المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملخص كتاب - تعريف عام بدين الإسلام لعلي الطنطاوي



عَرَبِيّة
05-13-2010, 08:56 AM
من أروع الكتب التي قرأت على الإطلاق هو كتاب تعريف عام بدين الإسلام



للمرحوم الشيخ
علي الطنطاوي

(http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D9%84%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%86%D8%B7% D8%A7%D9%88%D9%8A).


كتاب يستحق القراءة و إليكم ملخصٌ له , و إن لم أختصر الكثير فهذا لأن الكتاب رائع في كل سطر من سطوره , ويحمل مابين الصفحات معلومات لا تتكرر , كما أن عرض الكتاب كان واضح , لذلك ركز المؤلف رحمة الله عليه على الهدف تاركاً الفروع و الخوض فيها إلاّ قليلاً إن أحتاج الأمر
.


ولتحميل الكتاب كاملاً
انقر هنا (http://shariaa.net/play.php?catsmktba=14138)





ملخص كتاب ( تعريف عام بدين الإسلام)
علي الطنطاوي (http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D9%84%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%86%D8%B7% D8%A7%D9%88%D9%8A)

عَرَبِيّة
05-13-2010, 09:02 AM
.... نائماً في ليالي الشتاء ، متمتعاً بدفء الفراش ، ولذة المنام ، فتسمع قرع المنبه يدعوك إلى الصلاة ، فتحسّ صوتاً من داخلك يقول لك : ( قم إلى الصلاة ) . فإذا جئت تقوم ، سمعت صوتاً آخر ، يقول لك : ( نم قليلاً ) . فيعود الصوت الأول يقول : ( الصلاة خير من النوم ) . فيقول الثاني : ( النوم لذيذ ، والوقت متسع ، فتأخر دقائق ) . ولا يزال الصوتان يتعاقبان ، تعاقب دقات الساعة : ( نم . قم . نم . قم ..) (1) . هذا هو العقل ، وهذه هي النفس . وهذا مثال يتكرر آلاف المرات ، في آلاف الصور ، كلما عرض للمرء مثل هذا الموقف فوقف أمام لذة محرمة تدعوه نفسه إلى غشيانها ، وكان في قلبه إيمان ، يدفع عقله إلى منعه منها ، وعلى مقدار ما يكون من انتصار العقل ، تكون قوة هذا الإيمان .
وليس معنى هذا أن ينتصر العقل دائماً ، وأن لا يقارب المسلم المعاصي أبداً . فالإسلام دين الفطرة ، دين الواقع ، والواقع أن الله خلق خلقاً للطاعة الخالصة ، ولمحض العبادة ، هم ( الملائكة ) ، ولم يجعلنا الله ملائكة ، وخلق خلقاً شأنهم المعصية والكفر هم ( الشياطين ) ، ولم يجعلنا كالشياطين ، وخلق خلقاً لم يعطهم عقولاً ولكن غرائز ، فلا يُكلّفون ولا يسألون ، وهم ( البهائم والوحوش ) ، ولم يجعلنا الله وحوشاً ولا بهائم .
فما نحن إذن ؟ ما الإنسان ؟ .
الإنسان مخلوق متميز ، فيه شيء من الملائكة ، وشيء من الشياطين ، وشيء من البهائم والوحوش ، فإذا استغرق في العبادة ، وصفا قلبه إلى الله عند المناجاة ، وذاق حلاوة الإيمان في لحظات التجلّي ، غلبت عليه في هذه الحال الصفة المَلَكية ، فأشبه الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وإذا عضّه الجوع ، وبرّح به العطش ، وانحصرت آماله في رغيف يملأ معدته ، وكأس تبلّ صداه ، أو تملّكته الشهوة ، وسيطرت على نفسه ( الرغبة الجنسية ) ، فغلا بها دمه ، واشتعلت به عروقه ، وامتلأ ذهنه بخيالات الشبق وأمانيه ، غلبت عليه في هذه الحال الصفة البهيمية ، فكان كالفحل أو الحصان ، أو ما شئت من أصناف الحيوان .
هذه حقيقة الإنسان ، فيه الاستعداد للخير ، والاستعداد للشر ، أعطاه الله الأمرين ، ومنحه العقل الذي يميز به بينهما ، والإرادة التي يستطيع بها أن يحقق أحدهما ، فإن أحسن استعمال عقله في التمييز ، وأحسن استعمال إرادته في التنفيذ ، ونمى استعداده للخير ، حتى تخلّق به وأنجزه ، كان في الآخرة من السعداء . وإن كانت الأخرى ، كان من المعذّبين .


***
التسويف و التأجيل :
إن كل مؤمن يريد أن يتوب ويرجع إلى الله ، ولكنه يؤجّل ويسوّف . أنا كنت أقول : إذ حججتُ تبتُ وأنبت ، ثم رأيت أني حججت وما تبت . وكنت أقول : إذا بلغت الأربعين تبتُ وأنبت ، فبلغتها وما تبت ، وجاوزت الستين وما تبت ، وشبت وما تبت . ليس معنى هذا أني مقيم على المحرمات ، مرتكب للفواحش ، لا وبحمد الله . ولكن معناه ، أن الإنسان يرجو لنفسه الصلاح ، ولكنه يسوّف ، يظن أن في الأجل فسحة ، يحسب أن العمر طويل ، فيرى الموت قد طرقه فجأة . وقد رأيت أنا الموت مرتين ، وعرفت ما شعور الميت ، لقد ندمت على كل دقيقة أضعتها في غير طاعة ... أي والله .
وما الموت ؟ ما حقيقته ؟
إن لحياة الإنسان مراحل ، فمرحلة وهو جنين في بطن أمه ، ومرحلة وهو في هذه الدنيا ، ومرحلة وهو في البرزخ بين الدنيا والآخرة ، من يوم موته إلى يوم القيامة ، والمرحلة الدائمة وهي الحياة الحقيقية ، مرحلة الآخرة . ونسبة كل مرحلة لما قبلها كنسبة ما بعدها إليها .
إن سعة هذه الدنيا بالنسبة لضيق بطن الأم ، كسعة البرزخ بالنسبة لهذه الدنيا ، وسعة الآخرة بالنسبة للبرزخ . إن الجنين يحسب دنياه هذا البطن ، ولو عقل وفكر ، وسئل وأجاب ، لقال بأن خروجه منه موت محقق ، ولو كان في البطن توأمان ، فولد أحدهما قبل الآخر ، ورآه نزل قبله ، ففارقه وقد كان معه ، لقال بأنه مات ، ودفن في الأعماق . ولو رأى المشيمة التي كانت من جسده ، ملقاة مع القمامة لظن بأنها هي أخوه ، وبكى عليها كما تبكي الأم حين ترى جسد ولدها الذي كانت تخشى عليه مسّ الغبار قد أودع التراب ، لا تدري أن هذا الجسد كالمشيمة ، قميص توسخ وألقي ، ثوب انتهى وقته ، وانقضت الحاجة إليه .
هذا هو الموت ، إنه ( ولادة جديدة ) ، خروج إلى مرحلة أطول وأرحب من مراحل الحياة .
أتعرفون ما مثال الدنيا والآخرة ؟ .
أعلنت أميركا مرة عن تجربة ذرية تجريها في جزيرة صغيرة من جزر البحر الهادي ، وكان ذلك من خمس عشرة سنة ( أو نحوها ) ، وكان في الجزيرة بضع مئات من السكان من صيّادي الأسماك ، فطلبت إليهم إخلاء مساكنهم ، على أن تعوّضهم عنها وعما فيها ، ببيوت مفروشة ، في أي بلد يريدون من البلدان ، على أن يعلنوا استعدادهم لإخلائها ، وإحصاءهم لما فيها ، قبل موعد كذا ( وحدّدتْ لهم موعداً ) ، ثم تأتي الطيارات فتحملهم من الجزيرة .
فمنهم من أعلن الاستعداد للإخلاء ، وقدّم الإحصاء قبل الموعد ، ومنهم من أهمل وأجّل حتى قرب الموعد ، ومنهم من قال : هذا كله كذب ، ما في الوجود مكان اسمه أميركا ، وما الدنيا إلا هذه الجزيرة ، ولسنا نتركها ، ولا نرضى أن نفارقها . ونسي أن الجزيرة ستُنسف كلها فتكون أثراً بعد أن كانت عيناً .
هذا مثل الدنيا ، والأول مثل المؤمن الذي يفكر في آخرته ، ويستعد بالتوبة والطاعة دائماً للقاء ربه ، والثاني مثل المؤمن المقصر العاصي ، والثالث مثل المادي الكافر ، الذي يقول : إنما هي حياتنا الدنيا ، لا حياة بعدها ، وإن الموت نوم طويل ، وراحة دائمة ، وفناء محقق .
((وليس معنى هذا أن الإسلام يطلب من المسلم أن يزهد في الدنيا مرة واحدة ، وينفض أصابعه منها ، ولا أن يسكن المساجد فلا يخرج منها ، ولا أن يأوي إلى مغارة يمضي حياته فيها ، لا ... بل أن الإسلام يطلب من المسلمين أن يكونوا في الحضارة الخيرة سادة المتحضرين ، وفي المال أغنى الأغنياء ، وفي العلم - العلم كله - أعلم العلماء ، وأن يعرف كل مسلم حق جسده عليه بالغذاء والرياضة ، وحق نفسه بالتسلية والإجمام والمتعة بغير الحرام ، وحق أهله بالرعاية وحسن الصحبة ، وحق ولده بالتربية والتوجيه والعطف ، وحق المجتمع بالعمل على كل ما يصلحه ، كما يعرف حق الله بالتوحيد والطاعة ( (
***
قلت مرة لتلاميذي : ( لو جاءكم رجل أجنبي ، فقال لكم : إن لديه ساعة من الزمن ، يريد أن يفهم فيها ما الإسلام ، فكيف تفهمونه الإِسلام في ساعة ؟ ) . قالوا: ( هذا مستحيل ، ولا بد له أن يدرس التوحيد والتجويد ، والتفسير والحديث والفقه والأصول ، ويدخل في مشكلات ومسائل ، لا يخرج منها في خمس سنين ) . قلت : ( سبحان الله ، أما كان الأعرابي يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيلبث عنده يوماً أو بعض يوم ، فيعرف الإِسلام ويحمله إلى قومه ، فيكون لهم مرشداً ومعلماً ، ويكون للإِسلام داعياً ومبلغاً ؟ وأبلغ من هذا ، أما شرح الرسولُ الدينَ كلّه في حديث ( سؤال جبريل ) بثلاث جمل ، تكلم فيها عن : الإِيمان ، والإِسلام ، والإِحسان ؟ فلماذا لا نشرحه اليوم في ساعة ؟ ) .
فما الإِسلام ؟ وكيف يكون الدخول فيه ؟
كل نِحلة من النحل الصحيحة والباطلة ، وكل جمعية من الجمعيات النافعة والضارة ، وكل حزب من الأحزاب الخيّرة والشريرة ، لكل ذلك ( مبادئ ) وأسس فكرية ، ومسائل عقائدية ، (1) تحدد غايته وتوجه سيره ، وتكون كالدستور لأعضائه وأتباعه .
ومن أراد أن ينتسب إلى واحد منها ، نظر أولاً إلى هذه ( المبادئ ) ، فإن ارتضاها واعتقد صحتها ، وقبل بها بفكره الواعي وبعقله الباطن ، ولم يبق عنده شك فيها ، طلب ( الإنتساب ) إلى الجمعية ، فانتظم في سلك أعضائها ومتبعيها ، ووجب عليه أن يقوم بالأعمال التي يلزمه بها دستورها ، ويدفع رسم الأشتراك الذي يحدده نظامها ، وكان عليه - بعد ذلك - أن يدل بسلوكه على إخلاصه لمبادئها ، فيتذكر هذه المبادئ دائماً ، فلا يأتي من الأعمال ما يخالفها ، بل يكون بأخلاقه وسلكوه ، مثالاً حسناً عليها ، وداعيةً فعلياً لها .
فالعضوية في الجمعية هي: ( عِلْم ) بنظامها ، و ( اعتقاد ) بمبادئها ، و ( إطاعة ) لأحكامها ، و ( سلوك ) في الحياة موافق لها . هذا وضع عام ، ينطبق على الإِسلام . فمن أراد أن يدخل في دين الإِسلام عليه أولاً أن يقبل أسسه العقلية ، وأن يصدق بها تصديقاً جازماً ، حتى تكون له ( عقيدة ) .
وهذه الأسس تتلخص في أن يعتقد أن هذا العالم المادي ليس كل شيء ، وأن هذه الحياة الدنيا ليست هي الحياة كلها . فالإنسان كان موجوداً قبل أن يولد ، وسيظل موجوداً بعد أن يموت ، وأنه لم يُوجِد نفسَه ، بل وجد قبل أن يعرف نفسه ، ولم توجده هذه الجمادات من حوله ، لأنه عاقل ولا عقل لها ، بل أوجده وأوجد هذه العوالم كلها من العدم إله واحد ، هو وحده الذي يحيي ويميت ، وهو الذي خلق كل شيء ، وإن شاء أفناه ، وذهب به ، وهذا الإله لا يشبه شيئاً مما في العوالم ، قديم لا أول له ، باق لا آخر له ، قادر لا حدود لقدرته ، عالم لا يخفى شيء عن علمه ، عادل ولكن لا تقاس عدالته المطلقة بمقاييس العدالة البشرية ، هو الذي وضع نواميس الكون التي نسميها ( قوانين الطبيعة ) ، وجعل كل شيء فيها بمقدار ، وحدّد من الأزل جزئياته وأنواعه ، وما يطرأ عليه ( على الأحياء وعلى الجمادات ) من حركة وسكون ، وثبات وتحوّل ، وفعل وترك ، ومنح الإنسان عقلاً يحكم به على كثير من الأمور ، التي جعلها خاضعة لتصرفه ، وأعطاه عقلاً يختار به ما يريد ، وإرادةً يحقق بها ما يختار ، وجعل بعد هذه الحياة المؤقتة حياة دائمة في الآخرة ، فيها يُكافَأ المحسن في الجنة ، ويُعاقَب المسيء في جهنم .
وهذا الإله واحد أحد ، لا شريك له يعبد معه ، ولا وسيط يقرّب إليه ويشفع عنده بلا إذنه ، فالعبادة له وحده خالصة ، بكل مظاهرها .
له مخلوقات مادية ظاهرة لنا ، تُدرَك بالحواس ، ومخلوقات مغيَّبة عنا ، بعضها جماد وبعضها حيّ مكلّف ، ومن الأحياء ما هو خالص للخير المحض ، ( وهم الملائكة ) ومنها ما هو مخصوص بالشر المحض ( وهم الشياطين ) (1) ، وما هو مختلط ، منه الخيِّر والشرير ، والصالح والطالح ( وهم الإِنسُ والجن ) .
أنه يختار ناساً من البشر ، ينزل عليهم المَلَك بالشرع الإلهي ليبلّغوه البشر ، وهؤلاء هم الرسل . وأن هذه الشرائع تتضمنها كتب وصحائف أُنزلت من السماء ، ينسخ المتأخر منها ما تقدّمه أو يعدّله . وأن آخر هذه الكتب هو القرآن ، وقد حُرِّفت الكتب والصحف قبله ، أو ضاعت ونُسيت ، وبقي هو سالماً من التحريف والضياع . وأن آخر هؤلاء الرسل والأنبياء هو محمد بن عبد الله العربي القرشي ، خُتمت به الرسالات ، وبدينه الأديان ، فلا نبي بعده .
فالقرآن هو دستور الإِسلام ، فمن صدق بأنه من عند الله ، وآمن به جملةً وتفصيلاً سمي ( مؤمناً ) . والإِيمان بهذا المعنى ، لا يطّلع عليه إلاّ الله ، لأن البشر لا يشقون قلوب الناس ، ولا يعلمون ما فيها ، لذلك وجب عليه ليعدّه المسلمون واحداً منهم ، أن يعلن هذا الإِيمان بالنطق بلسانه بالشهادتين .
وهما : ( اشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ) .
فإذا نطق بهما صار مسلماً ، أي : ( مواطناً ) أصيلاً في دولة الإِسلام ، وتمتّع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلم ، وقَبِل بالقيام بجميع الأعمال التي يكلّفه بها الإسلام .
وهذه الأعمال ( أي العبادات ) قليلة ، سهلة ، ليس فيها مشقة بليغة ، وليس فيها حرج .
أولها : أن يركع في الصباح ركعتين يناجي فيهما ربه ، يسأله من خيره ، ويعوذ به من عقابه ، وأن يتوضأ قبلهما أي يغسل أطرافه ، أو يغسل جسده كله ( إن كانت به جنابة ) .
وأن يركع في وسطه أربعاً ، ثم أربعاً ، وأن يركع بعد غياب الشمس ثلاثاً ، وفي الليل أربعاً (1) .
هذه هي الصلوات المفروضة ، لا يستغرق أداؤها كلها نصف ساعة في اليوم ، لا يُشترط لها مكان لا تؤدَّى إلا فيه ، ولا شخص معين ( أي رجل دين ) لا تصح إلا معه ، ولا واسطة فيها ( ولا في العبادات كلها ) بين المسلم وربه .
__________
(1) وتحديد وقتها وبيان كيفيتها يكون بعد .
__________


الثاني : أنَّ في السنة شهراً معيناً ، يقدم فيه المسلم فطوره ، فيجعله في آخر الليل بدلاً من أن يكون في أول النهار ، ويؤخر غداءه إلى ما بعد غروب الشمس ، ويمتنع في النهار عن الطعام والشراب ومعاشرة النساء ، فيكون من ذلك شهر صفاء لنفسه ، وراحة لمعدته ، وتهذيب لخُلُقه ، وصحة لجسده ، ويكون هذا الشهر مظهراً من مظاهر الاجتماع على الخير ، والتساوي في العيش .
الثالث : أنه إذا فضل عن نفقات نفسه ، ونفقات عياله ، مقدار من المال محدود ، بقي سنة كاملة لا يحتاج إليه ، لأنه في غنى عنه ، كُلّف أن يُخرج منه بعد انقضاء السنة ، مبلغ ( 2,5 ) في المئة ، للفقراء والمحتاجين ، لا يحس هو بثقلها ، ويكون فيها عون بالغ للمحتاج ، وركن وطيد للتضامن الاجتماعي ، وشفاء من داء الفقر ، الذي هو شر الأدواء .
لرابع : أن الإِسلام رتب للمجتمع الإِسلامي ، اجتماعات دورية :
اجتماع بمثابة مجالس الحارات ، يُعقد خمس مرات في اليوم ، مثل حصص المدرسة ، هو ( صلاة الجماعة ) ، يوثّق كل عضو فيه عبوديته لله بالقيام بين يديه ، ويكون من ثماره أن يعين الأقوياء الضعيف ، ويعلّم العلماء الجاهل ، ويسعف الأغنياء الفقير ، ومدة انعقاده ربع ساعة . فلا يعطل عاملاً عن عمله ، ولا تاجراً عن تجارته ، وإذا تم الاجتماع وتخلف عنه مسلم فصلّى في بيته ، لم يُعاقَب على تخلفه ولكن فاته ثواب حضوره .
واجتماع لمجالس الأحياء ، يُعقد مرة في الأسبوع ، هو ( صلاة الجمعة ) ، ومدة انعقاده أقل من ساعة . وحضوره واجب على الرجال .
واجتماع كمجالس المدينة ، يعقد مرتين في السنة ، وهو ( صلاة العيد ) ، وحضوره ليس على سبيل الإِلزام ، ومدى انعقاده أقل من ساعة .
واجتماع ، هو كالمؤتمر الشعبي العام ، يُعقد كل سنة في مكان معين ، هو في الحقيقة دورة توجيهية ورياضية وفكرية ، يكلَّف المسلم بأن يحضره مرة واحدة في العمر ، إذا قدر على حضوره ، وهو ( الحج ) .
هذه هي ( العبادات ) الأصلية التي يُكلَّف بها .


***
ومن العبادات أن يمتنع عن أفعال معينة ، أفعال يُجمع عقلاء الدنيا على أنها شر ، وأن الواجب الامتناع عنها ، كالقتل بلا حقٍ ، والتعدّي على الناس ، والظلم بأنواعه ، والمسكر الذي يغيّب العقل ، والزنا الذي يذهب الأعراض ، ويخلط الأنساب ، والربا ، والكذب ، والغش ، والغدر ، والفرار من الخدمة العسكرية التي يراد منها إعلاء كلمة الله ، ومنها ( بل من أشدها ) عقوق الوالدين ، والحلف كاذباً ، وشهادة الزور ، وأمثال ذلك من الأعمال القبيحة الشريرة ، التي تجتمع العقول على إدراك قبحها وشرها .
وإذا قصر المسلم في القيام ببعض الواجبات ، أو ارتكب بعض الممنوعات ، ثم رجع وتاب وطلب العفو من الله ، فإن الله يعفو عنه ، وإن لم يتب فإنه يبقى مسلماً معدوداً في المسلمين ، ولكنه يكون ( عاصياً ) يستحق العقاب في الآخرة ، ولكن عقابه مؤقت ، لا يدوم دوام عقاب الكافر .
أما إذا أنكر بعض المبادئ ، أي العقائد الأصلية ، أو شكّ فيها ، أو جحد واجباً مجمعاً على وجوبه ، أو حراماً مجمعاً على حرمته ، أو أنكر ولو كلمة واحدة من القرآن ، فإنه يخرج من الدين ، ويعتبر مرتداً تُنزع عنه الجنسية الإِسلامية . والردة أكبر جريمة في الإِسلام ، فهي كالخيانة العظمة في القوانين الحديثة ، جزاؤها - إن لم يرجع عنها ويتنصّل منها - الموت .
قد يترك المسلم بعض الواجبات ، أو يأتي بعض الممنوعات ، وهو معترف بالوجوب والحرمة ، فيبقى مسلماً ، ولكنه يكون ( عاصياً ) ، أما الإيمان فلا يتجزأ ، فلو آمن مثلاً بتسع وتسعين عقيدة ، وكفر بواحدة فقط ، كان كافراً .
وقد يكون المسلم غير مؤمن ، كمن انتسب إلى حزب أو جميعة ، وحضر اجتماعاتها ، ودفع اشتراكاتها ، وقام بواجب العضو فيها ، ولكنه لم يقبل بمبادئها ، ولم يقتنع بصحتها ، بل دخل فيها للتجسس عليها ، أو فساد أمرها .
وهذا هو ( المنافق ) (1) الذي ينطق بالشهادتين ، ويؤدي العبادات ظاهراً ، ولكنه غير مؤمن بالحقيقة ولا ناجٍ عند الله ، وإن كان عند الناس معتبراً من المسلمين ، لأن الناس لهم الظواهر ، والله وحده يطّلع على السرائر والقلوب .
فإذا آمن الإِنسان بالأسس الفكرية للإِسلام ، وهي التصديق المطلق بالله ، وتنزيهه عن الشريك والوسيط ، وبالملائكة ، وبالرسل ، وبالكتب ، وبالحياة الآخرة ، وبالقدر ، ونطق الشهادتين ، وصلى الفرائض ، وصَام رمضان ، وأدى زكاة ماله إن وجبت عليه الزكاة ، وحج مرة في العمر إن استطاع ، وامتنع عن المحرمات المجمع على حرمتها ؛ فهو مسلم مؤمن ، ولكن ثمرة الإيمان لا تظهر منه ، ولا يُحِسّ بحلاوته ، ولا يكون مسلماً كاملاً ، حتى يسلك في حياته مسلك المسلم المؤمن . ولقد لخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهاج هذا السلوك ، بجملة واحدة ، كلمةٍ من جوامع الكلم ، ومن أبلغ ما نطق به بشر ، كلمةٍ تجمع الخير كله ، خير الدنيا ، وما في عَقِبه من خير الآخرة .
هي : أن يتذكر المسلم في قيامه وقعوده ، وخلوته وجلوته ، وجدّه وهزله ، وفي حالاتها كلها ، أن الله مطلع عليه ، وناظر إليه ، فلا يعصيه وهو يذكر أنه يراه ، ولا يخاف أو ييأس وهو يعلم أنه معه ، ولا يشعر بالوحشة وهو يناجيه ، لا يحس بالحاجة إلى أحد وهو يطلب منه ويدعوه ، فإن عصى - ومن طبيعته أن يعصي - رجع وتاب ، فتاب الله عليه .
كل ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ، في تعريف ( الإِحسان ) : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

عَرَبِيّة
05-13-2010, 09:06 AM
تَعْريفاتٌ
تعريف الشك:
( ديكارت ) في منهجه المشهور ، ومن قبله ( الغزالي ) في " المنقذ من الضلال " ، بدآ بالشك ليصلا منه إلى اليقين . شك ديكارت ليتخذ من الشك سبيلاً للتحقق ، فما هو الشك ؟ .
إذا كنت في مكة مثلاً ، وسألك سائل : هل في الطائف الآن مطر ؟ لا تستطيع أن تقول : ( نعم ) ، ولا تستطيع أن تقول : ( لا ) . لأن من الممكن أن يكون في الطائف في تلك الساعة مطر ، ومن الممكن أن يكون الجو فيها صحواً لا مطر فيه ، إمكان وجود المطر خمسون في المئة مثلاً ، وإمكان عدمه خمسون ، تساوى الطرفان فلا دليل يرجّح الوجود ، ولا دليل يرجح العدم . وهذا هو الشك .


تعريف الظن:
فإن نظرت وأبصرت في جهة الشرق ( والطائف شرقي مكة ) غيوماً تلوح على حواشي الأفق من بعيد ، رجح عندك رجحاناً خفيفاً أن في الطائف مطراً . وهذا الرجحان الخفيف لإمكان الوجود ، هو ما يسمونه ( الظن ) . فأنت تقول : أظن أن في الطائف الآن مطراً ، فالظن : ستون في المئة مثلاً ( نعم ) ، وأربعون ( لا ) .


تعريف غلبة الظن:
فإن رأيت الغمام قد ازداد وتراكم ، واسودّ وتراكب ، وخرج البرق يلمع من خلاله ، ازداد ظنك بنزول المطر في الطائف ، فصار لـ ( نعم ) سبعون أو خمس وسبعون في المئة ، كان هذا ما يسميه علماؤنا بـ ( غلبة الظن ) ، فأنت تقول لسائلك : يغلب على ظني أن في الطائف الآن مطراً .


تعريف اليقين العلم
فإن أنت ذهبت إلى الطائف ، فرأيت المطر بعينك ، وأحسست به على وجهك ، أيقنت بنزوله ، وعلماؤنا يسمون هذا اليقين ( علماً ) فصار لكلمة ( العلم ) معانٍ : ( العلم ) المطلق الذي يقابل الجهل ، ( والعلم ) الذي يقابل الفن والفلسفة . فالكيمياء علم ، أما الرسم فهو فن ، والشعر فن . والعلم بهذا المعنى هو الذي تكون غايته الحقيقة ، وأداته العقل ، ووسيلته المحاكمة ، والتجربة ، والاستقراء . والفن هو الذي تكون غايته الجمال ، وأداته الشعور ، ووسيلته الذوق .
( والعلم ) الذي يجيء بمعنى اليقين ، ويقابل الشك والظن ، هو الذي نقصده في هذا البحث (1)
_________________
(1) أما العلم بالمعنى الخاص : كقولنا ( علم النحو ) ، و ( علم الكيمياء ) . فلعلمائنا فيه تعريفات كثيرة ، ولكن أوضح تعريف وأبعده عن التعقيد ، هو ما عرفه به ( سارتون ) بقوله : " العلم هو مجموعة معارف محققة ومنظمة .. " ، فبقوله : ( معارف ) خرجت المشاعر والخيالات ، وبقوله ( محققة ) خرجت النظريات والفروض ، وبقوله ( منظمة ) خرجت المعارف المبعثرة المتفرقة .
________________


العلم الضروري والعلم النظري :
العلم الذي يحصل بالحس والمشاهدة ، لا يحتاج إلى دليل . الجبل الذي تراه أمامك لا تحتاج إلى إقامة الدليل على وجوده ، إنك تعلم - ضرورة - بأنه موجود ، وكل من يراه ( من العقلاء ) يعلم أنه موجود وهذا ما يسمى ( العلم الضروري ) .
أما العلم بأن مربع الوتر ( في المثلث القائم الزاوية ) يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين ، فيحتاج إلى دليل عقلي . فالعالم أو طالب العلم الذي يصل إلى الدليل ، يعلم هذه الحقيقة ، أما العامي الجاهل فلا يعلمها ، ولا يصدق بها ، ما دام لم يطلع على هذا الدليل . وهذا ما يسمى ( بالعلم النظري ) ، وهو الذي لا يحصل إلا بالدليل العقلي .
البديهية والعقيدة :
مثاله : العلم بأن ( الجزء أصغر من الكل ) , فالطفل إذا أخذت منه كف الشوكولاتة ( لوح الشكولاته ) الكامل ، وأعطيته كفاً ناقصاً لا يقبله ، وإذا حاولت إقناعه بأن هذا أكبر لم يقنع ، لأن كون ( الجزء أصغر من الكل ) بديهية .
و ( مقولة الهُوّيّة ) - أي كون الشيء هو نفسه - بديهية ، ولو قال لك قائل : ( أثبت لي أن هذا القلم الذي تحمله بيدك ليس ملعقة شاي ) . تقول له : ( هذه بديهية ، لا تحتاج إلى إثبات لأن القلم قلم ) .
فالبديهيات (1) هي الحقائق العقلية التي يقبلها الناس جميعاً ، ولا يطلب أحد عليها دليلاً ، فإذا دخلت البديهية العقل الباطن ، واستقرت فيه ، وأثرت في الحدس والشعور ، ووجهت الإِنسان في تفكيره ( عقله الواعي ) ، وفي أعماله ، سميت : ( عقيدة ) ، وسمي الاعتقاد بها : ( إيماناً ) .
ولكنا نعرف أن الإِنسان يعتقد الحق أحياناً ، ويعتقد الباطل حيناً ، ونشاهد في هذه الأيام ، من أتباع المذاهب المنحرفة والمبادئ الباطلة ، من امتزج بها قلباً وقالباً ، وتمسك بها ظاهراً وباطناً ، وبذل ماله ونفسه في نصرتها وحمايتها ، فهل نسمي هؤلاء ( مؤمنين ) ؟
أما إطلاقاً فلا ، ولكن يمكن أن نطلق عليه اسم الإِيمان مضافاً إلى الباطل الذي يؤمنون به ، على نحو قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } .
ويمكن إطلاق اسم الإيمان مقيَّداً بالوصف ، نحو قوله تعالى:
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } .
أما ( الإِيمان ) بالمعنى الخاص ، الذي لا ينصرف إذا أُطلق إلا إليه ، ولا يدل إلا عليه ، المعنى الذي يراد كلما ورد ذكر الإِيمان ومشتقاته ، في الكتاب والسنّة ، وعلى ألسنة العلماء ، فهو :
الاعتقاد بالله رباً واحداً .
ومالكاً مختاراً متصرّفاً .
وإلهاً مفردَاً بالعبادة ، لا يشرك معه غيره في كل ما هو من جنس العبادة .
والإعتقاد بكل ما أَوْحى به إلى نبيه ، من : خبر الملائكة ، والرسل ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره .
وصاحب هذا الاعتقاد هو ( المؤمن ) ، فإن نقص (1) شيئاً منه ، أو ردّه ، أو تردد في تصديقه ، أو شك فيه ، فَقَدَ صفةَ الإِيمان ، ولم يَعُدْ يُعَدُّ مع المؤمنين .

عَرَبِيّة
05-13-2010, 09:19 AM
الإِيمَانُ باللهِ
الإيمان بالله يتضمن أربع قضايا ، هي : أن الله موجود بلا موجِد ، وأنه رب العالمين ، وأنه مالك الكون المتصرف فيه ، وأنه الإله المعبود وحده لا يُعبد معه غيره
وجود الله :
لنا في القاعدة السادسة : إن الإعتقاد بوجود الله من الأمور البديهية التي تُدرك بـ ( الحدس ) النفسي قبل أن تُقبل بالدليل العقلي ، فهي لا تحتاج إلى دليل .
(( و إن أردت معرفة المزيد عن الأدلة العقلية ينصح المؤلف بــ :


اسم الكتاب
المؤلف
دلائل التوحيد
جمال الدين القاسمي
الله يتجلّى في عصر العلم
كتبه ثلاثون من علماء الطبيعة والفلك
العلم يدعو للإِيمان
علماء


))
أنا لا أحب أن أعيد سرد الأدلة القديمة على وجود الله ، أدلة علماء الكلام ، ولا الأدلة الحديثة التي جاء بها هؤلاء العلماء ، ولكن أشير إلى دليل واحد من الأدلة القرآنية ، وأدلة القرآن : واضحة ، صريحة ، حاسمة ، تأتي بالحجة الضخمة ، في العبارة القصيرة ، التي يفهمها العامي ، وتمتلىء نفس العالم الذي يدرك مغزاها ، إعجاباً منها ، وعجباً من قوتها ودقتها ووضوحها ، وكلاهما ( العامي والعالم ) لا يملك إلا أن يقول : صحيح ! .
نبهنا الله في القرآن بكلمة واحدة ، على أن الدليل فينا ، " في أنفسنا " ، فكيف ننكر قضية قد سطّر على جباهنا ما يشعر بصدقها ، قال تعالى : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ؟! } . فنحن نشعر - من أعماق قلوبنا - بأنه موجود ، نلجأ إليه في الشدائد والملمّات ، بفطرتنا المؤمنة ، بغريزة التدين فينا ، ونرى الأدلة عليه فينا ، وفي العالم من حولنا ، فالعقل الباطن يؤمن بوجوده بالحدس ، والعقل الواعي يؤمن بوجوده بالدليل .
إن الواحد منا لا يعرف نفسه قبل بلوغه الرابعة من عمره ، لا يذكر أحد منا مولده . من يذكر مولده ؟ من يذكر لمّا كان في بطن أمه ؟ فإذا كان موجوداً قبل أن يعلم بوجوده ، فهل يمكن أن يقال أنه (1) هو الذي أوجد نفسه ؟ سل هذا الكافر الملحد - إن لقيته - وقل له : هل خلقتَ أنت نفسك بإرادتك وعقلك ؟ هل أنتَ الذي أدخلت نفسك في بطن أمك ؟ وهل أنت الذي اختار هذه المرأة لتكون أمّاً ؟ وهل أنت الذي ذهب بعد ذلك فجاء بالقابلة لتخرجك من هذا البطن ؟ فهل خُلق من العدم بلا فاعل ولا خالق ؟ هذا مستحيل .
( ديكارت ) لما جرّب مذهب الشك الذي اشتهر به (2) وشك في كل شيء ، وصل إلى نفسه ، فهل يستطيع أن يشك فيها ، لأنه هو الذي يشك ولا بد في الشك من شاكّ ، لذلك قال كلمته المشهورة ( أنا أفكر فأنا موجود ) (3) ، موجود لا شك في وجوده ، فمن أوجده ؟ هل أوجدته هذه الكائنات المادية التي كانت من قبله الجبال والبحار والشمس والكواكب ؟ إنها جمادات لا عقل لها ، وهو عاقل ، فهل يمنح العقل من ليس بعاقل ؟ هل يعطي الشيءَ فاقدُه ؟ .
وهذا هو موقف إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام ، لما رأى أباه ( وكان مَثَّالاً ) ينحت الأصنام بإزميله ، يعمل من الحجر صورة ، فيتخذها هو وقومه آلهة ! حجر تصنعه يد الإِنسان ثم تعبده ؟! إله أخلقه وأطلب منه أن يخلق لي ما أريد ؟! هذا أمر لا يقبله العقل ، فأين هو الإله الحق إذن ؟ .
وذهب يبحث ويفكر ، وأدركه الليل ، وطلع عليه النجم برّاقاً لامعاً عالياً ، لم يخرج من الأرض كالصخرة التي تُصنع منها التماثيل ، لم يعمله الإنسان بيده ثم يعبده ، فقال بأنه وجد الإِله الذي يبحث عنه ، وإذا بالقمر يطلع فيختفي النجم ، ويرى القمر أكبر في النظر وأضوأ ، فيقول بأنه القمر هو الإله ، ويرقبه الليل كله ، فإذا بالشمس تطلع فتطفئ شعلة القمر ، وتفيض النور على الأرض ، فيقول هذا هو الإِله ، ولكن الشمس تأفل ( تذهب ) وتدع الأرض في الظلام ، فما هذا الإِله الذي يمضي ، ويتخلى عن ملكه ؟!! كلا ليست الشمس إلهاً خلقني ، ولا هذه الموجودات آلهة ، ولا أنا الإله ، أنا ما خلقت نفسي ، ولا خُلقت من غير شيء ، فلم يبق إلا احتمال واحد ، هو الصحيح ، هو الحق وما عداه الباطل : هو أن وراء هذه الجمادات كلها إلهاً قادراً عظيماً هو الذي أوجدها وأوجدني وأوجد كل شيء (1)
___________
(1) وما شك إبراهيم في الله ولكنه تعليم للناس .
_________________


هذا الدليل هو الذي عرض له القرآن في جملة واحدة ، هي معجزة من معجزات البيان الرباني ، ضربة قاضية على من يخضع للعقل ، ويحترم التفكير من الملحدين ، هي قوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ؟! } .
هذا الدليل هو الذي عرض له القرآن في جملة واحدة ، هي معجزة من معجزات البيان الرباني ، ضربة قاضية على من يخضع للعقل ، ويحترم التفكير من الملحدين ، هي قوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ؟! } .
كان السخفاء من الملحدين ، من أرباع المتعلمين ، يقولون : ( الطبيعة ) ، الطبيعة أوجدت الإِنسان ، الطبيعة وهبت العقل للإِنسان . وكان من المعلمين من يقول لنا هذا ونحن صغار ، في أيام الحرب الأولى وفي أعقابها ، من المعلمين الذين شموا رائحة التمدن الجديد ، من ( إسطنبول ) أولاً ( وباريس ) ثانياً ، فحسبوا أنهم صاروا يعَدّون بذلك من ( المنوّرين ) ، وكانت كلمة ( المنورين ) في تلك الأيام ، مثل كلمة ( التقدميين ) الآن . ولكل زمان ألفاظ يضحكون بها علينا .
وكبرنا بعد ، وسألنا : ( ما الطبيعة ؟ ) إن كلمة الطبيعة في اللغة على وزن ( فعلية ) وهي بمعنى ( مفعولة ) ، فإن كانت مطبوعة فمن ( طبعها ) ؟ .
قالوا: الطبيعة هي المصادفة .. قانون الاحتمالات .
قلنا : هل تعرفون ما مثال هذا الكلام ؟ .
مثاله : اثنان ضاعا في الصحراء ، فمرا على قصر كبير ، عامر ، فيه الجدران المزخرفة المنقوشة ، والسجاد الثمين ، والساعات والثريات .
قال الأول : إن رجلاً بنى هذا القصر وفرشه .
فرد عليه الثاني وقال : أنت رجعي متأخر ، هذا كله من عمل الطبيعة !! .
قال : كيف كان بعمل الطبيعة ؟ .
قال : كان هنا حجارة فجاءها السيل والريح والعوامل الجوية فتراكمت ، وبمرور القرون بالمصادفة ، صارت جداراً !! .
قال : والسجاد ؟ .
قال : أغنام تطايرت أصوافها ، وامتزجت ، وجاءتها معادن ملونة ، فانصبغت وتداخلت فصارت سجاداً !! .
قال : والساعات ؟ .
قال : حديد تآكل بتأثير العوامل الجوية ، وتقطع دوائر وتداخل ، وبمرور القرون صار على هذه الصورة !!
ألا تقولون إن هذا مجنون ؟
وإن الذي يثلج صدر المؤمن ، أن هذه المقالات التافهة كالطبيعة والمصادفات وأمثالها ، قد انقطع ورودها على ألسنة العلماء ، ولم يبق من قائل بها إلا أشباه العوام ، ممّن يدّعون العلم وليسوا من العلماء .


الله رب العالمين :
إذا جاءك من يقر بأن الله هو الخالق ، وهو الرب ، فهل تعتبره بهذا وحده من المؤمنين ؟ .
لا .. إن ذلك وحده لا يكفي ، لأن أكثر الأمم القديمة كانت تقول به ، كفار قريش ، الذين بُعث محمد صلى الله عليه وسلم لإنكار شركهم ، وتسفيه عقائدهم ، وكُلّف بحربهم ، كانوا إذا سئلوا عنه اعترفوا به ولم ينكروه .
بل إن إبليس - وهو شر الخلق - ما أنكر أن الله ربه ، تنبهت إلى هذا من قوله : { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي .. } ، وقوله : { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي .. } .
فهو مقر بأن الله ربه ! .


الله مالك الكون :
والقضية الثالثة : أن الله هو مالك الكون ، يتصرف فيه تصرف المالك الحر بملكه . يحيي ويُميت ، هل تقدر أن تدفع عن نفسك الموت ، وتمنحها في الدنيا الخلود ؟ يمرض ويشفي ، هل تقدر أن تشفي من حرمه الله الشفاء ؟ يمنح المال ويبتلي بالفقر ، يبعث السيول ويصيب بالجفاف ، كان في السنة الماضي فيضانات في شمالي إيطاليا ، جرفت المدن ، ودمرت العمران ، وكان في ذلك الوقت في الهند جفاف يبس معه الزرع ، وهلكت الماشية ، وصار توزيع الماء بالبطاقات .
فمن زاد الماء على هؤلاء حتى شَكَوْا منه ، وحرمه أولئك حتى تمنَّوه ؟ من يعطي هذا بنات وهذا بنين ، ويجعل من يشاء من الناس عقيماً ؟ هل يستطيع من رُزق البنات أن يحوّلهن إلى بنين ، ومن كان عقيماً أن ينجب الولد ؟ .
هو يكتب الموت على ناس وهم أطفال ، ويمد في عمر ناس حتى يصيروا شيوخاً . يبعث موجة البرد والصقيع على بلد ، ويبعث موجة الحر على بلد ، ويصيب بلداً بالزلازل . أمور مشاهدة ، لا يملك الإِنسان لها دفعاً ولا منعاً .


الإله المعبود :
لذلك يقر أكثر الناس بأنه هو مالك الملك ، المتصرف بالكون ، ولكن هل يكفي هذا ليكون مؤمناً ؟ .
لا .. بل لا بد معها من القضية الرابعة ، وهي أنه وحده الإِله المعبود . إذا اعترفت بأن الله موجود ، وأنه رب العالمين ، وأنه مالك الملك ، فلا تعبد معه غيره ، ولا تقابل غيره بأي صورة من صور العبادة ، وقد أراني الله معنى لسورة الناس ، فيه رد على من يقر بوجود الله وبربوبيته وملكه ، ولكنه لا يوحّده توحيد الألوهية ، معنى لم أجد من المفسرين من ذكره ، وأرجو أن يكون صواباً .
يقول الله عز وجل :
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلَهِ النَّاسِ } .
فلماذا كرر لفظ الناس ، وعمد إلى الإِظهار بدلاً من الإِضمار ؟ فلم يقل مثلاً : ( رب الناس ، وملكهم ، وإلههم .. ؟! ) . الذي ظهر لي : كأن ربنا - والله أعلم - يقول لهم : ( هذه ثلاث قضايا ، متماثلة متكاملة ، كل قضية مستقلة بنفسها ، مع ارتباطها بأختها . فهو { ربُّ النّاسِ } أي خالقهم وحافظهم ، وهو : { مَلِك النّاسِ } أي مالكهم المتصرف فيهم ، وهو : { إله النّاسِ } أي المستحق وحده لعبادتهم ، ولا يجوز أن يكون له شريك فيها ... ومقتَضى ذلك أن تصدقوا بالقضايا الثلاث ، أو أن تنكروا القضايا الثلاث ، فما بالكم : تصدقون بالأولى والثانية ، وترفضون الثالثة ؟ كيف تفرّقون بين المتماثلات ؟ فتقبلون بعضاً وتأبون بعضاً ؟ والثلاث سواء في الثبوت ، لا سبيل إلى التفريق بينها في الحكم ؟ .

عَرَبِيّة
05-13-2010, 09:21 AM
تَوحيدُ الألوهِيَّةِ
الإيمان بأن الله رب العالمين ، وأنه مالك الكون ، عمل من أعمال القلب ، عقيدة يعتقدها الإِنسان ، أما الإِيمان بأنه الإِله ، فلا يقتصر على الاعتقاد ، بل يتعداه إلى السلوك والعمل ، وإلى القيام بالعبادة ، وإفراد الله بها ، فإن استنكف عن عبادته أو عبد معه غيره لم يكن مؤمناً ، وإن صدق واعتقد أن الله هو رب العالمين ، ومالك الكون .


فما هي العبادة ؟
(( اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال و الأفعال الظاهرة و الباطنة ))


روح العبادة :
والعبادة لها روح ولها جسد ، فروحها العقيدة التي دفعت إليها ، والغاية التي عملت من أجلها ، وجسدها عمل الجوارح ، من لفط اللسان ، وحركات الجسم . الصلاة مثلاً حركات وألفاظ ، قيام وقعود ، وركوع وسجود ، وتلاوة وذكر وتسبيح ، لكن هذا كله جسد الصلاة ، فإن لم يكن الدافع اليه توحيداً صحيحاً ، وعقيدة سليمة ، ولم يكن المقصود به امتثال أمر الله ، وطلب رضاه ، كانت الصلاة جسداً ميتاً لا روح فيه .


الأساس في توحيد الألوهية :
الأساس أن نعتقد أن الله وحده هو النافع وهو الضار ، ولا بد لهذا من شيء من البيان : الله خالق كل شيء ، أوجد العوالم ، وبث فيها من كل شيء ، وأعطانا العقول وقال لنا : فكروا بعقولكم في هذه الأشياء التي خلقتها ، وانظروا ماذا في السموات والأرض ، فنظرنا فوجدنا أن الله الذي خلق هذه الأشياء ، قد سلط بعضها على بعض ، فالنار إذا مست الشجرة اليابسة أحرقتها ، والماء إذا صب على النار أطفأها ، والبعوضة (1) إذا لدغت الإِنسان أصابته بالبرداء ( الملاريا ) ، والمادة التي في قشور شجرة ( الكينا ) إذا دخلت جسد المريض شفته من البرداء .
وأنه جعل بين هذه الأشياء روابط ، وجعل اجتماعها بمقادير قدّرها ، وامتزاجها بنسب عيّنها ، ينتج عنه أشياء جديدة ، فـ ( الكلور ) وهو مادة مؤذية ، و ( الصوديوم ) وهو مادة مؤذية ، إذا اجتمعا كان منهما مادة نافعة لا بد للإِنسان منها ، ولا يستغني عنها وهي ملح الطعام (( كلوريد الصوديوم )) .
1- ووجدنا أن الروابط والعلاقات تتبع كلها قواعد ثابتة ، وأساليب معينة ، لا تتبدل ولا تتغير هي سنن الله في الكون ، التي اصطلحنا على تسميتها ( قوانين الطبيعة ) .
2- وأن هذه الروابط بين الأشياء التي سميناها قوانين الطبيعة ، لسيت كلها كالعلاقة الظاهرة بين النار والخشب الذي نحرقه ، والنار والماء الذي يطفئها ، ليست كلها بهذه ( البساطة ) (1) وهذا الظهور ، بل إن أكثرها أدق وأعمق .


ومن قرأ كتاب ( التلميذة الخالدة ) (1) ، علم كيف احتاج استخراج ( غرام الراديوم ) إلى تصفية ركام هائل كالتل الصغير ، من مواد مختلفة ، وإجراء العمليات المتعاقبة عليها ، التي استمر إجراؤها سنين .
___________
(1) قصة مدام كوري وزوجها . وأرجو أن يقرأ الطلاب هذا الكتاب ، ليروا كيف يكون الصبر على تحصيل العلم . وفي سير علمائنا الأولين مئات الأمثلة على مثل هذا الصبر ، وعلى الإخلاص للعلم والجد فيه
__________________


3- ولم نكتشف إلى الآن من هذه النواميس الكونية التي وضعها خالق الكون إلا قطرة من بحر ، رأينا فيها العجب العجاب ، وصنفنا هذا القليل الذي كشفناه في زمر وأصناف سميناها ( علوماً ) .
4- ووجدنا أن في هذا الكون أشياء تضرّنا وأشياء تنفعنا ، وأن النفع والضرر على نوعين , (منه ما يكون بسبب ظاهر تطبيقاً لقانون من قوانين الطبيعة ، التي كشفناها , منه ما يكون بغير سبب ظاهر ، ولا يستند إلى قانون معروف ) .
5- والله قد فطر الإنسان على جلب النفع ، فهو يتخذ لجلبه كل وسيلة ، وفطره على كُره الضرر ، وهذه الاستعانة منها ما يجوّزه الدين ، ومنها ما يمنعه ، ويراه منافياً للإِيمان .
(( مثال الوسائل المشروعة : الطب , الدعاء
وسائل ممنوعة : الدجل و السحر , الوقوف على القبور و الإستعانة بالأموات )) .
فتبين من هذا أن الاستعانة بقوانين الطبيعة ، والرجوع إلى الرجل العالم بها ، واتخاذ الأسباب المعتادة لحصول النفع ، كل ذلك جائز مشروع ، على أن نذكر أن النافع في الحقيقة هو الله تعالى وحده دون سواه . وأن الاستعانة بقوة غيبية مزعومة ، لم يؤيدها العلم التجريبي ولم يثبتها الدليل السمعي ، إنما هي استعانة ممنوعة ، منافية لعقيدة التوحيد .

عَرَبِيّة
05-13-2010, 09:23 AM
التحليل والتحريم لله وحده
وهذه المنافع التي نصل إليها بتطبيق قوانين الطبيعة منافع دنيوية ، لأن الله سلط عقولنا على كشف هذه القوانين ، ولم يسلطها على كشف ما وراء المادة ، ولا على جلب المنافع الأخروية ، فنحن نعمل على جلب النفع ، ودفع الضرر ، في حدود المادة ، وفي هذه الدنيا ، ولا نملك لأنفسنا في العالم الآخر نفعاً ولا ضرراً .
التحليل والتحريم لله وحده
وهذه المنافع التي نصل إليها بتطبيق قوانين الطبيعة منافع دنيوية ، لأن الله سلط عقولنا على كشف هذه القوانين ، ولم يسلطها على كشف ما وراء المادة ، ولا على جلب المنافع الأخروية ، فنحن نعمل على جلب النفع ، ودفع الضرر ، في حدود المادة ، وفي هذه الدنيا ، ولا نملك لأنفسنا في العالم الآخر نفعاً ولا ضرراً .
ولما كان الله قد جعل للنفع الأخروي سبباً ، وهذا السبب هو عمل الواجب ، وجعل للضرر الأخروي سبباً ، وهذا السبب هو فعل الحرام ، كان التحريم والتحليل - الذي يترتب عليه الثواب والعقاب - لله وحده ، وليس لأحد أن يقول برأيه : هذا حلال وهذا حرام ، وليس لأحد أن يوجب أمراً لم يوجبه الله ، أو يحرّم أمراً لم يحرمه الله . ومن أعطى حق التحليل والتحريم لغير الله ، يكون قد عبده من دونه ، أو شاركه معه في عبادته (1) .
___________
(1) ولو أن مسلماً شرب الخمر وهو معتقد حرمتها معترف بذنبه ، وآخر ادعى أن شراب الليمون - مثلاً - حرام ، لكان ذنب من حرم الحلال بلا دليل أكبر من ذنب من ارتكب الحرام بلا إنكار لحرمته . ولقد قرن ذلك في القرآن بالشرك : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } .
___________


حب الله وخشية الله :
حب الله الذي يحسه المؤمن فهو حب غير مقيد ولا محدود ، بل إن ما نحبه في الدنيا ، إنما نحب فيه الخالق الذي خلقه وأوجده ، وسخّره لنا وأقدرنا على الانتفاع به ، أو التلذّذ بمرآه أو ملمسه .
والإنسان يخشى كثيراً من المخلوقات ، يخشى النار المشتعلة ، والوحش المفترس ، والسمّ المميت ، والظالم القوي . ولكنها خشية محدودة مقيدة ، هي البعد عن الضرر الكامن في المخوف ، أو الناشئ عنه ، فإذا أمن الضرر ذهب من نفسه الخوف . أما خوف الله فمطلق غير مقيد ولا محدود .
وحب الله والخشية منه ، هما من أسس التوحيد ، وهما روح العبادة .
إن حب الله بطاعته وإيثار مرضاته على شهوات النفس ووساوس الشيطان ، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء له : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي .. } فالاتباع هو مقياس الحب . وخوفه باجتناب محرماته ، وإيثار لذة الثواب في الآخرة ، على المعصية في الدنيا .
..... الطاعة المطلقة لله ، والطاعة في كل شيء ، الطاعة فيما يسرنا ويسوءُنا ، فيما نفهم حكمته وما لا نفهم حكمته . وهذه الطاعة هي ثمرة حب الله ، وهي الدليل عليه .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 07:30 AM
آيات الصفات
لقد وصف ربنا نفسه في القرآن بالفاظ موضوعة في الأصل للدلالة على معانٍ أرضية ، ومقاصد بشرية ، مع أن الله ليس كمثله شيء ، وهو الرب الخالق ، تعالى على أن يشبه المخلوقين ، ولا يمكن أن تفهم هذه الألفاظ حين إطلاقها على الله ، بالمعنى نفسه الذي تفهم به حين إطلاقها على المخلوق .
نحن نقول فلان عليم ، وفلان بصير ، ونقول إن الله عليم ، بصير ، ولكن الكيفية التي يَعلَم بها العبد ويبصر ، ليست هي التي يعلم بها ربنا ويبصر . وعلم العبد وبصره ليس كعلم الله وبصره . كذلك نقول استوى المعلم على منبر الفصل ، ونقول استوى الله على العرش ، نحن نعرف معنى الاستواء ( القاموسي ) ونطبقه على المعلم ، ولكن هذا المعنى لا يمكن أن يكون هو بذاته المقصود حين نقرأ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } .
هذا كله متفق عليه بين العلماء ، فهم جميعاً مقرون بأن آيات الصفات هي كلام الله . فإذا قال الله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ، لم يستطع أحد أن يقول : ما استوى .
وهم جميعاً معترفون بأن المعنى ( القاموسي ) البشري لكلمة ( استوى ) ليس هو المراد من قوله { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } .
ولكنهم مع ذلك اختلفوا اختلافاً كبيراً ، في المراد المقصود ، بعد اتفاقهم على ترك التعطيل والتشبيه ، تساءلوا :
هل هذه الآيات حقيقة أم مجاز ؟ .
وهل تؤوّل أم لا تؤوّل ؟ .
أما الذين أوّلوا فقالوا بأن الحقيقة هي استعمال اللفظ بالمعنى الذي وضع له . وهذا هو تعريف الحقيقة عند عامة علماء البلاغة ، ولا شك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن ، وُضعت فيه هذه الألفاظ قبل نزول القرآن ، ووضعت لمعانٍ أرضية مادية ، حتى إنها لتعجز عن التعبير عن العواطف والمشاعر البشرية ، فضلاً عن التعبير عن صفات الله خالق البشر ، فإن مظاهر الجمال وأشكاله لا حدَّ لها ، وما عندنا لها كلها إلا كلمة ( جميل ) ، وأين جمال المنظر الطبيعي ، من جمال القصيدة الشعرية ، من جمال العمارة المزخرفة ، من جمال الغادة الحسناء ؟ وفي النساء ألف لون من ألوان الجمال ، وما عندنا لها كلها إلا هذا اللفظ الواحد ، فاللغات تعجز عن وصف الشعور بالجمال .
وكذلك القول في الحب ، في تعداد أنواعه ، واختلاف مشاعره ، وضيق ألفاظ اللغة عن وصف هذه الأنواع ، ونعت هذه المشاعر ، فكيف تحيط بصفات الله وتشرح كيفياتها ؟ .
وإذا كانت الحقيقة هي ( استعمال اللفظ فيما وضع له ) ، وكانت ألفاظ : ( استوى - وجاء - وخادع - ويمكر - ونَسِيَهم ) إنما وضعت للمعاني الأرضية البشرية المادية ، وكان استعمالها في القرآن في قوله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { وَجَاءَ رَبُّكَ } { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } { وَيَمْكُرُ اللَّهُ } وقوله { فَنَسِيَهُمْ } في غير هذا المعنى المادي الأرضي البشري الذي وُضعت له ، لم تكن إذن ( حقيقة ) بمقتضى تعريفهم هذا للحقيقة .
ومن ينكر أنها مجاز ، ومنهم ابن تيمية ، يعرّف ( الحقيقة ) تعريفاً آخر خاصاً به ، غير التعريف الذي جرى عليه البلاغيون ، ويقول ما معناه : إن تأويل هذه الألفاظ ، أي تفسيرها تفسيراً مجازياً ، والجزم بأنه هو المراد مردود ، لأن المعاني المجازية هي أيضاً معانٍ بشرية .
ولقد نظرت فوجدت أن هذه الآيات على ثلاثة أشكال :
1- آيات وردت على سبيل الإخبار من الله
كقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . فنحن لا نقول : إنه ما استوى ، فنكون قد نفينا ما أثبته الله . ولا نقول : إنه استوى على العرش ، كما يستوي القاعد على الكرسي ، فنكون قد شبهنا الخالق بالمخلوق ، ولكن نؤمن بأن هذا هو كلام الله ، وأن لله مراداً منه لم نفهم حقيقته وتفصيله ، لأنه لم يبيّن لنا مفصلاً ، ولأن العقل البشري - كما قدمنا - يعجز عن الوصول إلى ذلك بنفسه .
- آيات وردت على الأسلوب المعروف عند علماء البلاغة بالمشاكلة
والمشاكلة هي كقول القائل:
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه ... ... فقلت اطبخوا لي جُبّةً وقميصاً
وقول أبي تمام في وقعة عمّورية ، يرد على المنجمين الذي زعموا أن النصر لا يجيء إلا عند نضج التين والعنب :
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت ... ... جلودهم قبل نضج التين والعنب
والآيات الواردة على هذا الأسلوب كثيرة ، كقوله تعالى : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } .
فكلمة (نَسُوا ) جاءت على المعنى ( القاموسي ) للنسيان ، وهو غياب المعلومات عن الذاكرة ، ولكن كلمة (فَنَسِيَهُمْ ) جاءت مشاكلة لها ، ولا يراد منها ذلك المعنى ، لأن الله لا ينسى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } .
ونقول بعبارة أخرى :
إن كلمة ( نسوا ) استعملت بالمعنى الذي وضعت له ، وكلمة (فَنَسِيَهُمْ) استعملت بغير هذا المعنى .
ومثلها قوله { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } اتفق الجميع على أنها معيّة علم لا معيّة ذات ، لأن صدر الآية ينص على أن الله استوى على العرش .
ومثلها قوله { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ } ، وقوله { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ } ، وقوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } .
كل هذه الآيات لا يجوز فهمها بالمعنى القاموسي ، المادّي ، بل بمعنى يليق به جلّ وعلا .
3- آيات دلت على المراد منها آيات أخرى ، كقوله تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } .
تدل على المراد منها آية :
{ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } .
ويفهم منها أن بسط اليد يراد به الكرم والجود ، ولا يستلزم ذلك ( بل يستحيل ) أن يكون لله تعالى يدان كأيدي الناس والحيوان ، تعالى الله عن ذلك .
وقد جاء في القرآن قوله :
{ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } ، و { بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } ، والقرآن { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ } .
وليس للرحمة ولا للعذاب ولا القرآن ، يدان حقيقيتان .
المحكم والمتشابه :
بيّن الله في القرآن ، أن فيه آياتٍ محكمات ، واضحة المعنى ، صريحة اللفظ ، وآيات وردت متشابهات ، وهي التي لا يَضِحُ (1) المعنى المراد منها تماماً ، بل تكثر أفهام الناس لها ، وتتشابه تفسيراتها حتى يتعسر أو يتعذر معرفة المراد منها ، وآيات الصفات منها ، وأن على المؤمن ؛ أن لا يطيل الغوص في معناها ، ولا يتتبعها فيجمعها ، ليفتن الناس بالبحث فيها (2) .
موقف المسلمين منها وكيف فهموها :
المسلمون الأولون ، وهم سلف هذه الأمة ، وخيرها وأفضلها ، لم يتكلموا فيها ، ولم يقولوا إنها حقيقة ، ولم يقولوا إنها مجاز ، ولم يخوضوا في شرحها ، بل آمنوا بها كما جاءت من عند الله على مراد الله .
فلما انتشر علم الكلام ، وأُوردت الشبه على عقائد الإِسلام ، وظهرت طبقة جديدة من العلماء انبرت لرد هذه الشبه ، تكلم هؤلاء العلماء في آيات الصفات ، وفهموها على طريقة العرب ، في مجاوزة المعنى الأصلي للكلمة إذا لم يكن فهمها على طريقة العرب ، في مجاوزة المعنى الأصلي للكلمة إذا لم يمكن فهمها به إلى معنى آخر ، وهذا ما يسمى : ( المجاز ) ، أو ( التأويل ) (1) .
وهو موضوع نزاع بين العلماء طويل . والحق أن هذه الآيات نزلت من عند الله ، من أنكر شيئاً منها كفر ، وأنّ من عطّلها تماماً ، فجعلها لفظاً بلا معنى كفر ، ومن فهمها بالمعنى البشري ، وطبّقه على الله ، فجعل الخالق كالمخلوق كفر . والمسلك خطر ، والمفازة مهلكة ، والنجاة منها باجتناب الخوض فيها ، واتباع سنن السلف ، والوقوف عند حد النص ، وهذا ما أدين الله به ، وما أعتقده .
_____________
(1) التأويل : من آل الأمر إلى كذا أي : صار ، وأوّله إليه ( على وزن فعّل ) أي : صيّره . ولفظ ( التأويل ) جاء في القرآن بمعنيين : تأويل لفظي : أي بيان ما ينتهي إليه معنى اللفظ : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } ، وتأويل عملي : أي بيان ما تنتهي إليه الحال { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } . ومن هنا فرق المتأخرون بين التأويل والتفسير ، فالتأويل ما بيّنا ، والتفسير كشف المعنى من فسر ( مثل سفر ) أي انكشف .
____________________

عَرَبِيّة
05-14-2010, 07:31 AM
مظاهر العبادة
القلب الذي يؤمن بأن النفع والضرر كله من الله ، وأن التحليل والتحريم لله ، وأن الحب المطلق والخوف المطلق والطاعة المطلقة لله ، يمتلىء عظيم الله ، ويستشعر معنى ( الله أكبر ) ، فيصغر معه كل شيء في جنب الله .
ولما كان في أعمال الإِنسان ما يدل على التعظيم المطلق ، كالدعاء والصلاة ، والركوع والسجود ، والنذر والذبح ، والتسبيح والتهليل ، فإن المؤمن لا يصنعها إلا لله ، فلا يصلي لسواه ، ولا يركع ولا يسجد إلا له ، ولا يقول لأحد غيره : سبحانك ، و لا يطلب غفران الذنوب إلا منه ، لأن هذه كلها من مظاهر التعظيم المطلق ، الذي هو سرّ العبادة .
المؤمن يتخذ الأسباب ، ثم يطلب المسبَّب من الله ، وما لا يعرف الناس له سبباً يطلبه من الله وحده ، يدعوه ويقول : " يا ألله " ، ويعتقد أن بابه مفتوح ، وأن إجابته حاصلة ، ولا يدعو غيره بدله ، ولا يدعو غيره معه ، ولا يتخذ غيره وسيطاً في الدعاء بينه وبينه . هذا هو الدعاء الذي هو مخّ العبادة .


غاية العبادة :
قلت : إن للعبادة جسداً هو الألفاظ التي ينطق بها اللسان ، والأعمال التي تقوم بها الأعضاء ، ولها روح وروحها العقيدة التي دفعت إليها ، والغاية التي عملت من أجلها ، أي النتائج التي قصدها من عملها . وقد شرحت جانباً من هذه العقيدة ، وسألُمُّ الآن بطرف من هذه المقاصد .
المقصد الصحيح للعبادة : أن يكون الباعث عليها ، والمقصود بها رضا الله ، فلا نعملها للمال ، ولا للجاه ، ولا لنيل إعجاب الناس ، ولا نتخذها سلّماً إلى متع الدنيا ، ولا نريد بها الشهرة بالصلاح . وهذا المقصد الصحيح يسمى ( الإخلاص ) ، وما يداخله من المقاصد الأخرى يدعى ( الرياء ) ، والذي يحدّد المقصد من العمل هو ( النية ) . والله لا يسألنا يوم القيامة عن الأعمال فقط ، بل يسألنا : لماذا عملناها ؟ وقد يكون العمل صالحاً في ذاته ، ولكن لم يصح المقصد منه ، ولم تسلم النية ، ولم تكن خالصة لله ، فيتحول صلاحه إلى فساد ، وحسنه إلى قبح .
جميع أعمال الإِنسان النافعة تكون له بالنية عبادة ، فتشمل العبادة الحياة كلها ، ويكون المرء متعبداً في طعامه وشرابه ، وقيامه وقعوده ، وكسبه وزواجه ، ومن هنا يكون الفهم الصحيح لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } .
فتكون العبادة بهذا المعنى الشامل ، هي غاية الخلق .
____________
وتعريف النية هو أن تتصور العمل قبل أن تعمله ، وأن تعرف لماذا تعمله .
____________


الخلاصة :
فتلخص من هذا أن توحيد الألوهية ، وهو القسم الرابع ، والقسم الأخص من الإِيمان بالله ، هو أن نعتقد أن النفع والضرر كله من الله وحده ، فلا تطلب النفع إلا منه ، إما عن طريق السنن التي وضعها لهذا الكون المسماة بقوانين الطبيعة ، وإما منه رأساً بالدعاء ، تدعوه وحده ، لا تدعو غيره ، ولا تدعوه مع غيره ، ولا تتخذ اليه وسيطاً ، ولا تستعين إلا به بالأسباب التي جعلها طريقاً للنفع ، مع ملاحظة أنه هو النافع لا مجرد السبب ، وأن تخصه بالحب المطلق الدافع إلى الطاعة المطلقة ، والخشية الدافعة إلى اجتناب المحرمات ، وأن تخصه بالتعظيم المطلق ، وبكل ما يدل عليه من قول وعمل ، وأن تقصد رضاه وحده ، لا تقصد بعبادتك الدنيا وأهلها .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 07:33 AM
البحث العلمي
ولما كان الله قد أعطانا العقول ، وأمرنا بالنظر في أسرار الوجود ، وفي سننه العجيبة ، وقوانينه التي أوجدها فيه ، وكان علينا امتثال أمر الله ، كان درس العلوم الطبيعية ، واكتشاف أسرار الوجود عبادة ، بشرط ألاّ تقف عند معرفة القانون ، بل تفكر في الإله العظيم الذي أوجده ، فتزداد بهذا الفكر إيماناً بالله ، وإخلاصاً في عبادته ، وشرط آخر : هو أن تستعمل هذه الأسرار فيما ينفع الناس ، ويرضي الله ، لا فيما يضرهم ويؤذيهم ، ويسبب في الأرض الفساد .


شبهة وردها :
يسأل كثيرون : ما بال الكافر يعمل على ما ينفع الناس ، يوزع الصدقات ، ويبني الملاجىء والمستشفيات ، ويفتح المدارس ، ثم لا يكون له عندكم ثواب في الآخرة ؟ والرد : أن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر وأنثى ، ولا يحرم محسناً ثمرة إحسانه ، بل يعطيه ما يطلبه ، أليس الجزاء الأعظم أن تعطي المحسن ما يطلبه ؟ .
فإن كان المحسن مؤمناً ، مصدقاً بالآخرة ، وطلب ثوابها ، أعطاه الله ثواب الآخرة ، وإن كان ( هو نفسه ) لا يريد إلا الدنيا ، والشهرة ، والذكر الحسن ، وأن تكتب الجرائد عنه ، ويسجل التاريخ اسمه ، أعطاه ما يطلبه .
هو لا يريد الآخرة ، فلماذا تحزن أنت ، وتعترض إذا لم يمنح ثوابها ؟ .


جدال في غير طائل :
امتلأت كتب علم الكلام بالجدال : في ( الصفات ) و ( الذات ) .
ووجه الحق في هذه المسائل ، هو رفض البحث فيها ، والجدال عليها ، وهي ( إذا استعرنا لغة المحاكم ) دعوى مردوة شكلاً :
أولاً : لأن السلف وهم أفضل المسلمين وخيار هذه الامة ، من الصحابة والتابعين الكبار ، ما عرفوها ، ولا بحثوا فيها ، وكان دينهم أسلم وإيمانهم اصح ، وهم قدوتنا في ديننا .
ثانياً : لأن من يدقق في أقوال الفرق المختلفة ، يجدها كلها مبنية على أساس واحد ، هو قياس الخالق على المخلوقين ، وتطبيق منطق العقل البشري ، وأحوال النفس الإنسانية على الله . وذلك باطل ، لأن الخالق لا يشبه المخلوق ، ولأن الله ليس كمثله شيء .
ثالثاً : لأن هذه الامور كلها ، مما وراء المادة ، أي من عالم الغيب ، وقد تقدم في القاعدة الخامسة من قواعد الإِيمان ، أن العقل قاصر حكمه على عالم المادة ، لا يستطيع أن يحكم على ما وراء المادة ، ولا يستطيع أن يدركه .


وجه الحق فيها :
وأنا أدعو إلى شيء جديد ، شيء هو أقرب إلى الحق ، وهو أنفع لنا ، هو أن ننقل الموضوع من جدال في صفات الله ، إلى سلوك في الحياة .


وما مثل من يصنع هذا ومثل من يجادل في صفات الله ، إلا كمثل طلاب المدرسة ، الذين يقال لهم : إنها ستأتي لجنة عليا من الوزارة تتولى هي امتحانكم ، فالعاقل منهم يقول : إذا كانت هذه اللجنة ستتولى الامتحان ، فينبغي أن أستعد وأدرس ، ولا أدع من المنهج المقرر شيئاً لا أحفظه ، والأحمق يجادل في هذه اللجنة ، كيف يكون امتحانها ، هل تتولاه كلها أم أفراد منها ، وهل عددها ( شفع ) أم ( وتر ) ، وهل تجيء بالسيارة أم بالطيارة ، ولا يزال في هذا وشبهه حتى يأتي يوم الامتحان ، وهو لم يُعِدّ له شيئاً .


إن الله لا يسألنا يوم القيامة عن شيء مما بنى عليه المتكلمون جدالهم ، وأقاموا عليه مختلف مذاهبهم ، وملؤوا به كتبهم . ولو كان ذلك من شروط الإِيمان ، لبحث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فنتركه كله ، فإنه أثر من آثار الفلسفة اليونانية القديمة التي دالت دولتها ، وبطلت أكثر نظرياتها ، ووهت أدلتها ، وحل محلها في مسائل ( الميتافيزيك ) ما وراء المادة ، فلسفة جديدة ، لا تقل عنها ضلالاً وتخبّطاً في مهامه الظنون . فلنجعل كتاب الله إمامنا ، وليكن عليه اعتمادنا ، وما كان فيه من ذكر لأمور مغيَّبة لم يعرض إلا إلى جزء منها ، آمناً بما ظهر فيه لنا ، وفوّضنا ما خفي عنا إلى من أنزله علينا .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 07:54 AM
مَظاهِرُ الإِيمَانِ
التلميذ الذي يؤمن بأن الامتحان قريب ، لم يبق دونه إلا أسبوع ، ثم لا يستعد له ، ولا يهتم به ، بل يشتغل عنه باللهو واللعب ، لا يكون كامل الإِيمان بقرب الامتحان . والتائه الذي ترشده إلى الطريق الموصل ، فيصدقك ويؤمن بكلامك ، ثم يمشي إلى الشمال بدلاً من اليمين ، لا يكون تام الإِيمان بصدق المرشد . فالإيمان الكامل تبدو آثاره في أعمال المؤمن ، وفي سلوكه .

الإِيمان والعمل :
الإِيمان لا ينفك عن العمل .
ولذلك قرن الله الإِيمان بالعمل الصالح : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ... } . { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ... } . { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ... } . { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ... } .

الإِيمان يزيد :
مِن العلماء مَنْ نظر إلى الإِيمان ، باعتباره عقيدة ، لا تقبل التجزئة ، فلا يكون المرء إلا واحداً من اثنين : مؤمناً ، أو كافراً ، ولا توسط بينهما ، فذهبوا إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص .
ولكن الجمهور نظر إليه ، مقروناً بالعمل الصالح ، فرأوه يزيد بازدياده ، وهذا هو الحق الذي وردت به النصوص القاطعة ، قال تعالى : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } . { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } . { وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } .

ترك العمل لا يكفر :
والعلماء من أهل السنة متفقون على أن مجرد ارتكاب المحرم من غير إنكار لحرمته ، وترك الواجب من غير إنكار لوجوبه ، ولا استخفاف به ، يعرّض صاحبه لعذاب الآخرة لكنه لا يكفّر صاحبه ، ولا يخلده في النار .

وما ورد في الحديث ، من أن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن ، معناه أنه لا يكون ساعة الزنا ذاكراً أن الله مطلع عليه ، ولو ذكر ذلك لمنعه منه حياؤه من الله . ولو أن فاسقاً أعد عُدّة الزنا ، وهَمَّ ، فرأى أباه يطل عليه ويراه ، هل يستطيع أن يمضي فيه ، أم يمنعه منه الحياء من أبيه ؟ فكيف لا يمنعه الحياء من الله ، وهو ذاكر أنه يراه ؟



ثمرات الإِيمان
لخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الحديث الصحيح , في قوله في تعريف الإِحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

الذكر :
وما أمر الله بشيء في القرآن ما أمر بالذكر ، ولا أثنى على أحد ما أثنى على الذاكرين . والذكر في لسان العرب الذي نزل به القرآن ذكران : ذكر القلب ، وذكر اللسان ، وكلاهما ورد في القرآن .
من ذكر القلب قوله : { فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } أي : أن أتذكره ويخطر على بالي . ومنه :
{ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ ... } . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } .
ومن ذكر اللسان قوله : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ... } . { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... } . { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ... } . { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
فاذا أردت أن تتحقق لك صفة الذاكر ، فتذكر بقلبك (1) ( أي : بعقلك ) وأنت وحدك ، وأنت في الملأ ، وأنت في السوق ، وأنت في الطريق ، وتذكر في كل وقت ، وعلى كل حال ، أن الله يراك ، فلا تعمل إلا ما يرضيه ، فإن أدّيتَ واجباً فاذكر أنك تؤديه امتثالاً لأمره ، وإن تركت محرماً فاتباعاً لنهيه ، وإن عملت مباحاً فاقصد به وجهاً تستحق به الثواب ، وإن عرض لك طريقان ، فاختر منهما ما يدنيك من الجنة ويباعدك عن النار ، وإن نسيت فأذنبت ذنباً ، ثم تذكّرت فتب منه ، واطلب العفو عنه .
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } .

واذكر بلسانك ، فإن أفضل الذكر ذكر اللسان مع حضور القلب ، فإن كان الفكر غائباً لا يعي ما يقول اللسان ، كان ذكره كلاماً بلا معنى ، كذكر بياع الكعك في الشام ينادي : ( الله كريم ) ، لا يقصد ذكر الله ، ولكن بيع الكعك ، وذكر بياع الخسّ ينادي : ( الله الدايم ) .
وربما كان ذكر اللسان معصية . كمن يسمّي الله على شرب الخمر ، ومن يذكر الله في أغاني الفسوق التي تغنيها المغنيات ، فإن قصد بذلك الهزء ، أو دلت عليه دلالة ظاهرة ، كان ذكره هذا كفراً . وأفضل الذكر تلاوة القرآن ، إلا في المواضع التي عيّن لها الشارع ذكراً خاصاً ، كالتسبيح في الركوع والسجود مثلاً ، والذكر المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما ما يسمى في أيامنا بحفلات الذكر ، وكان يعرف عند علمائنا بالرقص لما فيه من القيام والركوع ، والانحناء والاستواء ، بحركات موزونة ، ونغمات معروفة ، ولا يُنطَق فيه بتهليل ولا تحميد ، بل بأصوات مبهمة مثل : ( آه ) و ( أح ) ، ففي حاشية ابن عابدين (1) - وهي عمدة المذهب الحنفي - أنه حرام ، إلا إذا فعله مغلوباً على أمره ، غائباً عن حسه ، لم يتعمده ولكن حملته عليه سيطرة العاطفة ، وفرط الوَجْد ، فإن استحله قد يُحكم بكفره .
___________
(1) الجزء الثالث - صفحة ( 307 ) من الطبعة الأميرية .
_________________


بين الخوف والرجاء
وأن يكون المؤمن بين الخوف من عقاب الله ، والرجاء لعفوه ، يذكر أن الله سريع الحساب وأنه شديد العقاب ، فيغلب عليه الخوف ، ويذكر أنه عفوّ رحيم وأنه أرحم الراحمين ، فيغلب عليه الرجاء .
فإن ملأ قلبه الخوف وحده ، يكون قد يئس من رحمة الله : { إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } .
وإن ملأ قلبه الرجاء وحده ، يكون قد أمن مكر الله : { فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .
إن الخالق لا يشبه المخلوق ، والخوف منه ليس كالخوف من مخلوقاته ، فأنت تخاف من الأسد الذي يواجهك كاشراً عن أنيابه ، مالئاً الجو بزئيره ، وأنت وحدك أمامه أعزل بلا سلاح ، ولكن خوف الله ليس كخوف الأسد ، لأن الأسد يمكن درء خطره عنك ، ولو أرادك به ، والله رب الأسد وخالقه ، لا يمكن دفع قضائه إذا كتبه عليك .
فالمؤمن ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء ، إذا وقف في الصلاة فقال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } . استشعر الرجاء ، وإن قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أحسّ الخوف .
وأكثر المسلمين اليوم ، غلّبوا الرجاء على الخوف ، والأمل بالعفو على توقي العقاب .
على أن المسلم إذا أتى الفرائض واجتنب المحرمات يكون من الخائفين المتقين ، لكنه يخسر الدرجات العالية في الجنة ، فهو كالتلميذ الذي يحصل أقل درجات النجاح ، لا يرسب في فصله ، ولكن لا ينال تقديراً ولا مكافأة ، ويكون نجاحه ( وسطاً ) ، لا ( جيداً ) ، ولا ( ممتازاً ) .

التوكل
قال الله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا } .
وقال : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } .
فما هو التوكل ؟ وما حقيقته ؟ لقد تقدم القول بأن الله جعل فيما خلق من الأشياء النافع والضار ، وجعل من سنن الكون ما هو سبب للنفع ، وما هو سبب للضرر ، فهل التوكل على الله ترك الأسباب ؟ .
لقد كان في المتصوّفة من يرى التوكل في ترك السبب ، لا يعمل لتحصيل الرزق ، وينتظر أن يصل إليه رزقه بلا عمل ، ويدع مريضه بلا تطبيب ، ويرجو أن يناله الشفاء بلا دواء , ويدع طلب العلم ، ويعتقد أن العلم يأتيه بلا طلب (1) ....
وهذا مخالف للشرع ، فالشرع يقول : { فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } .
ويقول : " يا عباد الله تداووا " ، ويقول : { وَتَزَوَّدُوا } ، ويقول : " طلب العلم فريضة " ، فمن ترك طلب العلم وزعم أنه يأتيه فقد خالف الشرع والطبع .
ومن الأجانب الذين يعيشون بالمادة وحدها ، وللمادة وحدها ، من يعتقد أن الأسباب هي التي تصنع المسبَّبات ، وأن الدواء يشفي بذاته ، والسعي هو الذي يوصل وحده إلى النجاح . وهذا مخالف للواقع ، فإنه قد يوجد السبب ولا يوجد المسبَّب ، قد يحصل التداوي ولا يكون الشفاء ، وقد يكون في المستشفى مريضان في غرفة واحدة ، المرض لديهما واحد ، والطبيب واحد ، والدواء واحد ، فيموت الأول ، ويبرأ الثاني .
فلا الأسباب وحدها توجد المسبَّب حتماً ، ولا إهمالها يجوز عقلاً ، بل الذي يدعو إليه العقل ، ويأمر به الشرع ، هو أن يتخذ المرء الأسباب كلها ، ثم يسأل الله تحقيق النتائج . قيِّد الناقة وتوكَّلْ على الله في حفظها ، واقرأ دروسك كلها وتوكل على الله ، واسأله النجاح في الامتحان .
هذا هو التوكل الحقيقي ، ليس التوكل في إهمال الاسباب ، وتعطيل سنن الله في الكون ، ولا في نسيان أن الله هو النافع الضار ، وابتغاء النفع ( حقيقة ) من سواه .
_____________
1) واحتجوا خطأ بقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } مع أنها جملة من آية ، من قرأها كلها أدرك أنها لا تؤدي هذا المعنى . ولو فرض أنه يحتج بهذه الجملة وحدها ، وأن العلم يكون بالتقوى بلا تعلم ، فإنه يرد عليهم أن التقوى إنما تكون بفعل المأمور به شرعاً ، ومن المأمور به طلب العلم ، فمن لم يعمل بهذا الأمر لا يكون تقياً .
____________________



الشكر
ويكون بعد ذلك راضياً عن الله ، مهما منعه أو أعطاه ، فيتحقق بصفة الشكر .
{ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ... } . { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } .
والشكر من ثمرات الإِيمان ، وإذا أحسن إليك عبد من عباد الله فلم تشكره ، كنت مقصراً عنه ، مسيئاً إليه ، مع أنه واسطة ، والمحسن الحقيقي هو الله . فكيف لا تشكر الله ، والله هو الذي أنعم عليك بنعمة السمع والبصر ، والصحة والأمن ، وسخر لك ما في الارض ، وأعطاك من النعم ما لا تستطيع عدّه ولا إحصاءه ؟ إن الإِنسان لا يعرف قيمة النعمة إلا عند فقدها ، إن وجعه ضرسه رأى أعظم النعم في زوال الألم ، فإن زال عنه نسي هذه النعمة . وإن احتاج يوماً إلى دينار ولم يجده عرف نعمة الغنى ، فإن هو استغنى نسيها . وإن انقطع التيار الكهربائي ، وشمل الدار الظلام عرف نعمة النور ، فإن وجده لم يعد يدرك قَدْره .

تشكر الله بلسانك بحمده والثناء عليه ، فتقول : ( الحمد لله .. ربِّ لك الحمد ) . وتشكر الله بعملك فتفيض من هذه النعم على من حُرِم منها ، وشكر الغني أن يعطي الفقير ، وشكر القوي أن يساعد الضعيف ، وشكر صاحب السلطان أن يقيم الحق ويسير بالعدل . فإن كنت من ذوي اليسار ، وكان على مائدتك خمسة ألوان ، وكان جارك جَوْعان ، فلم تعطه شيئاً لم تكن من الشاكرين ، ولو قلت بلسانك ألف مرة : ( الحمد لله ) . وتشكر الله بقلبك فتكون راضياً عنه ، قانعاً بما قسم لك ، لا تسخط ولا تستقل النعم ، ولا تحسد أحداً على ما أعطاه الله .

فمن جمع شكر القلب بالرضا عن الله ، وشكر العمل بأن يفيض على المحرومين من فضل النعم ، وشكر اللسان بأن يكثر من حمد الله ، كان من الشاكرين حقاً .

الصبر
والمسلم بين نعمتين ، إن أصابه خير فشكر كان له أجر ، وإن مسه ضر فصبر كان له أجر ، فلا يعدل أجر الغني الشاكر ، أو يزيد عليه ، إلا أجر الفقير الصابر .
{ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وهذه الحياة الدنيا ، ليست دار نعيم ، وليست تخلو من المكدرات ، من انحراف الصحة ، أو ضياع المال ، أو فَقْد الحبيب ، أو غدر الصديق ، أو ذهاب الأمن ، هذه طبيعتها التي لا تتغير ...
قال تعالى :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } لأنهم مع الأيام ينسون المصاب ، ويجدون الثواب ، وغيرهم يحمل الألم ، ولا ينال شيئاً . وهذا هو النوع الأوّل من الصبر وهو الصبر على المصائب .

والنوع الثاني : هو الصبر عن المعاصي ! صبر الشاب الذي يرى العورات البادية ونفسه تميل إليها ، فيغض بصره من خوف الله عنها ، ويعرف سبيل اللذات المحرمة ، فيمنع نفسه عن سلوكها ، على رغبته فيها . صبر الموظف الذي تعرض عليه الرشوة ، تعدل راتبه عن ستة أشهر ، فيكفّ يده عنها ، على حاجته إليها ، فلا يقدم عليها . صبر التلميذ في الامتحان إذ يتمكن من سرقة الجواب من الكتاب ، فلا يقدم عليها ، وإن كان نجاحه منوطاً بها .
المعاصي لذيذة للنفس ، فإن امتنع عنها ، مع تمكنه منها ، كان مع الصابرين .

والثالث : الصبر على الطاعات . على القيام لصلاة الفجر ، وترك لذة المنام ودفء الفراش ، في الغداة الباردة ، على احتمال الجوع والعطش في شهر الصيام ، في الصيف الملتهب . على إكراه النفس المُحِبّة للمال على إخراج الزكاة وبذل الصدقة ..

فمن احتمل ذلك وحده قاصداً ثوابه ، كان من :

{ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . { أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } . { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .

الانقياد لحكم الشرع
والإِسلام في اللغة هو التسليم : ( أسلم ) و ( سلم ) بمعنى واحد . فالولد يستسلم لأبيه ثقةً به ، والمحب يستسلم لمحبوبه ميلاً إليه ، والمهزوم يستسلم لمن هزمه خوفاً منه . أما المؤمن فيسلم لحكم ربه استسلاماً مطلقاً ، يطيع له كل أمر ، ولو لم يعرف الحكمة منه ووجه المنفعة فيه ، ويدع كل ما ينهى عنه ، ولو لم يدرك سر نهيه عنه . وهذا الاستسلام له جانبان : جانب عملي ، هو الامتثال بالقول والعمل ، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله , وجانب نفسي هو الذي نبحث عنه الآن ، ونحن نتكلم عن الإِيمان .

هذا الجانب هو الرضا القلبي بحكم الشرع ، واطمئنان النفس إليه ، وأن نعمل الواجب أو نترك الحرام عن اقتناع ، ليس في قلوبنا تبرّم به ، ولا سخط عليه ، قال تعالى :
{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .
وهذا هو الجانب العملي .
{ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } .
وهذا هو الجانب النفسي .

فلا يكفي مجرد الاحتكام إلى الرسول ، إذا لم يكن في قلوبنا اعتقاد صحة هذا الحكم ، والرضا به ، والاطمئنان إليه .
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا - بألسنتهم مقرّين معترفين بقلوبهم - سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
ومن الناس من يسأل دائماً عن حكمة الشرع في كل أمر ونهي ، كأنهم لا يطيعون إلاّ إذا عرفوا الحكمة ، وللشرع حكمة لا شك فيها ، ولكنها قد تبدو لنا ، بالنص أو بالاستنباط ، وقد تخفى علينا ، أفنعصي ربنا إذا لم تظهر حكمة شرعه لنا ؟! .
ومن حقه تعالى علينا أن نطيع في المنشط والمكره ، والموافق لنا والمخالف لرغبتنا .

شدة ولين
ومن مظاهر الإيمان ودلائله ، أن يكون الحب في الله والبغض في الله .
فالمؤمن يحب إذا أحب للدين ، ويبغض إذا أبغض للدين . فإذا أحب تجلى فيه كرم النفس ورقة الطبع ، وبدا منه التسامح والبذل ، يذلّ لأخيه ولا يرى ذلك ذلاًّ ، ويؤثره على نفسه بالشيء ولو كانت به حاجة إليه . وإذا أبغض ظهر منه الغضب لله ، والشدة في الدفاع عن دينه ، والبأس في قتال أعدائه ، فهو يجمع بين اللين والشدة ، والرقة والغلظة على أعداء الدين أنصار الشيطان .

لا يكرههم على الإسلام إكراهاً ، بل يمنعهم أن يعترضوا سبيله ويحاربوا دعوته ، فإن اطمأنوا لدعوتنا ودخلوا في ديننا صاروا منا ، لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وإن سالموا دعوتنا سالمناهم وحفظنا لهم حقوقهم وإن بقُوا على دينهم .

{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } . { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (1) وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } .

هذه حال المؤمنين ، لما كانوا من المجاهدين ، فلما تركنا الجهاد ، وخالفنا الشرع ، وصارت شدّتُنا على أنفسنا ، ولينُنا أمام أعدائنا ، سلّط الله علينا بذنوبنا من لا يخافه ولا يرحمنا ، فملك بلادنا ، وتحكّم فينا .
______________
وإلى جانب هذا الجهاد لا ينسون قوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } .
______________


التوبة والاستغفار
إن الله من رحمته بالإنسان فتح له باب التوبة . قال له : إنك تستطيع أن تمحو من صحيفتك كل ذنب عملتَه ، فكأنه ما كان ، بل ربما سجّلتُ لك حسنةً مكان السيئة التي كانت عليك ، كدفتر التاجر يكون مقيَّداً فيه أن له عليك مئة دينار ، فلا يكتفي بأن يسامحك بها ويمحوها لك ، بل ينقل قيدها من صفحة الدَّيْن الذي عليك ، إلى صفحة الدَّيْن الذي لك . قال تعالى :
{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } .

وباب التوبة مفتوح ، ما دام المرء صحيحاً معافى ، فإنْ تاب التوبة الصادقة قبلت توبته ، ولا يغلق إلا ساعة الاحتضار , فتكون توبته حينئذ من قبيل تحصيل الحاصل ، لأن التوبة هي الرجوع الاختياري إلى الله ، وقد أرجع كرهاً وجبراً ، فلم يعد ينفعه الإقرار ، بعد أن فقد الاختيار ، قال تعالى :

{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ .. } .

وأول شروط التوبة الانقطاع عن الإساءة ، والعزم على أن لا يعود إليها .
إن للتوبة روحاً وجسداً ، فروحها استشعار قبح المعصية ، وجسدها الامتناع عنها .
ولكنه إذا اقتصر على المعرفة ، ولم يعمل بمقتضاها ، واستمر ماشياً في الطريق المنحرف لم ينفعه علمه بانحرافه ، بل إنه يكون أكبر ذنباً ، وأعظم تبعة ، لأن الذي ينحرف وهو لا يعرف ، له بعض العذر ، ولكن الذي يعرف الطريق ، وينحرف عنه عمداً ، لا عذر له (1) .
__________

(1) الأول ضالّ ولكن الثاني مغضوب عليه . واليهود من ( المغضوب عليهم ) ، لأنهم عرفوا الحق وخالفوه { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } .
________________

والشرط الثاني : أن يجعل الإِحسان بدل الإِساءة ، والإِصلاح مكان الإِفساد ، أي أن يحقّق التوبة ، بتبديل العمل ، وتعديل السلوك .

{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } . { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } .

ومن الإصلاح أن يكون تركك الذنب حقيقياً ، وأن تعزم عزماً صادقاً على ألا تعود إليه . فإن عقدت على ذلك العزم الصادق ، ثم غلبتك النفس ، أو حملتك الظروف ، فعُدتَ إليه . ثم تُبتَ قُبلت توبتك ، ولو تكررت العودة وتعددت التوبة . أما إن خالط عزمك تردّد من الأصل ، وقلتَ في نفسك : إذا اشتدت رغبتي رجعت ثم تبت ، لا تكون توبتك صادقة ولا مقبولة , هذا في التوبة من حقوق الله .

أما حقوق الناس : إن كنتَ ظلمتَ أحداً ، أو أكلتَ ماله ، أو آذيتَه في جسده أو في عرضه ، أو شهدتَ عليه زوراً ، أو اغتبتَه أو وَشَيْتَ به ، أو أشعتَ عنه قالة السوء ، فلا بد في ذلك وأمثاله من أن تؤدي إليه حقه ، أو ينزل لك عنه ويسامحك به ، أو يرحمك الله فيرضيه عنك ، وإلا لم تُقبل توبتك ، وأَخَذَ المظلوم يوم القيامة من حسناتك ، أو حمل عليك من سيئاته .

وباب التوبة مفتوح مهما كثرت الذنوب ، فلا ييأس أحد من عفو الله ، فإن اليأس من عفو الله أكبر من كل ذنب .

{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } .

فالتوبة هي ترك للسيّء ورجوع إلى الحسن ، أما الاستغفار فهو طلب الغفران من الله ، وقد أمر الشرع به ، وحثّ عليه :

{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } . { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } . { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } .

وجاء مثل ذلك على لسان كل رسول ، ينصح به قومه ، ويدلهم به على طريق العفو من الله ، والنجاة من عذابه .

والمذنبون على درجات : أما الذين ماتوا على كفرهم فلا أمل لهم في المغفرة : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } .

والمشركون في الأصل أشد كفراً من أهل الكتاب ، ولكن الجميع في حكم هذه الآية سواء ، فلا يقال لمن مات كافراً : ( رحمه الله ) ، ولا : ( غفر الله له ) ، ولا يقال له : ( المرحوم أو المغفور له فلان ) .

وأما العصاة من المسلمين ، الذين ماتوا بلا توبة فأمرهم إلى الله ، إن شاء غفر لهم : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ، وإن شاء عذبهم بالنار ، لكنهم لا يخلدون فيها ، ولا يستهن أحد بعذاب النار ، ولا يستخِفّه ، فإن نار الدنيا وهي نعمة ، لا يطيق أحد احتمالها دقائق ، فكيف نعرّض أنفسنا لعذاب جهنم دهوراً ؟ .

وأما التائبون فيتوب الله عليهم بمنه وكرمه . هذا الذي يتوب من بعد الذنب ، أما الذي يتوب منه ، ويتنبه لنفسه ، ويدركه خوف ربه ، قبل إتمام الذنب ، ويتركه لله مع شدة الرغبة فيه ، وعظم الميل إليه ، فله أعظم الثواب ، كمن يستزله الشيطان ، فيدفعه إلى الزنا ، حتى إذا تمت له أسبابه ، وشرع به أو هَمَّ ، فذكر الله ، فأعرض عنه ، وشهوته متعلقة به ونفسه راغبة فيه . وأين من يقدر على ذلك إلا إن أمدّه الله بقوة منه ؟ فلا يجرب هذه التجربة أحد ، فإنه يكون كمن يتناول جراثيم المرض الخطر ، إن نجا منه اكتسب مناعة تجعله أقوى ممن لم يدنُ منه المرض ، ولكن احتمال حصول المناعة من المرض واحد في المئة ، واحتمال الهلاك به تسعة وتسعون ، هذا في مرض الجسد ، أما الكف عن الذنب ، فإنه لا يكسبه مناعة من العودة إليه . فمن أراد السلامة من الشر فليبتعد عنه ، وليقطع أسبابه ، وليسد الطريق إليه ، ويهجر من الناس من يرغّبه فيه ، ويدعوه إليه ، فإن الصاحب ساحب ، والمرء على مذهب خليله ، وقديماً قالوا : ( قل لي من ترافق ، أقل لك من تكون ) .

فلينتبه لذلك الناشئون ، ويطلبوا من الله العون .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 07:55 AM
الإِيمَانُ باليومِ الآخِرِ
نحن والموت :
نحن والموت على أصناف أربعة :
صنف يهتف مع الشاعر الأحمق :
ما مضى فات والمؤمَّل غيبٌ ... ولك الساعة التي أنت فيها !!
قول : ( ما مضى فات ) ، ولا والله ما فات ، ولكن قُيِّد علينا حسنه وسيئه ، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها . و ( المؤمل غيب ) ، ولكنه غيب عن الحس ، حاضر في النفس ، موجود عند الله ، آتٍ لا شك فيه ، وهذا الصنف شر الثلاثة ، وهو الذي لا يذكر الموت ولا يفكر فيه .


وصنف يذكر الموت ، ولكن كذكر الشاعر الفارسي عمر الخيام الذي فتن بباطله الناس ، يقول : إذا كان الموت حقاً لا شك فيه ، وكانت الحياة قصيرة لا بقاء لها ، فلنملأها بالعشق والهيام ، وإذا كانت قد جبلت على المكاره والآلام ، فلنهرب منها إلى كأس المُدام ، فنمضي العمر في شعر ... وسكر .. وعهر ...


وصنف يذكر الموت ، ولكن كذكر أبي العتاهية ، ملأ بذكر الموت بيانه ، وشغل به لسانه ، ولكنه لا يذكر ( إلا قليلاً ) ما بعد الموت . فكأنه يقول مع القائل : ( رأيت الموت غاية كل حي ) ، والقائل الأخر : ( إن تحت الرجام نوماً طويلاً ) .


وأهل الحق الذين عرفوا أنه ليس غاية ولكنه البداية ، وما هو بنوم ولكنه يقظة من النوم ، ( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ) ، وعرفوا أن وراء الموت حياة أطول ، حياة لا تكاد تنتهي ، إما أن يكون فيها النعيم المقيم ، وإما أن يكون فيها العذاب الأليم . وهذا هو الصنف الرابع ، صنف المؤمنين المهتدين .


الحياة الأخرى :
هذه هي الحياة الحقيقية ، من أصيب بقصر النظر لم يرها ، ومن ابتلي بضعف العقل لم يصدق الخبر عنها ، ومن كان له بصر يرى ، وعقل يدرك ، رأى أن حياة الإِنسان مراحل . فلقد كان يوماً منطوياً على نفسه ، مكوّماً في بطن أمه ، يعيش بين أحشائها ، ولو كان يفكر يومئذ لظن أن هذه هي الحياة فهو يتمسك بها ، لا يخرج منها إلا مرغماً . ولو كان ينطق لحسب هذا الخروج موتاً ودفناً في الأعماق ، مع أنه ( ولادة ) ، وانتقال إلى عالم أرحب ، هو هذه الدنيا . والذي نراه نحن موتاً ، وخروجاً من هذه الدنيا ، هو في الحقيقة ولادة ، وانتقال إلى عالم أرحب ، إلى عالم البرزخ ، البرزخ بين الدنيا المادية الفانية ، والحياة الأخرى الباقية .


الاستعداد للموت :
الإنسان ينسى الموت ، ولكن المؤمن يذكره دائماً ، ويكون أبداً على استعداد لاستقباله ، يستعد بالتوبة والاستعفار ورد الحقوق ، كلما أصبح وكلما أمسى حاسب نفسه ، فشكر الله على ما وفقه إليه من خير ، واستغفره مما وقع منه من شر , ويستعين على ذلك بالصبر والصلاة وفعل الخير ابتغاءَ رضا الله ، واحتساباً لما عنده .


ساعة الموت من أدلة الإِيمان :
تأمل قوله تعالى : { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ } أي الروح { الْحُلْقُومَ } ، وجاءت ساعة الموت التي لا مهرب منها ، { وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ } تحفّون بالمحتضَر الحبيب إليكم العزيز عليكم { تَنْظُرُونَ } تظهرون العاطفة ، تستنجدون الطب ، تبذلون الجهد ، تعانقونه تحدبون عليه { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } لأن حواسكم لا تدرك إلا عالم المادة ، وقد أوشك بأن يدخل عالم ما وراءها { فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } - كما تزعمون - وغير خاضعين لرب الكون ومالكه ، وكان لكم شيء من الأمر { تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } تردون الروح إلى الجسد بعدما خرجت منه ، تسخرون لذلك عقولكم وعلومكم وأموالكم . فإن لم تستطيعوا ، فلم لا تقرون بأن لهذا الكون ربّاً ، مالكاً لكم ، هو أحياكم وهو يميتكم وهو بعد ذلك يحييكم ؟ .


شبهة تافهة :
قرأت لبعض الملحدين فصلاً يسألون فيه ساخرين ، يقولون : إذا كان يموت في لحظة واحدة ميت في أميركا وميت في الصين ، فكيف يقبض مالك الموت روحيهما ؟ .
الجواب : أولاً : إن مثل المَلَك بالنسبة لأرضنا ، كمثل أحدنا لو انحنى على قِرْبة فيها آلاف النمل ، أو كأس فيها ملايين الجراثيم . بل إن الملك من الملائكة أكبر من ذلك بالنسبة إلينا ، وما كرتنا الأرضية في كفه إلا كحبة قمح في كف واحد من البشر .. هذه واحدة .
والثانية : إن لملك الموت أعواناً في قبض الأرواح ، قال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 07:57 AM
يوم القيامة :
الإيمان باليوم الآخر ( يوم القيامة ) الركن الثاني من أركان العقائد ، ولا يكاد يُذكر الإيمان بالله في القرآن ، حتى يُقرن به الإِيمان باليوم الآخر .
والمؤمن يذكره دائماً ، فيكثر من الخير ابتغاء ثوابه ، ويبتعد عن الشر ما استطاع خوف عذابه .


موعد الساعة :
لقد صرح القرآن ، بأنه لا يعلم موعدها أحد من الخلق ، ولا يعلمه إلا الله وحده : { يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } ، وأنها لا تأتي إلا بغتةً ، وأن أمرها { كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } .
ولكن ورد في القرآن أنه يسبقها أحداث غريبة تقع في هذا الكون :
منها : أنه يخرج من الأرض دابة تكلم الناس ، وهذا خبر حق ، من الغيب الذي لا يُدرَك بالعقل البشري ، ولا نعلم عنه إلا ما أعلمنا الله به ، والله لم يبين لنا ما هي هذه الدابة ؟ وما صفتها ؟ فوجب الإِيمان بها ، وترك الكلام فيها بلا دليل سمعي ثابت .
ومن ذلك : دكّ سد يأجوج ومأجوج ، وخروجهم منه . والله لم يبين من هم يأجوج ومأجوج ، وأيّ الأمم هم ، وما بلدهم ، وأين يقع السد ، فإن استطعنا تحديد ذلك بالبحث والاستقراء ، ووصلنا إلى نتيجة لا تخالف خبر القرآن ، قلنا بها ، وإلا صدقنا بخبر القرآن مجملاً ، ووقفنا عند حدوده ، قال تعالى : { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وأمور أخرى ورد بها الحديث الصحيح (1) ، ولم يصرح بذكرها القرآن ، منها : أنه يُرفع العلم ، ويَظهر الجهل ، ويُشرب الخمر ، ويظهر الزنا ، ويقل الرجال ، ويكثر النساء ، وتندر الأمانة ، وتضطرب موازين المجتمع فيرتفع المنخفض وينزل العالي ، ثم يكون ظهور ( الدجال ) ، ونزول ( عيسى ) ناصراً لشريعة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وعلى إخوانه المرسلين .


ابتداء الساعة :
الذي يظهر منن آيات الساعة في القرآن الكريم (2) ، أن ابتداءها يكون بزلزال هائل ، لا يشبه ما عرف الناس من الزلازل ، يقع - والله أعلم - والحياة البشرية لا تزال مستمرة على الأرض ، والناس لا يزالون أحياء في الدنيا ، فيصاب المجتمع البشري بفزع عام ، ورعب شامل ، يبلغ من شدته أن الأم تذهل عن رضيعها ، على ما رُكّب في طبعها من الحنوّ عليه ، والمَيْل إليه ، والحوامل يسقطن من الرعب ما في بطونهن ، والناس يكادون يفقدون عقولهم الواعية ، فيغدون كأنهم سكارى { وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } .
ومما يرجِّح القول بأن هذا الزلزال قبل القيامة قوله تعالى :
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ، وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ؟ } .
فالإنسان باق في الأرض ، يشهد الزلزال ، ويسأل عن أمره ، ويبحث أسبابه (1) .
_______________________
(1) وقال قوم في ذلك : بل هو البعث لقوله تعالى : { وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا }. والقولان محتملان ، ولا أجزم بل أقول : الله أعلم .
_______________________


حوادث فلكية :
يوم القيامة ، وما يكون فيه ، وما يأتي بعده ، هو - كما تقدم القول - من الأمور الغيبية ، ليس للحواس إحاطة به ، كما تحيط بالمخلوقات المادية ، ولا للعقل البشري حكم عليه ، كما يحكم على الحوادث الدنيوية ، وعمله كله في فهم النصوص ، وإدراك معناها .
وفي القرآن نصوص صريحة ، تدل على أن كثيراً من السنن الكونية ، التي سميناها - اصطلاحاً - قوانين الطبيعة ، تطرأ عليها تبديلات وتعديلات ، فكأن استمرارها منوط باستمرار هذه الحياة الدنيا ، فإن انتهت مدتها انتهى أمد هذه القوانين .
وكأن العالم الذي تشاهده ، بأرضه وكواكبه ، على ما فيه من الإِتقان العجيب ، بناء مؤقت ، أُقيم لغرض محدود ولمدة محدودة .
من هذه الحوادث ، أن الجبال تصيبها رجفة أرضية هائلة ، تفتّت صخورها حتى تصير كالقطن المنفوش ، ويغدو الجبل العظيم تلاًّ متداعياً ، وكثباً مهيلاً ، ثم تنسف نسفاً ، فتسير كما تسير كُثبان الرمل ، ثم تغدو سراباً ، وتصير الأرض كلها قاعاً مستوياً .
كل هذا خبّر به القرآن ، وخبّر أن البحار تتفجر مياهها ، ثم تتبخر . والكواكب ينثر عقدها ، ويتبدل مسيرها . والقمر يجمع مع الشمس . والسماء تُكشط وتنشقّ وتنفطر ، ثم تُطوى كما تطوى الرسال في السجل الكبير ، ثم تكون النتيجة أن الأرض تبدّل فكأنها غير الأرض ، وأن السماء تبدّل فكأنها غير السماء . وكل هذا خبر به القرآن .


النفح في الصور :
والذي جاء في القرآن : أنه يُنفخ فيه فيفزع من في السماوات ومن في الأرض ، ويُنفخ فيه فيُصعق من في السماوات ومن في الأرض . والظاهر من القول : أنهما نفختان ، وربما كانت - وهذه أرجح - نفخة الفزع هي نفخة الصعق ، فلا يبقى بعد ذلك من الأحياء أحد إلا مات { إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ، وتمضي مدة الله أعلم بمداها ، لم يخبرنا الله عنها ، ثم ينفخ نفخة البعث ، فتعود الحياة لكل ميت ، ويبعثون من قبورهم { يَنْظُرُونَ } { إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } .


البعث والحشر :
يبعث كل ميت على الحالة النفسية التي مات عليها ، يظن أنه لم يمر عليه إلا ساعة أو ساعات .
وقد أقام الله للناس أمثلة على ذلك في الدنيا ، منها : الذي مرّ على القرية الخالية الخاوية فقال :
{ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ } .
وأهل الكهف الذين ناموا ثلاثمئة وتسع سنين ، ثم قاموا يظنون أنهم ناموا ساعات ، وبعثوا يشترون بنقودهم التي أُلغي التعامل بها ، وهم لا يدرون .
هذه حال الناس عند البعث ، يظن كل منهم أنه نام قليلاً واستيقظ ، يتناقشون فيما بينهم :
{ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } ، { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } .
يظنون أنهم لا يزالون في الدنيا ، ولكن هول الموقف يقطع كل رابطة بينهم { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } . يرى المرء صديقه الحميم فلا يسأل عنه ولا يهتم به . لا يهتم أحد إلا بنفسه , يرى المرء صديقه الحميم فلا يسأل عنه ولا يهتم به . لا يهتم أحد إلا بنفسه ، يهرب من أخيه وأمه وأبيه ، ومن زوجته وبنيه . بل إنه يضحّي بهم ويقدمهم فدية له ، لو كان يُقبل منه الفداء ، ويُتركون أمداً - الله أعلم بمدته - يموج بعضهم في بعض ، ثم يُجمعون فيُساقون إلى الحشر .. يُساقون جميعاً .
(( راجع سورة المعارج ))


البشر كلهم ، من آدم إلى آخر واحد من ذريته ، من مات منهم على فراشه ، ومن غرق في البحر ، ومن أكله السبع ، ومن سقط من الطيارة ، ومن أُحرق بالنار وذُري رماده في الهواء ، يعيدهم الذي أوجدهم من العدم أول مرة ، ويجمعهم جميعاً ، ويساقون إلى أرض المحشر ، هم والجن والشياطين والوحوش { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } .
ثم يأمر ربنا بجهنم فتبرز للناس من بعيد ، ويقول لهم :
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ، هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } .
ويأمر ربنا فَيُفرز المجرمون ويمتازون فيُعرفون : فيتمنى كل منهم أنه لم يكن بشراً ، ويقول : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً } .
ثم يجمع الله الكافرين في جهنم ، مع الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، ويظنونهم آلهة من الجن والشياطين ، وما اخترعوا من أسماء ما لها حقائق ، وما أنزل الله بها من سلطان ، زعموها آلهة ، كما فعل اليونان بما سمَّوه : ( زيوس ) و ( أفروديت ) ، والرومان : ( جوبيتر ) و ( فينوس ) ، والفرس : ( هرمز ) و ( أهرمان ) ، والمصريون : ( حابي ) ، والفينيقيون : ( بعل ) ، و ( اللات ) و ( العزّى ) عند العرب ؛ زعموهم شركاء لله ، وزعم اليونان أو الرومان أن ( أبولّون ) إله الشمس والفنون ، و ( باخوس ) إله الخمر ، و ( ديانا ) وهي نفسها ( أرتيميس ) إلهة الصيد ، و ( ميزفا ) إلهة الحكمة ، و ( نبتون ) إله البحر ... إلخ ، فيقول لهم :
{ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } .
فقال لهم ربنا : { مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ؟! } .
وينظر الضعفاء إلى المستكبرين ، الذين جعلوا أنفسهم في الدنيا ( زعماء ) ، فقادوا قومهم إلى الشرك وإلى الكفر ، فاستنصروهم فقالوا: { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ؟ } ، فأجابوهم بالبراءة منهم ، وأقروا بعجزهم عن أن يغنوا عنهم ولا عن أنفسهم شيئاً ، ووقف الجميع خاضعين خانعين ، قد ذلوا جميعاً أمام رب العالمين ، وذهبت الألوهيات المزعومة ، ومحيت الزعامات الباطلة المكذوبة ، وانفصمت عرى الحلف الشيطاني بين الكفار وما كانوا يعبدون من مخلوقات ، وتبرّأ كل معبود بالباطل ممن كان يعبده ، حتى الشيطان يعترف لمن تبعه بكذبه فيقول : { لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } .
ويتملص من التبعة ويلقيها كلها عليهم ، مُقِرّاً بضعفه وعجزه في الدنيا ، وأنه لم يكن يملك إلا الوسوسة والتضليل ، ما كان له من حول ولا طَوْل ، ولا كان يقدر على نفع ولا ضرّ ويقول :
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي (1) فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } . { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } .
___________
(1) وفي هذا : دليل على بطلان الدجالين ، الذين يزعمون أنهم يستخدمون ( الجن ) و ( الشياطين ) ، فيضرُّون بهم من يريدون ، وينفعون من يشاؤون ، وأنهم يسخرجونهم من أجسام المصابين بداء الصرع !! .
________________


الحساب
ولا بد من الوقوف للحساب ، فيقام ميزان العدل المطلق ، الذي لا يضيع مثقال حبة من خردل ، ولا ذرة من غبار ، ولا واحدة من الكهارب ( الإِلكترونات ) التي تسبح في فضاء الذرة ، ولا أصغر من ذلك ، تُحصى على المرء أعماله كلها ، وتُقدَّر ظروفه كلها ، وتبرز نياته الخيرة وإخلاصه القلبي ، فتكون ثقلاً له في جانب الحسنات من الميزان ، وما كان في قلبه من نفاق أو رياء ، فيكون ثقلاً عليه في جانب السيئات من الميزان (2) .
محاكمة عادلة ، لا ينفع فيها الإنسانَ إلا عملُه الذي قدّمه ، وعفو ربه الذي يرجوه ، ورحمته التي يؤمّلها .


وشفاعة الآخرة ليست كشفاعة الدنيا ، فالشفيع في الدنيا يدخل على الحاكم يدلّ عليه بمودته له أو جاهه عنده ، يلزمه الشفاعة ولو كان في قرارة نفسه لا يريدها ، فيحابي بها موظفاً ، أو يبرئ بها متهماً ، أما الشفاعة في الآخرة فتكون عندما يريد ربنا برحمته العفو عن أحد ، ويريد بكرمه تشريف أحد ، يجعله سبباً ظاهراً لهذا العفو ، فيأذن له بالشفاعة له ، فيشفع بإذنه وأمره .


الشهود والبينات :
محاكم الدنيا ، التي يتولاها حكام من العباد ، لها عدالة بشرية محدودة ، ووسائل للإِثبات ظاهرة معدودة ، ولكن محاكمات الآخرة قاضيها رب الأرباب ، وعدالتها مطلقة لا حدّ لها ، وبيّناتها شهادات الأنبياء ، والملائكة الذين كانوا يحصون الأعمال ، ويدوّنون الحسنات والسيئات ، والصحف التي دُوّنت فيها هذه الإِحصاءات ، واعترافات المذنبين ، وشهادات الأعضاء .


شهادة الرسل :
إذا كان يوم الحساب أُحضر النبيون كما قال تعالى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ } .
وكانت محاكمة كل أمة وفق شريعتها ، بحضور نبيها :
{ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } . { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } .


الكتب والصحف :
هذه الصحف التي تسجَّل فيها أعمالنا كلها في الدنيا ، تكون مطوية مخفية ، سراً لا يدري به الخلق . فإن تاب العبد من ذنوبه المدوّنة فيها التوبة الصادقة ، مُحيت منها ، وإلا بقيت فيها ، فإذا حل يوم الحساب ، نُشرت وأُعلنت ، كنتائج الامتحانات تكون سرّاً عند الفاحصين فلا يعلم برسوب الراسب سواهم ، فإذا جاء وقت إعلانها عرف بذلك الناس ، وافتضح الراسب في أهله وبين إخوانه ، ولكن الفضيحة هنا على رؤوس الخلائق جميعاً ، وهي الفضيحة الكبرى ، والراسب هنا يسقط في جهنم ويخسر - إن كان كافراً - سعادة الأبد ، ويلقى العذاب الدائم .


تُنشر الصحف وتوزَّع ، فيلقى كل إنسان كتابه منشوراً ، ويقال له : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } .
فمن كانت حسناته التي دَوَّنها مَلَك اليمين أكثر ، ناوله كتابه بيمينه بشارة له بأنه سوف { يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ، فإذا رأى ما فيه فرح واستبشر .
يطلع على نجاحه الإخوان والأقران ، يقول :
{ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ ، إِنِّي ظَنَنْتُ - أي : إني أيقنت في الدنيا - أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } .


ومن كانت سيئاته التي دَوَّنها مَلَك الشمال أكثر ، ناوله كتابه بشماله فيبكي على نفسه ، ويوقن بهلاكه ، ويقول :
{ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } . { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً ، وَيَصْلَى سَعِيراً } .
ويقرأ المجرمون كتبهم ، فيرون كل عمل عملوه مدوَّناً فيها { أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ } ، فيقولون متعجبين : { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً } .
وأيقنوا أنهم ظلموا أنفسهم : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } .
وندموا على ما فرّطوا ، حين اتّبعوا وسوسة الشيطان ، وهوى النفس الأمّارة بالسوء ، فمقتوا لذلك أنفسهم ، وإذا هم :
{ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } .


الدفاع ثم الإقرار :
ثم إذا وقف الكفار للحساب ، لجؤوا إلى الإِنكار ، وحلفوا كذباً على براءتهم ، يظنون أنهم أمام حاكم من البشر ، ممن لهم الظواهر ، ونسوا أنهم أمام رب العالمين ، الذي يطّلع على ما في النفوس ، ويعلم ما تكن الضمائر .
{ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } .
يقولون : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } .
فيمسك الله بألسنتهم ، ويمنعهم من أن ينطقوا ، ويأمر أعضاءهم التي مارست الحرام فتقرّ بما صنعت ، وتنطق اليد معترفة بما اجترحت من حرام والرِّجْل بما مشيت إليه من حرام .
{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
فإذا أُخذوا بإقرارهم ، وثبت الذنب عليهم ، عاتبوا أعضاءهم :
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ !!} .
لذلك يؤنبهم ربهم ويقول لهم :
{ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } .
وكيف يفر المرء من جلده وبصره وسمعه ، وهو معه قائم به .
{ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .


وهذه عاقبة كل كافر بالله ، منكر ليوم الحساب ، لا يمتد إلى أبعد من هذه الدنيا ، يجحد الآخرة وهي آتية لا ريب فيها ، ويختفي بذنبه من الله ، والله مطلع عليه ، وأعضاؤه التي يمارس بها الذنوب ستشهد عليه ، فكيف يتوارى من شاهد ، هو معه ، لا يستطيع أن يفارقه ؟ .
اللهم عفوك وغفرانك ، واستر علينا في الآخرة ، كما سترت علينا في الدنيا وأنت الغفار الستار .


اعتراض تافه :
وقد كان فريق من الناس ، يقولون لنا ساخرين ونحن صغار : ( كيف تنطق اليد والرجل ، وما لهما لسان ، وما تقدران على بيان ؟ ) . فاختُرعت آلات التسجيل ، والسينما الناطقة ، وصارت تقام في مداخل المصارف آلات تصوير خفية ، تصوُر بالأشعة التي لا تُرى (1) ، تتحرك لمجرد اجتياز الشخص من أمامها ، فإذا سرق السارق وأنكر ، عرضوا عليه ( الفِلْم ) يعيد حركاته وسكناته ، وهمسه لنفسه وكلامه مع رفيقه ، فكانت هذه المخترعات حجة على هؤلاء المتعالين الجهلاء ، كأنها تقول لهم : ( ويحكم ، الذي أنطق الشريط في الدنيا ، وسجّل الحركات والكلمات ، تعلن كلام السارق الذي أخفاه ، وتثبت عليه فعله الذي أنكره .. الذي وَفَّق إلى هذا في الدنيا ، ألا يُنطق اليد والرِّجْل في الآخرة ؟ " .
___________
(1) الأشعة التي يسمونها : تحت الحمراء .
_________________


لحساب ونتائجه :
الحساب أنواع ، منه الحساب اليسير كحساب الذين أُعطوا كتابهم بأَيمانهم ، ومنه الحساب الشديد كحساب القرية التي عتت عن أمر ربها . ويخرج الناس بنتيجة الحساب وهم أصناف : السابقون المقربون ، وأصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة .
{ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ , وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } .


ورود جهنم :
ويمرون جميعاً على صراط من فوق جهنم ، يسرعون باجتيازه بمقدار قربهم من الله ، واستكثارهم من الحسنات ، فينجو منها المتقون ، ويسقط فيها الظالمون ، قال تعالى :
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } .
وفي سورة ( أَلْهاكم التكاثر ) قوله تعالى :
{ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } .
أما الرؤية الأولى : فهي - والله أعلم - ورود المتقين عليها ، الذي يكون معه النجاة منها ، وأما الرؤية الثانية : فهي ورود الظالمين عليها ، سقوطهم فيها . وربما كانت الرؤية قبل الحساب ، حين تبرز الجحيم فيراها الناس كما قدمنا .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 07:59 AM
الجنة وجهنم :
أوصاف الجنة التي وردت في القرآن ، كقوله تعالى : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } ، وأن أهلها يُحَلَّوْن فيها من أساور من ذهب ، ولؤلؤاً ، وأن لباسهم فيها حرير ، وأن فيها أنهاراً من لبن ، وأنهاراً من خمر ، وأنهاراً من عسل ، وأن فيها الحور العين ، والغلمان .
كل ذلك جاء على وجه التقريب إلى الأفهام ، لأن اللغات البشرية موضوعة في الأصل للتعبير عن الأشياء الأرضية ، ومن المحقق أن أنهار الجنة ليست كأنهار الدنيا ، ولا لبنها وعسلها وخمرها كخمر الدنيا وعسلها ولبنها , ولا حورها كنساء الأرض... إلخ
والذين فصّلوا في وصفها من المفسرين ، لم يستندوا في ذلك إلى دليل وكان منتهى جهدهم أن قاسوا الآخرة على الدنيا , ، كما قاس المتكلمون عدالة الله وصفاته ، على ما عرفوا من الصفات البشرية ، والعدالة البشرية ، فتخبطوا في متاهات وضلالات ، كان ينجيهم منها ، ويبعدهم عنها ، أن يقفوا عند حدود النصوص ، وأن يسلكوا مسلك السلف ، وأن يقروا بعجز العقل عن إدراكها ، والخيال عن تمثيلها .
ومن هذه المباحث السقيمة ، والمجادلات العقيمة ، ما قالوه عن الحور العين ، وهل الاستمتاع بهن كالاستمتاع بنساء الدنيا ، ونسوا أن هذه المتعة على شكلها المعروف ، غايتها الحمل وبقاء النسل (1) ولا داعي لذلك في الأخرة ، فكان الحق أن نؤمن بكل ما ورد في القرآن ، ثم نشتغل بالعمل الصالح الذي يوصلنا إلى الجنة ، بدلاً من المناقشة في تفصيل أمرها ، والخلاف على وصف حقيقة ما فيها ، مما لم يذكره القرآن لنا .


دخول الجنة :
وليس دخول الجنة بالتمني والتشهي ، ولكن بالإِيمان والطاعة . { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } .
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ؟ } .
فإذا انتهى الحساب ، واجتاز المؤمن الصراط ، تحققت النجاة .
{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (1) وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } .
___________
(1) في آية جهنم قال : { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } لأنها كسجن مغلوق الأبواب ، فلا تفتح إلا لاستقبال داخل أو خروج خارج ، أما هنا فقال : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا .. } لأنها مفتحة دائماً ، وإن كان لا يدخلها أحد ، إلا بإذن ربها خالقها .
___________
وصف الجنة :
أما سعتها فإن عرضها عرض السماوات والأرض ، ولا تعجبوا من هذا فإن الأخرة بالنسبة لهذه الدنيا كهذه الدنيا بالنسبة لبطن الأم . أما يرى الجنين بطن الأم دنياه كلها ؟ أو ليست دار واحدة من دور الدنيا أوسع من دنيا الجنين بآلاف المرات ؟ .
هذه الجنة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، ومن هم المتقون الذين أُعدّت لهم ؟ وماذا كانوا يصنعون ؟ لعلنا نصنع مثلهم فنكون معهم ، لقد بيّن أن المتقين هم :
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ .. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } .
هذه بعض صفات المتقين ، فمن اتصف بها بعد تصحيح العقيدة ، وصدق التوحيد ، أدخله الله بكرمه وَمنِّه هذه الجنةَ التي أعدّها لهم .
والجنة درجات : ففيها جنة النعيم وهي أبعد من أن ينالها كل واحد :
{ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } .
وهي للسابقين السابقين { أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } .
وفيها الجنة التي سماها الله ( الغرفة ) ، ووعد بها عباد الرحمن ، الذين وصفهم في سورة الفرقان بأنهم الذين يجمعون صحة الاعتقاد ، واستقامة السلوك ، وكثرة العبادة ، وعلو الأخلاق ، فدل ذلك على أن ( الغرفة ) درجة عالية في الجنة ، خص بها هؤلاء الذين جمعوا صفات الكمال ، وصبروا على مشقة القيام بها ، وصرف النفس عن رغبتها في التملّص منها .
في الجنة : { جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ، وأن فيها مكاناً اسمه : ( جنة المأوى ) ، ومكاناً اسمه : ( جنات عدن ) ، ولمن خاف مقام ربه جنتان ( لا جهة واحدة ) ، وأن فيها ما دعاه بـ ( علّيّين ) ، دَلَّ ذلك على أن نعيمها درجات ، وأهلها منازل .


أهل الجنة وأحوالهم :
يجتمع أهل الجنة بإخوانهم وأهلهم : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } .
{ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ } .
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } .
يجتمعون على وُدٍّ وصفاء { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } وحقد .
تُصَفّ لهم الأَسِرّة والأرائك ، فتكون مجالسهم عليها :
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ } .
يقعدون عليها :
{ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } .
عليها فرش بطائنها من شيء نفيس ، سماه ربُّنا ( الإِستبرق ) وحولهم جنتان ملتفتان ، ثمارهما قريبة من أيديهم ، دانية منهم .
يخدمهم فيها خدم صغار :
{ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ... يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ... يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ، بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ } .
والطعام ( يطاف ) به :
{ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ } .
أما شرابهم فيحمل إليهم :
{ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } .
يؤتى إليهم بكل ما يريدون من طعام : { وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ... فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ، وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ... لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ... تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } فوجوههم { نَاعِمَةٌ ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } .
يقصدون من أركان الجنة حيث شاؤوا ، يتقابلون فيها ويتحدثون : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } .
لا يقولون إلا خيراً { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ... وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( خائفين من دخول النار ) ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } .
وهذا : من ثمرة الدعاء والاستغفار :
{ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } .
فإذا تحدثوا تذكروا في أحاديثهم أيام الدنيا ، وأحوال أهلها ، وما كان من أمرهم فيها ، وما انتهَوْا إليه في الآخرة .
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ ( ساخراً معانداً ) أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ؟ } .
قال ( أي المؤمن في الجنة لإِخوانه فيها ) :
{ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ } على أهل النار لتروه فيها ؟ .
ودل ذلك على أنهم يستطيعون الاطلاع عليهم .
{ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ } .
قال له ( وهذا وما يأتي بعده يدل على أن أهل الجنة وأهل النار يتبادلون الحوار ) :
{ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } .
ويمنّ عليهم ربهم الحور العين ، يزوّجهم بهن .
{ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ... كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } .
أنشأهن إنشاءً ، فجعلهن :
{ أَبْكَاراً ، عُرُباً أَتْرَاباً ... قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ( من الحياء ) ، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } .
وأهل الجنة { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
يقولون :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ... لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } .
{ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ... لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ... لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ... وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } .
يحيونهم ويهنئونهم يقولون :
{ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ... وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ... إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } .
اللهم برحمتك التي وسعت كل شيء ، وعفوك ومغفرتك - وأنت العفوّ الغفور - أعذنا من عذاب النار ، وأدخلنا الجنة بسلام .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 08:04 AM
جهنم :
لمتبادر إلى الأذهان أن جهنم كالنار التي نعرفها في الدنيا ، لكنها أشد منها ، حتى إنها لا تقاس من شدتها بها ، وإنْ ماثلتها في نوعها ، ولكن الذي يبدو لمن ينعم بالنظر في وصف القرآن لها ، أنها من نوع آخر ؛ إذ لو كانت ناراً من نار الدنيا ، لأحرقت كل شيء ، فتركته فحماً . مع أن جهنم فيها شجر ، وفيها ماء ، وفيها ظلّ ، وإن كان ظلها وماؤها وشجرها للتعذيب لا للنعيم . ونار الدنيا تحرق من يدخل فيها فيموت ، فيستريح من ألمها ، وجهنم - نعوذ بالله منها - ألم دائم لأهلها .
{ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } .
لا تحرق الجلود فتُذهِبَها ، ولكن تنضجها ، وكلما نضجت جلودهم بدّلهم الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ، وأهلها يعيشون ويفكرون ، ويتذكرون ويختصمون .
وفي جهنم شجرة ، ولكنها شجرة الزَّقُّوم ، التي :
{ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } .
وفي جهنم طعام ، وأهلها يأكلون ، ولكنهم آكلون من ثمر هذه الشجرة الخبيثة .
{ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ... إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ، طَعَامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ ( عكر الزيت ) يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } .
وفي جهنم شراب ، فيها ماء ، ولكنه ماء صديد ، يسقى منه الكافر ، فهو : { يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ } .
فإذا أكلوا من هذه الشجرة ، وشربوا بعدها من الحميم ، من هذا الماء الذي وصفه القرآن ، وهم من شدة عطشهم يشربون منه شُرْبَ الهيم ، شرب الإِبل الهائمة العطشى ، ثم يُصَبُّ من فوق رؤوسهم من هذا الحميم { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } .
وفي جهنم ثياب ، ولكنها من نار :
{ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } .
وفي جهنم ظِلّ وظُلَلٌ ، ولكنها من نار :
{ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } ، إنَّهُ { ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } .
هذه عاقبة من آثر الدنيا وترفها ، وأصرّ على الكفر ، وأنكر البعث .
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ، وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ؟ ...لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } .
دخول النار :
إذا انتهى الحساب ، وحقت كلمة العذاب على الكفار ، يُساقون إلى جهنم زمراً . فتغتاظ جهنم نفسها من كفرهم وإصرارهم ، وإعراضهم عن رسل ربهم . وخزنة جهنم لا ينقضي عجبهم من حماقتهم وعنادهم فهو يعودون إلى سؤالهم :
{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ؟! } .
فلم يسعهم إلا الاعتراف .
{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } .
فقالت لهم الملائكة :
{ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } .
فأقروا بأنهم كانوا صُمّاً لا يسمعون ، وكانوا قد عطلوا عقولهم فلا يفكرون ، وأنهم لو كانوا سمعوا المواعظ ، وفكروا في أنفسهم وفي الكون من حولهم ، لاستدلوا بذلك على الله ، فآمنوا به واتبعوا رسله ، وما وصلوا إلى جهنم .
{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } .
جهنم سجن :
جهنم { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } .
يوزَّع أهلها عليها { لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } .
وهي مغلقة بمزاليج ضخمة ، كأنها الأعمدة :
{ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } .
وهم يُلْقَوْن فيها في مكان ضيق { مُقَرَّنِينَ } مربوطاً بعضهم ببعض .
وقد أعد الله لهم { سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً } .
محاولات للخروج :
عمّر الله الإِنسان في الدنيا دهراً ، وأعطاه فيها عقلاً يختار به ما يريد ، وإرادةً ينفّذ بها ما يختار ، فاختار بعض الناس سلوك طريق جهنم ، وعملوا ما يوصلهم إليها ، فلما بلغوا راحوا يحاولون الخروج منها ، ويَعِدون أنهم إن أُعيدوا إلى الدنيا آمنوا وأصلحوا ، يحسبون الامر كامتحانات الدنيا ، فمن رسب في دورة ، استدرك النجاح في أخرى ، لا يدرون أن من خرج من الدنيا لا يعود إليها ، ومن دخل النار من الكفار لا يخرج منها ، فحق عليهم قول الله عزّ وجلّ :
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ؟ ...وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } .
فيلجؤون (1) إلى خزنة جهنم ، كما يلجأ السجين إلى حُرّاس السجن ، يظن أنهم يملكون له نفعاً ، أو يدفعون عنه ضرّاً ، يقولون :
{ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ ، قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى ، قَالُوا ( لهم ساخرين منهم ) : فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } .
فإذا يئسوا منهم عمدوا إلى مالك ، رئيس حرس جهنم .
{ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } .
فأجابهم الجواب الصارم الحاسم ، قال :
{ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } .
فيفكرون في أن يفتدوا أنفسهم ، كما كانوا يفتدون الدنيا بالمال ، ولكن هيهات :
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ، وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
فلا تفيدهم هذه المحاولات شيئاً ، ويبقَوْن في جهنم :
{ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } وقيل لهم :
{ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } .


أحاديثهم واختلافهم :
وأهل جهنم في نزاع وجدال :
{ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ، وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ... هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ، قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ، قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ، وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ، أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ...إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ...وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } .
حوار بين أهل الجنة وأهل النار :
سبق ما يشير إلى أن أهل الجنة يستطيعون أن يطلعوا على أهل النار ، وفي القرآن أن هؤلاء وهؤلاء يتنادَوْن ويتحدثون .
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ...وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 08:06 AM
الأعراف :
الذي يُفهم من الآيات ، أن ( الأعراف ) مكان بين الجنة والنار . يقوم فيه مدة من الزمان مَنْ قَصُرَتْ به حسناته عن دخول الجنة ، ولم تبلغ سيئاته إدخاله النار ، يَرَوْن منه الجنة ويأملون في دخولها ويخاطبون أهلها ، ويَرَوْن النار ويعوذون بالله منها ويكلمون أصحابها ، وبينهما ( أي بين أهل الجنة وأهل النار ) حجاب .
{ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا ( أي أهل الأعراف ) وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( في دخولها ) ، وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا ( أي قال أهل الأعراف ) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
ورأَوْا في جهنم ناساً يعرفونهم ، كانوا في الأرض من الجبارين ، يعتزون بجموعهم وأتباعهم وجماهير العامة التي تؤيدهم ، فيتكبرون بذلك ويطغَوْن فنادُوهم وقالوا لهم :
{ مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ؟! } .
فيا ربِّ افتح أبصارنا حتى نرى الحقائق الدالة عليك ، ونوِّر بصائرنا حتى نبصر الطريق الموصل إليك ، وجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وارزقنا رضاك والجنة ، وأعذنا من غضبك والنار ، يا عفوّ يا غفّار .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 08:08 AM
الإِيمَان بالقَدَرِ
معنى القدر والقضاء :
الذي يُفهم من الآيات التي ذكرت القدر كقوله تعالى :
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
وقوله عن الأرض :
{ وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } .
وقوله عن القمر :
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } .
الذي يفهم منها أنّ القدر ، هو السنن التي سنها الله لهذا الكون ، والنظام (1) الذي سلكه به ، والقوانين الطبيعية التي سيّره عليها ، وأنّ كل ما فيه قد خُلق بمقادير معينة ، ونسب محددة ، فما من موجود إلا وقدر قبل إيجاده مقداره وعدد ذراته ، وكمية العناصر التي يتألف منها ونوعها .. إلخ
وأنا أوضح الفرق بين القدر والقضاء بمثال { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } : العمارات التي تقام تعلق عليها لوحة فيها : إن التصميم للمهندس الفلاني ، والتنفيذ للمقاول الفلاني ، فالمهندس يرسم الخريطة ويعين علو البناء وسمك الجدران ، وما يوضع فيها من الحديد و ( الإِسمنت ) والحجر ، ونسبة كل منها ، وما يكون فيها من أبواب ونوافذ ، يقدر ذلك ويحدده ، هذا مثال القدر . والمقاول ينفذ ما قدره المهندس ، وهذا مثال القضاء .
وكلاهما لله وحده . وكما يمكن للمهندس أن يبدّل ( إذا أراد ) في بعض تفصيلات التصميم ، فالله من رحمته جعل الدعاء والصدقة سبباً في رفع بعض ما كان مقدَّراً ، قدّرها وحده ، ورفعها بالدعاء وحده (2) .
__________
(1) النظام هو الخيط الذي تنظم به حبات العقد والسبحة والسلك الذي تسلك به .
(2) ولو كان كل ما يفعل العبد مجبراً عليه من الأزل ، لا يبدَّل ولا يعدَّل ، وليس له اختيار فيه ، لم يبق من فائدة لبعثة الأنبياء ، وجهاد الكفار ، ولا للدعاء . وقد دعا الأنبياء والخلفاء الراشدون وصلحاء كل أمة ، طالبين دفع البشر ، وجلب الخير .
________________


الثواب والعقاب :
هذا معنى القدر بوجه عام ، وهو يشمل كل موجود أوجده الله ، قدر الله مقاديره وأحواله ، وعلم ما سيكون له وما يكون منه ، ومن جملة مخلوقات الله الإنسان . وهنا تعترض مشكلة طالما خاض فيها الخائضون ، وطالما كثر فيها الجدال ، هي أمر الثواب والعقاب . إذا كان كل ما يقع في الكون مرسوماً ومعلوماً عند الله من قبل ، وكانت سنن الله لا تبديل لها ولا تغيير ، فكيف يكون الثواب والعقاب ؟ .
والجواب الإِجمالي : أنه لا بد من التفريق بين وضع الإِنسان المشاهد ( الملموس ) ، وبين صفات الله وأعماله ، وهي مغيَّبة ، لا يستطيع العقل أن يحكم عليها ، ولا يصل إلى إدراكها ، ولا يعرف عنها إلا ما جاء بطريق الوحي .



الإنسان مخير :
الإِنسان له حرية ، له ( عقل ) يستطيع أن يحكم به على الأمور المادية ، ويميّز به بين الخير والشر ، وله ( إرادة ) يستطيع أن يعمل بها الخير أو أن يعمل الشر .
وإذا كانت يدي سليمة ما بها مرض أو شلل ، فأنا أستطيع أن أرفعها ، فهل في الناس من يدَّعي أنني لا أستطيع رفع يدي ؟ وإذا كنت قادراً على رفع يدي رفعتها لأعطي فقيراً ديناراً ، أو رفعتها لأضرب بريئاً بالعصا ، فهل هذا كذلك ؟ أليس إعطاء الفقير حسنة تستحق الثواب ، وضرب البريء سيئة تستوجب العقاب ؟ .


والإنسان مجبر :
لقد استطعت أن أحرك يدي بإرادتي ، لأن الله جعل عضلاتها خاضعة لي ، ولكني لا أستطيع التحكم في عضلات قلبي ومعدتي .


حر مخيَّر في حدود الطاقة البشرية :
فالإنسان حر مخيَّر في حدود الطاقة البشرية ، وكونه مجبراً - في بعض الحالات - لا ينفي عنه صفة الحرية , فهو ( إنسان حر ) ، يتصرف ضمن الحدود الإِنسانية ، وليس إلهاً ليصنع ما يشاء .


الثواب والعقاب منوط بالحرية :
فإن لم تكن حرية فلا عقاب . المكره على فعل الشر لا يعاقب عليه . والله إنما يؤاخذنا على ما نملك الخيار في فعله أو تركه .
وإذا كانت المحاكم البشرية ، بعدالتها النسبية ، تقدر ظروف المتهم ودوافعه ، وبيئته واستعداده ، وترى تقدير ذلك من العدل ، فهل يُترك ذلك في حكمة رب العالمين ، التي فيها العدالة المطلقة ؟ وهل يعاقب المذنب الناشئ من والِدَيْن فاسِقَيْن ، وبيئة فاسدة ، والذي عاش طفولة مهمَلة مشرّدة ، كمن أذنب الذنب نفسه ، وهو ناشئ في أفضل البيئات ، مولود من خير الآباء .


مقاييس العدالة :
على أن أكثر علماء الكلام قد أخطؤوا أكبر الخطأ ، حين طبقوا على الله مقاييس العدالة البشرية .
تنبّهت إلى هذه الحقيقة بواقعة وقعت لي ، أسردها الآن فيها عبرة ، وإن لم يكن موضع سردها هذا الكتاب
كنت سنة ( 1931 ) أدرِّس في مدرسة إبتدائية في الشام ، وكنت في فورة الشباب وعنفوانه ، وفي رأسي خواطر ، وفي نفسي غرور ، وعلى لساني بيان واندفاع ، فعرضت لي شكوك في مسألة القدر ، كنت أسأل عنها العلماء ، فلا أجد عندهم الجواب الشافي لها ، فيدفعني الغرور إلى جدالهم وإزعاجهم . حتى جاء يوم كنت فيه في المدرسة ، وكنت أؤدب تلميذاً بالضرب ، ( وكان الضرب من وسائل التأديب في تلك الأيام ) ، ففجر الولد وتوقّح ، وجعل يصرخ ويقول : ( هذا ظلم .. أنت ظالم .. ) !! .
ثقوا يا أيها القراء ، أني لما سمعت ذلك سقطت العصا من يدي ، ونسيت الولد والمدرسة ، ورأيت كأني كنت في ظُلْمة فأضيء لي مصباح منير ، فقلت لنفسي : إن التلميذ يرى ضربي إياه ظلماً ، وأنا أراه عدلاً . والعمل واحد ، وإذا ذهب يشكو إلى أهله قالوا له : لا ما هذا ظلم ، هذا عدل ، إنه يضربك لمصلحتك . فإذا كان التلميذ لا يحق له أن يطبق مقاييسه الناقصة على عدالة المعلم ، فكيف أطبق أنا مقاييسي البشرية للعدالة على الله ؟ .
ألا يمكن أن يكون الفعل الذي أراه ظلماً هو عين العدل ؟
الولد المريض يرى الإِبرة التي يدخلها الطبيب تحت جلده ظلماً ، وهي في رأي أبيه عدل كل العدل ، لأن الولد نظر إلى ألمها ، والأب أبصر أثرها في شفاء الولد .


مع النصوص :
لا بد قبل الكلام على النصوص من التذكير بهذه القواعد :
1- إن عمل العقل منحصر بفهم النصوص ، ولا يستطيع أن يدرك من نفسه حقيقة القدر بالتفصيل ، لأنه - كما قدمنا - عاجز عن الخوض فيما وراء المادة ، لذلك ينبغي اجتناب المابحث التي لم يوضِّحها النص .
2- أن نعرف أن الاصل هو القرآن ، فإن تعارضت آية منه وحديث من أحاديث الآحاد ، ولم يمكن التوفيق بينهما على شكل مقبول ، أخذنا بالآية (1) .
_________
(1) من القواعد المعروفة عند أهل المصطلح : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يناقض القرآن ، ولا ما يخالف الواقع المشاهَد ، فإن روي حديث مناقض للقرآن ، أو يخالف الواقع المشاهد ، نحكم أن الرسول لم يقله ، ولو روي بسند صحيح .
_________


- أنه لا يمكن أن يكون في القرآن أو صحيح الحديث نص صريح ، ينكر وجود أمر واقع مشاهد ملموس ، لأن الذي أنزل القرآن هو الذي أوجد الواقع ، ولا ينفي ربُّنا ما أوجده .
4- إن كثيراً من النصوص التي يُفهم منها الإِجبار ونفيُ الاختيار عن الإِنسان كقوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } .
فلا يملك الوليد الذي صُوِّر بنتاً أن يجعل نفسه صبياً ، ولا الأسود اللون أن يصيِّر لونه أبيض .
ومثلها قوله تعالى :
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } .
وما يشير إلى الأحداث الكونية التي هي فوق طاقة الإِنسان كقوله :
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } .
ومثلها :
{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } .
وما يدل عى الظروف المؤدية إلى الصلاح أو الفساد ، وليست من صنع الإِنسان ، كقوله :
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } .
ومن الآيات التي جاءت فيها كلمة الهداية بمعنى الدلالة والإِرشاد ، كقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } .
وقوله :
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } .
الذي ظهر لي : أن أكثر هذه النصوص ، تشير إلى الأمور التي تؤثر في صلاح الإِنسان وفساده بعض التأثير ، وليست من صنعه ، وقد قدمت القول بأن الله لا يؤاخذ العبد عليها ، ولا يمكن أن يجبر الله عبده على أمر بحيث لا يستطيع تركه ثم يعاقبه عليه .
هذه هي النصوص التي وقف عندها أصحاب الفرق المنحرفة ، فأساؤوا فهمها ، وأخطؤوا في تطبيقها . وكان عليهم :
- التفريق بين آيات الإخبار عن مشيئة الله وقدرته وتصرّفه في ملكه ، والآيات المتعلقة بالثواب والعقاب .
2- اعتبار مجموع النصوص لا الوقوف عند أفرادها ، ومن تتّبع مجموع النصوص رأى أن القرآن يثبت للإِنسان الحرية والإرادة ، اللتين يترتّب عليهما الثواب والعقاب .
فمن يقرأ قوله تعالى عن القرآن : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } يفهم منه بادي الرأي (1) أن الهدى والضلال أمر مقرر ، قدّره الله على العباد ، فجعل هؤلاء ضالين ، وهؤلاء مهتدين . ولكن إذا انتبه إلى قوله تعالى : { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } ، وقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } ، علم أن الهدى والضلال ليس إلزاماً من الله ، ولكنه تبع لحالة المرء ، فإن كان متَّقياً كان القرآن هدى له ، وإن كان فاسقاً كان له ضلالاً .
وتبقى مع ذلك الشبهة قائمة ، فيقول القائل : وما يدريني إذا كان الله قد جعلني مع المتقين أو جعلني مع الفاسقين ؟
فإذا انتبه إلى قوله تعالى : { لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ... } ، وقوله : { ... إِلَّا الْفَاسِقِينَ ، الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } ، علم أن المسألة ليس فيها إجبار ، وأن مردها إلى صفات وأعمال داخلة في نطاق حرية الإِنسان وطاقته .
فإن عملتَ الثلاث الأولى كنت بذلك من المتقين ، فاستحققتَ الهداية ، وإن عملت الثلاث الأخرى كنت بذلك من الفاسقين ، فاستحققت الضلال .


بحث عقيم :
وهنا يرد قولهم : هل عملت السوء بمشيئة الله أم لا ؟ هل كنت أستطيع ألا أعمله ؟ وهل خَلَقت أنا عملي ؟ وأمثال هذه الأمور التي ملأ بحثها كتب علم الكلام . وذلك كله بحث عقيم ، لأن الخالق لا يقاس على المخلوقين ، والعقل لا يحكم على الله وصفاته ، والله لا يُسأل عما يفعل ، وإنما يسألنا عن أفعالنا ، والله عادل لا شك في عدله وخير لنا أن ننظر إلى أنفسنا ، وأن نحسن استعمال عقولنا ، ونعمل على توجيه إرادتنا إلى الخير ، وندع المباحث المتعلقة بالله ، التي لم يتكلم فيها السلف ولا شغلوا أنفسهم بها .


الاحتجاج بالقدر :
ومن العصاة من يحتج لعصيانه بالقدر ، تقول للزاني : لم زنيتَ ؟ فيقول : لأنه قُدِّر علي ! وهي حجة واهية ، مردودة من وجهين :
1- لأن الحساب والعقاب يكون على العمل ، وعلى الدوافع إليه والبواعث عليه . وهذا الزاني لم يطّلع على اللوح المحفوظ ويَرَ أن الزنا مكتوب عليه - كما يزعم - ويذهب ليزني تنفيذاً لحكم القدر ، وإنما تبع الشهوة ، وطلب اللذة العاجلة ، واستجاب لنداء الشيطان .
وقد احتج المشركون بمثل هذه الحجة فقالوا :
{ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } .
فرد الله عليهم بقوله :
{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ؟ } .
أي : من أين عرفتم قبل أن تشركوا أن الشرك مقدر عليكم ؟ وهل جربتم الإيمان فوجدتم أنه ممتنع عليكم ؟ .
2- أن لو كان هذا المحتج بالقدر صادقاً لرضي بكل ما يقدره الله عليه ، من فقر ومرض وجوع ، وفَقْد حبيب ، وذهاب مال ، والمشاهد أنه لا يرضى بذلك ، وهو مقدَّر عليه ، ولا يسكن إليه ، بل هو يعمل لجمع المال ، ودفع المرض ، وإذهاب الجوع ، ويألم لفَقْد الحبيب ، وذهاب المال . فلماذا سخَّر قواه كلّها ، واستعمل عواطفه لجلب لذة الدنيا ، ودرء الألم فيها ، ولم يسخِّر عقله لقمع الشهوة ، ومنع النفس من الحرام الذي ترغب فيه ، وهو يعلم ما في عقبه من العذاب .


نحن والسلف أمام عقيدة القدر :
خصوم الإِسلام يتهمون المسلمين اليوم بالتواكل والتكاسل ، لأنهم يؤمنون بالقدر . وإن كان في هذه التهمة بعض الحق ، كان السبب فيها سوء فهم كثير من المتأخرين لعقيدة القدر . لقد اتخذها كثير من المسلمين الجاهلين حجة لارتكاب المعاصي ، وسبباً للكسل والخمول ، مع أن سلفنا قد اتخذوا منها دافعاً إلى العمل والجهاد .


تقديس الأموات :
ذلك ( رد فعل ) لسوء حاضرنا ، وجلال ماضينا .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 08:09 AM
الإِيمَان بالغَيْبِ
عالم الغيب :
قدمنا في ( قواعد العقائد ) أن الحواس لا تصل إلى إدراك كل موجود ، وأن في الوجود عوامل حقيقية ، لا ندركها بحواسنا ، أقربها إلينا الروح التي يحيا بها كل واحد منا .
من ينكر وجود الروح ؟ لا أحد .
من أدرك ( ماهية ) الروح ؟ لا أحد .
فالعالَم المدرَك المشاهد ، هو الذي سماه القرآن : ( عالم الشهادة ) ، والعالم المغيَّب عن حواسنا - عالم ما وراء المادة ####physique - هو : ( عالم الغيب ) .
أما عالم الشهادة فيستوي في الإِيمان به والتصديق بوجوده الناسُ جميعاً (1) ، حتى الحيوان الأعجم يدرك بحسّه وجودَه . فلا فضل في الإِيمان به لأحد على أحد ، لأن ذلك من ( العلم الضروري ) . ولكنّ الفضل في الإِيمان بالغيب ، فيمن يؤمن بما لا يراه ويصدّق بوجوده ، اعتماداً على صدق الخبر به .
____________
(1) وإن كان منه ما لا يدركه البشر كالأجرام السماوية البعيدة التي تفصلنا عنها ملايين السنين الضوئية ( والضوء يقطع ثلاثمئة كيل في الثانية فقد يوجد جرم ويفنى قبل أن يصل ضوؤه إلينا ) .
__________________
وهذا ما يمتاز به المتقون ، ولذلك جعل الله أول صفة وصف بها المتقين ، في أول سورة البقرة ، أنهم : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } .
كيف نؤمن بالغيب ؟
نؤمن بالغيب ولم يعطنا الله الحواس التي ندركه بها ؟ إننا لو تُركنا لحواسنا نعتمد عليها وحدها ، ولعقولنا نحكم بها على ما جاء من طريق الحواس فقط ، لبقينا على جهلنا بما وراء المادة ، فكان من حكمة الله ، ومن رحمته بنا ، أنه لم يترك العقل في عجزه عن إدراكها ، بل أخبره بما يحتاج إليه من خبرها .
وهذا الإِخبار ليس صادراً عن الطاقة الإِنسانية ، ولكنه آتٍ من خارجها بطريق من الطرق الثلاثة :
الأول - أن يضع الله هذه الأَخبار في الإِنسان ، بإلهام أو بمنام ، أو بنوع من التلقّي الذي لا عمل فيه للإِنسان ، ولا يستطيع الوصول إليه باجتهاد ، فيحس بها ، ويعبر عنها .
الثاني - بأن يسمعها من غير أن يرى قائلها الحقيقي ، فتصل إلى أذنه ويدركها ويعيها .
الثالث - ( وهو الأعم الأكثر ) أن يرسل الله واحداً من مخلوقاته الخيِّرة ، المطيعة المغيَّبة عنا ، التي تسمى الملائكة ، إلى واحد من البشر ، يختاره الله ويصطفيه ، فيبلغه رسالة الله ، ويأمره أن يبلغها الناس .
فهذه ثلاثة طرق ليس لها رابع .
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } .


الغيب الذي يجب الإِيمان به :
والغيب الذي هو ركن الإِيمان ، والذي يكفر منكره ويخرج من ملة الإِسلام ، هو ما جاء في القرآن . أما الغيب الذي ورد في السنة الصحيحة ، فلا يكفر منكره ويخرج من الملة ، بل يفسق .
وهذا الفرق بين الكتاب والسنة يحتاج إلى شيء من البيان . ذلك أن ما أبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وما نطق به من الحديث ، هما في الأصل في درجة واحدة من الحجية (1) . فالقرآن وحي من الله بلفظه ومعناه ، والحديث وحي من الله بالمعنى ، واللفظ لفظ الرسول ، قال تعالى :
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
والصحابة الذين سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم الآية يبلغها ، والحديث ينطق به ، لم يكونوا يفرِّقون بينهما ، في وجوب العمل ، وفي الحجية .
ولكن الفرق نشأ من الرواية والنقل ، فالقرآن نُقل نقلاً متواتراً ، بحيث نجزم بأن النص الذي في المصحف ، هو الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي بلغه محمد أصحابه ، ما نقص منه شيء (1) ، ولا زيد فيه شيء ، ولا أبدل منه شيء . أما الحديث فَنَقَل جلّه ( إن لم نقل كله ) آحاد عن آحاد ، ولقد بذلك علماء الحديث في تمحيص روايته ، والفحص عن رجاله ، أقصى ما تصل إليه الطاقة البشرية ، ولكنا لا نقطع مع ذلك بأن الحديث الذي رواه ( البخاري ) و ( مسلم ) وأصحاب السنن ، قد قاله صلى الله عليه وسلم ، وأنه نقل بلفظه ، كما نقطع بأن ما في المصحف هو القرآن المنزل .
ولما كانت العقيدة أساس الدين ، ويترتب على الإِخلال بها الكفر والردة ، وكان لا يحكم على مسلم بالردة ما دام في الأمر احتمال ألا يكون كفر ، لذلك قلنا : إن من أنكر عقيدة جاءت بصريح القرآن يكفر ، ومن أنكر عقيدة وردت في صحيح السنة يفسق ولا يكفر . هذا إن ردها عناداً وخلافاً ، أما إذا كان من أهل الحديث ، العارفين بعلله ، ورد الحديث لعلة في سنده أو متنه ، فلا شيء عليه .
______________
(1) ومن اعتقد من أتباع الفرق المنسوبة إلى الإسلام ، أن الذي في المصاحف ليس القرآن كله ، وأن من القرآن ما ليس في المصاحف التي يتداولها المسلمون ، كفر وخرج من ملة الإِسلام ، إلا ما كان من الآيات التي قال قوم إنها منسوخة التلاوة ، ولم يثبت ذلك بخبر متواتر .
______________



المغيّبات :
المغيّبات التي أخبر بها الشرع ، ويجب بها الإيمان ، ويترتب على إنكارها الكفر ، هي الملائكة والجن ، والكتب والرسل ، واليوم الآخر وما فيه من الحساب ، وما بعده من الثواب والعقاب ، والقدر ، وما جاء في القرآن عن خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان ، وكل ما أخبر به القرآن .


شبهة وردها :
الماديون الذين لا يؤمنون إلا بما يحسون به ، نرد عليهم بالقاعدة الثالثة من قواعد العقائد التي تبين أنه لا يشترك من عدم الوجدان عدم الوجود ، وأنه لا يحق لنا أن ننكر أشياء لمجرد أننا لا نحس بوجودها ، والقاعدة التي بيّنا فيها أن الخبر الصادق يفيد اليقين ، كما يفيده الحس . وما دام قد ثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الله ، وثبت نقل هذا الخبر إلينا فقد حصل من هنا اليقين لدينا معشر المؤمنين بوجود هذه المغيَّبات .


أقسام الغيب :
عالَم الغيب على أقسام ، كل قسم منها يسمى غيباً :
1- قسم لم ندركه نحن ولكن أدركه غيرنا من البشر ، كقصة يوسف مثلاً ، سماها الله غيباً لأن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه لم يدركوها بحواسهم ، لم يَرَوْها ولم يسمعوا بها ، ولكن بني إسرائيل ، ( أعني أولاد يعقوب ) يوسف وإخوته ، أدركوها وعاشوها ، وكانت هي وقائع حياتهم .
2- وقسم لم يدركه البشر ، وإن كان من الممكن عقلاً أن يدركوه لو قدم الله موعد إيجادهم ، كالحوادث التي كانت في الأرض من قبلهم وأخبار المخلوقات التي كانت تسكنها ، ولكنهم لم يعرفوا عنها في الواقع ، وعن أخبار خلق أبيهم آدم ، وبداية الحياة البشرية ، إلا ما جاءهم من طريق الوحي .
3- وقسم لا يمكن إدراكه بالحواس ، ولا الحكم عليه بالعقل ، ولا الإحاطة بحقيقته بالخيال ، كصفات الله ، وما غيّبه عنا من مخلوقاته ، كالملائكة والجن والشياطين ، وأحوال يوم القيامة ، وما بعده من الحساب والثواب والعقاب .


شبهة وردها :
قد يقول قائل : إن من أمور الغيب التي استأثر الله بها إنزال الغيث والعلم بما في الأرحام ، فكيف تخبر النشرة الجوية عن جوّ الغد ، أصحو أم ماطر ؟ ويكشف العلم عما في بطن الحامل : هل هو ذكر أم أنثى ؟
والجواب :
1- إن الذي أنزل القرآن هو الله ، وإن الذي خلق الكون وما يقع فيه هو الله ، فلا يمكن أن يأتي في القرآن نص صريح قاطع بإنكار أمر قائم مشاهَد ملموس . وإذا وجدنا نصاً يظهر منه مخالف للواقع ، ندقّق النظر فيه ، فنرى أن المعنى المقصود منه غير ما بدا لنا (1) .
2- النشرة الجوية إنما تخبر عن المطر بعد رؤية أسبابه ، وتمام خلقه ، وبيان ذلك أن المطر الذي ينزل في سواحل الشام مثلاً ، تبيّن ( من العلم بسنن الله في الكون ) أن سببه الهواء الذي يجيء من البحر الأطلسي ، فيمر بمضيق جبل طارق ، فيصطدم بكتلة هوائية راكدة ، فتشكل السحب من اختلاف درجة حرارة الهواء القادم والهواء الراكد ، فإذا رأوه علموا استناداً إلى معرفة سنن الله أنه سيتوجه إلى ساحل الشام بعد كذا .
فهو كمن شاهد موزِّع البريد من نافذته ، وقدّر متى يصل إلى داره ، فقال لأهله : سيأتي موزع البريد بعد خمس دقائق , ما علم في الحقيقة الغيب ، ولكن رأى الواقع قبل أن يراه غيره .
ومثله من يخبر عن نوع الجنين بعد تشكيله .
وأما إنشاء السحاب ، وإنزال المطر في أرض كتب الله عليها الجفاف ، ومنعه عن أرض أنزله الله عليها ، ومعرفة جنس الجنين ، وهو لا يزال حُوَيْناً منوياً ، أو حويناً صادف بويضة ، فهذا هو المراد من الآية والله أعلم .
____________
(1) وهذا ، إذا كان النص آية من القرآن ، وليس في القرآن أية تدل دلالة قطعية على نفي أمر حكم العقل بوجوده حكما قطعياً . وأما إن كان النص حديث آحاد ( أي نقله واحد عن واحد ) ، فإننا نجزم أن الرسول لم يقله ، لأن الرسول صلوات الله عليه لا يقول ما يخالف القرآن ولا الواقع المحسوس .
___________________

عَرَبِيّة
05-14-2010, 08:11 AM
الإِيمَان بالمَلائِكةِ وَالجِنِّ
الوحي وإمكانه ولزومه :
الوحي ممكن عقلاً ، لأن الله قادر على خلق الملائكة ، واصطفاء الرسل ، وشرع الأحكام ، لا يمنع العقل ذلك ، بعد أن آمن بوجود الله ، وقدرته وإرادته . وهو واقع فعلاً ، لأن الخبر الصادق ورد به ، وقد قدمنا أن الخبر الصادق طريق من طرق العلم ( بمعنى اليقين ) ، وأننا نوقن بما نصدق الخبر به كما نوقن بما نراه ونسمعه . وهو لازم إذ لولاه لاقتصر البشر على عالم المادة ، ولجهلوا ما وراءه ، ولكانوا كالأنعام والمواشي ، يعيشون لدنياهم وحدها , لا يتصلون بربهم ، ولا يعملون لآخرتهم . ولولاه لفقد السمو الخلقي ، والرفعة الإِنسانية .


ومهما أوردوا من نظريات في علم الأخلاق La morale ، وفي الأساس الذي تُبنى عليه ، فإن الأخلاق إذا لم تُبْنَ على أساس من العقيدة ، كان بناؤها على كثيب من الرمل ، لأن الإِنسان مفطور على حب نفسه ، وجلب النفع لها ، ودرء الأذى عنها ، فلا يعمل عملاً لا يكون له فيه لذة أو كسب (1) .


ولو أن رجلاً لا يملك إلا ديناراً يدخره لعشائه ، ورأى صندوقاً لمساعدة الأيتام ، هل يضع الدينار في الصندوق إذا كان لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويبيت طاوياً ولا يخبر بذلك أحداً يراه ؟
أما المؤمن فإنه يضعه في الصندوق لأنه يعلم أن الله يراه ، ويعطيه بدله سبعمئة دينار يوم القيامة . المؤمن وحده هو الذي يعمل الخير ، رآه الناس أم لم يَرَوْه ، شكروه أم لم يشكروه ، أثابوه وعوّضوه عنه أم لم يثيبوه ولم يعوِّضوه .


ولو حاسب الله الناس في الآخرة على ذنوبهم ، ولم يرسل إليهم رسلاً يعرّفونهم شرع ربهم ، لاحتجّوا وقالوا : { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } .
ولادَّعوا أنهم لو بُلِّغوا الرسالة لعملوا بها ، ولو عرفوا الشريعة لاتّبعوها فكانت الرسالات { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } .


شبهة وردها :
يقول ناس : لماذا لم يهد الله الناس كلهم إلى طريق الجنة ؟ ولماذا وضع في نفوسهم الشهوة ثم عاقبهم على الزنا ؟ وغرز فيهم حب المال وحاسبهم على جمعه من غير الحلال ؟ والجواب : أولاً - إن الله لا يقال له ( لماذا ) لأنه لا يُسأل عما يفعل ، ولأنه الحاكم المطلق له الأمر وله الحكم ، ثم إن هذا القول كقول طلاب المدرسة : لماذا لا يعطوننا أسئلة الامتحان من أول السنة ، ولماذا أخفَوْها عنا ، وكلّفونا الاستعداد لها ؟ إنهم أخفوها ليجدّ الطالب ويقرأ المقرر كله ، ولو أعطيناه أسئلة الامتحان من الآن ، لما بقي معنىً للامتحان .
والدنيا دار ابتلاء ، والابتلاء في لغة العرب الاختبار ( الامتحان ) ، ليتميز الطائع من العاصي ، والمستقيم من المنحرف ، ولولا حواجز السباق (1) لما بان الخائر الضعيف من الفارس المغوار .
_________
(1) أي سباق الخيل .
ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ، ولو أراد لخلقهم للطاعة الخالصة كما خلق الملائكة ، ولكن هكذا شاء ، ولا رادّ لما يشاء ، ولا يُسأل عما يفعل ، ونواصينا بين يديه ، ونحن ملك له راجعون إليه ، ما لنا رب غيره ولا إله سواه ، إن شاء عذّبنا وإن شاء عفا عنا ، ونحن نسأل الله عفوه ورحمته ، ونعوذ به من عذابه ، لأننا لا نستطيع أن نتخلص من عذابه إلا بعفوه ، ولا نستطيع أن ننال العفو إلا منه وحده .
______________


الملائكة :
وجود الملائكة ثابت وارد في القرآن ، فمن أنكر شيئاً مما ورد في القرآن من خبرهم كفر ، والذي ورد من خبرهم وصفتهم في القرآن هو :
1- أنهم خُلقوا قبل البشر ، وخبّرهم ربّنا أنه :
{ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } .
2- أنهم خُلقوا للطاعة الخالصة :
{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
فهم :
{ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .. وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ .. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } .
3- وأن الله لما أتمّ خلق آدم ، علّمه الأسماء (1) وامتحنهم بالسؤال عنها فلم يعرفوها حتى أعلمهم آدم بها ، فلمّا بان فضله بذلك عليهم ، أمرهم بالسجود له ، سجود تحية لا سجود عبادة .
4- أنهم يتشكلون بأشكال مادية أحياناً ، ويظهرون بصورة بني آدم ، ففي قصة مريم :
{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } .
5- وأن مقرهم السماء ينزلون منها إلى الأرض (1) بأمر الله :
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } .
6- وأنهم درجات وأصناف في أصل الخلقة وفي مقام العبودية ، جعلهم الله :
{ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ... وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ } .
فمنهم من ينزل بالوحي وهو جبريل :
{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } .
ومنهم ملك الموت (2) الموكَّل بقبض الأرواح :
{ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } .
_________
(1) إذا كان في النجوم ما يحتاج الوصول إليه إلى مليار سنة ضوئية ، والسماء أبعد من النجوم كلها قطعاً ، فبأي سرعة كانوا ينزلون ؟ إن العقل يعجز عن تصور هذه السرعة ! .
(2) لم أجد ( على كثرة ما بحثت ) نصاً من كتاب أو سنة ثابتة أن اسمه ( عزرائيل ) .
______________


......... إلخ


7- ومن أعمالهم التي خبر القرآن عنها ، أنهم يثبّتون المؤمنين في المعارك :
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } .
ويبشرون المؤمنين عند الموت ويؤنّبون العاصين :
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا ... إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ }
... إلخ


أنهم لا يتناكحون ولا يتناسلون ، ولا يوصفون بذكورة ولا أنوثة .
هذا جل ما جاء في القرآن من خبر الملائكة ، وفي السنة الصحيحة كثير من أخبارهم . جاءت في أحاديث آحاد ، لكن صحت روايتها ، وثبت سندها . ومن أنكر شيئاً مما ورد في القرآن عن الملائكة أو غيرهم كفر .
والإيمان بالملائكة أحد أركان العقائد الإسلامية :
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ... } .


ثمرة الإيمان بالملائكة :
ازدياد الشعور بعظمة الله ، واستشعار رحمته ، إذ وكّل الملائكة بالدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم ، والتحرز عما أمكن من المعاصي ، حين يتذكر أنهم يسجّلون عليه كل ما يقوله ويفعله ، والإِقدام والشجاعة في الجهاد ، حين يتصور أنهم يؤيدون المجاهدين ، بأمر رب العالمين ، والعمل للجنة ليكون ممن يسلّمون عليه ، والبعد عن أسباب دخول النار لئلا يكون ممن يوبّخونه .
ومن ثمراته الإجمالية التشبه بهم في لزوم الطاعة ، واجتناب العصيان ، وتقوية الجانب الملائكي في الإِنسان .

عَرَبِيّة
05-14-2010, 08:15 AM
الجن :
خبّر الله في القرآن بأنه خلق خلقاً آخر ، تعجز عيوننا عن رؤيتهم على صورهم الأصلية ، كما تعجز عن رؤيته الملائكة ، ورؤية الأشعة التي هي فوق البنفسجية وتحت الحمراء , وهذا الخلق هو الجن .
والذي يجب الإيمان به ، ويكفر منكره ، هو ما جاء من أخبارهم في القرآن ، وإن لم يخصِّصه الله بالذكر ، ويجعله من أركان الإيمان صراحة كالإيمان بالملائكة .


1- خبّر القرآن أن الجن خُلقوا من النار .
ولا يلزم من هذا أن يكونوا ناراً تحرق ما تمسه ، ولا يمنع أن يكون الله قد حوّلهم فيما بعد إلى طبيعة أخرى . فالإنسان خُلق من الطين ، ولكنه لم يبق طيناً بل أنشأه الله خلقاً آخر على سنة الله في الكون ، إذ يحوّل المخلوقات من حال إلى حال . فيجعل من ( الخلية ) أحياء مختلفي الصفات والهيئات والطبائع ، ويجعل من ( البذرة ) اليابسة شجرة خضراء الأوراق ملونة الأزهار .
2- وخبّر أنهم خلقوا قبل خلق الإِنسان :
{ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } .
3- وأنهم يروننا ولا نراهم
{ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ } .
4- وأنهم مُكلَّفون مثلنا
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ... وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ... } .
5- وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بلغتهم
كما بلغتهم من قبلها رسالة موسى :
{ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } .
6- وأنه كان منهم الصالحون والعاصون
وأنهم كالبشر أصناف :
{ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً ... وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } .
7- وأن الله سخرهم لسليمان :
{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ (1) وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } .
8- وأنهم لا يعلمون الغيب
لذلك لبثوا يعملون لسليمان بعدما مات :
{ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
9- وأن الله تحداهم ، كما تحدى البشر أن يأتوا بمثل القرآن :
{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } .
10- وأنهم كانوا يتحسسون أخبار السماء من الملائكة ، فلما جاء الإسلام مُنعوا من ذلك ورُمُوا بالشهب :
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً } .


الشياطين :
وهم كفار الجن ، أبوهم إبليس .
الشياطين في القرآن :
1- الشيطان هو العدو الأول للبشر ، أخرج أباهم من الجنة ، وهو يعمل على منعهم من دخولها ويبعدهم عن طريقها . ويغريهم بسلوك طريق النار ، وهم مع ذلك يتبعونه ويَدَعون شرعَ الله إلى وسواسه ، وهديَ الأنبياء إلى ضلاله .
وقد وبّخهم الله على فعلهم وعلى هذه الحماقة منهم ، إذ يستجيبون لعدوهم الذي يريد العذاب لهم ، ولا يستجيبون لربهم الذي يدعوهم ليغفر لهم ويرحمهم :
{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
2- دلت هذه الآية على أن الشياطين يتناسلون ، ويكون لهم ذرية وأنهم جميعاً ذرية إبليس .
3- سلط الله الشيطان على الناس ، ولكنه لم يعطه القدرة على النفع والضرر ، ولم يمنحه القوة التي لا تُدفع ، بل أعطاه الكيد :
{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً... وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ...وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ ...} .
4- عمله الوسواس والإغراء بالشر والدعوة إلى القبائح :
{ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ... يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً } .
برنامجه كله ينحصر في الشر والفحش والخلاف ، وأول مادة في هذا البرنامج وأول ما فتن به آدم وحواء ، التكشّف والتعرّي ، ولبس القصير من الثياب :
{ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا } .
فكان نزع الثياب ، وإبداء العورات ، أول مادة في هذا القانون الشيطاني .
ومن شأن إبليس أن يحسّن في عيون أتباعه ( السيّءَ ) حتى يَرَوْه حسناً ، ويجمّل لهم القبيح فلا بصرونه قبيحاً :
{ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
ومن شأنه أن يدفع أولياءه إلى إثارة الشبه في وجوه المؤمنين ، وشغلهم عن دعوتهم دعوة الحق بالجدال والمراء ، وقد نبّهنا الله إلى ذلك ، وقال لنا :
{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ... } .
فلا تستجيبوا لهم ولا تسقطوا في شركهم :
{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
ومن شأنه أن يشغل المؤمن عن ذكر ربه حتى ينساه ، فيقدم على المعاصي ، فالعاصون :
{ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } .
ولكن :
{ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ( فأنساهم ربهم ) تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } .
{ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ( فأنساهم ربهم ) تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } .
5- لكن الشيطان رغم دأبه على الإفساد ، وثباته على عداوة بني آدم ، وأنه يأتيهم عن أيْمانهم وعن شمائلهم ، ومن أمامهم ومن خلفهم ، وأنه يقعد لهم كل مرصد ، وأنه يستفِزّهم بصوته ويجلب عليهم بخيله ورَجِلِه ، وأنه يشاركهم في الأموال والأولاد ... إنه على هذا كله لا يملك إلا الوسواس ، والإغراء بالشر ، لا يقدر على نفع لهم ولا ضر ، وحين يتجادل الكفار والشياطين في الآخرة ، يقول لهم :
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ... } .
ولما دعا إبليس ربه أن يؤجّل موته ، وأجابه :
{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } .
قال الله عز وجل :
{ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ... إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } .
6- وهو يخذل أتباعه ويتخلى في ساعة العسرة عنهم ، ويخون عهدهم :
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ ( أي : يوم بدر للمشركين من أهل مكة ) لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } . يعني الملائكة التي نزلت يومئذ لتأييد المؤمنين ، { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } .

عَرَبِيّة
05-28-2010, 10:55 PM
الإِيمَان بالرُّسُلِ
الرسل جميعاً بشر ، لا يختلفون عنهم في شيء.
_______
(1) الرسل جميعاً بشر : يشبهون البشر في كل شيء ، إلا ما كان من ذلك منافياً لاصطفائهم للرسالة كالأمراض المشوِّهة المنفِّرة ، أو المانعة من القيام بالدعوة .
__________
ليس فيهم شيء من الألوهية ، لأن الألوهية لله وحده ، ولكنهم بشر يوحى إليهم ، وقد عجبت الأمم الاولى من الوحي فقال لهم الله عز وجل راداً عليهم ، مبيِّناً أنه لا مكان لعجبهم :
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } .
وعجبوا أن يكون الرسول من البشر ومنعهم من الإِيمان :
{ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً } .
فردّ الله عليهم بأن الرسول إنما يكون من جنس من أُرسل إليهم ، فالبشر يُرسل إليهم رسول من البشر :
{ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً } .
وناقشوا رسلهم :
{ قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ... قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وقد منَّ علينا فأوحى إلينا الشريعة ، وأمرنا بتبليغها .
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } . فرد الله عليهم مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } .
وقال لهم رداً عليهم :
{ وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( أي : على هيئة رجل ) وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } .


حقيقة الرسول :
الرسول بشر يمتاز بالوحي ، وقد قال تعالى لمحمد :
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } .
وقد أكد بشريته باستعمال ( إنما ) وهي تفيد الحصر والقصر ، وتنفي عنه ما ينافي البشرية ، ثم أكدها مرة ثانية بقوله : ( مثلكم ) .
هو مثلنا في تكوين جسده ، وطبيعة خَلقه ، ولكنا لسنا جميعاً لا في خُلُقه ، ولا في مزاياه ولا في عظمته .


فإذا كان بشراً مثلنا ، يجوز عليه ما يجوز علينا ، فهل يخطئ كما نخطئ ؟ والجواب :
1- إن الخطأ إما أن يكون في مجال التبليغ عن الله ، وفي بيان الشريعة . وهذا النوع من الخطأ يستحيل وقوعه من الرسل جميعاً ، لأن الرسول { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } .
ويستحيل أن تقع من الرسول ( بعد رسالته ) معصية ، أو يأتي ما يجرح العدالة أو يُخِلّ بالمروءة أو ينافي الكمال ، لأن الله جعله قدوة ، وأمر المسلمين أن يتأسّوا به ، وأن يتبعوه في فعله :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
وهذه الأسوة ثابتة للرسل جميعاً :
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
وذلك يقتضي العصمة من ارتكاب المعاصي وإتيان النقائص .
2- وإما أن يكون الخطأ في أمر شرعي اجتهد فيه الرسول ، ولم ينزل عليه فيه شيء من ربه . وهذا النوع من الخطأ ممكن وقوعه من الرسل ، ولكن الله لا يقرّهم على الخطأ بل يبيّن لهم وجه الصواب فيه ، كما وقع من الرسول في قصة الأعمى ، وفي قصة أسرى بدر ، اجتهد فبيّن الله له أنه لم يصب في اجتهاده .
وقد فكّرت في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم يوم جاءه الأعمى ، وقلت لنفسي : لو لم ينزل الله هذه الآيات من ( عبس وتولى ) ، وعرض موقفه على عقلاء الدنيا وساستها وعلمائها ، هل كان فيهم أحد يقول بأن في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم ما يُنتقد أم يقرر الجميع أن الذي فعله هو عين الصواب ؟ .
رجال من كبار القوم يتألّفهم ويحاول أن يكسبهم لنصرة الدعوة ، فيأتي واحد من أتباعه يسأله عن مسالة ليست مستعجلة ، ولا ينشأ عن تأخيرها ضرر ، وهو يستطيع أن يسأل عنها في كل وقت ، فيُرجىء جوابه حتى ينتهي مما هو فيه . هل يفعل أحد من الناس غير هذا ؟ هل في الدنيا من لا يقول بأن عمل الرسول هو الذي يَرَوْنه الصواب ؟ .
إنه هو الصواب في مقياس المنطق البشري ، ولكن لما نزل الوحي بمقياس آخر ، تبين أن ميزان الله أقوم من موازين الناس ، وأن حكم من خَلَق العقل أصح من حكم العقل ، بل هو الحكم القويم ، وحكم العقل هنا هو المعوّج المنحرف .
3- وإما أن يكون الخطأ في أمر من الأمور الإِدارية والحربية ، وهذا أيضاً ممكن وقوعه لأن الرسول بشر ، يفكر في هذه الأمور تفكيراً بشرياً ، وقد كان الصحابة يسألونه في مثل هذه الأحوال : هل القرار الذي قرره بأمر من الله ووحي ، أو باجتهاد منه ؟ فإن خبّرهم بأن ليس لديه فيه أمر من الله ، وأنه رأي شخصي ، عرضوا عليه آراءهم فأخذ بها أو ردّها .
4- أما الأمور الدنيوية الخالصة ، فكان الرسول يتكلم فيها برأيه الشخصي ، وقد يخطئ في الأمور الصناعية والزراعية والطبيّة التي لا يعرفها في العادة إلا أهلها ، كما أخطأ في مسألة تأبير ( أي تلقيح ) النخل ، وليس في هذا عيب أو نقص ، لأنه لا يُطلب من العظيم ولو كان عالماً - ولو كان أكبر علماء الدنيا - أن يعرف كل الذي يعرفه أرباب الصناعات ، ورجال الزراعة والتجارة ، وسائر المهن .
ومسألة تلقيح النخل مسألة زراعية فرعية ، أبدى فيها صلى الله عليه وسلم رأياً عارضاً ، لم يُلزمهم به ولم يحملهم عليه ، ولم يقل لهم إنه من الدين ، وإن الله أوحى به ، فلما تبين له خطؤه قال : " أنتم أعرف بأمور دنياكم " (1) .
________
(1) ولعل الحديث الوارد في الذباب إذا سقط في الإناء من هذا القبيل ، والدليل على ذلك أنه لم يقل أحد : إن غمس جناحي الذبابة واجب ، وإن مخالفة هذا الأمر - وعدم غمسه – حرام
______________


الرسول لا يعلم الغيب :
قال تعالى : { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ... قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .


الرسل كثيرون وأصول الرسالات واحدة :
بيّن الله في القرآن أن لكل أمة من الأمم رسولاً أرسله الله إليها :
{ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ... وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ } .
ولكن الله لم يذكرهم جميعاً في القرآن ، بل ذكر بعضاً منهم :
{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } .
ولكنهم جميعاً بُعثوا بتوحيد الله ، والتصديق باليوم الآخر ، واتباع ما شرع الله . فأصول الإسلام هي نفسها أصول الديانات السابقة ، التي بُعث بها الرسل الأولون :
{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } .
أرسل كل رسول إلى قومه وجعل رسالته إليهم بلسانهم ليكلِّمَهم ويُفهمهم :
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... } .
وختم هذه الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعلها عامة للناس جميعاً ، وجعله خاتم النبيين فلا نبي بعده ، ولا وحي ينزل من السماء بعد أن انقطع بموته ، وكان بها كمال الدين وإتمام النعمة :
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } .
سؤال وجوابه :
قد يسأل سائل : كيف كانت رسالة محمد للناس كلهم ، وكانت رسالة كل رسول إلى قومه ، وكيف بقيت إلى يوم القيامة لا تُنسخ ولا تُعدّل ، وقد نُسخت الشرائع من قبلها وعُدّلت ؟ .
والجواب ( والله أعلم ) : إن شريعة الإسلام جاءت مرنة ، تصلح لكل زمان ومكان . وبيان ذلك أن العقائد والعبادات في الإسلام جاءت بها نصوص قطعية مفصّلة ، لا تقبل التعديل ولا التبديل ، لأن العقائد والعبادات لا تتبدل بتبدل الأزمان ، ولا تختلف باختلاف الأعراف .
والأوضاع الدستورية والمعاملات المالية والأحوال الإِدارية ، التي يؤثر فيها تبدل الزمان واختلاف العرف ، جاءت فيها نصوص عامة هي كالأساس والدعائم في البناء ، وتُرك لنا أن نضع لكل زمان ما يصلح له بشرط المحافطة على هذه القواعد .
وأمثل على ذلك بأمثلة أعرضها عرضاً موجزاً :
من الأمثلة : أن الإِسلام أوجب أن يكون الحاكم منتَخَباً برأي الأمة ، وأن يكون فيه من الصفات ما يمكنه من القيام بأعباء الحكم ، وأن يلتزم بالدستور الإِسلامي الذي هو القرآن ، وأن يستشير أهل الحَلّ والعقد .
وترك لنا تحديد أسلوب الانتخاب ( أي البيعة ) ، وطريقة تعيين أهل الحَلّ والعقد ، وكيفية الاستشارة ... إلخ .
وألزمنا أن نحكم بين الناس بالعدل ، ولكنه ترك لنا رسم الطريق الموصل إلى العدل ، وأن نحدد أسلوب تعيين القضاة وأصول المرافعات .
وفتح لنا باب ( الاستصلاح ) ، فكل أمر فيه مصلحة للمجتمع الإِسلامي ، وليس في الشرع ما يوجبه أو ينهي عنه ، إذا أمر به الحاكم المسلم ، صار واجباً دينياً ، كالقوانين المالية ، وقانون أصول المحاكمات ، والأنظمة الإِدارية ، كنظام السير ، ونظام البلديات ، وأمثالها .


فالإسلام فيه من المرونة ما يجعله صالحاً لكل زمان ومكان ، ولكن بعض الفقهاء المتأخرين - لضيق أذهانهم - يضيّقون على الناس ما وسعه الشرع ، حتى يضطروهم ( كما قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكيمة ) إلى ابتغاء التوسعة ، في غير ما جاء به الإِسلام .
وسبب آخر : هو أن الأمم كانت ( على عهود الرسل الأولين ) تعيش في عزلة ، لا تقاربَ بينها ولا اتصال ، إلا على الدواب والجمال ، فتعارفت الأمم بعد رسالة محمد ، ودنا البعيد ، وطُويت للمسافر الأرض ، حتى وصلنا إلى زمان تُلقى فيه الخطية في أميركا ، فيسمعها مَنْ في الصين قبل من كان قاعداً أمام الخطيب (1) ، وصارت الدنيا كأنها بلد واحد ، والأمم كلها أمة واحدة ، ولو أن المسلمين قاموا بما يجب عليهم من الدعوة لدينهم ، وتبليغ رسالة الإسلام ، لعمت هذه الدعوة الأرض كلها .
__________
(1) هذه حقيقة : لأن انتقالها عن طريق الموجات الإذاعية أسرع من انتقالها عن طريق الاهتزازات الهوائية .
________________


الإسلام لا يفرق بين الرسل :
وإذا كان في اتباع الأنبياء ( ممن يدعون الأنتساب إلى واحد منهم ) من يطعن على غير نبيه ، فإن الإسلام أوجب على المسلم تعظيم الأنبياء والرسل جميعاً ، فإذا أساء القول في واحد منهم أو طعن عليه ، خالف طريق الإسلام :
{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } .
فالمسلم يحب موسى وعيسى وغيرهما كما يحب محمداً ، ويجلّهم ويكبرهم كإكباره محمداً وإجلاله .
واليهودي الذي دخل النصرانية لما جاء بها المسيح لم يخسر موسى ، ولكنه ربح معه عيسى . والنصراني الذي يدخل اليوم في الإسلام لا يخسر عيسى وموسى ، ولكن يربح معهما محمداً ، وصلى الله على محمد وعلى جميع الأنبياء المرسلين .


الرسل في القرآن :
المسلم يعتقد أن القرآن كلام الله ، نزل به جبريل على محمد ، وبلغه محمد كما سمعه من جبريل ، وأن ما بين دفّتي المصحف هو القرآن كله ، كما نزل به جبريل ، فمن أنكر شيئاً منه أو شكّ فيه ، خرج من الإِسلام .
وقد ورد في القرآن ذكر خمسة وعشرين نبياً ، جُمعت أسماؤهم في خمس آيات هي قوله تعالى :
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } .
وقوله تعالى :
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ، وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } .
وقوله :
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً .. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً .. وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ } .


وذكر آدم ولم يصرح بأنه كان رسولاً ، ولكن قد تدل الآيات التي ذكر فيها على ترجيح القول برسالته .
خمسة وعشرون ، منهم من اقتصر على ذكر اسمه كإدريس وذي الكفل ، ومنهم من أورد قصته موجزة كإسماعيل وإسحاق ويونس ، ومنهم من أورد قصته مفصلة كإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى . وكل ما جاء به في القرآن من قصص الأنبياء حقٌ وصدق يجب الإيمان به :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } .


المعجزات :
لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس ، فذهب وعاد في ليلة واحدة لم تستطع قريش أن تصدق ذلك ، وعدّته مستحيلاً ، لأنه لا يمكن تحقيقه بوسائلها المعروفة وهي الإِبل والدواب ، ولكن هذا المستحيل صار اليوم أمراً ممكناً مألوفاً ، لا يُعجب منه ولا ينكره أحد .
ولو قيل لأكبر علماء الطبيعة قبل قرن أو قرنين من الزمان : إن الناس سيركبون متن الريح بمراكب من الحديد والفولاذ ، ويخترقون نطاق الهواء ، ويسجلون حديث المحدث وخطبة الخطيب فيُسْمعونها من شاؤوا متى شاؤوا ، ولو مات المحدث والخطيب ، لقال : إن ذلك مستحيل ، مع أنه وقع اليوم وصار معروفاً .
فكيف تحقق المستحيل ؟
الجواٍب : إن المستحيل قسمان ، مستحيل في العادة ، كالأمور التي ذكرتها . ومستحيل في العقل كاجتماع النقيضين ، والوجود والعدم مثلاً . فلا يكون الرجل نفسه موجوداً في هذا الوقت في هذا المكان ، وهو غير موجود فيه . وكتبدُّل هويّة الشيء فلا يكون الكتاب ملعقة ، في الوقت الذي يكون فيه كتاباً .
المستحيل في العقل لا يتصوّر وقوعه ، أما المستحيل في العادة ، فقد رأينا كيف أن العلم ( علم العبد بقوانين الطبيعة ) (1) صيّره ممكناً . فهل يعجز الخالق الذي أوجد هذه القوانين أن يصيّره ممكناً ؟! .
لا شك في قدرته على ذلك ، فوقوع المستحيل في العادة ممكن لله عز وجل ، فإذا صح الخبر به تحقّقنا من وقوعه ، وأيقنّا به .
____________
(1) أي سنن الله في الكون .
___________________

عَرَبِيّة
05-28-2010, 10:57 PM
الكرامات :
وقد جاء في القرآن ذكر ثلاثة أنواع فيها وقوع المستحيل في العادة .
نوع وقع على يد الرسل لمّا تحدّتهم أقوامهم ، إثباتاً لرسالتهم ، وتأكيداً لصدقهم ، ويسمى المعجزة , فإبراهيم أُلقي في النار ، فبدّل الله طبيعة النار المحرقة وجعلها برداً وسلاماً ، وموسى ألقى عصاه فانقلبت حيّة , وكذلك كل ما جاء في القرآن من المعجزات .
ونوع وقع على يد وليٍّ لله صالح ، كوجود الطعام عند مريم في المحراب .
ونوع وقع على يد كافر ، كما صنع السامِرِيّ لبني إسرائيل من الحُلِيّ عجلاً له خوار ، وتسمى استدراجاً .
ويجب الإيمان ( أولاً ) بأن الأنواع الثلاثة ممكنة الوقوع ، لأنها وردت في القرآن .
ويجب الإيمان ( ثانياً ) على وجه التفصيل ، بكل ما ورد من ذلك في القرآن .
أما ما يرويه الناس من الكرامات بنسبونه إلى بعض من يسمونهم أولياء ، فهو خبر يحتمل الصدق والكذب ، فإن كان واقعاً من ولي - والولي هو المؤمن التقي : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } - ولم يكن فيه معصية ، وصدّقتَ به ، لم يكن عليك من الله شيء ، وإن لم يصح عندك فلم تصدّق به ، لم يكن عليك من الله شيء .
أما إن كانت الكرامة المزعومة تشتمل على معصية ، ( كبعض ما يروي الشَّعْراني في الطبقات ) ، أو كانت واقعة من غير مؤمن ، أو من غير تقيِّ ، فليست كرامة .
المعجزة والسحر :
لما كانت المباراة بين موسى وبين سحرة فرعون ، ألقَوْا حبالهم وعِصِيَّهم ، فرآها الناس حيات وثعابين ، وألقى موسى عصاه فصارت حية ، وأكلت هذه الحيات والثعابين ، فهل الأمران سواء ؟ هل عمل موسى من جنس عمل سحرة فرعون ؟!
إذا كان من جنسه فلماذا آمن السحرة ؟ كان عمل السحرة خداعاً للبصر وإيهاماً للناس . أرَوْهم حيات وثعابين مع أن الحبال والعصي لا تزال على حالها ، حبالاً وعصياً . أما عصا موسى فقد تحوّلت ( فعلاً ) إلى حية .
لذلك آمن السحرة هذا الإِيمان السريع ، إنهم رأوا شيئاً ليس من السحر ، ولا من التخييل ، ولا من التهويل . شيء هزّ قلوبهم حتى اضطرها إلى الإيمان ، وبلغ منهم الإيمان مبلغاً ، جعلهم يتحدَّوْن فرعون ولا يبالون به ، إنهم تصوروا عظمة الله الذي آمنوا به ، فهانت عليهم عظمة فرعون الزائفة ، وربوبيته المكذوبة . لقد صغرت الدنيا في عيونهم فلم يحفلوا بتهديد فرعون إياهم بالصلب وقطع الأعضاء . إن فرعون لا يملك إلا تعذيبهم في الدنيا وما الدنيا في جنب الآخرة ؟ وما عذابها المؤقت عند نعيم الآخرة الدائم ؟ لذلك صرخوا في وجهه مستهينين بقضائه : { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } .
إني أتمنى والله وأنا المولود في الإِسلام ، الذي تسلسل من آبائه الإِسلام ، أن يكون لي مثل هذا الإيمان الذي كان لسحرة فرعون ، بعد دقائق معدودات من إسلامهم (1) .
____________
(1) الإسلام له معنى عام ، ومعنى خاص ، ومعنى أخص ، فالمسلم بالمعنى العام : كل من اتبع رسولاً وقت رسالته ، والمسلم بالمعنى الخاص من اتبع رسالة محمد ، والمعنى الأخص : ما ورد في حديث ( جبريل ) ، الذي شرح معنى الإِيمان والإِسلام والإِحسان ، وإطلاق الإسلام هنا بالمعنى العام .
____________


معجزات محمد عليه الصلاة والسلام :
المعجزتان الكبريان : القرآن ، وهذه المزايا المفردة ، التي جعله الله بها أهلاً لحمل رسالة الإِسلام .
ترجمة حياته صلى الله عليه وسلم كانت في ذاتها معجزة .


و محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها , وإن من الظلم لمحمد ، وإن من الظلم للحقيقة ، أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم في دياجي التاريخ ، من يوم وجد التاريخ , وما من أحد من هؤلاء إلا كانت له نواحٍ يحرص على سترها وكتمان أمرها ، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها . نواح تتصل بشهوته ، أو ترتبط بأسرته ، أو تدل على ضعفه وشذوذه ، ومحمد هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعاً ، فكانت كتاباً مفتوحاً ، ليس فيه صفحة مطبقة ، ولا سطر مطموس ، يقرأ فيه من شاء ما شاء .
وهو وحده الذي أذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كل ما يكون منه ، ويبلّغوه ، فرَوَوْا كل ما رأَوْا من أحواله في ساعات الصفاء ، وفي ساعات الضعف البشري ، وهي ساعات الغضب ، والرغبة ، والانفعال .
وروى نساؤه كل ما كان بينه وبينهن ، هاكم السيدة عائشة تعلن في حياته وبإذنه أوضاعه في بيته ، وأحواله مع أهله ، لأن فعله كله دين وشريعة , لقد رووا عنه في كل شيء حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية ، فعرفنا كيف يأكل ، وكيف يلبس ، وكيف ينام ، وكيف يقضي حاجته ، وكيف يتنظّف من آثارها .


والعظمة إما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية . وإما أن تكون بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم .
وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته وفي تاريخ العالم .
ولكل عظيم جانب من هذه المقاييس تقاس بها عظمته ، أما عظمة محمد فتقاس بها جميعاً لأنه جمع أسباب العظمة ، فكان عظيم المزايا ، عظيم الأعمال ، عظيم الآثار .
والعظماء إما أن يكونوا عظماء في أقوامهم فقط ، نفعوها بقدر ما ضروا غيرها ، كعظمة الأبطال المحاربين والقواد الفاتحين .
وإما أن تكون عظمته عالمية ، ولكن في جانب محدود ، في كشف قانون من القوانين التي وضعها الله في هذه الطبيعة وأخفاها حتى نُعمل العقل في الوصول إليها ، أو معرفة دواء من أدوية الأمراض , أو قصة عبقرية ، أو ديوان شعر بليغ ...
أما محمد فكانت عظمته عالمية في مداها ، وكانت شاملة في موضوعاتها .
وكان مؤمناً بما يدعو إليه ، وكثير ممن نعرف من الدعاة ، قديماً وحديثاً ، يقولون بألسنتهم ما تخالفه أفعالهم ..
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان خلقه القرآن أي : أن كل فعل من أفعاله ، وكل خلق من خلائقه ، آيات تتلى ، ومحاضرة تلقى ، وحلقة درس ومجلس وعظ ، لأنها كلها تنظلق بما يأمر به القرآن .


وما عُرف عنه أنه ذمّ طعاماً قط , وكان يلبس ما وجد ، ولا يلتزم زيّاً خاصاً ، ولا نوعاً خاصاً ، ولا لوناً خاصاً , وليس في الإسلام محرم من الثياب إلا ثوباً يكشف عن عورة ، ولا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف عن أكثر من وجهها وكفيها ، وما كان من حرير للرجال ، وما كان من الثياب الخاصة بأهل دين غير الإسلام بحيث إن لبسه لابس ظُنَّ أنه منهم ، كلباس الرهبان مثلاً ، وما كان من لباس النساء خاصة يلبسه الرجال ، أو من لباس الرجال خاصة تلبسه المرأة ، وما كان فيه من سرف وتبذير ، وكل ثوب بعد ذلك جائز اتخاذه في الإِسلام .


والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحرّم زينة الله التي أخرج لعباده ، ولا الطيبات من الرزق ، ولا يردّها ، ولا يأباها إن وجدها ، ولكنه لم يكن يحرص عليها ، ويجعلها أكبر همه من دنياه .
لقد فرغ كذلك من شهوة الغنى والجاه ، وأنتم تعرفون أن قريشاً عرضوا عليه ما شاء من أموالهم إن شاء الغنى , و السلطان والإِمارة , ولم يتركوا شيئاً مما يعلمون ميل النفوس إليه ، وتعلُّقَها به ، إلا بذلوه له ، ليترك دعوته ، فكان يأبى عليهم ما عرضوه ، راثياً لهم مشفقاً عليهم .
وفرغ كذلك من أمر الشهوة الجنسية ، ولقد غرّ أقواماً من المستشرقين ، الذين درسوا الرسول بهذه العقلية الأرضية المريضة ، وقاسوه بالمقياس الذي يقيسون به العظماء من رجالهم . فرأوا أنه تزوج تسع نسوة ، فقالوا إنه رجل شهواني , ، يحسبونه من نوع من عرفوا من رجال السيف أو القلم . فنابليون مثلاً الذي أكره أمة كاملة بحكومتها ووجوه شعبها على أن يكونوا ( قوادين ) له ، يوصلونه إلى الفتاة البولونية (1) التي أحب ، وزاد على ذلك فاضطر أبا الفتاة على أن يلزمها الإِثم الذي أراده منها ، وجعل استقلال بولونيا رهناً بتحقيق هذه الرغبة النجسة الفاجرة . وليس ذلك وزر نابليون وحده ، بل إن اسكندر دوماس ، وبيرون ، وغوت ، وبودلير ، والعشرات من أمثالهم كانت كلها كذلك ، وهذه تراجم عظمائهم ، إذا بلغت في أي منها بحث أخباره الجنسية ، زكمت أنفك روائح تلك الأرجاس ، فجاؤوا بهذه العقلية يدرسون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدلوا بقولهم عنه إنه شهواني ، على جهل بعلم النفس ، وجهل بتاريخ محمد ، وبُعْد عن الحياد والنزاهة في البحث .
____________
الفتاة البولونية هي : ( ماري فاليفسكا ) وقصتها مشهورة ، حتى لقد أخرجت بها الأفلام للسينما .
__________


إن أشد أيام الرغبة الجنسية يقظة وثورة هي السن التي بين البلوغ والخامسة والعشرين ، هذه هي السن الخطرة التي ينبغي فيها على كل عاقل وعاقلة أن يحذر فيها كل ما يجر إلى المعصية من التكشف والاختلاط ، ومتابعة النظر إلى المحرمات ، وإدمان الفكر فيها ، ولو كان الاختلاط باسم العلم أو الدرس . فأين كان محمد في هذه السن ؟ وما هي حوادث صبوته ؟ لقد كان حرّاً ، في بلد حرّ ، ولو أرادها لم يمنعه منها مانع من رقابة ولا من عرف ، ولقد كان لِداتُه (1) من الشباب غارقين في هذه الملذات ، لا يحرمها عليهم دين ولا قانون
.
(1) اللِّدات : المتقاربون في السن ، وتكون اللدات للرجال والأتراب للنساء .
_____________________________


إن سيرة محمد مكشوفة للعدو والصديق ، معرّضة لأنظار كل ناقد ، فهل ترون فيها أنه كان في هذه السن من أرباب الصبوات ومن ذوي الشهوة العارمة ومن المقبلين على المتع والملذات ؟ فقد فكر مرة واحدة في أن يمارس بعض ما يمارس لِداتُه من اللهو ، فألقى الله على عينيه النوم حتى فاته ما فكر فيه . ولو أنه واقع شيئاً من ذلك فهل كان يسكت عنه خصومه من المشركين ، وقد كانوا حريصين على حربه وإيذائه من كل سبيل ؟ وتزوج وهو ابن خمسة وعشرين ، فهل تزوَّجَ الفتاةَ البكر الجميلة ، أم تزوج امرأة في سن أمه أرملةً في الأربعين ؟ وسائر زوجاته أما كان جلّهن أرامل ، تزوجهن زواج المصلحة ؟ وقد أحل الله له أكثر من أربع ، فأعطاه بذلك أكثر من باقي المسلمين ، ولكنه حرمه بالمقابل حقاً منحه لكل زوج ، وهو حق الطلاق .
على أن القوة الجنسية ليست عيباً ، وكيف وهي مظهر الرجولة ؟ وفيم تكون الرجولة إن لم تكن في هذا ؟ لكن العيب أن يحيا الرجل لها وحدها ، ولا يفكر إلا فيها ، وأن يطلبها من طريق الحرام .
وقصة زواجه بزينب التي يجترّ بتردادها الخصوم ، لا تستحق أقوالهم فيها الرد ، لأنها في الواقع مبنية على تحريف متعمّد للواقع ، أو على سوء فهم ظاهر .
وزينب فتاة جميلة ، وهي قريبة من الرسول ، لو كان قد فكّر فيها لتَزَوّج بها ، وكان ذلك لو أراده أكبر أمانيها أو أماني أهلها ، ولكن الله جعلها محوراً لإصلاحين اجتماعيين من الإِصلاحات الإِسلامية ، واحد كانت هي مكان التجربة فيه ، والآخر كان مكانه الرسول نفسه .
أراد الإِسلام القضاء على هذه العزلة الجاهلية ، وهذا الشعور الطبقي ، بتزويج زينت - وهي من أشرف أسر العرب - بزيد وهو أسيرٌ متبنَّى ، ولا يُعَدُّ في نظر هذا المجتمع كفؤاً لها ، فتزوّجته على كُره منها ومن أهلها ، وكانت حياتها سلسة متصلة من المنازعات ، وكان كلاهما يتمنى الفراق ، ولكن الرسول كان يمنعه من طلاقها ، ويقول له :
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } .
حتى امتلأ الكأس وفاضت ، ولم يبق إلى الاحتمال سبيل .. فطلّقها ! وهنا تجيء التجربة الثانية وهي أصعب وأشق ، ويكون على الرسول حمل عبئها ، بزواجه من زينب ، لإبطال عادة التبنِّي ، وبيان أن زوجة المتبنَّى لا تحرم على المتبني . والصعوبة فيها في تعريض محمد لأن يَظنَّ به هذا المجتمع أنه تزوّج امرأة ابنه ، وهذا الموقف أشق ما مر بالرسول ، ومع ذلك قد احتمله راضياً بأمر الله .
فالحكاية ليست كما يظنون ويقدرون . وما يقولونه فيها لغوٌ لا يستحق الرد ، وما عرضتُ له إلا لأبيِّن الحق لمن لا يعرفه من القراء (1) .
وقوة الجسد هي الانتصار على المقاومة المادية ، وقوة القلب نصر على الخصوم ، وهنالك قوة أكبر ، لأنها نصر على ما هو أكبر من المادة ، ومن الخصم ، هي قوة الخُلُق ، وهي نصر على النفس ، وطبائعها وغرائزها ورغباتها وميولها .
__________
(1) اقرأ كتاب " نداء للجنس اللطيف " للسيد رشيد رضا .




وهذه مسألة نفسية مسلَّمة ، عبّر عنها الرسول بألفاظ شتى في مناسبات مختلفة ، فقال : " ليس الشديد بالصُرَعَةَ (1) ، ولكنّ الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " .
فإن القوة التي تحتاجها للتغلب على غضبك ، وإطفاء ناره في صدرك ، وأن تبدو هادئاً في حركاتك وصوتك ولهجتك تقدّر بمئة ، فهي أصعب بمئة مرة من تلك , وجرِّب أن تجيء لغضبان قد أعماه الغضب ، حتى لا يبصر ما أمامه ، فتحاول أن تذكره الخُلُق الحسن ، واللين والعفو ، هل تجد في كل عشرة آلافٍ واحداً يستجيب لك في هذه الحال ؟ .
__________
(1) الصرعة : مدمن المصارعة ومحترفها . والمعنى المراد : أن قوة الأعصاب التي يملك بها المرء نفسه عند الغضب ، أكبر من قوة المصارع الذي يغلب بها خصمه عند المباراة .
__________
صوّر لو أن رجلاً قتل أحب الناس إليك وأعزهم عليك ، ثم جاءك مستسلماً لدعوتك ( وأنت الداعية ) ، هل تنسى ما ذرفت من ماء العين على قريبك ، وما أرقت عليه من دمع القلب .. وتعفو ؟ .
لقد عفا الرسول عن ( وحشي ) قاتل ( حمزة ) ، لما أسلم ، لكن غلبته طبيعته البشرية ، فيما لا يخالف الإسلام ، ولا يضر الرجل ، فقال له : " لا تجعلني أراك " ، فكان يتوارى عن عينيه .
وهند ، هند امرأة أبي سفيان ، التي بلغ من حقدها على محمد ودعوته ، أن فعلت ما لا تفعله امرأة ، ولا يفعله إنسان ، ولا يفعله الذئب ، ولا النمر . شقت صدر حمزة وأخرجت كبده ولاكته .. هند التي فعلت في حرب الرسول الأفاعيل ، لقد عفا عنها وبايعها وقَبِل إسلامها .
وأهل الطائف الذين سمعتم بخبر ما فعلوا بالرسول ، لما أسلموا عفا عنهم . وهاكم الموقف الأكبر ، المثل الأعلى في بابه ، في كل العصور : أهل مكة الذين جرعوه وأصحابه الصّاب والعلقم ، وآذوه في جسده ونفسه وعقيدته ، وقالوا عنه : ونالوا منه ومن أصحابه ، وقاطعوه ، وحبسوه في الشِّعب ، ووضعوا الشوك في طريقه ، وألقَوْا على رأسه كرش الناقة ، وهو ساجد ، وسخروا منه أنواع السخريات ، واستمر ذلك لا يوماً ولا يومين ، ولا سنة ولا سنتين ، ولكن ثلاث عشرة سنة ، ثم حاربوه وذبحوا أقرباءه وأصحابه ، حتى ظفر بهم ، وأقامهم أمامه حول الكعبة ، أذلاّء لا يملكون دفاعاً ، وجاءت ساعة الانتقام .. لا ، دعُوا كلمة الانتقام فإنها لا تليق بالمقام ، ساعة العقوبة المشروعة ، التي يكون فيها الرد على هذه السلسلة الطويلة من التعديات والإساءات ، وها هو ذا يقول لهم : " ما ترون أني فاعل بكم ؟ " .
إنهم يذكرون ما صنعوا ويعرفون ما يستحقون ، ولكن يذكرون أيضاً خلق محمد ويعرفون مثله ، فيقولون : " أخ كريم ، وابن أخ كريم" .
ويسكتون في انتظار الحكم القطعي ، ولو كان الحكم بقتلهم جميعاً لما وُجد من كتّاب التاريخ الصديق منهم والعدو من يلومه بكلمة ، ولكن حكم محمد كان غير ذلك ، كان مفاجأةً لا يتوقعها أحد ، مفاجأةً أدهشت عصره وكل عصر يأتي بعده ، قال لهم : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .
وأنا آسف أن أعرض الموجز ، ولقد كنت أتمنى لو جعلت الفصل عنه وحده ، لأجْلُوه عليكم كما ينبغي أن يُجلى ، هذا الموقف يحتاج إلى قوة عشرة آلاف مصارع .
وأنا أعجب لماذا حاول المتأخرون من مؤلفي السيرة الاستكثار من المعجزات ، والتوسع فيها ، وإضافة معجزات لم تكن ، وما حاجتهم إليها ؟ وكل موقف من سيرة الرسول ، وكل جانب من شخصيته ، هو معجزة من أكبر المعجزات .
وما المعجزة ؟ أليست الأمر الذي يعجز الناس عن مثله ؟! .
إن صدقه وأمانته معجزة ، ولن أسرد عليكم أمثلة كثيرة ، فالمجال ضيق ولكن أعرض مثالاً واحداً ، حادثة مررت بها في مطالعاتي مئات المرات ، فكنت أقرؤها على أنها خبر عادي ، ثم تنبّهت إليها يوماً فجأة فإذا هي أعجوبة ، وكم في السيرة من أمثال هذه الاخبار !! كلكم تعرفون أنه لما هاجر الرسول إلى المدينة ترك علياً مكانه ليرد الودائع التي كانت عنده لقريش ، فهل فكرتم يوماً ما قصة هذه الودائع ؟ .
يردها لقريش لا للمسلمين ، إذ لم يبق أحد من المسلمين في مكة لما هاجر الرسول ، لأنه كان آخر من هاجر ، بقي كما بقي الربان في السفينة الجانحة ، لا يتركها حتى ينزل الركاب جميعاً ، ويصلوا إلى قوارب النجاة ، وهذه مَنْقبة ذكرتها عرضاً .
قصة الودائع هي أن قريشاً كانت ( على كلّ ما كان بينها وبين الرسول ) لا تجد من تأتمنه على ذخائرها إلا محمداً ، فتصوروا حزبين مختلفين ، الحرب قائمة بينهما ، حرب اللسان واليد والمبدأ والعقيدة ، ثم يأتمن أفراد الحزب على أموالهم وأوراقهم رجلاً من الحزب الآخر ! .
هل سمعتم بمثل هذه الحادثة ؟ وكيف يستودعونها هذا الخصم ، إن لم يكن في أخلاقه وأمانته معجزة من المعجزات ، والشك فيه أحد المستحيلات ؟ .
هكذا كان محمد ! .
ويومَ بدرٍ ، يومَ مرّ يعدل الصفوف قبل المعركة ، وفي يده قدح ( قطعة من الخشب ) ، فوجد سواد بن غزية بارزاً من الصف ، فدفعه بالقدح في بطنه وقال : " اعتدل يا سواد " ، قال : " يا رسول الله أوجعتني ، وقد بعثك الله بالحق والعدل " .
تصوروا هذه المشهدة ، قائد الجيش يجابهه جندي عادي بهذا الكلام ، ماذا ترونه صانعاً به ؟
يؤدبه ؟ يعرض عنه ؟ أو تبلغ به سماحة الصدر ونبالة الطبع ، فيسامحه ويعفو عنه ؟ أو يزيد على الغاية فيقول : " عفواً أنا أعتذر إليك " ؟ .
أما رسول الله فقد صنع شيئاً لا يصنعه أحد ، ولا يخطر على بال أحد ، كشف له عن بطنه وأعطاه القدح ، وقال له : " استقد " ، أي : أوجعني كما أوجعتك .
أقاد من نفسه وهو سيد البشر ! .
هكذا كان محمد !
كانت سيرة حياته كلها معجزة ، عجز عظماء العالم جميعاً عن أن يتركوا لهم سيرة مثلها . في كل ناحية منها عزة وعظمة ، في قوة جسده ، وتكوينه الرياضي ، في روحه الرياضية ، وأنه لا يستخفه النصر حتى يبطره ، ولا تزلزله الهزيمة حتى تثير غضبه أو تذهب بعزمه .
في ثباته في المعامع الحمر حتى كان أبطال الصحابة يحتمون به ، وفي شجاعته التي تضعضع أمامها صناديد الرجال ، وفي تواضعه للمسكين والفقير ، ووقوفه للأرملة وللعجوز .
في إقراره بالحق ، في صدق التبليغ عن الله ، حتى إنه بلّغ الآيات التي نزلت في تخطئته وفي عتابه ، وفي احترامه العهود وحفاظه على كلمته ، مهما كلفه الحفاظ عليها من مشقة ونصب ، سواء عنده في ذلك معاملاته الشخصية وشؤون الدولة .
في ذوقه وحسّه المرهف ، وأنه هو الذي سنّ آداب الطعام وقرر قواعد النظافة في وضعه مع أصحابه إذ يعلمهم ويعمل معهم ، ويعيش مثلما يعيشون ، ويستشيرهم ويسمع منهم ، ويجلس حيث يجد المكان الفارغ في آخر المجلس حتى كأن القادم عليه لا يراه ، ينظر في وجوه القوم فيقول : " أيكم محمد ؟ " .
لأن محمداً لم يكن يمتاز عليهم في جلوسه ، ولا في ثيابه ، كان مثلهم في كل شيء ، في سلوكه المهذّب العفيف مع النساء ، وفي سيرته في بيته ومع أهله ، ومزحه الصادق ، وانطلاق نفسه ، وأنه كا محبَّباً إلى كل قلب ، في تواضعه ورفضه أن يُعَدّ ملكاً ، ونهى أصحابه عن القيام له ، وأنه كان يقوم بحاجة أهله ، ويخصف بيده نعله ، وأنه عاش حياة الفقر زهداً في الغنى لا عجزاً عنه ، ولو شاء لكان قصره أفخم من إيوان كسرى ودارة قيصر ، ولكنه اختار الآخرة فكانت دور نسائه جميعاً ، نسائه التسع ، لا يتجاوز طولها كلها (1) خمسة وعشرين متراً .
وكان منزل عائشة غرفة واحدة مبنية من اللَّبِن والطين ، وكانت من الضيق بحيث إنها لم تكن تسع لنومها وصلاته ، فكان إذا سجد دفع رجلها ليسجد في مكانها . أما طعامه فقد حدثت عائشة أنه كان يمر الشهر والشهران ، ولا يوقَد في بيت رسول الله نار ليخبز ليها الخبز ، قالوا : " فماذا كنتم تأكلون ؟ " .
قالت : " التمر والماء " ، هذا هو طعام أسرة رسول الله .
وفي بيانه وفصاحته ، أنه كان أبلغ من نطق وأبان ..
كل ذلك فيه الإعجاز ، وفيه الدليل على أن الله ما اختاره لأسمى الرسالات ، وما جعله خاتم الأنبياء ، حتى أعده لذلك إعداداً جعله واحداً في بني آدم ، ليس له في شمائله نظير صلى الله عليه وسلم .
{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .
_____________
(1) دور نسائه التسع : مكانها في الحجرة الشريفة ، التي دفن فيها ، ومساحتها في حدود ما ذكرت .
_____________

عَرَبِيّة
05-28-2010, 11:00 PM
الإِيمَانُ بالكُتُبِ
القرآن :
القرآن هو معجزة محمد .
والذين زعموا أن القرآن من تأليف محمد ، أنكروا عليه أنه نبي ، ولكنهم وصفوه بأنه إله ، ونحن نشهد :
" أن لا إله إلا الله وأنه عبد الله ورسوله " .
ذلك أن القرآن لا يستطيع أن يأتي به بشر ، ولا يمكن أن يأتي به بشر ، ولا يمكن أن يأتي إلا من عند الله . فمن قال إن محمداً ألّفه ، فقد منح محمداً صفة الألوهية ! .
وإلا فأروني رجلاً كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب كما كان محمد ، ولم يدخل في عمره مدرسة ، بل لم يكن في بلده مدرسة ، بل هو لم يكن في بلدة كبيرة من بلدان الحضارة ، بل كان في قرية متوارية بين الجبال السود ، وراء رمال الصحراء ، لم تدرِ بها ( روما ) ولا ( القسطنطينية ) ولا ( مدائن كسرى ) ، ولم يدر أحد فيها بفلسفة ( اليونان ) و ( الرومان ) ولم يسمع واحد منهم بأدب ( الهند ) و ( إيران ) .
قرية ليس فيها عالم ولا باحث ، ولا مثقف ثقافة صغار المفكرين في ذلك الزمان ، وهو لم يخرج منها إلا إلى قرية مثلها أو أكبر قليلاً منها ، هي ( بُصْرى ) الشام ، من أرض حَوْران ، ولم يقم فيها إلا يوماً أو أياماً قليلات معدودات .
هل يمكن لمثل هذا الرجل أن يأتي بمثل القرآن ؟ .
هذه تواريخ العباقرة والنابغين بين أيديكم ، تواريخ الأمم كلها في العصور كلها ، فهل فيها حادث مثل هذا الحادث ؟ .
لقد ألف ( مورارت ) قطعة موسيقية وهو دون العاشرة ، ونظم ( بشار ) الشعر وهو في مثل هذه السن ، ونبغت مؤلفة ( جين إير ) وأختها كاتبة ( أعالي وذرنج ) نبوغاً مفاجئاً ، وترك ( شكسبير ) هذه الثروة الأدبية ، ولم يكن من أكابر أدباء عصره ومثقفيه . كل هذا ممكن ، ويمكن أن يؤلِّف شاب مغمور كتاباً يأتي فيه بقصة رائعة ، أو نظرية علمية جديدة لأنه عبقري ، والعبقرية ليست وقفاً على المتعلمين ، ولا على خرّيجي الجامعات ، وقد تظهر العبقرية حيث لا يُتوقّع ظهورها ، ولكن من عرفهم التاريخ من عباقرة العلم والأدب والفن ، إنما سبقوا زمانهم بقرن مثلاً ، زادوا على أقرانهم خمسين في المئة ، أو مئة في المئة . إن لسبقهم حدوداً ، إنه سبق معقول .
وليس في التاريخ كله ، رجل كانت له ظروف محمد صلى الله عليه وسلم ، يأتي بكتاب هو في الأسلوب الأدبي في أبهى صور الجمال ، وهو في مجال التشريع قانون في ذروة الكمال ، وهو في الإِلهيات والإِخبار عن المغيَّبات ، يأتي بما لا يعرفه أحد من البشر ، ولا يمكن أن يدركه بنفسه العقل البشري ، وهو في الطبيعة يشير إلى قوانين وظواهر لم يكن يعرفها أحد في عصره ، ولا في العصر الذي تلا عصره ، ولا في العصور العشرة التي جاءت بعد ذلك . فيه إشارات إلى قوانين لم تُكشف إلا بعده بألف وثلاثمئة سنة ، وقوانين لم تُكشف للآن .
كتاب أمره الله أن يتحدّى به الناس جميعاً ، فتحدى الإِنس والجن ،: أن يأتوا بعشر سور من أمثال سوره ... أن يأتوا بسورة واحدة .. فعجزوا ! وهذا التحدي قائم إلى الآن ، والعجز مستمر إلى الآن .
إعجاز ثابت ، ولكن لا تبحثوا كما بحث علماء البلاغة ، عن مواطن الإعجاز ، فإن موطن الإعجاز ليس في ألفاظه وحدها ، ولا في أخباره عن المغيَّبات فقط ، ولا في أمر واحد من الأمور التي ادَّعَوا أن الإِعجاز فيها ، بل فيه كله مجتمعاً .
وإن كان كل ناظر في القرآن ، يلمح الإِعجاز من الجهة التي ينظر فيها .
تعرفون قصة رئيس قسم تحقيق الشخصية ، الذي أسلم لما سمع قوله تعالى : { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } .
فكّر : لماذا خصّ ( البنان ) بالذكر ؟ ماذا فيه ؟ فيه بصمات الأصابع ، هذه المعجزة الإِلهية العجيبة ، كم ظهر على الأرض من ناس ؟! إنه ليس فيهم اثنان تتفق بصمة أحدهما وبصمة الآخر .
إنها ظاهرة عجيبة ، ولكنها عُرفت من قريب ، لم يكن يعرفها على عهد محمد ولا في القرون العشرة التي تلت عهد محمد .
فلا بد إذن أن يكون محمد قد تلقّاها من عند الله ، ولا بد أن يكون القرآن كلام الله . وفي القرآن مئات من أمثال هذه الإِشارة ، لا نزال نجد كل يوم من ينتبه إلى واحدة منها ، كلما درس القرآن دارسٌ بدت له من إعجازه جوانب لم يدركها الأولون ، لأنه لا تفنى عجائبه .
لذلك يجب أن يفسَّر القرآن في كل زمان تفسيراً جديداً . يفسره الأديب ، ويفسره الحقوقي ، ويفسره الفلكي ، ويفسره عالم النفس ، وعالم الاجتماع ، والمؤرخ ، كل واحد منهم يجد فيه مجالاً لعلمه واختصاصه ، ودليلاً من اختصاصه وعلمه على أن القرآن كلام الله .
إن معجزات الرسل الأولين وقعت مرة وانقضت ، ولكن معجزة محمد قائمة تتكرر كل يوم . ومعجزات الرسل دليل من غير جنس الرسالة ، على صحة الرسالة ، ومعجزة رسالة محمد ، هي رسالته نفسها ، صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين .

عَرَبِيّة
05-28-2010, 11:02 PM
الإيمان بالكتب
نحن نؤمن بالقرآن ، وبالكتب المنزلة التي خبّرنا عنها القرآن ، وهذه الكتب هي : ( صحف إبراهيم ) ، و ( صحف موسى ) وهي ( التوراة ) ، و ( زبور داود ) ، و ( إنجيل عيسى ) .
والقرآن هو الحاكم عليها ، والميزان الذي يُعرف به صحيحها من الذي حُرِّف منها ، قال تعالى :
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } .
فما أخبرنا الله في القرآن أنه من هذه الكتب آمناً به ، وقلنا بكفر من أنكره ، وما وافق القرآن من أخبار هذه الكتب اعتقدنا أنه باق على صحته ، وأن التحريف لم يصل إليه ، وما جاء من أخبارها مخالفاً لما رواه القرآن عنها اعتقدنا أنه محرَّف عن أصله .
صحف إبراهيم :
خبّرنا الله أن مما جاء في صحف إبراهيم ، ونكرر في صحف موسى :
{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ... وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } .
إلى آخر هذه الآيات :
وأن من ذلك قوله :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } .
التوراة :
التوراة منزّلة من عند الله ، فيها هدىً للناس ، وفيها حكم الله ، قال تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ... إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ } .
ومما خبّرنا به عن أحكام التوراة قوله :
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } (1) .
وخبّرنا أن فيها بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال :
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } .
وأن فيها وصف المؤمنين :
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } .
الزَّبُور :
قال تعالى :
{ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً } .
وخبّرنا أن مما كتب في الزبور وراثة الصالحين الأرض ، قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } .
ولعل المراد بالأرض الجنة ، لقوله تعالى حكاية عن المؤمنين الذين يدخلونها :
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ .. } .
الإِنجيل :
قال تعالى :
{ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } .
وبيّن أن الإِنجيل المنزّل ، يشتمل على أحكام تشريعية ، قال تعالى :
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ } .
وفيه تعديل لشريعة التوراة :
{ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } .
وفيه كالتوراة بشارة بمحمد ، ووصف للمؤمنين به .
ونحن نؤمن بكل ما أنزل الله من : ( صحف ) ، و ( توراة ) ، و ( زبور ) ، و ( إنجيل ) ، ونحترم سائر الأنبياء وفيهم : ( إبراهيم ) و ( موسى ) و ( داود ) و ( عيسى ) ، صلى الله عليهم جميعاً .
____________
(1) لبعض العلماء بحث في هذه الأحكام ، هل كُلِّفنا نحن المسلمين بها أم لا ؟ راجع " تفسير المنار " .
______________
خَاتِمَة
هذه هي العقائد الإِسلامية :
من اعتقدها واعتقد بكل ما أخبر به القرآن ، وظهرت آثار هذا الاعتقاد في عمله ، فهو المسلم الكامل . يعمل بالقرآن الذي اعتقد صحته ، لا يكتفي بتلاوته بلا فهم ، ولا بتلحينه والتطريب به بلا علم ، بل يتخذه دستوراً لحياته ، يحلّ حلاله ، ويحرّم حرامه . يعمل ما أوجبه ، ويترك ما نهى عنه .
إن كانت ديانات الناس للمعابد وحدها ، فالإِسلام ليس للمسجد وحده ، ولكن للمسجد وللدار وللسوق ، ولقصر الحكم ، وللحرب وللسلم . الإسلام يلازم المسلم دائماً ، يبيّن له ما يُباح له ، وما يحرم عليه . هو معه إنْ خلا بنفسه ، ومعه إن انفرد بأهله ، وهو معه في تجارته وفي عمله ، كل عمل من أعمال المسلم له حكم من الأحكام الخمسة ، ومنها الإباحة الأصلية . وإنْ كانت الديانات الأخرى عبادات فقط ، لا علاقة لها بالسياسة ، ولا بالعلم ، فالإِسلام عبادة ، وقانون مدني ، وقانون جزائي ، وقانون دولي ، ونظام إداري ، ومذهب خلقي ، وهو علم ، وهو سياسة ، وهو عمل ، وهو جهاد ، افتحوا أيّ كتاب من كتب الفقه ، وانظروا في فهرسه ، تروا هذه الجوانب كلها فيه (1) .
وإنْ كانت العبادات في الديانات الأخرى صلاة فقط ، فالعبادة عندنا ليست صلاةً وصياماً فقط ، بل إنّ كل عمل ينفع الناس إن قصد به فاعله وجه الله ، كان له عبادة .
وإذا فصلوا بين الدين - الذي هو عبادة فقط - وبين العلم ، فالإِسلام دين العلم . أول كلمة نزلت من كتابه كانت ( اقرأ ) ، لم تكن ( قاتل ) ، ولا ( اجمع المال ) ، ولا ( ازهد في الدنيا ) . و ( اقرأ ) هذه أول كلمة أُنزلت من القرآن وجاء بعدها ذكر العلم ، ما منَّ الله على الإِنسان بما أعطاه من مال ولا قوة ولا جاه ، بل بأنه علّمه ما لم يعلم .
وكل عمل يحتاج إليه مجتمع إسلامي ، يكون تعلمه فرض كفاية على القادرين عليه ، فهل في الوجود دين - إلاّ الإِسلام - يجعل تعلم الكيمياء ، والطب ، والطيران ، من الفروض الدينية ؟ .
والإِسلام دين الغنى ، الله سمى المال في القرآن خيراً ، فقال :
{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } .
وقال في آية الوصية :
{ إِنْ تَرَكَ خَيْراً ... } . أي : مالاً .
فينبغي أن يكون المسلمون أغنياء ، ولكن بشرط أن يجمعوا المال من الحلال ، وأن يكون المال في أيديهم لا في قلوبهم . والمال وكل ما في الكون مسخّر للإِنسان . والإِنسان المسلم يُحسّ أنه عبد الله ، ولكنه سيد لما في الكون من أشياء ، يتصرف فيه تصرف السيد ، يستجلب النفع الذي أودعه الله فيه ، فهو يرغب في النافع ولكن لا يعظّمه لذاته ، فإن عظّمه لذاته صار عبداً له ، وكان بذلك قد أشركه في العبادة مع الله .
والمال جعله الله لجلب النفع ، فإنْ أنتَ ادخرته وخبأته ولم تنتفع منه صرت خادماً له وعبداً ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
" تَعِس عبد الدرهم " .
والثياب جُعلت لدفع البرد ، وستر الجسد ، فإن عظّمتها لذاتها ، فحفظتَها ورعيتَها ولم تنتفع بها ، صرت عبداً لها ، وقد :
" تعس عبد الخميصة " .
والإسلام دين القوة ولكن بلا ظلم .
والإسلام للدنيا والآخرة :
{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ... } .
وهو يريد من المسلمين أن يصدقوا الإِيمان ، وأن يتبعوا الشرع ، وأن يكونوا مع هذا أرقى الامم ، وأقوى الأمم ، وأعلم الأمم ، وأغنى الأمم ، ليجمعوا حسنة الدينا وحسنة الآخرة ، وأن يعلم كل مسلم - بعد هذا - أن عليه واجباً آخر ، هو التعريف بالإِسلام ، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلا يكره الناس على الإِسلام { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } .
بل يعرض عليهم محاسنه حتى يرغبوا فيه ، ولا يدعو بلسان مقاله فقط ، بل بلسان حاله ، بأن يكون المجتمع الإسلامي صورة مجسِّمة لمبادئ الإسلام لا بأن يكون صورة مشوهة لها ، تنفر منها وتبعد عنها كما هي الحال الآن . بأن يكون الداعي قويّ العقل ليقيم الحجة ، عالماً بالإسلام ليحسن العرض ، مثقّفاً بثقافة العصر ليكلّم الناس بلغة العصر ، وأن يكون لطيف المدخل ، خفيف الظل ، لا فظّاً ولا غليظاً ، ولا جافياً عاتياً .
وأن يعلم أن الإسلام ملا يفزع من المناظرة ، ولا يهرب منها ، وأن كل شيء في بالدليل وبالحجة والبرهان ، وأنه يطالب بالدليل حتى ممن يدعي ما يخالف الإسلام :
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ... وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } .
لو كان له برهان ... ولكن يستحيل إقامة الدليل على خلاف التوحيد . ولو وجد هؤلاء الدعاة إلى الله لدخلت الدنيا كلها في دين الله ، والله أنزل هذا الدين ، وهو قد تعهد بحفظه :
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
فالإسلام باق لا يزول ، والعاقبة له ، ولكن إما أن نعود - نحن المسلمين - إلى ديننا ، فيكون لنا شرف النصر في الدنيا ، وثواب الله في الآخرة ، وإما أن يستبدل بنا قوماً غيرنا يدخلون في الإِسلام ، ويتولّوْن الدعوة إليه والدفاع عنه .
ونعوذ بالله من أن يستبدل بنا ، ونسأله أن يردّنا إلى ديننا ، وأن يكتب النصر له على أيدينا ، وأن يغفر لنا ويرحمنا .
وآخر دعوانا : أن الحمد لله رب العالمين .

عَرَبِيّة
05-28-2010, 11:04 PM
هذا الفصل ( سقط سهواً مني ) وهو الفصل الثاني , ماقبل " الإيمان بالله " ..
قَواعدُ العقَائِد (1)
القاعدة الأولى :
ما أدركه بحواسي لا أشك في أنه موجود . هذه بديهية عقلية مسلّمة .
ولكن المشاهد أني أمشي في الصحراء ساعة الظهيرة ، فأرى بركة ماء ، تلوح ظاهرة للعين ، فإذا جئتها لم أجد إلا التراب لأن الذي رأيته سراب . وأضع القلم المستقيم في كأس الماء ، فأراه منكسراً ، وهو لم ينكسر , والسحرة والمشعوذون يعرضون غرائب تراها ولا حقيقة لها .
فالحواس إذن تخطئ ، وتخدع ، وتتوهم ، أو يتوهم صاحبها . فهل أشك لهذا في وجود ما أحس به ؟ .
لا ، لأني إن شككت فيما أرى وأسمع وأحس ، تداخلت لديّ الحقائق والخيالات . وصرت أنا والمجنون سواء .
ولكن أضيف شرطاً آخر لحصول العلم ( أي اليقين ) بوجود ما أحسه ، هو : ألاّ يحكم العقل بالتجربة السابقة أن الذي أحس به وهم أو خداع حواس ، والعقل يخدع أول مرة ، فيحسب السراب ماءً ، فإذا رآه مرة أخرى أدرك أنه سراب . والعقل يحكم بعد أن رأى القلم منكسراً أول مرة ، أنه لا يزال مستقيماً كما كان وإن بدا للعين منكسراً . والأمور التي تخطئ فيها الحواس أو تخدع ، أمور محدودة معدودة معروفة ، لا تبطل القاعدة ولا تؤثر فيها ، ومنها عمل سحرة فرعون ، وما يعمله سحرة ( السيرك ) في هذه الأيام .


القاعدة الثانية :
هناك أشياء ما شاهدناها ولا أحسسنا بها ، ولكن نوقن بوجودها كما نوقن بوجود ما نشاهده ونحس به . نوقن بوجود الهند والبرازيل ، ولم نزرهما ولم نرهما ، ونوقن بأن ( الإِسكندر المقدوني ) فتح بلاد فارس ، ( والوليد بن عبد الملك ) بنى الجامع الأموي ، ولم نحضر حروب الإِسكندر ، ولا شهدِنا بناء الجامع الأموي .
ولو نظر كل واحد منا في نفسه لرأى أن ما يوقن بوجوده من الأشياء التي لم يرها ، أكثر من الأشياء التي رآها من الممالك والبلدان ، ومن حوادث التاريخ الذي كان ، ومما يقع الآن .
فكيف أيقن بوجود هذه الأشياء ، وهو لم يدركها بحواسه ؟ .
أيقن به حين نقله جماعات عن جماعات ، لا يتصور إمكان اتفاقهم ( في العادة ) على اختراع هذه الأخبار ، ونقلها كذباً .
فالقاعدة الثانية : أن اليقين كما يحصل بالحس والمشاهدة ، يحصل بالخبر الذي نعتقد صدق صاحبه .


القاعدة الثالثة :
ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس ؟ وهل تستطيع أن تصل إلى إدراك كل موجود ؟ .
إن مثل النفس والحواس مع الموجودات ، كمثل رجل سجنه الحاكم في برج القلعة ، وسدّ عليه الأبواب والنوافذ ، ولم يترك له إلا شقوقاً في جدار البرج ، شقاً يطل منه على النهر يجري في الشرق ، وشقاً على الجبل الذي يقوم في الغرب ، وشقاً على القصر الذي يجثم في الشمال ، وشقاً على الملعب الذي يقع في الجنوب .
السجين هو النفس ، والقلعة الجسد ، وهذه الشقوق هي الحواس : حسّ النظر يشرف منه على عالم الألوان ، وحسّ السمع على عالم الأصوات ، وحسّ الذوق على عالم الطعوم ، وحسّ الشم على عالم الروائح ، وحسّ اللمس على عالم الأجسام .
1- والسؤال الآن : هل أدرك بكل حاسة من هذه الحواس كل ما في العالم الذي تشرف عليه ؟ السجين عندما ينظر من شق النهر ، لا يرى النهر كله ، ولكن جزءاً منه ، وكذلك العين حين تشرف على عالم الألوان ، لا تراه كله بل ترى بعضه .
أنا لا أرى نملة تمشي على بعد ثلاثة أميال ، مع أن النملة موجودة , وإن لهذه النملة صوتاً ، ولكني لا أسمعه ، لأن أذني تلتقط الهزات من خمس إلى عشرين ألفاً ، فما نقص لا تسمعه ، وما زاد ثقب طبلة الأذن فبطل بذلك السمع . وأنا لا أشم للسكر رائحة ، مع أن النملة والذباب يشمه ويسرع إليه . فالحواس إذن لا تدرك من العوالم التي سُلّطت عليها إلا جزءاً منها .
2- ثم ألا يمكن أن يكون بين عالم الألوان الذي تشرف عليه العين ، وعالم الأصوات الذي تطل عليه الأذن عالم آخر ، لا أدركه أصلاً لأنه ليس عندي الحاسة لإدراكه ؟ .
الأكمه ( الذي ولد أعمى ) قد يستطيع بالسماع معرفة أن البحر أزرق والمرج أخضر ، ولكنه لا يستطيع أن يدرك ما هي الزرقة وما هي الخضرة . والأصم ، قد يعرف بالتعلم أن في الأنغام : البيات والرصد والسيكا ، ولكنه لا يستطيع أن يدرك حقيقة النغم . فهل يحق للأعمى أن يكر وجود الخضرة ، وللأصم أن يجحد حقيقة النغم لأنه لا يدركها ؟ .
إن الغرفة التي تبدو لك ساكنة سكوناً عميقاً ، فيها - في جوّها - جميع الأغاني والأصوات التي تذاع الآن ، من جميع الإذاعات . أنت لا تحس بها لأنها ليست لوناً تراه بعينك ، ولا صوتاً تسمعه بأذنك . إنها اهتزازات من نوع آخر ، فيها صوت ولكن لا تدركه الأذن ، فإذا جئت بالرّاد (1) الذي يردّها عليك ، سمعتها .
الضغط الجوي لا تحس باختلافه القليل ، لأنه ليس لديك حاسة تدركه بها ، فإذا جئت بـ ( البارومتر ) أدركته به . الهزات الخفيفة لا تدركها ، ولكن ( الرادار ) يدركها .
ففي الوجود أشياء كثيرة لا تدخل في نطاق الحواس ؛ لأنها ليست لوناً يُرى ، ولا صوتاً يُسمع ، ولا جماداً يُلمس ، ولا رائحة تُشَم ، ولا طعماً يذاق ، فهل يحق لي أن أنكرها ، لأن حواسي المحدودة لا تدركها ؟ .
3- والحواس هل هي كاملة ؟ كان الأقدمون يحصرونها في خمس حواس فقط ، لا يتصورون إمكان الزيادة عليها . ولكن كُشفت في الإِنسان الآن حواس أخرى أودعها الله فيه ، وما يقبل الزيادة يوصف بالنقصان .
أنا أغمض عيني ، وأبسط يدي أو أقبضها ، فأحس بأنها مبسوطة أو مقبوضة ، لم ألمسها ولم أرها ، فبأي حاسة أحسست لها ؟ بما يسمى ( الحسّ العضلي ) . وأحس بالتعب والونى ، وبالغثيان ، وبالانبساط أو الانقباض ، وما أحسست بذلك بواحدة من الحواس الخمس ، بل ( بالحس الداخلي ) . وأمشي فلا أميل ، مع أن الطفل أول مشيه يميل ، وراكب الدراجة ولاعبو ( السيرك ) ، الذين يأتون بالعجائب ، بأي حاسة ضبطوا توازنهم ؟ إن هناك حاسة ثامنة هي ( حاسة التوازن ) ، وأذكر أنهم كشفوا موضعها ، الذي وضعها الله فيه . في الأذن الداخلية مادة سائلة قليلة ، بها يكون التوازن ، وأذكر أنهم في تجاربهم استخرجوها من أرنب ، فصارت تمشي الأرنب مترنّحة كأنها سكرى .
_________
(1) الراد : اسم فاعل من ردّ وضعتها لـ ( الراديو ) ، لانه يرد الصوت الذي يرسله المذياع .
فالقاعدة الثالثة : هي أنه لا يحق لنا أن ننكر وجود أشياء لمجرد أننا لا ندركها بحواسنا .
_________
القاعدة الرابعة :
قلنا : إن الحواس محدودة المدى ، فأنا لا أستطيع أن أرى ببصري كل مرئي ، وهذا صحيح ، ولكن الله أعطانا ( مَلَكة ) نتم بها نقص الحواس ، هي الخيال . أنا إن لم أستطع أن أرى داري في دمشق ، وأنا في مكة ، أستطيع أن أتخيّلها فكأنني أراها ، فالخيال يكمّل الحواس .
الخيال عند علماء النفس خيالان : خيال مرجع ، كتخيّلي الدار في دمشق وأنا في مكة ، وخيال مبدع ، هو خيال الشعراء والقصاصين والرسامين ، وسائر أهل الفنون . فانظروا إلى خيالات هؤلاء الفنانين ، هل جاؤوا بشيء غير ما في الواقع ؟ الذي نحت تمثال ( فينوس ) جاء بصورة لم نر من يماثلها تماماً ، ولكن هل كانت جديدة ، أم أخذ أجزاءً من الواقع ، فألّف بينها ؟ أخذ أجمل أنف رآه ، وأجمل فم ، وأجمل جسم ، فجمع هذا إلى ذاك ، فجاء بجديد ، ولكن هذا الجديد مؤلف من أجزاء قديمة .
وتمثال الثور المجنح الأشوري في متحف باريس ، ما فيه إلا أن ناحِتَهُ أخذ رأس رجل فوضعه على جسد ثور ، ووضع له أجنحة طائر . صورة جديدة ، ولكنها مؤلفة من أجزاء قديمة .
بل إننا إذا أوغَلْنا في الإغراب في جمع هذه الأجزاء ، نجد الخيال نفسه قد عجز عن الإلمام بهذا الجمع ، خذوا - مثلاً - جزءاً من عالم الرائحة ، وجزءاً من عالم الصوت : فقولوا إن فلاناً المغني قد غنى نغمة معطرة بعطر الورد ، أو إن العطر الفلاني له رائحة لونها أحمر ، واعرضوا هذه الصورة على خيالكم ، تجدوا أنكم لم تستطيعوا أن تتخيلوها ، مع أنها جميعاً ما خرجت عن عالم الواقع .
فنحن لا نستطيع أن نتخيل نغمة عطرة ، ولا رائحة حمراء ، فكيف إذن نتخيل الآخرة وما فيها ، وهي عالم يختلف عن عالمنا ؟!
قال ابن عباس : ( ما في الدنيا مما في الآخرة إلاّ الأسماء ) . فلا خمر الآخرة كخمرة الدنيا ، ولا حورها كنسائها ، ولا نار جهنم كنارها ، ولا الصراط الممدود على جهنم كالجسور الممدودة على الأودية والأنهار .
فالقاعدة الرابعة : أن الخيال البشري لا يستطيع أن يُلمّ إلاّ بما أدركته الحواس .
القاعدة الخامسة :
لما أبصرت العين العود المستقيم أعوج ، وهو في كأس الماء ، لم ينخدع العقل بما رأت العين ، بل عرف أنه لم يزل مستقيماً , ولما أبصرنا ساحر ( السيرك ) يخرج من فمه مئة منديل ومن كمّه عشرين أرنباً ، أدرك العقل أنها خدعة . فالعقل أصبح حَكَماً ، وحكمه أبعد مدى ، ولكن هل يحكم على كل شيء ، ويمتد مداه إلى غير ما نهاية ؟ .
إن العقل لا يستطيع أن يدرك شيئاً ، حتى يحصره بين اثنين : الزمان والمكان . فما لم ينحصر بينهما ، لم يدركه العقل بنفسه . فلو قال لك مدرس التاريخ : إن حرباً وقعت بين العرب والفرس ، ولكنها لم تقع قبل الإِسلام ولا بعده ، ولم تقع في زمن من الأزمان ، ولكنها وقعت فعلاً ، لم تدرك ذلك ولم تصدقه ، ولم تقبله ، ولو قال لك مدرس الجغرافية : إن بلدة ليست في سهل ولا جبل ولا في برّ ولا بحر ، ولا في أرض ولا سماء ، ولا في مكان من الأمكنة ، ولكنها موجودة ، لم تدرك ذلك ، ولم تصدقه ، ولم تقبله .
فالعقل لا يحكم إلا في حدود الزمان والمكان . فما كان خارجاً عنهما من مسائل الروح ، وأمور القدر ، وآلاء الله وصفاته ، فلا حكم للعقل عليه .
ثم إن العقل محدود , ولا يستطيع أن يحيط به ، تصوّر خلود المؤمنين في الجنة ! إن عقل المؤمن موقن بأنه حقيقة ، وقد جاءه هذا اليقين من الخبر الصادق . ولكن انظر هل يحيط عقلك بالخلود ؟ ركّز فكرك فيه ، تجد أنك تتصور بقاءهم في الجنة قرناً وقرنين ، ومئة قرن ، ومليون ، وألف مليون ، ثم تجد عقلك يقف عاجزاً ، ويسأل : وبعد ؟ إنه يريد أن يضع لذلك نهاية . إنه لا يدرك الـ ( لا نهاية ) ، وإذا افترض الوصول إليها وقع في التناقض الذي يقول ببطلانه .
أن العقل يختل ميزانه إن حاول الحكم على غير المحدود ، ويقع في التناقض المستحيل ، إذا بحث فيما لا ينتهي .
فالعقل إذن لا يستطيع أن يحكم ، ولا يصح حكمه إلا في الأمور المادية المحدودة . أما ( ما وراء المادة ) ، أي عالم الغيب ( الميتافيزيك ) ، فلا حكم للعقل عليه .
للمزيد : كتاب " شرح المواقف " للسيد ، ورسالة " المقصد الأسنى " للغزالي (1) ، وسائر كتب علم الكلام .


القاعدة السادسة :
ولقد قرأت في مجلة ( المختار ) ، المترجمة عن مجلة ( ريدرز دايجست ) ، مقالةٌ نشرت أيام الحرب ، لشاب من جنود المظلات ( يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئاً جديداً ) يروي قصته فيقول : إنه نشأ في بيت ليس فيه من يذكر الله أو يصلي ، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين ، ولا مدرّس متدين ، نشأ نشأة ( علمانية ) مادية ، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والنكاح ، ولكنه لما هبط أول مرة ، ورأى نفسه ساقطاً في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة ، جعل يقول : يا الله يا رب ، ويدعو من قلبه ، وهو يتعجب من أين جاءه هذا الإيمان ؟ .
وبنت ( ستالين ) نشرت من عهد قريب مذكّراتها ، فكرت فيها كيف عادت إلى الدين ، وقد نشأت في غمرة الإلحاد ، وتعجب هي نفسها من هذا المعاد . وما في ذلك عجب ، فالإيمان بوجود إله ، شيء كامن في كل نفس ، إنه فطرة ( غريزة ) من الفِطر البشرية الأصلية , ولكن هذه الفطرة ، قد ( تغطيها ) الشهوات والرغبات والمطامع ، والمطالب الحيوية المادية ، فإذا هزتها المخاوف والأخطار والشدائد ، ألقت عنها غطاءها فظهرت ، ولذلك سمي غير المؤمن ( كافراً ) ، ومعنى الكافر في لسان العرب ( الساتر ) .
في قرارة نفس كل إنسان الإيمان بإله ، هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين ؛ لأن الله خبرنا أن الإيمان فطرة فطر الناس عليها . وقد عرفها الإفرنج من جديد ، ( دور كايم ) أستاذ الاجتماع الفرنسي المشهور (1) له كتاب في أن الإيمان بوجود إله بديهية . لا يمكن أن يعيش الإنسان ويموت من غير أن يفكر في وجود إله لهذا الكون ، ولكن ربما قصر عقله فلم يهتد إلى المعبود بحق ، فعبد من دونه أشياء ، عبدها على توهم أنها هي الله ، أو أنها تقرب إلى الله .
و( فرعون ) تكبر وتجبر ، وقال : { أنا ربكم الأعلى } ، فلما أدركه الغرق ، قال : { آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل .. } .
القاعدة السابعة :
هي أن الإِنسان يدرك بالحَدْس أن هذا العالم المادي ليس كل شيء ، وأن وراءه عالماً روحياً مجهولاً ، يدك منه لمحات تدل عليه . ذلك أن الإِنسان يرى اللذات المادية محدودة ، إذا هي بلغت غايتها ووصلت إلى حدها . لم تعد اللذة لذة ، ولكن صارت ( عادة ) ، فذهب طعمها ، وبطل سحرها ، وصارت كالنكتة المحفوظة ، والحديث المعاد .
يبصر الفقير سيارة الغني تمر به ، وعمارة الغني يمر بها ، فيحسب أنه يحوز الدنيا إن حاز مثلها ، فإن صارت له ، لم يعد يشعر بالمتعة بها . ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيب ، يظن أن متع الدنيا كلها بحبه ، والأماني كلها في قربه ، فإذا تزوج التي يحب ، ومر على الزواج سنتان ، اضمحلت تلك الأماني ، وماتت تلك المتع ، ولم يبق له منها إلا ذكرها .
ثم يجد أنه يسمع الأغنية الحالمة ، في الليلة الساجية ، قد خرجت من قلب مغنٍّ عاشق ، فهزت من سامعها حبّة القلب ، وأطلت به على عالم الروح . ويقرأ القصة العبقرية للأديب البارع ، فيحس كأنها تمشي به في مسارب عالم مسحور ، فيه مع السحر شعر وعطر ، فإذا انتهت القصة رأى كأنه في حلم لَذٍّ فتان ، وصحا منه ، فهو يحاول عبثاً أن يعود إلى لذته وفتونه .
وإذا بالنفس تتشوق أبداً إلى هذا ( العالم الروحي ) العلوي ، العالم المجهول ، الذي لا تعرف منه إلا هذه اللمحات ، التي لا تكاد تبدو لها حتى تختفي ، وهذه النفحات التي لا تهبّ حتى تسكن ، فيعلم أن اللذات المادية محدودة ، وأن اللذات الروحية أكبر منها كبراً ، وأعمق في النفس أثراً . ويُوقن ( بالحدس النفسي ، لا بالدليل العقلي ) أن هذه الحياة المادة ليست كل شيء (1) ، وأن العالم المجهول ، المختبئ وراء عالم المادة ، حقيقة قائمة ، تحنُّ إليها الأرواح ، وتحاول أن تطير إليها ، ولكن هذا الجسد الكثيف يحجبها عنها ، ويمسكها عن أن تنطلق وراءها ، وهذا هو الدليل النفسي على وجود العالم الآخر .
القاعدة الثامنة :
الاعتقاد بوجود الحياة الآخرة نتيجة لازمة للاعتقاد بوجود الله ، وبيان ذلك أن الإله لا يقرّ الظلم ، ولا يدع الظالم بغير عقاب ، ولا يترك المظلوم من غير إنصاف . ونحن نرى أن في هذه الحياة من يعيش ظالماً ويموت ظالماً لم يعاقَب ، ومن يعيش مظلوماً ويموت مظلوماً لم ينصَف . فما معنى هذا ؟ وكيف يتم هذا ما دام الله موجوداً ، وما دام الله لا يكون إلا عادلاًَ ؟ معناه أنه لا بد من ( حياة أخرى ) يكافأ فيها المحسن ويعاقَب المسيء ، وأن ( الرواية ) لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا . ولو أنه عُرض ( فلم ) في الرائي ( التلفزيون ) ، فقطع من وسطه وقيل ( انتهى ) ، لما صدق أحد من المشاهدين أنه انتهى ، ولنادوا ماذا جرى للبطل ؟ وأين تتمة القصة ؟ ذلك لأنهم ينتظرون من المؤلف أن يتم القصة ، ويسدد حساب أبطالها . هذا والمؤلف بشر ، فكيف يصدّق عاقل أن ( قصة ) الحياة تنتهي بالموت ؟ كيف ، ولم يسدد بعد الحساب ، ولا اكتملت الرواية ؟ .
فأيقن العقل من هنا ، أن لهذا الكون رباً ، وأن بعد الدنيا آخرة ، وأن ذاك العالم المجهول ، الذي لمحت الروح ومضة من نوره في الأغنية الحالمة ، والقصة البارعة ، واستروحت نفحة من عطره ، في ساعة التجلي ، ليس عالم المثل (1) الذي كان خيالاً صاغه أفلاطون ، ولكنه عالم الآخرة , الذي هو حقيقة أبدعها خالق أفلاطون . ورأى الإِنسان أن أكبر لذائذ الدنيا ، لذة الوصال ، لا تدوم إلا نصف دقيقة ، فعلم أنها ليست إلا مثالاً من لذات الآخرة , وإن هذه اللذة التي لا تدوم إلا نصف دقيقة ، مثال مصغر للذّات العالم الآخر ، التي تدوم أبداً ، والتي لا حد لها تقف عنده ، والتي تبقى ( لذة ) دائماً ، ولا تصير ( عادة ) ، كما تصير اللذات في الدنيا عادات .



وبذلك تم الكتاب بحمد الله ,