المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفصيل الرد ، على من أنكر قتل المرتد



القادسية
05-06-2010, 12:15 PM
بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله، الحمد لله ثمّ الحمد لله، الحمد لله نحمده، نستعين به نستهديه نسترشده، نتوب إليه نتوكّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، { مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيَّاً مُرْشِدَاً * } ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، معزّ المؤمنين وناصرهم، ومخز الملحدين وقاهرهم { خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ، وأشهد أنّ سيّدنا وحبيبنا وقائدنا محمّداً عبده ورسوله،وصفيّه وخليله، خير نبيٍّ اجتباه، وهدىً ورحمةً للعالمين أرسله

بلغ العُـلا بكمالـه كشف الدّجى بجمالـه
حسُنت جميع خصاله صلّـوا عليـه وآلـه

اللّهمّ صلِّ على سيّدنا محمّدٍ وآله وصحبه، وارضَ عن خلفائه الأربعة الميامين، سادتنا أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وعن سبطيه الأكرمين أبي محمّدٍ الحسن، وأبي عبد الله الحسين، وعن أمّهما فاطمة الزّهرا، وجدّتهما خديجة الكبرى، وعن عائشة أمّ المؤمنين، وعن جميع الآل والصّحابة، والأهل والأزواج والقرابة، والتّابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.

{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * } .

أمّا بعد:
أيّها الإخوة المؤمنون:
دينٌ كاملٌ لا نقص فيه، محكمٌ لا ثغرة فيه، مضيءٌ لا ظلمة فيه، والكامل هو الّذي يراد بالتّنقّص دون النّاقص

وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ * فهي الشّهادة لي بأنّي كامل

وكما قال الصّينيّون: ( إنّ النّاس لا يرمون بالأحجار إلاّ الشّجرة المثمرة )، لهذا فقد كان هذا الدّين غرضاً لسهام كثيرٍ من الحاقدين، وكان هذا الدّين مظنّةً لظنون كثيرٍ من الجاهلين، وأمّا أولئك الّذين ما كانوا حاقدين ولا كانوا جاهلين، فإنّ كثيراً منهم وقفوا عاجزين عن ردّ شبهات المشبّهين، وعن ردّ ظنون الظّانّين، فضاع الإسلام بين بين حاقدٍ وبين جاهلٍ وبين عاجز!.
ولكنّه لا يحتاج إلى من يدافع عنه لأنّه حقّ بذاته لا بمدافعيه، ولأنّه كمالٌ بذاته لا بمناصريه، ولكنّ شرفاً للمرء أن يكون مدافعاً عن الدّين الكامل، وإن كان هذا الدّين مستغنياً عنه لأنّ الله جلّ وعلا تكفّل بحفظه، ببشرٍ أو بغير بشر، فهو محفوظ، شبهاتٍ كثيرة، رددنا كثيراً منها وبقي الكثير، وتكلّمنا عمّا يُزْعَم من أنّ: "الإسلام دين عنفٍ وقسوة، ودين إرهابٍ وتتطرّفٍ وبطش، فهو دينٌ يطالب بإيجاد مجتمعٍ إرهابيٍّ تسود فيه الأحكام الجائرة، فتارةً يذبّح أشخاصٌ، وأخرى تقطّع أيديهم، يجلدون ويرجمون بالحجارة حتّى الموت، عقوباتٌ عفا عليها الزّمان - كما يقولون - عقوباتٌ صارت تتنافى مع حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين، عقوباتٌ صارت بعيدةً عن الحسّ الحضاريّ للإنسان العصر الحديث، وللإنسان النّظام العالميّ الجديد، لذلك علينا أن نقوم بأحد أمرين: إمّا أن نُنظّف الإسلام من هذه الأحكام الجائرة حتّى يصير ديناّ حضاريّاً، وإمّا إذا عَجَزنا عن هذا التّنظيف أن ندع الإسلام جملةً وتفصيلا لأنّ ديناً فيه مثل هذه الأحكام ليس أهلاً لأن يُطبّق في زمان النّظام العالميّ الجديد".
سمع مسلمون هذا الكلام فأعجبهم، وغرّهم فأخذوا بالرّأي الأوّل ظانّين أنّهم به يكونون مسلمين، قالوا: "إذاً نبقى مسلمين ولكنْ مع إجراء بعض عمليّات التّطهير والتّنظيف لهذا الدّين؛ نريد إسلاماً حضاريّاً خالياً من الشّوائب؛ نريد إسلاماً لا عنف فيه؛ نريد إسلاماً لا إرهاب فيه؛ نريد إسلاماً لا تقطع فيه الأيدي؛ ولا يرجم فيه الرّجال والنّساء؛ ولا يجلد فيه الأُناس البرئاء الّذين أذنبوا ذنباً لا يتناسب مع هذه العقوبة العظيمة".

صدّق أولئك هذا القول، فإذا بهم يحاربون الإسلام من حيث أرادوا أن ينصروه، ويوسّخونه من حيث أرادوا أن ينظّفوه، الإسلام برّاقٌ بذاته لا يحتاج إلى من يلمّعه، فإذا زعم امرؤٌ عندما يُحرف شيئاً من تعاليم الإسلام وأحكامه أنّه يلمّع الإسلام فإنّه يزعم إذاً أنّه يزيد فيه، والإسلام كامل، وليست الزّيادة على الكامل إلاّ نقصان، الكامل لا يُزاد، فمن زعم أنّه زاد الكامل فوق كماله فهو إذاً ينقصه، ومن زعم أنّه يلمّع الإسلام فوق لمعانه فهو إذاً يوسّخه، خذوا الإسلام كما هو، خذوه جملةً واحدة، أو فدعوه جملةً واحدة { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، { كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * ‏الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } جعلوا القرآن عضين: أعضاء وأشلاء مفرقةً مبعثرةً، يأخذون ما بدا لهم ويدعون ما لم يبدُ لهم، يأخذون ما توافق مع هواهم ويدعون ما تخالف معه، يأخذون ما وافق عقولهم الفاسدة ويدعون ما خالفها، { كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * ‏الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * } ، خذوا الدّين جملةً أو فدعوه جملة من حيث الاعتقاد، أمّا من حيث التّطبيق، فإذا أخذت بعضه وتركت بعضه فإنّك تُؤجر على ما أخذت وتأثم على ما تركت، قد يُجَزَّئُ الإسلام تطبيقاً، فإذا رأيت امرأً يصلّي الصّلوات الخمس ولا يصوم في رمضان، فلا تقل له: صلاتك مردودةٌ عليك ولا قيمة لها عند الله، بل إنّ لصلاته أجراً، ولترك الصّيام وزراً، وإذا رأيت امرأةً سافرةً متبرّجة تصلّي وتصوم وتكثر من النّوافل في الصّلاة وفي الصّيام، وتتصدّق وتكثر من الصّدقات، فلا تقل لها: إنّ أعمالك كلّها هباءٌ منثور ولا قيمة لها ومردودةٌ في وجهك لأنّكِ تركت الحجاب عليك أن تأخذي الدّين كلّه أو تدعيه كلّه، لا ، بل إنّها تؤجر على ما فعلت وتأثم على ما تركت ما دامت بالكلّ معتقدة، فالتّطبيق إذا جُزّئ يجزّأ جزاؤه، وأمّا الاعتقاد إذا جُزّئ فإنّه عند الله لا يجزّأ، فإمّا أن يقبل كلّه أو أن يُردّ كلّه، { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ }

الخطابُ خطابُ عقيدةٍ إذاً لا خطابُ تطبيق، وكم من أُناسٍ عجزوا أو نكصوا عن أن يطبّقوا الإسلام كلّه فتركوا بعض تعاليمه، فهل نقول إنّ كلّ ما طبّقوا مردودٌ عليهم لبعض ما تركوا؟ لا، بل إنّهم يُؤجرون ويأثمون، ميزان حسناتٍ، وميزان سيّئات دقيقان لطيفان يحاسبان بمثقال الذّرّة، فالحسنة محسوبة والسّيّئة محسوبة، أمّا أن يتعلّق الأمر بالاعتقاد فإنّ التّجزئة هنا غير مقبولةٍ بحالٍ من الأحوال، أن يقول قائل: "يعجبني في الإسلام تعاون أفراده، ويعجبني في الإسلام الحسّ الرّوحيّ اللّطيف فيه، ويعجبني في الإسلام تهذيب الأخلاق فيه، ويعجبني في الإسلام الصّلة بين العبد وربّه، كلّ هذا أقبله فأنا مسلمٌ من هذا المنطلق، ولكنْ أن تقول لي: عبودّيةٌ في القرن العشرين، والحادي والعشرين، وأن تقول لي: قطعٌ للأيدي في عصر حقوق الإنسان، وأن تقول لي: رجمٌ بالحجارة في عهد المنظّمات الدّوليّة ووسائل الإعلام تبثّ كلّ صغيرةٍ وكبيرة، فإسلامُ من هذا النّوع لا يعجبني، إذاً أنا مسلم".

نقول له: إذاً أنت غير مسلم، لأنّ المسلم مستسلم وليس الإسلام إلاّ إسلام الكلّ لله تعالى، فلا تكون مسلماً ما لم تسلم عقلك وهواك وجوارحك بعد ذلك كلّه للدّين، فإن كنت غير مستعدٍّ لأن تستسلم جملةً وتفصيلا فإذاً أنت لست مسلماً { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ، [ لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعاً لما جئت به ] حتّى يكون عقله، حتّى يكون منطقه، وحتّى تكون طريقة تفكيره، كلّ ذلك تبعاً لما جاء به صلّى الله عليه وسلّم.
بهذا نخاطب المؤمنين الّذين زعموا أنّهم يكونون مسلمين وإن ردّوا بعض عقائد الإسلام، فبماذا نخاطب غير المسلمين؟
خاطبناهم طويلاً في شبهاتٍ كثيرةٍ عديدةٍ، كلّمناهم عن الفسق، كلّمناهم عن التّسرّي واتّخاذ الجواري، كلّمناهم عن الحدود، عن القطع وعن الجلد وعن الرّجم، ولربّما نعود إلى ذلك مرّةً أخرى لنستوفيه، ولكنّنا لمّا نكلّمهم بعد عن شبهة عظمى من شبهاتهم الّتي كثيراً ما تشدّقوا بها ولاكتها ألسنتهم، وعندما تكلّموا بها زعموا أنّهم أصابوا من الإسلام مقتلا، وزعموا أنّ المسلمين أجمعين سيقفون عاجزين لأنّ الإسلام ثبت أنّه دينٌ غير حضاريّ، إنّها حرّيّة الرّأي، إنّها حرّيّة اعتناق المذهب والمبدأ والدّين، إنّها الحرّيّة الّتي أعطاها الإسلام أتباعه ورعايا دولته من غير أتباعه على حدٍّ سواء، بينما زعم غير المسلمين أنّها "حرّيّةٌ مفقودةٌ في ظلّ دولة الإسلام، تلك الدّولة الّتي يزعمون أنّها دولةٌ ثيوقراطيّة؛ دولةٌ يسود فيها الحكم الدّينيّ الإرهابيّ الجائر"، وليست الثّيوقراطيّة من الإسلام في شيء، إنّما الإسلام أُنموذجٌ لا يمكن أن يُعبّر عنه مصطلحٌ من المصطلحات الغربيّة لأنّه أُنموذجٌ لا يعرفونه، فلا يشبهه حكمٌ دينيٌّ نصرانيّ، ولا حكم دينيٌّ يهوديّ، ولا حكمٌ دينيٌ بوذيّ، ولا يشبهه بالمقابل حكمٌ مدنيّ، فهو حكمٌ جمع بين الدّينيّ الثّيوقراطيّ وبين المدنيّ المتحلّل، هو حكمٌ دينيٌّ مدنيٌّ في آنٍ معاً، هو حكمٌ منضبطٌ حرٌّ في آنٍ معاً، ولكنّه ذلك التّحرّر الوسط ما بين التّحلّل والتّحجّر، وديننا دين أوساط، وما من وسطٍ إلاّ هو فضيلة وسطٌ بين رذيلتين، الفضيلة هي وسطٌ بين رذيلتين، يعرف ذلك علماء الأخلاق، فلماذا حاكموا الإسلام بمعيارٍ آخر؟ فأرادوا أن يكون الإسلام بعيداً عن الوسط طوباويّاً خياليّاً على طرف نقيضٍ من الرّذيلة، أفلا يعلمون أنّ كلّ طرفي نقيضٍ متقابلين متشابهان؟ فما قابل الرّذيلة فهو رذيلة، ما قابل التّزمّت المذموم تحلّلٌ مذموم، ما قابل التّعصّب المذموم تسيّبٌ مذموم، والحقّ هو الوسط بين الأضداد، التّحرّر وسط بين التّحلّل والتّحجّر، الإسلام ما دعا إلى تحجّرٍ وتزمّتٍ وانغلاق، ولكنّه بالمقابل ما أفسح المجال لأيٍّ كان حتّى يتحلّل من الضّوابط والقيود ويفعل ما يشاء متى يشاء بالشّكل الّذي يشاء، لكنّه ضبط.

الحرّيّة الدّينيّة إخوتي أسٌّ من أسس الإسلام، لمّا كان الأنصار أوساً وخزرجاً في الجاهليّة قبل أن تصهرهم بوتقة الإسلام كان بعضهم لا يعيش له ولد وكان ينذر إن عاش له ولدٌ أن يهوّده؛ بحكم معاشرة اليهود للعرب - الأوس والخزرج - في تلك المدينة، فلمّا جاء الإسلام ونُوِّرت المدينة المنوَّرة كان كثيرٌ من أبناء الأنصار عبدة الأوثان يهوداً، فأسلم الآباء وبقي الأبناء على دينهم، رغب الآباء في إسلام أبنائهم، ورغب الأبناء عن إسلام آبائهم، وما بين الرّغبة في الإسلام والرّغبة عن الإسلام صار الحبل يُشدّ بين الآباء والأبناء، حتّى همّ الآباء بإجبار أبنائهم على اعتناق الإسلام، عندها أنزل الله تعالى قوله: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ‏..، عندما تكلّمنا عن الجهاد علمنا أنّ الجهاد لم يكن من أجل الإكراه، ولكنّ الجهاد كان من أجل التّحرير، كان الجهاد تحريراً لآراء الشّعوب وعقائدهم من سلطان الملوك الجائرين، حتّى يستطيع الشّعب اتّخاذ كلمته بعيداً عن سلطة المتسلّطين، فلمّا حارب المسلمون الملوك والجيوش ولم يحاربوا الشّعوب أفسحوا المجال للشّعوب لاتّخاذ القرار ولإعلان الكلمة، فمنهم من دخل الإسلام ومنهم من لم يدخل، ولم يُكره على ذلك أحد، وحسبك بذلك: ذلك الحدث الجليل الّذي سردناه في عهد / عمر بن عبد العزيز / ما حدث في مصر، عندما انزعج والي مصر من دخول النّصارى في مصر في الإسلام لأنّ دخولهم في الإسلام كان يُقلّلُ ريع الدّولة من الجزية، فأرسل إلى / عمر بن عبد العزيز / يشكو له ذلك، يشكو له أنّ أهل مصر يدخلون في الإسلام بكثرة وإنّ هذا سينقص من أموال الجزية، فأرسل / عمر بن عبد العزيز / إلى والي مصر من عاقبه ضرباً بالسّياط، وقال له: ( لوددت أنّ أهل مصر كلّهم دخلوا في الإسلام، إنّ الله بعث محمّداً هادياً ولم يبعثه جابياً ).. ، أفترى في موقف الوالي ثمّ في موقف أمير المؤمنين أيّة إشارة أو تشمّ أيّ رائحة بأنّهم أكرهوا النّاس على الدّخول في الإسلام، والأمثلة بعد هذا كثير، فلم يكن الجهاد إذاً مظهراً من مظاهر الإكراه، ولكنّه كان مظهراً بالغاً من مظاهر التّحرير، ومن مظاهر الإطلاق والاعتاق، فلمّا انعتق النّاس اتخذوا قراراتهم بأنفسهم { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } ،هاهو تعالى يقول في موطنٍ آخر: { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } إنّها حرّيّةٌ مطلقةٌ في الرّأي والاختيار، ولكنّها حرّيّةٌ تترتّب عليها نتائج عظيمة، وبقدر ما يُعطى المرء من الحرّيّة يُحمّل من المسؤوليّة، فلمّا أُعطي حرّيّةً عظمى تتعلّق باتّخاذ القرار في أهمّ مسألةٍ في الكون، وأهمّ مسألةٍ على مرّ التّاريخ ألا وهي حرّيّة اتّخاذ الإله وحرّيّة انتساب الدّين عندها حمّله أعظم مسؤوليّةٍ على الإطلاق، حمّله نتيجةً عظيمة هي الخلود في نعيمٍ أو في جحيم { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } ولكنْ ما بعد ذلك؟ { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارَاً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقَاً * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابَاً خُضْرَاً مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقَاً * } هم اختاروا فتحمّلوا نتيجة اختيارهم، ولو أنّه أجبرهم على اتّباع مبدأٍ أو امتثال أمرٍ أو اعتناق دين لما تحمّلوا هذه المسؤوليّة العظيمة، لأنّه سبحانه { لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * } ،{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } ، { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَاً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } إنّه تخيير، { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * } إنّه تخيير، وما أكثر النّصوص الّتي تُقرّ التّخيير إقراراً نظريّاً في الكتاب أو في السّنّة، فطريق الخير وطريق الشّرّ بيّنان، يقال لنا: "لقد تأكّدنا أنّ دينكم أقرّ حرّيّة الاختيار وحرّيّة العقيدة وحرّيّة الدّين إقراراً نظريّاً؛ ولكنْ إذا نحن بحثنا في التّطبيق العمليّ عن ذلك فهل نجده؟ أم إنّنا نجد إرهاباً وقسراً؟"، يُقال لنا: "ما تقولون في حدّ الرّدّة؟ حيث إنّ مسلماً يرتئي ديناً آخر غير الإسلام دين حقّ فيتّبعه فيقتل لذلك [ من بدّل دينه فاقتلوه ] فكيف نوفّق بين تلك الحرّيّة المزعومة وبين هذا التّسيير وهذا الإجبار العمليّ البيّن [ من بدّل دينه فاقتلوه ] ؟! فمن ارتدّ عن الإسلام قتل!".

الجواب عن ذلك إخوتي: أنّ الّذي لم يكن مسلماً ليس ملزماً في الدّنيا بأن يكون مسلماً، وإن كنّا من النّاحية النّظريّة نحذّره من أنّه إن اختار غير الإسلام فسيتحمّل نتيجةً وخيمةً يوم القيامة لأنّه يختار دين غير الله ويختار غير دين الله لذلك نحذّره، ولكنّنا لا نجبره { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } فإن شاء أسلم فله الفضل وله حقوق المسلمين وعليه واجباتهم، وإن شاء لم يسلم فسوف يعامل معاملةً فاضلةً في الدّولة المسلمة كما قال / خالد بن الوليد/، وكما قال / أبو عبيدة /، وكما قال الفاتحون العظام: لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا )، حتّى ولو لم يسلموا فإنّ لهم حقوقاً كما أنّ عليهم واجبات، يدفعون الجزية، وقد فصّلنا طويلاً في الجزية وبيّنا أنّ فرض الجزية على غير المسلمين إنّما هو فضلٌ لهم وليس فضلاً للدّولة، فالدّولة الإسلاميّة تفضّلت عليهم إذ طالبتهم بالجزية لا أكثر، فهاهو السّلطان / سليم الأوّل / ويقال السّلطان / سليمان القانونيّ / يخشى من تجمّع الأروام والبلغار والصّرب والأرمن فَيَهِمُّ بإخراجهم من الدّولة العثمانيّة، فيقول له شيخ الإسلام في كلّ مرّة ويحذّره: ( ليس لك عليهم إلاّ الجزية ).. ، ليس لك أن تمارس ضدّهم إرهاباً دينيّاً أو تطهيراً عرقيّاً، الله أوجب عليهم الجزية فليس لك أن توجب عليهم سواها، فإذا لم يكن مسلماً فإنّه ليس ملزماً بأن يصير مسلماً، فإن صار مسلماً فبها ونعمت، وإلاّ فإنّ الدّولة الإسلاميّة تحفظ له حقوقه، تحفظ للنّصارى كنائسهم ولليهود بيعهم، وإنّ الدّولة الإسلاميّة تحميهم من أعدائهم، ولا تكلّفهم الخدمة الإلزاميّة في الجيش، فإذا خدم أحدهم في الجيش سقطت عنه الجزية لأنّه فعل ما يعوّضها، فما أشبه الجزية إذاً ببدل الخدمة الإلزاميّة يدفعها من أراد ألاّ يخدم في الجيش، وأمّا المسلم فليس له ذلك، ليس له ألاّ يخدم في الجيش بل هو ملزمٌ بالجهاد، صار التّفاوت هنا نظريّاً من النّظرة الدّنيويّة لصالح النّصرانيّ، وأمّا من النّظرة الأخرويّة فإنّ الجهاد فضلٌ وشرف وليس قسراً وكلفة، لذلك صار لمصلحة المسلم، الدّولة الإسلاميّة مطالبةٌ بأن تحمي النّصارى من بعضهم، كما حدث في إنطاكيّة في بعض عصور الدّولة العثمانيّة، عندما خصّصت الدّولة جنوداً وأحراساً يحمون طوائف النّصارى من بعضهم لعظيم الفتنة الّتي كانت بينهم، حتّى في فلسطين، حتّى في مهد النّصرانيّة في بيت لحم، كان النّصارى يذّبحون بعضهم ويقتتلون من الّذي يحوز مفاتيح كنيسة المهد - مهد المسيح عليه السّلام - لهذا فقد آلت المفاتيح إلى المسلمين إلى ذرّيّة / أبي أيّوبٍ الأنصاريّ / رضي الله عنه، الدّولة الإسلاميّة مطالبةٌ بتأمين الحياة الكريمة لهؤلاء من غير المسلمين ( فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثمّ نخذله عند الهرم ) قالها / عمر بن الخطّاب / في رجلٍ يهوديّ،..إذاً ليس غير المسلم مطالباً بالدّخول في الإسلام، إلاّ مطالبةً دينيّةً معنويّةً، وأمّا من النّاحية المدنيّة فلا، فإن لم يسلم فإنّه لن يقتل، ولكنْ إذا أسلم إخوتي فإنّه قد صار عضواً في هذا الاجتماع وصار عضواً في هذه المنظّمة الّتي تدعى الإسلام فلا بدّ إذاً أن يتحمّل نتائج انتسابه لهذه المنظّمة، ولا بدّ من أن يكون راضياً بكلّ ما فيها من مبادئ وقوانين، لم نأت بهذه القاعدة من عندنا فقط، بل إنّ كثيرين من غير المسلمين اعترفوا بها، فذلك على سبيل المثال: / جان جاك روسّو / في كتابه ( العقد الاجتماعيّ ) يقرّ أنّ امرأً فرداً من النّاس إن دخل في اجتماعٍ معيّن، وإن صار عضواً في مجتمعٍ معيّن فقد عقد بينه وبين هذا المجتمع عقداً بطريقةٍ تلقائيّةٍ، وإن لم يوقّع ويوقّعوا وإن لم ينصّ وينصّوا، فإنّ العقد قد أبرم لأنّه صار عضواً في هذا المجتمع، إن أنت دخلت بلداً من البلدان فهل لك أن تخالف قانونه بدعوى أنّك لا تعترف بهذا القانون؟ إن أنت دخلت بلداً يحرّم التّدخين في وسائل النّقل فدخّنت في وسائل النّقل وطولبت بالغرامة أو حبست ربّما، فهل لك أن تقول أنا لست مقتنعاً بهذا القانون؟ إذا كنت غير مقتنعٍٍ بقانون البلد فلمَ دخلت البلد من الأساس؟ ما دمت قد دخلت البلد فأنت ملزمٌ بكل قوانينه، إن كنت معتاداً على التّسيّب في بلدك ثمّ سافرت إلى بلدٍ آخر لا تسيّب فيه واستمرّت مسيرة التّسيّب عندك فهل تعذر لأنّك من بلدٍ آخر؟ لا، بل إنّ قوانين البلد الجديد صارت نافذةً عليك ملزمةً لك بكل تفاصيلها وحذافيرها، إذا كان هذا يتعلّق بالدّخول في بلد فمن باب أولى إن كان دخولاً في نظام، وإن كان اعتناقاً لمبادئ هذا النّظام، إن أنت انتسبت إلى حزبٍ سياسيّ أو نادٍ اجتماعيّ، أو منظّمةٍ ثقافيّةٍ مثلاً وبايعت أربابها على نظامها الدّاخليّ بتفاصيله، فهل لك فيما بعد أن تخالفه بدعوى أنّك غير مقتنعٍ به أو ببعض بنوده؟ لا، فإذا دخلت يا أيّها الإنسان في دينٍ اسمه الإسلام فأنت إذاً ملزمٌ بتفاصيل هذا الإسلام، وعالمٌ مسبقاً بما يترتّب على كلّ فعلٍ تفعله، أنت لم تكن ملزماً بالدّخول في هذا الدّين، أمَا وقد دخلت فيه فإنّك ملزمٌ بكلّ تفاصيله لأنّه دينٌ لا يجزّئ، نظامٌ محكمٌ لا يفتّت { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } فعليك أن تقبل به كما هو.

يقول قائل: "فإن دخلت فيه ثمّ تبيّنت ليَ بعض التّفاصيل الّتي لم تعجبني فيما بعد فما أفعل؟" نقول: إن ارتددت عن هذا الدّين فإنّك إذاً لم ترتدّ عنه لأنّ بعض التّفاصيل لم تعجبك، ولكنّك ارتددت لأنّك إنسانٌ هوائيّ، تتّبع هواك تريد التّقلّب والتّذبذب.
هذه الرّدّة الّتي وضع لها هذه العقوبة الصّارمة نتائجها وخيمةٌ على المجتمع المسلم، تصوّر أنّ امرأً من النّاس يدخل الإسلام اليوم ثمّ يخرج منه غداً، ثمّ يدخل فيه ثمّ يخرج منه، وقلّده أمثاله من المغرضين أصحاب الأهواء، ماذا سوف يحُلّ بالمسلمين من ضعاف الإيمان؟ سيقولون: ( لماذا يدع الإسلام بعد أن يدخل فيه؟ هذا لا بدّ أنّه يدلّ على أنّ في الإسلام أخطاءً اكتشفها هذا الرّجل )، فسوف يهمّون بفعل مثل ما فعل، وفي هذا قال تعالى: { آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * } هكذا قال اليهود لبعضهم حرّضوا بعضهم على الإسلام ثمّ الرّدّة، علّ المسلمين يرتدّون مثل ما يرتدّ اليهود { آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * } أسلموا صباحاً واكفروا مساءً، ثمّ أسلموا صباحاً ثمّ اكفروا مساءً لعلّهم يرجعون، أي لعلّ المسلمين يرجعون عن دينهم ويرتدّون عنه، في المجتمع أمثال هؤلاء، فلا بدّ من أن توضع لهم عقوباتٌ صارمة للأّ تسوّل لهم نفوسهم أن يتّخذوا الإسلام لعبة وأن يتّخذوه طريقاً سهلا، الدّخول في الطّريق ليس مثله الرّجوع منه، فالرّجوع صعب مادمت قد دخلت فليس لك أن ترجع بالسّهولة ذاتها، أدرس الإسلام حتّى إذا اقتنعت به فاتّبعه، فإذا اتّبعته فالتكن مخلصاً له، ما أكثر ما نرى اليوم من مسلمين ضعف إيمانهم لا لأنّ الإسلام فيه خطأٌ أو أنّ الإسلام فيه عيبٌ، ولكنْ بما يرون من تقصير من حولهم، فكيف إذا رأوا ردّةً ممّن حولهم؟ كيف إذا رأوا نكوصاً عن الدّين جملةً وتفصيلا؟.

ثمّ ههنا مسألةٌ هامّة: وهي أنّ المرتدّ غالباً سيكون أحد نوعين، أمّا النّوع الأوّل فهو هذا الّذي ذكرنا صاحب الغرض والهوى الّذي يريد أن يؤذيَ الإسلام، ويريد أن يخرّب الإسلام من الدّخل، ومعلومٌ أنّ التّخريب من الدّخل أبلغ ضرراً من التّخريب من الخارج، لذلك صارت اليوم وسيلة التّفجير وتهديم المباني هي التّفجير الدّاخليّ لأنّه يقوض البناء من أسسه، فإذا كان في المجتمع أمثال هؤلاء فلا بدّ من أن نقطع دابرهم بعقوبة القتل: [ من بدّل دينه فاقتلوه ] ، وأمّا النّوع الثّاني فإنّهم أناسٌ لا يفكّرون بمثل هذا ولا يريدون أن يؤذوا الإسلام أو أن يردّوا المسلمين عن دينهم، ولكنّهم حقّاً اشتبهت عليهم بعض الأفكار، وضلّوا في فهم بعض أحكام الإسلام فارتدّوا عن الدّين لهذا، فما حكم هؤلاء؟ وهل يقتلون كما يقتل أولئك؟ نعم يقتلون. ولكنْ لا يقتلون ابتداء، بل لا بدّ قبل أن نقتلهم من أن نردّ الشّبهات في عقولهم، ولا بدّ من أن نزيل ذلك الغبار الّذي تراكم على عقيدتهم.
يستتاب المرتدّ ثلاثة أيّامٍ قبل أن يقتل، فإن تاب فبها ونعمت، نسينا ما قال وتجاهلناه وعاد عضواً نافعاً صالحاً في المجتمع، وأمّا إن بقي على ردّته فإنّ لنا معه شأناً آخر عندها.

ثلاثة أيّامٍ نستتيبه فيهنّ، ولا بد من أن نقف عند هذه الاستتابة، فهل الاستتابة هي ما يفهمها عوامّ النّاس من أن نذهب فنقول له: ( تب إلى الله، وإن لم تتب فسوف نقتلك )؟، هذا الكلام يعرفه ولا جدوى من تكراره على مسمعه بل إنّه إن لم تردّ الشّبه حقيقةً فإنّه سيكون متقبّلاً للقتل، ألا ترى أن كثيرين يقتلون شهداء مبادئ فاسدة وهم مسرورون بذلك، ألا ترى إلى أصحاب المبادئ القوميّة والشّوفينيّة وأصحاب المبادئ الاشتراكية والشّيوعيّة وأصحاب المبادئ الفاسدة كيف يقتلون مسرورين لأنّهم يرون أنفسهم يذهبون القضيّة، فإن نحن استتبناه استتابةً ظاهرة فإنّنا لن نحلّ الإشكال، وسوف نقتله وهو بذلك مسرور، ولا نحلّ بذلك إشكالاً، سوف يظنّ أنّه قتل شهيد الحرّيّة وشهيد المبدأ وشهيد النّور وشهيد العقل والمنطق، ونحن في نظره العتاة المتمرّدون والطّغاة المتجبّرون الّذين حاربنا الحقّ والخير والهدى والفضيلة والعقل والمنطق، فهو المظلوم ونحن الظّلمة في نظره، ليست الاستتابة كما تتصوّرون إخوتي؛ إنّما الاستتابة حلٌّ للعقد وفكٌّ للشّبه حتّى يستطيع الرّجل أن يفكّر بالمنطق الدّينيّ مرّةً أخرى، إذاً لا بدّ أن يكون المستتيبون علماء عقلاء حكماء، فإن كان ذلك المرتدّ فيلسوفاً فلا بدّ من أن يكون المستتيبون فلاسفة، وأن كان ذلك المرتدّ عالماً تجريبيّاً فلا بدّ من أن يكون أولئك المستتيبون علماء تجريبيّين، وإن كان ذلك المرتدّ إنساناً يفهم بمنطق التّاريخ، فلا بدّ من أن يكون المستتيبون مناطقةً في التّاريخ، فضلاً عن علم المستتيبين بأحكام الشّرع وبمنطق الدّعوة والإصلاح حتّى يستطيعوا أن يعاملوه كما يناسبه، الدّاعي إخوتي لا بدّ من أن يكون محقّقاً لشروطٍ هامّة، لا بدّ من أن يكون الدّاعي إلى الله عموماً في كلّ مواطن الدّعوة عالماً في المنطق، وعالم نفسٍ، وعالم حكمةٍ وفلسفة، ثمّ لا بدّ من أن يكون صاحب روحٍ مرنةٍ لطيفةٍ صافيةٍ يستطيع بها أن يدخل القلوب ويتعامل مع النّفوس، ويستطيع بها أن يتعرّف ثغرات البشر فيدخل عليهم من خلالها، لا بدّ من أن يكون الدّعي ملمّاً محيطا كالبحر المحيط، لا بدّ من أن يكون الدّعي في مقابل المتلقّي كالإناء الكبير في مقابل الإناء الصّغير حتّى يستطيع احتوائه واتساعه، أمّا إن كان الدّعي صغيراً والمتلقي كبيراً؛ فإنّ الدّاعي عاجزٌ عن احتواء المتلقّي، هذا في عموم مواطن الدّعوة فكيف إذاً في دعوة المرتدّ؟ وهنا الدّعوة أخطر.

في عموم الدّعوة إذا دعوت نصرانيّاً إلى الإسلام فلم يسلم اليوم فقد يسلم غداً، فإن لم يسلم غداً فقد يسلم بعد غدٍ، فإن لم يسلم هذا العام فقد يسلم العالم القادم، على أن أكون صاحب نفسٍ طويل، وموجةٍ طويلة في دعوته، وأمّا هذا المرتدّ فإن لم يعد إلى دينه ضمن ثلاثة أيّام فإنّه سيقتل، وحكمة الدّعي إذاً خطيرةٌ دقيقةٌ في هذا الموطن، أن يذهب أناسٌ جهلة يُسَمَّون مشايخ فقط وليست عندهم الذّخيرة العلميّة الكافية ويقولون له: ( يا كافر يا مرتدّ عد إلى الدّين وإلاّ سنقتلك ) فإنّ هذا سيخرّب أكثر ممّا يبني، إخوتي في أصل الدّين والإيمان لا يمكن أن يكفر بالدّين امرؤٌ لشبهةٍ تتردّد عنده ( في الأصل ) كما قال / أبو سفيان / في جوابه على أسئلة / هرقل / قال له: ( هل يدخل أحدٌ دينه ثمّ يخرج منه سُخطةً له؟. قال: لا. فقال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يخرج منها )..، هذه الرّدّة حادثة، عندما صارت الشّبهات تُشاع وصارت الأمراض تفشوا في عقائد النّاس صار بعضهم يرتدّ لشبهة، وإلاّ فلم يكن ذلك في الأصل وارداً، لأنّ النّاس كانوا يؤمنون إيماناً خالصاً وكانت عقائدهم صافية، إذاً مادامت الأمراض عارضة فلا بدّ إذاً من أن نعالجها علاجاً حكيماً، لا بدّ من أن يمضي إلى هذا المرتدّ أناسٌ عقلاء علماء حكماء حلماء توافرت فيهم كمالات الدّعاة كلّها، توافرت فيهم مناقب الحلماء أجمعها حتّى يستطيعوا أولاً أن يفهموا نفسيّة هذا المرتدّ، ثانياً أن يفهموا الشّبهات الّتي أودت به إلى الرّدّة، ثالثاً أن يفهموا الطّريقة الّتي بها يستطيعون إصلاح المرض، يفهمون النّفسيّة، ثمّ يفهمون أعراض مرضها، ثمّ يفهمون أدوية هذه الأعراض، فإنْ ذهب أناسٌ كهؤلاء إلى هذا المرتدّ وناقشوه وخاطبوه وأقاموا الحجّة عليه، فبقي مرتدّاً فقد انتقل إذاً من خانة النّوع الثّاني إلى خانة النّوع الأوّل، إذاً هو لم يرتدّ لشبهة إنّما هو ارتدّ لغرض عندها صار أهلاً لأنْ يقتل لأنّه أراد تخريب الإسلام وأراد إفساد عقائد المؤمنين، لأنّنا أقمنا عليه الحجج، ورددنا له الشّبهات بالّلغة الّتي يفهمها والمنطق الّذي يفهمه ومع ذلك بقي على ردّته، عندها نقول له: لا بدّ من أن نطهّر المجتمع منك، لأنّك مثل أولئك الّذين قالوا: { آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * } ، مرضٌ في نفسك لا تفصح به لا بدّ من أن تعاقب عليه بالقتل، لأنّك عقدت عقداً اجتماعيّاً مع هذا الإسلام ورضيت من خلاله بكلّ تفاصيله وأحكامه، وأمّا إنْ حاول هؤلاء المستتيبون ردّ الشّبهات فعجَزوا وبقي هو المقدّم وبقي رأيه سائداً ورأيهم مسوداً، وكان هو أقوى حجّةً منهم عندها لا ينبغي أن يقتل هذا الرّجل، لا ينبغي أن يقام عليه حدّ الرّدّة لأنّنا ما أقمنا عليه الحجّة بعد، حتّى ولو استمرّت الاستتابة شهوراً لا أيّاماً ثلاثة، لأنّنا إنْ قتلناه حينها فإن ذنبه في رقبة وليّ الأمر الّذي قتله دون أن يقيم عليه الحجّة، والّذي أرسل إليه علماء هم جهلاء، وحكماء هم ليسوا حكماء، جعلهم حكّاماً دون أن يكون حكماء، ولا بدّ للحاكم من أن يكون حكيماً، وكلّ حكمٍ لا يُشْفَع بحكمةٍ يكون تسلطاً، فإن عجزنا عن إقامة الحجّة عليه فلا بدّ من أنْ نتخيّر عالماً يستطيع إقامة الحجّة عليه، وإلاّ فإن قتلناه قبل ذلك فإنّه سيكون قتيل ظلمٍ وقتيل جورٍ وسيكون شهيداً لرأيه.
هذه هي الرّدّة إخوتي، لا نقتل امرأً إلاّ بعد أن نتأكّد أنّه ارتدّ عن دينه لغرضٍ وهوى، لا لرأيٍ ومبدأ، فأمّا إن كان لرأيٍ ومبدأ فإنّنا نقيم الحجّة عليه، فإن كان لرأيٍ ومبدأ، فلا بدّ من أن نستطيع إقناعه بالعكس فإن لم نستطع، فلا ينبغي أن نقتله، وإن استطعنا ولم يعد إلى دينه فلا بدّ من نقتله لأنّه إذاً من النّوع الأوّل كما قلت.

من هذا المنطلق قتل المرتد حمايةٌ للإسلام إذاً من العابثين، وحمايةٌ له من أولئك المغرضين أمثال / عبد الله بن سبأٍ / مثلاً اليهوديّ الملعون الّذي تظاهر بالإسلام تظاهراً، وأمثال كثيرين الّذين دخلوا في الإسلام لا لاعتقادٍ واعتناق ولكنّهم دخلوا فيه لينخروا فيه من أساساته، وليعيثوا فيه فساداً من داخله، لا بدّ من أن يطهّر الإسلام من أمثال هؤلاء، ومع هذا إخوتي لا يقتل المرتدّ إلاّ بعد أن يُصرِّح بالرّدّة، فهاهم أولاء المنافقون الّذين عاصروا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لطالما ارتدّوا عن الإسلام فلمّا قُرِّرُوا بردّتهم نكصوا وأنكروا، فلم يقتلوا بردّة لأنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أخذ بالظّاهر، هاهو ذا رأس النّفاق / عبد الله بن أبيّ بن سلول / يسبّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويذمّه، كانوا راجعين من غزوة بني المصطلق، عندما اختصم رجلٌ خزرجيٌّ مع أجيرٍ لعمر بن الخطّاب، والخزرجيّ من أهل المدينة ومن قبيلة / عبد الله بن أبيّ / لعنه الله، وأجير عمر من أهل مكّة من المهاجرين، فلمّا وصل الخبر لعبد الله بن أبيٍّ قال: ( أويناهم في ديارنا ثمّ يقاتلوننا، ما مثلهم ومثلنا إلاّ كقول من قال: سمّن كلبك يأكلك - يقول ذلك عن المهاجرين - ..، لأن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأزل ) لعنة الله عليه، يقصد بالأعزّ نفسه ويقصد بالأزلّ رسول الله، وصل الخبر إلى المصطفى عليه الصّلاة والسّلام.
أرسل إلى عبد الله بن أبيّ: [ أأنت قلتها يا بن أبيّ ]؟
قال: لا.
قال: [ فانصرف ].

لقد أقرّ الوحي ذلك الخبر، وثبت بالدّليل القاطع الّذي لا شبهة عليه فقال تعالى:{ يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * } ومع هذا لم يقتل رسول الله بن أبيٍّ لأنّه لم يعترف ولم يصرّح بما قال، جاء / عمر بن الخطّاب / رضي الله عنه قال: يا رسول الله مرني أضرب عنقه، قال: [ لا يا عمر لا أقتله حّتى لا يقول النّاس إنّ محمّداً يقتل أصحابه ]، صلّى الله عليك يا سيّدي يا رسول الله { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين * } ، [ لا أقتله حتّى لا يقول النّاس إنّ محمّداً يقتل أصحابه ] منافقٌ يسبّه ومع ذلك لا يقتله كما يُقتَل المرتدّون، يأتي / عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول / رضوان الله عليه، ولعنة الله على أبيه، يقول: يا رسول الله إنّه ليس أحدٌ أبرّ بأبيه منّي بأبي، وإنّي سمعت ما قال أبي، وإنّي أخشى أن تأمر واحداً من المسلمين بقتله، فلا أتحمّل ولا أطيق أن أرى قاتل أبي أمامي فأقتله ( لبرّي بأبي، أقتل قاتل أبي ) فأكون قد قتلت مسلماً بكافر – وهو يعترف أنّ أباه كافر، ولكنّه يخشى من حميّة البنوّة – فيا رسول الله: إن أردت أن تقتل أبي فمرني أقتله بنفسي، حتّى لا أتعرض لتقل رجلٍ قتل أبي بل أقتله أنا. فيقول عليه الصّلاة والسّلام: [ لا، ولكنْ نحسن إليه ما دام بيننا ].. صلّى الله عليك يا سيّدي يا رسول الله { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين * } ، يمضي / عبد الله بن عبد الله / رضوان الله عليه إلى أبيه لعنة الله عليه، فيقول له بعد أن أمسك به وهمّ بقتله، همّ بضربه، قال له: ( والله لا أدعك حتّى تقول إنّك أنت الذّليل ورسول الله هو العزيز ) حتّى إذا اعترف أبوه بذلك تركه، اعترف بأنّه هو الأذلّ ورسول الله هو الأعزّ، تمضي أيّامٌ إخوتي ويموت / عبد الله بن أبيّ بن سلول / رأس النّفاق، يأت ابنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويطلب منه ردائه ليكفّن به أباه، فيعطيه ردائه، ويقول له: [ إن فرغتم منه فأعلموني ] إذا فرغتم منه فأعلموني، يقول / عمر /: [ يا رسول الله تكفّنه ببردتك وقد نافق، فيقول: وما ينفعه بردي إن لم ينفعه عمله ]، يعلمون رسول الله بأنّهم فرغوا من تجهيزه، من تغسيله وتكفينه، فيأت النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ليصلّي عليه وهو الذّي ذمّه وهو الذّي سبّه، وهو الّذي اتّهم زوجته بالفاحشة، وهو الّذي قال عنه ما قال، وهو الّذي أيّد اليهود عليه، وحاربه وحارب أصحابه، وهو الّذي قال: ( { آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * } )، فيقف / عمر بن الخطّاب بينه وبينه، يقول: [ يا رسول الله أتصلّي عليه وقد نافق؟! يقول: دعني يا عمر، يقول: يا رسول الله أتصلّي عليه وقد نافق؟! يقول دعني يا عمر، فإنّ الله قال لي: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ } فوالله لو علمت أنّني لو استغفرت لهم واحدةً وسبعين مرّةً لغفر الله له لاستغفرت له ]، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين * } لو علم أنّه لو استغفر واحدةً وسبعين مرّةً لغفر الله لابن أُبَيّ لاستغفر له واحدةً وسبعين مرّة، ويصلّي عليه، ولكنْ كأنّه - صلوات ربّي وسلامه عليه - قد بالغ في الرّحمة، فرحم من ليس للرّحمة أهلاً، عندها أنزل الله تعالى تأييداً لعمر بن الخطّاب: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } .. ارتدّ فلم تُقَم عليه عقوبة الرّدّة لأنّه لم يصرّح بِرِدَّتِه، بل كان يُظهر حبّه للنّبيّ، فعامله النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بالظّاهر مع يقينه من الباطن.

إذاً عقوبة الرّدّة لها شروطٌ وشروط، فإذا توافرت شروطها كلّها عندها لا بدّ من أن تقام حفظاً للإسلام من العبث كما قلت، وحفظاً من أغراض المغرضين، وحفظاً من إيذاء المؤذين.

يقال لنا بعد كلّ هذا الكلام: "علمنا أنّ الّذي دخل في الإسلام بمحض اختياره ليس له أن يدع الإسلام باختياره لأنّه تعاقد مع الإسلام، وقبل بكل أحكامه، وعلمنا الأحكام المترتّبة على ذلك، ولكنْ ما تقولون في امرئٍ ولد في بيئةٍ مسلمة، ونشأ مسلماً لا باختياره، ولكنّ البيئة اضطرّته إلى ذلك، والمجتمع صيّره مسلماً دون أن يكون له بذلك خيارٌ أو قرار؟، هذا إذا اكتشف يوماً من الأيّام أنّ الإسلام فيه شيءٌ من شبهات، وأراد أن يدعه فما تفعلون به؟".

نقول: إنّ فضلاً من الله عليه أنّه ولد في البيئة المسلمة لألاّ يصير عرضةً لتقاذف الأهواء والأمواج الإلحاديّة والكفريّة، لذلك صار مسلماً بالطّبيعة بالفطرة، وهذا غالباً يكون إيمانه أثبت من إيمان غيره، لذلك فإن تعرّض لشبهةٍ يوماً من الأيّام فغالباً لن تكون شبهةً عنيفةً كشبهة غيره فيسهل ردّها عنده، قد يكون مرتدّاً كذلك للسّبب الأوّل: لغرضٍ أو هوى، فكم رأينا من شبابٍ يرتدّون عن الإسلام عقيدةً وفكراً إلى دينٍ آخر، لأنّ الدّين الآخر ليس فيه حرامٌ وليس فيه ضوابط وليس فيه واجبات، فهو يريد أن يكون كما يشاء، وأن يفعل ما يحلو له، والإسلام لا يبيح له ذلك، امرؤٌ كهذا لا بدّ من أن توضع أمامه هذه العقوبة الصّارمة حتّى لا تسوّل له نفسه، وأمّا إن ترك الإسلام لشبهة فإنّنا نردّ شبهته كما رددنا شبهة ذلك الرّجل.

ولا بدّ هاهنا من أن نكون حلماء وحكماء وعقلاء وعلماء في التّعامل مع هذه الشّبهات، وبخاصّة مع شريحة الشّباب، وهذا ما أخاطب به الدّعاة كلّهم فأقول لهم:
عاملوا الشّباب معاملة الطّبيب للمريض لا معاملة الحاكم للمجرم لأنّهم يحتاجون إلى فهمٍ وعطف، يحتاجون إلى ذلك الصّدر الحاني الّذي يضمّهم، وإلى ذلك العقل الواعي الّذي يفهمهم، فلا تحملوا سيفاً، ولا تُشهروا سوطاً، بل احملوا قلباً حانياً وصدراً دافئاً، واحملوا عقلاً واعياً، وفكراً فاهماً، حتّى تستطيعوا أن تردّوا شبهات الشّباب إن كانت عندهم شبهات، لأنّ إيمان هؤلاء أعظم من إيمان الّذين نشؤوا كفرة، فالله أنعم عليه إذ نشأ مؤمناً فردّ الشّبهات عنده أسهل.

لذلك إخوتي انشروا ما قلت وأعلموهم أنّ ديننا هو دين الحرّيّة، وهو دين المنطق، وهو دين الرّأي، ( الرّأي الّذي ينضبط لا الرّأي الّذي ينعتق من الضّوابط )، هو دين الحرّيّة، تلك الحرّيّة ذلك التّحرّر الّذي هو وسطٌ بين التّحلل والتّحجّر، فليس ديناً إرهابيّاً ثيوقراطيّاً، وليس ديناً متحلّلاً متسيّباً، بل إنّه دينٌ وسطٌ بين هذا وذاك، وإنّما الكمال يكون في الوسط، و [ خير الأمور أوسطها ] .

تلك شبهةٌ عظيمة نسأل الله أن لا يبقى فيها كلامٌ لمتكلّم أو شبهةٌ لمشبّه، ولكنّ ثمّة شبهاتٍ كثيرةً أُخر، نسأل الله أن ييسّر لنا ردّها والكلام فيها في لقاءاتٍ قادمةٍ بإذن الله تعالى، وليس ذلك من باب الدّفاع عن الإسلام لأنّ الإسلام حقٌّ بذاته لا يحتاج إلى من يدافع عنه، إنّما ذلك تشريفٌ لنا بأنْ نصير مظهرين للإسلام على حقيقته، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن { يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } ، أقول هذا القول وأستغفر الله.

الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إقراراً بوحدانيّته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّداً عبده ورسوله الشّفيع المشفّع في المحشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ووعت أذنٌ لخبر، أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، وأحثّكم وإيّاي على طاعته، وأحذّركم وبال عصيانه ومخالفةِ أمره، واعلموا أنّه لا يضرّ ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع ولا يخفض ولا يرفع ولا يفرّق ولا يجمع إلاّ الله، واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأه بنفسه، وثنّى بملائكة قدسه وعرشه، فقال تعالى: { إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً * } ، اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّدٍ وعلى آل سيّدنا محمّد، كما صلّيت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، اللّهمّ بارك على سيّدنا محمّد وعلى آل سيّدنا محمّد كما باركت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم في العالمين إنّك حميدٌ مجيد.

اللّهمّ أيّد الإسلام وأعزّ المسلمين، وأعلي وانصر يا مولنا الحقّ والدّين، اللّهمّ من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفّقه إلى كلّ خير، ومن أراد بالإسلام والمسلمين شرّاً فخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، واجعله عبرةً لمن أراد أن يتذكّر أو يعتبر، اللّهمّ إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كلّ برّ، والسّلامة من كلّ إثم، والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار، لا تدع اللّهمّ لنا ذنباً إلاّ غفرته، ولا همّاً إلاّ فرّجته، ولا كرباً إلاّ نفّسته، ولا ديناًَ إلاّ قضيته، ولا مريضاً إلاّ شفيته، ولا مبتلىً إلاّ عافيته، ولا ضالاً إلاّ هديته، ولا مظلوماً إلاّ نصرته، ولا ظالماً لنفسه إلاّ أصلحته، ولا ظالماً لنا إلاّ أصلحته أو قصمته، ولا دعاءً إلاّ أجبته، ولا حاجةً لك فيها رضىً إلاّ تفضّلت علينا بقضائها، يا قاضي الحاجات، يا مجيب الدّعوات، يا كاشف الملمّات، يا سامع الأصوات، يا ربّ الأرضين والسّماوات، يا مبدّل السّيئات حسنات بدّل سيّئاتنا حسنات، يا ظهر اللاّجئين، يا جار المستجيرين، يا أمان الخائفين، يا دليل المحتيّرين، يا مقوّي الضّعفاء إنّا ضعفاء فقوِنا، إنّا محرومون فأعطنا، إنّا فقراء فأغننا، إنّا أذلاّء فأعزّنا، إنّا مقهورون فانصرنا، إنّا مذنبون فتب علينا، واغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الرّاحمين، اللّهمّ ردّنا إلى دينك ردّاً جميلاً، اللّهمّ ردّنا إلى قرآنك ردّاً جميلاً، اللّهمّ ردّنا إلى سنّة نبيّك صلّى الله عليه وسلّم ردّاً جميلاً، اللّهمّ انصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وأهْلِكْ الكفرة والملحدين أعدائك أعداء الدّين، اللّهمّ عليك بأعدائك اليهود فإنّهم لا يعجزونك، اللّهمّ فرّق شملهم، بدّد جموعهم، مزّق وحدتهم، نكّس أعلامهم، خرّب ديارهم، اجعلهم لقمةً سائغةً للمسلمين، عاجلاً غير آجل برحمتك يا أرحم الرّاحمين، اللّهمّ إنّا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدّائمة في الدّين والدّنيا والآخرة، واغفر اللّهمّ للمسلمين والمسلمات المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنّك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيب الدّعوات، والحمد لله ربّ العالمين.
عباد الله:

{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * } .

*ملف نصي (http://www.bjasser.com/sounds/khotab/doc/OpinionRight.doc)

ليس هكذا تورد الابل
05-09-2010, 02:38 PM
جزاك الله خيرا

د. هشام عزمي
05-13-2010, 02:16 PM
مقال رائع ..
جزاك الله خيرًا ..

SESQUIPEDALIANIST
05-22-2010, 12:41 AM
كفيت ووفيت صراحةً .. شكراً جزيلاً لك على هذا الشرح .. جعله الله في ميزان حسناتك.