفر دون كفر - لأني بصدد إعداده أيضا. يسر الله الإتمام.
غــزو معــاقـل التـكـفــيــر
المقدمة
أولا وقبل أن أبدأ أحب أن أقرر هنا ما انتهى إليه هذا البحث ليكون القارئ على بينة من أمره : من لم يحكم بما أنزل الله إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كفر أكبر وظلم أكبر وفسق أكبر يخرج من الملة ، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم يعتبر كافراً كفراً أصغر وفاسقاً فسقاً أصغر لا يخرجه من الملة. فلا يكفر من حكم بغير ما أنزل الله إلاَّ إذا استحلَّ الحكم بالقوانين الوضعية أو جحد وجوب الحكم بالشريعة الإسلامية. فالحكم بغير ما أنزل الله من الكفر العملي ، والكفر العملي لا يخرج من الملَّة ولا أحد يقول إنَّ الكفر العملي لا يخرج من الملَّة بإطلاق إلاَّ من طمست بصيرته ؛ ولم يحرَّر مسائل الكفر والإيمان ، فمنه ما يخرج من الملَّة بالكلية ، سواء كان معتقداً أم غير معتقد ، مستحلاً أم غير مستحل ، كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وإلقائه في القاذورات والاستهزاء بالله وآياته ورسله . ومنه ما لا يخرج من الملَّة إلاَّ إذا كان مستحلاً ، كقتال المسلم ، وإتيان الحائض ، وغشيان المرأة في دبرها ، ونحو ذلك مما سماه الشارع كفراً ، ولم يرد به الكفر الـمُخْرِج من الملة.
ولقد شغب الخصم ليثبت فرقاً بين القضايا المعينة والتشريع العام ، وليبطل ما أجمع عليه السلف ، وأهل السنة من أن مناط الحكم بالكفر على مرتكب الكبيرة – ومن ذلك الحكم بغير ما أنزل الله – هو الاستحلال.
ولا يفوتني التأكيد على أمر مهم, وهو أن الكتاب ليس قُرباناً لحكام المسلمين !! ولست أبتغي به مرضاتهم!! فوالذي نفسي بيده ليس هذا مقصدي؛ بل إنني أرمي لما هو أسمى من ذلك؛ ألا وهو نصرة المعتقد الحقّ؛ معتقدِ أهل السنة والجماعة في تلك المسائل، والتي أساء لها البعض بإيراداتهم وشبهاتهم. ومعاذ الله أن أكون قد كتبتُ ما كتبتُ محاباةً أو مجاملةً أو استماتةً في الدفاع عن الحكام ! بل الباعث على تأليف هذا الكتاب هو حمايةُ أصولِ أهل السنة والجماعة : من هجمات المُغرضين, وعُقولِ المسلمينَ من الفكر الضالّ بجميع صوره.
العناصر التي سأتكلم عنها:
1- حول آيات التكفير باختصار... نفيس جدا ومهم ومفيد
2- حول قول الله عز وجل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
3- متى يكفر الحاكم بغير ما أنزل الله؟
4- أقسام الأعمال المكفرة0
5- تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم.
6- حول حقيقة الإجماعات التي يدعيها المخالف وعكسها على صاحبها ورد الاعتراضات على إجماع أهل السنة.
1- حول آيات التكفير باختصار... نفيس جدا ومهم ومفيد
آية الحكم بغير ما أنزل الله لا يخفاكم أن المقصود بالكفر فيها الكفر الأصغر,كما قال أهل السنة والجماعة(كما سترى في هذا البحث إن شاء الله).
إلا أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يوصل صاحبه إلى الكفر الأكبر المخرج من الملة إذا كان جاحداً أو مستحلا, أو مستهزئا أو ما شابه ذلك كما قرر أهل السنة والجماعة.
فإذا فعله مستحلاً له أو ما شابه ذلك خرج بذلك من الملة والعياذ بالله. وصور الاستحلال ظلمات بعضها فوق بعض فأدناها أن يرى جواز الحكم بغير ما أنزل الله.
يدل على ذلك سبب نزول الآية فقد جاء عند مسلم (كتاب الحدود) ما يبين حال من نزلت فيهم الذين قالوا " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ", إليك الحديث:
عن البراء بن عازب قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم.. الحديث.
فتأمل قولهم((نعم)), فقد جعلوه ديناً كباقي الشرائع المنصوص عليها في كتابهم ، وبهذا النص وغيره تفهم معنى التبديل الذي أراده العلماء ويظهر لك ضابط الحكم بالخروج من الملة لمن حكم بغير ما أنزل الله. فإن حكم إنسان بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر ، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين.
قال الإمام الحافظ إسماعيل بن اسحاق القاضي المتوفى سنة (282هـ) في آيات الحكم بغير ما أنزل الله –" فمن فعل مثل ما فعلوا ( أي اليهود ) واقترح حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره ".
إليك -ثانية- نص الحديث من صحيح مسلم كاملا فاصلا قاطعا: جعلت تعليقاتي على متن الحديث بين أقواس هكذا (( )) :
(1700) قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة. كلاهما عن أبي معاوية. قال يحيى: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عبدالله بن مرة، عن البراء بن عازب. قال:
مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما (( أي مسود الوجه، من الحممة، الفحمة)) مجلودا. فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقا "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قالوا: نعم(( تنبه أخي القارئ إلى هذه الكلمة جيدا)). فدعا رجلا من علمائهم. فقال "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. فكنا، إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع. فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم(( أي أنهم بدلوا التوراة وحرفوها وغيروا الأحكام الموجودة فيها بتبديلها, فحذفوا حكم الله من التوراة, ووضعوا مكانه ما شرعوا هم بأهوائهم..,فتأمل)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه". فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر. إلى قوله: إن أوتيتم هذا فخذوه} [5 /المائدة /41] يقول(( أي العالم اليهودي الذي سبق ذكره في أول الحديث)): ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا(( كلمة "فاحذروا" واضحة كل الوضوح لكل ذي عينين في أنهم يسخطون على حكم الله ويأنفون منه, بل يفضلون حكم أهوائهم على حكم الله, وهذا هو الكفر بعينه كما يقول أهل السنة والجماعة )). فأنزل الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة /44]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون [المائدة /45]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون [المائدة /47]. في الكفار كلها.
رواه مسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي وغيرهم. وهو حديث صحيح جدا صححه مسلم والوادعي(الصحيح المسند ص95), وهو كما قالا.
وشذ وكيع بن الجراح, فرواه عن الأعمش بدون "فأنزل الله...إلخ" ؛ لأنه قد خالف أبا معاوية, وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي.. أحفظ الناس لحديث الأعمش, وهو أحفظ مائة مرة لحديث الأعمش عن وكيع – مع اعترافنا بإمامة وكيع وجلالته- وإليك الدليل:
1- قال أيوب بن إسحاق بن سافري سألت أحمد ويحيى عن أبي معاوية وجرير قالا أبو معاوية أحب إلينا يعنيان في الأعمش.
2- قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول كان أبو معاوية إذا سئل عن أحاديث الأعمش يقول قد صار حديث الأعمش في فمي علقما أو هو أمر من العلقم لكثرة ما يردد عليه حديث الأعمش.
3- قال معاوية بن صالح سألت يحيى بن معين من أثبت أصحاب الأعمش قال بعد سفيان وشعبة أبو معاوية الضرير وقال عثمان بن سعيد الدارمي سألت يحيى بن معين أبو معاوية أحب إليك في الأعمش أو وكيع فقال أبو معاوية أعلم به.
4- قال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: " قال لنا وكيع من تلزمون قلنا نلزم أبا معاوية قال أما إنه كان يعد علينا في حياة الأعمش ألفا وسبع مائة فقلت لأبي معاوية إن وكيعا قال كذا وكذا فقال صدق.."
5- قال عباس الدوري: قال يحيى(أي بن معين): كان عند وكيع عن الأعمش ثماني مائة. قلت ليحيى: كان أبو معاوية أحسنهم حديثا عن الأعمش. قال: كانت الأحاديث الكبار العالية عنده.
6- قال أبو زرعة الدمشقي سمعت أبا نعيم يقول لزم أبو معاوية الأعمش عشرين سنة.
7- قال إبراهيم الحربي قال لي الوكيعي ما أدركنا أحدا كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبي معاوية.
انظر كل هذه النقول في ترجمة أبو معاوية في تهذيب الكمال. وبهذا تعلم أنه مقدم على وكيع في الأعمش؛ لقوته فيه, ولطول الملازمة.
فتأمل –أخي القارئ- جيدا في الحديث, وما علقت أنا عليه. هداني الله وإياك إلى ما فيه الصواب. والحمد لله أولا واخرا.
2- حول قول الله عز وجل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
إن قول الحق تبارك وتعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيه عمومان اثنان:
فالأول منهما: (من) التي تشمل -بعمومها- كل حاكمٍ بغير ما أنزل الله، فلا تقتصر على القاضي أو ولي الأمر الأكبر أو نائبه فقط؛ بل يدخل في هذا العموم كلُّ أحدٍ حكم بغير ما أنزل الله حتى الأب بين أولاده. لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكل من حكم بين اثنين فهو قاض سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام) مجموع الفتاوى 18/170 , فكل من انتصب للقضاء بين الناس فهو حاكم ولا يشترط أن يكون في دار قضاء ، فتأمل هذا المعني جيدا.
لذلك هذه الآيات تعم الإمام الأكبر ، وتعم القاضي ، والمحتسب ، والمعلم ، والعامل ، والزوجة …وهكذا ، وأيضاً هي تعم جميع أحكام الله تعالى ، فكل حكم أنزله الله تعالى في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الفرائض والواجبات أو الحدود …. ؛ مما علم في الدين بالضرورة ، أو ما ثبت من الشرع ، وبان بياناً واضحاً لا إشكال فيه ولا شبهة ، صغيراً كان أو كبيراً داخل في هذه الآية . فأكل الربا ، و الزنا ، و شرب الخمر، ووطأ الحائض حال حيضها .لذلك لما فهم السلف رضي الله عنهم ذلك على هذا الوجه جعلوا الكفر في الآية كفر دون كفر,كما أنهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يستدلوا بهذه الآية على تكفير حكام المسلمين الكفر الأكبر بدون تفصيل ؛ لأنهم لو فعلوا ذلك للزمهم أن يكفروا كل صاحب كبيرة ، حيث إن من زنا فقد حكم بغير ما أنزل الله ، ومن شرب الخمر متعمداً فقد حكم بغير ما أنزل الله …وهكذا . ولذلك فالأصل في الآية هو كفر دون كفر إلا أن هناك صورة تلحق صاحبها بالكفر الأكبر ؛ ما إذا حكم الشخص بغير ما أنزل الله مستحلاً لذلك أو جاحداً به أومكذباً له أومعانداً أو شاكاً أو منافقاً أو غير ذلك من أسباب الكفر و تحققت فيه شروط التكفير ، وانتفت عنه موانعه.
سنا نقول هذا تهويناً من شأن الحكم بما أنزل الله , بل نحن نعلم يقيناً أن الحاكمين والمحكومين والمتحاكمين إلى القانون اللعين الذي هو بئس القرين قد أتوا شيئاً إداً ؛ تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا,و أن هذا الفعل أشد عند الله من القتل والزنى والسرقة وشرب الخمر والربا وجميع الموبقات والمهلكات عدا الشرك بالله. ونحن لا نكتب ما نكتب إلا ردّاً لغلو الغالين ، وتكفير المكفرين ؛ الذين فتحوا الباب مشرعاً –بأفعالهم وأقوالهم – لكل أعداء الدين ومناوئيه ؛ ليصفوا الإسلام بالتطرف ، والمسلمين بالإرهاب … من غير تمييز ، وبلا تفصيل .. فكانوا – بسوء صنيعهم – سداً منيعاً في وجه الدعوة الحقة للإسلام الحق ، وسبباً كبيراً للضغط على المسلمين واستنزاف مقدراتهم ، وشل قواهم, فالله يصلحهم ، ويسدد دربهم.
فلا يهولنك أيها السني السلفي ما تسمعه من إطلاق لفظ مرجئ على من قال ذلك ؛ فهو قول السلف قاطبة, وقد ذكر العلامة أبو الفضل السكسكي الحنبلي رحمه الله تعالى:" أن طائفة المنصورية – وهم مبتدعة ضلال – نبزوا أهل السنة بالإرجاء ، لكونهم لا يكفرون تارك الصلاة إذا لم يجحدها !! زاعمين أن هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل" (البرهان في عقائد أهل الإيمان ص69)
والثاني من العمومين: أن (ما) التي تشمل –بعمومها أيضاً- كل حكمٍ لله تعالى، فلا تقتصر فقط على الأمور القضائية ولا الخصومات.
فإن نظرتَ لهذا التقرير المأخوذ من عمومِيْ الآية علمتَ -إن وفّقتَ للعلم- أن هذا يشمل كلّ عاصٍ لله تعالى بأيّ معصيةٍ دقّت أو جلّت, استمر عليها طيلة حياته أو لم يستمر, جعلها مبدأ له طيلة حياته(مع اعترافه بحرمة ما يفعله) أو لم يجعلها؛ فالزاني –مثلاً- حقيقة أمره أنه قد حكّم هواه بدلاً من أن ُيحكِّم ما أنزل الله في شأن نفسه، وكذلك الحالق لحيته والجائر بين أولاده والكاذب متعمدا وشارب الخمر.. فإنهم قد حكّموا الهوى بدلاً من تحكيم شرع الله تعالى في شأن اللحية والعدل في التعامل مع الأولاد واجتناب الزنا والخمر والكذب.
ولأجل هذه اللوازم الفاسدة التي مآلها التكفير بالذنب جاءت نصوصُ العلماء حاسمةً للمسألة مبيِّنةً للفهم الصحيح للآية من أنها ليست على ظاهرها هذا: (وإليك كلامهم كاملا بنصه وحروفه, ليكون هذا الكتاب الذي بين يديك جامعا مستغنيا عن غيره, ولتعلم تواتر ذلك في الأمة تواترا مطلقا):
1- فقد فسر السلف رضي الله عنهم قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " بأنه كفر دون كفر أو كفر لا يخرج من الملة . قال ابن القيم في كتاب الصلاة وحكم تاركها " وهذا قول الصحابة جميعاً "
2- يقول ابن جرير الطبري "جامع البيان" (6/166( : "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟! قيل : إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، هو بالله كافر؛ كما قال ابن عباس".
3- يقول ابن بطة العكبري "الإبانة" (2/723): "باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة"، وذكر ضمن هذا الباب: الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة".
4- يقول ابن الجوزي "زاد المسير" (2/366): وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله؛ كما فعلت اليهود؛ فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود؛ فهو ظالم فاسق، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ أنه قال: من جحد ما أنزل الله؛ فقد كفر، ومن أقرّبه؛ ولم يحكمم به؛ فهو ظالم فاسق".
5- يقول ابن العربي "أحكام القرآن" (2/624): " وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين". (انظر لزاما معنى التبديل في العنصر الرابع من هذا البحث)
5- يقول القرطبي "المفهم" (5/117): "وقوله ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يحتج بظاهره من يكفر بالذنوب، وهم الخوارج!، ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى، كما جاء في الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب النزول.
وقال أيضا "المفهم" ( 5/118 ) "ومقصود هذا البحث ، أنَّ هذه الآيات – آيات المائدة – المراد بها :
أهل الكفر والعناد ، وأنها وإن كانت ألفاظها عامة ، فقد خرج منها المسلمون ؛ لأنَّ ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك ، وقد قال تعالى : إن الله لا يَغْفِرُ أن يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ] النساء:48[ ، وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق ، فيجوز أن يغفر ، والكفر لا يغفر ، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفراً".
6- قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (3/267) في تفسير قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة 44): " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " أ.هـ
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مناهج السنة ( 5/131 ) :
" وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله " يعني من غير جحود .
وقال أيضا (7/312) : ( وإن كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق ، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر ؛ ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة ، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قالوا : كفر لا ينقل عن الملة . وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة .اهـ
ويقول أيضا في منهاج السنة ( 5/130 ) : " فهؤلاء ذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله ، فلم يلتزموا ذلك ، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار ، وإلا كانوا جهالاً ، والحكم بما أنزل الله واجب " .
7- يقول ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" (2/61): ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً.
8- يقول الشاطبي "الموافقات" (4/39): "هذه الآية والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم –وإن ارتكب كبيرة- لا يقال له: كافر".
9- يقول ابن حجر العسقلاني "فتح الباري" (13/120): "إن الآيات، وإن كان سببها أهل الكتاب، لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة: أن مرتكب المعصية لا يسمى: كافراً، ولا يسمى – أيضاً – ظالماً؛ لأن الظلم قد فُسر بالشرك، بقيت الصفة الثالثة"؛ يعني الفسق.
10- يقول الجصاص في أحكام القرآن : ( 2/534 ) : " وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود " .
11- يقول أبو المظفر السمعاني في تفسيره ( 2/42 ) : " واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ، ويقولن : " من لم يحكم بما انزل الله فهو كافر ، وأهل السنة قالوا لا يكفر بترك الحكم " .
12- يقول ابن عبد البر كما في التمهيد (5/74) في صدد الكلام على الكبائر" وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( الظالمون ) و ( الفاسقون ) نزلت في أهل الكتاب . قال حذيفة و ابن عباس : وهي عامة فينا ، قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "
ويقول أيضا في التمهيد ( 17/16 ) : " وقد ضلت جماعة من أهل البدع في الخوارج والمعتزلة فاحتجوا ... من كتاب الله تعالى بآيات ليست على ظاهرها ، مثل قوله ـ عز وجل ـ ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) .
13- ونسب القول بظاهر الآية إلى الخوارج أيضاً الإمام الحافظ أبو بكر الآجري المتوفى سنة ( 360 هـ ) في كتاب الشريعة ( 27 ) وأبو يعلى الحنبلي في مسائل الإيمان : ( 340 ) وأبو حيان في تفسيره ( 3/493 ) وغيرهم .
14- وقال أبو حيان الأندلسي -رحمه الله- (البحر المحيط3/493(
"واحتجّت الخوارج بهذه الآية على أن كل من عصى الله تعالى فهو كافر، وقالوا: هي نصٌّ في كل من حكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كافر "
15- وتأمل ما رواه الخطيب -رحمه الله- (تأريخه10/183، ترجمة الخليفة المأمون، ترجمة رقم5330(
"أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن بن الحسن بن المنذر المحتسب، أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدّل، أخبرنا أبو بكر بن دريد، أخبرنا الحسن بن خضر قال: سمعت ابن أبي دؤاد يقول: أُدخل رجلٌ من الخوارج على المأمون، فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آيةٌ في كتاب الله تعالى. قال: وما هي؟ قال: قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقال له المأمون: ألكَ عِلمٌ بأنها مُنزَلة؟ قال: نعم، قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيتَ بإجماعهم في التنزيل فارضَ بإجماعهم في التأويل، قال: صدقتَ، السلام عليك يا أمير المؤمنين."
أقول: قد استجاب هذا( الخارجي ) ورجع إلى الحق .. فهلا رجع إلى الحق – أيضاً – أولئك الحدثاء المحدثون ، المتأثرون بالخوارج المبهورون بآرائهم السالكون نهجهم, النّاسجون على منوالهم..!! هذا ما نرجوه ونأمله من الله جل وعلا, قال تعالى( فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( القصص 50
وقال تعالى:( إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) النور51
16- يقول فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان ( 7/162): (( فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه: "وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أَحَدا ", وفي قراءة ابن عامر من السبعة "وَلاَ تُشْركْ فيِ حُكمِهِ أَحَدا " بصيغة النهي، وقال في الإشراك به في عبادته : فَمَن كَانَ يَرجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أَحَدا "، فالأمران سواء.
ثم قيد الشيخ ما أطلقه ، فقال بعد ذلك مباشرة : ((وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به – بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه- كفرٌ بواح لا نزاع فيه )) . اهـ
وقال بعض المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة: " ذكر الشيخ الشنقيطي رحمه الله أن الإشراك في العبادة والإشراك في الحكم لهما نفس الحكم ، ولا فرق بينهما حيث قال في أضوائه: (( والإشراك بالله في حكمه، والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله ، وتشريعاً غير تشريع الله ، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن، ولا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله )) وغزاه في الحاشية إلى أضواء البيان ( 7/162) " اهـ.
أقول: ولقد رجعت إلى الموضع الذي عزا إليه في أضواء البيان، ذلك أني لا أثق في كل متعجل في التكفير مسارع إليه، فألفيت الآتي :
(( فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أَحَداً وفي قراءة ابن عامر من السبعة وَلاَ تُشْركْ فيِ حُكمِهِ أَحَداً بصيغة النهي ، وقال في الإشراك به في عبادته : فَمَن كَانَ يَرجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أَحَداً ، فالأمران سواء .
ثم قيد الشيخ ما أطلقه ، فقال بعد ذلك مباشرة : ((وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل،والعمل به – بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه- كفرٌ بواح لا نزاع فيه )) . اهـ
فهذا القول من الشيخ ، لماذا يعرض عنه الخصم ، وهو كائن في الصفحة نفسها ؟
الإجابة أوضح من أن نوضح، ذلك أن هذا القول يؤيد أن العمل بالتشريعات الوضيعة من غير ما اعتقاد أو استحلال ليس بكفر يخرج من الملة الإسلامية، فمن الذي يبتر النصوص وبغفل بعضها ؟!!
وأضيف: يقول الشنقيطي: "وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والارض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض؛ كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك. ".... فتأمل: "كدعوى أن تفضيل.." ففيه ضرب لمثال, و تفصيل بعد إجمال.
17- يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار : ( 6/406 ) : " أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين ، بل لم يقل به أحد قط " .
18- وهذا هو الذي اتفق عليه الأعلام الألباني(انظر: فتنة التكفير له), و...
19- ومحمد بن عبد العزيز بن باز, وقد تلقاه- أي كتاب فتنة التكفير- علماء الأمة بالقبول والاستحسان ، ورأوا أنه يوافق ما استفاض عن علماء أهل السنة سلفاً وخلفاً في كتب التفسير والعقيدة وغيرها ، كما رأوا أنه يطفئ فتنة تفكير الحكام وما يترتب عليها من خروج على الأنظمة القائمة بالثورات والانقلابات . وصدرت عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية فتوى رقم ( 5226 ) ، وفتوى رقم ( 5741), تؤكد ما جاء عن الشيخين ـ رحمة الله عليهما ـ وجاء في آخرهما : " إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كفر أكبر ، وظلم أ:بر ، وفسق أكبر يخرج عن الملة ، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر ، وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم … " .
ورد في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء :
السؤال (11) من الفتوى رقم 5741
س : من لم يحكم بما أنزل الله هل هو مسلم أم كافر كفرا أكبر وتقبل منه أعماله .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد :
جـ : قال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزا فهو كفر أكبر وظلم أكبر وفسق أكبر يخرج من الملة ، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم يعتبر كافرا كفرا أصغر وظالما ظلما أصغر وفاسقا فسقا أصغر لا يخرجه من الملة كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ................. نائب رئيس اللجنة .................. الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
وقال ابن باز - رحمه الله - عندما سئل عن حكم من حكم بغير ما أنزل الله : قال : من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أنواع :
1- من قال أنا أحكم بهذا لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية فهو كافر كفرا أكبر .
2- ومن قال أنا أحكم بهذا لأنه مثل الشريعة الإسلامية ، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز ، فهو كافر كفرا أكبر .
3- ومن قال أنا أحكم بهذا ، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز . فهو كافر كفرا أكبر .
4- ومن قال أنا أحكم بهذا وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز ويقول الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل ولا يجوز الحكم بغيرها ولكنه متساهل أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفرا أصغر لا يخرج من الملة ويعتبر من أكبر الكبائر .) من كتيب قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال ص72 .
واستمع أخي القارئ إلى شريط: "الدمعة البازية" الذي تضمن تسجيلاً لمجلس علمي راود فيه مجموعة من الدعاة ذائعي الصيت الإمام ابن باز في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؛ ليقول بالتكفير المطلق بدون تفصيل، فكانوا يحاورنه فيه محاورة شديدة تشبه المحاصرة وأُتي الشيخ من بين ويديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فكان –رحمه الله- ثابتاً راسخاً كالطود الأشم لا يتزعزع ولا يجزع ولا يلين ولا يأبه لما قالوه أو نطقوا به، فكان يؤكد بأن الحكم بغير ما أنزل الله: لو بدل، أو وضع القوانين العامة لا يكفر، ما لم يكن ثمّت استحلال ظاهر معين، وكان يقول: "وخلاف هذا مذهب المبتدعة الخوارج". فرحمه الله رحمة واسعة. إليك نص ما دار-فهذا نادر جدا- في الشريط, مما يتعلق بموضوعنا..., تنبيه: أولا: إذا كتبت ست نقاط هكذا (……) فمعناه أن هناك كلاما لم أسمعه أو لم أفهمه ، ومن باب عدم التقول على العلماء فإني بعد هذه النقاط أضع قوسين هكذا [ ] وأكتب داخل القوسين الكلمة أو الكلمات التي أظنها ، وإن لم تتضح الكلمة أو الكلمات فإني أبين ذلك .
ثانيا: إذا كتبت ثلاث نقاط هكذا (…) فهذا يعني أنه حدثت مقاطعة لكلام الشيخ الذي أنقل عنه، وأبدأ النقل عن الشيخ الآخر الذي قطع كلام الأول..., إليك الحوار:
الحوار: كان النقاش حول حكم تارك الصلاة ، فقال الشيخ ابن جبرين: في التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". كفر دون كفر .
فقال الشيخ ابن باز: إذا لم يستحله، يعني حكم بالرشوة أو على عدوه أو لصديقه يكون كفرا دون كفر، أما إذا استحل الحكم، إذا استحل ترك الشرع يكون كافرا، إذا استحله كفر، لكن لو حكم بالرشوة ما يكون كافرا كفرا أكبر، يكون كفرا دون كفر، مثل ما قال ابن عباس ومجاهد وغيره .
قال أحد الحاضرين : هو الإشكال الكبير في هذا المقام ـ عفا الله عنك ـ مسألة تبديل الأحكام الشرعية بقوانين …
فقاطعه الشيخ ابن باز بقوله: هذا محل البحث إذا فعلها مستحلا …
فقاطعه السائل نفسه بقوله : وقد يدعي أنه غير مستحل ؟
فقال ابن باز -رحمه الله- : إذا فعلها مستحلا لها يكفر وإذا فعلها لتأويل لإرضاء قومه أو لكذا وكذا يكون كفرا دون كفر، ولكن يجب على المسلمين قتاله إذا كان عندهم قوة حتى يلتزم، من غير دين الله بالزكاة أو غيرها يقاتل حتى يلتزم .
فقال السائل نفسه : بدل الحدود ، بدل حد الزنا وكذا وكذا .
فقال ابن باز: يعني ما أقام الحدود، عزره بدل القتل عزره .
فقال ابن جبرين: أو الحبس .
فقال ابن باز : أو الحبس .
وقال السائل: وضع مواد ـ عفا الله عنك ـ .
الأصل عدم الكفر حتى يستحل ، يكون عاصيا وأتى كبيرة ويستحق العقاب ، كفر دون كفر حتى يستحل .
فقال السائل : حتى يستحل ؟!! الاستحلال في قلبه ماندري عنه ؟
فقال ابن باز: هذا هو ، إذا ادعى ذلك ، إذا ادعى أنه يستحله .
فقال ابن جبرين: إذا أباح الزنا برضى الطرفين …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا : كذلك هذا كفر .
فأكمل الشيخ ابن جبرين كلامه بقوله : المرأة حرة في نفسها فلها أن تبذل نفسها ؟
فقال ابن باز : إذا أحلوا ذلك بالرضا فهو كفر .
فقال سلمان العودة: لو حكم ـ حفظكم الله ـ بشريعة منسوخة كـاليهودية مثلا ، وفرضها على الناس وجعلها قانونا عاما وعاقب من رفضه بالسجن والقتل والتطريد وما أشبه ذلك ؟
فقال الشيخ ابن باز: ينسبه إلى الشرع ولا لا ـ يعني أو لا ـ ؟
فقال الشيخ سلمان العودة: حكم بها من غير أن يتكلم بذلك ، جعلها يعني بديل ؟
فقال الشيخ ابن باز: أما إذا نسبها إلى الشرع فيكون كفرا .
فقال الشيخ سلمان : كفرا أكبر أو أصغر ؟
فقال الشيخ ابن باز: أكبر ، إذا نسبها إلى الشريعة ، أما إذا مانسبها إلى الشريعة ، بس مجرد قانون وضعه ، لا ، مثل الذي يجلد الناس بغير الحكم الشرعي ، يجلد الناس لهواه أو يقتلهم لهواه ، قد يقتل بعض الناس لهواه وغلبه .
فقال سلمان: ما يفرق ـ حفظكم الله ـ بين الحالة الخاصة في نازلة أو قضية معينة وبين كونه يضعه قانونا عاما للناس كلهم ؟
فقال ابن باز: أما إذا كان نسبه إلى الشرع يكفر وأما إذا ما نسبه إلى الشرع ، يرى أنه قانونا يصلح بين الناس ما هو بشرعي ما هو عن الله ولا عن رسوله يكون جريمة ولكن لا يكون كفرا أكبر فيما أعتقد .
فقال سلمان العودة: ابن كثير ـ فضيلة الشيخ ـ نقل في البداية والنهاية الإجماع على كفره كفرا أكبر .
فقال ابن باز : لعله إذا نسبه إلى الشرع
فقال الشيخ سلمان: لا، قال من حكم بغير شريعة الله من الشرائع المنزلة المنسوخة فهو كافر فكيف من حكم بغير ذلك من أراء البشر لاشك أنه مرتد …
فقال ابن باز : ولو ، ولو ، ابن كثير ماهو معصوم ، يحتاج تأمل ، قد يغلط هو وغيره، وما أكثر من يحكي الإجماع .
فقال الشيخ ابن جبرين: هم يجعلونه بدل الشرع ، ويقولون هو أحسن وأولى بالناس ، وأنسب لهم من الأحكام الشرعية .
فقال الشيخ ابن باز : هذا كفر مستقل ، إذا قال إن هذا الشيء أحسن من الشرع أو مثل الشرع أو جائز الحكم بغير ماأنزل الله يكون كفرا أكبر .
فقال أحد الحاضرين : الذين يكفرون النظام ويقولون : لا يكفر الأشخاص ، يعني يفرقون في أطروحاتهم ، يقولون : النظام كافر لكن مانكفر الأشخاص ؟
فقال الشيخ ابن باز : إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر ولو هو شخص ، يعين ، يكفر بنفسه ، يقال فلان كافر إذا استحل الحكم بغير ماأنزل الله أو استحل الزنا يكفر بعينه ، مثل ماهو كفر ، مثل ماكفر الصحابة بأعيانهم الناس الذين تركوا . مسيلمة يكفر بعينه ، طليحة قبل أن يتوب يكفر بعينه ، وهكذا من استهزأ بالدين يكفر بعينه ، كل من وجد منه نافض يكفر بعينه ، أما القتل شيء آخر ، يعني القتل يحتاج استتابة .
فقال أحد الحضور : لكن إذا نسبه إلى الشرع ألا يحكم بأنه من الكذابين ؟
فقال الشيخ ابن باز : من الكذابين .
فقال السائل : لكن دون الكفر .
فقال الشيخ ابن باز : إي نعم
[ ثم سؤال من نفس السائل غير واضح ، وهو عن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ].
وكذلك جواب الشيخ ابن باز غير واضح ، وأنقل لكم ماسمعته وما لم أعرفه تركته ، والذي سمعته كالتالي : …… أما إذا قال : لا ، أنا أقول إنه مثل الشرع أو أحسن من الشرع فهو كفر ، أما إذا كان رأى بدعة فأهل البدعة معروف حكمهم .
فقال الشيخ عائض القرني: طيب يا شيخ بعضهم يقول : إن عمر ترك الحدود في المجاعة عام الرمادة ؟
فقال ابن باز: هذا اجتهاد له وجه ، لأنه قد يضطر الإنسان إلى أخذ الشيء سرقة للضرورة .
فقال سلمان العودة : ـ حفظكم الله ـ الدليل على كون الكفر المذكور في القرآن أصغر ( فأولئك هم الكافرون ) أقول ماهو الصارف مع أنها جاءت بصيغة الحصر ؟
فقال ابن باز : هو محمول على الاستحلال على الأصح، وإن حمل على غير الاستحلال فمثل ما قال ابن عباس يحمل على كفر دون كفر، وإلا فالأصل هم الكافرون.
فقال أحد المناقشين: ما فيه دليل ابن عباس، ما فيه أنه ما ستحل …… [ ثم كلام غير واضح من السائل ].
فتدخل سلمان قائلا: نعم يعني ما الذي جعلنا نصرف النص عن ظاهره ؟
فقال ابن باز : لأنه مستحل له، وذلك في الكفار الذين حكموا بغير ما أنزل الله، حكموا بحل الميتة، حكموا بأشباهه، أما لو حكم زيد أو عمر برشوة نقول كفر ؟!! ما يكفر بهذا، أو حكم بقتل زيد بغير حق لهواه ما يكفر بذلك .
ثم قال ابن باز بعد سكوت يسير: على القاعدة، التحليل والتحريم له شأن، مثل الزاني هل يكفر ؟
فقال الشيخ سلمان: ما يكفر .
فقال الشيخ ابن باز: وإذا قال حلال ؟
فقال الشيخ سلمان: يكفر .
فقال ابن باز: هذا هو .
فقال سلمان وآخر معه في نفس الوقت قالا: يكفر ولو لم يزني .
فقال الشيخ ابن باز: ولو مازنا .
فقال الشيخ سلمان: نرجع سماحة الوالد للنص ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) فعلق الحكم بترك الحكم ؟
فقال ابن باز: الحكم بما أنزل الله يعني مستحلا له ، يحمل على هذا .
فقال سلمان العودة: القيد هذا من أين جاء ؟
فقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- : من الأدلة الأخرى الدالة عليه، التي دلت أن المعاصي لا يكفر صاحبها، إذا لم يستحل ما صار كافرا .
ثم سؤال من شخص آخر ـ لم أعرفه ـ والسؤال غير واضح ، فقال ابن باز:
فاسق وظالم وكافر هذا إذا كان مستحلا له أو يرى أنه ماهو مناسب أو يرى الحكم بغيره أولى، المقصود أنه محمول على المستحل أو الذي يرى بعد ذا أنه فوق الاستحلال يراه أحسن من حكم الله، أما إذا كان حكم بغير ما أنزل الله لهواه يكون عاصيا مثل من زنا لهواه لا لاستحلال، عق والديه للهوى، قتل للهوى يكون عاصيا، أما إذا قتل مستحلا، عصى والديه مستحلا لعوقهما، زنا مستحلا: كفر، وبهذا نخرج عن الخوارج، نباين الخوارج يكون بيننا وبين الخوارج حينئذ متسع ولا- بتشديد اللام بمعنى أو- وقعنا فيما وقعت فيه الخوارج، وهو الذي شبه على الخوارج هذا، الإطلاقات هذه .
فقال سلمان: يعني المسألة قد تكون مشكلة عند كثير من الأخوان فلا بأس لو أخذنا بعض الوقت .
فقال ابن باز: لا ، مهمة مهمة ، عظيمة .
فقال سلمان: ذكرتم مسألة تكفير العاصي وفاعل الكبيرة، هذا ليس موضع خلاف. فقال الشيخ ابن باز: لا, ما هي المسألة مسألة الخوارج، هو علة الخوارج، الاطلاقات هذه, تركوا المقيدات وأخذوا المطلقات وكفروا الناس، وقال فيهم النبي يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه .
فقال سلمان: الزاني والسارق سماحة الشيخ …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا: هم كفار عند الخوارج .
فقال سلمان: عند الخوارج ، لكن أهل السنة متفقون على أن هؤلاء عصاة .
فقال الشيخ ابن باز: ما لم يستحلوا .
فأكمل الشيخ سلمان كلامه بقوله: لا يخرجون من الإسلام …
فكرر الشيخ قوله: ما لم يستحلوا .
فقال سلمان: ما لم يستحلوا نعم. إنما هو يرون أن هناك فرقا بين من يفعل المعصية فنحكم بأنه مسلم فاسق أو ناقص الإيمان، وبين من يجعل المعصية قانونا ملزما للناس، لأنه ـ يقولون ـ لا يتصور من كونه أبعد الشريعة مثلا وأقصاها وجعل بدلها قانونا ملزما ـ ولو قال إنه لا يستحله ـ لا يتصور إلا أنه إما أنه يستحله أو يرى أنه أفضل للناس أو ما أشبه ذلك، وأنه يفارق الذي حكم في قضية خاصة لقرابة أو لرشوة ؟
فقال الشيخ ابن باز: بس قاعدة، قاعدة: لا زم الحكم ليس بحكم، لا زم الحكم ليس بحكم، قد يقال في الذي حكم لهواه أو لقريبه: أنه مستحل يلزمه ذلك وليش يسأل، ما هو بلازم الحكم حكم، هذا فيما بينه وبين الله، أما بينه وبين الناس يجب على المسلمين إذا كان دولة مسلمة قوية تستطيع أن تقاتل هذا، ليش ما يحكم بما أنزل الله، يقاتل قتال المرتدين إذا دافع، مثل ما يقاتل مانعي الزكاة إذا دافع عنها وقاتل يقاتل قتال المرتدين، لأن دفاعه عن الحكم بغير ما أنزل الله مثل دفاعه عن الزكاة وعدم إخراج الزكاة، بل أكبر وأعظم، يكون كافرا، صرح به الشيخ تقي الدين ـ رحمه الله ـ في هذا، قال قتاله يكون قتال المرتدين لا قتال العصاة إذا دافعوا عن باطلهم، ذكره رحمه الله في، أظن كتاب السياسة، لا، ما هو في السياسة، غير هذا ، قال عنه فتح المجيد أظنه في باب …
فتدخل سلمان قائلا : في الفتاوى في كلامه في التتر .
فقال الشيخ ابن باز: يمكن في التتر، ذكر هذا رحمه الله أن قتالهم ليس مثل قتال العصاة بل قتال المرتدين، لأن دفاعهم عن المعصية مثل دفاع مانعي الزكاة في عهد الصديق سواء سواء .
فقال الشيخ سلمان: حفظكم الله ـ الآن بالنسبة لمانع الزكاة إذا قاتل عليها قلنا إنه يقاتل قتال كفر …
فقاطعة الشيخ ابن باز بقوله: لا شك، لا شك. فأكمل الشيخ سلمان كلامه: لأن امتناعه، امتناعه وقتاله على ذلك …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا: هو …… [ كلمة لم أعرفها ] دفاع من يحكم بغير ما أنزل …
فأكمل الشيخ سلمان كلامه بقوله: دليل على جحده للوجوب …
فقال الشيخ ابن باز مقاطعا سلمان: إذا دافع عن الحكم بغير ما أنزل الله وقال ما أرجع فهو دفاع المستحل، يكون كافرا .
فقال أحد الحضور: هؤلاء مقطوع بأنهم سيستميتون …
فقال الشيخ ابن باز: إذا وقع ، إذا وقع كفروا ، إذا وقع قيل لهم أحكموا بما أنزل الله وإلا قاتلناكم وأبوا يكفرون ، هذا الظن فيهم.
فقال السائل نفسه: هذا الظن فيهم .
فقال الشيخ ابن باز: لا شك، الظن فيهم هو هذا ، لكن بس الحكم بغير الظن ، والظن في حكام مصر وغيرها ـ الله لا يبلانا ـ هو الظن فيهم الشر والكفر ، لكن بس يتورع الإنسان عن قوله كافر ، إلا إذا عرف أنه استحله ، نسأل الله العافية .
ثم قال الشيخ ابن باز : ما أدري عندك أسئلة ولا خلاص .
فقال الشيخ الطريري : نحن ننتظر الأذن لنا .
فقال ابن باز : لا بأس . ثم قال : البحث هذا ما يمنع البحث الآخر ، البحث هذا ، كل واحد يجتهد في البحث ، قد يجد ما يطمئن له قلبه ، لأنها مسائل خطيرة ، ماهي بسهلة مسائل مهمة .
فقال الشيخ سلمان : ترون أن هذه المسألة ـ سماحتكم ـ يعني اجتهادية ؟
فقال الشيخ ابن باز : والله أنا هذا الذي اعتقده من النصوص يعني من كلام أهل العلم فيما يتعلق في الفرق بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة ، خصوصا الخوارج ، أن فعل المعصية ليس بكفر إلا إذا استحله أو دافع عن دونها بالقتال .
فقال أحد الحضور : ـ سماحة الشيخ ـ أقول أحسن الله إليكم ـ إذا كوتبوا وطولبوا بالشريعة فلم يرجعوا يحكم بكفرهم ؟
فقال الشيخ ابن باز : إذا قاتلوا بس ، أما إذا ماقاتلوا دونها لا .
فقال السائل : إذا طولبوا بهذا .
فقال ابن باز : إذا طلبت زيدا فقلت له زك فعيا يزكي [ يعني رفض يزكي ] عليك …… [ كلمة لم أعرفها والظاهر أنها بمعنى الإلزام ] بالزكاة ولو بالضرب ، أما إذا قاتل دونها يكفر .
فقال السائل : لكن الذي سيطالب ضعيف وقد يقاتل .
فقال ابن باز : ولو ، مايكفر إلا بهذا ، مادام أنه مجرد منع يعزر ، وتؤخذ منه مع القدرة ، ومع عدم القدرة يقاتل إن كان للدولة القدرة على القتال تقاتله .
فقال السائل : لا ، من طلب بالحكم بشرع الله فأبى ؟
فقال ابن باز : يقاتل ، فإن قاتل كفر ، وإن لم يقاتل لم يكفر يكون حكمه حكم العصاة .
فقال الشيخ ابن جبرين : من الذي يقاتله ؟
فقال ابن باز : الدولة المسلمة .
فقال أحد الحضور : وإذا مافيه دولة مسلمة ؟
فقال ابن باز : يبقى على حاله بينه وبين الله .
فقال الشيخ ابن جبرين : بعض الدول متساهلين .
فقال الشيخ ابن باز : الله المستعان .
فقال الشيخ سلمان : سماحة الشيخ ـ الشيخ محمد ـ الله يرحمه ـ ابن إبراهيم في رسالته ذكر أن الدول التي تحكم بالقانون دول كفرية يجب الهجرة منها .
فقال الشيخ ابن باز : لظهور الشر لظهور الكفر والمعاصي .
فقال الشيخ سلمان : الذين يحكمون بالقانون .
فقال الشيخ ابن باز : شفت رسالته ـ الله يغفر له ـ بل يرى ظاهرهم الكفر ، لأن وضعهم للقوانين دليل على رضى واستحلال ، هذا ظاهر رسالته ـ رحمه الله ـ ، لكن أنا عندي فيها توقف ، أنه ما يكفي هذا حتى يعرف أنه استحله ، أما مجرد أنه حكم بغير ما أنزل الله أو أمر بذلك ما يكفر بذلك مثل الذي أمر بالحكم على فلان أو قتل فلان ما يكفر بذلك حتى يستحله ، الحجاج بن يوسف ما يكفر بذلك ولو قتل ما قتل حتى يستحل ، لأن لهم شبهة ، وعبد الملك بن مروان ، ومعاوية وغيرهم ، مايكفرون بهذا لعدم الاستحلال ، وقتل النفوس أعظم من الزنا وأعظم من الحكم بالرشوة .
فقال أحدهم : مجرد وجود الإنسان في بلاد كفر لا يلزمه الهجرة …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا : الهجرة فيها تفصيل ، من أظهر دينه ما يلزمه ، أو عجز مايلزمه إلا المستضعفين .
فقال الشيخ ابن جبرين : فيه آثار عن الإمام أحمد يكفر من يقول بخلق القرآن .
فقال الشيخ ابن باز : هذا معروف ، أهل السنة يكفرون من قال بخلق القرآن … الخ هذه المناقشة حول خلق القرآن وتكفير القائل به ، والتي بها ختم الشريط. ولله الحمد والمنة.
20- وابن عثيمين, وعندما سُئل في شريط "التحرير في مسألة التكفير" بتاريخ (22/4/1420) عن مسألتنا هذه: "... أما في ما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كما في كتابه العزيز، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كفر، وظلم، وفسق، على حسب الأسباب التي بُني عليها هذا الحكم، فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعاً لهواه مع علمه أن بأن الحق فيما قضى الله به ؛ فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم، وأما إذا كان يشرع حكماً عاماً تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة وقد لبس عليه فيه فلا يكفر أيضاً، لأن كثيراً من الحكام عندهم جهل بعلم الشريعة ويتصل بمن لا يعرف الحكم الشرعي، وهم يرونه عالماً كبيراً، فيحصل بذلك مخالفة، وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستوراً يمشي الناس عليه؛ نعتقد أنه ظالم في ذلك وللحق الذي جاء في الكتاب والسنة أننا لا نستطيع أن نكفر هذا، وإنما نكفر من يرى أن الحكم بغير ما أنزل الله أولى أن يكون الناس عليه، أو مثل حكم الله عز وجل فإن هذا كافر لأنه يكذب بقول الله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ وقوله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾".
وإليك هذا الحوار المهم والنادر:
مكالمة مباشرة من ثوار الجزائر- من مواقعهم على رؤوس الجبال- مع ابن عثيمين بتاريخ: 1 رمضان 1420هـ :
السائل: شيخنا! سؤال عقائدي في قضية الفرق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي في مسألة الحكم بغير أنزل الله؟
الشيخ: يعني مثلاً من ترك الصلاة فهو كافر، من سجد لصنم فهو كافر، من قال إنَّ مع الله خالقاً فهو كافر، وهذا كفر عملي وأمَّا الكفر الاعتقادي ففي القلب.
السائل: شيخنا! الكفر العملي هل يُخرج من الملة ؟
الشيخ: بعضه مخرجٌ وبعضه غير مخرج، كقتال المؤمن، فقد قال النَّبِيُّ : ( قتاله كُفْرٌ ) ومع ذلك لا يخرج من المِلَّة مَن قاتل أخاه المؤمن بدليل آية الحجرات: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا قال: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
السائل: متى يُصبح الكفر العملي كفراً اعتقاديًّا شيخنا ؟
الشيخ: إذا سجد لصنم، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، إلاَّ أن يكون مكرهاً.
السائل: وفي قضية الحكم بغير ما أنزل الله ؟
الشيخ: هذا باب واسع، هذا باب واسع، قد يحكم بغير ما أنزل الله عدواناً وظلماً، مع اعترافه بأنَّ حكم الله هو الحق، فهذا لا يكفر كفراً مخرجاً عن الملة، وقد يحكم بغير ما أنزل الله تشهيًّا ومحاباة لنفسه، أو لقريبه، لا لقصد ظلم المحكوم عليه ... ولا لكراهة حكم الله، فهذا لا يخرج عن الملة، إنَّما هو فاسق.
وقد يحكم بغير ما أنزل الله كارهاً لِحُكم الله، فهذا كافرٌ كفراً مُخرجاً عن الملَّة، وقد يحكم بغير ما أنزل الله طالباً موافقة حكم الله، لكنَّه أخطأ في فهمه، فهذا لا يكفر، بل ولا يأثم لقول النَّبِيِّ : (( إذا حكم الحاكمُ فاجتهدَ فأخطأ فله أجرٌ واحد، وإن أصاب فله أجران ) انتهى نص الحوار, والحمد لله.
ويدعي الكثير من المكفرين أن فضيلة الشيخ ابن عثيمين يكفر حكام المسلمين الآن, وردا عليهم أنقل هذه الفتوى الصريحة في كشف تدليس التكفيريين :
يسأل أبو الحسن مصطفى ابن إسماعيل السليماني من مأرب باليمن في يوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وأربعمائة وعشرين من الهجرة, فيقول:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, سؤالي حول مسألة كثر فيها النزاع بين طلبة العلم وكثر بها أيضا الاستدلال ببعض الكلمات لفضيلة الوالد العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى .
فضيلة الشيخ سلمكم الله ، هنا كثير من طلبة العلم يدندنون حول الحاكم الذي يأتي بشريعة مخالفة لشريعة الله عز وجل يأمر الناس بها ويلزمهم بها وقد يعاقب المخالف عليها ويكافئ أو يجازي بالخير وبالعطاء الملتزم بها. وهذه الشريعة في كتاب الله وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام تعتبر مخالفة و مصادمة لنصوص الكتاب والسنة. هذه الشريعة إذا الزم هذا الحاكم بها الناس مع أنه يعترف أن حكم الله هو الحق وما دونه هو الباطل وأن الحق ما جاء في الكتاب والسنة ولكنه لشبهة أو لشهوة جرى إلزام الناس بهذه الشريعة .
كما وقع مثل ذلك كثيرا في بني أمية وفي بني العباس وفي أمراء الجور الذين ألزموا الناس بأمور لا تخفى على مثلكم بل لا تخفى على كثير من الناس عندما ألزموا الناس بما لا يرضي الله عز وجل كالأمور الوراثية وجعلوا الملك عاضا بينهم كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم وقربوا شرار الناس وأبعدوا خيارهم وكان من يوافقهم على ما هم فيه من الباطل قربوه ومن يأمرهم وينهاهم ربما حاربوه إلى آخره ... فلوا أن الحاكم في هذا الزمان فعل مثل هذه الشريعة هل يكون كافرا بهذه الشريعة إذا ألزم الناس بها مع اعترافه أن هذا مخالف للكتاب والسنة وأن الحق في الكتاب والسنة ، هل يكون بمجرد فعله هذا كافرا أم لا بد أن ينظر إلى اعتقاده بهذه المسالة؟ كمن مثلاً يلزم الناس بالربا وكمن يفتح البنوك الربوية في بلاده ، و يأخذ من البنك الدولي كما يقولون قروضاً ربوية ، ويحاول أن يؤقلم اقتصادها على مثل هذا الشيء ، ولو سألته قال : الربا حرام ولا يجوز, لكن يعتذر باعتذارات.. قد تكون الاعتذارات مقبولة وقد لا تكون. فهل يكفر بمثل ذلك أم لا ؟ ومع العلم أن كثيراً من الشباب ينقلون عن فضيلتكم أنكم تقولون أن من فعل ذلك يكون كافراً. ونحن نلاحظ في بلاد الدنيا كلها أن هذا شيء موجود بين مقل و مستكثر نسأل الله العفو والعافية .
نريد من فضيلتكم الجواب على ذلك عسى أن ينفع الله سبحانه وتعالى به طلاب العلم وينفع الله عز وجل به الدعاة إلى الله عز وجل لأنه لا يخفى عليكم أن الخلاف كم يؤثر في صفوف الدعوة إلى الله عز وجل ، والله سبحانه وتعالى المسؤول أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال .
جواب الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله : (( الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله و أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد : ففي هذا اليوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول عام عشرين وأربعمائة وألف استمعت إلى شريط مسجل باسم أخينا أبى الحسن في مأرب ابتدأه بالسلام علي فأقول عليك السلام ورحمة الله وبركاته .
وما ذكره من جهة التكفير فهي مسألة كبيرة عظيمة ، و لا ينبغي إطلاق القول فيها إلا مع طالب علم يفهم و يعرف الكلمات بمعانيها ويعرف العواقب التي تترتب على القول بالتكفير أو عدمه. أما عامة الناس فإن إطلاق القول بالتكفير أو عدمه في مثل هذه الأمور تحصل منه مفاسد. والذي أرى أولاً أن لا يشتغل الشباب في هذه المسألة وهل الحاكم كافر أو غير كافر وهل يجوز أن نخرج عليه أو لا يجوز.
على الشباب أن يهتموا بعباداتهم التي أوجبها الله عليهم أو ندبهم إليها ، و أن يتركوا ما نهاهم الله عنه كراهة أو تحريماً ، وأن يحرصوا على التآلف بينهم و الاتفاق ، و أن يعلموا أن الخلاف في مسائل الدين والعلم قد جرى في عهد الصحابة رضي الله عنهم و لكنه لم يؤد إلى الفرقة و إنما القلوب واحدة والمنهج واحد .
أما فيما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله فهو كما في الكتاب العزيز ينقسم إلى ثلاثة أقسام كفر وظلم وفسق على حسب الأسباب التي بني عليها هذا الحكم :
1- فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعاً لهواه مع علمه بأن الحق فيما قضى الله به فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم .
2- و أما إذا كان يشرع حكماً عاماً تمشي عليه الأمة ويرى أن ذلك من المصلحة وقد لُبّس عليه فيه فلا يكفر أيضاً لأن كثيراً من الحكام عندهم جهل في علم الشريعة ويتصل بهم من لا يعرف الحكم الشرعي وهم يرونه عالماً كبيراً فتحصل بذلك المخالفة.
3- وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستوراً يمشي الناس عليه يعتقد أنه ظالم في ذلك وان الحق فيما جاء به الكتاب والسنة فإننا لا نستطيع أن نكفر هذا.
وإنما نكفر : من يرى أن حكم غير الله أولى أن يكون الناس عليه أو هو مثل حكم الله عز وجل فإن هذا كافر لأنه مكذب لقول الله تبارك وتعالى : (( أليس الله بأحكم الحاكمين )) ، و قوله : (( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )) .
ثم هذه المسائل لا يعني أننا إذا كفّرنا أحدا فإنه يجب الخروج عليه لأن الخروج تترتب عليه مفاسد عظيمة أكبر من السكوت ، و لا نستطيع الآن أن نضرب أمثالاً فيما وقع في الأمة العربية وغير العربية. وإنما إذا تحقق لدينا جواز الخروج عليه شرعا فإنه لابد من استعداد وقوة تكون مثل قوة الحاكم أو أعظم. وأما أن يخرج الناس عليه بالسكاكين والرماح ومعه القنابل والدبابات وما أشبه هذا فإن هذا من السفه بلا شك وهو مخالف للشريعة )). انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى من شريط مسجل بصوته.
21- يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في الفتاوى 1/80 :
"من حكم بها (يعني القوانين الوضعية) أو حاكم إليها معتقداً صحة ذلك وجوازه ، فهو كافرٌ الكفرَ الناقل عن الملَّة ،وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه ، فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملة".( تنبيه: هذه الفتوى مؤرخة بتاريخ (19/1/1385) وهي مفصلة لما أجمل في رسالة "تحكيم القوانين" فهي متأخرة عنها بخمس سنين لأن الطبعة الأولى للرسالة كانت في سنة 1380هـ .)
ثم استدركت فقلت: لقد وقفت أخيرا على الكلام الآتي:
"سئل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: هل تجب الهجرة من بلاد المسلمين التي يُحكم فيها بالقانون؟ فأجاب: البلد التي يُحكم فيها بالقانون ليست بلد إسلام, تجب الهجرة منها.(فتاوى الشيخ 6/88 ط 1399) اهـ.
وإني والله ازددت حيرة..., ولا أعلم بسبب ذلك موقف الشيخ الذي مات عليه, فأرجوا أن تفيدوني بعلمكم.
وهذا لم ولن يؤثر في موقفي على الإطلاق من هذه القضية, وإنما أقول ذلك حتى لا أكذب على الشيخ إبراهيم رحمه الله. أفيدوني جزيتم خيرا إن شاء الله.
22- يقول العلامة مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله - :
( ... أما مسألة التوصل إلى التكفير والحاكم لا يزال يصلي ويعترف بشعائر الإسلام فينبغي للمسلم أن يبتعد عن هذا ، وقوله سبحانه وتعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يقول ابن عباس : هو كفر دون كفر ، أو يحمل على ما إذا كان مستحلا ...) . من كتاب إجابة السائل على أهم المسائل ص285
23- قول الشيخ عبد المحسن العباد البدر – حفظه الله - :
سُئل في المسجد النبوي في درس شرح سنن أبي داود بتاريخ: 16/11/1420 :
هل استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية كفر في ذاته؟ أم يحتاج إلى الاستحلال القلبي والاعتقاد بجواز ذلك؟ وهل هناك فرق في الحكم مرة بغير ما أنزل الله، وجعل القوانين تشريعاً عاماً مع اعتقاد عدم جواز ذلك؟
فأجاب: "يبدو أنه لا فرق بين الحكم في مسألة، أو عشرة، أو مئة، أو ألف – أو أقل أو أكثر – لا فرق؛ ما دام الإنسان يعتبر نفسه أنه مخطئ، وأنه فعل أمراً منكراً، وأنه فعل معصية، وانه خائف من الذنب، فهذا كفر دون كفر. وأما مع الاستحلال – ولو كان في مسألة واحدة، يستحل فيها الحكم بغير ما أنزل الله، يعتبر نفسه حلالاً-؛ فإنه يكون كافراً ".
24- يقول الشيخ ربيع بن هادي المدخلي: (الحكم بغير ما أنزل الله بشروطه يكون كفرا : إذا كان يرى أن الحكم بغير ما أنزل الله جائز هذا كفر لأن الله تبارك وتعالى لا شريك له في الحكم ولا يشرك في حكمه أحدا سبحانه وتعالى . إذا كان يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله أفضل من الحكم بما أنزل الله ولو كان يعرف أن هذا حق يعرف أن ما أنزل الله حق ولكن هذه القوانين أفضل من الشرائع الإسلامية التي شرعها الله تبارك وتعالى فهذا كفر هذا يسمى كفر : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } وقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } . فالمصطلح القرآني والنبوي يسمي الحكم بغير ما أنزل الله كفرا . قد يكون كفرا أصغرا إذا كان معترف بحاكمية الله ومعترف أنه ظالم في حكمه بغير ما أنزل الله هذا كفرا أصغر . فإذا كان يرى أن يعني لا يعترف بحاكمية الله ويستحل الحكم بغير ما أنزل الله ويرى أن الحكم بغير ما أنزل الله أفضل من الحكم بما أنزل الله فهذا كافر كفرا أكبر يخرج من دائرة الإسلام .) من شريط السنة بين الغلو والتقصير.
25- يقول الشيخ صالح بن سعد السحيمي: (وخلاصة القول أنه يمكن أن نقسم الناس إلى ما يلي :
أولا : رجل عرف الحق بدليله فحكم به وأصاب الحكم فهذا رجل مأجور بل إن له أجرين لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – إن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد .
ثانيا : رجل اجتهد في طلب الحق واستخدم جميع الآلات الفقهية والاجتهادية من أصولية وحديثية ونحو ذلك ودرس المسألة من جميع جوانبها ليصل إلى حكم الله فيها فأخطأ فهذا مأجور أيضا له أجر واحد وقد سمعنا الحديث في ذلك .
ثالثا : رجل جاهل يريد حكم الله ويرغبه ولكنه لم يكلف نفسه البحث والتحري بل حكم بمجرد الاجتهاد دون علم حكم بجهله دون أن يكلف نفسه البحث عن الحق على ضوء الكتاب والسنة فحكم بالجهل وهو يريد الحق لكنه حكم بالجهل ظنا منه أن ذلك يكفيه فهذا آثم وعاص .
رابعا : رجل عرف حكم الله ولم يحكم به تحت غلبة الهوى أو الظرف الذي يعيشه أو المجاملة أو المداهنة أو نحو ذلك غلبه هواه فحكم بغير ما أنزل الله فأصاب الحكم فهو أيضا آثم وعاص سواء أصاب أو أخطأ حتى ولو أصاب هو آثم وعاص حتى ولو أصاب . انتبهوا إلى هذه القيود رجل ماذا ؟ عرف الحق واعترف به لكنه حكم بغير ما أنزل الله تحت غلبة الهوى أو الشهوة أو المصلحة مع اعترافه بأنه مذنب وأنه عاص ويشعر بذنبه فحكم بالقوانين أو بغيرها فهذا ما حكمه ؟ أنه عاص ولا يخرج من الإسلام بل يعتبر مسلما عاصيا مؤمنا عاصيا مؤمنا بإيمانه فاسق بكبيرته شأنه شأن من ارتكب شيئا من المحظورات والمحرمات مع اعترافه بذنبه وهو موحد لله سبحانه وتعالى . هذا هو الذي يجب أن ننتبه له وهو الذي حصل به الخلط رجل أو قاضي سواء كان قاضي أو غيره حكم بغير ما أنزل الله تحت ضغط الهوى أو غلبة الشهوة أو المصلحة أو أعطي شيئا من المال جعله يعدل عن حكم الله إلى حكم غيره مع اعترافه بأنه عاص ومذنب ومخالف للشرع وشعوره بالذنب فهذا مسلم عاصي ولا يجوز أن يخرج من الإسلام ولو حكم بغير ما أنزل الله بهذه القيود التي ذكرتها .
خامسا : رجل حكم بغير ما أنزل الله تحت ظرف أو تحت ضغط أو مكره( وهذا كان ينبغي أن يكون الثالث أو الرابع ينبغي أن يكون الرابع ) رجل أجبر على أن يحكم بغير ما أنزل الله أجبر إجبارا وأكره إكراها فهذا معذور إلا إذا كان فيه إتلاف نفس أو نحو ذلك ... فهذا قد يأثم إذا لم يمتنع من ذلك لكن أيضا لا يبلغ درجة الكفر ... فعليه أن يرفض ولو أدى ذلك إلى أن يناله ما يناله من الأذى ...
الأمر السادس : رجل علم بحكم الله وعلم أنه الحق لكن فضل حكم غير الله على حكم الله وقال إن تطبيق القانون الوضعي أفضل من حكم الله أو مساوي لحكم الله سواء قال إنه أفضل أو قال إنه مساوي لحكم الله سواء سواه بحكم الله واستحل الحكم بغير ما أنزل الله استحلالا بأن قال إن حكم الله لم يعد صالحا للتطبيق أو إنه لا فرق بين أن أطبق حكم الله أو حكم غير الله وهذا هو الذي يكفر ويخرج من ملة الإسلام لكن انتبهوا إلى القيود التي قلتها وهي : 1- أنه يعلم أن هذا حكم الله وخالفه . 2- أن يعدل عن حكم الله إلى غيره . 3- أن عدوله ناتج عن تفضيل لحكم غير الله على حكم الله أو اعتقاد التسوية بين حكم الله وحكم غير الله ففي كلا الحالين من كان هذا شأنه يكفر ويمرق من الدين ؛ لأنه والحال هذه تنكر لحكم الله ورضي بحكم الطاغوت بل رآه أفضل أو مساو لحكم الله سبحانه وتعالى . هذا هو التفصيل الذي ينبغي أن يفهم في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله حتى لا نتسرع في الحكم على المسلمين بالكفر والتكفير حتى بالنسبة لبعض البلاد التي لا تحكم شرع الله لا يجوز أن نتسرع في الحكم عليهم ولا في الحكم على الحكام في تلك البلاد ما لم تقم عندنا حجة عليهم من خلال كلامهم أو تصريحاتهم بأن حكم غير الله أفضل من حكم الله أو أنه مساوية لحكم الله فمتى صرحوا بهذا فهم كفرة بعد أن علموا بحكم الله وعلموا أنه الحق ولكن قالوا : إنها لا تصلح للتطبيق أو أنها قد مضى وقتها أو ولى وقتها أو نحو ذلك بعد علمهم بحكم الله فهذا التفصيل أرجو أن يفهم وأن يبلغ للشباب ولطلاب العلم والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد .) من آخر شريط لشرح الشيخ لكتاب تجريد التوحيد .
26- يقول الشيخ محمد بن جميل زينو: (ما حكم العمل بالقوانين المخالفة للإسلام؟ العمل بالقوانين المخالفة للإسلام كفر مخرج من الإسلام إذا أجازها ، أواعتقد صلاحيتها ، أو اعتقد عدم صلاحية الإسلام . قال الله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } وقال صلى الله عليه وسلم " وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ، ويتخيروا مما أنزل الله ، إلا جعل الله بأسهم بينهم " [ حسن رواه ابن ماجة وغيره ] ) من كتاب مجموعة رسائل التوجيهات الإسلامية ص 267.
27- يقول الشيخ أحمد بن يحيى النجمي: (...."ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " وفي آية أخرى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } وهذا يحمل على تنوع الناس في عدم الحكم بما أنزل الله – سبحانه وتعالى – فمنهم من يكون مقرا بأن الحكم بما أزل الله هو الواجب ولكن يحمله إما حب المال أو خوفا من الضغوط عليه أو هوى بالمحكوم عليه أو هوى مع المحكوم له كل ذلك يدفعه أنه يحكم بغير ما أنزل الله فهذا مع اعتقاده لا يكون كافرا وإنما يكون فاسقا فالكفر لا يكون إلا لمن اعتقد أن حكم غير الله – عز وجل – أحسن من حكم الله فمن اعتقد هذا أو مساويا له من اعتقد هذا فإنه يعتبر قد كفر أما لو حكم بغير ما أنزل الله من أجل الحصول على رشوة مال أو حَكَمَ لمن يحبه أو حكم على من يبغضه أو حكم من أجل ضغوط خارجية أو ما أشبه ذلك وهو يعتقد أنه عاص بفعله هذا فهذا لا يعتبر كافرا وإنما يعتبر كافرا من اعتقد أن حكم غير الله – عز وجل – أحسن من حكم الله أو مساويا لحكم الله – عز وجل – فعندئذ يكون كافرا ) من شريط توجيهات في العقيدة والمنهج والدعوة.
أقول: ولقد وقفت على رسالة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله تناقض فيها صاحبها وأتى بما لم يأت به من سبقه من الغرائب ، وقد قرر في رسالته أن هنالك فرقاً بين من حكم بغير ما أنزل الله دون أن يشرع قانوناً لذلك وبين من وضع قانوناً فالأول لا يكفر وأما الثاني فهو وكل من حكَّم قانونه أو عمل به كافر خارج من الملة مادام أنه قد علم بمخالفته لحكم الله ، ودليله على ذلك: أن التشريع حق لله وحده وأن من شرَّع فإنه يلزمه أمران : رفض شريعة الله إذ لو لم يرفضها لما استبدل بها غيرها والثاني أنه تعدى على حق من حقوق الله وأن ذلك ينافي التوحيد, وأن الله سبحانه قد اختص بأشياء منها العبادة ، ومنها الخلق والرزق التدبير ، ومنها الحكم والتشريع أيضاً ... إلى أن قال : فمن صرف شيئاً اختص اللّـه به لغيره فقد أشرك شركاً أكبر كالذي يعبد غير الله ، أو يدعي علم الغيب من دون الله ، أو يشرع من دون الله ، وهذه قاعدة مطردة لا استثناء فيها.
أقول ردا عليه: هذه مجازفة ، "فالعزُّ والعظمة والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به التي لا تنبغي لغيره" فيما يقول القرطبي في "المفهم" ، كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة ، قالا : قال رسول الله(ص): "العزُّ إزارهُ ، والكبرياءُ رداؤه ، فمن ينازعني عذبته" .
وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله يقول : "قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبَّة ، أو ليخلقوا شعيرة" .
قال القرطبي : "وقد دلَّ هذا الحديث على أن الذم والوعيد إنما علَّق من حيث تشبهوا بالله تعالى في خلقه ، وتعاطوا مشاركته فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع" .
ومما يؤكد أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به ، حديث عائشة قالت : "دخل علَّي رسول الله وقد سترتُ سهوةً لي بقرام فيه تماثيل ، فلما رآه هتكه وتلوَّن وجههُ ، وقال : "يا عائشة ، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يُضَاهُون بخلق الله" .
ومع أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به ، فإن أهل السُّنَّة لم يكفروا منهم إلاَّ من استحل أو قصد العبادة والمضاهاة ، أما من لم يستحل ، ولم يقصد العبادة والمضاهاة ، فليس بكافر .
وأهل السنة كافة لا يكفرون من يستعظم نفسه ويحتقر غيره ، وكذلك الخلق والتصوير من خصائصه سبحانه ، فنحت التماثيل فيه مضاهاة لخلق الله تعالى , ولم يكفر أهل السنة منهم إلا من استحل ذلك أو قصد العبادة والمضاهاة. وصفوةُ القول أنَّ ثمة أوصافاً إلهية انفردَ اللهُ لها دون خلقهِ ، كالكبرياء والعظمة والخلق والتصوير ، وأهل السُّنَّة لم يكفروا المنازع له فيها بإطلاق ، وإنما سلكوا منهج التفصيل ، فكذلك التشريع والحكم إذا لم يكن عن استحلال فليس بكفر ، وفاعله فاسق صاحب ذنب كبير ، ولا يكفر كسائر الكبائر غير المكفرة –كما يقول الدكتور الفاضل علي العنبري في هزيمة الفكر التكفيري ص25- .
والذي ينبغي التنبيه عليه أن الشرك هنا في توحيد الربوبية بمعنى إعطاء حق التشريع - أي تشريع - لغير الله , وليس بالضرورة أن يكون صاحبه مشركاً شركاً أكبر لأن الشرك في الربوبية منه ما هو شرك أكبر ومنه ما هو شرك أصغر وضابط ذلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ما ذكرناه آنفاً وعليه إجماع الأمة أن الأمر يرجع إلى الجحود والاستحلال . ولا يقال أن من اتبع حكم القانونيين وهو يعلم أنه على ذنب أنه قد أعطى المخلوق حق التشريع من دون الله لأن هذا الأمر يتعلق بالاعتقاد كما قررنا وهو بهذه العقيدة الباطلة كافر ولو كان في مسألة يوافق حكمها حكم الله .
أما بدون هذه العقيدة كأن يفعل ذلك إتباعاً للهوى أو تحقيقاً لمصلحة دنيوية فليس عندنا ما نكفره به .
أما ما يتعلق بالشرك في توحيد الألوهية فلا شك أنه لا يكون إلا شركاً أكبر لكن هل يقال لمن حكم بغير ما أنزل الله أنه صرف العبادة لغير الله ، ليس الأمر كذلك لأنه في حقيقة الأمر خالف حكم الله ولم يصرف شيئاً من العبادة لغير الله , وإلا لزمك التكفير بالذنوب والمعاصي ولو كانت من الصغائر, وهذا باطل عاطل.
وقرر المخالفون أن تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً قرينة على الاستحلال القلبي أقول ردا عليهم: الذي عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن كل ذنب دون الكفر (ومنه بالطبع- عند كل من أنصف- تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً) لا يعد قرينة على الاستحلال القلبي ، فإن المعاصي التي دون الكفر بوجه عام إما أن يستحلها صاحبها عملياً أو قلبياً فبالأول يكون فاسقاً وبالثاني يكون كافراً ومن قال غير هذا فعليه البيان.
3- متى يكفر الحاكم بغير ما أنزل الله ؟
لا خلاف في كفر من حكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر إن كان جاحداً لحكم الله، أو مُجوِّزاً فعلهُ، أو معتقداً المساواة بين الحُكْمين، أو مُفضِّلاً حكم غير الله على حكم الله، أو مقترناً حالُه بالتبديل (وانظر لزاما المقود بالتبديل في العنصر الرابع من بحثنا هذا)
وأما إن حكم بغير ما أنزل الله خالياً حاله من أحد هذه الأمور المتقدّمة فهو محل البحث.
قال ابن تيمية -رحمه الله- (الفتاوى3/267):
"والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافراً مرتدّاً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله تعالى –على أحد القولين - (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله" ا.هـ (أقول: انظر العنصر الرابع لزاما)
وقال أيضاً -رحمه الله- (الصارم2/971):
"وبيان هذا: أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق؛ فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه"ا.هـ.
وقال أيضاً -رحمه الله- (المنهاج5/130):
"ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتِّباعٍ لما أنزل الله فهو كافر…"ا.هـ
ثم اعتقاد التساوي بين حكم الله وحكم غير الله هو عين التشريك الذي هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله. وكذلك اعتقاد التفضيل هو تكذيبٌ ضِمْنِيٌّ لقوله تعالى: "ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون".
قال ابن عثيمين في تعليقه على كلام الألباني "وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونا مخالفا للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله( وأنا أخالف العلامة ابن عثيمين في ذلك, كما سيبين هو بعد قليل) ويعتقد انه خير من القانون الشرعي ، فهو كافر, هذا هو الظاهر وإلا فما الذي حمله على ذلك ؟ قد يكون الذي يحمله على ذلك خوفا من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبق فيكون هنا مداهنا لهم ، فحينئذ نقول : إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي ."
وقد استثقل بعضهم هذا القول وكأن الله كلفه بالحكم على الناس جميعهم بالكفر أو الإيمان حتى إذا لم يجد دليلا عنده من الله فيه برهان كفر بالظن. وأقول له "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" فلا سبيل لنا إلى شق قلبه أو معرفة ما يدور بخلده, فلننتظر حتى يصرح لنا بعقيدته, أو يصدر منه ما يدل يقينا على كفره.
ويقول العلامة عبد اللطيف آل الشيخ: ( وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه ،وقد رأى كفراً بواحاً،كالشرك بالله وعبادة ما سواه والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله،أو تكذيبهم،أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق ، أو جحود الحق أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله ونحو ذلك ، فالكفر بهذا وأمثاله مصيب مأجور ، مطيع لله ورسوله(.
وهنا يتبادر سؤال: هل المبدل للشريعة يكون كافرا ؟ وهل غير الملتزم بها كذلك أيضا ؟
أقول مستعينا بالله : التبديل في الحكم في اصطلاح العلماء هو الحكم بغير ما أنزل الله على أنه من عند الله ، كمن حكم بالقوانين الفرنسية وقال : هي من عند الله ، أو من شرعه تعالى ، ولا يخفى أن الحكام بغير ما أنزل الله اليوم لا يزعمون ذلك ، بل هم يصرحون أن هذه القوانين محض نتاج عقول البشر القاصرة. ومما يخطئ فيه الكثيرون تفسير مصطلح الانقياد، فإن معناه عند أهل العلم الخضوع للأمر وإن لم يفعل المأمور به ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الصارم المسلول : (3/967): ((كلام الله خبر,والخبر يستوجب تصديق المخبر ، والأمر يستوجب انقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب, جماعه : الخضوع والانقياد للأمر ، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار ))
وذلك واضح تمام الوضوح في كلام الإمام ابن العربي "أحكام القرآن" (2/624): " وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين".
أما بالنسبة إلى الالتزام, فالالتزام في اصطلاح العلماء و عرف الفقهاء ، هو الإيجاب على النفس، فقولهم: التزم أحكام الإسلام،معناه أوجب على نفسه الأخذ بها ، وإن لم يعمل بها (أنظر : معجم لغة الفقهاء للدكتور محمد رواس قلعجي : (86) ) .وقد أوضح ذلك أيضا الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية نفسها بلفظ قريب من لفظ شيخ الإسلام ابن تيمية فقال (ومن ترك التحكيم المذكور ، غير ملتزم له ،فهو كافر ، ومن تركه مع التزامه, فله حكم أمثاله من العاصين)) .
فقوله : ((ومن تركه مع التزامه)) يعني مع إذعانه لها وعدم ردها وإن لم يعمل بها ، وإلا تناقض كلامه. ومما يؤكد ذلك: استعمال ابن تيمية لهذا المصطلح في عامة كتبه، ومن ذلك قوله في مسألة تكفير تارك الصلاة: (ومورد النزاع هو فيمن أقرَّ بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها ، وأما من لم يقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها, وأما من لم يقر بوجوبها ثلاثة أقسام :
أحدها : فإن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق.
والثاني : أن لا يجحد وجوبها ، ولكنه ممتنع من التزام فعلها كبراً أو حسداً ، أو بغضاً لله ورسوله ... فهذا أيضاً كافر بالاتفاق .
والثالث : أن يكون مقراً ملتزماً ، ولكن تركها كسلاً وتهاوناً ... )
4- أقسام الأفعال المكفرة
إن الأعمال المكفّرة قسمان، فهناك أعمال تنافي الإيمان من كل وجه، وأعمال لا تنافيه من كل وجه؛
فالأُولى: يُكفَّر بها نوعاً إن نطقت بذلك الأدلة وعيناً إن توفّرت شروط التكفير وانتفت موانعه.
والأعمال الأُخرى: لا يُكفّر بها نوعاً ولا عيناً إلا بعد استفصال وسؤال واستبانة عن الحال.
وهذا الكلام بتمامه هو ما نطق به أئمة الدين، وجرى عليه عمل الأولين والآخرين، من العلماء المعتبرين، فإن لزِمْتَ غَرْزهم كنت من المفلحين، وإياك والانحراف عن هذا المسلك، فتُهلِك الناسَ وتَهْلَكْ.
فهذا الشافعي –رحمه الله- لما تكلم عن قصّة حاطب قال (الأم4/250)
"وفي هذا الحديث –مع ما وضّحنا لك- طرحُ الحكم باستعمال الظنون؛ لأنه لما كان الكتابُ يحتمل أن يكون ما قال حاطب، كما قال أنه لم يفعله شاكّاً في الإسلام وأنه فعله ليمنع أهله ويحتمل أن يكون زلّةً لا رغبةً عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح؛ كان القول قولُه فيما احتمل فعله، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لم يقتله"ا.هـ.
أقول:
1- فانظر كيف حكم الشافعيُّ رحمه الله على إعانة حاطبٍ الكفارَ على المسلمين أنها تحتمل الكفر وتحتمل ما هو أقلّ منه،
2- وأن الأمر يرجع إلى النظر في حالِ الذي وقع منه الفعل،
3- وانظر كيف استدلّ رحمه الله بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله حاطب على أن الحكم في كلّ محتملٍ هو طرحُ الظنّ، وطرح الظنّ يكون بالاستفصال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب رضي الله عنه وأرضاه.
4- ثم انظر كيف جعل –رحمه الله- الكفر لا يكون بأمرٍ محتملٍ.
وقال ابن تيمية (الصارم3/963(
"فإن التكفير لا يكون بأمرٍ محتمل"ٍا.هـ.
وقال ابن رجب -رحمه الله- (الفتح1/114(
"وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصيرُ بالنيّةِ كفراً"ا.هـ.
أقول: فانظر كيف جعل المحتملَ كفراً إن وقع على الوجه المُكفِّر منه لا بإطلاقٍ.
وهذا إمام السنة الإمام أحمد ( البدائع4/42)
سئل عن رجلٍ سمع مؤذّناً يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) فقال: كذبت، هل يكفر؟ فقال: "لا، لا يكفر لجواز أن يكون قصده تكذيب القائل فيما قال لا في أصل الكلمة، فكأنه قال: أنت لا تشهد هذه الشهادة"ا.هـ.
وانظر فتوى اللجنة الدائمة (رقم9879) حيث قرّرت أن الطواف بالقبر إن قُصِد به التقرّب للميت فهو شركٌ وإن قُصِد به التقرّب لله تعالى فهو بدعةٌ.
وانظر فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- (فتاواه1/131) عندما قرّر في الذبح عند القبور أنها إن قُصِد أنه للميت فهو شرك وإن قُصِد أنه لله فهو معصية.
وانظر لتقريره -رحمه الله- المماثل في مسألة الصلاة عند القبر (1/132(
وانظر لتقرير المحدّث الألباني -رحمه الله- في الذبح عند القبر (الجنائز رقم128،ص203) أنه إن كان لوجه الله فهو محرم وإن كان للميت فهو شرك.
وانظر لفتوى العلامة ابن عثيمين (المجموع الثمين1/65) في الاستهزاء بالصالحين أنه إن قُصِد به ما هم عليه من الدين فهو كفر وإن قصد به المظهر والزيّ فليس بكفر.
أقول :وكل هذه الأمثلة دالّة على ما تقدم، وغيرها كثير معروفٌ في موضعه لمن طلبه؛
فظهر لك الآن أن ما يقال عنه أنه من المكفرات -من حيثُ التنزُّل- ثلاثة أقسامٍ، فقسم يُكفَّرُ به، وآخر لا يُكفَّرُ به، وثالثٌ يُكفَّرُ به في حالاتٍ دون حالاتٍ.
فالأول: ما ثبت بالأدلة التكفير به نوعاً –مع مراعاة الشروط والموانع في المُعيَّن- كمثل سبّ الله ورسوله.
والثاني: ما تُوُهِّم التكفيرُ به ولم يثبت ذلك بالأدلة، كمثل التعامل مع الكفار بإهداءٍ أو قبول هديةٍ.
والآخِرُ: ما ثبتَ أنه محتمِلٌ للتكفير وليس بصريحٍ فيه، كمثل إعانة الكافر على المسلم، وسبِّ الصالحين.
5- تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم:
1- مثال ذلك ما نقله كثيرون من هؤلاء المكفرين للحكام بالقوانين الوضعية بإطلاق ودون تفصيل من قول ابن تيمية في مجموع فتاواه
( 3/267 ) " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشر المجمع عليه ، كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء " . فقد احتج به صاحب كتاب " الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه( 341 ), ففسر التبديل بأنه مجرد ترك الشريعة الإسلامية والحكم بالقوانين الوضعية.
أقول ردا عليه: مصطلح " التبديل " في لغة الفقهاء وعرف العلماء معناه الحكم بغير ما أنزل الله على أنه من شرع الله. ولو أتم المخالف كلام ابن تيمية إلى آخره لوجد ذلك واضحاً بعد سطور ، إذ يقول في بيان أوضح من فلق الصبح " والشرع المبدل : هو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين ، فمن قال : إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع " . والحكام بالقوانين الوضعية لم يبدلوا الشرع المجمع عليه ، ذلك بأنهم لم ينسبوا هذه القوانين إلى الشريعة الإسلامية ، فهاهم أولاء يصرحون بأنها نتاج العقول البشرية بريطانية كانت أو فرنسية .
وفي ذلك يقول ابن العربي في أحكام القرآن ( 2/624 ) : " إن حكم بما عنده على أنه من عند الله ، فهو تبديل يوجب الكفر". فانظر في كلامه رحمه الله تجد عين ما وصفتُ لك آنفاً، وليس لك أن تقول: إن ابن العربي وصف حكم المرء بما عنده مع الزعم أنه من عند الله بأنه تبديل، ولم يصفه بأنه هو التبديل المراد؛ لأنك إن أزلتَ قيد (على أنه من عند الله) بقي نصه رحمه الله في التبديل هكذا (إن حكم بما عنده فهو تبديل له يوجبُ الكفرَ) وليس حكمُ أحدٍ بما عنده –مما لم يشرعه الله- يوجب عليه أن يكون مبدِّلاً لحكم الله ولا يوجب عليه الكفر؛ لأنه قد يحكم مقرَّاً بخطإ نفسه معترفاً بحكم الله المغاير لحكم نفسه؛ فكيف يكون مبدِّلاً؟، ولو كان الإحلالُ المجرّدُ لحكمه مكان حكم الله هو كفرٌ لكُفِّر الحالقُ لحيته والظالم لأحد أولاده لمصلحة ولدٍ ثانٍ؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم قد قام به وصفُ الإحلال؛ حيثُ أحلّ حكم هواه على حكم الله، فظهر لك لزوم أن يكون ابن العربي -رحمه الله- أراد بالحكم على الحالة أنها تبديلٌ اقتران الوصفين الاثنين، لا محيص لك عن هذا . (انظر ما كتبته سابقا في معنى الالتزام في العنصر الثاني من هذا البحث).
2- نقل قول الشنقيطي رحمه الله في تفسير الآية الكريمة وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أحَداً ]الكهف : 26[ ، والحق أنه قول مطلق ، قيده في أمس المواضع إليه في تفسير آية المائدة (44) ، فذكر التقييد, فهل يحمل المطلق على المقيد- كما قال أهل الأصول- أم نقول : إن الشيخ تناقض ؟ حاشا وكلاّ. وبنحو ما قلت ، قال الفاضل الدكتور العنبري, وكذلك الباحثُ الفاضلُ الدكتور عبد العزيز بن صالح الطويان في رسالته العلمية الأكاديمية : "جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف" وهي من منشورات مركز البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وقدَّم لها مدير الجامعة الدكتور الفاضل صالح العبود والشيخ العلامة عبد المحسن العباد . إذ نقل قول الشيخ الشنقيطي : "إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم أنَّه لا يشك في كفرهم وشركهم إلاَّ من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم .
ثم علَّق عليه قائلاً : "وبهذا تتجلَّى وقفة الشيخ الحازمة في وجه من غيَّر حكم الله ، وحكم بحكم الطواغيت ، حيث إنه يقول بكفره ، بل ويكفر كل من يشك في كفره .
وليس موقف الشيخ رحمه الله هذا على إطلاقه ، بل نراه يبيَّن في موضع آخر متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً من الملَّة ، ومتى يكون صاحبه مرتكباً ذنباً محرماً لا يخرجه من دائرة الإسلام ، فيقول رحمه الله : "إن الكفر ، والظلم ، والفسق ، كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة ، والكفر المخرج من الملَّة أخرى :
ومن لم يحكم بما أنزل الله : معارضة للرسل ، وإبطالاً لأحكام الله ، فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر ، مخرج عن الملة .
ومن لم يحكم بما أنزل الله معتقداً أنَّه مرتكب حراماً ، فاعل قبيحاً ، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج من الملَّة" , اهـ (من هزيمة الفكر التكفيري للعنبري)
6- حول حقيقة الإجماعات التي يدعيها المخالف وعكسها على صاحبها ورد الاعتراضات على إجماع أهل السنة
يحتج بعضهم على أن تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً يعد كفراً أكبر بالإجماع, ويقول:
1- قال إسحاق بن راهويه: "وقد أجمع العلماء أن من سبَّ الله عزَّ وجل أو سبَّ رسوله أو دفع شيئاً أنزل الله ، أو قتل نبياً من أنبياء الله ن وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله ، أنه كافر" هكذا نقله عن ابن راهويه حافظُ أهل المغرب أبو عمر ابن عبد البر المتوفى سنة (463) في كتابه "التمهيد" بمعناه .
2- قال ابن كثير( البداية والنهاية 13/119) "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين"ا.هـ. وقال في تفسير سورة المائدة (الآية: 50): ((ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله... ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير)).
3- قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى35/200 ـ بتصرف يسير) : ((نُسَخُ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر))
4- قال ابن القيم ( أحكام أهل الذمة 1/259): ((قالوا: وقد جاء القرآن وصحَّ الإجماع بأنَّ دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر، وقد أبطل الله كلَّ شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام)).
فإذا كان من اتبع التوراة أو الإنجيل عند ابن تيمية وابن القيم وابن كثير كافرًا؛ فكيف بمن اتبع القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر وحثالة عقولهم !!
فما هي حقيقة تلك الإجماعات ؟!!
1- بالنسبة لمقولة راهويه, أقول: خذ كلام الإمام الكبير إسحاق بن راهويه بتمامه وكماله من نقل تلميذه الذي اختص به وأكثر عنه, الإمام محمد بن نصر المروزي المتوفى سنة (394) في كتابه "تعظيم قدر الصلاة" ولفظه : "ومما أجمعوا على تكفيره ، وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد ، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى ، وبما جاء من عنده ، ثم قتل نبياً ، أو أعان على قتله ، وإن كان مقراً ، ويقول : قتلُ الأنبياء محرم ، فهو كافر ، وكذلك من شتم نبياً ، أو رد عليه قوله من غير تقيَّة ولا خوف ، ألا ترى إلى ما جاء عن النبي "حين أعطى الأعرابي ثم قال له : أحسنتُ ، قال : لا ، ولا أجملت ، فغضب أصحابه رضي الله عنهم ، حتى هموا بقتله ، فأشار إليهم النبي بالكف ، وقال للأعرابي : "تأتيناه" . فجاءه في بيته ، فأعطاه وزاده ، ثم قال له : أحسنت قال : أي والله وأجملت . . . ". ففي هذا تصديق ما وصفناه أنه يكفر بالرد على النبي . ولكن كل من كان كفره من جهة الجهل وغير الاستهانة رفق به(( أقول أنا صاحب هذا البحث: لأنه كفر دون كفر, كفر لا يخرج من الملة, واطلاق كلمة الكفر عليه من ابن راهويه لا يعني أنه قد خرج من ملة الإسلام لأنَّ الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ. ويذكرنا هذا الكلام بما رواه الشيخان في سبب نزول قوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ ويُسَلِّمُواْ تَسلِيماً ]النساء:65[ ، من حديث عبد الله بن الزبير : "أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند سرح الماءَ في شراج الحرَّة التي يسقون بها النخل" ، فقال الأنصاري : سرح الماءَ يمرُّ ، فأبى عليه ( الزبير ) فختصما عند رسول الله فقال رسول الله للزبير : "إسق يا زبيرُ ثم أرسل الماء إلى جارك" ، فغضب الأنصاري ، ثم قال : "أن كان ابن عمتك ؟ ! ... الحديث .
والشاهدُ من هذا الحديث أيضاً أن النبي لم يحكم على الأنصاري بالردَّة ، مع أنَّ كلَّ من اتهم رسول الله في الحكم فهو كافر مرتد ، وإنما عفا عنه لعلمه أن ما قاله فلتة من فلتات اللسان وزلة من الشيطان تمكن بها منه عند ثورة الغضب, فإطلاق الكفر عليه لايكون إلا بقصده سب النبي(ص) أو استحلاله لما حرم الله... )) حتى يرجع إلى ما أنكره ،كما رفق النبي بالأعرابي . انتهى كلام الإمام المروزي.
أقول: فهذا الأعرابي كان مقرّاً لكل ما أنزل الله على رسوله ، غير أنه لم يرض بحكم النبي ، بل دفعه وردَّه ، ومع ذلك لم يكفره ولم يخرجه من الملة الإسلامية والدائرة الإيمانية ، بل أقال عثرته ، وأعطاه وزاده ، لعلمه أنه لم يردَّ حكمه عن ستهانة أو بغض أو استكبار .
والحاصل-كما يقول العنبري- من ذلك كله أن الردَّ أو الدفعَ لما أنزل الله ، إذا كان عن عنادٍ أو استكبارٍ أو استهانةٍ كان كفراً أكبر مخرجاً من الملة ، حتى وإن صاحَبَهُ تصديق أو إقرار ، وهذا هو كفر العناد ، نحو كفر إبليسَ ، فإنه لم يجحد أمر الله له بالسجود ، فإن الله باشره بالخطاب ، وإنما ردَّه ، ولم ينقد له إباءاً واستكباراً ، وإذا كان الردُّ أو الدفع لما أنزل الله لا عن استهانة أو عنادٍ أو إباءٍ ، بل عن خوف أو هوى ، لم يكن من الكفر في شيء ، نحو رد الأعرابي في الحديث السابق ، وإلى هذا يشير ابنُ راهويه بقوله : "وكذلك من شتم نبياً ، أو ردَّ عليه قوله من غير تقية ولا خوف" وقوله : "يكفر بالرد على النبي ، ولكن كل من كان كفره من جهة الجهل وغير الاستهانة ، رفق به حتى يرجع إلى ما أنكره" . وبذلك لا يبقى للخصم متعلَّقٌ بكلمة ابن راهويه، إن كان منصفاً والحمد لله رب العالمين.
2- لقد نقل الأستاذ الفاضل علوي عبد القادر السقاف في ملحقه بكتاب العقيدة الواسطية نص ابن كثير بما يوافق هواه, فحذف ما يدل على قولنا من كلام ابن كثير بوضع نقط (...)!!! وإليك البيان:
قال ابن كثير بالحرف الواحد (التفسير3/131) "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذه عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله."
ففي هذا -كما ترى- بيان لما أجمع عليه وهو أن يجعل ذلك القانون الوضعي شرعاً متبعاً يقدم على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا جعل شرعاً يتدين به كان ذلك هو الاستحلال المقصود في كلام العلماء والذي يكفر صاحبه سواء كان في مسألة الحكم أو في باقي المعاصي . وهو المقصود بالتبديل في كلام شيخ الإسلام السابق . وهذا هو واقع التتار فقد بين شيخ الإسلام أن التتار كانوا يتعبدون الله بالياسق الذي اقتبسوه من شرائع شتى. وإليك حال التتار وما كانوا عليه:
قال ابن تيمية عنهم( فتاوى28/523) : "يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين ثم منهم من يُرجِّح دين اليهود أو دين النصارى ومنهم من يُرجِّح دين المسلمين"ا.هـ
وبين ابن تيمية كيف أنهم يعظمون جنكيزخان ويقرنونه بالرسول صلى الله عليه وسلم.., ثم قال ( فتاوى28/524) : "ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام باتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم: فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب"ا.هـ. فمراد ابن كثير في حكايته الإجماع أن الإجماع منعقدٌ على تكفير التتار نظراً لحالتهم هذه التي سبق بيانها، وهذا مما لا نختلف فيه؛ فكأن عبارته هكذا: " فمن ترك الشرع المحكم [ كالتتار] المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر [لاستحلاله] فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ [يعني: فكيف وقد قدموا الياسق] من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين [يعني: من استحلّ وقدّم حكم غير الله على حكمه تعالى "([وبهذا يتّفق كلام الحافظ ابن كثير –رحمه الله- مع أئمة السنة في نقلهم الإجماع الثابت المتقرر في المُستحِلّ والمُفضِّل. فالتحاكم إلى قانون لا يقره الشرع ، ونسبة ذلك إلى الشرع أو أن الشرع يقره أو القول بجواز الحكم به كفر بالإجماع, قال الإمام الحافظ اسماعيل بن اسحاق القاضي المتوفى سنة (282هـ) في آيات الحكم بغير ما أنزل الله " فمن فعل مثل ما فعلوا ( أي اليهود ) واقترح حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره " (نقله عنه أبو رائد المالكي في مقاله الماتع "الحكم بما أنزل الله.. مسألة العصر"). والإجماع منعقد على أن الحكم بغير ما أنزل من الكبائر التي هي دون الكفر, قال ابن عبد البر كما في التمهيد (5/74) في صدد الكلام على الكبائر" وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ".
وأزيد بيانا فأقول: يذكر بعض المخالفين قول ابن كثير ، و يحذف منه كلمة، يتعمى بها المقصود ، إذ يقول ابن كثير في آخر كلامه : "فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكَّم سواه في قليل ولا كثير" فيقوم بعض المخالفين بحذف كلمة "منهم" ليوهم القرَّاء أن مقصود ابن كثير بالتكفير عام يشمل كل من حكم بغير ما أنزل الله دون تفصيل ، فالله حسيبهم, فحذف كلمة ( منهم )التي تعود على التتار يضيع مقصود ابن كثير. فتنبه جيدا أخي القارئ.
3- يفهم المقصود بالإجماع - وعلى أي شيء كان- من النقل التالي عن شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (3/267) : قال رحمه الله تعالى " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا باتفاق الفقهاء "
فالمقصود هنا الاستحلال وهذا منقول فيه الإجماع في كل المعاصي وليس فقط الحكم بغير ما أنزل الله. ويدل على ذلك قوله- رحمه الله- عقب هذا النص " الشرع المبدل هو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين فمن قال : إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع كمن قال إن الدم والميته حرام." وانظر لزاما معنى التبديل فيما كتبت انفا في العنصر الثاني من هذا البحث.
4- بالنسبة لكلام الإمام ابن القيم: هو يتكلم عمن التزم أحكام التوراة والإنجيل "وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر." وانظر معنى الالتزام في العنصر الثاني من هذا البحث, يتبين لك أن الاحتجاج بكلام ابن القيم ليس في محله.
اعتراضات على إجماع أهل السنة والجماعة
اعترض مخالف على إجماع أهل السنة على التفصيل في مسألة التكفير, فقال:
1- قال الإمام الحافظ إسماعيل القاضي: "ظاهر الآيات يدل على أنَّ من فعل مثل ما فعلوا ، واخترع حكماً يخالف به حكم الله ، وجعله ديناً يعمل به ، فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور ، حاكماً كان أو غيره" . اهـ .
أقول ردا على المخالف : إنَّ القاضي إسماعيل يتكلَّم صراحة عن المبدلين ، والمبدلون كفارٌ بإطلاق استحلوا م لم يستحلوا ، ألا تسمع لقوله : "فعل مثلَ ما فعلوا" ، فماذا فعل اليهود؟ "استبدلوا الجلد والتحميم بالرجم" يؤكَّد ذلك أيضاً قوله : "وجعله ديناً يعمل به" ، فالحمد لله على توفيقه.
2- ورد عن الشعبي أنَّ الله سبحانه أراد بالكافرين أهل الإسلام ، وبالظالمين اليهود ، والفاسقين النصارى ، ثم قال المخالف : "ماذا سيقول مستنبط الإجماع على قول الشعبي ؟ "
أقول ردا على المخالف:
1- إذا أردت أن تنقض الإجماع بهذا القول, فأرنا السند الصحيح بذلك إلى الإمام الشعبي, فإني لم أقف علىسنده, وما أظنه يصح على الإطلاق.
2- قال الألوسي في تفسير كلام الشعبي وتوجيهه : "ويلزم على هذا – يعني ظاهر قول الشعبي – أن يكون المؤمنون أسوأ حالاً من اليهود والنصارى !!( وهذا باطل عاطل كما هو واضح لكل ذي عينين) إلاَّ أنه قيل : إنَّ الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ؛ والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوَّه وتمرُّده فيه". وهذا أيضا هو ما فهمه ابن العربي والشنقيطي حين تعرضا لكلام الشعبي.
وأخيرا, وكما ترى, انقلبت الإجماعات التي يحكونها عليهم من حيث لا يدرون .. بفضل الله ومنه وكرمه.
والحمد لله أولا و آخرا على توفيقه.
أخوكم أبو صلاح الدين.
تأليف
أبو صلاح الدين
حقوق التأليف والطبع والنشر والتوزيع محفوظة
أرجوا منك أخي القارئ بعد قراءتك لهذا البحث(وأرجوا أن تحمله من الملف المرفق باخر هذا المقال) أن تتحفني بتعليقاتك عليه, وكذلك إن كان في استطاعتك - ولا يكلف الله نفسل إلا وسعها - أن تعرض هذا المقال على المشايخ الكرام, وأهل العلم لنحصل منهم على التعليقات والردود والاستدراكات والتأييدات ...إلخ, لأني أنوي إن شاء الله أن أوسع هذا البحث ليشمل كل الوجوه, وذلك بتحر تام واستقراء لكل الشبهات واستنباط ما أقدر على استنباطه وجمعه من الأدلة... وأنا الان بصدد عرضه على عدد من علماء وشيوخ مصر الأجلاء لنفس الغرض. وقد عرضته الان على بعض أساتذة الشريعة بجامعة القاهرة ومدرس لأصول الدين بمكة المكرمة, وهما بصدد التعليق عليه.., وقد جاءني الرد من بعضهم والحمد لله.
أشكرك أخي القارئ على حسن تعاونك.., ولا تنسى.. (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..)
وأشكرك على كل حال أو جواب, فيكفيني سماحتك وأخوتك في الله.
إهداء إلى:
1- كل مخالف لأهل السنة والجماعة في قضية التكفير.
2- كل مسلم باحث عن الحق والحقيقة بعيدا عن إرجاف المرجفين وشذوذات المتنطعين.
أرجوا من كل الإخوة تحميل هذا البحث المتواضع وقراءته بتأن وتؤدة شديدين, ثم إتحافنا بتعليقاتهم ردا أو تأييدا, استدراكا أو تأكيدا, تعليقا أو تبيينا ...
تنبيه: لم أضم إلى هذا البحث تفسير ايات التكفير لأني بصدد كتابتها وإعدادها الان, وفيه قواصم ظهر للمخالفين بكل ما في الكلمة من معنى - وذلك بفضل من الله وفتح -. وكذلك لم أضم تخريجي لأثر ابن عباس - كفر دون كفر - لأني بصدد إعداده أيضا. يسر الله الإتمام.
غــزو معــاقـل التـكـفــيــر
المقدمة
أولا وقبل أن أبدأ أحب أن أقرر هنا ما انتهى إليه هذا البحث ليكون القارئ على بينة من أمره : من لم يحكم بما أنزل الله إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كفر أكبر وظلم أكبر وفسق أكبر يخرج من الملة ، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم يعتبر كافراً كفراً أصغر وفاسقاً فسقاً أصغر لا يخرجه من الملة. فلا يكفر من حكم بغير ما أنزل الله إلاَّ إذا استحلَّ الحكم بالقوانين الوضعية أو جحد وجوب الحكم بالشريعة الإسلامية. فالحكم بغير ما أنزل الله من الكفر العملي ، والكفر العملي لا يخرج من الملَّة ولا أحد يقول إنَّ الكفر العملي لا يخرج من الملَّة بإطلاق إلاَّ من طمست بصيرته ؛ ولم يحرَّر مسائل الكفر والإيمان ، فمنه ما يخرج من الملَّة بالكلية ، سواء كان معتقداً أم غير معتقد ، مستحلاً أم غير مستحل ، كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وإلقائه في القاذورات والاستهزاء بالله وآياته ورسله . ومنه ما لا يخرج من الملَّة إلاَّ إذا كان مستحلاً ، كقتال المسلم ، وإتيان الحائض ، وغشيان المرأة في دبرها ، ونحو ذلك مما سماه الشارع كفراً ، ولم يرد به الكفر الـمُخْرِج من الملة.
ولقد شغب الخصم ليثبت فرقاً بين القضايا المعينة والتشريع العام ، وليبطل ما أجمع عليه السلف ، وأهل السنة من أن مناط الحكم بالكفر على مرتكب الكبيرة – ومن ذلك الحكم بغير ما أنزل الله – هو الاستحلال.
ولا يفوتني التأكيد على أمر مهم, وهو أن الكتاب ليس قُرباناً لحكام المسلمين !! ولست أبتغي به مرضاتهم!! فوالذي نفسي بيده ليس هذا مقصدي؛ بل إنني أرمي لما هو أسمى من ذلك؛ ألا وهو نصرة المعتقد الحقّ؛ معتقدِ أهل السنة والجماعة في تلك المسائل، والتي أساء لها البعض بإيراداتهم وشبهاتهم. ومعاذ الله أن أكون قد كتبتُ ما كتبتُ محاباةً أو مجاملةً أو استماتةً في الدفاع عن الحكام ! بل الباعث على تأليف هذا الكتاب هو حمايةُ أصولِ أهل السنة والجماعة : من هجمات المُغرضين, وعُقولِ المسلمينَ من الفكر الضالّ بجميع صوره.
العناصر التي سأتكلم عنها:
1- حول آيات التكفير باختصار... نفيس جدا ومهم ومفيد
2- حول قول الله عز وجل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
3- متى يكفر الحاكم بغير ما أنزل الله؟
4- أقسام الأعمال المكفرة0
5- تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم.
6- حول حقيقة الإجماعات التي يدعيها المخالف وعكسها على صاحبها ورد الاعتراضات على إجماع أهل السنة.
1- حول آيات التكفير باختصار... نفيس جدا ومهم ومفيد
آية الحكم بغير ما أنزل الله لا يخفاكم أن المقصود بالكفر فيها الكفر الأصغر,كما قال أهل السنة والجماعة(كما سترى في هذا البحث إن شاء الله).
إلا أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يوصل صاحبه إلى الكفر الأكبر المخرج من الملة إذا كان جاحداً أو مستحلا, أو مستهزئا أو ما شابه ذلك كما قرر أهل السنة والجماعة.
فإذا فعله مستحلاً له أو ما شابه ذلك خرج بذلك من الملة والعياذ بالله. وصور الاستحلال ظلمات بعضها فوق بعض فأدناها أن يرى جواز الحكم بغير ما أنزل الله.
يدل على ذلك سبب نزول الآية فقد جاء عند مسلم (كتاب الحدود) ما يبين حال من نزلت فيهم الذين قالوا " ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ", إليك الحديث:
عن البراء بن عازب قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم.. الحديث.
فتأمل قولهم((نعم)), فقد جعلوه ديناً كباقي الشرائع المنصوص عليها في كتابهم ، وبهذا النص وغيره تفهم معنى التبديل الذي أراده العلماء ويظهر لك ضابط الحكم بالخروج من الملة لمن حكم بغير ما أنزل الله. فإن حكم إنسان بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر ، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين.
قال الإمام الحافظ إسماعيل بن اسحاق القاضي المتوفى سنة (282هـ) في آيات الحكم بغير ما أنزل الله –" فمن فعل مثل ما فعلوا ( أي اليهود ) واقترح حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره ".
إليك -ثانية- نص الحديث من صحيح مسلم كاملا فاصلا قاطعا: جعلت تعليقاتي على متن الحديث بين أقواس هكذا (( )) :
(1700) قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة. كلاهما عن أبي معاوية. قال يحيى: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن عبدالله بن مرة، عن البراء بن عازب. قال:
مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما (( أي مسود الوجه، من الحممة، الفحمة)) مجلودا. فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقا "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قالوا: نعم(( تنبه أخي القارئ إلى هذه الكلمة جيدا)). فدعا رجلا من علمائهم. فقال "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. فكنا، إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع. فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم(( أي أنهم بدلوا التوراة وحرفوها وغيروا الأحكام الموجودة فيها بتبديلها, فحذفوا حكم الله من التوراة, ووضعوا مكانه ما شرعوا هم بأهوائهم..,فتأمل)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه". فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر. إلى قوله: إن أوتيتم هذا فخذوه} [5 /المائدة /41] يقول(( أي العالم اليهودي الذي سبق ذكره في أول الحديث)): ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا(( كلمة "فاحذروا" واضحة كل الوضوح لكل ذي عينين في أنهم يسخطون على حكم الله ويأنفون منه, بل يفضلون حكم أهوائهم على حكم الله, وهذا هو الكفر بعينه كما يقول أهل السنة والجماعة )). فأنزل الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة /44]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون [المائدة /45]. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون [المائدة /47]. في الكفار كلها.
رواه مسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي وغيرهم. وهو حديث صحيح جدا صححه مسلم والوادعي(الصحيح المسند ص95), وهو كما قالا.
وشذ وكيع بن الجراح, فرواه عن الأعمش بدون "فأنزل الله...إلخ" ؛ لأنه قد خالف أبا معاوية, وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير الكوفي.. أحفظ الناس لحديث الأعمش, وهو أحفظ مائة مرة لحديث الأعمش عن وكيع – مع اعترافنا بإمامة وكيع وجلالته- وإليك الدليل:
1- قال أيوب بن إسحاق بن سافري سألت أحمد ويحيى عن أبي معاوية وجرير قالا أبو معاوية أحب إلينا يعنيان في الأعمش.
2- قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول كان أبو معاوية إذا سئل عن أحاديث الأعمش يقول قد صار حديث الأعمش في فمي علقما أو هو أمر من العلقم لكثرة ما يردد عليه حديث الأعمش.
3- قال معاوية بن صالح سألت يحيى بن معين من أثبت أصحاب الأعمش قال بعد سفيان وشعبة أبو معاوية الضرير وقال عثمان بن سعيد الدارمي سألت يحيى بن معين أبو معاوية أحب إليك في الأعمش أو وكيع فقال أبو معاوية أعلم به.
4- قال أبو بكر بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: " قال لنا وكيع من تلزمون قلنا نلزم أبا معاوية قال أما إنه كان يعد علينا في حياة الأعمش ألفا وسبع مائة فقلت لأبي معاوية إن وكيعا قال كذا وكذا فقال صدق.."
5- قال عباس الدوري: قال يحيى(أي بن معين): كان عند وكيع عن الأعمش ثماني مائة. قلت ليحيى: كان أبو معاوية أحسنهم حديثا عن الأعمش. قال: كانت الأحاديث الكبار العالية عنده.
6- قال أبو زرعة الدمشقي سمعت أبا نعيم يقول لزم أبو معاوية الأعمش عشرين سنة.
7- قال إبراهيم الحربي قال لي الوكيعي ما أدركنا أحدا كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبي معاوية.
انظر كل هذه النقول في ترجمة أبو معاوية في تهذيب الكمال. وبهذا تعلم أنه مقدم على وكيع في الأعمش؛ لقوته فيه, ولطول الملازمة.
فتأمل –أخي القارئ- جيدا في الحديث, وما علقت أنا عليه. هداني الله وإياك إلى ما فيه الصواب. والحمد لله أولا واخرا.
2- حول قول الله عز وجل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
إن قول الحق تبارك وتعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فيه عمومان اثنان:
فالأول منهما: (من) التي تشمل -بعمومها- كل حاكمٍ بغير ما أنزل الله، فلا تقتصر على القاضي أو ولي الأمر الأكبر أو نائبه فقط؛ بل يدخل في هذا العموم كلُّ أحدٍ حكم بغير ما أنزل الله حتى الأب بين أولاده. لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وكل من حكم بين اثنين فهو قاض سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام) مجموع الفتاوى 18/170 , فكل من انتصب للقضاء بين الناس فهو حاكم ولا يشترط أن يكون في دار قضاء ، فتأمل هذا المعني جيدا.
لذلك هذه الآيات تعم الإمام الأكبر ، وتعم القاضي ، والمحتسب ، والمعلم ، والعامل ، والزوجة …وهكذا ، وأيضاً هي تعم جميع أحكام الله تعالى ، فكل حكم أنزله الله تعالى في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الفرائض والواجبات أو الحدود …. ؛ مما علم في الدين بالضرورة ، أو ما ثبت من الشرع ، وبان بياناً واضحاً لا إشكال فيه ولا شبهة ، صغيراً كان أو كبيراً داخل في هذه الآية . فأكل الربا ، و الزنا ، و شرب الخمر، ووطأ الحائض حال حيضها .لذلك لما فهم السلف رضي الله عنهم ذلك على هذا الوجه جعلوا الكفر في الآية كفر دون كفر,كما أنهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يستدلوا بهذه الآية على تكفير حكام المسلمين الكفر الأكبر بدون تفصيل ؛ لأنهم لو فعلوا ذلك للزمهم أن يكفروا كل صاحب كبيرة ، حيث إن من زنا فقد حكم بغير ما أنزل الله ، ومن شرب الخمر متعمداً فقد حكم بغير ما أنزل الله …وهكذا . ولذلك فالأصل في الآية هو كفر دون كفر إلا أن هناك صورة تلحق صاحبها بالكفر الأكبر ؛ ما إذا حكم الشخص بغير ما أنزل الله مستحلاً لذلك أو جاحداً به أومكذباً له أومعانداً أو شاكاً أو منافقاً أو غير ذلك من أسباب الكفر و تحققت فيه شروط التكفير ، وانتفت عنه موانعه.
سنا نقول هذا تهويناً من شأن الحكم بما أنزل الله , بل نحن نعلم يقيناً أن الحاكمين والمحكومين والمتحاكمين إلى القانون اللعين الذي هو بئس القرين قد أتوا شيئاً إداً ؛ تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا,و أن هذا الفعل أشد عند الله من القتل والزنى والسرقة وشرب الخمر والربا وجميع الموبقات والمهلكات عدا الشرك بالله. ونحن لا نكتب ما نكتب إلا ردّاً لغلو الغالين ، وتكفير المكفرين ؛ الذين فتحوا الباب مشرعاً –بأفعالهم وأقوالهم – لكل أعداء الدين ومناوئيه ؛ ليصفوا الإسلام بالتطرف ، والمسلمين بالإرهاب … من غير تمييز ، وبلا تفصيل .. فكانوا – بسوء صنيعهم – سداً منيعاً في وجه الدعوة الحقة للإسلام الحق ، وسبباً كبيراً للضغط على المسلمين واستنزاف مقدراتهم ، وشل قواهم, فالله يصلحهم ، ويسدد دربهم.
فلا يهولنك أيها السني السلفي ما تسمعه من إطلاق لفظ مرجئ على من قال ذلك ؛ فهو قول السلف قاطبة, وقد ذكر العلامة أبو الفضل السكسكي الحنبلي رحمه الله تعالى:" أن طائفة المنصورية – وهم مبتدعة ضلال – نبزوا أهل السنة بالإرجاء ، لكونهم لا يكفرون تارك الصلاة إذا لم يجحدها !! زاعمين أن هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل" (البرهان في عقائد أهل الإيمان ص69)
والثاني من العمومين: أن (ما) التي تشمل –بعمومها أيضاً- كل حكمٍ لله تعالى، فلا تقتصر فقط على الأمور القضائية ولا الخصومات.
فإن نظرتَ لهذا التقرير المأخوذ من عمومِيْ الآية علمتَ -إن وفّقتَ للعلم- أن هذا يشمل كلّ عاصٍ لله تعالى بأيّ معصيةٍ دقّت أو جلّت, استمر عليها طيلة حياته أو لم يستمر, جعلها مبدأ له طيلة حياته(مع اعترافه بحرمة ما يفعله) أو لم يجعلها؛ فالزاني –مثلاً- حقيقة أمره أنه قد حكّم هواه بدلاً من أن ُيحكِّم ما أنزل الله في شأن نفسه، وكذلك الحالق لحيته والجائر بين أولاده والكاذب متعمدا وشارب الخمر.. فإنهم قد حكّموا الهوى بدلاً من تحكيم شرع الله تعالى في شأن اللحية والعدل في التعامل مع الأولاد واجتناب الزنا والخمر والكذب.
ولأجل هذه اللوازم الفاسدة التي مآلها التكفير بالذنب جاءت نصوصُ العلماء حاسمةً للمسألة مبيِّنةً للفهم الصحيح للآية من أنها ليست على ظاهرها هذا: (وإليك كلامهم كاملا بنصه وحروفه, ليكون هذا الكتاب الذي بين يديك جامعا مستغنيا عن غيره, ولتعلم تواتر ذلك في الأمة تواترا مطلقا):
1- فقد فسر السلف رضي الله عنهم قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " بأنه كفر دون كفر أو كفر لا يخرج من الملة . قال ابن القيم في كتاب الصلاة وحكم تاركها " وهذا قول الصحابة جميعاً "
2- يقول ابن جرير الطبري "جامع البيان" (6/166( : "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراً عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟! قيل : إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، هو بالله كافر؛ كما قال ابن عباس".
3- يقول ابن بطة العكبري "الإبانة" (2/723): "باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة"، وذكر ضمن هذا الباب: الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة".
4- يقول ابن الجوزي "زاد المسير" (2/366): وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله؛ كما فعلت اليهود؛ فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود؛ فهو ظالم فاسق، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ أنه قال: من جحد ما أنزل الله؛ فقد كفر، ومن أقرّبه؛ ولم يحكمم به؛ فهو ظالم فاسق".
5- يقول ابن العربي "أحكام القرآن" (2/624): " وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين". (انظر لزاما معنى التبديل في العنصر الرابع من هذا البحث)
5- يقول القرطبي "المفهم" (5/117): "وقوله ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يحتج بظاهره من يكفر بالذنوب، وهم الخوارج!، ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى، كما جاء في الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب النزول.
وقال أيضا "المفهم" ( 5/118 ) "ومقصود هذا البحث ، أنَّ هذه الآيات – آيات المائدة – المراد بها :
أهل الكفر والعناد ، وأنها وإن كانت ألفاظها عامة ، فقد خرج منها المسلمون ؛ لأنَّ ترك العمل بالحكم مع الإيمان بأصله هو دون الشرك ، وقد قال تعالى : إن الله لا يَغْفِرُ أن يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ] النساء:48[ ، وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق ، فيجوز أن يغفر ، والكفر لا يغفر ، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفراً".
6- قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (3/267) في تفسير قوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (المائدة 44): " أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " أ.هـ
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مناهج السنة ( 5/131 ) :
" وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله " يعني من غير جحود .
وقال أيضا (7/312) : ( وإن كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق ، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر ؛ ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة ، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قالوا : كفر لا ينقل عن الملة . وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة .اهـ
ويقول أيضا في منهاج السنة ( 5/130 ) : " فهؤلاء ذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله ، فلم يلتزموا ذلك ، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار ، وإلا كانوا جهالاً ، والحكم بما أنزل الله واجب " .
7- يقول ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" (2/61): ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً.
8- يقول الشاطبي "الموافقات" (4/39): "هذه الآية والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم –وإن ارتكب كبيرة- لا يقال له: كافر".
9- يقول ابن حجر العسقلاني "فتح الباري" (13/120): "إن الآيات، وإن كان سببها أهل الكتاب، لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة: أن مرتكب المعصية لا يسمى: كافراً، ولا يسمى – أيضاً – ظالماً؛ لأن الظلم قد فُسر بالشرك، بقيت الصفة الثالثة"؛ يعني الفسق.
10- يقول الجصاص في أحكام القرآن : ( 2/534 ) : " وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود " .
11- يقول أبو المظفر السمعاني في تفسيره ( 2/42 ) : " واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ، ويقولن : " من لم يحكم بما انزل الله فهو كافر ، وأهل السنة قالوا لا يكفر بترك الحكم " .
12- يقول ابن عبد البر كما في التمهيد (5/74) في صدد الكلام على الكبائر" وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) و ( الظالمون ) و ( الفاسقون ) نزلت في أهل الكتاب . قال حذيفة و ابن عباس : وهي عامة فينا ، قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "
ويقول أيضا في التمهيد ( 17/16 ) : " وقد ضلت جماعة من أهل البدع في الخوارج والمعتزلة فاحتجوا ... من كتاب الله تعالى بآيات ليست على ظاهرها ، مثل قوله ـ عز وجل ـ ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) .
13- ونسب القول بظاهر الآية إلى الخوارج أيضاً الإمام الحافظ أبو بكر الآجري المتوفى سنة ( 360 هـ ) في كتاب الشريعة ( 27 ) وأبو يعلى الحنبلي في مسائل الإيمان : ( 340 ) وأبو حيان في تفسيره ( 3/493 ) وغيرهم .
14- وقال أبو حيان الأندلسي -رحمه الله- (البحر المحيط3/493(
"واحتجّت الخوارج بهذه الآية على أن كل من عصى الله تعالى فهو كافر، وقالوا: هي نصٌّ في كل من حكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كافر "
15- وتأمل ما رواه الخطيب -رحمه الله- (تأريخه10/183، ترجمة الخليفة المأمون، ترجمة رقم5330(
"أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن بن الحسن بن المنذر المحتسب، أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدّل، أخبرنا أبو بكر بن دريد، أخبرنا الحسن بن خضر قال: سمعت ابن أبي دؤاد يقول: أُدخل رجلٌ من الخوارج على المأمون، فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آيةٌ في كتاب الله تعالى. قال: وما هي؟ قال: قوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقال له المأمون: ألكَ عِلمٌ بأنها مُنزَلة؟ قال: نعم، قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيتَ بإجماعهم في التنزيل فارضَ بإجماعهم في التأويل، قال: صدقتَ، السلام عليك يا أمير المؤمنين."
أقول: قد استجاب هذا( الخارجي ) ورجع إلى الحق .. فهلا رجع إلى الحق – أيضاً – أولئك الحدثاء المحدثون ، المتأثرون بالخوارج المبهورون بآرائهم السالكون نهجهم, النّاسجون على منوالهم..!! هذا ما نرجوه ونأمله من الله جل وعلا, قال تعالى( فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( القصص 50
وقال تعالى:( إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) النور51
16- يقول فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان ( 7/162): (( فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه: "وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أَحَدا ", وفي قراءة ابن عامر من السبعة "وَلاَ تُشْركْ فيِ حُكمِهِ أَحَدا " بصيغة النهي، وقال في الإشراك به في عبادته : فَمَن كَانَ يَرجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أَحَدا "، فالأمران سواء.
ثم قيد الشيخ ما أطلقه ، فقال بعد ذلك مباشرة : ((وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به – بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه- كفرٌ بواح لا نزاع فيه )) . اهـ
وقال بعض المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة: " ذكر الشيخ الشنقيطي رحمه الله أن الإشراك في العبادة والإشراك في الحكم لهما نفس الحكم ، ولا فرق بينهما حيث قال في أضوائه: (( والإشراك بالله في حكمه، والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله ، وتشريعاً غير تشريع الله ، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن، ولا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله )) وغزاه في الحاشية إلى أضواء البيان ( 7/162) " اهـ.
أقول: ولقد رجعت إلى الموضع الذي عزا إليه في أضواء البيان، ذلك أني لا أثق في كل متعجل في التكفير مسارع إليه، فألفيت الآتي :
(( فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أَحَداً وفي قراءة ابن عامر من السبعة وَلاَ تُشْركْ فيِ حُكمِهِ أَحَداً بصيغة النهي ، وقال في الإشراك به في عبادته : فَمَن كَانَ يَرجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أَحَداً ، فالأمران سواء .
ثم قيد الشيخ ما أطلقه ، فقال بعد ذلك مباشرة : ((وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل،والعمل به – بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه- كفرٌ بواح لا نزاع فيه )) . اهـ
فهذا القول من الشيخ ، لماذا يعرض عنه الخصم ، وهو كائن في الصفحة نفسها ؟
الإجابة أوضح من أن نوضح، ذلك أن هذا القول يؤيد أن العمل بالتشريعات الوضيعة من غير ما اعتقاد أو استحلال ليس بكفر يخرج من الملة الإسلامية، فمن الذي يبتر النصوص وبغفل بعضها ؟!!
وأضيف: يقول الشنقيطي: "وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والارض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض؛ كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك. ".... فتأمل: "كدعوى أن تفضيل.." ففيه ضرب لمثال, و تفصيل بعد إجمال.
17- يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار : ( 6/406 ) : " أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين ، بل لم يقل به أحد قط " .
18- وهذا هو الذي اتفق عليه الأعلام الألباني(انظر: فتنة التكفير له), و...
19- ومحمد بن عبد العزيز بن باز, وقد تلقاه- أي كتاب فتنة التكفير- علماء الأمة بالقبول والاستحسان ، ورأوا أنه يوافق ما استفاض عن علماء أهل السنة سلفاً وخلفاً في كتب التفسير والعقيدة وغيرها ، كما رأوا أنه يطفئ فتنة تفكير الحكام وما يترتب عليها من خروج على الأنظمة القائمة بالثورات والانقلابات . وصدرت عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية فتوى رقم ( 5226 ) ، وفتوى رقم ( 5741), تؤكد ما جاء عن الشيخين ـ رحمة الله عليهما ـ وجاء في آخرهما : " إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كفر أكبر ، وظلم أ:بر ، وفسق أكبر يخرج عن الملة ، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر ، وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم … " .
ورد في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء :
السؤال (11) من الفتوى رقم 5741
س : من لم يحكم بما أنزل الله هل هو مسلم أم كافر كفرا أكبر وتقبل منه أعماله .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد :
جـ : قال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزا فهو كفر أكبر وظلم أكبر وفسق أكبر يخرج من الملة ، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم يعتبر كافرا كفرا أصغر وظالما ظلما أصغر وفاسقا فسقا أصغر لا يخرجه من الملة كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ................. نائب رئيس اللجنة .................. الرئيس
عبدالله بن غديان عبدالرزاق عفيفي عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
وقال ابن باز - رحمه الله - عندما سئل عن حكم من حكم بغير ما أنزل الله : قال : من حكم بغير ما أنزل الله فلا يخرج عن أربعة أنواع :
1- من قال أنا أحكم بهذا لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية فهو كافر كفرا أكبر .
2- ومن قال أنا أحكم بهذا لأنه مثل الشريعة الإسلامية ، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز ، فهو كافر كفرا أكبر .
3- ومن قال أنا أحكم بهذا ، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز . فهو كافر كفرا أكبر .
4- ومن قال أنا أحكم بهذا وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز ويقول الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل ولا يجوز الحكم بغيرها ولكنه متساهل أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفرا أصغر لا يخرج من الملة ويعتبر من أكبر الكبائر .) من كتيب قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال ص72 .
واستمع أخي القارئ إلى شريط: "الدمعة البازية" الذي تضمن تسجيلاً لمجلس علمي راود فيه مجموعة من الدعاة ذائعي الصيت الإمام ابن باز في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؛ ليقول بالتكفير المطلق بدون تفصيل، فكانوا يحاورنه فيه محاورة شديدة تشبه المحاصرة وأُتي الشيخ من بين ويديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فكان –رحمه الله- ثابتاً راسخاً كالطود الأشم لا يتزعزع ولا يجزع ولا يلين ولا يأبه لما قالوه أو نطقوا به، فكان يؤكد بأن الحكم بغير ما أنزل الله: لو بدل، أو وضع القوانين العامة لا يكفر، ما لم يكن ثمّت استحلال ظاهر معين، وكان يقول: "وخلاف هذا مذهب المبتدعة الخوارج". فرحمه الله رحمة واسعة. إليك نص ما دار-فهذا نادر جدا- في الشريط, مما يتعلق بموضوعنا..., تنبيه: أولا: إذا كتبت ست نقاط هكذا (……) فمعناه أن هناك كلاما لم أسمعه أو لم أفهمه ، ومن باب عدم التقول على العلماء فإني بعد هذه النقاط أضع قوسين هكذا [ ] وأكتب داخل القوسين الكلمة أو الكلمات التي أظنها ، وإن لم تتضح الكلمة أو الكلمات فإني أبين ذلك .
ثانيا: إذا كتبت ثلاث نقاط هكذا (…) فهذا يعني أنه حدثت مقاطعة لكلام الشيخ الذي أنقل عنه، وأبدأ النقل عن الشيخ الآخر الذي قطع كلام الأول..., إليك الحوار:
الحوار: كان النقاش حول حكم تارك الصلاة ، فقال الشيخ ابن جبرين: في التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون". كفر دون كفر .
فقال الشيخ ابن باز: إذا لم يستحله، يعني حكم بالرشوة أو على عدوه أو لصديقه يكون كفرا دون كفر، أما إذا استحل الحكم، إذا استحل ترك الشرع يكون كافرا، إذا استحله كفر، لكن لو حكم بالرشوة ما يكون كافرا كفرا أكبر، يكون كفرا دون كفر، مثل ما قال ابن عباس ومجاهد وغيره .
قال أحد الحاضرين : هو الإشكال الكبير في هذا المقام ـ عفا الله عنك ـ مسألة تبديل الأحكام الشرعية بقوانين …
فقاطعه الشيخ ابن باز بقوله: هذا محل البحث إذا فعلها مستحلا …
فقاطعه السائل نفسه بقوله : وقد يدعي أنه غير مستحل ؟
فقال ابن باز -رحمه الله- : إذا فعلها مستحلا لها يكفر وإذا فعلها لتأويل لإرضاء قومه أو لكذا وكذا يكون كفرا دون كفر، ولكن يجب على المسلمين قتاله إذا كان عندهم قوة حتى يلتزم، من غير دين الله بالزكاة أو غيرها يقاتل حتى يلتزم .
فقال السائل نفسه : بدل الحدود ، بدل حد الزنا وكذا وكذا .
فقال ابن باز: يعني ما أقام الحدود، عزره بدل القتل عزره .
فقال ابن جبرين: أو الحبس .
فقال ابن باز : أو الحبس .
وقال السائل: وضع مواد ـ عفا الله عنك ـ .
الأصل عدم الكفر حتى يستحل ، يكون عاصيا وأتى كبيرة ويستحق العقاب ، كفر دون كفر حتى يستحل .
فقال السائل : حتى يستحل ؟!! الاستحلال في قلبه ماندري عنه ؟
فقال ابن باز: هذا هو ، إذا ادعى ذلك ، إذا ادعى أنه يستحله .
فقال ابن جبرين: إذا أباح الزنا برضى الطرفين …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا : كذلك هذا كفر .
فأكمل الشيخ ابن جبرين كلامه بقوله : المرأة حرة في نفسها فلها أن تبذل نفسها ؟
فقال ابن باز : إذا أحلوا ذلك بالرضا فهو كفر .
فقال سلمان العودة: لو حكم ـ حفظكم الله ـ بشريعة منسوخة كـاليهودية مثلا ، وفرضها على الناس وجعلها قانونا عاما وعاقب من رفضه بالسجن والقتل والتطريد وما أشبه ذلك ؟
فقال الشيخ ابن باز: ينسبه إلى الشرع ولا لا ـ يعني أو لا ـ ؟
فقال الشيخ سلمان العودة: حكم بها من غير أن يتكلم بذلك ، جعلها يعني بديل ؟
فقال الشيخ ابن باز: أما إذا نسبها إلى الشرع فيكون كفرا .
فقال الشيخ سلمان : كفرا أكبر أو أصغر ؟
فقال الشيخ ابن باز: أكبر ، إذا نسبها إلى الشريعة ، أما إذا مانسبها إلى الشريعة ، بس مجرد قانون وضعه ، لا ، مثل الذي يجلد الناس بغير الحكم الشرعي ، يجلد الناس لهواه أو يقتلهم لهواه ، قد يقتل بعض الناس لهواه وغلبه .
فقال سلمان: ما يفرق ـ حفظكم الله ـ بين الحالة الخاصة في نازلة أو قضية معينة وبين كونه يضعه قانونا عاما للناس كلهم ؟
فقال ابن باز: أما إذا كان نسبه إلى الشرع يكفر وأما إذا ما نسبه إلى الشرع ، يرى أنه قانونا يصلح بين الناس ما هو بشرعي ما هو عن الله ولا عن رسوله يكون جريمة ولكن لا يكون كفرا أكبر فيما أعتقد .
فقال سلمان العودة: ابن كثير ـ فضيلة الشيخ ـ نقل في البداية والنهاية الإجماع على كفره كفرا أكبر .
فقال ابن باز : لعله إذا نسبه إلى الشرع
فقال الشيخ سلمان: لا، قال من حكم بغير شريعة الله من الشرائع المنزلة المنسوخة فهو كافر فكيف من حكم بغير ذلك من أراء البشر لاشك أنه مرتد …
فقال ابن باز : ولو ، ولو ، ابن كثير ماهو معصوم ، يحتاج تأمل ، قد يغلط هو وغيره، وما أكثر من يحكي الإجماع .
فقال الشيخ ابن جبرين: هم يجعلونه بدل الشرع ، ويقولون هو أحسن وأولى بالناس ، وأنسب لهم من الأحكام الشرعية .
فقال الشيخ ابن باز : هذا كفر مستقل ، إذا قال إن هذا الشيء أحسن من الشرع أو مثل الشرع أو جائز الحكم بغير ماأنزل الله يكون كفرا أكبر .
فقال أحد الحاضرين : الذين يكفرون النظام ويقولون : لا يكفر الأشخاص ، يعني يفرقون في أطروحاتهم ، يقولون : النظام كافر لكن مانكفر الأشخاص ؟
فقال الشيخ ابن باز : إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر ولو هو شخص ، يعين ، يكفر بنفسه ، يقال فلان كافر إذا استحل الحكم بغير ماأنزل الله أو استحل الزنا يكفر بعينه ، مثل ماهو كفر ، مثل ماكفر الصحابة بأعيانهم الناس الذين تركوا . مسيلمة يكفر بعينه ، طليحة قبل أن يتوب يكفر بعينه ، وهكذا من استهزأ بالدين يكفر بعينه ، كل من وجد منه نافض يكفر بعينه ، أما القتل شيء آخر ، يعني القتل يحتاج استتابة .
فقال أحد الحضور : لكن إذا نسبه إلى الشرع ألا يحكم بأنه من الكذابين ؟
فقال الشيخ ابن باز : من الكذابين .
فقال السائل : لكن دون الكفر .
فقال الشيخ ابن باز : إي نعم
[ ثم سؤال من نفس السائل غير واضح ، وهو عن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ].
وكذلك جواب الشيخ ابن باز غير واضح ، وأنقل لكم ماسمعته وما لم أعرفه تركته ، والذي سمعته كالتالي : …… أما إذا قال : لا ، أنا أقول إنه مثل الشرع أو أحسن من الشرع فهو كفر ، أما إذا كان رأى بدعة فأهل البدعة معروف حكمهم .
فقال الشيخ عائض القرني: طيب يا شيخ بعضهم يقول : إن عمر ترك الحدود في المجاعة عام الرمادة ؟
فقال ابن باز: هذا اجتهاد له وجه ، لأنه قد يضطر الإنسان إلى أخذ الشيء سرقة للضرورة .
فقال سلمان العودة : ـ حفظكم الله ـ الدليل على كون الكفر المذكور في القرآن أصغر ( فأولئك هم الكافرون ) أقول ماهو الصارف مع أنها جاءت بصيغة الحصر ؟
فقال ابن باز : هو محمول على الاستحلال على الأصح، وإن حمل على غير الاستحلال فمثل ما قال ابن عباس يحمل على كفر دون كفر، وإلا فالأصل هم الكافرون.
فقال أحد المناقشين: ما فيه دليل ابن عباس، ما فيه أنه ما ستحل …… [ ثم كلام غير واضح من السائل ].
فتدخل سلمان قائلا: نعم يعني ما الذي جعلنا نصرف النص عن ظاهره ؟
فقال ابن باز : لأنه مستحل له، وذلك في الكفار الذين حكموا بغير ما أنزل الله، حكموا بحل الميتة، حكموا بأشباهه، أما لو حكم زيد أو عمر برشوة نقول كفر ؟!! ما يكفر بهذا، أو حكم بقتل زيد بغير حق لهواه ما يكفر بذلك .
ثم قال ابن باز بعد سكوت يسير: على القاعدة، التحليل والتحريم له شأن، مثل الزاني هل يكفر ؟
فقال الشيخ سلمان: ما يكفر .
فقال الشيخ ابن باز: وإذا قال حلال ؟
فقال الشيخ سلمان: يكفر .
فقال ابن باز: هذا هو .
فقال سلمان وآخر معه في نفس الوقت قالا: يكفر ولو لم يزني .
فقال الشيخ ابن باز: ولو مازنا .
فقال الشيخ سلمان: نرجع سماحة الوالد للنص ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) فعلق الحكم بترك الحكم ؟
فقال ابن باز: الحكم بما أنزل الله يعني مستحلا له ، يحمل على هذا .
فقال سلمان العودة: القيد هذا من أين جاء ؟
فقال الشيخ ابن باز -رحمه الله- : من الأدلة الأخرى الدالة عليه، التي دلت أن المعاصي لا يكفر صاحبها، إذا لم يستحل ما صار كافرا .
ثم سؤال من شخص آخر ـ لم أعرفه ـ والسؤال غير واضح ، فقال ابن باز:
فاسق وظالم وكافر هذا إذا كان مستحلا له أو يرى أنه ماهو مناسب أو يرى الحكم بغيره أولى، المقصود أنه محمول على المستحل أو الذي يرى بعد ذا أنه فوق الاستحلال يراه أحسن من حكم الله، أما إذا كان حكم بغير ما أنزل الله لهواه يكون عاصيا مثل من زنا لهواه لا لاستحلال، عق والديه للهوى، قتل للهوى يكون عاصيا، أما إذا قتل مستحلا، عصى والديه مستحلا لعوقهما، زنا مستحلا: كفر، وبهذا نخرج عن الخوارج، نباين الخوارج يكون بيننا وبين الخوارج حينئذ متسع ولا- بتشديد اللام بمعنى أو- وقعنا فيما وقعت فيه الخوارج، وهو الذي شبه على الخوارج هذا، الإطلاقات هذه .
فقال سلمان: يعني المسألة قد تكون مشكلة عند كثير من الأخوان فلا بأس لو أخذنا بعض الوقت .
فقال ابن باز: لا ، مهمة مهمة ، عظيمة .
فقال سلمان: ذكرتم مسألة تكفير العاصي وفاعل الكبيرة، هذا ليس موضع خلاف. فقال الشيخ ابن باز: لا, ما هي المسألة مسألة الخوارج، هو علة الخوارج، الاطلاقات هذه, تركوا المقيدات وأخذوا المطلقات وكفروا الناس، وقال فيهم النبي يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه .
فقال سلمان: الزاني والسارق سماحة الشيخ …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا: هم كفار عند الخوارج .
فقال سلمان: عند الخوارج ، لكن أهل السنة متفقون على أن هؤلاء عصاة .
فقال الشيخ ابن باز: ما لم يستحلوا .
فأكمل الشيخ سلمان كلامه بقوله: لا يخرجون من الإسلام …
فكرر الشيخ قوله: ما لم يستحلوا .
فقال سلمان: ما لم يستحلوا نعم. إنما هو يرون أن هناك فرقا بين من يفعل المعصية فنحكم بأنه مسلم فاسق أو ناقص الإيمان، وبين من يجعل المعصية قانونا ملزما للناس، لأنه ـ يقولون ـ لا يتصور من كونه أبعد الشريعة مثلا وأقصاها وجعل بدلها قانونا ملزما ـ ولو قال إنه لا يستحله ـ لا يتصور إلا أنه إما أنه يستحله أو يرى أنه أفضل للناس أو ما أشبه ذلك، وأنه يفارق الذي حكم في قضية خاصة لقرابة أو لرشوة ؟
فقال الشيخ ابن باز: بس قاعدة، قاعدة: لا زم الحكم ليس بحكم، لا زم الحكم ليس بحكم، قد يقال في الذي حكم لهواه أو لقريبه: أنه مستحل يلزمه ذلك وليش يسأل، ما هو بلازم الحكم حكم، هذا فيما بينه وبين الله، أما بينه وبين الناس يجب على المسلمين إذا كان دولة مسلمة قوية تستطيع أن تقاتل هذا، ليش ما يحكم بما أنزل الله، يقاتل قتال المرتدين إذا دافع، مثل ما يقاتل مانعي الزكاة إذا دافع عنها وقاتل يقاتل قتال المرتدين، لأن دفاعه عن الحكم بغير ما أنزل الله مثل دفاعه عن الزكاة وعدم إخراج الزكاة، بل أكبر وأعظم، يكون كافرا، صرح به الشيخ تقي الدين ـ رحمه الله ـ في هذا، قال قتاله يكون قتال المرتدين لا قتال العصاة إذا دافعوا عن باطلهم، ذكره رحمه الله في، أظن كتاب السياسة، لا، ما هو في السياسة، غير هذا ، قال عنه فتح المجيد أظنه في باب …
فتدخل سلمان قائلا : في الفتاوى في كلامه في التتر .
فقال الشيخ ابن باز: يمكن في التتر، ذكر هذا رحمه الله أن قتالهم ليس مثل قتال العصاة بل قتال المرتدين، لأن دفاعهم عن المعصية مثل دفاع مانعي الزكاة في عهد الصديق سواء سواء .
فقال الشيخ سلمان: حفظكم الله ـ الآن بالنسبة لمانع الزكاة إذا قاتل عليها قلنا إنه يقاتل قتال كفر …
فقاطعة الشيخ ابن باز بقوله: لا شك، لا شك. فأكمل الشيخ سلمان كلامه: لأن امتناعه، امتناعه وقتاله على ذلك …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا: هو …… [ كلمة لم أعرفها ] دفاع من يحكم بغير ما أنزل …
فأكمل الشيخ سلمان كلامه بقوله: دليل على جحده للوجوب …
فقال الشيخ ابن باز مقاطعا سلمان: إذا دافع عن الحكم بغير ما أنزل الله وقال ما أرجع فهو دفاع المستحل، يكون كافرا .
فقال أحد الحضور: هؤلاء مقطوع بأنهم سيستميتون …
فقال الشيخ ابن باز: إذا وقع ، إذا وقع كفروا ، إذا وقع قيل لهم أحكموا بما أنزل الله وإلا قاتلناكم وأبوا يكفرون ، هذا الظن فيهم.
فقال السائل نفسه: هذا الظن فيهم .
فقال الشيخ ابن باز: لا شك، الظن فيهم هو هذا ، لكن بس الحكم بغير الظن ، والظن في حكام مصر وغيرها ـ الله لا يبلانا ـ هو الظن فيهم الشر والكفر ، لكن بس يتورع الإنسان عن قوله كافر ، إلا إذا عرف أنه استحله ، نسأل الله العافية .
ثم قال الشيخ ابن باز : ما أدري عندك أسئلة ولا خلاص .
فقال الشيخ الطريري : نحن ننتظر الأذن لنا .
فقال ابن باز : لا بأس . ثم قال : البحث هذا ما يمنع البحث الآخر ، البحث هذا ، كل واحد يجتهد في البحث ، قد يجد ما يطمئن له قلبه ، لأنها مسائل خطيرة ، ماهي بسهلة مسائل مهمة .
فقال الشيخ سلمان : ترون أن هذه المسألة ـ سماحتكم ـ يعني اجتهادية ؟
فقال الشيخ ابن باز : والله أنا هذا الذي اعتقده من النصوص يعني من كلام أهل العلم فيما يتعلق في الفرق بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة ، خصوصا الخوارج ، أن فعل المعصية ليس بكفر إلا إذا استحله أو دافع عن دونها بالقتال .
فقال أحد الحضور : ـ سماحة الشيخ ـ أقول أحسن الله إليكم ـ إذا كوتبوا وطولبوا بالشريعة فلم يرجعوا يحكم بكفرهم ؟
فقال الشيخ ابن باز : إذا قاتلوا بس ، أما إذا ماقاتلوا دونها لا .
فقال السائل : إذا طولبوا بهذا .
فقال ابن باز : إذا طلبت زيدا فقلت له زك فعيا يزكي [ يعني رفض يزكي ] عليك …… [ كلمة لم أعرفها والظاهر أنها بمعنى الإلزام ] بالزكاة ولو بالضرب ، أما إذا قاتل دونها يكفر .
فقال السائل : لكن الذي سيطالب ضعيف وقد يقاتل .
فقال ابن باز : ولو ، مايكفر إلا بهذا ، مادام أنه مجرد منع يعزر ، وتؤخذ منه مع القدرة ، ومع عدم القدرة يقاتل إن كان للدولة القدرة على القتال تقاتله .
فقال السائل : لا ، من طلب بالحكم بشرع الله فأبى ؟
فقال ابن باز : يقاتل ، فإن قاتل كفر ، وإن لم يقاتل لم يكفر يكون حكمه حكم العصاة .
فقال الشيخ ابن جبرين : من الذي يقاتله ؟
فقال ابن باز : الدولة المسلمة .
فقال أحد الحضور : وإذا مافيه دولة مسلمة ؟
فقال ابن باز : يبقى على حاله بينه وبين الله .
فقال الشيخ ابن جبرين : بعض الدول متساهلين .
فقال الشيخ ابن باز : الله المستعان .
فقال الشيخ سلمان : سماحة الشيخ ـ الشيخ محمد ـ الله يرحمه ـ ابن إبراهيم في رسالته ذكر أن الدول التي تحكم بالقانون دول كفرية يجب الهجرة منها .
فقال الشيخ ابن باز : لظهور الشر لظهور الكفر والمعاصي .
فقال الشيخ سلمان : الذين يحكمون بالقانون .
فقال الشيخ ابن باز : شفت رسالته ـ الله يغفر له ـ بل يرى ظاهرهم الكفر ، لأن وضعهم للقوانين دليل على رضى واستحلال ، هذا ظاهر رسالته ـ رحمه الله ـ ، لكن أنا عندي فيها توقف ، أنه ما يكفي هذا حتى يعرف أنه استحله ، أما مجرد أنه حكم بغير ما أنزل الله أو أمر بذلك ما يكفر بذلك مثل الذي أمر بالحكم على فلان أو قتل فلان ما يكفر بذلك حتى يستحله ، الحجاج بن يوسف ما يكفر بذلك ولو قتل ما قتل حتى يستحل ، لأن لهم شبهة ، وعبد الملك بن مروان ، ومعاوية وغيرهم ، مايكفرون بهذا لعدم الاستحلال ، وقتل النفوس أعظم من الزنا وأعظم من الحكم بالرشوة .
فقال أحدهم : مجرد وجود الإنسان في بلاد كفر لا يلزمه الهجرة …
فقاطعه الشيخ ابن باز قائلا : الهجرة فيها تفصيل ، من أظهر دينه ما يلزمه ، أو عجز مايلزمه إلا المستضعفين .
فقال الشيخ ابن جبرين : فيه آثار عن الإمام أحمد يكفر من يقول بخلق القرآن .
فقال الشيخ ابن باز : هذا معروف ، أهل السنة يكفرون من قال بخلق القرآن … الخ هذه المناقشة حول خلق القرآن وتكفير القائل به ، والتي بها ختم الشريط. ولله الحمد والمنة.
20- وابن عثيمين, وعندما سُئل في شريط "التحرير في مسألة التكفير" بتاريخ (22/4/1420) عن مسألتنا هذه: "... أما في ما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كما في كتابه العزيز، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كفر، وظلم، وفسق، على حسب الأسباب التي بُني عليها هذا الحكم، فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعاً لهواه مع علمه أن بأن الحق فيما قضى الله به ؛ فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم، وأما إذا كان يشرع حكماً عاماً تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة وقد لبس عليه فيه فلا يكفر أيضاً، لأن كثيراً من الحكام عندهم جهل بعلم الشريعة ويتصل بمن لا يعرف الحكم الشرعي، وهم يرونه عالماً كبيراً، فيحصل بذلك مخالفة، وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستوراً يمشي الناس عليه؛ نعتقد أنه ظالم في ذلك وللحق الذي جاء في الكتاب والسنة أننا لا نستطيع أن نكفر هذا، وإنما نكفر من يرى أن الحكم بغير ما أنزل الله أولى أن يكون الناس عليه، أو مثل حكم الله عز وجل فإن هذا كافر لأنه يكذب بقول الله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾ وقوله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾".
وإليك هذا الحوار المهم والنادر:
مكالمة مباشرة من ثوار الجزائر- من مواقعهم على رؤوس الجبال- مع ابن عثيمين بتاريخ: 1 رمضان 1420هـ :
السائل: شيخنا! سؤال عقائدي في قضية الفرق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي في مسألة الحكم بغير أنزل الله؟
الشيخ: يعني مثلاً من ترك الصلاة فهو كافر، من سجد لصنم فهو كافر، من قال إنَّ مع الله خالقاً فهو كافر، وهذا كفر عملي وأمَّا الكفر الاعتقادي ففي القلب.
السائل: شيخنا! الكفر العملي هل يُخرج من الملة ؟
الشيخ: بعضه مخرجٌ وبعضه غير مخرج، كقتال المؤمن، فقد قال النَّبِيُّ : ( قتاله كُفْرٌ ) ومع ذلك لا يخرج من المِلَّة مَن قاتل أخاه المؤمن بدليل آية الحجرات: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا قال: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
السائل: متى يُصبح الكفر العملي كفراً اعتقاديًّا شيخنا ؟
الشيخ: إذا سجد لصنم، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، إلاَّ أن يكون مكرهاً.
السائل: وفي قضية الحكم بغير ما أنزل الله ؟
الشيخ: هذا باب واسع، هذا باب واسع، قد يحكم بغير ما أنزل الله عدواناً وظلماً، مع اعترافه بأنَّ حكم الله هو الحق، فهذا لا يكفر كفراً مخرجاً عن الملة، وقد يحكم بغير ما أنزل الله تشهيًّا ومحاباة لنفسه، أو لقريبه، لا لقصد ظلم المحكوم عليه ... ولا لكراهة حكم الله، فهذا لا يخرج عن الملة، إنَّما هو فاسق.
وقد يحكم بغير ما أنزل الله كارهاً لِحُكم الله، فهذا كافرٌ كفراً مُخرجاً عن الملَّة، وقد يحكم بغير ما أنزل الله طالباً موافقة حكم الله، لكنَّه أخطأ في فهمه، فهذا لا يكفر، بل ولا يأثم لقول النَّبِيِّ : (( إذا حكم الحاكمُ فاجتهدَ فأخطأ فله أجرٌ واحد، وإن أصاب فله أجران ) انتهى نص الحوار, والحمد لله.
ويدعي الكثير من المكفرين أن فضيلة الشيخ ابن عثيمين يكفر حكام المسلمين الآن, وردا عليهم أنقل هذه الفتوى الصريحة في كشف تدليس التكفيريين :
يسأل أبو الحسن مصطفى ابن إسماعيل السليماني من مأرب باليمن في يوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وأربعمائة وعشرين من الهجرة, فيقول:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, سؤالي حول مسألة كثر فيها النزاع بين طلبة العلم وكثر بها أيضا الاستدلال ببعض الكلمات لفضيلة الوالد العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى .
فضيلة الشيخ سلمكم الله ، هنا كثير من طلبة العلم يدندنون حول الحاكم الذي يأتي بشريعة مخالفة لشريعة الله عز وجل يأمر الناس بها ويلزمهم بها وقد يعاقب المخالف عليها ويكافئ أو يجازي بالخير وبالعطاء الملتزم بها. وهذه الشريعة في كتاب الله وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام تعتبر مخالفة و مصادمة لنصوص الكتاب والسنة. هذه الشريعة إذا الزم هذا الحاكم بها الناس مع أنه يعترف أن حكم الله هو الحق وما دونه هو الباطل وأن الحق ما جاء في الكتاب والسنة ولكنه لشبهة أو لشهوة جرى إلزام الناس بهذه الشريعة .
كما وقع مثل ذلك كثيرا في بني أمية وفي بني العباس وفي أمراء الجور الذين ألزموا الناس بأمور لا تخفى على مثلكم بل لا تخفى على كثير من الناس عندما ألزموا الناس بما لا يرضي الله عز وجل كالأمور الوراثية وجعلوا الملك عاضا بينهم كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم وقربوا شرار الناس وأبعدوا خيارهم وكان من يوافقهم على ما هم فيه من الباطل قربوه ومن يأمرهم وينهاهم ربما حاربوه إلى آخره ... فلوا أن الحاكم في هذا الزمان فعل مثل هذه الشريعة هل يكون كافرا بهذه الشريعة إذا ألزم الناس بها مع اعترافه أن هذا مخالف للكتاب والسنة وأن الحق في الكتاب والسنة ، هل يكون بمجرد فعله هذا كافرا أم لا بد أن ينظر إلى اعتقاده بهذه المسالة؟ كمن مثلاً يلزم الناس بالربا وكمن يفتح البنوك الربوية في بلاده ، و يأخذ من البنك الدولي كما يقولون قروضاً ربوية ، ويحاول أن يؤقلم اقتصادها على مثل هذا الشيء ، ولو سألته قال : الربا حرام ولا يجوز, لكن يعتذر باعتذارات.. قد تكون الاعتذارات مقبولة وقد لا تكون. فهل يكفر بمثل ذلك أم لا ؟ ومع العلم أن كثيراً من الشباب ينقلون عن فضيلتكم أنكم تقولون أن من فعل ذلك يكون كافراً. ونحن نلاحظ في بلاد الدنيا كلها أن هذا شيء موجود بين مقل و مستكثر نسأل الله العفو والعافية .
نريد من فضيلتكم الجواب على ذلك عسى أن ينفع الله سبحانه وتعالى به طلاب العلم وينفع الله عز وجل به الدعاة إلى الله عز وجل لأنه لا يخفى عليكم أن الخلاف كم يؤثر في صفوف الدعوة إلى الله عز وجل ، والله سبحانه وتعالى المسؤول أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال .
جواب الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله : (( الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله و أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد : ففي هذا اليوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول عام عشرين وأربعمائة وألف استمعت إلى شريط مسجل باسم أخينا أبى الحسن في مأرب ابتدأه بالسلام علي فأقول عليك السلام ورحمة الله وبركاته .
وما ذكره من جهة التكفير فهي مسألة كبيرة عظيمة ، و لا ينبغي إطلاق القول فيها إلا مع طالب علم يفهم و يعرف الكلمات بمعانيها ويعرف العواقب التي تترتب على القول بالتكفير أو عدمه. أما عامة الناس فإن إطلاق القول بالتكفير أو عدمه في مثل هذه الأمور تحصل منه مفاسد. والذي أرى أولاً أن لا يشتغل الشباب في هذه المسألة وهل الحاكم كافر أو غير كافر وهل يجوز أن نخرج عليه أو لا يجوز.
على الشباب أن يهتموا بعباداتهم التي أوجبها الله عليهم أو ندبهم إليها ، و أن يتركوا ما نهاهم الله عنه كراهة أو تحريماً ، وأن يحرصوا على التآلف بينهم و الاتفاق ، و أن يعلموا أن الخلاف في مسائل الدين والعلم قد جرى في عهد الصحابة رضي الله عنهم و لكنه لم يؤد إلى الفرقة و إنما القلوب واحدة والمنهج واحد .
أما فيما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله فهو كما في الكتاب العزيز ينقسم إلى ثلاثة أقسام كفر وظلم وفسق على حسب الأسباب التي بني عليها هذا الحكم :
1- فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعاً لهواه مع علمه بأن الحق فيما قضى الله به فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم .
2- و أما إذا كان يشرع حكماً عاماً تمشي عليه الأمة ويرى أن ذلك من المصلحة وقد لُبّس عليه فيه فلا يكفر أيضاً لأن كثيراً من الحكام عندهم جهل في علم الشريعة ويتصل بهم من لا يعرف الحكم الشرعي وهم يرونه عالماً كبيراً فتحصل بذلك المخالفة.
3- وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستوراً يمشي الناس عليه يعتقد أنه ظالم في ذلك وان الحق فيما جاء به الكتاب والسنة فإننا لا نستطيع أن نكفر هذا.
وإنما نكفر : من يرى أن حكم غير الله أولى أن يكون الناس عليه أو هو مثل حكم الله عز وجل فإن هذا كافر لأنه مكذب لقول الله تبارك وتعالى : (( أليس الله بأحكم الحاكمين )) ، و قوله : (( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )) .
ثم هذه المسائل لا يعني أننا إذا كفّرنا أحدا فإنه يجب الخروج عليه لأن الخروج تترتب عليه مفاسد عظيمة أكبر من السكوت ، و لا نستطيع الآن أن نضرب أمثالاً فيما وقع في الأمة العربية وغير العربية. وإنما إذا تحقق لدينا جواز الخروج عليه شرعا فإنه لابد من استعداد وقوة تكون مثل قوة الحاكم أو أعظم. وأما أن يخرج الناس عليه بالسكاكين والرماح ومعه القنابل والدبابات وما أشبه هذا فإن هذا من السفه بلا شك وهو مخالف للشريعة )). انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى من شريط مسجل بصوته.
21- يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في الفتاوى 1/80 :
"من حكم بها (يعني القوانين الوضعية) أو حاكم إليها معتقداً صحة ذلك وجوازه ، فهو كافرٌ الكفرَ الناقل عن الملَّة ،وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه ، فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملة".( تنبيه: هذه الفتوى مؤرخة بتاريخ (19/1/1385) وهي مفصلة لما أجمل في رسالة "تحكيم القوانين" فهي متأخرة عنها بخمس سنين لأن الطبعة الأولى للرسالة كانت في سنة 1380هـ .)
ثم استدركت فقلت: لقد وقفت أخيرا على الكلام الآتي:
"سئل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: هل تجب الهجرة من بلاد المسلمين التي يُحكم فيها بالقانون؟ فأجاب: البلد التي يُحكم فيها بالقانون ليست بلد إسلام, تجب الهجرة منها.(فتاوى الشيخ 6/88 ط 1399) اهـ.
وإني والله ازددت حيرة..., ولا أعلم بسبب ذلك موقف الشيخ الذي مات عليه, فأرجوا أن تفيدوني بعلمكم.
وهذا لم ولن يؤثر في موقفي على الإطلاق من هذه القضية, وإنما أقول ذلك حتى لا أكذب على الشيخ إبراهيم رحمه الله. أفيدوني جزيتم خيرا إن شاء الله.
22- يقول العلامة مقبل بن هادي الوادعي – رحمه الله - :
( ... أما مسألة التوصل إلى التكفير والحاكم لا يزال يصلي ويعترف بشعائر الإسلام فينبغي للمسلم أن يبتعد عن هذا ، وقوله سبحانه وتعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يقول ابن عباس : هو كفر دون كفر ، أو يحمل على ما إذا كان مستحلا ...) . من كتاب إجابة السائل على أهم المسائل ص285
23- قول الشيخ عبد المحسن العباد البدر – حفظه الله - :
سُئل في المسجد النبوي في درس شرح سنن أبي داود بتاريخ: 16/11/1420 :
هل استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية كفر في ذاته؟ أم يحتاج إلى الاستحلال القلبي والاعتقاد بجواز ذلك؟ وهل هناك فرق في الحكم مرة بغير ما أنزل الله، وجعل القوانين تشريعاً عاماً مع اعتقاد عدم جواز ذلك؟
فأجاب: "يبدو أنه لا فرق بين الحكم في مسألة، أو عشرة، أو مئة، أو ألف – أو أقل أو أكثر – لا فرق؛ ما دام الإنسان يعتبر نفسه أنه مخطئ، وأنه فعل أمراً منكراً، وأنه فعل معصية، وانه خائف من الذنب، فهذا كفر دون كفر. وأما مع الاستحلال – ولو كان في مسألة واحدة، يستحل فيها الحكم بغير ما أنزل الله، يعتبر نفسه حلالاً-؛ فإنه يكون كافراً ".
24- يقول الشيخ ربيع بن هادي المدخلي: (الحكم بغير ما أنزل الله بشروطه يكون كفرا : إذا كان يرى أن الحكم بغير ما أنزل الله جائز هذا كفر لأن الله تبارك وتعالى لا شريك له في الحكم ولا يشرك في حكمه أحدا سبحانه وتعالى . إذا كان يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله أفضل من الحكم بما أنزل الله ولو كان يعرف أن هذا حق يعرف أن ما أنزل الله حق ولكن هذه القوانين أفضل من الشرائع الإسلامية التي شرعها الله تبارك وتعالى فهذا كفر هذا يسمى كفر : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } وقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } . فالمصطلح القرآني والنبوي يسمي الحكم بغير ما أنزل الله كفرا . قد يكون كفرا أصغرا إذا كان معترف بحاكمية الله ومعترف أنه ظالم في حكمه بغير ما أنزل الله هذا كفرا أصغر . فإذا كان يرى أن يعني لا يعترف بحاكمية الله ويستحل الحكم بغير ما أنزل الله ويرى أن الحكم بغير ما أنزل الله أفضل من الحكم بما أنزل الله فهذا كافر كفرا أكبر يخرج من دائرة الإسلام .) من شريط السنة بين الغلو والتقصير.
25- يقول الشيخ صالح بن سعد السحيمي: (وخلاصة القول أنه يمكن أن نقسم الناس إلى ما يلي :
أولا : رجل عرف الحق بدليله فحكم به وأصاب الحكم فهذا رجل مأجور بل إن له أجرين لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – إن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد .
ثانيا : رجل اجتهد في طلب الحق واستخدم جميع الآلات الفقهية والاجتهادية من أصولية وحديثية ونحو ذلك ودرس المسألة من جميع جوانبها ليصل إلى حكم الله فيها فأخطأ فهذا مأجور أيضا له أجر واحد وقد سمعنا الحديث في ذلك .
ثالثا : رجل جاهل يريد حكم الله ويرغبه ولكنه لم يكلف نفسه البحث والتحري بل حكم بمجرد الاجتهاد دون علم حكم بجهله دون أن يكلف نفسه البحث عن الحق على ضوء الكتاب والسنة فحكم بالجهل وهو يريد الحق لكنه حكم بالجهل ظنا منه أن ذلك يكفيه فهذا آثم وعاص .
رابعا : رجل عرف حكم الله ولم يحكم به تحت غلبة الهوى أو الظرف الذي يعيشه أو المجاملة أو المداهنة أو نحو ذلك غلبه هواه فحكم بغير ما أنزل الله فأصاب الحكم فهو أيضا آثم وعاص سواء أصاب أو أخطأ حتى ولو أصاب هو آثم وعاص حتى ولو أصاب . انتبهوا إلى هذه القيود رجل ماذا ؟ عرف الحق واعترف به لكنه حكم بغير ما أنزل الله تحت غلبة الهوى أو الشهوة أو المصلحة مع اعترافه بأنه مذنب وأنه عاص ويشعر بذنبه فحكم بالقوانين أو بغيرها فهذا ما حكمه ؟ أنه عاص ولا يخرج من الإسلام بل يعتبر مسلما عاصيا مؤمنا عاصيا مؤمنا بإيمانه فاسق بكبيرته شأنه شأن من ارتكب شيئا من المحظورات والمحرمات مع اعترافه بذنبه وهو موحد لله سبحانه وتعالى . هذا هو الذي يجب أن ننتبه له وهو الذي حصل به الخلط رجل أو قاضي سواء كان قاضي أو غيره حكم بغير ما أنزل الله تحت ضغط الهوى أو غلبة الشهوة أو المصلحة أو أعطي شيئا من المال جعله يعدل عن حكم الله إلى حكم غيره مع اعترافه بأنه عاص ومذنب ومخالف للشرع وشعوره بالذنب فهذا مسلم عاصي ولا يجوز أن يخرج من الإسلام ولو حكم بغير ما أنزل الله بهذه القيود التي ذكرتها .
خامسا : رجل حكم بغير ما أنزل الله تحت ظرف أو تحت ضغط أو مكره( وهذا كان ينبغي أن يكون الثالث أو الرابع ينبغي أن يكون الرابع ) رجل أجبر على أن يحكم بغير ما أنزل الله أجبر إجبارا وأكره إكراها فهذا معذور إلا إذا كان فيه إتلاف نفس أو نحو ذلك ... فهذا قد يأثم إذا لم يمتنع من ذلك لكن أيضا لا يبلغ درجة الكفر ... فعليه أن يرفض ولو أدى ذلك إلى أن يناله ما يناله من الأذى ...
الأمر السادس : رجل علم بحكم الله وعلم أنه الحق لكن فضل حكم غير الله على حكم الله وقال إن تطبيق القانون الوضعي أفضل من حكم الله أو مساوي لحكم الله سواء قال إنه أفضل أو قال إنه مساوي لحكم الله سواء سواه بحكم الله واستحل الحكم بغير ما أنزل الله استحلالا بأن قال إن حكم الله لم يعد صالحا للتطبيق أو إنه لا فرق بين أن أطبق حكم الله أو حكم غير الله وهذا هو الذي يكفر ويخرج من ملة الإسلام لكن انتبهوا إلى القيود التي قلتها وهي : 1- أنه يعلم أن هذا حكم الله وخالفه . 2- أن يعدل عن حكم الله إلى غيره . 3- أن عدوله ناتج عن تفضيل لحكم غير الله على حكم الله أو اعتقاد التسوية بين حكم الله وحكم غير الله ففي كلا الحالين من كان هذا شأنه يكفر ويمرق من الدين ؛ لأنه والحال هذه تنكر لحكم الله ورضي بحكم الطاغوت بل رآه أفضل أو مساو لحكم الله سبحانه وتعالى . هذا هو التفصيل الذي ينبغي أن يفهم في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله حتى لا نتسرع في الحكم على المسلمين بالكفر والتكفير حتى بالنسبة لبعض البلاد التي لا تحكم شرع الله لا يجوز أن نتسرع في الحكم عليهم ولا في الحكم على الحكام في تلك البلاد ما لم تقم عندنا حجة عليهم من خلال كلامهم أو تصريحاتهم بأن حكم غير الله أفضل من حكم الله أو أنه مساوية لحكم الله فمتى صرحوا بهذا فهم كفرة بعد أن علموا بحكم الله وعلموا أنه الحق ولكن قالوا : إنها لا تصلح للتطبيق أو أنها قد مضى وقتها أو ولى وقتها أو نحو ذلك بعد علمهم بحكم الله فهذا التفصيل أرجو أن يفهم وأن يبلغ للشباب ولطلاب العلم والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد .) من آخر شريط لشرح الشيخ لكتاب تجريد التوحيد .
26- يقول الشيخ محمد بن جميل زينو: (ما حكم العمل بالقوانين المخالفة للإسلام؟ العمل بالقوانين المخالفة للإسلام كفر مخرج من الإسلام إذا أجازها ، أواعتقد صلاحيتها ، أو اعتقد عدم صلاحية الإسلام . قال الله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } وقال صلى الله عليه وسلم " وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ، ويتخيروا مما أنزل الله ، إلا جعل الله بأسهم بينهم " [ حسن رواه ابن ماجة وغيره ] ) من كتاب مجموعة رسائل التوجيهات الإسلامية ص 267.
27- يقول الشيخ أحمد بن يحيى النجمي: (...."ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " وفي آية أخرى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } وهذا يحمل على تنوع الناس في عدم الحكم بما أنزل الله – سبحانه وتعالى – فمنهم من يكون مقرا بأن الحكم بما أزل الله هو الواجب ولكن يحمله إما حب المال أو خوفا من الضغوط عليه أو هوى بالمحكوم عليه أو هوى مع المحكوم له كل ذلك يدفعه أنه يحكم بغير ما أنزل الله فهذا مع اعتقاده لا يكون كافرا وإنما يكون فاسقا فالكفر لا يكون إلا لمن اعتقد أن حكم غير الله – عز وجل – أحسن من حكم الله فمن اعتقد هذا أو مساويا له من اعتقد هذا فإنه يعتبر قد كفر أما لو حكم بغير ما أنزل الله من أجل الحصول على رشوة مال أو حَكَمَ لمن يحبه أو حكم على من يبغضه أو حكم من أجل ضغوط خارجية أو ما أشبه ذلك وهو يعتقد أنه عاص بفعله هذا فهذا لا يعتبر كافرا وإنما يعتبر كافرا من اعتقد أن حكم غير الله – عز وجل – أحسن من حكم الله أو مساويا لحكم الله – عز وجل – فعندئذ يكون كافرا ) من شريط توجيهات في العقيدة والمنهج والدعوة.
أقول: ولقد وقفت على رسالة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله تناقض فيها صاحبها وأتى بما لم يأت به من سبقه من الغرائب ، وقد قرر في رسالته أن هنالك فرقاً بين من حكم بغير ما أنزل الله دون أن يشرع قانوناً لذلك وبين من وضع قانوناً فالأول لا يكفر وأما الثاني فهو وكل من حكَّم قانونه أو عمل به كافر خارج من الملة مادام أنه قد علم بمخالفته لحكم الله ، ودليله على ذلك: أن التشريع حق لله وحده وأن من شرَّع فإنه يلزمه أمران : رفض شريعة الله إذ لو لم يرفضها لما استبدل بها غيرها والثاني أنه تعدى على حق من حقوق الله وأن ذلك ينافي التوحيد, وأن الله سبحانه قد اختص بأشياء منها العبادة ، ومنها الخلق والرزق التدبير ، ومنها الحكم والتشريع أيضاً ... إلى أن قال : فمن صرف شيئاً اختص اللّـه به لغيره فقد أشرك شركاً أكبر كالذي يعبد غير الله ، أو يدعي علم الغيب من دون الله ، أو يشرع من دون الله ، وهذه قاعدة مطردة لا استثناء فيها.
أقول ردا عليه: هذه مجازفة ، "فالعزُّ والعظمة والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به التي لا تنبغي لغيره" فيما يقول القرطبي في "المفهم" ، كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة ، قالا : قال رسول الله(ص): "العزُّ إزارهُ ، والكبرياءُ رداؤه ، فمن ينازعني عذبته" .
وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله يقول : "قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبَّة ، أو ليخلقوا شعيرة" .
قال القرطبي : "وقد دلَّ هذا الحديث على أن الذم والوعيد إنما علَّق من حيث تشبهوا بالله تعالى في خلقه ، وتعاطوا مشاركته فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع" .
ومما يؤكد أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به ، حديث عائشة قالت : "دخل علَّي رسول الله وقد سترتُ سهوةً لي بقرام فيه تماثيل ، فلما رآه هتكه وتلوَّن وجههُ ، وقال : "يا عائشة ، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يُضَاهُون بخلق الله" .
ومع أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به ، فإن أهل السُّنَّة لم يكفروا منهم إلاَّ من استحل أو قصد العبادة والمضاهاة ، أما من لم يستحل ، ولم يقصد العبادة والمضاهاة ، فليس بكافر .
وأهل السنة كافة لا يكفرون من يستعظم نفسه ويحتقر غيره ، وكذلك الخلق والتصوير من خصائصه سبحانه ، فنحت التماثيل فيه مضاهاة لخلق الله تعالى , ولم يكفر أهل السنة منهم إلا من استحل ذلك أو قصد العبادة والمضاهاة. وصفوةُ القول أنَّ ثمة أوصافاً إلهية انفردَ اللهُ لها دون خلقهِ ، كالكبرياء والعظمة والخلق والتصوير ، وأهل السُّنَّة لم يكفروا المنازع له فيها بإطلاق ، وإنما سلكوا منهج التفصيل ، فكذلك التشريع والحكم إذا لم يكن عن استحلال فليس بكفر ، وفاعله فاسق صاحب ذنب كبير ، ولا يكفر كسائر الكبائر غير المكفرة –كما يقول الدكتور الفاضل علي العنبري في هزيمة الفكر التكفيري ص25- .
والذي ينبغي التنبيه عليه أن الشرك هنا في توحيد الربوبية بمعنى إعطاء حق التشريع - أي تشريع - لغير الله , وليس بالضرورة أن يكون صاحبه مشركاً شركاً أكبر لأن الشرك في الربوبية منه ما هو شرك أكبر ومنه ما هو شرك أصغر وضابط ذلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ما ذكرناه آنفاً وعليه إجماع الأمة أن الأمر يرجع إلى الجحود والاستحلال . ولا يقال أن من اتبع حكم القانونيين وهو يعلم أنه على ذنب أنه قد أعطى المخلوق حق التشريع من دون الله لأن هذا الأمر يتعلق بالاعتقاد كما قررنا وهو بهذه العقيدة الباطلة كافر ولو كان في مسألة يوافق حكمها حكم الله .
أما بدون هذه العقيدة كأن يفعل ذلك إتباعاً للهوى أو تحقيقاً لمصلحة دنيوية فليس عندنا ما نكفره به .
أما ما يتعلق بالشرك في توحيد الألوهية فلا شك أنه لا يكون إلا شركاً أكبر لكن هل يقال لمن حكم بغير ما أنزل الله أنه صرف العبادة لغير الله ، ليس الأمر كذلك لأنه في حقيقة الأمر خالف حكم الله ولم يصرف شيئاً من العبادة لغير الله , وإلا لزمك التكفير بالذنوب والمعاصي ولو كانت من الصغائر, وهذا باطل عاطل.
وقرر المخالفون أن تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً قرينة على الاستحلال القلبي أقول ردا عليهم: الذي عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن كل ذنب دون الكفر (ومنه بالطبع- عند كل من أنصف- تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً) لا يعد قرينة على الاستحلال القلبي ، فإن المعاصي التي دون الكفر بوجه عام إما أن يستحلها صاحبها عملياً أو قلبياً فبالأول يكون فاسقاً وبالثاني يكون كافراً ومن قال غير هذا فعليه البيان.
3- متى يكفر الحاكم بغير ما أنزل الله ؟
لا خلاف في كفر من حكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر إن كان جاحداً لحكم الله، أو مُجوِّزاً فعلهُ، أو معتقداً المساواة بين الحُكْمين، أو مُفضِّلاً حكم غير الله على حكم الله، أو مقترناً حالُه بالتبديل (وانظر لزاما المقود بالتبديل في العنصر الرابع من بحثنا هذا)
وأما إن حكم بغير ما أنزل الله خالياً حاله من أحد هذه الأمور المتقدّمة فهو محل البحث.
قال ابن تيمية -رحمه الله- (الفتاوى3/267):
"والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافراً مرتدّاً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله تعالى –على أحد القولين - (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله" ا.هـ (أقول: انظر العنصر الرابع لزاما)
وقال أيضاً -رحمه الله- (الصارم2/971):
"وبيان هذا: أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق؛ فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه"ا.هـ.
وقال أيضاً -رحمه الله- (المنهاج5/130):
"ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتِّباعٍ لما أنزل الله فهو كافر…"ا.هـ
ثم اعتقاد التساوي بين حكم الله وحكم غير الله هو عين التشريك الذي هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله. وكذلك اعتقاد التفضيل هو تكذيبٌ ضِمْنِيٌّ لقوله تعالى: "ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون".
قال ابن عثيمين في تعليقه على كلام الألباني "وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونا مخالفا للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله( وأنا أخالف العلامة ابن عثيمين في ذلك, كما سيبين هو بعد قليل) ويعتقد انه خير من القانون الشرعي ، فهو كافر, هذا هو الظاهر وإلا فما الذي حمله على ذلك ؟ قد يكون الذي يحمله على ذلك خوفا من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبق فيكون هنا مداهنا لهم ، فحينئذ نقول : إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي ."
وقد استثقل بعضهم هذا القول وكأن الله كلفه بالحكم على الناس جميعهم بالكفر أو الإيمان حتى إذا لم يجد دليلا عنده من الله فيه برهان كفر بالظن. وأقول له "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" فلا سبيل لنا إلى شق قلبه أو معرفة ما يدور بخلده, فلننتظر حتى يصرح لنا بعقيدته, أو يصدر منه ما يدل يقينا على كفره.
ويقول العلامة عبد اللطيف آل الشيخ: ( وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه ،وقد رأى كفراً بواحاً،كالشرك بالله وعبادة ما سواه والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله،أو تكذيبهم،أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق ، أو جحود الحق أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله ونحو ذلك ، فالكفر بهذا وأمثاله مصيب مأجور ، مطيع لله ورسوله(.
وهنا يتبادر سؤال: هل المبدل للشريعة يكون كافرا ؟ وهل غير الملتزم بها كذلك أيضا ؟
أقول مستعينا بالله : التبديل في الحكم في اصطلاح العلماء هو الحكم بغير ما أنزل الله على أنه من عند الله ، كمن حكم بالقوانين الفرنسية وقال : هي من عند الله ، أو من شرعه تعالى ، ولا يخفى أن الحكام بغير ما أنزل الله اليوم لا يزعمون ذلك ، بل هم يصرحون أن هذه القوانين محض نتاج عقول البشر القاصرة. ومما يخطئ فيه الكثيرون تفسير مصطلح الانقياد، فإن معناه عند أهل العلم الخضوع للأمر وإن لم يفعل المأمور به ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الصارم المسلول : (3/967): ((كلام الله خبر,والخبر يستوجب تصديق المخبر ، والأمر يستوجب انقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب, جماعه : الخضوع والانقياد للأمر ، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار ))
وذلك واضح تمام الوضوح في كلام الإمام ابن العربي "أحكام القرآن" (2/624): " وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين".
أما بالنسبة إلى الالتزام, فالالتزام في اصطلاح العلماء و عرف الفقهاء ، هو الإيجاب على النفس، فقولهم: التزم أحكام الإسلام،معناه أوجب على نفسه الأخذ بها ، وإن لم يعمل بها (أنظر : معجم لغة الفقهاء للدكتور محمد رواس قلعجي : (86) ) .وقد أوضح ذلك أيضا الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية نفسها بلفظ قريب من لفظ شيخ الإسلام ابن تيمية فقال (ومن ترك التحكيم المذكور ، غير ملتزم له ،فهو كافر ، ومن تركه مع التزامه, فله حكم أمثاله من العاصين)) .
فقوله : ((ومن تركه مع التزامه)) يعني مع إذعانه لها وعدم ردها وإن لم يعمل بها ، وإلا تناقض كلامه. ومما يؤكد ذلك: استعمال ابن تيمية لهذا المصطلح في عامة كتبه، ومن ذلك قوله في مسألة تكفير تارك الصلاة: (ومورد النزاع هو فيمن أقرَّ بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها ، وأما من لم يقر بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها, وأما من لم يقر بوجوبها ثلاثة أقسام :
أحدها : فإن جحد وجوبها فهو كافر بالاتفاق.
والثاني : أن لا يجحد وجوبها ، ولكنه ممتنع من التزام فعلها كبراً أو حسداً ، أو بغضاً لله ورسوله ... فهذا أيضاً كافر بالاتفاق .
والثالث : أن يكون مقراً ملتزماً ، ولكن تركها كسلاً وتهاوناً ... )
4- أقسام الأفعال المكفرة
إن الأعمال المكفّرة قسمان، فهناك أعمال تنافي الإيمان من كل وجه، وأعمال لا تنافيه من كل وجه؛
فالأُولى: يُكفَّر بها نوعاً إن نطقت بذلك الأدلة وعيناً إن توفّرت شروط التكفير وانتفت موانعه.
والأعمال الأُخرى: لا يُكفّر بها نوعاً ولا عيناً إلا بعد استفصال وسؤال واستبانة عن الحال.
وهذا الكلام بتمامه هو ما نطق به أئمة الدين، وجرى عليه عمل الأولين والآخرين، من العلماء المعتبرين، فإن لزِمْتَ غَرْزهم كنت من المفلحين، وإياك والانحراف عن هذا المسلك، فتُهلِك الناسَ وتَهْلَكْ.
فهذا الشافعي –رحمه الله- لما تكلم عن قصّة حاطب قال (الأم4/250)
"وفي هذا الحديث –مع ما وضّحنا لك- طرحُ الحكم باستعمال الظنون؛ لأنه لما كان الكتابُ يحتمل أن يكون ما قال حاطب، كما قال أنه لم يفعله شاكّاً في الإسلام وأنه فعله ليمنع أهله ويحتمل أن يكون زلّةً لا رغبةً عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح؛ كان القول قولُه فيما احتمل فعله، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لم يقتله"ا.هـ.
أقول:
1- فانظر كيف حكم الشافعيُّ رحمه الله على إعانة حاطبٍ الكفارَ على المسلمين أنها تحتمل الكفر وتحتمل ما هو أقلّ منه،
2- وأن الأمر يرجع إلى النظر في حالِ الذي وقع منه الفعل،
3- وانظر كيف استدلّ رحمه الله بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله حاطب على أن الحكم في كلّ محتملٍ هو طرحُ الظنّ، وطرح الظنّ يكون بالاستفصال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب رضي الله عنه وأرضاه.
4- ثم انظر كيف جعل –رحمه الله- الكفر لا يكون بأمرٍ محتملٍ.
وقال ابن تيمية (الصارم3/963(
"فإن التكفير لا يكون بأمرٍ محتمل"ٍا.هـ.
وقال ابن رجب -رحمه الله- (الفتح1/114(
"وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصيرُ بالنيّةِ كفراً"ا.هـ.
أقول: فانظر كيف جعل المحتملَ كفراً إن وقع على الوجه المُكفِّر منه لا بإطلاقٍ.
وهذا إمام السنة الإمام أحمد ( البدائع4/42)
سئل عن رجلٍ سمع مؤذّناً يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) فقال: كذبت، هل يكفر؟ فقال: "لا، لا يكفر لجواز أن يكون قصده تكذيب القائل فيما قال لا في أصل الكلمة، فكأنه قال: أنت لا تشهد هذه الشهادة"ا.هـ.
وانظر فتوى اللجنة الدائمة (رقم9879) حيث قرّرت أن الطواف بالقبر إن قُصِد به التقرّب للميت فهو شركٌ وإن قُصِد به التقرّب لله تعالى فهو بدعةٌ.
وانظر فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- (فتاواه1/131) عندما قرّر في الذبح عند القبور أنها إن قُصِد أنه للميت فهو شرك وإن قُصِد أنه لله فهو معصية.
وانظر لتقريره -رحمه الله- المماثل في مسألة الصلاة عند القبر (1/132(
وانظر لتقرير المحدّث الألباني -رحمه الله- في الذبح عند القبر (الجنائز رقم128،ص203) أنه إن كان لوجه الله فهو محرم وإن كان للميت فهو شرك.
وانظر لفتوى العلامة ابن عثيمين (المجموع الثمين1/65) في الاستهزاء بالصالحين أنه إن قُصِد به ما هم عليه من الدين فهو كفر وإن قصد به المظهر والزيّ فليس بكفر.
أقول :وكل هذه الأمثلة دالّة على ما تقدم، وغيرها كثير معروفٌ في موضعه لمن طلبه؛
فظهر لك الآن أن ما يقال عنه أنه من المكفرات -من حيثُ التنزُّل- ثلاثة أقسامٍ، فقسم يُكفَّرُ به، وآخر لا يُكفَّرُ به، وثالثٌ يُكفَّرُ به في حالاتٍ دون حالاتٍ.
فالأول: ما ثبت بالأدلة التكفير به نوعاً –مع مراعاة الشروط والموانع في المُعيَّن- كمثل سبّ الله ورسوله.
والثاني: ما تُوُهِّم التكفيرُ به ولم يثبت ذلك بالأدلة، كمثل التعامل مع الكفار بإهداءٍ أو قبول هديةٍ.
والآخِرُ: ما ثبتَ أنه محتمِلٌ للتكفير وليس بصريحٍ فيه، كمثل إعانة الكافر على المسلم، وسبِّ الصالحين.
5- تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم:
1- مثال ذلك ما نقله كثيرون من هؤلاء المكفرين للحكام بالقوانين الوضعية بإطلاق ودون تفصيل من قول ابن تيمية في مجموع فتاواه
( 3/267 ) " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشر المجمع عليه ، كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء " . فقد احتج به صاحب كتاب " الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه( 341 ), ففسر التبديل بأنه مجرد ترك الشريعة الإسلامية والحكم بالقوانين الوضعية.
أقول ردا عليه: مصطلح " التبديل " في لغة الفقهاء وعرف العلماء معناه الحكم بغير ما أنزل الله على أنه من شرع الله. ولو أتم المخالف كلام ابن تيمية إلى آخره لوجد ذلك واضحاً بعد سطور ، إذ يقول في بيان أوضح من فلق الصبح " والشرع المبدل : هو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين ، فمن قال : إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع " . والحكام بالقوانين الوضعية لم يبدلوا الشرع المجمع عليه ، ذلك بأنهم لم ينسبوا هذه القوانين إلى الشريعة الإسلامية ، فهاهم أولاء يصرحون بأنها نتاج العقول البشرية بريطانية كانت أو فرنسية .
وفي ذلك يقول ابن العربي في أحكام القرآن ( 2/624 ) : " إن حكم بما عنده على أنه من عند الله ، فهو تبديل يوجب الكفر". فانظر في كلامه رحمه الله تجد عين ما وصفتُ لك آنفاً، وليس لك أن تقول: إن ابن العربي وصف حكم المرء بما عنده مع الزعم أنه من عند الله بأنه تبديل، ولم يصفه بأنه هو التبديل المراد؛ لأنك إن أزلتَ قيد (على أنه من عند الله) بقي نصه رحمه الله في التبديل هكذا (إن حكم بما عنده فهو تبديل له يوجبُ الكفرَ) وليس حكمُ أحدٍ بما عنده –مما لم يشرعه الله- يوجب عليه أن يكون مبدِّلاً لحكم الله ولا يوجب عليه الكفر؛ لأنه قد يحكم مقرَّاً بخطإ نفسه معترفاً بحكم الله المغاير لحكم نفسه؛ فكيف يكون مبدِّلاً؟، ولو كان الإحلالُ المجرّدُ لحكمه مكان حكم الله هو كفرٌ لكُفِّر الحالقُ لحيته والظالم لأحد أولاده لمصلحة ولدٍ ثانٍ؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم قد قام به وصفُ الإحلال؛ حيثُ أحلّ حكم هواه على حكم الله، فظهر لك لزوم أن يكون ابن العربي -رحمه الله- أراد بالحكم على الحالة أنها تبديلٌ اقتران الوصفين الاثنين، لا محيص لك عن هذا . (انظر ما كتبته سابقا في معنى الالتزام في العنصر الثاني من هذا البحث).
2- نقل قول الشنقيطي رحمه الله في تفسير الآية الكريمة وَلاَ يُشرِكُ فيِ حُكمِهِ أحَداً ]الكهف : 26[ ، والحق أنه قول مطلق ، قيده في أمس المواضع إليه في تفسير آية المائدة (44) ، فذكر التقييد, فهل يحمل المطلق على المقيد- كما قال أهل الأصول- أم نقول : إن الشيخ تناقض ؟ حاشا وكلاّ. وبنحو ما قلت ، قال الفاضل الدكتور العنبري, وكذلك الباحثُ الفاضلُ الدكتور عبد العزيز بن صالح الطويان في رسالته العلمية الأكاديمية : "جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف" وهي من منشورات مركز البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وقدَّم لها مدير الجامعة الدكتور الفاضل صالح العبود والشيخ العلامة عبد المحسن العباد . إذ نقل قول الشيخ الشنقيطي : "إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم أنَّه لا يشك في كفرهم وشركهم إلاَّ من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم .
ثم علَّق عليه قائلاً : "وبهذا تتجلَّى وقفة الشيخ الحازمة في وجه من غيَّر حكم الله ، وحكم بحكم الطواغيت ، حيث إنه يقول بكفره ، بل ويكفر كل من يشك في كفره .
وليس موقف الشيخ رحمه الله هذا على إطلاقه ، بل نراه يبيَّن في موضع آخر متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً من الملَّة ، ومتى يكون صاحبه مرتكباً ذنباً محرماً لا يخرجه من دائرة الإسلام ، فيقول رحمه الله : "إن الكفر ، والظلم ، والفسق ، كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة ، والكفر المخرج من الملَّة أخرى :
ومن لم يحكم بما أنزل الله : معارضة للرسل ، وإبطالاً لأحكام الله ، فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر ، مخرج عن الملة .
ومن لم يحكم بما أنزل الله معتقداً أنَّه مرتكب حراماً ، فاعل قبيحاً ، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج من الملَّة" , اهـ (من هزيمة الفكر التكفيري للعنبري)
6- حول حقيقة الإجماعات التي يدعيها المخالف وعكسها على صاحبها ورد الاعتراضات على إجماع أهل السنة
يحتج بعضهم على أن تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً يعد كفراً أكبر بالإجماع, ويقول:
1- قال إسحاق بن راهويه: "وقد أجمع العلماء أن من سبَّ الله عزَّ وجل أو سبَّ رسوله أو دفع شيئاً أنزل الله ، أو قتل نبياً من أنبياء الله ن وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله ، أنه كافر" هكذا نقله عن ابن راهويه حافظُ أهل المغرب أبو عمر ابن عبد البر المتوفى سنة (463) في كتابه "التمهيد" بمعناه .
2- قال ابن كثير( البداية والنهاية 13/119) "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين"ا.هـ. وقال في تفسير سورة المائدة (الآية: 50): ((ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله... ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير)).
3- قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى35/200 ـ بتصرف يسير) : ((نُسَخُ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر))
4- قال ابن القيم ( أحكام أهل الذمة 1/259): ((قالوا: وقد جاء القرآن وصحَّ الإجماع بأنَّ دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر، وقد أبطل الله كلَّ شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام)).
فإذا كان من اتبع التوراة أو الإنجيل عند ابن تيمية وابن القيم وابن كثير كافرًا؛ فكيف بمن اتبع القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر وحثالة عقولهم !!
فما هي حقيقة تلك الإجماعات ؟!!
1- بالنسبة لمقولة راهويه, أقول: خذ كلام الإمام الكبير إسحاق بن راهويه بتمامه وكماله من نقل تلميذه الذي اختص به وأكثر عنه, الإمام محمد بن نصر المروزي المتوفى سنة (394) في كتابه "تعظيم قدر الصلاة" ولفظه : "ومما أجمعوا على تكفيره ، وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد ، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى ، وبما جاء من عنده ، ثم قتل نبياً ، أو أعان على قتله ، وإن كان مقراً ، ويقول : قتلُ الأنبياء محرم ، فهو كافر ، وكذلك من شتم نبياً ، أو رد عليه قوله من غير تقيَّة ولا خوف ، ألا ترى إلى ما جاء عن النبي "حين أعطى الأعرابي ثم قال له : أحسنتُ ، قال : لا ، ولا أجملت ، فغضب أصحابه رضي الله عنهم ، حتى هموا بقتله ، فأشار إليهم النبي بالكف ، وقال للأعرابي : "تأتيناه" . فجاءه في بيته ، فأعطاه وزاده ، ثم قال له : أحسنت قال : أي والله وأجملت . . . ". ففي هذا تصديق ما وصفناه أنه يكفر بالرد على النبي . ولكن كل من كان كفره من جهة الجهل وغير الاستهانة رفق به(( أقول أنا صاحب هذا البحث: لأنه كفر دون كفر, كفر لا يخرج من الملة, واطلاق كلمة الكفر عليه من ابن راهويه لا يعني أنه قد خرج من ملة الإسلام لأنَّ الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ. ويذكرنا هذا الكلام بما رواه الشيخان في سبب نزول قوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيتَ ويُسَلِّمُواْ تَسلِيماً ]النساء:65[ ، من حديث عبد الله بن الزبير : "أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند سرح الماءَ في شراج الحرَّة التي يسقون بها النخل" ، فقال الأنصاري : سرح الماءَ يمرُّ ، فأبى عليه ( الزبير ) فختصما عند رسول الله فقال رسول الله للزبير : "إسق يا زبيرُ ثم أرسل الماء إلى جارك" ، فغضب الأنصاري ، ثم قال : "أن كان ابن عمتك ؟ ! ... الحديث .
والشاهدُ من هذا الحديث أيضاً أن النبي لم يحكم على الأنصاري بالردَّة ، مع أنَّ كلَّ من اتهم رسول الله في الحكم فهو كافر مرتد ، وإنما عفا عنه لعلمه أن ما قاله فلتة من فلتات اللسان وزلة من الشيطان تمكن بها منه عند ثورة الغضب, فإطلاق الكفر عليه لايكون إلا بقصده سب النبي(ص) أو استحلاله لما حرم الله... )) حتى يرجع إلى ما أنكره ،كما رفق النبي بالأعرابي . انتهى كلام الإمام المروزي.
أقول: فهذا الأعرابي كان مقرّاً لكل ما أنزل الله على رسوله ، غير أنه لم يرض بحكم النبي ، بل دفعه وردَّه ، ومع ذلك لم يكفره ولم يخرجه من الملة الإسلامية والدائرة الإيمانية ، بل أقال عثرته ، وأعطاه وزاده ، لعلمه أنه لم يردَّ حكمه عن ستهانة أو بغض أو استكبار .
والحاصل-كما يقول العنبري- من ذلك كله أن الردَّ أو الدفعَ لما أنزل الله ، إذا كان عن عنادٍ أو استكبارٍ أو استهانةٍ كان كفراً أكبر مخرجاً من الملة ، حتى وإن صاحَبَهُ تصديق أو إقرار ، وهذا هو كفر العناد ، نحو كفر إبليسَ ، فإنه لم يجحد أمر الله له بالسجود ، فإن الله باشره بالخطاب ، وإنما ردَّه ، ولم ينقد له إباءاً واستكباراً ، وإذا كان الردُّ أو الدفع لما أنزل الله لا عن استهانة أو عنادٍ أو إباءٍ ، بل عن خوف أو هوى ، لم يكن من الكفر في شيء ، نحو رد الأعرابي في الحديث السابق ، وإلى هذا يشير ابنُ راهويه بقوله : "وكذلك من شتم نبياً ، أو ردَّ عليه قوله من غير تقية ولا خوف" وقوله : "يكفر بالرد على النبي ، ولكن كل من كان كفره من جهة الجهل وغير الاستهانة ، رفق به حتى يرجع إلى ما أنكره" . وبذلك لا يبقى للخصم متعلَّقٌ بكلمة ابن راهويه، إن كان منصفاً والحمد لله رب العالمين.
2- لقد نقل الأستاذ الفاضل علوي عبد القادر السقاف في ملحقه بكتاب العقيدة الواسطية نص ابن كثير بما يوافق هواه, فحذف ما يدل على قولنا من كلام ابن كثير بوضع نقط (...)!!! وإليك البيان:
قال ابن كثير بالحرف الواحد (التفسير3/131) "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذه عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله."
ففي هذا -كما ترى- بيان لما أجمع عليه وهو أن يجعل ذلك القانون الوضعي شرعاً متبعاً يقدم على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا جعل شرعاً يتدين به كان ذلك هو الاستحلال المقصود في كلام العلماء والذي يكفر صاحبه سواء كان في مسألة الحكم أو في باقي المعاصي . وهو المقصود بالتبديل في كلام شيخ الإسلام السابق . وهذا هو واقع التتار فقد بين شيخ الإسلام أن التتار كانوا يتعبدون الله بالياسق الذي اقتبسوه من شرائع شتى. وإليك حال التتار وما كانوا عليه:
قال ابن تيمية عنهم( فتاوى28/523) : "يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين ثم منهم من يُرجِّح دين اليهود أو دين النصارى ومنهم من يُرجِّح دين المسلمين"ا.هـ
وبين ابن تيمية كيف أنهم يعظمون جنكيزخان ويقرنونه بالرسول صلى الله عليه وسلم.., ثم قال ( فتاوى28/524) : "ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام باتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم: فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب"ا.هـ. فمراد ابن كثير في حكايته الإجماع أن الإجماع منعقدٌ على تكفير التتار نظراً لحالتهم هذه التي سبق بيانها، وهذا مما لا نختلف فيه؛ فكأن عبارته هكذا: " فمن ترك الشرع المحكم [ كالتتار] المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر [لاستحلاله] فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ [يعني: فكيف وقد قدموا الياسق] من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين [يعني: من استحلّ وقدّم حكم غير الله على حكمه تعالى "([وبهذا يتّفق كلام الحافظ ابن كثير –رحمه الله- مع أئمة السنة في نقلهم الإجماع الثابت المتقرر في المُستحِلّ والمُفضِّل. فالتحاكم إلى قانون لا يقره الشرع ، ونسبة ذلك إلى الشرع أو أن الشرع يقره أو القول بجواز الحكم به كفر بالإجماع, قال الإمام الحافظ اسماعيل بن اسحاق القاضي المتوفى سنة (282هـ) في آيات الحكم بغير ما أنزل الله " فمن فعل مثل ما فعلوا ( أي اليهود ) واقترح حكماً يخالف به حكم الله وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره " (نقله عنه أبو رائد المالكي في مقاله الماتع "الحكم بما أنزل الله.. مسألة العصر"). والإجماع منعقد على أن الحكم بغير ما أنزل من الكبائر التي هي دون الكفر, قال ابن عبد البر كما في التمهيد (5/74) في صدد الكلام على الكبائر" وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ".
وأزيد بيانا فأقول: يذكر بعض المخالفين قول ابن كثير ، و يحذف منه كلمة، يتعمى بها المقصود ، إذ يقول ابن كثير في آخر كلامه : "فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكَّم سواه في قليل ولا كثير" فيقوم بعض المخالفين بحذف كلمة "منهم" ليوهم القرَّاء أن مقصود ابن كثير بالتكفير عام يشمل كل من حكم بغير ما أنزل الله دون تفصيل ، فالله حسيبهم, فحذف كلمة ( منهم )التي تعود على التتار يضيع مقصود ابن كثير. فتنبه جيدا أخي القارئ.
3- يفهم المقصود بالإجماع - وعلى أي شيء كان- من النقل التالي عن شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (3/267) : قال رحمه الله تعالى " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا باتفاق الفقهاء "
فالمقصود هنا الاستحلال وهذا منقول فيه الإجماع في كل المعاصي وليس فقط الحكم بغير ما أنزل الله. ويدل على ذلك قوله- رحمه الله- عقب هذا النص " الشرع المبدل هو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين فمن قال : إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع كمن قال إن الدم والميته حرام." وانظر لزاما معنى التبديل فيما كتبت انفا في العنصر الثاني من هذا البحث.
4- بالنسبة لكلام الإمام ابن القيم: هو يتكلم عمن التزم أحكام التوراة والإنجيل "وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر." وانظر معنى الالتزام في العنصر الثاني من هذا البحث, يتبين لك أن الاحتجاج بكلام ابن القيم ليس في محله.
اعتراضات على إجماع أهل السنة والجماعة
اعترض مخالف على إجماع أهل السنة على التفصيل في مسألة التكفير, فقال:
1- قال الإمام الحافظ إسماعيل القاضي: "ظاهر الآيات يدل على أنَّ من فعل مثل ما فعلوا ، واخترع حكماً يخالف به حكم الله ، وجعله ديناً يعمل به ، فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور ، حاكماً كان أو غيره" . اهـ .
أقول ردا على المخالف : إنَّ القاضي إسماعيل يتكلَّم صراحة عن المبدلين ، والمبدلون كفارٌ بإطلاق استحلوا م لم يستحلوا ، ألا تسمع لقوله : "فعل مثلَ ما فعلوا" ، فماذا فعل اليهود؟ "استبدلوا الجلد والتحميم بالرجم" يؤكَّد ذلك أيضاً قوله : "وجعله ديناً يعمل به" ، فالحمد لله على توفيقه.
2- ورد عن الشعبي أنَّ الله سبحانه أراد بالكافرين أهل الإسلام ، وبالظالمين اليهود ، والفاسقين النصارى ، ثم قال المخالف : "ماذا سيقول مستنبط الإجماع على قول الشعبي ؟ "
أقول ردا على المخالف:
1- إذا أردت أن تنقض الإجماع بهذا القول, فأرنا السند الصحيح بذلك إلى الإمام الشعبي, فإني لم أقف علىسنده, وما أظنه يصح على الإطلاق.
2- قال الألوسي في تفسير كلام الشعبي وتوجيهه : "ويلزم على هذا – يعني ظاهر قول الشعبي – أن يكون المؤمنون أسوأ حالاً من اليهود والنصارى !!( وهذا باطل عاطل كما هو واضح لكل ذي عينين) إلاَّ أنه قيل : إنَّ الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ؛ والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوَّه وتمرُّده فيه". وهذا أيضا هو ما فهمه ابن العربي والشنقيطي حين تعرضا لكلام الشعبي.
وأخيرا, وكما ترى, انقلبت الإجماعات التي يحكونها عليهم من حيث لا يدرون .. بفضل الله ومنه وكرمه.
والحمد لله أولا و آخرا على توفيقه.
أخوكم أبو صلاح الدين.