الفارس مفروس
04-26-2010, 01:18 AM
هذا عنوان الرواية القادمة لمثقف ما .. أو مثقفة حبلي بالتعقيد اللغوي تبحث عمن يفكها من ربقة الجسد !
كثير من المثقفين المستنيرين ، الذين ينتمون لليسار التقليدي برابطة ما ، ولليمين الليبرالي بعقد طويل الأجل ، يعكفون منذ زمن على تحويل القضية إلى "مواجهة" بين الحرية كمفهوم تجريدي مستقل ، وبين التقييد المجتمعي الجائر لحقوق الإبداع ، وبعيداً عن المسميات والمصطلحات الناتئة فوق صفحة المعرفة الضحلة ، فإن تداول المتداولات المجهولة لا يعد في عرف المثقفين ابتذالاً وتجهيلاً للقارئ بل يرونه تقريراً للإصطلاح بكثرة شيوعه ، حتى وإن كان حامله من حملة "صواني" الشاي أو من ساقطي الثانوية منازل ، وهذه حقيقة وليست افتراءً أو تقزيم للخصوم دون دليل .. فكثير من الأقلام التي تحمل لواء الثقيف والإستنارة كانوا مخبرين .. عامل مطبعة .. ساقط ثانوي .. أعمال حرة ، وهذ ليس بحد ذاته قادحاً أو مصدراً للذم .. فالحرفة الشريفة لا غبار عليها ، ولكن القضية في التحول المصاحب لهؤلاء دون رصيد أو ذخيرة من أي نوع ، فالمهم أن من دواعي الشياكة الثقافية "بعجرة" الغلاف و"تغبية" المحتوى ، تحويل الثقافة إلى قنبلة صوتية تنفجر في ذائقتك وعفة أبنائك إذا ما فتحتها دون حيطة ، تتحول إلى قرد زنبركي يخرج من علبته ضاحكاً ويسب أعرافك ودينك !
حيرتنا جموع المثقفين عبر عقود من الزمان ، فلم نفهم مثلاً لماذا هم على طول الزمن غير متصالحين مع مجتمعاتهم !؟ هذا في الوقت الذي يشهد فيه التاريخ أن المثقف الحقيقي الذي يحمل قضية في محبرته ويبيعها أدبياً ولغوياً لقرائه فإنه يعيش بين اضلاعهم وفوق قلوبهم عبر السنين ، فلا يمكن أن يدعي أحد أن الخصومة مع المجتمع دليل نجاح وتميز ، بل هى دليل فشل وتخبط ، والنجاح لا يمكن أن ينفك بحالٍ عن القبول المجتمعي وعن قضية اثراء وعي القارئ بما يفيده ، إلا أن هؤلاء كالفقاعات التي تراها على سطح كوب البيبسي المثلج لا تكاد تعرف أسماءهم فضلاً عن دورهم الحقيقي في أي مشهد ثقافي !
لا نفهم أيضاً لماذا يخرمون وعي المتلقي بمثقاب مختلف في كل مرة .. وفي النهاية الخرم واحد ! فقبل فترة طويلة حفروا في نسيجنا اللغوي والأدبي حفرة تسمى بـ "المألوف" ، ثم نسجوا حولها سياجاً حديدياً وعلامات تحذير كتبوا عليها "احذر : حفرة تحت الردم" .. واشتغلت أقلامهم وندواتهم وهذيانهم طيلة عقود بخطة الردم العميق لخطيئة المألوف ، حتى ردموها بكل ما هو صاعق وصادم لهذا المألوف فتحول "المألوف" إلى "وعى سابق" على المعاش المجتمعي ! ثم تطور الأمر ، وزالت غمة اليسار المتخفي وتطفر متحولاً ليسار مودرن .. لا يخشى المواجهة ، في اشتباك صريح وواضح مع مفردات الدين وجزئياته التي أطلقوا عليها معركة "الثوابت" ، فظهرت "تيمة" المتحول والمتغير .. والإبداع التجديفي المستنير .. وطالب من لايحسنون العربية بإعادة قراءة التاريخ ونقد النصوص وتحرير الأحكام ! تحولت الثقافة عند ذلك المنحني من مهمة تُعنى بمخاطبة الوعي عبر مسارات الإدراك المباشر ، إلى "حقنة" هواء في أوردتنا المعرفية ، وإلى سطوٍ مسلح على تراث ثمين عبر "مواسير" الثقافة المعاصرة ! تحولت الثقافة إلى "فَرشة" متنقلة يحملها أصحابها من ميدان إلى زقاق .. ومن حارة إلى سوق ، يتبعون قاعدة من يدفع الإيجار حتماً يملك سروالي !!
عبر مسيرة النضال الثقافي وضع المتصدرون للمشهد سدوداً على روافدنا الأصيلة من لغة وتراث و دين ، حتى جفت شرايينه في ضمائرنا وعاداتنا ، واهتزت لغتنا التي ركبها عفريت العجمة فصارت همهمة تنضح بها القلوب قبل الألسنة ، والسبب المعلن لخنق المجتمعات الآمنة بأمعائها المعرفية الأصيلة عند هؤلاء : إزالة القيود المفروضة على الإبداع ! في إشارة إلى أن هذا الشئ الذي سُمى بالإبداع صار أصلاً مطلوباً لذاته تستباح من أجل بقائه الضرورات ، وأن المجتمع بإرثه الكامل تحول إلى "هامش" .. يضيق ويتسع حسب مسار الأصل الجديد ، إضافة إلى أن شروح الهوامش لابد وأن تتسق -منطقياً- مع طبيعة المتن ، فصار التراث يُمتهن في خدمة الإبداع الأدبي ويوظف لتقريره والدفاع عن مجونه وشطحاته ، حتى وصلت بنا الحدوتة إلى مرحلة الإستبدال والإحلال ، فلم يعد هناك ضرورة لبقاء الهوامش العتيقة .. كرسمٍ بالٍ على جدار في الصالون يذكرنا بأشياء قد انتهى زمانها !
لاشك أن افرازات الثقافة الجديدة قد آتت أكلها ولو بشكل جزئي يخاطب نخبة منعزلة ابتداء عن مجتمعاتها ، فزادتهم خبلاً إلى خوائهم ، وكان من عوامل نضوج الثمرة اندثار اللغة والتحول إلى الفهلوة في التعبير بديلاً عن استيفاء المعاني ، وذلك حين تكلم المثقفون بلغة لم يفهمها غيرهم .. حتى تحولت لـ "شفرة" تشبه طريقة عمل نواطير العصابات ، فكان لزاماً أن ينفلق المجتمع حاسراً عن فرقتين لم يمتزجا طيلة عقود طويلة من المناجزة ، فرقة الثقافة المعاصرة وتحولاتها ومفرداتها وأهدافها ، وقطاع المجتمع الأكبر الذي لم يقدر على فرض ثقافته لأسباب سياسية وأمنية معلومة ، كما أنه لم يقدر على الصمود الكامل فتآكلت أطرافه حتى نالت من وعيه ، وتحولت تبعاً لذلك "وثيقة المألوف" لتشمل بنوداً جديدة غير تقليدية صارت من الإفك المتعارف عليه .. ومن القذر المسكوت عنه .. ومن السم الذي لا بأس بتناوله !
المعاول التي لازالت تؤتي ثمارها في طحن المألوف واستبداله بـ "مألوف" جديد يسع الجميع بكل أطيافهم وأعرافهم ، تلخصت في اتجاهين : الجنس وملحقاته .. والدين ومفرداته ! ولا مانع من أن نرى -حديثاً- خلطاً ثقافياً بين الإثنين ليخرج لنا الأدب المعني بـ"الجنس الشرعي" أو "الجنس الإسلامي" الذي تورط للخطابة فيه نجوم لامعون من دعاة الفضائيات ! والحاصل أن الجنس شائك ودقيق ، خطابٌ إن تحول إلى المباشرة تحول المتلقي إلى "زبون" .. وإن اكتفى بخطاب الهمس ظل تحت ربقة "المألوف" وظل في بقعة الإشتباك مع حراس الحرية ومنظري الثقافة .. وهو الوضع الذي أصبح من واجبات الثقافة الحديثة هدمه وتحويله إلى "شاهد" على مرحلة من التخلف عشاها الأجداد ذات انحطاط !! فترسخت فكرة "المباشرة" كوسيلة للخطاب لأن لها أكلين : أولاً أن "الخبط" المباشر سيكسر المألوف وتوابعه من الحياء المرضي والعفة الخانقة في المجتمعات ، وثانياً أنه ستعلو بسببها مصالح أخرى تعلقت بهذه السبوبة الثقافية ، من فنٍ وسينما وإعلامٍ تافه يقوم على الترويج للمفاهيم الإستهلاكية للجنس والتي تدعو لجنس آمن دون مسؤولية من أي طرف ولا ضغوط مجتمعية فارغة .. !
الأراء في قضية الجنس الثقافي كثيرة ، بين محللٍ مُستحمر ومهللٍ مستأجر وناعق بما لا يفهم ، والكل يتناول القضية من منظوره الذي ينتمي له وأفقه الخاص وقدرته على التصور لحجم المشكلة ، فبعضهم يرى أنها علاقة فردية خاصة بين كاتب شاطر يتعرى ويقذف في مخيلة القارئ بصور وأحداث تروق له وتثيره "ثقافياً" على نحو يبدو وكأنه عقد مكتمل الشروط بين بائع ومشتري .. ولن تعدم من يضيف إلى ذلك التحليل بعداً شرعياً مستشهداً بأن "البيعان بالخيار" ! فهو تعاقد بين تاجر ثقافي ومستهلك يبحث عن الإثارة ليس إلا ، ولأن الجنس ليس إلا مصباح علاء الدين ، يبحث عن "حكة" بسيطة لينطلق منه مارد غير مقيد ، فإننا نرى الكثير من تلك "المصابيح الجنسية" المستنيرة تستهلك شريحة ليست بالقليلة من القراء ! آخرون يرون بأن الثقافة القائمة على الجنس تدخل في دائرة "تجربة الكاتب" وتحويرها أدبياً لتحمل معنى انسانياً له عمق ودلالة ، كأن تستطيع القول بأنه بحث استقرائي لعقل بغي تحدثنا فيه عن "عمق" التجربة وعن "حجم" المعاناة ! وهذا اللون تبناه الكثيرون من رموز هذه الثقافة دون تعيين لكاتب عن غيره ، حتى بات الأدب الجنسي أكثر واقعية وأقرب للنسق الإنساني المفهوم حين تناول الأدب النسائي هذا اللون الجديد ، وصارت كاتبة تبدأ ركلتها لعالم الأدب ببيع تجربتها الجنسية -أو تصورها عن تلك التجربة- لمن يقرأ !
المحير في هذا الموضوع أن الجنس بالذات ليس مادة غير مفهومة أو تجربة مقصورة على بعض أفراد المجتمع دون غيرهم .. كقيادة سيارة مرسيدس مثلاً أو قضاء عطلة نهاية الأسبوع في مونت كارلو .. بحيث يتفضل هؤلاء "المجربون" بنقل تجربتهم "الحسية" لمن لم يعايشوها ولا يملكون القدرة على ذلك ، وبعيداً عن التحليل الفني لهذا اللون الأدبي والذي لن يبتعد كثيراً عن الحقيقة برأيي ، فإن الخيال حيز ضيق مهمل إن تعلقت الكتابة بالحديث عن التجارب الجنسية بألوانها ، فألوانها معلومة مفهومة بفضل هؤلاء عند طلبة الأول الإبتدائي ، ومهما بلغ الكاتب في قوته السردية وابداعه اللفظي لأجل مفاجأة القارئ وإدخاله في منطقة محصورة مقصورة على تجربة الكاتب وحسب ، فإن القارئ مهما كان شأنه ودرجته العلمية أو مرتبته الثقافية تجده غير متفاعل بوعيه .. بل بغدته النخامية !
أصحاب الثقافة الجنسية تجدهم أكثر الكتاب صخباً ، يفتعلون المعارك الوهمية ثم يشعلون في أنفسهم النار انتقاماً من القارئ الذي يتهم كاتبة عربية شريفة بأنها رخيصة لمجرد أنها حدثته في روايتها بتفاصيل ممارستها للجنس وعن الأمور التي تحبها وتفضلها في الفراش .. وعن غيرها من مفردات "الثقافة" المطروحة في الرواية !! فهى تتوقع من القارئ المستنير في عصر ما بعد الثوابت .. أن يعلم أن ما كتبته الكاتبة لم يكن يعبر عن مكنوناتها الشخصية ، ولا رغباتها المجنونة ، بل عن مرادات شخوصها الإعتباريين في الرواية ، وأن بطلة القصة هى التي قالت ومارست وفصلت في القول ولم تكن الكاتبة ! وهذا الطرح يفترض في القارئ الأمي الباحث عن الإنتشاء الأدبي أنه جاهل بالفواصل المتعارف عليها في ثقافة اليوم بين الكاتب وشخوصه ، وبين خط الرواية العام وبين معتقدات الكاتب وآرائه !
أستطيع أن أقول أن هذا الإتهام المعلن للقارئ ليس إلا استدراك على الأصل المطروح منذ البداية ، وهو المبالغة في نحت وعي القارئ وإزالة أي نتوءات عالقة أو تكلسات بارزة في إدراكه لها صلة بالقيود القديمة التي فرضتها حقبة "الثوابت" ! فمثلاً غالبية اللاتي يكتبن هذا اللون الجنسي المباشر لسن بغايا بالمفهوم "الكلاسيكي" للكلمة ، على رغم من دقة الوصف أحياناً وحدة التفاصيل التي قد تستلزم عند بعض المحللين وجود خبرة ذاتية مكتسبة لدى الكاتبة من مواقف خاصة غير تقليدية ، إلا أننا نجدها أماً حنونة وزوجة صالحة ، بل قد تملك تحفظاً أصولياً متشدداً على بعض القضايا الخاصة ، والتي تصنع منها حدوداً لحياتها العائلية ، أياً كان مصدر تلك الحدود أو قيمتها ، لكنها تنبع من قناعة طبيعية تستنكرها على غيرها في مواضع أخرى إن تعلق الأمر بحريتها في الكتابة ، بأن الإنسان العاقل لابد وأن يملك بعض الأشياء التي يصونها بحدود حقيقية عليها كثير من علامات الإحتراز ، وقد يكون من جملة تلك الحدود عند الكثيرين : شئ كاحترام العرض والعرف وصيانة الذائقة !
الحقيقة الوهمية التي يبيعها كتاب الجنس لجمهورهم أن الكاتبة تتعرى من حدودها الشخصية ، وتنزع نفسها من سياقها الحياتي المتسق مع المجتمع ، وتلج عالم البورنو بـ "توبلس" كاروهات فوشي .. فقط حين تقتحم بإثارتها وغنجها الثقافي حدودَ الغير .. مداعبة خيال قرائها بقلمها الأنثوي الباذخ ، وتتحول إلى باحثة عن الحرية .. وفارة من القيود .. هاربة من الأغلال .. فقط حين تلبس الكعب العالي في روايتها وتحكي لنا في بلاغة سردية متقنة عن قصة حياة "عورتها المغلظة" !!
الإشكالية التي لم أعد أبلعها ليست في رغبة هؤلاء في اقتراف الأدب المصحوب بإلإنتشاء الجنسي في آخر الرواية ، فهذا طريق أغبر يشبه السالكين فيه مهما حاولوا تجميل ذلك بكثير من الكلام الفارغ ، وإنما الذي لا أفهمه هو لماذا يحاول أحدهم تغيير المدلولات وتحوير المحتوى ليبدو وكأنه صاحب قضية وليس أديب بورنو !؟ أو لماذا تظهر الأخت الفاضلة التي تجاهد في تشويه الفضيلة ونفي العفة كحاملة فكرٍ في حديثها عن رجل يقضي وطرها ؟! بعضهم أدباء معروفون بأنهم أدباء الفراش ومثقفي العورات المغلظة ، لكنهم يقدمون أنفسهم على أنهم مشغولون بقضايا الأمة ويحملون همّ الوعى وربما قدم أحدهم نفسه كمدافع عن الأقصى في قصته التي تحكي عن عربية منحرفة تسمتع بممارسة الجنس مع جنود الإحتلال !
الحقيقة أن الغرب كان أكثر شرفاً من هؤلاء .. صريحاً متصالحاً مع نفسه حين اخترع ومارس هذا اللون الأدبي المتجانس مع تعاليمه وقيمه المجتمعية ، فلا يدعي منهم أحد أنه محرر القضايا ومشتبك أبد الدهر مع قوى ظلامية مخفية تنتهك حريته في أن يكون فاجراً ! لكن حين نُقلت التجربة لبلادنا .. لم ينس الكاتب أنه لابد وأن يُضمن روايته مفهوم "القضية" ويرتدي لآمة النضال حتى وإن كانت لآمته بكيني مستورد .. حتى وإن كانت تحكي لنا سيدة الأبطال وصفاً لبضع امرأة ! فقد تعودنا واعتاد الأدباء في بلادنا على أنهم حملة مشاعل .. إن كان شاعراً أو أديباً أو حتى فناناً عربياً قومياً .. أو راقصة تهز خصرها في نصرة "القضية" ! ولأن المعتقد كذلك فإن الكتابة حتى في الجنس لن تخلو من هذا الهراء وسيقدم كتابها على أنهم شهداؤها وحاملوا قضيتها ، يقدمون على أنهم يحملون هماً ثقافياً متعلقاً بتحرير الجنس من عبودية التقاليد وتحويله إلى تاكسي بالنفر !
تواترت الروايات عن هذا المجتمع البائس الصغير الذي عقد الولاية لنصرة الملذات الأدبية من منظور يساري شيوعي محض ، أنهم يعيشون بهيمية سوداء فاقت في عفنها ما يقترفه نظراؤهم الغربيون ، وعلى الرغم من التعاقدات والردح الأدبي في الفضائيات ورغوة القضايا التي يغسلون بها وجوههم ليل نهار ، يبحثون من خلالها عن تحرير كل النسوان من عقدة الجنس البالية ، وقصرها على الزوج وبيت الزوجية ، إلا أنك إن سألت أحدهم إن كان بامكانك أن تأخذ امرأته "لفة" لرفض واتهمك بأنك ظلامي ابن كلب !!
مفروس
كثير من المثقفين المستنيرين ، الذين ينتمون لليسار التقليدي برابطة ما ، ولليمين الليبرالي بعقد طويل الأجل ، يعكفون منذ زمن على تحويل القضية إلى "مواجهة" بين الحرية كمفهوم تجريدي مستقل ، وبين التقييد المجتمعي الجائر لحقوق الإبداع ، وبعيداً عن المسميات والمصطلحات الناتئة فوق صفحة المعرفة الضحلة ، فإن تداول المتداولات المجهولة لا يعد في عرف المثقفين ابتذالاً وتجهيلاً للقارئ بل يرونه تقريراً للإصطلاح بكثرة شيوعه ، حتى وإن كان حامله من حملة "صواني" الشاي أو من ساقطي الثانوية منازل ، وهذه حقيقة وليست افتراءً أو تقزيم للخصوم دون دليل .. فكثير من الأقلام التي تحمل لواء الثقيف والإستنارة كانوا مخبرين .. عامل مطبعة .. ساقط ثانوي .. أعمال حرة ، وهذ ليس بحد ذاته قادحاً أو مصدراً للذم .. فالحرفة الشريفة لا غبار عليها ، ولكن القضية في التحول المصاحب لهؤلاء دون رصيد أو ذخيرة من أي نوع ، فالمهم أن من دواعي الشياكة الثقافية "بعجرة" الغلاف و"تغبية" المحتوى ، تحويل الثقافة إلى قنبلة صوتية تنفجر في ذائقتك وعفة أبنائك إذا ما فتحتها دون حيطة ، تتحول إلى قرد زنبركي يخرج من علبته ضاحكاً ويسب أعرافك ودينك !
حيرتنا جموع المثقفين عبر عقود من الزمان ، فلم نفهم مثلاً لماذا هم على طول الزمن غير متصالحين مع مجتمعاتهم !؟ هذا في الوقت الذي يشهد فيه التاريخ أن المثقف الحقيقي الذي يحمل قضية في محبرته ويبيعها أدبياً ولغوياً لقرائه فإنه يعيش بين اضلاعهم وفوق قلوبهم عبر السنين ، فلا يمكن أن يدعي أحد أن الخصومة مع المجتمع دليل نجاح وتميز ، بل هى دليل فشل وتخبط ، والنجاح لا يمكن أن ينفك بحالٍ عن القبول المجتمعي وعن قضية اثراء وعي القارئ بما يفيده ، إلا أن هؤلاء كالفقاعات التي تراها على سطح كوب البيبسي المثلج لا تكاد تعرف أسماءهم فضلاً عن دورهم الحقيقي في أي مشهد ثقافي !
لا نفهم أيضاً لماذا يخرمون وعي المتلقي بمثقاب مختلف في كل مرة .. وفي النهاية الخرم واحد ! فقبل فترة طويلة حفروا في نسيجنا اللغوي والأدبي حفرة تسمى بـ "المألوف" ، ثم نسجوا حولها سياجاً حديدياً وعلامات تحذير كتبوا عليها "احذر : حفرة تحت الردم" .. واشتغلت أقلامهم وندواتهم وهذيانهم طيلة عقود بخطة الردم العميق لخطيئة المألوف ، حتى ردموها بكل ما هو صاعق وصادم لهذا المألوف فتحول "المألوف" إلى "وعى سابق" على المعاش المجتمعي ! ثم تطور الأمر ، وزالت غمة اليسار المتخفي وتطفر متحولاً ليسار مودرن .. لا يخشى المواجهة ، في اشتباك صريح وواضح مع مفردات الدين وجزئياته التي أطلقوا عليها معركة "الثوابت" ، فظهرت "تيمة" المتحول والمتغير .. والإبداع التجديفي المستنير .. وطالب من لايحسنون العربية بإعادة قراءة التاريخ ونقد النصوص وتحرير الأحكام ! تحولت الثقافة عند ذلك المنحني من مهمة تُعنى بمخاطبة الوعي عبر مسارات الإدراك المباشر ، إلى "حقنة" هواء في أوردتنا المعرفية ، وإلى سطوٍ مسلح على تراث ثمين عبر "مواسير" الثقافة المعاصرة ! تحولت الثقافة إلى "فَرشة" متنقلة يحملها أصحابها من ميدان إلى زقاق .. ومن حارة إلى سوق ، يتبعون قاعدة من يدفع الإيجار حتماً يملك سروالي !!
عبر مسيرة النضال الثقافي وضع المتصدرون للمشهد سدوداً على روافدنا الأصيلة من لغة وتراث و دين ، حتى جفت شرايينه في ضمائرنا وعاداتنا ، واهتزت لغتنا التي ركبها عفريت العجمة فصارت همهمة تنضح بها القلوب قبل الألسنة ، والسبب المعلن لخنق المجتمعات الآمنة بأمعائها المعرفية الأصيلة عند هؤلاء : إزالة القيود المفروضة على الإبداع ! في إشارة إلى أن هذا الشئ الذي سُمى بالإبداع صار أصلاً مطلوباً لذاته تستباح من أجل بقائه الضرورات ، وأن المجتمع بإرثه الكامل تحول إلى "هامش" .. يضيق ويتسع حسب مسار الأصل الجديد ، إضافة إلى أن شروح الهوامش لابد وأن تتسق -منطقياً- مع طبيعة المتن ، فصار التراث يُمتهن في خدمة الإبداع الأدبي ويوظف لتقريره والدفاع عن مجونه وشطحاته ، حتى وصلت بنا الحدوتة إلى مرحلة الإستبدال والإحلال ، فلم يعد هناك ضرورة لبقاء الهوامش العتيقة .. كرسمٍ بالٍ على جدار في الصالون يذكرنا بأشياء قد انتهى زمانها !
لاشك أن افرازات الثقافة الجديدة قد آتت أكلها ولو بشكل جزئي يخاطب نخبة منعزلة ابتداء عن مجتمعاتها ، فزادتهم خبلاً إلى خوائهم ، وكان من عوامل نضوج الثمرة اندثار اللغة والتحول إلى الفهلوة في التعبير بديلاً عن استيفاء المعاني ، وذلك حين تكلم المثقفون بلغة لم يفهمها غيرهم .. حتى تحولت لـ "شفرة" تشبه طريقة عمل نواطير العصابات ، فكان لزاماً أن ينفلق المجتمع حاسراً عن فرقتين لم يمتزجا طيلة عقود طويلة من المناجزة ، فرقة الثقافة المعاصرة وتحولاتها ومفرداتها وأهدافها ، وقطاع المجتمع الأكبر الذي لم يقدر على فرض ثقافته لأسباب سياسية وأمنية معلومة ، كما أنه لم يقدر على الصمود الكامل فتآكلت أطرافه حتى نالت من وعيه ، وتحولت تبعاً لذلك "وثيقة المألوف" لتشمل بنوداً جديدة غير تقليدية صارت من الإفك المتعارف عليه .. ومن القذر المسكوت عنه .. ومن السم الذي لا بأس بتناوله !
المعاول التي لازالت تؤتي ثمارها في طحن المألوف واستبداله بـ "مألوف" جديد يسع الجميع بكل أطيافهم وأعرافهم ، تلخصت في اتجاهين : الجنس وملحقاته .. والدين ومفرداته ! ولا مانع من أن نرى -حديثاً- خلطاً ثقافياً بين الإثنين ليخرج لنا الأدب المعني بـ"الجنس الشرعي" أو "الجنس الإسلامي" الذي تورط للخطابة فيه نجوم لامعون من دعاة الفضائيات ! والحاصل أن الجنس شائك ودقيق ، خطابٌ إن تحول إلى المباشرة تحول المتلقي إلى "زبون" .. وإن اكتفى بخطاب الهمس ظل تحت ربقة "المألوف" وظل في بقعة الإشتباك مع حراس الحرية ومنظري الثقافة .. وهو الوضع الذي أصبح من واجبات الثقافة الحديثة هدمه وتحويله إلى "شاهد" على مرحلة من التخلف عشاها الأجداد ذات انحطاط !! فترسخت فكرة "المباشرة" كوسيلة للخطاب لأن لها أكلين : أولاً أن "الخبط" المباشر سيكسر المألوف وتوابعه من الحياء المرضي والعفة الخانقة في المجتمعات ، وثانياً أنه ستعلو بسببها مصالح أخرى تعلقت بهذه السبوبة الثقافية ، من فنٍ وسينما وإعلامٍ تافه يقوم على الترويج للمفاهيم الإستهلاكية للجنس والتي تدعو لجنس آمن دون مسؤولية من أي طرف ولا ضغوط مجتمعية فارغة .. !
الأراء في قضية الجنس الثقافي كثيرة ، بين محللٍ مُستحمر ومهللٍ مستأجر وناعق بما لا يفهم ، والكل يتناول القضية من منظوره الذي ينتمي له وأفقه الخاص وقدرته على التصور لحجم المشكلة ، فبعضهم يرى أنها علاقة فردية خاصة بين كاتب شاطر يتعرى ويقذف في مخيلة القارئ بصور وأحداث تروق له وتثيره "ثقافياً" على نحو يبدو وكأنه عقد مكتمل الشروط بين بائع ومشتري .. ولن تعدم من يضيف إلى ذلك التحليل بعداً شرعياً مستشهداً بأن "البيعان بالخيار" ! فهو تعاقد بين تاجر ثقافي ومستهلك يبحث عن الإثارة ليس إلا ، ولأن الجنس ليس إلا مصباح علاء الدين ، يبحث عن "حكة" بسيطة لينطلق منه مارد غير مقيد ، فإننا نرى الكثير من تلك "المصابيح الجنسية" المستنيرة تستهلك شريحة ليست بالقليلة من القراء ! آخرون يرون بأن الثقافة القائمة على الجنس تدخل في دائرة "تجربة الكاتب" وتحويرها أدبياً لتحمل معنى انسانياً له عمق ودلالة ، كأن تستطيع القول بأنه بحث استقرائي لعقل بغي تحدثنا فيه عن "عمق" التجربة وعن "حجم" المعاناة ! وهذا اللون تبناه الكثيرون من رموز هذه الثقافة دون تعيين لكاتب عن غيره ، حتى بات الأدب الجنسي أكثر واقعية وأقرب للنسق الإنساني المفهوم حين تناول الأدب النسائي هذا اللون الجديد ، وصارت كاتبة تبدأ ركلتها لعالم الأدب ببيع تجربتها الجنسية -أو تصورها عن تلك التجربة- لمن يقرأ !
المحير في هذا الموضوع أن الجنس بالذات ليس مادة غير مفهومة أو تجربة مقصورة على بعض أفراد المجتمع دون غيرهم .. كقيادة سيارة مرسيدس مثلاً أو قضاء عطلة نهاية الأسبوع في مونت كارلو .. بحيث يتفضل هؤلاء "المجربون" بنقل تجربتهم "الحسية" لمن لم يعايشوها ولا يملكون القدرة على ذلك ، وبعيداً عن التحليل الفني لهذا اللون الأدبي والذي لن يبتعد كثيراً عن الحقيقة برأيي ، فإن الخيال حيز ضيق مهمل إن تعلقت الكتابة بالحديث عن التجارب الجنسية بألوانها ، فألوانها معلومة مفهومة بفضل هؤلاء عند طلبة الأول الإبتدائي ، ومهما بلغ الكاتب في قوته السردية وابداعه اللفظي لأجل مفاجأة القارئ وإدخاله في منطقة محصورة مقصورة على تجربة الكاتب وحسب ، فإن القارئ مهما كان شأنه ودرجته العلمية أو مرتبته الثقافية تجده غير متفاعل بوعيه .. بل بغدته النخامية !
أصحاب الثقافة الجنسية تجدهم أكثر الكتاب صخباً ، يفتعلون المعارك الوهمية ثم يشعلون في أنفسهم النار انتقاماً من القارئ الذي يتهم كاتبة عربية شريفة بأنها رخيصة لمجرد أنها حدثته في روايتها بتفاصيل ممارستها للجنس وعن الأمور التي تحبها وتفضلها في الفراش .. وعن غيرها من مفردات "الثقافة" المطروحة في الرواية !! فهى تتوقع من القارئ المستنير في عصر ما بعد الثوابت .. أن يعلم أن ما كتبته الكاتبة لم يكن يعبر عن مكنوناتها الشخصية ، ولا رغباتها المجنونة ، بل عن مرادات شخوصها الإعتباريين في الرواية ، وأن بطلة القصة هى التي قالت ومارست وفصلت في القول ولم تكن الكاتبة ! وهذا الطرح يفترض في القارئ الأمي الباحث عن الإنتشاء الأدبي أنه جاهل بالفواصل المتعارف عليها في ثقافة اليوم بين الكاتب وشخوصه ، وبين خط الرواية العام وبين معتقدات الكاتب وآرائه !
أستطيع أن أقول أن هذا الإتهام المعلن للقارئ ليس إلا استدراك على الأصل المطروح منذ البداية ، وهو المبالغة في نحت وعي القارئ وإزالة أي نتوءات عالقة أو تكلسات بارزة في إدراكه لها صلة بالقيود القديمة التي فرضتها حقبة "الثوابت" ! فمثلاً غالبية اللاتي يكتبن هذا اللون الجنسي المباشر لسن بغايا بالمفهوم "الكلاسيكي" للكلمة ، على رغم من دقة الوصف أحياناً وحدة التفاصيل التي قد تستلزم عند بعض المحللين وجود خبرة ذاتية مكتسبة لدى الكاتبة من مواقف خاصة غير تقليدية ، إلا أننا نجدها أماً حنونة وزوجة صالحة ، بل قد تملك تحفظاً أصولياً متشدداً على بعض القضايا الخاصة ، والتي تصنع منها حدوداً لحياتها العائلية ، أياً كان مصدر تلك الحدود أو قيمتها ، لكنها تنبع من قناعة طبيعية تستنكرها على غيرها في مواضع أخرى إن تعلق الأمر بحريتها في الكتابة ، بأن الإنسان العاقل لابد وأن يملك بعض الأشياء التي يصونها بحدود حقيقية عليها كثير من علامات الإحتراز ، وقد يكون من جملة تلك الحدود عند الكثيرين : شئ كاحترام العرض والعرف وصيانة الذائقة !
الحقيقة الوهمية التي يبيعها كتاب الجنس لجمهورهم أن الكاتبة تتعرى من حدودها الشخصية ، وتنزع نفسها من سياقها الحياتي المتسق مع المجتمع ، وتلج عالم البورنو بـ "توبلس" كاروهات فوشي .. فقط حين تقتحم بإثارتها وغنجها الثقافي حدودَ الغير .. مداعبة خيال قرائها بقلمها الأنثوي الباذخ ، وتتحول إلى باحثة عن الحرية .. وفارة من القيود .. هاربة من الأغلال .. فقط حين تلبس الكعب العالي في روايتها وتحكي لنا في بلاغة سردية متقنة عن قصة حياة "عورتها المغلظة" !!
الإشكالية التي لم أعد أبلعها ليست في رغبة هؤلاء في اقتراف الأدب المصحوب بإلإنتشاء الجنسي في آخر الرواية ، فهذا طريق أغبر يشبه السالكين فيه مهما حاولوا تجميل ذلك بكثير من الكلام الفارغ ، وإنما الذي لا أفهمه هو لماذا يحاول أحدهم تغيير المدلولات وتحوير المحتوى ليبدو وكأنه صاحب قضية وليس أديب بورنو !؟ أو لماذا تظهر الأخت الفاضلة التي تجاهد في تشويه الفضيلة ونفي العفة كحاملة فكرٍ في حديثها عن رجل يقضي وطرها ؟! بعضهم أدباء معروفون بأنهم أدباء الفراش ومثقفي العورات المغلظة ، لكنهم يقدمون أنفسهم على أنهم مشغولون بقضايا الأمة ويحملون همّ الوعى وربما قدم أحدهم نفسه كمدافع عن الأقصى في قصته التي تحكي عن عربية منحرفة تسمتع بممارسة الجنس مع جنود الإحتلال !
الحقيقة أن الغرب كان أكثر شرفاً من هؤلاء .. صريحاً متصالحاً مع نفسه حين اخترع ومارس هذا اللون الأدبي المتجانس مع تعاليمه وقيمه المجتمعية ، فلا يدعي منهم أحد أنه محرر القضايا ومشتبك أبد الدهر مع قوى ظلامية مخفية تنتهك حريته في أن يكون فاجراً ! لكن حين نُقلت التجربة لبلادنا .. لم ينس الكاتب أنه لابد وأن يُضمن روايته مفهوم "القضية" ويرتدي لآمة النضال حتى وإن كانت لآمته بكيني مستورد .. حتى وإن كانت تحكي لنا سيدة الأبطال وصفاً لبضع امرأة ! فقد تعودنا واعتاد الأدباء في بلادنا على أنهم حملة مشاعل .. إن كان شاعراً أو أديباً أو حتى فناناً عربياً قومياً .. أو راقصة تهز خصرها في نصرة "القضية" ! ولأن المعتقد كذلك فإن الكتابة حتى في الجنس لن تخلو من هذا الهراء وسيقدم كتابها على أنهم شهداؤها وحاملوا قضيتها ، يقدمون على أنهم يحملون هماً ثقافياً متعلقاً بتحرير الجنس من عبودية التقاليد وتحويله إلى تاكسي بالنفر !
تواترت الروايات عن هذا المجتمع البائس الصغير الذي عقد الولاية لنصرة الملذات الأدبية من منظور يساري شيوعي محض ، أنهم يعيشون بهيمية سوداء فاقت في عفنها ما يقترفه نظراؤهم الغربيون ، وعلى الرغم من التعاقدات والردح الأدبي في الفضائيات ورغوة القضايا التي يغسلون بها وجوههم ليل نهار ، يبحثون من خلالها عن تحرير كل النسوان من عقدة الجنس البالية ، وقصرها على الزوج وبيت الزوجية ، إلا أنك إن سألت أحدهم إن كان بامكانك أن تأخذ امرأته "لفة" لرفض واتهمك بأنك ظلامي ابن كلب !!
مفروس