الشيخ عبدالرحمن عيسى
05-06-2010, 11:07 PM
الساعة
أشراط ومفاهيم
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى ــ حلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وتمهيد :
الحديث عن الساعة , وعلاماتها الصغرى والكبرى , متواتر في كتب الحديث الشريف والعقيدة الإسلامية .. سيما وأن ثمانياً وأربعين آية من كتاب الله : القرآن المجيد , تـُفيض الحديثَ عن الساعة وأشراطها المؤْذِنة بها وبقربها , وتـُحذر من نسيانها والتكذيب لها , والغفلة عنها ..
وحتى في عصر ما قبلَ الإسلام , كانت الساعة مُشْـكلة لدى الكثيرين , ويبحثون عن جواب مُقنع , ولكن دون جدوى .. ولما جاء الإسلام , ونزل القرآن , تكرر السؤال وتجدد عنها , لدى الحضرة المحمدية , فكان الجواب مبدئياً : ( ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل ). وتارة يقول : ( عِلمها عند ربي )..
وقال تارة أخرى : ( إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة .. وإذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) .. ويقول القرآن : ( يسألونك ــ أي عن الساعة ــ كأنك حَفِيٌّ عنها قل إنما علمها عند الله .. ) أي كأنك على علم ودراية وهاجس منها ..
وحقيقة القول الفصل , هي أن الله سبحانه وتعالى , قد احتفظ بعلم الساعة , وقتَ وقوعها وحدوثها .. ( ولا يُـجَليـّها لوقتها إلا هو .. ) ..
ولكنه تفضل بذكر الآيات الدالة عليها , وكذلك رسوله المصطفى , صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم .. لم يُقصر في الإبانة , وكشف الغطاء والنقاب ..
وينبغي على المسلم والمؤمن , أن يُلمَّ ولو بطرَف منها , وأن يكون على ذكر مستمر لها , وأن تكون في وجدانه وحسبانه , لأن ذلك مفيد : إيمانياً وعملياً , في حين أن الجهل بها ونسيانها , ضلال في الدين , وضعف في اليقين , ومَدعاة لمعصية رب العالمين ..
إن بعثة حبيبنا محمد , صلى الله على محمد , قد رَتبت علينا مسؤولية ضخمة في هذا السياق .. أعني أن نتحمل مسؤولية الساعة : اهتماماً بأمرها , وبحثاً عن كل ما يُجَليها , وينير الطريق فيها .. ونعلم بأشراطها وخوافيها .. فهذا مما يزيدنا بصيرة وثقة بديننا وعقيدتنا ..
ولا أعتقد أنه يوجد وقت نحن فيه أشد افتقاراً واضطراراً , إلى كل ذلك , من هذا الوقت الذي نحن فيه , والوضع الصعب الذي نكابده ونعانيه ( وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى )..
والسبب هو أننا نعيش في زلزلة الساعة , التي تزلزلت فيها عقائدنا , وتصدعت عقولنا وأفئدتنا , وتزعزعت عواطفنا ومشاعرنا ..
ويقول سبحانه : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تـَذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها .. ) ..
الموعد والوعد القادم :
مبدئياً يقول الله تبارك وتعالى , في سورة ( محمد ) صلى الله تعالى عليه وآله وسلم :
( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنىّ لهم إذا جاءتهم ذكراهم ) ..
وقال عليه الصلاة والسلام : ( بُعثت أنا والساعة كهاتين ) . وقرن بين أصبعيه : السبابة والوسطى , وهذا يعني القربَ الشديد للساعة , كقرب هاتين الأصبعين , أو يعني الطول والقِصر والفارق بينهما ضئيل جداً .. فنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم , جاء مبعوثاً ومرسَلاً قبيل الساعة بقليل أيضاً ..
أيها الأخ المسلم والأخت المسلمة , ليكن معلوماً لديكما , أن في القرآن المجيد , حديثاً لافتاً عن موعد قادم , ووعد يقترب بسرعة فائقة , اسمه الساعة .. ومعناه المتبادر في كتب التفاسير المختلفة , نهاية العالم , وموت بني آدم , وسائر الأحياء , وانتهاءُ هذه النشأة الدنيوية , التي بُدئت بخلق آدم عليه السلام , تمهيداً لأن يخلق الله النشأة الثانية ..
ويقول سبحانه : ( وأنَّ علينا النشأة الأخرى ) .. فهما نشأتان إذن : نشأة دنيوية , ونشأة أخروية .. ونحن الآن نكاد نكون في أخريات النشأة الأولى , التي استوفت أغراضها جميعاً , وظهر فيها ما ظهر , من شؤونات وأحداث وفتن , وحروب وتوازنات ومسؤوليات , وآياتٍ إلهية في الآفاق وفي الأنفس , والبيئآت على الأرض , والحضارات التي سادت ثم بادت ..
والآن وصل اختلال البيئآت والحضارات , إلى درجة لا تطاق , ولم تعدْ محتملة في سياق الوضع العالمي , المتدهور إلى الحضيض .. وجماعة المسؤولين عن الكوكب هذا , يزيدونه غرقاً في طوفان ما تفجر من طاقات وإباحيات , وفساد غير مسبوق , وسفك للدموع والدماء , وإحالة هذه الأمة إلى مِزَقٍ وأشلاء , ويُـفني بعضهم بعضاً ..
فحتى متى يستمر الوضع على هذه الشاكلة , وإلى متى يصبر الله سبحانه , ويحلـُم على أعدائه الذين تجاوزوا كل حد للعداوة والطغيان , بحق الرحيم والرحمن , وأهل الإيمان , وسائر بني الإنسان ؟!.. فيمضون في طغيانهم يعمهون , ويطورون من إفسادهم وإلحادهم ..
الساعة وتفصيل القرآن :
مما هو واضح ومؤكد للعِيان , حديث القرآن المجيد , عن الساعة وإجراءاتها المرتقبة , وأحداثها المثيرة , وعلاماتها الكبرى , ومؤشراتها الصغرى التي تملأ الخافقين , ولا تخفى على كل ذي فكر وعينين .. وحينما يريد أحدهم أن يعبر عن امتعاضه واستيائه مما آلت إليه الأمور , ومما يجري ويستطير شره , ويتفاقم إثمه وظلمه , فإنه يقول : آخرُ الزمن !..
وكأن آخرية الزمن , مرشحة لكل ما لم تشهده هذه الدنيا , في تاريخها الطويل , من جرائم وأهوال , وبؤس ومظالم , وحياة السعير , وتقويضٍ وتدمير حتى لقيم الوحوش في الغابات !..
إن حديث القرآن عن الساعة , يبعث الرهبة في النفوس , ويطلق العِـنان للخيال والوهم , كي يقدم تصوراً لما سيكون , مما هو واضح وغامض معاً , عن الساعة المقتربة , وأهوالها المذهلة والمشيِّبة !..ويقول سبحانه : ( اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يُـعرضوا ويقولوا : سحر مستمرّ ) ..
فالمشكلة هي في عملية السحر المستمرة , التي تتسم بها الحياة الدنيا , وتوصَم بها آيات الله المَرئية , ومعجزاتـُه الباهرة .. فكأن الله سبحانه يقول : ماذا بقي لكم أيها البشر , بعد أن اقتربت الساعة , وانشق القمر ؟!. إلا أن تعلموا أنه عندنا قد أزف الرحيل والسفر ..
والحمد لله , على أنه لم تنته الحيـاة هذه , حتى تمكـن أعـداء الله , من أن يروا بأم أعـينهم , كـيف انشقـاق الـقمر , الـذي يُـطوِّق بحزامه الـظاهر , ذلك الـكوكب الـجميل والـرائـع .. فـيما يشبه الأخدود ..
وحديث الساعة في القرآن , متنوع الدلالة والإجراء والبيان , بحيث لا يدع مجالاً للشك والتردد , ويرسخ عقيدة البعث والنشور , وينذر اللاهين والغافلين , بالساعة العظمى , التي في مرحلتها الأخيرة , لا تأتي إلا بغتة , وعلى حين غِـرَّة , كما ينذر بالساعة الحتمية , التي لا تتقدم ولا تتأخر , لدى كل إنسان يَحين أجله , ويَـنفد رزقه وأنفاسه .. فقيام الساعة بالنسبة له , موتـُه المؤكد , ومغادرته الدنيا إلى الأبد .. حيث لا عودة له مطلقاً ..
القرآن واقتراب الساعة :
يصف القرآن المجيد , أمر الساعة بأنه قريب , وأنه كلمح البصر أو هو أقرب .. ويقول سبحانه : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) ..
وشدد القرآن النكير على الذين يمارون في الساعة وينكرون .. فقال عز من قائل : ( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) ..
ويقول : ( ويوم تقوم الساعة يومئذ يَخسر المبطلون ) ..
ويقول : ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) ..
إن الساعة علم إلهي حافل , يُطبَّـق ويظهر في وقته وحينه , ويُعرف على حقيقته بالتفصيل ويقول سبحانه : ( إليه يُرد علمُ الساعة ) . ( إن الله عنده علم الساعة ) ..
والأشراط الأولية , التي نوَّه بها القرآن , في سورة ( محمد ) صلى الله عليه وآله وسلم , هي بعثته ثم وفاته عليه الصلاة والسلام .. وإن آخر البشر , إذا جاءتهم الساعة الأخيرة بغتة , فسوف لن تتاح لهم فرصة التراجع , وإعادة النظر , أو مجرد التذكر والذكرى , التي لا سبيل إليها , إذا وقعت الواقعة !.. وعمت الفاجعة ..
ولكن المشكلة : كيف يتمكن البشر , ويتسنى لهم , استمرارُ التذكر للساعة , والإشفاقُ منها والاستعداد لها , ليكونوا من الذين وصفهم القرآن : بأنهم من الساعة مُـشْـفقون , أي خائفون , وتأخذهم الشفقة على أنفسهم وعلى ذويهم , من صدمة الساعة المذهلة , التي هي في سرعة مجيئها وتحققها , كسحابة صيف , أو كجُرُفٍ هارٍ , أو كسَعْـفةِ نار ..
وبالنسبة لله سبحانه , فإن كل شيء مبرمٍ وقوعُه وحدوثه , هو قريب ومقترب , وهو في نظر الله واقع وحاصل ومشهود .. وهذا هو الحد الفارق بيننا وبين الله .. فنحن نرى الأمر بعيداً , والله يراه قريباً .. ( إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً . يوم تكون السماء كالمُهْل . وتكون الجبال كالعِـهـْن . ولا يَسأل حميمٌ حميماً ) ..
فكأن الدنيا عند الله لم تكن , وكأن الآخرة لم تزل , وكأن ما سيكون كائن فعلاً , ومشهود نظراً , ولا يعدو أن يكون عند الله في سرعةِ تـَقضِّيه : أثراً وخبراً ..
ولذلك فإن الذين يفرِّطون في الساعة : نسياناً لها , وتكذيباً بها , سيندمون كثيراً , وستعظم حسرتهم وشقاوتهم .. وكما قال سبحانه : ( حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ... ) ..
مفاهيم الساعة ومدلولاتها :
إن الساعة في القرآن المجيد , رمز كبير لحالة تدميرية , ستعتري هذا الكوكب , والمجموعة الشمسية التابعة له , وستـُحدث تغييراً جذرياً , وتبدلاً كلياً في بيئة الحياة , وفناء عالم المادة , وانهيار أبنية التراب المَشيد .. إذ كل ما فوق التراب تراب ..
وسيضع الله حداً نهائياً لتسلط الإنسان على الأرض , والكون التابع لها , وما أحدثه عليها وفيها من فساد وإفساد , وكفر وإباحية مطلقة , وإلحاد بكل القيم والأعراف .. إلا قيم الطاغوت والطاغين , وأعراف الأبالسة والشيطان والمجرمين ..
فلم يعد الوضع الإنساني يحتمل صبراً وتأجيلاً , فقد تم استنفاد كل الفرص الإلهية , التي أتاحها الله للبشر , لكي يَرْعَـوُوا وينتهوا , وينتبهوا إلى أنفسهم , وما فعلوه بحق ربهم ..
حيث أوصلوا الأرض إلى تلك الساعة الرهيبة , لكي تـَجب وتهتز , ويتداعى كل شيء , فلا تقوم له بعد ذلك قائمة حقاً ..
إن إعدام جرثومة الحياة الأرضية , قرار إلهي صارم , لم يتخذه الله للوهلة الأولى , بل بعد صبر وحلم , لم يظهر لهما مثيل من قبل .. ولا يعدو كونـَه أخـْذة أسف عارمة , هي ــ في الحقيقة ــ رحمة لخلاص صعب , وانعتاق أخير , وانقلابٍ إلى الله في العاقبة والمصير ..
حقيقة قيام الساعة :
إن قيام الساعة نتيجة حتمية ومنطقية , لدى الحضرة الإلهية , بعد أن باءت كل الجهود المبذولة لإصلاح الأرض , بالفشل الذريع , واليأس الصارخ , والانتكاس المريع , ولم يعد في قارات العالم متسع لمؤمن يقول : اللهُ اللهُ !.. أي في ذلك الحين القادم ..
ويقول سبحانه مستعظماً حادث الساعة , ومقدماتها المزلزلة : ( إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم ) .. فإذا كان الخلاق العظيم , يستعظم زلزلة الساعة , فماذا نقول نحن المخلوقين , إلا أن نستعظم ما عظمه الله , ونـُعدَّ له عدته وأهْبته ؟!..
فالساعة العظمى , داعية إلى العظة والتقوى , والتزود للأخرى , ولكن الناس بمعنى الساعة يجهلون , وبواقع هذه الظاهرة يكذبون .. ويقول سبحانه : ( بل كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً ) .. إن الساعة حقيقة الحقائق , ونهاية الخلائق , ولكنها عند أكثر البشر حديثُ خـُرافة , وليس لها أي أثر في حياتهم وسلوكياتهم ..
وتكذيبهم العملي بها , نابع من كونهم لم يحيطوا بها علماً , ولم يُعيروها اهتماماً وفهماً , وكانوا مُوغلين : جهالة وظلماً .. ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ... ) .. ولكنهم غير معذورين , بعد أن أحاطهم القرآن والرسول علماً حقيقياً بذلك , ولم يـُتركوا للجهل سُدىً وطعمة وضحية ..
الساعة وعامل الزمن :
قد يستغرب البعض : أن مُضيَّ ما يقرب من خمسة عشر قرناً على الأخبار الوارد ة في القرآن , بقرب الساعة , ولم تقع بعد .. وكم يمضي من وقت إضافي لحصول ذلك ؟. الله وحده هو العليم بذلك .. ( إليه يُرد علم الساعة ) .. لأنه لم يـُكتب في اللوح المحفوظ .. ولكن يزول الإشكال إذا قرأنا قوله تعالى : ( وإنَّ يوماً عند ربك كألفِ سنةٍ مما تعدون ) ..
فيكون المعنى : أن يوماً ونصف اليوم فقط , هو الذي مر على خبر القرآن , وهو عند الله زمن بسيط وسريع , بالنسبة لضآلته أولاً , وبالنسبة لما مضى من عمر الدنيا , الذي يُقدر بالملايين من السنين .. ثانياً ..
سيما وأن نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , قد بُعث في نـَفـَس الساعة , أي في النفـَس الأخير لها .. وهو الزمن الذي يكفي لعمر الرسالة المحمدية الإسلامية , وأحداثها المتسارعة , تـَسارعَ النجم الثاقب , ولكي لا يطول الأمد على أمته من بعده , فتضلَّ وتـَنسى , ولأنه لا نبي بعده ..
سياقة الحديث عن الساعة :
وقد جاء الحديث عن الساعة في القرآن , في سياق مواعظَ وعِبرٍ وتنبيهات , ليست في أي كتاب آخر , الأمر الذي يجعل من الساعة واعظاً ومذكراً كالموت .. وكفى بالموت واعظاً ..
وهل يظن الإنسان , أن ساعة موته ووفاته , هي قيامته الصغرى , التي تعفيه من أهوال الساعة الكبرى ؟!. لعل الأمر كذلك !..
وشر الناس نهاية ومصيراً , مَنْ تدركه الساعة حياً لم يمت , لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق , حسب نص الحديث .. إن المؤمنين بالله سبحانه , لا حرج عليهم من الساعة المقتربة , لأنهم سيُـقـْبضون قبلاً بالريح الطيبة , ولا يبقى لهم وجود في الأرض قطعاً , وهذا من رحمة الله بعباده المؤمنين الموحدين , الذين يعفيهم ربهم من ذلك البلاء المَخـُوف والمبين .. ولكي لا تقوم الساعة على الأطفال , يتوقف الحمل قبل أربعين من السنين ..
حقاً إن الساعة لأمر يدعو إلى التأمل , وطول الفكر والنظر , على النهاية الحزينة والمحزنة , التي سيؤول إليها مصير هذه الحياة , التي منحها الله كل روح من روحه , وكل إبداع من إبداعه , وكل حنان ورحمة , ومحبة ومودة , ومَدد غير محدود , وكرم وتكريم للإنسان , وعطاء غير مجذوذ , وأجر غير ممنون , وهندسة رائعة للأكوان , خدمة لهذا الإنسان ..
الساعة وتراكمات الأشراط :
من المعلوم بداهة , أن الساعة لا تأتي من فراغ , دون موجبات ومقتضيات , ولا تحصل دُفعة واحدة , بلا مقدمات وتمهيد , وقرع للأجراس !.. فهي ــ أي الساعة ــ نقض تدريجي لبناء مُحْـكم القواعد والشرفات , ومتراكم النعم والإفاضات , والفائق من التسويات , والعناية الالهية ..
وقد وصفها النبي عليه الصلاة والسلام : بأنها نقض وحلٌّ لعُرى الإسلام , عروة ً عروة , فكلما انتقضت عروة , تشبث الناس بالتي تليها , فأولهن نقضاً : الحكم , وأخرُهن : الصلاة !..
لقد تمكن الرسول الأعظم محمد , صلى الله عليه وآله وسلم , من إصلاح الحياة الإنسانية , على أكمل وجه , وأتم صورة , وأصدق واقع , يفيض لبناً وعسلاً , وإنصافاً وعدلاً ..
ولكن وفاته عليه الصلاة والسلام , كانت المؤشرَ الأعظم , على بديء مراحل النقض والتراجع , في بنية الدين الحق , ومن ثـَمَّ بدءُ حركة الالتفات إلى الدنيا , ومتاعها وزينتها , والافتتان بها : تضحية بجوهر الإسلام , وحقيقة التدين الصحيح ..
وقد ذكر أنس ابن مالك , بأنه ما نفضنا أيدينا من تراب دفن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , حتى أنكرنا قلوبنا , أي شعرنا بتطرق النقص إليها , بسبب ذلك الفراغ , الذي لم يُعـوَّض إلى أخر الدنيا ..
وبدأت بعد ذلك تتناثر وتتتابع أمارات الساعة وأشراطها , فيما سُمي ودُعي بالفتن والملاحم وأحداثٍ حدثت بذاتها : من نحو قتل الخليفة المظلوم , وحرب الصحابة , وظهور الخوارج , وأدعياء النبوة , وكثرة الهرْج والمرْج , وضياع الأمانة , والنساءِ الكاسيات العاريات , وشرب الخمور , واستحلال المعازف والغِـناء , والقـيْـنات والحرير , وشيوع الفاحشة وانتشار الظلم , ومجيء أزمنة يصبح الرجل فيها مؤمناً , ويمسي كافراً , وبالعكس أيضاً , يبيع دينه بعرض من الدنيا , والقابض على دينه كالقابض على الجمر .. وغير ذلك مما هو مُدوَّن ومبثوث في كتب السنة النبوية , وأحاديث آخر الزمن !..
وفي حديث لمسلم : عن حُـذيفة ابن أسيد الغِـفاري , أنه عليه الـصلاة والـسلام , قـد قـال : ( لن تقوم الساعة , حتى تروْا قبلها عشر آيات : المسيح الدجال , وعيسى بن مريم , ويأجوج ومأجوج , وطلوع الشمس من مغربها , والدابة , والدخان , وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق , وخسف بالمغرب , وخسف بجزيرة العرب .. وآخر ذلك : نار تخرج من عدن اليمن , تسوق الناس إلى محشرهم ) .. وهذه هي التي يقال لها : العلامات الكبرى , التي تمهد وتـُفضي أخيراً , إلى نهاية الحياة الراهنة ..
الوجه الآخر لأشراط الساعة :
وهو أن هذه الأشراط والعلامات , بقدوم الساعة الزاحف والراجف , هي بشرى سارة جداً لأمة الإجابة والإنابة , بانتهاء دور أمة الغـُثاء والعماء , وعودة الدين الخالص , والإسلام الحق , الذي جرى تهميشه وتغييبه وتعليقه , ووقفُ العمل به , والتآمر عليه من أتباعه وأبنائه , قبل خصومه وأعدائه !..
فأشراط الساعة : صحوة بعد نوم عميق , وإفاقة بعد تخدير وسُبات طويل , وفرصة جديدة لاستئناف مسيرة جديدة , بمعطيات ومفاهيم , لا عهد للبشر بها , في أكبر عملية رتـْق حضاري وإيماني , ووحدةٍ إسلامية الولاء والانتماء !..
في حين أن الواقع التاريخي والراهن , الذي درجت عليه أجيال وأجيال , مُـفعم بأمواج الفتن والضلال , وجبال العار , وخنادق النار , والأسوإ والأردإ , من السلوك والخـُلق والحال , وأشباهِ الرجال !.. الذين يـَدبُّون على الأرض , دبيب الذئاب والثعابين !..
فدلائل الساعة ومقدماتها , فرصة ذهبية , وموعظة إلهية , مقروءة ومسموعة ومرئية , وبشرى نبوية , ولكن لقوم يعقلون ويفهمون , ويأخذون أنفسهم بمنطق العودة إلى الله , والإنابةِ إلى دار الخلود , والتجافي عن دار الغرور , والتوبةِ من الخطايا والذنوب , والاستعدادِ للوقوف بينَ يديْ علام الغيوب .. فيدفعهم ذلك إلى تحمل المسؤولية , بكفاءة والتزام وجدِّية ..
الإيمان بالساعة سعادة :
فالذين يؤمنون بالساعة , ويُـشفقون منها , ويظنون أنها قائمة وقادمة , ظن اليقين , ويخشوْن ربهم بالغيب , ويعلمون بأن الساعة مُفـْضية إلى اليوم الآخِر , هم سعداء حقاً , صدَّقوا بالرسالة , وبما جاءت به الرسالة , ومنذ نعومة أظفارهم , لم يخالطهم شك ولا ريب , أو خالطهم هذا الشك , ثم وصلوا إلى اليقين , وعاشوا قناعات صالحة , بعد تـُرَّهات باطلة , ودخلوا في تجربة مريرة وصعبة , جعلتهم يثبتون على الإيمان , ثبوت الجبال الرواسي ..
إن الذين فرطوا بأمر الساعة , وزاغوا عن الحق , وفقدوا الشعور المرهـَف , وعاشوا للهوى والفتون , ثم تابوا وأنابوا , وصدَّقوا بما كانوا به يكذبون , ليسوا هم أقل سعادة وتوفيقاً وفلاحاً , من أولئك المؤمنين الأصيلين , المصدقين سليقة وفطرة , ولم يخوضوا معاناة وتجربة .. فاليقين بعد الشك , والحقيقة بعد الوهم والشكل !..
ولعل الذين يغالون في الساعة : تكذيباً وشكاً وغفلة , هم أبأس الخليقة , وأجرؤهم على الباطل , وأشدهم إيغالاً في الفيافي المقـْفرات , والليالي المظلمات , حتى تـَصْدعهم الساعة بصدمتها المروِّعة .. وبعد فوات الأوان , يكتشفون أنهم أغبياء , وأن وجودهم برمته رماد تذروه الرياح , وسحابٌ خـُلـَّب , وسراب يحسبونه ماء , فيلهثون خلفه , ثم تنقطع أعناقهم ظمأ وعطشاً..
( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) ..
وبعد .. فماذا بعد :
ومنذ القديم , هل ينتظر الناس إلا المهديَّ , فخير موعود يُرتقب , أو الدجالَ , فشر غائبٍ يُـنتظر , أو الساعة والساعة أدهى وأمر ؟!.. ومن قبل ذلك , هل ينتظرون إلا فقراً مُدْقِـعاً , أو غنىً مُطغياً , أو مرضاً مُجْهداً , أو هرماً مُـفـَنـِّداً ؟.. وهل حياة الناس كلها : إلا انتظار وترقب , بمستوى الأعوام والأيام , أو بمستوى الساعات والأنفاس .. وكلما بدت نتيجة , تقدمت نتيجة أخرى , تنتظر دورها , وينتظر الناس ورودها ؟!. بإلحاح ظاهر ..
وفي القرآن , أمر بالترقب والارتقاب والانتظار , وبدءاً من النبي المختار .. ( فانتظر إنهم منتظرون ) . ( فارتقبهم واصطبر ) ..
والإيمان بالساعة يفرض الانتظار , والانتظار عبادة الأخيار والأبرار , والإيمانُ بالساعة , عقيدة أهل الحق , ويقين الدين والصدق , وسبيل رواد الحقيقة والكرامة , ومَنْ هم في موقع القيادة والإمامة .. فالطموح الصاعد , يقتضي ذلك !..
ولكلٍ ساعة , والحياة : ساعة , وفيها نهايات وبدايات , وما خرجنا عن نطاق الساعة أصلاً والساعة في كل آنٍ مُرتقـَبة , وهي لقوم مُبغـَّضة وبطيئة , ولقوم مُحببة وسريعة !..
عيسى : ساعة , والدجال : ساعة , والمهديُّ : ساعة , وكلها موعودة ومنتظرة , وما أكثر الساعات , في العبور والممرات !.. وأعظم مصير في الأرض : ساعة .. ( ويوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون . ما لبثوا غير ساعة ) .. والساعة من الإنسان , قاب قوس أو أدنى ..
اختلاف في التفسير :
لقد كان ثـَمَّـتَ اختلاف تفسيري , تـُجاه العلامات الكبرى .. فهناك تفسير حرفي , حسب ظاهر النصوص , ورمزيتها ودلالاتها البعيدة , وفيها الضعيف والموضوع .. وأنها لكي تتحقق , تحتاج إلى مجتمع قـبَـلي متخلف , وبيئة عربية , فيها الخيول والسيوف , والرايات والفرسان !..
وهناك تفسير مستوحىً من روح تلك النصوص , وتنزيلـُها وإسقاطها على الواقع الآخذ في التطور , بمآلات الأحداث والملاحم , التي ارتفعت وتيرتها بشكل ملحوظ , لا يمكن تجاوزه ولا تجاهله حتماً .. وهذا التفسير لا يحتاج إلى زمن ذي مواصفات خاصة ..
وكلما اشتدت الأزمة على هذه الأمة , لجأ الناس إلى القراءة والبحث , فيما عسى أن تـَنـُمَّ عنه الأحاديث النبوية .. فلعل ذلك يكون إجابة وتفسيراً , لهذا الواقع الذي يَـفيض مرارة ويأساً , وتبدو فيه الطرق مسدودة , والعقد مستعصية , وإحاطة الأعداء بنا مستحكمة , وكاتمة لأنفاسنا , ومحصية علينا تلك الأنفاس !.. في أكبر عملية احتلال وإذلال , ومَحو للهوية والوجود !..
ولكن ومهما يكن من أمر , فلا مِنْ متكلم بالحق الخالص , ويُفهم الناس , أنهم بآيات الله لا يوقنون , وكأنهم لا يُصدقون !.. ولا يؤمنون بيوم الحساب , والمرجع والمآب ..
وفي القرآن آية لافتة , نوردها الآن , دون التعرض لماهيتها وإشكالـيتها .. يقول سبحانه : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) ..
الساعة ومصير الكوكب :
إن مصير هذا الكوكب المنكوب , مرهون بأمر الساعة , التي تجري أحداثها ومقدماتها المرعبة , بسرعة قصوى .. وما يشكو منه علماء الكون , والباحثون المتخصصون , لا يبشر بانحسار الأخطار , بل بازديادها , وارتفاع منسوبها الأعظم ..
فأكابر المجرمين والمفسدين في الأرض , يصنعون نهاية غير سعيدة , لهذه الأرض , بما يقومون به من خطط وسياسات جهنمية , وتجارب تخريبية , تقشعر منها جلود الشياطين ..
وهذا ينعكس على الأرض وسكانها , زلزالاً يقوض الأرض , ويلوث كل البيئات , ويجعل الأرض تهتز وتنفجر براكينها , وتنذر بما هو شر وأسوأ من كل التوقعات والاحتمالات ..
إن كل ما بناه الله في الأرض , وعلى الأرض , التي جعلها الله مستقراً وقراراً , يتم تدميره الآن , وتأسيس نهايته الفاجعة , والانتقامُ من الإنسان , الذي كرمه الله , وخلق له كل شيء , على نحو متكامل وطاهر ورائع , لا مَزيد عليه ..
ويقول سبحانه : ( أمَّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسيَ .. ) ..
سبحانك يا خلاق يا عليم , تعلم الذين يُسيئون عن عمد وقصد , إلى ما أبدعت وصنعت فوق هذه الأرض , ويُحيلونه إلى موت ورماد , ونار وعار , وظلم يتجاوز حدود كل ظلم !..
ويقربون أسوأ مصير لهذا الكون ..وآياتـُك في كتابك , تنطق بذلك , وترصُده محيطة به ..
فسبحانك يا حليم يا صبور , ما أعظم حلمك وصبرك .. ولكنْ قبل أن يتمكن أعداؤك من تدمير هذا الكوكب , أرِنا عنايتك الفائقة , بإتمام نورك على الأرض , وإظهار دينك الحق , على الدين كله , حسب وعدك الصادق , وقولك الذي لا يُبدل لديك ..
فإن اضمحلال فتنة المسيح الدجال , على يديْ المهديِّ والمسيح ابن مريم , هو أعظم ما يدعونا إلى التفاؤل , بقدوم عهد إسلامي نبوي عالمي , تـَبطل فيه كل العقائد والأديان , ويُصبح الدين واحداً , ويَعم السلام والوئام الأرض بأسرها , وتكون في الأرض أمَنـَة ٌ فائقة التصور والوقوع .. وتكون السجدة الواحدة , خيراً من الدنيا وما فيها !..
علامات الساعة : بمثابة عُملة ذاتِ وجهين , وجه قاتم يثير الفزع , ويدعو إلى القلق , ووجه مشرق بنور الله , طافح بالبشر واليسرى , وتصحيح الموازين , وإنهاء عهد الظالمين , وإنشاء المجتمع الإنساني الصالح , وإحياء ما اندرس من الإسلام الحق , والدين الخالص ..
( ألا لله الدين الخالص ) ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. عبد الرحمن
أشراط ومفاهيم
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى ــ حلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وتمهيد :
الحديث عن الساعة , وعلاماتها الصغرى والكبرى , متواتر في كتب الحديث الشريف والعقيدة الإسلامية .. سيما وأن ثمانياً وأربعين آية من كتاب الله : القرآن المجيد , تـُفيض الحديثَ عن الساعة وأشراطها المؤْذِنة بها وبقربها , وتـُحذر من نسيانها والتكذيب لها , والغفلة عنها ..
وحتى في عصر ما قبلَ الإسلام , كانت الساعة مُشْـكلة لدى الكثيرين , ويبحثون عن جواب مُقنع , ولكن دون جدوى .. ولما جاء الإسلام , ونزل القرآن , تكرر السؤال وتجدد عنها , لدى الحضرة المحمدية , فكان الجواب مبدئياً : ( ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل ). وتارة يقول : ( عِلمها عند ربي )..
وقال تارة أخرى : ( إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة .. وإذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) .. ويقول القرآن : ( يسألونك ــ أي عن الساعة ــ كأنك حَفِيٌّ عنها قل إنما علمها عند الله .. ) أي كأنك على علم ودراية وهاجس منها ..
وحقيقة القول الفصل , هي أن الله سبحانه وتعالى , قد احتفظ بعلم الساعة , وقتَ وقوعها وحدوثها .. ( ولا يُـجَليـّها لوقتها إلا هو .. ) ..
ولكنه تفضل بذكر الآيات الدالة عليها , وكذلك رسوله المصطفى , صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم .. لم يُقصر في الإبانة , وكشف الغطاء والنقاب ..
وينبغي على المسلم والمؤمن , أن يُلمَّ ولو بطرَف منها , وأن يكون على ذكر مستمر لها , وأن تكون في وجدانه وحسبانه , لأن ذلك مفيد : إيمانياً وعملياً , في حين أن الجهل بها ونسيانها , ضلال في الدين , وضعف في اليقين , ومَدعاة لمعصية رب العالمين ..
إن بعثة حبيبنا محمد , صلى الله على محمد , قد رَتبت علينا مسؤولية ضخمة في هذا السياق .. أعني أن نتحمل مسؤولية الساعة : اهتماماً بأمرها , وبحثاً عن كل ما يُجَليها , وينير الطريق فيها .. ونعلم بأشراطها وخوافيها .. فهذا مما يزيدنا بصيرة وثقة بديننا وعقيدتنا ..
ولا أعتقد أنه يوجد وقت نحن فيه أشد افتقاراً واضطراراً , إلى كل ذلك , من هذا الوقت الذي نحن فيه , والوضع الصعب الذي نكابده ونعانيه ( وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى )..
والسبب هو أننا نعيش في زلزلة الساعة , التي تزلزلت فيها عقائدنا , وتصدعت عقولنا وأفئدتنا , وتزعزعت عواطفنا ومشاعرنا ..
ويقول سبحانه : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تـَذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها .. ) ..
الموعد والوعد القادم :
مبدئياً يقول الله تبارك وتعالى , في سورة ( محمد ) صلى الله تعالى عليه وآله وسلم :
( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنىّ لهم إذا جاءتهم ذكراهم ) ..
وقال عليه الصلاة والسلام : ( بُعثت أنا والساعة كهاتين ) . وقرن بين أصبعيه : السبابة والوسطى , وهذا يعني القربَ الشديد للساعة , كقرب هاتين الأصبعين , أو يعني الطول والقِصر والفارق بينهما ضئيل جداً .. فنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم , جاء مبعوثاً ومرسَلاً قبيل الساعة بقليل أيضاً ..
أيها الأخ المسلم والأخت المسلمة , ليكن معلوماً لديكما , أن في القرآن المجيد , حديثاً لافتاً عن موعد قادم , ووعد يقترب بسرعة فائقة , اسمه الساعة .. ومعناه المتبادر في كتب التفاسير المختلفة , نهاية العالم , وموت بني آدم , وسائر الأحياء , وانتهاءُ هذه النشأة الدنيوية , التي بُدئت بخلق آدم عليه السلام , تمهيداً لأن يخلق الله النشأة الثانية ..
ويقول سبحانه : ( وأنَّ علينا النشأة الأخرى ) .. فهما نشأتان إذن : نشأة دنيوية , ونشأة أخروية .. ونحن الآن نكاد نكون في أخريات النشأة الأولى , التي استوفت أغراضها جميعاً , وظهر فيها ما ظهر , من شؤونات وأحداث وفتن , وحروب وتوازنات ومسؤوليات , وآياتٍ إلهية في الآفاق وفي الأنفس , والبيئآت على الأرض , والحضارات التي سادت ثم بادت ..
والآن وصل اختلال البيئآت والحضارات , إلى درجة لا تطاق , ولم تعدْ محتملة في سياق الوضع العالمي , المتدهور إلى الحضيض .. وجماعة المسؤولين عن الكوكب هذا , يزيدونه غرقاً في طوفان ما تفجر من طاقات وإباحيات , وفساد غير مسبوق , وسفك للدموع والدماء , وإحالة هذه الأمة إلى مِزَقٍ وأشلاء , ويُـفني بعضهم بعضاً ..
فحتى متى يستمر الوضع على هذه الشاكلة , وإلى متى يصبر الله سبحانه , ويحلـُم على أعدائه الذين تجاوزوا كل حد للعداوة والطغيان , بحق الرحيم والرحمن , وأهل الإيمان , وسائر بني الإنسان ؟!.. فيمضون في طغيانهم يعمهون , ويطورون من إفسادهم وإلحادهم ..
الساعة وتفصيل القرآن :
مما هو واضح ومؤكد للعِيان , حديث القرآن المجيد , عن الساعة وإجراءاتها المرتقبة , وأحداثها المثيرة , وعلاماتها الكبرى , ومؤشراتها الصغرى التي تملأ الخافقين , ولا تخفى على كل ذي فكر وعينين .. وحينما يريد أحدهم أن يعبر عن امتعاضه واستيائه مما آلت إليه الأمور , ومما يجري ويستطير شره , ويتفاقم إثمه وظلمه , فإنه يقول : آخرُ الزمن !..
وكأن آخرية الزمن , مرشحة لكل ما لم تشهده هذه الدنيا , في تاريخها الطويل , من جرائم وأهوال , وبؤس ومظالم , وحياة السعير , وتقويضٍ وتدمير حتى لقيم الوحوش في الغابات !..
إن حديث القرآن عن الساعة , يبعث الرهبة في النفوس , ويطلق العِـنان للخيال والوهم , كي يقدم تصوراً لما سيكون , مما هو واضح وغامض معاً , عن الساعة المقتربة , وأهوالها المذهلة والمشيِّبة !..ويقول سبحانه : ( اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يُـعرضوا ويقولوا : سحر مستمرّ ) ..
فالمشكلة هي في عملية السحر المستمرة , التي تتسم بها الحياة الدنيا , وتوصَم بها آيات الله المَرئية , ومعجزاتـُه الباهرة .. فكأن الله سبحانه يقول : ماذا بقي لكم أيها البشر , بعد أن اقتربت الساعة , وانشق القمر ؟!. إلا أن تعلموا أنه عندنا قد أزف الرحيل والسفر ..
والحمد لله , على أنه لم تنته الحيـاة هذه , حتى تمكـن أعـداء الله , من أن يروا بأم أعـينهم , كـيف انشقـاق الـقمر , الـذي يُـطوِّق بحزامه الـظاهر , ذلك الـكوكب الـجميل والـرائـع .. فـيما يشبه الأخدود ..
وحديث الساعة في القرآن , متنوع الدلالة والإجراء والبيان , بحيث لا يدع مجالاً للشك والتردد , ويرسخ عقيدة البعث والنشور , وينذر اللاهين والغافلين , بالساعة العظمى , التي في مرحلتها الأخيرة , لا تأتي إلا بغتة , وعلى حين غِـرَّة , كما ينذر بالساعة الحتمية , التي لا تتقدم ولا تتأخر , لدى كل إنسان يَحين أجله , ويَـنفد رزقه وأنفاسه .. فقيام الساعة بالنسبة له , موتـُه المؤكد , ومغادرته الدنيا إلى الأبد .. حيث لا عودة له مطلقاً ..
القرآن واقتراب الساعة :
يصف القرآن المجيد , أمر الساعة بأنه قريب , وأنه كلمح البصر أو هو أقرب .. ويقول سبحانه : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) ..
وشدد القرآن النكير على الذين يمارون في الساعة وينكرون .. فقال عز من قائل : ( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) ..
ويقول : ( ويوم تقوم الساعة يومئذ يَخسر المبطلون ) ..
ويقول : ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) ..
إن الساعة علم إلهي حافل , يُطبَّـق ويظهر في وقته وحينه , ويُعرف على حقيقته بالتفصيل ويقول سبحانه : ( إليه يُرد علمُ الساعة ) . ( إن الله عنده علم الساعة ) ..
والأشراط الأولية , التي نوَّه بها القرآن , في سورة ( محمد ) صلى الله عليه وآله وسلم , هي بعثته ثم وفاته عليه الصلاة والسلام .. وإن آخر البشر , إذا جاءتهم الساعة الأخيرة بغتة , فسوف لن تتاح لهم فرصة التراجع , وإعادة النظر , أو مجرد التذكر والذكرى , التي لا سبيل إليها , إذا وقعت الواقعة !.. وعمت الفاجعة ..
ولكن المشكلة : كيف يتمكن البشر , ويتسنى لهم , استمرارُ التذكر للساعة , والإشفاقُ منها والاستعداد لها , ليكونوا من الذين وصفهم القرآن : بأنهم من الساعة مُـشْـفقون , أي خائفون , وتأخذهم الشفقة على أنفسهم وعلى ذويهم , من صدمة الساعة المذهلة , التي هي في سرعة مجيئها وتحققها , كسحابة صيف , أو كجُرُفٍ هارٍ , أو كسَعْـفةِ نار ..
وبالنسبة لله سبحانه , فإن كل شيء مبرمٍ وقوعُه وحدوثه , هو قريب ومقترب , وهو في نظر الله واقع وحاصل ومشهود .. وهذا هو الحد الفارق بيننا وبين الله .. فنحن نرى الأمر بعيداً , والله يراه قريباً .. ( إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً . يوم تكون السماء كالمُهْل . وتكون الجبال كالعِـهـْن . ولا يَسأل حميمٌ حميماً ) ..
فكأن الدنيا عند الله لم تكن , وكأن الآخرة لم تزل , وكأن ما سيكون كائن فعلاً , ومشهود نظراً , ولا يعدو أن يكون عند الله في سرعةِ تـَقضِّيه : أثراً وخبراً ..
ولذلك فإن الذين يفرِّطون في الساعة : نسياناً لها , وتكذيباً بها , سيندمون كثيراً , وستعظم حسرتهم وشقاوتهم .. وكما قال سبحانه : ( حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ... ) ..
مفاهيم الساعة ومدلولاتها :
إن الساعة في القرآن المجيد , رمز كبير لحالة تدميرية , ستعتري هذا الكوكب , والمجموعة الشمسية التابعة له , وستـُحدث تغييراً جذرياً , وتبدلاً كلياً في بيئة الحياة , وفناء عالم المادة , وانهيار أبنية التراب المَشيد .. إذ كل ما فوق التراب تراب ..
وسيضع الله حداً نهائياً لتسلط الإنسان على الأرض , والكون التابع لها , وما أحدثه عليها وفيها من فساد وإفساد , وكفر وإباحية مطلقة , وإلحاد بكل القيم والأعراف .. إلا قيم الطاغوت والطاغين , وأعراف الأبالسة والشيطان والمجرمين ..
فلم يعد الوضع الإنساني يحتمل صبراً وتأجيلاً , فقد تم استنفاد كل الفرص الإلهية , التي أتاحها الله للبشر , لكي يَرْعَـوُوا وينتهوا , وينتبهوا إلى أنفسهم , وما فعلوه بحق ربهم ..
حيث أوصلوا الأرض إلى تلك الساعة الرهيبة , لكي تـَجب وتهتز , ويتداعى كل شيء , فلا تقوم له بعد ذلك قائمة حقاً ..
إن إعدام جرثومة الحياة الأرضية , قرار إلهي صارم , لم يتخذه الله للوهلة الأولى , بل بعد صبر وحلم , لم يظهر لهما مثيل من قبل .. ولا يعدو كونـَه أخـْذة أسف عارمة , هي ــ في الحقيقة ــ رحمة لخلاص صعب , وانعتاق أخير , وانقلابٍ إلى الله في العاقبة والمصير ..
حقيقة قيام الساعة :
إن قيام الساعة نتيجة حتمية ومنطقية , لدى الحضرة الإلهية , بعد أن باءت كل الجهود المبذولة لإصلاح الأرض , بالفشل الذريع , واليأس الصارخ , والانتكاس المريع , ولم يعد في قارات العالم متسع لمؤمن يقول : اللهُ اللهُ !.. أي في ذلك الحين القادم ..
ويقول سبحانه مستعظماً حادث الساعة , ومقدماتها المزلزلة : ( إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم ) .. فإذا كان الخلاق العظيم , يستعظم زلزلة الساعة , فماذا نقول نحن المخلوقين , إلا أن نستعظم ما عظمه الله , ونـُعدَّ له عدته وأهْبته ؟!..
فالساعة العظمى , داعية إلى العظة والتقوى , والتزود للأخرى , ولكن الناس بمعنى الساعة يجهلون , وبواقع هذه الظاهرة يكذبون .. ويقول سبحانه : ( بل كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً ) .. إن الساعة حقيقة الحقائق , ونهاية الخلائق , ولكنها عند أكثر البشر حديثُ خـُرافة , وليس لها أي أثر في حياتهم وسلوكياتهم ..
وتكذيبهم العملي بها , نابع من كونهم لم يحيطوا بها علماً , ولم يُعيروها اهتماماً وفهماً , وكانوا مُوغلين : جهالة وظلماً .. ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ... ) .. ولكنهم غير معذورين , بعد أن أحاطهم القرآن والرسول علماً حقيقياً بذلك , ولم يـُتركوا للجهل سُدىً وطعمة وضحية ..
الساعة وعامل الزمن :
قد يستغرب البعض : أن مُضيَّ ما يقرب من خمسة عشر قرناً على الأخبار الوارد ة في القرآن , بقرب الساعة , ولم تقع بعد .. وكم يمضي من وقت إضافي لحصول ذلك ؟. الله وحده هو العليم بذلك .. ( إليه يُرد علم الساعة ) .. لأنه لم يـُكتب في اللوح المحفوظ .. ولكن يزول الإشكال إذا قرأنا قوله تعالى : ( وإنَّ يوماً عند ربك كألفِ سنةٍ مما تعدون ) ..
فيكون المعنى : أن يوماً ونصف اليوم فقط , هو الذي مر على خبر القرآن , وهو عند الله زمن بسيط وسريع , بالنسبة لضآلته أولاً , وبالنسبة لما مضى من عمر الدنيا , الذي يُقدر بالملايين من السنين .. ثانياً ..
سيما وأن نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , قد بُعث في نـَفـَس الساعة , أي في النفـَس الأخير لها .. وهو الزمن الذي يكفي لعمر الرسالة المحمدية الإسلامية , وأحداثها المتسارعة , تـَسارعَ النجم الثاقب , ولكي لا يطول الأمد على أمته من بعده , فتضلَّ وتـَنسى , ولأنه لا نبي بعده ..
سياقة الحديث عن الساعة :
وقد جاء الحديث عن الساعة في القرآن , في سياق مواعظَ وعِبرٍ وتنبيهات , ليست في أي كتاب آخر , الأمر الذي يجعل من الساعة واعظاً ومذكراً كالموت .. وكفى بالموت واعظاً ..
وهل يظن الإنسان , أن ساعة موته ووفاته , هي قيامته الصغرى , التي تعفيه من أهوال الساعة الكبرى ؟!. لعل الأمر كذلك !..
وشر الناس نهاية ومصيراً , مَنْ تدركه الساعة حياً لم يمت , لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق , حسب نص الحديث .. إن المؤمنين بالله سبحانه , لا حرج عليهم من الساعة المقتربة , لأنهم سيُـقـْبضون قبلاً بالريح الطيبة , ولا يبقى لهم وجود في الأرض قطعاً , وهذا من رحمة الله بعباده المؤمنين الموحدين , الذين يعفيهم ربهم من ذلك البلاء المَخـُوف والمبين .. ولكي لا تقوم الساعة على الأطفال , يتوقف الحمل قبل أربعين من السنين ..
حقاً إن الساعة لأمر يدعو إلى التأمل , وطول الفكر والنظر , على النهاية الحزينة والمحزنة , التي سيؤول إليها مصير هذه الحياة , التي منحها الله كل روح من روحه , وكل إبداع من إبداعه , وكل حنان ورحمة , ومحبة ومودة , ومَدد غير محدود , وكرم وتكريم للإنسان , وعطاء غير مجذوذ , وأجر غير ممنون , وهندسة رائعة للأكوان , خدمة لهذا الإنسان ..
الساعة وتراكمات الأشراط :
من المعلوم بداهة , أن الساعة لا تأتي من فراغ , دون موجبات ومقتضيات , ولا تحصل دُفعة واحدة , بلا مقدمات وتمهيد , وقرع للأجراس !.. فهي ــ أي الساعة ــ نقض تدريجي لبناء مُحْـكم القواعد والشرفات , ومتراكم النعم والإفاضات , والفائق من التسويات , والعناية الالهية ..
وقد وصفها النبي عليه الصلاة والسلام : بأنها نقض وحلٌّ لعُرى الإسلام , عروة ً عروة , فكلما انتقضت عروة , تشبث الناس بالتي تليها , فأولهن نقضاً : الحكم , وأخرُهن : الصلاة !..
لقد تمكن الرسول الأعظم محمد , صلى الله عليه وآله وسلم , من إصلاح الحياة الإنسانية , على أكمل وجه , وأتم صورة , وأصدق واقع , يفيض لبناً وعسلاً , وإنصافاً وعدلاً ..
ولكن وفاته عليه الصلاة والسلام , كانت المؤشرَ الأعظم , على بديء مراحل النقض والتراجع , في بنية الدين الحق , ومن ثـَمَّ بدءُ حركة الالتفات إلى الدنيا , ومتاعها وزينتها , والافتتان بها : تضحية بجوهر الإسلام , وحقيقة التدين الصحيح ..
وقد ذكر أنس ابن مالك , بأنه ما نفضنا أيدينا من تراب دفن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , حتى أنكرنا قلوبنا , أي شعرنا بتطرق النقص إليها , بسبب ذلك الفراغ , الذي لم يُعـوَّض إلى أخر الدنيا ..
وبدأت بعد ذلك تتناثر وتتتابع أمارات الساعة وأشراطها , فيما سُمي ودُعي بالفتن والملاحم وأحداثٍ حدثت بذاتها : من نحو قتل الخليفة المظلوم , وحرب الصحابة , وظهور الخوارج , وأدعياء النبوة , وكثرة الهرْج والمرْج , وضياع الأمانة , والنساءِ الكاسيات العاريات , وشرب الخمور , واستحلال المعازف والغِـناء , والقـيْـنات والحرير , وشيوع الفاحشة وانتشار الظلم , ومجيء أزمنة يصبح الرجل فيها مؤمناً , ويمسي كافراً , وبالعكس أيضاً , يبيع دينه بعرض من الدنيا , والقابض على دينه كالقابض على الجمر .. وغير ذلك مما هو مُدوَّن ومبثوث في كتب السنة النبوية , وأحاديث آخر الزمن !..
وفي حديث لمسلم : عن حُـذيفة ابن أسيد الغِـفاري , أنه عليه الـصلاة والـسلام , قـد قـال : ( لن تقوم الساعة , حتى تروْا قبلها عشر آيات : المسيح الدجال , وعيسى بن مريم , ويأجوج ومأجوج , وطلوع الشمس من مغربها , والدابة , والدخان , وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق , وخسف بالمغرب , وخسف بجزيرة العرب .. وآخر ذلك : نار تخرج من عدن اليمن , تسوق الناس إلى محشرهم ) .. وهذه هي التي يقال لها : العلامات الكبرى , التي تمهد وتـُفضي أخيراً , إلى نهاية الحياة الراهنة ..
الوجه الآخر لأشراط الساعة :
وهو أن هذه الأشراط والعلامات , بقدوم الساعة الزاحف والراجف , هي بشرى سارة جداً لأمة الإجابة والإنابة , بانتهاء دور أمة الغـُثاء والعماء , وعودة الدين الخالص , والإسلام الحق , الذي جرى تهميشه وتغييبه وتعليقه , ووقفُ العمل به , والتآمر عليه من أتباعه وأبنائه , قبل خصومه وأعدائه !..
فأشراط الساعة : صحوة بعد نوم عميق , وإفاقة بعد تخدير وسُبات طويل , وفرصة جديدة لاستئناف مسيرة جديدة , بمعطيات ومفاهيم , لا عهد للبشر بها , في أكبر عملية رتـْق حضاري وإيماني , ووحدةٍ إسلامية الولاء والانتماء !..
في حين أن الواقع التاريخي والراهن , الذي درجت عليه أجيال وأجيال , مُـفعم بأمواج الفتن والضلال , وجبال العار , وخنادق النار , والأسوإ والأردإ , من السلوك والخـُلق والحال , وأشباهِ الرجال !.. الذين يـَدبُّون على الأرض , دبيب الذئاب والثعابين !..
فدلائل الساعة ومقدماتها , فرصة ذهبية , وموعظة إلهية , مقروءة ومسموعة ومرئية , وبشرى نبوية , ولكن لقوم يعقلون ويفهمون , ويأخذون أنفسهم بمنطق العودة إلى الله , والإنابةِ إلى دار الخلود , والتجافي عن دار الغرور , والتوبةِ من الخطايا والذنوب , والاستعدادِ للوقوف بينَ يديْ علام الغيوب .. فيدفعهم ذلك إلى تحمل المسؤولية , بكفاءة والتزام وجدِّية ..
الإيمان بالساعة سعادة :
فالذين يؤمنون بالساعة , ويُـشفقون منها , ويظنون أنها قائمة وقادمة , ظن اليقين , ويخشوْن ربهم بالغيب , ويعلمون بأن الساعة مُفـْضية إلى اليوم الآخِر , هم سعداء حقاً , صدَّقوا بالرسالة , وبما جاءت به الرسالة , ومنذ نعومة أظفارهم , لم يخالطهم شك ولا ريب , أو خالطهم هذا الشك , ثم وصلوا إلى اليقين , وعاشوا قناعات صالحة , بعد تـُرَّهات باطلة , ودخلوا في تجربة مريرة وصعبة , جعلتهم يثبتون على الإيمان , ثبوت الجبال الرواسي ..
إن الذين فرطوا بأمر الساعة , وزاغوا عن الحق , وفقدوا الشعور المرهـَف , وعاشوا للهوى والفتون , ثم تابوا وأنابوا , وصدَّقوا بما كانوا به يكذبون , ليسوا هم أقل سعادة وتوفيقاً وفلاحاً , من أولئك المؤمنين الأصيلين , المصدقين سليقة وفطرة , ولم يخوضوا معاناة وتجربة .. فاليقين بعد الشك , والحقيقة بعد الوهم والشكل !..
ولعل الذين يغالون في الساعة : تكذيباً وشكاً وغفلة , هم أبأس الخليقة , وأجرؤهم على الباطل , وأشدهم إيغالاً في الفيافي المقـْفرات , والليالي المظلمات , حتى تـَصْدعهم الساعة بصدمتها المروِّعة .. وبعد فوات الأوان , يكتشفون أنهم أغبياء , وأن وجودهم برمته رماد تذروه الرياح , وسحابٌ خـُلـَّب , وسراب يحسبونه ماء , فيلهثون خلفه , ثم تنقطع أعناقهم ظمأ وعطشاً..
( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) ..
وبعد .. فماذا بعد :
ومنذ القديم , هل ينتظر الناس إلا المهديَّ , فخير موعود يُرتقب , أو الدجالَ , فشر غائبٍ يُـنتظر , أو الساعة والساعة أدهى وأمر ؟!.. ومن قبل ذلك , هل ينتظرون إلا فقراً مُدْقِـعاً , أو غنىً مُطغياً , أو مرضاً مُجْهداً , أو هرماً مُـفـَنـِّداً ؟.. وهل حياة الناس كلها : إلا انتظار وترقب , بمستوى الأعوام والأيام , أو بمستوى الساعات والأنفاس .. وكلما بدت نتيجة , تقدمت نتيجة أخرى , تنتظر دورها , وينتظر الناس ورودها ؟!. بإلحاح ظاهر ..
وفي القرآن , أمر بالترقب والارتقاب والانتظار , وبدءاً من النبي المختار .. ( فانتظر إنهم منتظرون ) . ( فارتقبهم واصطبر ) ..
والإيمان بالساعة يفرض الانتظار , والانتظار عبادة الأخيار والأبرار , والإيمانُ بالساعة , عقيدة أهل الحق , ويقين الدين والصدق , وسبيل رواد الحقيقة والكرامة , ومَنْ هم في موقع القيادة والإمامة .. فالطموح الصاعد , يقتضي ذلك !..
ولكلٍ ساعة , والحياة : ساعة , وفيها نهايات وبدايات , وما خرجنا عن نطاق الساعة أصلاً والساعة في كل آنٍ مُرتقـَبة , وهي لقوم مُبغـَّضة وبطيئة , ولقوم مُحببة وسريعة !..
عيسى : ساعة , والدجال : ساعة , والمهديُّ : ساعة , وكلها موعودة ومنتظرة , وما أكثر الساعات , في العبور والممرات !.. وأعظم مصير في الأرض : ساعة .. ( ويوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون . ما لبثوا غير ساعة ) .. والساعة من الإنسان , قاب قوس أو أدنى ..
اختلاف في التفسير :
لقد كان ثـَمَّـتَ اختلاف تفسيري , تـُجاه العلامات الكبرى .. فهناك تفسير حرفي , حسب ظاهر النصوص , ورمزيتها ودلالاتها البعيدة , وفيها الضعيف والموضوع .. وأنها لكي تتحقق , تحتاج إلى مجتمع قـبَـلي متخلف , وبيئة عربية , فيها الخيول والسيوف , والرايات والفرسان !..
وهناك تفسير مستوحىً من روح تلك النصوص , وتنزيلـُها وإسقاطها على الواقع الآخذ في التطور , بمآلات الأحداث والملاحم , التي ارتفعت وتيرتها بشكل ملحوظ , لا يمكن تجاوزه ولا تجاهله حتماً .. وهذا التفسير لا يحتاج إلى زمن ذي مواصفات خاصة ..
وكلما اشتدت الأزمة على هذه الأمة , لجأ الناس إلى القراءة والبحث , فيما عسى أن تـَنـُمَّ عنه الأحاديث النبوية .. فلعل ذلك يكون إجابة وتفسيراً , لهذا الواقع الذي يَـفيض مرارة ويأساً , وتبدو فيه الطرق مسدودة , والعقد مستعصية , وإحاطة الأعداء بنا مستحكمة , وكاتمة لأنفاسنا , ومحصية علينا تلك الأنفاس !.. في أكبر عملية احتلال وإذلال , ومَحو للهوية والوجود !..
ولكن ومهما يكن من أمر , فلا مِنْ متكلم بالحق الخالص , ويُفهم الناس , أنهم بآيات الله لا يوقنون , وكأنهم لا يُصدقون !.. ولا يؤمنون بيوم الحساب , والمرجع والمآب ..
وفي القرآن آية لافتة , نوردها الآن , دون التعرض لماهيتها وإشكالـيتها .. يقول سبحانه : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) ..
الساعة ومصير الكوكب :
إن مصير هذا الكوكب المنكوب , مرهون بأمر الساعة , التي تجري أحداثها ومقدماتها المرعبة , بسرعة قصوى .. وما يشكو منه علماء الكون , والباحثون المتخصصون , لا يبشر بانحسار الأخطار , بل بازديادها , وارتفاع منسوبها الأعظم ..
فأكابر المجرمين والمفسدين في الأرض , يصنعون نهاية غير سعيدة , لهذه الأرض , بما يقومون به من خطط وسياسات جهنمية , وتجارب تخريبية , تقشعر منها جلود الشياطين ..
وهذا ينعكس على الأرض وسكانها , زلزالاً يقوض الأرض , ويلوث كل البيئات , ويجعل الأرض تهتز وتنفجر براكينها , وتنذر بما هو شر وأسوأ من كل التوقعات والاحتمالات ..
إن كل ما بناه الله في الأرض , وعلى الأرض , التي جعلها الله مستقراً وقراراً , يتم تدميره الآن , وتأسيس نهايته الفاجعة , والانتقامُ من الإنسان , الذي كرمه الله , وخلق له كل شيء , على نحو متكامل وطاهر ورائع , لا مَزيد عليه ..
ويقول سبحانه : ( أمَّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسيَ .. ) ..
سبحانك يا خلاق يا عليم , تعلم الذين يُسيئون عن عمد وقصد , إلى ما أبدعت وصنعت فوق هذه الأرض , ويُحيلونه إلى موت ورماد , ونار وعار , وظلم يتجاوز حدود كل ظلم !..
ويقربون أسوأ مصير لهذا الكون ..وآياتـُك في كتابك , تنطق بذلك , وترصُده محيطة به ..
فسبحانك يا حليم يا صبور , ما أعظم حلمك وصبرك .. ولكنْ قبل أن يتمكن أعداؤك من تدمير هذا الكوكب , أرِنا عنايتك الفائقة , بإتمام نورك على الأرض , وإظهار دينك الحق , على الدين كله , حسب وعدك الصادق , وقولك الذي لا يُبدل لديك ..
فإن اضمحلال فتنة المسيح الدجال , على يديْ المهديِّ والمسيح ابن مريم , هو أعظم ما يدعونا إلى التفاؤل , بقدوم عهد إسلامي نبوي عالمي , تـَبطل فيه كل العقائد والأديان , ويُصبح الدين واحداً , ويَعم السلام والوئام الأرض بأسرها , وتكون في الأرض أمَنـَة ٌ فائقة التصور والوقوع .. وتكون السجدة الواحدة , خيراً من الدنيا وما فيها !..
علامات الساعة : بمثابة عُملة ذاتِ وجهين , وجه قاتم يثير الفزع , ويدعو إلى القلق , ووجه مشرق بنور الله , طافح بالبشر واليسرى , وتصحيح الموازين , وإنهاء عهد الظالمين , وإنشاء المجتمع الإنساني الصالح , وإحياء ما اندرس من الإسلام الحق , والدين الخالص ..
( ألا لله الدين الخالص ) ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. عبد الرحمن