المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم ..



مالك مناع
06-02-2010, 12:49 PM
بلاغة القرآن
الشيخ/ محمد الخضر حسين

لدعوة الإسلام براهين ناطقة بأنَّها دعوة حق ولسان صدق، وأقوى هذه البراهين دلالةً، وأملؤها للقلوب يقينًا، ذلك الكتاب الذي نزل به الروح الأمين على خاتم النبيين، ولو لم تقترن الدعوة الإسلامية إلا به لكان كافيًا في إقامة الحُجَّة على أنَّها الرسالة الشاملة الخالدة.

وللبحث في إعجاز القرآن نواحٍ كثيرة اتَّجه إليها المفسرون وعلماء البيان بتفصيل، فكشفوا الغطاء عن كثير من أسرارها، ووضعوا أيديهم على جانب عظيم من حقائقها، والناحية التي سنحدثك عنها في هذا المقال هي ناحية بلاغته وحسن بيانه.

بلاغة القول: أن تكون ألفاظه فصيحة، ونظمُه مُحكمًا، ودلالته على المعنى منتظمة وافية.

أمَّا فصاحة ألفاظه: فبِأَنْ يسهل جريانُها على اللسان، ويخف وقعها على السمع، ويألفها الذوق غير ناب عنها، وهي مع ذلك جاريةٌ على ما يَنطق به العَرَبُ أو يَجْرِي على قياس لغتهم.

وأمَّا إحْكامُ نَظْمِه: فبِأَنْ تقع كلُّ كلمةٍ منه موقعها اللائق بِها، بحيثُ تكونُ كلماتُه مُتناسبةً يأخذ بعضها برقاب بعض، فلا يُمكنك أن تضع يدك على كلمة وتقول: ليت هذه الكلمة تقدَّمَتْ عن تلك الكلمة أو تأخَّرتْ عنها.

وأمَّا انتظام دلالته: فبأن يطرق اللفظ سَمعَك فيخطر معناهُ في قلبك، وحصول المعنى في القلب بسرعة أو بعد مهلة يرجع إلى حال السامع من الذكاء أو بُطْءِ الفهم، وحال المعنى من جِهَةِ ظُهورِه وقُرْبِ مأخذِه، أو دقته وغرابته.

ويتحقَّقُ انتظامُ دلالة الكلام بإخراج المعانِي في طرقٍ تُرِيكها في أقوم صورة وأعلقها بالنفس، كالتشابيهِ وضرب الأمثال، والاستعارات والكنايات المصحوبة بقرائن تجعل قصد المتكلم قريبًا من فهم السامعين.

وأمَّا كون الدلالة على المعنى وافية: فبأن يؤدي اللفظ صور المعاني التي يقصد المتكلم البليغ إفادتَها للمخاطَبين على وجه أكمل، بحيث تكون العبارة بِمُفرادتِها وأسلوبِها كالمرآة الصافية تعرِضُ عليْكَ ما أودعْتَ من المعاني، لا يفوت ذهنَكَ منها شَيْءٌ، ونريد من المعاني الَّتِي يُؤَدِّيها الكلام غَيْرَ مَنْقُوصةٍ ما يشمل المعاني التي يراعيها البليغ زائدة على المعنى الأصلي الذي يقصد كُلُّ متكلِّم إلى إفادته، وهي المعاني الَّتِي يُبْحَثُ عنْها في علم البيان، وتُسمَّى: "مستتبعات التراكيب"، وكثيرًا ما نُنَبِّهُ لَها فيما نكتب من التفسير.

هذه الوجوه التي يرجع إليها حسن البيان، يتنافس فيها البلغاء من الكُتاب والشعراء، ويتفاضلون فيها درجات، فترى كلامًا في أدنى درجة، وآخر فيما هي أرفع منها، ولا تزال تُصَعِّد نظرك في هذه الدرجات المتفاوتة إلى أن تصل إلى كلام يبهرك بفصاحة مفرداته، ومتانة تأليفه، وانتظام دلالته، وبهجة معانيه المالئة ما بين جوانبه.

فإذا أردنا أن نتحدث عن بلاغة القرآن، أتينا إلى البحث عنها من هذه الوجوه التي وضعناها بين يديك، فننظر في ألفاظه من جهة فصاحتها، وفي نظمه من جهة أخذ كل كلمة الموضع اللائق بها، وفي دلالته من جهة تصوير المعاني، وإيصالها إلى الأذهان من غير تعسف ولا التواء، ثم في جمله من جهة ما تحمل من المعاني التي يستدعي المقام مراعاتها.

أمَّا فصاحة مفرداته، فلا تَمرُّ بك كلمة منه إلا وجدتَها محكمة الوضع، خفيفة الوقع على السمع.

وأمَّا متانة نظمه، فقد بلغت الغاية التي ليس وراءها مطلع، فلا يمكنك وأنت العارف بقوانين البيان، الناظر في منشآت البلغاء بإمعان، أن تشير إلى جملة من جمله وتقول: ليتها جاءت على غير هذا الوضع، أو تشير إلى كلمة من كلمها وتقول: لو استبدل بها كلمة أخرى لكانت الجملة أشد انسجامًا، وأصفى ديباجة.

يصل الكلمة بما يلائمها، ويعطف الجملة على ما يناسبها، ويضع الجملة معترضة بين الكلمتين المتلائمتين، أو الجملتين المتناسبتين، فترى الكلمتين أو الجملتين مع الجملة المعترضة بينهما كالبناء المحكم المتلائم الأجزاء، فلا يكاد الفكر يشعر بأنه انقطع بالجملة المعترضة عن الكلمة الأولى أو الجملة، ثم عاد إلى كلمة أو جملة مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا.

وأمَّا انتظام دلالته على ما يقصد إفادته وإحضاره في الأذهان، فإنك ترى فيه التشابيه الرائعة، والأمثال البارعة، والاستِعارات الطريفة، والمَجازات اللَّطيفة، والكنايات المُنقَطِعة النَّظير، والتعريض الذي يقتضيه المقام، فيكون أقرب إلى حسن البيان من القول الصريح.

وقد يخطر على بالك أن في القرآن آيات مشكلة، أو متشابهة، والحق الذي لا مرية فيه أنْ لا إشكال في القرآن عند مَن يتدبره بروية، ويأتي إلى التفقه فيه وقد تزود بقوانين لغة العرب، واستضاء بمعرفة فنون بيانها.

وليس في القرآن متشابه على معنى أن في الآيات ما لا يظهر تأويله للناس، بحيث يتلونه أو يستمعون إليه ولا يعودون بفائدة علمية أو أدبية.

وأمَّا استيفاؤه للمعاني التي يستدعي الحال الإفصاح عنها أو الإيماء إليها، فإنك تنظر في الآية، وتتدبَّر المعنى الذي سيقت من أجله، فتعود منها ويدُكَ مَملوءة من الفوائد التي تَقَعُ إليْها، من حيثُ تُقَرِّرُ شريعة، أو تُقِيمُ حُجَّة، أو تلقي موعظة، أو ترسل حكمة، إلى نحو هذا مِمَّا تَستبينُ به سبيلُ الرشد، وتنتظم به شؤون الحياة، وترتفع به النفوس إلى أعلى درجات الفلاح في دُنْياها وآخِرَتِها.

بلغ القُرآن الطرف الأعلى من حسن البيان، على الرغم من أشياء اجتمعت له، ولو عرضت لكلام مخلوق لنزلت به عن المكانة العالية إلى ما هو أدنى.

ترى البليغ من البشر يحسن البيان، ويأخذك لبَّك بالمنشآت الرائقة، حتَّى إذا طال به مجال القول وقطع فيه أشواطًا واسعة، رأيت في جمله أو أبياته تفاوتًا في البراعة، وأمكنك أن تبصر فيها ضعفًا، وتستخرج بنقدك الصحيح من أواخر كلامه مآخذ أكثر مما تستخرج من أوائلها.

ولكن القرآن الكريم على طول أمده، وكثرة سوره، نزل متناسبًا في حسن بيانه كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]، ثم قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

وترى البليغ من البشر يخوض في فنون من الكلام متعددة، فإذا هو يرتفع في فن وينحط في آخر.

ولكنَّ القرآن الكريم يتصرَّفُ في فنون كثيرة؛ مثل الوعظ، وإقامة الحجج، وشرع الأحكام، والوصف، والوعد والوعيد، والقصص، والإنذار، وغير ذلك منَ الوُجوه الَّتِي تتَّصل بِالهداية العامَّة، فلا تتفاوت فيها ألفاظه الرشيقة، وأساليبه البديعة.

والمعروف أنَّ القرآن أَتَى بِحقائقَ أسَّس بِها شريعةً واسعةَ النطاق، وليس من شأن هذه المعاني أن تظهر فيها براعةُ البُلغاء كما تظهر فيما ألفوه من نحو المديح والرثاء والتهنئة والغزل ووصف المشاهد، إلى غير ذلك مِمَّا يطلقون لأفكارهم فيه العنان، فتذهب مع الخيال كل مذهب، وترتكب من المبالغات ما استطاعت أن ترتكب، والقرآن الكريم يعبر عن تلك المعاني التي تَسْتَدْعِي صِدْقَ اللهجة وصوغ الأقوال على أقدارِ تِلْكَ الحقائق، فَتَرى الفصاحةَ ضاربةً أطنابَها، والبلاغة مرسلة أشعتها.

في بلغاء البشر من تحس من شعره أو خطبته أو رسالته أنه لم يكن يتصنع فيما يقوله؛ ذلك أنك تجد في كلامه الجيد، والوسط، والرديء، وفيهم مَنْ تُحِسُّ فيما يقولُه التَّصَنُّع وهذا هو الذي يَغْلِبُ على كلامِه المنظوم أوِ المنثور الجودةُ في تَصوير المعنَى، والتعبير عنه بكلام موزون، أو غير موزون.

ولكنَّ القُرآن الكريم بالغ الغاية من حسن البيان، فلا يَجِدُ فيه الرَّاسِخُ في نَقْدِ المُنْشآتِ البليغة ما يَنْزِلُ عنِ الدَّرَجَةِ العُليا؛ بَلْ يُحِسُّ رُوحَ البلاغة التي لا يَحوم عليها شَيْءٌ منَ التَّصَنُّع ساريةً في آياته وسوره، سواء في ذلك تصويره للمعاني، أو نظم الألفاظ الناطقة بها.

ومن مظاهر بلاغة القرآن، أنه يورد القصة في أوفى درجة من حسن البيان، ثم يعيدها في سورة أخرى على حسب ما يقتضيه مقام الوعظ، حتى إذا عقدت موازنة بين حكايتها هنا وحكايتها هناك، وجدتهما في مرتبة واحدة من البلاغة لا تَنزِلُ إحْدَاهُما عن الأخرى بحال، أمَّا البليغ من البشر، فقد يسوق إليك القصة في عبارات أنيقة، ثم يريد أن يعيدها مرة أخرى فإذا هي في درجة من البراعة منحطة عن درجتها الأولى.

مالك مناع
06-02-2010, 01:05 PM
القرآن الكريم واللغة العربية
علي النجدي ناصف
المصدر: من كتاب: "مع القرآن الكريم في دراسة مستلهمة"

كان عرب الجاهلية يُعرفون ببراعة البيان، وشدة العارضة، والتقدم في اللسن، وكان الكلام البليغ أملك لنفوسهم، وأوقَعَ في قلوبِهم، وهُمْ إلَيْهِ أشوق، وفيه أرغب؛ لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل القرآن دون غيره معجزة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إليهم، يتحدى به، ويعوِّل عليْه في الدعوة والتشريع، واثقًا به، مطمئنًّا إليه، يعلم حق العلم أن الله جلت قدرته قد آتاه من فصاحة النظم، وصحة الحكم، وبراعة التقسيم، وشرف القصد مالم يؤتِ كلامًا سواه.

ولو أنصف العرب لكانوا أحق أن يقدروه، وينزلوه منزلته فوق منازل الكلام، وأن يذعنوا له، ويلبوا داعيه، خاشعين مذعنين، لكنهم انقسموا في الإيمان به كما ينقسم الناس في كل جديد يتصدى لواقع من الأمر يريد أن يبدله، ويحمل الناس على خلافه، فكيف إذا كان الجديد نقضًا صريحًا لعقيدة دينية راسخة، وإبطالاً جازمًا لتقاليد موروثة متأصلة؛ فمنهم من غلب على هواه، وتخلص من عصبيته، وربأ بنفسه عن اللجاج والإصرار على المكابرة والعناد، فآمن به، ودعا إليه، وجاهد فيه أصدق جهاد وأبلغه فداء واحتمالاً.

ومنهم من كفر به، وصد عنه، وراح يؤلِّبُ عليه، ويبطش بأصحابه تعاليًا واستكبارًا، حتى كان منهم من سمع آيات منه فأحمده،، وخشع له، ولم يسعه حين وصفه إلا أن يقر بامتيازه وتفرده في الكلام، فما هو برجز ولا شعر ولا بضرب آخر من جنس ما يتعاطون من فنون القول، ومع ذلك أبتْ عليه العصبية في شدتها، والحمية في ضراوَتِها أن يؤمن به، أو يعدل في أمره عن سنن معارضيه من مقاومته والافتراء عليه.

وحار كُفَّار العَربِ في القرآن، لا يدرون ما هم قائلون فيه، ولا ما هم صانعون به؛ لانتقاصه والنَّيْلِ مِنْهُ ومِنْ صاحِبِه؟ إنَّه كلامٌ عَرَبِيٌّ، ما في ذلك ريب ولا عليه خلاف، لكنَّه كلامٌ لا يُدَانِيهِ كلام سواه، في براعة نَظْمِه، وحلاوة منطقه، وائْتِلافِ فواصله، وإحكام تقاسيمه، ومتانة نسجه، لا ترى فيه كلمة ينبو بِها مكانها، أو تضيق بها جيرتها، ولا تجد من حروفها حرفًا نافرًا، يلوي اللسان بها، أو يخل بخفة أدائها وعذوبة جرسها.

وما كان الله - تعالت حكمته - ليدع هؤلاء المعاندين وشأنهم، يزين لهم الهوى أن يتمادوا في التقول على القرآن والخوض فيه، فأخذ بتلابيبهم إلى التي لا قِبَل لهم بها، ليكشف عوارهم، ويطامن من كبريائهم، فتحدَّاهم جهرة، وفى غير مواربة، أن يأتوا إن استطاعوا بقرآن مثله، ولما أن عجزوا وطال عجزهم، حط عنهم وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، لا يحدها بقدر، ولا يعينها بوصف، ولما أن عجزوا وطال عجزهم أيضًا، حطَّ عنهم وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة مطلقة أيضًا من المقدار والوصف، ولما أن عجزوا وطال عجزهم تحداهم آخر الأمر أن يأتوا بشيء من مثله: آية أو آيَتَيْنِ مثلاً، ولما أن عجزوا وطال عجزهم، قالها عالية مدوية يتردد صداها في سمع الزمان: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

ولقد أقاموا مع ذلك على صمتهم، فما يُبدِئون ولا يعيدون، كأن التحدي لم يكن لهم، وكأنهم ليسوا أمراء البيان، وأصحاب الحمية الجاهلية فيما يعلم الناس، فحق عليهم بذلك خزي الكذب الصراح، والادعاء الباطل؛ إذ كانوا - كما يحكي القرآن عنهم - يقولون حين تتلى عليهم آياته: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31]، ولو قد تكلف منهم متكلِّف، فعارض القرآن أو شيئًا منه لظهر أمره، ولوجد كما يقول الجاحظ: "من يستجيده، ويحامي عنه، ويكابر فيه".

وهذا أبو العلاء المعري مثلاً، لقد حاجَّ في القرآن، ونفى أن يكون من كلام البشر، فيقول: "هذا الكتاب الذي جاء به محمد - صلَّى الله عليه وسلم - كتاب بَهَرَ بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل ولا حزون، ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب"، ومع ذلك لقد اتُّهم المعري بأنه ألف كتابًا عارض فيه القرآن، سماه: "الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات".

وما أحسب مسيلمة ومن عمل مثله كانوا يريدون أن يعارضوا القرآن، ويبطلوا إعجازه بما كانوا يتكلَّفون لأصحابِهم من قول، لأنهم كانوا يعلمون حقًّا ما يشوبه من ضعف وقصور، وإلا فما لهم لم يستطيعوا الفكاك من الانجذاب إليه، والأخذ على سننه؟ ولكنهم أرادوا بما عملوا أن يكون لدعواهم خصائص النبوة، ومعالم الرسالة الإلهية، وأنها ليست اختلاقًا من عندهم، ولكنها وحي من عند الله يتنزل عليهم من السماء.

فليس عجيبًا إذًا أن يتَّخذَه النَّاسُ مَثَلَهُم الأعلى في نصاعة البيان وبلاغة التعبير، وأن يكون لهم من منتخب كلمِه، ومُحكَمِ نَظْمِه، وشرف معانيه، مددٌ لا نفاد له ولا انقطاع، يُزَيِّنُون به كلامهم من المنظوم والمنثور، على تعاقب العصور، منذ عصر النبوة إلى يومنا هذا.

ولا أريد أن أستكْثِرَ في هذا المقام من الشواهد التي تدلُّ على بعض ما أفاد الشعراء لشعرهم من مفرداتِه، وأساليب آياته، وبارع معانيه، وبِحَسْبِي لمحاتٌ خاطفة، أرجو أن يَكونَ في قليلِها كفايةٌ وبلاغ.

قال حسَّان بن ثابت في رثاء الرسول، صلوات الله عليه:


عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحِيدُوا عَنِ الهَوَى حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا

أخذه من آية: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128].

وقال أبو الأسود الدؤلى، يمدح آل البيت:


فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيَّا

فقيل له: شككت يا أبا الأسود، فقال: أما سمعتم قول الله عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]؟

وقال ابن قيس الرقيات:


يَأْمُرُ النَّاسَ أَنْ يَبَرُّوا وَيَنْسَى وَعَلَيْهِ مِنْ كِبْرِهِ جِلْبَابُ

أخذه من آية: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44].

وقال الفرزدق يمدح سليمان بن عبدالملك:


بُعِثْتَ لأَهْلِ الدِّينِ عَدْلاً وَرَحْمَةً وَبِرًّا لأَرْبَابِ الجُرُوحِ الكَوَالِمِ
كَمَا بَعَثَ اللهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا عَلَى فَتْرَةٍ وَالنَّاسُ مِثْلُ البَهَائِمِ


المعنى في البيتين من آية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وآية: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19].

وقال مروان بن أبي حفصة يمدح المهدي، ويحتج لحق بني العباس في الخلافة:


هَلْ تَطْمِسُونَ مِنَ السَّمَاءِ نُجُومَهَا بِأَكُفِّكُمْ أَوْ تَسْتُرُونَ هِلالَهَا
أَوْ تَجْحَدُونَ مَقَالَةً عَنْ رَبِّكُمْ جَبْرِيلُ بَلَّغَهَا النَّبِيَّ فَقَالَهَا
شَهِدَتْ مِنَ الأَنْفَالِ آخِرُ آيَةٍ بِتُرَاثِهِمْ فَأَرَدْتُمُو إِبْطَالَهَا


يشير إلى قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75].

وقال أبو تمام يمدح المعتصم:


لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهِ مَثَلاً شَرُودًا فِي النَّدَى وَالبَاسِ
فَاللهُ قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ مَثَلاً مِنَ المِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ


أخذه من آية: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ[1] فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35].

وقال المتنبي يمدح المغيث العجلي بالتخلي عن صحبة المال:


تُحَايِدُهُ كَأَنَّكَ سَامِرِيٌّ تُصَافِحُهُ يَدٌ فِيهَا جُذَامُ

فيه إشارة إلى قوله تعالى: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} [طه: 97].


وقال المعري في رثاء فقيه:


طَالَمَا أَخْرَجَ الحَزِينَ جَوَى الحُزْ نِ إِلَى غَيْرِ لاَئِقٍ بِالسَّدَادِ
مِثْلَ مَا فَاتَتِ الصَّلاَةُ سُلَيْمَا نَ فَأَنْحَى عَلَى رِقَابِ الجِيَادِ

يشير البيت الثاني إلى آية: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 32، 33].

ولما أن اكتسح التتار أقطار الدولة العباسية، وغلب الناس على أمرهم، ولا ناصر لهم ولا مجير - تولَّى الشعراء المسعاة لكشف الضر عنهم، لا بالجهاد والقتال، ولكن بالشعر، يمدحون به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويبثون شكواهم إليه، ويستشفعون به إلى ربهم، عسى أن يرحمهم، ويدفع البلاء عنهم، ومن هنا نشأت المدائح النبوية الكثيرة، وهي قصائد تقتضي بموضوعها والفنون التي تدور عليها أن يقتبس لها الكثير من ألفاظ القرآن وعباراته، وأن يشار فيها إلى ضروب شتى من معانيه.

وخلف من بعد هؤلاء الشعراء خلف راقهم هذا اللون من ألوان الشعر، فعالجوا نظمه، وعارضوا منه ما طاب لهم أن يعارضوه، فكان لهم من القرآن في الحالين مثل ما كان لسلفهم منه.

ومن الشعراء من لم يقنع في الأخذ من القرآن بالكلمة ينقلها، أو المعنى يشير إليه، فراض نفسه على اقتباس بعض أساليبه، ينقلها كما هي؛ كقول أحمد بن محمد بن يزيد:


سَلِ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَاتَّقِهْ فَإِنَّ التُّقَى خَيْرُ مَا تَكْتَسِبْ
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَصْنَعْ لَهُ (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبْ)

وقول عبدالقاهر بن طاهر التميمي البغدادي:


يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللَّهِ فِي آيَاتِهِ: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ)


وأما آثار القرآن في النثر فأكثر من أن يحيط بها حصر، إذ كان اقتباس بعض آياته في الخطب سمة ملازمة، وعرفًا متبعًا، لا يحيد الخطيب عنه، ولا يفرط فيه، حتى كانوا يسمون الخطبة التي تخلو من القرآن الكريم والحديث الشريف – بالشوهاء.

وهذا عمران بن حطان يقول: "خطبتُ عند زياد خطبة ظننت أني لم أقصر فيها عن غاية، ولم أدع لطاعن علة، فمررت ببعض المجالس، فسمعت شيخًا يقول: "هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن".

بل هذا مصعب بن الزبير، يقدم على البصرة واليًا من قبل أخيه، فيصعد المنبر ليخطب في الناس، فلا يزيد على أن يتلو آيات من أول سورة القصص، يقرن إلى بعضها إشارات بيده، فلما أن وصل في التلاوة إلى: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] أشار نحو الشام، ولما أن وصل إلى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] أشار نحو الحجاز، ولما أن وصل إلى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] أشار إلى العراق، ثم نزل راضيًا، لا يحس أنه قصر في الإفصاح عن مراده، ولا أن القوم لم يفهموا عنه أنه قد نال من خصمه في الشام حين عناه مشيرًا إليه بقول الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}، وأنه قد وعد شيعة أخيه في الحجاز وعدًا حسنًا، ومناهم أن العاقبة لهم، والدائرة على عدوهم حين عناهم مشيرًا إليهم بقول الله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}، وأنه قد توعد من بالعراق من عدوه أن سيحل بهم العقاب الذي يحذرون، لا ينفعهم حذر، ولا يغني عنهم جند، حين عناهم مشيرًا إليهم بقول الله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.

وتعد الخطب الدينية ومواعظ الوعاظ أكثر أنواع الكلام أخذًا من القرآن، وأشده تأثرًا به، وتعويلاً عليه في التمكين للقضية، وإقامة الحجة لها، والحمل على الاقتناع بها، ثم في الترغيب والترهيب، وفي التذكير والإرشاد، ففي القرآن من ذلك فيض غزير، ومدد كبير.

ولم تحرم الكتابة الأدبية نصيبًا منه، وخاصة كتابة أصحاب البديع، الذين كانوا يستكثرون منه، ويفتنون فيه، فقد كانوا يرفدون ما يصطنعون منه بآيات من الكتاب العزيز، اقتباسًا لها، أو إيماء إليها، أو تمهيدًا لتمثلها في الأذهان.

وأمدَّ القرآنُ العربيةَ بألفاظ نقلها إلى معانٍ لم تكن لها من قبله، لمناسبة تجمع بين المعنى الذي نقلت منه، والمعنى الذي نقلت إليه؛ مثل: الصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، والإيلاء، والظهار، والربا، وغيرها.

واستحدث فيها علومًا اشتقت منه، وأخرى ألفت له، أو ألفت فيه؛ اشتق علم الفقه من آيات الأحكام في العبادات، والمعاملات، والحدود، والميراث، والوصية وغيرها، واشتق علم أصول الفقه من مطلقه ومقيده، وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه، واشتق علم الكلام من متشابه آياته، كتلك التي تجعل لله يدًا، والتي تسند إليه الاستواء على العرش، فقد أثارت هذه الشبه تساؤل الناس عن معناها، وكيف هي في جانب الله تعالى؟ فأما السابقون الأولون فقد أمسكوا عن تأويلها، والخوض في المراد بِها، وردوا الأمر في علمها إلى الله تعالى، ثم لم يلبث الناس مع تقدم الزمن، وتحول الحال أن تناولوا أمور العقيدة كلها بالبحث والدراسة، حتى كانت مذاهب المتكلمين.

ووضع النحو صيانة للقرآن من اللحن أن يتطرق إليه، بعدما استفحل أمره في اللغة، وعاث فيها فسادًا.

وألفت كتب في إعجازه، وكتب في قراءاته، وكتب في غريبه، وكتب في مجازه، وكتب في تأويله، وكتب في ناسخه ومنسوخه، وكتب في معانيه، وكتب في الوقف والابتداء في تلاوته، إلى كتب أخرى تقول في كل ما يخطر بالبال وما لا يخطر به من وجوه الدراسة له والتأليف فيه، حتى عدد الآيات والحروف.

وألفت كتب في إعرابه، وكتب في الاحتجاج لقراءاته ما شذ منها وما لم يشذ، فكان منها بحوث بارعة في اللغة، والنحو، والصرف، والأصوات، وألفت كتب مختلفة في تفسيره، منها ما يقوم على الأثر، ومنها ما يجمع بينه وبين الرأي، ومنها ما يُعنى بأحكام الفقه، أو مسائل النحو والصرف، أو وجوه البلاغة، أو غيرها من أنواع التفسير.

وإنه ليثير الآن، وسيظل يثير إلى يوم الدين بحوثًا، ويوحي بمقالات لا عد لها، كشفًا عن أسراره، أو إثباتًا لإعجازه، أو تأويلاً لبعض آياته، أو استنباطًا منه لحقائق مختلفات، ولقد أفادت اللغة من ذلك كله ذخرًا مهولاً من المصطلحات الفنية، والنظريات الفلسفية، وقضايا السلوك، وشؤون الحياة والاجتماع.

ومن الباحثين فيه من أرهق نفسه عسرًا، وحملها في صبر عجيب على تتبع آياته، والارتياض لإيقاع الأصوات فيها؛ لعله يجد من بينها آيات توازن بحور الشعر، على تعددها، واختلاف موسيقاها، فكان له منها ما يريد، فأقبل ينظم لكل بحر بيتين، يضمن أولهما اسم البحر، وأما ثانيهما فشطره الأول لنصف تفاعيل البحر، وشطره الثاني للآية التي جاءت على وفاق وزنه؛ كقوله في البحر المديد:


يَا مَدِيدَ الهَجْرِ هَلْ مِنْ كِتَابٍ فِيهِ آيَاتُ الشِّفَا لِلسَّقِيمِ؟
فَاعِلاَتُنْ فَاعِلُنْ فَاعِلاَتُنْ (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)

فكأنَّما أراد صاحب هذه المحاولة المضنية، بِما تكلَّف من جهد ووقت أن يدل على أن القرآن لم يندَّ عنه من علوم العربيَّة شيء، كما لم ينِدَّ عنه من علوم الشريعة شيء، فها هو ذا يجعل للعروض عنده نصيبًا، وإن لم يكنِ العروض بسبب منه، فالقرآن ليس من الشعر ولا من الرجز، نزهه الله أن يكونهما، أو يكون بسبب منهما، لكن الشعر شيء، والوزن في الكلام المنثور شيء آخر، وكثير جدًّا أن يلقى المَرْء ضروبًا من العبارات الموزونة، تقع لصاحبها عفوًا، دون تكلف لها أو قصد إليها.

والأثر الذي لا يعدله أثر آخر من آثار القرآن في العربيَّة أنَّه أمسك عليها خصائص سَمْتِها الأصيل، وكَفَلَ لَها الخلود على الأيام صالحة نقيَّة، لم يُصِبْها مسخ، ولا شابَها انحراف؛ فهذه مفرداتُها لم تزل بفضله على عهد الأولين بها، مجوَّدة الأداء، مضبوطة المخارج والأصوات، وهذه مناهجها في الصياغة، وطرائقها في التعبير، ألست تراها على ما نزل به القرآن من التنوع والافتنان؛ فحقيقة ومجاز، وكناية وتصريح، وحذف وذكر، وفصل ووصل، وقصر وإطلاق.

لهذا لا يشُقُّ عليْنَا أن نفْهَمَ عن أسلافنا، ونتذوَّق جَمال الفنِّ فيما خلفوا لنا من المنظوم والمنثور على مر العصور، وتلك مزيَّة نادرة، ونعمة سالفة أن يستقيم لأُمَّة أن يتَّصل آخرُها بأَوَّلِها، ويقوم حاضِرُها على أساسٍ من ماضيها، فتظل أبدَ الدهر أمة عريقة، وبنية متماسكة غير ذات تفكك ولا انفصام.

وعلى قدر صلة المَرْءِ بالقرآن، ومدى مصاحبته له يكون - فيما يرى الناس - حظ لغته من أصالة العرق، ونقاء المعدن، وسلامة البنية من الآفات، مشافهًا بها، ومنشئًا لها، يتبيَّن ذلك جليًّا لمن يعنى به، ويلقي باله إليه.

إنَّ القرآن لم يُمْسِكِ العربية لتجمد، ولا حال بينها وبين التَّطوُّر، ولا صدَّها عن الاستجابة لمطالب العلوم ومحدثات الحضارة، بفضل ما أُوتِيَتْ من وسائل النُّمُوِّ الذَّاتي، والثراء غير المجلوب، لكنها تدور أبدًا في فلكه، وتنجذب أبدًا إليه، حماية لها من عوادي الأحداث أن تنال منها، فتغير من أصولِها، وتبدلها حالاً بحال، فإذا هي مسخ شائه، لا هو بالعربي ولا بالأعجمي، أو تنحدر بِها الأحداث على الأيام إلى الاضمحلال والاندثار، لتخلفها عامية عاجزة، كأنها الخلق المرقع بما تجمع من عربية محرفة، وأخلاط من لغات أجنبية وافدة، وهيهات لمثلها أن يطيق التعبير إلا عن المطالب اليسيرة، والخواطر الهينة، أما الأدب في تساميه، والعلم في تعمقه، فليس منها، ولا هي منهما في شيء.

وهي بعدُ لغةُ أهلها خاصة، هم الذين يصطنعونها، ويفهمون معانيها، ويدركون ما عسى أن يكون فيها من إشارات، إنها عامل عزلة، وداعية حرب على الفصحى، تبدد آثارها الحسان في رأب الصدع، ولمِّ الشعث، وبث روح الإخاء والتعاون بين العرب على ما فيه الخير وصلاح الأمر.

ويمكن أن نقول في ثقة واطمئنان: إنَّه ما من كتاب من وحي السماء، أو من صنع البشر استطاع أن يصنع للغته ولأهله مثل ما صنع القرآن للعربية والمتكلمين بها؛ بل للبشرية كافة، وللحضارة الإنسانية كلها، بما رفع لها من قواعد، وأصل من أصول، ولقد لقي من حفاوة الدنيا به، وإقبال العلماء عليه دراسة وترجمة ما لم يلقه إلا صاحب رسالته صلوات الله وسلامه عليه.

ومن عجيب أن تنشأ أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن الحاضر ناشئة من رأي، تتوقع أن العربية لا بد يومًا لاحقة باللاتينية، وصائرة إلى ما صارت إليه من الفناء، رأي كان يراه بعض الأجانب، ويتبعهم فيه بعض المصريين ممن لم يتح له - على ما يبدو - أن يعلموا مكانها من القرآن، وحياطته لها إلى آخر الدهر، فهي اللغة التي اصطفاها الله له، وقد وعد سبحانه أن يكفل له الخلود، ووعده جل ذكره لا يتخلف، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وكنَّا نودُّ لو نَسَأَ اللَّهُ في عمر أصحاب هذا الرأي إلى اليوم، ليتبيَّنُوا عن يقين أنَّهم لم يكونوا في رأيِهم ذاك على صواب، ولا كانوا يدركون مبلغ الصلة التي تشد العربية إلى القرآن، وتقرن خلودها إلى خلوده، ولا كانوا يُدركون أيضًا مبلغ صلة العربية بالقرآن من جانب، والتعبد في الإسلام من جانب آخر، ولا يدركون كذلك مبلغ حب الناس للقرآن، وحرصهم على تلاوته والاستماع له من حاكمين ومحكومين.

وها نحن أولاء نرى العرب في أقطارها المتعدِّدة، قد جعلت له نصيبًا مفروضًا، ومواعيد معلومة بين برامج الإذاعة المسموعة والمرئية على سواء، نزولاً على إرادة شعوبِها، ومشاركة لها في الاستمتاع به، والإفادة منه، يرتله صفوة منتخبة من أجود القراء ترتيلاً، وأعذبهم أصواتًا، إلى ما جرت به عادة الناس قبلاً، ولا تزال جارية به إلى اليوم من دعوة القراء إلى تلاوته في المحافل الجامعة والمناسبات المتنوعة، واحتشاد الجموع للاستماع له، ومشاركة أصحاب الدعوة فيما يكونون فيه من شأن.

ولم يقتصر الأمر في تربية الناشئين على سور وآيات منه، يحملون على حفظها وفهم معانيها فيما يحفظون ويفهمون من النصوص الأدبية المختارة، ولكن رئي أن يعزز هذا الجهد بجهد شعبي أوسع نطاقًا، وأكبر نفعًا.

فأنشئت مدارس لحفظه وتجويده، وتقام المسابقات العامة لحفظته، فيشترك فيها جموع من الشبان والشابات إلى جانب المنقطعين للحِفْظِ والتجويد من الصبيان، ويمنح الفائزون من هؤلاء وأولئك جوائز تشجيع، وشهادات تقدير.

ثم لا بد في أداء الصلاة من أن يقرأ المصلي ما تيسر من القرآن، وهو لذلك حاضر في أذهان أهله أبدًا، حتى ما يكاد يفارقهم قراءة له أو استماعًا لقارئيه، فإذا لهم منه غذاء روحي كريم، ومدد ثقافي لغوي متجدد، والعربية إذًا ليست لغة الدنيا وحسب، ولكنها لغة الدين أيضًا، بها يكون التفاهم والتعبد جميعًا.

هذا هو سلطان القرآن على النفوس وعمله لها في زمان يشتد فيه الصراع بين الاستقامة والزيغ، وتتعدد المذاهب المتنافرة، والدعوات الشاردة، يحاول كل أن تكون له الكلمة العليا، والإرادة الماضية، في تغيير أساليب الحياة، وقيم المجتمع، وآداب السلوك، في غير وعي ولا تمييز، وتلك هي صلة العربية به، وأسباب انتمائها إليه، واستظلالها بظله، فهل يصح في فهم بعد هذا وذاك أن تقرن إلى اللاتينية، وأن يتوقَّع متوقِّع أنَّها صائرة إلى المصير الذي صارت اللاتينية إليه؟!

مالك مناع
06-02-2010, 01:20 PM
هل في القرآن الكريم من أحرف الزيادة؟
علي النجدي ناصف
المصدر: من كتاب: "مع القرآن الكريم في دراسة مستلهمة"


ليست الزيادة في العربية لغوًا فارغًا، ولا هراء باطلاً، ولكنها نافلة من اللفظ تكسب العبارة فضل توكيد فيما يقول النحويون، لكنهم لم يبينوا لنا المراد بالتوكيد الذي تفيده العبارة منها، ولا كيف يكون؟ ولعل ذلك – والله أعلم - لتعدد حروف الزيادة، وتنوع الأساليب التي تقع فيها، وكأنهم تركوا لكل حرف زائد أن يدل على نوع توكيده في الأسلوب الذي يذكر فيه، وتركوا للحس وحده أن يتذوقه، وينفعل به حيثما يكون.

وما من قارئ ولا سامع إلا يحس ما صنعته (مِن) الزائدة من توكيد النفي في قوله تعالى: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ} [المائدة: 19]، وإلا يدرك الفرق بين المعنى مع الزيادة والمعنى بدونها - فإن نفي مجيء البشير في الآية مع (من) الزائدة غير نفي مجيئه بدونها في نحو قولنا: ما جاءنا بشير، إنه في الآية نفي جامع مستوعب لكل بشير، وهو في العبارة نفي لمجيء واحد منهم لا غير، لكنه ليس نفيًا لمجيء أكثر منه.

ولم أرَ أحدًا ذكر التوكيد أو الحكمة التي زيدت لها (ما) في نحو قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159]، ويبدو – والله أعلم – أن سر زيادتها هو استحداث صوت جديد، ينبعث من (ما)، فيمسك القارئ هنيهة ليعرف السبب الذي كان من أجله الحكم الذي تضمنته القضية في العبارة، وفي ذلك موعظة له واعتبار.

وقضية الزيادة في القرآن قضية معمرة، ولكنها باقية متجددة، طال عليها الأمد، وتداولتها الأجيال على مر الزمان، سبق إليها الأولون، وقالوا فيها ما شاء الله أن يقولوا، فإذا لهم فيها آراء، وبينهم فيها خلاف، وتوارثها عنهم الآخرون، يبدئون فيها ويعيدون، ويتفقون ويختلفون، ولا يزال القول فيها قائمًا، والخلاف من حولها دائرًا.

لكن هذا الجهد المبذول، وذلك الوقت الموصول – لم يؤتيا ثمرًا ناضجًا، ولا أعقبا حصادًا مكافئًا، فكل ما بين أيدينا من ذلك كله نتف من أقوال، وأشتات من آراء، ترى مبعثرة بمطارحها من بطون الأسفار، لا تجمعها جامعة، ولا يأتلف منها بحث مدروس يضم أطرافها، ويلم شعثها، وينظمها في نسق محكم قويم.

وهي قضية ليست ككثير من القضايا: جلالة قدر، وحَرَج مسلك، وهيبة مقام؛ فهي تعرض للقرآن الكريم في بعض كلماتِه، وتبيين معناه، وتحاول بالنظر الصحيح والرأي الرشيد أن تخلص من حومة الجدل المحتدم حولها، والخلاف المتشعب فيها - بكلمة سواء يصح الأخذ بها، والاطمئنان إليها، وما كان لقضية كهذه أن يسهل صعبها، ويدنو بعيدها إلا بحبل من الله، ومدد من عونه، وعلى نور من هداه.

فلم يكن إلا أن أرجع إليه سبحانه خاشعًا متضرعًا، أسأله عز شأنه أن يجنبني فيها زيغ القول، ويعصمني من خطل الرأي، ويباعد بيني وبين التكلف والاعتساف.

ولعل ابن عباس - رضي الله عنهما - أن يكون أول من لحظ الزيادة في القرآن، ففسر بها، وأومأ إليها وهو يريدها، غير مفصح عنها، ولا ذاكرٍ اسمًا لها، إذ يفسر قول الله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ[1]} [التكوير: 15] فيقول: "أقسم ببقر الوحش؛ لأنها خُنْس الأنوف"[2]، فأدار معنى الآية على ثبوت القسم لا نفيه، مع تقدم (لا) عليه.

ولعل الخليل وسيبويه أن يكونا أول من قال في الزيادة، ووضع اسمها لها، ففي "الكتاب" يقول سيبويه: "وسألتُ الخليل عن قول العرب: ولا سيما زيدٍ، فزعم أنه مثل قولك: ولا مثل زيد، و(ما) لغو"[3] ويقول في موضوع آخر: "وأما قوله عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] فإنما جاء لأنه ليس لـ (ما) معنى سوى ما كان قبل أن تجيء إلا لتوكيد، فمن ثم جاز ذلك، إذا لم ترد به أكثر من هذا"[4]، وقال مثل هذا عن قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}[5] [آل عمران: 159].

وجاء المبرِّد فعبر بالزيادة مكان اللغو، إذ يقول في "المقتضب": إنَّ (لا) تقع زائدة في مثل قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد: 29]؛ أى ليعلم، وإذ يقول عن (ما): إنها تقع زائدة مؤكدة لا يخل طرحها بالمعنى، كقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ}، وكذلك: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}[6].

وجاء الرمَّاني فاستعمل الزيادة مكان اللغو أيضًا في كتابه "معاني الحروف"، إذ يقول عن (لا): وقد زيدت توكيدًا في نحو قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}، واستعمل الصلة مكان الزيادة في مكان آخر من الكتاب، إذ يقول عن (ما): وأما التي للصلة فنحو قوله عز وجل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}؛ أي بنقضهم، كذلك: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}[7].
وصنع الهروي في "الأزهية"[8] مثل ما صنع الرماني في "معاني الحروف".

أما الكوفيون فيسمُّون الزائد صلة، أو حشوًا[9]، كأنما أرادوا أن يكون لهم في الزيادة مصطلحان كما للبصريين مصطلحان، وكأنَّما جعلوا الصلة إزاء الزائد، والحشو إزاء اللغو.

ومضت دراسة النحو على امتداد تاريخها تستعمل الكلمات الأربع على سبيل المراوحة بينها، لكن الزائد والصلة كانا أكثرها شيوعًا، وإن لم يكن معناهما من معنى اللغو والحشو بعيدًا، فاللغو هو الكلام لا يعتد به، ويوشك الحشو أن يكونه، فهو يعني فضول الكلام، وربما رجع هذا التفاوت في الاستعمال إلى أن الزيادة والصلة آنس لفظًا، وأخف على السمع وقعًا.

وأيًّا ما يكن اللفظ الذي يذكر في هذا المقام، فهناك من يضيقون به، ويعيذون القرآن منه، ويؤثرون أن يقال: التوكيد، لا يبغون به بدلاً[10].

ولا أعتقد أنَّ السابقين إلى هذه الكلمات كانوا يصدرون فيها عن تهاون بالقرآن، أو غضٍّ منه، فما علمنا عنهم رقَّة في الدين، ولا اجتراءً على كلام رب العالمين، وهذا صنيعُهم له، وحفاوتُهم بدراسته، وجِدُّهم في تبيين خصائصه، شاهدًا عدلاً، وقولاً فصلاً فيما أقول، غير أن سلطان البحث في اللغة، والاستغراق في تجريد الدلالات لاختيار المصطلحات قد باعد بين القوم في هذا المقام وبين استحضار آداب العقيدة، واستشعار الخشية أن يبدر منهم غير ما يريدون، فقالوا دون أن يكون ذلك منهم على بال.

على أنَّنا نرى بعض أصحاب القرآن والمستكثرين من دراسته والبحث في علومه يستعمل هذه الكلمات في غير حذر ولا توقُّف؛ فهذا مكي بن أبي طالب صاحب أكثر من ثمانين كتابًا في علوم القرآن يقول عن آية {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}: "{رحمة} مخفوضة بالباء، وما زائدة للتوكيد"[11].

وهذا حجة الإسلام أبو حامد الغزالي يُنطق الزائد في القرآن بأصرح مما أنطقه به غيره، فيقول في عد أنواع المجاز: "القسم الثاني عشر: الزيادة في الكلام لغير فائدة؛ كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، (ما) ها هنا زائدة لا معنى لها؛ أي فبرحمة من الله لنت لهم".

وجاء ابن الأثير فخطَّأ مقالته هذه، ولكن لغةً لا ديانة، ثم اعتذر عن خطئه بأنَّه يتعاطى القول في غير فنه[12].

والآن أنتقل إلى اللغة أنظر ماذا عندها مما يمكن أن يكون موصول الأسباب بما أقول؟

إننا إذ نرجع إلى العبارة العربية في نظمها، والمفردات التي تتألف هي منها - نراها تأخذ بالإيجاز حينًا، وبالإطناب حينًا آخر، أمَّا المساواة فلا مقام لها هنا، لأنها الوسط بينهما، لا حذف، ولا زيادة فيه.

وإذ ننظر في الكلمة المفردة نراها تتعرَّض لمثل ما تتعرض العبارة له، فربما جار عليها الحذف، فلم يدع منها غير حرف أو حرفين. ففي الحديث الشريف أنَّه لمَّا نزل قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] قال سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: "إن رأى رجلٌ مع امرأته رجلاً فيقتله تقتلونه، وإن أخبر يجلد ثمانين، أفلا يضرب بالسيف؟"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كفى بالسيف شا))، أراد أن يقول: شاهدًا، فأمسك، ثم قال: ((لولا أن يتتابع فيه الغيران والسكران))؛ أي في القتل، لتممت على جعله شاهدًا[13].

ويقول سيبويه: "وسمعت من العرب من يقول: ألا تا، بلى فا، فإنما أرادوا: ألا تفعل، وبلى فافعل، ولكنه قطع كما كان قاطعًا بالألف في أنا"[14]. ويمكن أن يعد من هذا القبيل حذف التنوين من (حسرة) في آية {يَا حَسْرَةَ عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، ومن كلام ابن جني في الاحتجاج لها: "العرب إذا أخبرت عن الشيء غير معتمدته، ولا معتزمة عليه أسرعت فيه، ولم تتأن على اللفظ المعبر به عنه، وذلك كقول الوليد بن عقبة بن أبي معيط:


قُلْنَا لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ = لاَ تَحْسَبِينَا قَدْ نَسِينَا الإِيجَافْ

معناه: وقفت، فاقتصرت من جملة الكلمة على حرف منها"[15].

وكما تحذف العرب من اللفظ المفرد أحيانًا فإذا هو على شبه من الإيجاز في العبارة - تزيد في أحرفه، أو في صوت حرف منه أحيانًا أخرى، فإذا هو أيضًا على شبه من الإطناب في العبارة.

ففي أسلوب الندبة تزيد على آخر المندوب ألفًا، فتزيد بها من صوت التفجع أو التوجع، إعلامًا جهيرًا بحرقة الحزن، أو شدة الألم، ثم هي تزيد الهاء أيضًا بعد الألف حين الوقف، إشباعًا للمد، وذهابًا به إلى مدى بعيد.

ويعلل ابن الزملكاني لدلالة (لا) على نفي البعيد، ودلالة (لن) على نفي القريب، فيقول: (لا) آخره ألف، والألف يمكن أداء الصوت به، بخلاف النون[16].

بل ربما قام مد الصوت في كلمة إلى أبعد من حدوده مقام الوصف بصفة تزيد من معناها، فقد قال سيبويه: "إنهم يقولون: سير عليه ليل، يريدون: ليل طويل، وهذا إنما يفهم بتطويل الياء، فيقولون: سير عليه ليل، فقامت المدة مقام الصفة"[17].

وكانوا ربما عمدوا إلى حرفٍ ليس من حروف المد، فمطلوا حركته حتى يجعلوا منه حرف مد؛ لزيادة معنى على الكلمة التي مطلت حركة الحرف فيها.

فقد رووا أنَّ رجلاً ضرب ابنًا له، فقالت له أمه: لا تضربه، ليس هو ابنك، فرافعها إلى القاضي فقال: هذا ابني عندي، وهذه أمه تذكر أنه ليس مني، فقالت المرأة: ليس الأمر على ما ذكره، وإنما أخذ يضرب ابنه، فقلت له: ليس هو ابنك، ومدت فتحة النون جدًّا، فقال الرجل: والله ما كان فيه هذا المطل[18].

فقد فهم الرجل من مقالة امرأته حين سمعها وهو يضرب الولد غير ما فهمه منها حين سمعها وهما بين يدي القاضي، شغله الغيظ من ابنه والانهماك في ضربه عن الانتباه إلى الصوت الذي أرسلته صاحبته في النون، فوقع في وهمه أنها تنفي نسب الولد عنه حقًّا، لكنها لما أعادت الكلمة على ما قالتها تبين أنها إنما أرادت أن تصرفه إلى ما هو أنكى من السخط على ابنها رحمة به، وإبقاء عليه.

يمكن أن يقال إذًا: إن الزيادة والحذف من أصول العربية المقررة، وإن العرب لم تكن تأخذ بهما عبثًا، ولكن لفضل معنى، والزيادة هي التي تعنينا في هذا المقام.

ويقول الزركشي عن ورودها في القرآن نقلاً عن الطرطوسي: الدهماء من العلماء والفقهاء والمفسرين على إثبات الصلات في القرآن، وقد وجد ذلك على وجه لا يسع إنكاره[19].

فلا علينا أن نقول: إن في القرآن زيادة، كما أن في اللغة زيادة، ويؤيدها هذا الذي يقوله جمهور العلماء: إن القرآن إنما أنزل بلسان عربي مبين، وقد تحدى الله العرب أن تأتي بشيء من مثله، وإنما يكون التحدي على بابه إذا كان بين النظائر والأشباه، وإلا انفسح مجال العذر لمن لا يطيقه أن يعتل بأنه تحدٍّ غير منصف ولا جاد.

ولأمر ما كان ابن عباس يرجع إلى الشعر في تفسير القرآن، ويستشهد به في المساءلات التي كانت تقع بينه وبين مسائليه، كالذي نراه في مساءلة نافع بن الأزرق، وقد أورد السيوطي أكثرها في "الإتقان"[20]، ولعلَّ استشهاد ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن"، ثم استشهاد غيره من المفسرين في كتبهم إنما كان عن محاكاة لابن عباس واقتداء به.

وما أرى الاستشهاد للقرآن بالشعر إلا ضربًا من الاحتجاج لإعجازه، وتثبيت معنى الإعجاز في النفوس؛ لأنه يدل على أن عجز العرب عن الإتيان بشيء من مثله لم يكن لخلاف بين لغتها ولغته، ولكن لأنه الكلام لا يتسامى إليه أو يدنو منه إنس ولا جان.

آن لنا بعد هذا التطواف البعيد أن ننتقل إلى القرآن الكريم، نستشرفه في أفقه الأعلى، لعلنا واجدون هنالك ما يؤيد وقوع الزيادة فيه.

يلاحظ الذين يتدبرون القرآن الكريم أنه تارة يكرر بعض الكلمات في الأسلوب، حفاظًا على تماسكه، ووصلاً لأوله بآخره، وتارة يزيد في بنية بعض كلماته حرصًا على تجاوب الجرس وائتلاف النغم، فمن النوع الأول قوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]، فقد ذكرت {رأيت} في أول الآية الأولى، وكررت عند آخرها، وكررت {أن} كذلك في الآية بعدها، ولم تكن بالآيتين حاجة إلى هذا التكرار لولا طول الفصل بين الطرفين في كل منهما، حتى كأن ليس بينهما شيء من الاتصال.

ومن أمثلة النوع الآخر قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] وقوله: {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ} [الأحزاب: 66]، فقد ختمت الآيتان بألف غير مبدلة من التنوين للوقف، ولكنَّها مزيدةٌ ليكونَ مقطع النغم فيهما مثل مقاطعه في سائر الآيات الأخرى طليقًا مرسلاً.

ويلحق بالزيادة للتنغيم تنوينُ غيرِ المنون، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثًا وَيَعُوقًا وَنَسْرًا} [نوح: 23] في قراءة الأعمش[21]، وقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلاً وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان: 4] في قراءة نافع والكسائي[22]، ليس التنوين هنا بدعًا من العربية، فبنو أسد ينونون الأسماء كلَّها، وبعض القبائل لا يمنع من التنوين إلا أفعل التفضيل[23].

ويَحتجُّ أبو تَمَّام للزيادة المؤكدة، اقتباسًا من التثويب في الأذان، فيقول:


لَوْ رَأَيْنَا التَّأْكِيدَ خُطَّةَ خَسْفٍ مَا شَفَعْنَا الأَذَانَ بِالتَّثْوِيبِ

يتضح من ذلك كله أن الزيادة في القرآن وفصيح البيان ليست لغوًا باطلاً، ولا عبثًا فارغًا، ولكنها كانت تراد قصدًا لمطلب كريم من مطالب البلاغة وفصاحة التعبير.

ولقد لقي الذين أنكروها في القرآن من هذا الإنكار نصبًا ، واضْطُرُّوا إلى كثيرٍ من الاستِكْراه وضروبٍ من التَّأويل البعيد، الذي يجب أن ينزه عنه القرآن، وإني ذاكر هنا بعض ما لَقُوه واضْطُرُّوا إليه.

قال قائل منهم يعرب (ما) في آية {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}: إن (ما) استفهامية للتعجب، والمعنى: فبأي رحمة من الله، تعجبًا من الرحمة، وإعظامًا لها .

وقد أخذ على هذا الإعراب أن ألف (ما) ثابتة في رسم المصحف، وإثباتها مع الجار قليل أو شاذ، وأنه لا وجه لخفض (رحمة) بعد (ما)؛ إذ لا يصح خفضها بالإضافة، لأن أسماء الاستفهام التَّعجُّبِيِّ لا يضاف منها غير أي، وكذلك لا يصح خفضها على البدل أو عطف البيان؛ لأنَّ المبدل من اسم الاستفهام يجب أن يقترن بِهمزته، وعطف البيان كالنعت يؤتى به لتوضيح المتبوع أو تخصيصه، وما لا ينعت لا يتبع بعطف البيان[24].

وقالوا عن (لا) التي تذكر قبل فعل القسم غير مسبوقة بالفاء في نحو: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1]: إنها نافية، ثم اختلفوا في المنفي ما هو؟ فذهب بعض إلى أنه هو ما كانوا يلفظون به ويفيضون فيه من إنكار البعث يوم الدين.

والمعنى لا صحة لما تنكرون، ثم استؤنف الكلام، فقيل: أقسم بيوم القيامة لتبعثن، وسوغ هذا الفصل عندهم بين النافي والمنفي أن القرآن كله كالسورة الواحدة، فربما ذكر أمر في سورة، وجاء جوابه في أخرى.

ويؤخذ على هذا التأويل أنَّ فيه حذفًا لاسم (لا) وخبرها دون دليل يشير إليهما؛ كأن تكون (لا) جوابًا لسؤال، وأما أن القرآن كالسورة الواحدة فأمر لا خلاف عليه، ولكن في تقرير الأحكام وعرض القضايا، وقص القصص: يفصل من أولئك ما عسى أن يذكر مجملاً، ويخصص ما عسى أن يذكر عامًّا، ويتم ما عسى أن يكون بحاجة إلى تمام.

أما أن يذكر في سورة أمرًا يريد نفيه، ثم يذكر الحرف الذي ينفيه في سورة أخرى - فمباعدة بين متلازمين يقتضي البيان أن يقترنا؛ ليعلم المرء من فوره أن الكلام مبني على النفي لا على الإثبات.

وقيل: إنَّها نافيةٌ، والمنفيُّ هو فعل القسم، والكلام خبر لا إنشاء، حذف خبر المبتدأ فيه، والمعنى: لا أقسم بيوم القيامة إعظامًا له، لا إعراضًا عنه؛ لأن القسم لا ينهض بحقه منه، وإن كان لا يقسم إلا بذي شأن كبير.

وجعل (لا) نافية في هذا الأسلوب، أيًّا ما كان الوجه الذي يصار بالمعنى إليه، يوقع في خلف ظاهر بين القسم وجوابه أحيانًا، وذلك حين يكون الجواب مثبتًا لا منفيًّا، نحو قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 1 - 4]، فالمعنى حينئذ: لا أقسم أنا خلقنا الإنسان في كبد.

وأوضح من هذا في الدلالة على الخلف قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76]، فصدر الآية الأولى ينفي القسم بمواقع النجوم، والآية التالية لها تؤكد أن القسم بها عظيم.

ثم لماذا الإعظام للمقسم به في هذا الأسلوب ونحوه على سبيل نفي القسم به، وقد أقسم الله تعالى بربوبيته، وبالقرآن الكريم قسمًا مثبتًا، فقال: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] وقال: {وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1].
وقيل: إن (لا) هنا زائدة للتوكيد[25]، وهذا هو الرأي، ولا مكان لرده بحجة أن الزائد لا يكون في أول الكلام، لأن الزيادة استغناء واطراح، والبدء بالزائد عناية واهتمام، وهي حجة لا سند لها من اللغة؛ بل من الفلسفة، على أننا لا ندري ماذا يضير البيان أو يغض منه إذا استهل الكلام بزيادة للتنبيه واسترعاء الأسماع، ولقد زيدت الباء مع ذلك ابتداء في (بحسبك) من قول الشاعر، يرويه أبو زيد:


بِحَسْبِكَ فِي القَوْمِ أَنْ يَعْلَمُوا بِأَنَّكَ فِيهِمْ غَنِيٌّ مُضِرّْ[26]

ويمكن أن تعد (لا) في زيادتها ابتداء مثل (ألا) الاستفتاحية ، ومثل (يا) حين تدخل على ما لا ينادى، نحو قوله تعالى: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 26، 27]، وجعل (يا) مزيدة هنا للتنبيه أولى من جعلها للنداء، وجعل المنادى محذوفًا؛ لأن ذلك يعفي من ثقل الحذف والتقدير لغير حاجة، ثُمَّ إنَّ النداء دعاء واستقبال، والحذف إعراض وإغفال.
هكذا دار القول على (ما) و(لا) حين لا تتَّصل بِها الفاء، وهكذا كان الخلاف بين القائلين بزيادتهما والمنكرين لها.

ومثال (لا) التي تتصل الفاء بها قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}، وكان الظن - وقد اتَّصلَتِ الفاء بِها - ألا يكون في زيادتها خلاف بين القائلين بالزيادة في القرآن، لكنا نرى أبا حيان - وهو لا ينكر الزيادة على إطلاقها - يذهب في تأويل الآية مذهبًا غريبًا؛ ليجنِّبَها الزيادة، مع أنَّه كان من القُرَّاء، وقضى شطرًا من حياته يأخذ بمذهب أهل الظاهر، فهو حقيق أن يكون أكثر تحفظًا، وأقل أخذًا بالتأويل في دراسة النصوص، ولا سيما القرآن، ولكن هذا ما كان.

قال أبو حيان: إن أصل {فَلَا أُقْسِمُ} فلأقسم، كما كانت في قراءة الحسن، لكن أشبعت فتحة اللام فصارت (لا)، كما أشبعت فتحة الراء في قول القائل: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ.

وكما أشبعت كسرة الهمزة في قراءة: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، ثم نظر فإذا الفعل (أقسم) غير مؤكد، وهو هنا واجب التوكيد، فلم يكن بد من أن يقول: إن التقدير: فلأنا أقسم؛ ليصير الكلام خبرًا لا إنشاء، كما قال ابن جني في تخريج قراءة الحسن[27].

ولا أدري كيف طوَّعتْ لأبي حيَّان نفسه أن يَحتجَّ لقراءة الجمهور بشذوذ قراءة وضرورة شعر، ولا كيف استجاز أن يأخذ فيها بتخريج ابن جني لقراءة الحسن، وهو يعلم أن ابن جني إنما يتكلم عن واقع من الأمر، فقراءة (فلأقسم) مروية هكذا بلا تأويل، أما أبو حيان فيقيم تخريجه على أساس من التوهم والافتراض.

أما بعد، فقد رأينا في عرض قضيتنا هذه كيف أفضى القول بنفي الزيادة عن القرآن إلى كثير من الخلاف الذي لا خير فيه ولا جدوى منه، وكيف أدى إلى ضروب من التكلف البعيد والإحالة المفرطة، التي تجافي روح البيان الأصيل في كلام الناس، فكيف هي في كلام رب العالمين؟

لنقل إذًا مع القائلين بالزيادة، لا نحذرها تقية لها، أو تحرجًا منها، فقد سبق إلى قولها علماء أبرار، ثقات عدول، قالوها صريحة غير ذات خفاء، ثم هي تمسك على الأسلوب القرآني جماله وجلاله في المقامات التي تقال فيها، وتنزهه عن تكلف الصناعة، واعتساف الضرورة تأويلاً وتخريجًا.

-----------------------------------------------------------

[1] الخنس: انخفاض قصبة الأنف مع ارتفاع قليل في طرفه.
[2] "الكامل" للمبرد: 2/ 44.
[3] "الكتاب": 1/ 350.
[4] "الكتاب": 1/ 92.
[5] "الكتاب": 1/ 44.
[6] "المقتضب": ا/ 47، 48.
[7] "معاني الحروف": 84، 55.
[8] "الأزهية": 161.
[9] "البرهان": 3، 7، 71.
[10] "البرهان": 3/ 70.
[11] "تقسير مشكل إعراب القرآن": 1/ 65.
[12] انظر: "المثل السائر" 2/ 93، 94.
[13] "النهاية": 1/ 202.
[14] "الكتاب": 2/ 62.
[15] "المحتسب": 2/ 204، 208.
[16] "التبيان في علم البيان": 84.
[17] "المحتسب": 2/ 209، والعبارة في "الكتاب": 1/ 112، ويبدو أن ابن جني رواها بالمعنى.
[18] "المحتسب": 2/ 210.
[19] "البرهان": 1/ 72.
[20] "الإتقان": 2/ 55 – 58.
[21] "الكشاف": 2/ 492.
[22] "إتحاف فضلاء البشر": 264.
[23] "الهمع": 1/ 37، و"إتحاف فضلاء البشر": 264.
[24] "البرهان": 3/ 73، و"المغني": 1/ 185.
[25] "المغني": 1/ 185.
[26] "النوادر": 73.
[27] "البحر المحيط": 8/ 112.

مالك مناع
06-02-2010, 01:23 PM
من أسرار الكلمات في القرآن الكريم
د. طارق السيد طبل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

وبعد، فإن للكلمة في القرآن الكريم قيمةً عظيمة، وأهمية كبرى؛ وذلك أن الكلمة هي الأصل الذي يدور عليه المعنى، فإذا وضعتَ الكلمة في موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه، فقد أصبتَ المعنى كله.

واختيار المفردات في القرآن الكريم من أسرار إعجازه، ومن عجائبه التي لا تنفد؛ لذلك تجد كلَّ كلمة في القرآن لا يصلح غيرها في مكانها، ولو أُدير لسان العرب على كلمة غيرها لتؤدي معناها في مكانها، لم يوجد؛ لأن معناها في هذا الموضع الذي وضعت فيه أمر يقتضيه السياق والحال.

وكما قال موباسان: "إن للكلمات أرواحًا، فإذا استطعتَ أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها، ولا عوض منها، ثم وضعتَها في الموضع الذي أُعد لها، وهُندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد لها الحياة، وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة، والصدق والطبيعة والوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف"[1].

وإذا كان العربي القديم قد عرَف للكلمة منزلتَها، وقدَّرها حقَّ قدرها، حتى إنه لينتفض حين يسمع من الكلمات ما يأباه الذوق ويخالف الطبع.

فها هو النابغة الذبياني ينكر على حسان بن ثابت – رضي الله عنه - عدمَ مراعاته لاختيار الألفاظ التي تلائم السياق، وتوافق المقام، حين أنشده مادحًا قومه:


لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا

فقال له النابغة منكرًا: يا ابن أخي، لقد أقللتَ جفانك وأسيافك، ما هكذا تقول، قلتَ: (لنا الجفنات)، ولو قلتَ: (الجفان)، لكان أكثر - لأن (الجفنات) جمع قلة، و(الجفان) جمع كثرة – وقلتَ: (يلمعن في الضحى)، ولو قلت: (يسطعن في الدجى) لكان أبلغ - لأن الضيف أكثر ما يكون ليلاً - وقلت: (يقطرن)، ولو قلت: (يجرين)، لكان أولى.

وهذا ابن هرمة ينكر على رجل بدَّل كلمة مكان أخرى في بيت له، قال الرجل:


بِاللَّهِ رَبِّكَ إِنْ دَخَلْتَ فَقُلْ لَهَا هَذَا ابْنُ هَرْمَةَ قَائِمًا بِالبَابِ

فقال ابن هرمة للرجل: ما كذا قلت، أكنتُ أتصدَّق؟

قال الرجل: فماذا؟ قال ابن هرمة: (واقفًا بالباب)، ثم قال للرجل: ليتك علمت ما بين هذين[2] من قدر اللفظ والمعنى.

وإذا كان الأمر على هذه الروعة والبيان عند العرب، فإن القرآن العظيم أشد بلاغة، وأعظم فصاحة، وقد تحدَّاهم أن يأتوا بمثله، أو بمثل آية منه، فعجزوا؛ بل إنهم اعترفوا ببلاغته، وخرُّوا لفصاحته، وقال قائلهم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، وما هو بقول بشر.

وإليك بعضَ النماذج التي تبين مدى دقة التعبير، وبلاغة التركيب، وبراعة النَّظم، في اختيار المفردات في القرآن الكريم.

انظر إلى قوله - تعالى - حكاية عن إخوة يوسف - عليه السلام -: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17].

فاستعمل (أكله) الشائع الاستعمال، دون (افترسه) الفصيح المختار، والذي هو مِن فعل السَّبُع ونحوه، وما ذلك إلا أنَّ الافتراس لا يؤدي تمام المعنى؛ لأن معناه القتل فحسب، والقوم إنما أرادوا أن الذئب أتى عليه كله، ولم يترك منه شيئًا، لا لحمًا، ولا عظمًا، ولو قالوا: (افترسه الذئب)، لطالبهم أبوهم ببقية منه، تشهد بصحة دعواهم؛ ولهذا لم يصلح في هذا الموضع إلا أن يعبِّروا عنه بلفظ (الأكل)، وهو شائع الاستعمال في الذئب وغيره من السباع.

كذلك نرى قوله - عز وجل - حكاية عن إحدى المرأتين اللتين سَقى لهما سيدُنا موسى - عليه السلام -: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]، فاستخدم القرآن (تمشي) دون (تسعى) التي هي أفصح وأخص؛ وذلك أن القرآن العظيم إنما أراد أن يبيِّن ما ينبغي أن تكون عليه المرأة من وقار وسكينة في مشيتها، دون عجل يثير الغرائز، ويوقظ الفتن، ولفظة (تمشي) هي الأقرب لهذا المعنى؛ لأنها تدل على أنها أتتْ على العادة المعهودة للمرأة من السكينة وحسن الأدب، بخلاف (تسعى) التي تدل على السرعة والعجلة، فإنك تقول: مشيت إلى فلان، إذا لم تكن على عجلة من أمرك، بخلاف سعيت إليه.

وانظر كذلك إلى قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - لما أراد الخروج من المدينة، بعد افتضاح أمره، بقتل رجل من آل فرعون؛ قال - سبحانه وتعالى -: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21]، فاستعمل الاسم مع الخوف، والفعل مع الترقب، ولم يقل: يخاف يترقب، أو خائفًا مترقبًا؛ وذلك لأن المعنى لا يستقيم مع حال سيدنا موسى، إلا بما ورد في القرآن الكريم؛ لأن التعبير بالاسم (خائفًا) يدل على الدوام والثبوت، والخوف إنما كان ملازمًا لموسى لا ينفك عنه، أما الترقب (يترقب)، فإنه يقع مرة بعد مرة، كلما مشى في طريقه؛ ولذلك عبَّر بالفعل المضارع (يترقب)، الذي يدل على التجدُّد والحدوث.

وانظر إلى قوله - تعالى -: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، فقد زعموا أن المشي في هذا ليس بأبلغ الكلام، ولو قيل بدل ذلك: أن امضوا، أو انطلقوا، لكان أبلغ وأحسن، ولو تأملنا حال القوم، وسياق الآية، لوجدنا الأمر على خلاف ما زعموا؛ بل المشي في هذا المحل أولى، وأشبه بالمعنى؛ وذلك لأنه إنما قصد به الاستمرار على العادة الجارية، ولزوم السجية المعهودة، من غير انزعاج منهم والانتقال عن الأمر الأول[3].

والمشي هو الملائم لهذا المعنى، وكأنهم قالوا: امشوا على هيئتكم المعهودة، ولا تبالوا بهذا الأمر، ولا تعيروه اهتمامًا منكم، وفي قوله: امضوا وانطلقوا زيادة انزعاج، ليس في قوله: امشوا.

وتأمل اختيار لفظ (آنست) على (أبصرت) في حديث القرآن عن سيدنا موسى - عليه السلام - يقول – سبحانه -: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10]، وقد تظن أن الموقف يستدعي أو يطلب (أبصرت) دون (آنست)، وليس الأمر على ما ترى؛ لأن حال سيدنا موسى من الخوف، والفزع، والمجهول الذي يلاقيه أثناء سفره - أدعى إلى الإيناس والطمأنينة، وهو ما يقوم به لفظ (آنست)؛ فإنه ليس مجرد الإبصار فحسب؛ ولكن يزيد عليه بالطمأنينة المؤنسة، (وآنست) تدل على الاطمئنان والأنس معًا.

وتأمل منهج القرآن الكريم في استخدام الفعلين (فعل - عمل)، مع أنهما شديدا التقارب، إلا أن القرآن يستخدم كلاًّ في موضعه استخدامًا عجيبًا، ويستعملهما استعمالاً بديعًا.

فـ(عمل) في القرآن تأتي لما يمتد زمانه، كما أنها لم تُسند إلى الله - تعالى - أو إلى اسم من أسمائه؛ وذلك لأنها تحتاج إلى تفكُّر وتعمل، ومقارنة بين الفعل والترك، وتقلب النظر في الصورة، واختيار ما يهدي إليه النظر فيها، وسبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يلتبس عليه أمر من الأمور[4].

ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: قوله - تعالى -: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [غافر: 40]، وقوله - سبحانه -: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30]، وقوله - عز وجل -: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف: 49].

أما مادة (فَعَل)، فإنها تكون لما يقع دفعة واحدة، ولا يحتاج إلى إعمال فكر؛ ولهذا أسندت إلى الله - عز وجل - في كثير من استعمالاتها في القرآن، خذ مثلاً قوله – تعالى -: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45]، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40].

وانظر إلى استعماله لفظي (الجهاد والقتال)، تجد ما يملؤك روعة وبيانًا؛ فـ(الجهاد والقتال) وإن ترادفا في المعنى، إلا أن القرآن يفرِّق بينهما؛ فالجهاد أوسع دائرة من القتال، وهو يصدق على نشاطات الدعوة كلها، كما يشمل كل عمل يؤدِّيه المؤمن، من شأنه إعلاء دين الله، فيجاهد نفسه وأهله؛ لينأى بهم عن النار.

أما القتال، فهو أخص من الجهاد، ولا يستعمل إلا في إعلاء كلمة الله، ومع الذين يقاتلوننا، ونجده مشروطًا بعدم الاعتداء والتجاوز.

خذ من آيات الجهاد قوله – سبحانه -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].

فسمَّى الدعوة إلى الله جهادًا؛ لما فيها من تحمُّل الجهد والمشقة.

واقرأ من آيات القتال قوله – تعالى -: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]، {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء: 74]، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190].

ثم انظر - رحمك الله - إلى حديث القرآن عن (المطر والغيث)، تجد تحديدًا دقيقًا لاستعمال الألفاظ، لا يوجد في غير القرآن.

فقد فرَّق القرآن في الاستعمال بينهما؛ فـ لفظ (الغيث) لا يذكر في القرآن إلا في مواطن الرحمة والنعمة، ويأتي مقرونًا بالخير الوفير، خذ قوله – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34]، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28]، {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف: 49].

على حين لا يذكر لفظ (المطر) ومشتقاته في القرآن العظيم، إلا في مقام العذاب والعقاب؛ قال - سبحانه -: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 84]، وقال - تعالى -: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]، وقوله - عز اسمه -: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء: 173].

كذلك فرَّق القرآن العظيم بين (الريح والرياح)؛ فالريح في الغالب تأتي في مواطن العذاب والعقاب، بينما (الرياح) على العكس من ذلك، فإنها تأتي في مواطن الخير والنماء؛ وذلك أن الريح تأتي من جهة واحدة؛ فتكون مدمرة، أما الرياح فتأتي من جهات عدة؛ مما يُحدِث التوازن والاستقرار.

خذ مثلاً قوله - تعالى -: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6].

وفي الرياح قال - سبحانه -: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الحجر: 22].

كذلك فرق القرآن بين الفعلين (أفوض - وأتوكل)، فنجد الفعل أفوض يأتي حيث لا تنفع الأسباب، ولا تُجدي الحيلة؛ قال - تعالى -: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44]، بينما الفعل (أتوكل) يأتي مع وجود الأسباب ورجاء نفعها؛ قال - سبحانه -: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 81].

كذلك فرق القرآن في الاستعمال بين الجسد والجسم؛ فالأول يكون للميت، والثاني للحي، وفرق بين (السَّنة والعام)؛ فالأول للسنة الشمسية، والثاني للسنة القمرية، وبين (القَسَم والحلف)؛ فالقسم يكون لمطلق اليمين، بينما الحلف يكون للحنث في اليمين، وبين (جاء وأتى)؛ فالمجيء يكون من مكان أو زمان قريب، بينما الإتيان يكون في حال المكان والزمان البعيد.

كما استعمل بعض الكلمات مفردة، وإذا جمعها جاء لها بجمع من غير جنسها؛ كالصراط مفرد، وإذا جمع قيل: سُبل، والنهار مفرد، وإذا جُمع قيل: أيام، واستعمل النور مفردًا في القرآن كله؛ لأنه واحد لا تعدد فيه؛ إذ المراد به الهدى، بينما استعمل الظلمات جمع؛ لأنها متعددة؛ إذ المراد بها الضلال، وطرق الضلال شتى.

وهكذا نجد استعمالاً فريدًا للمفردات في القرآن، وتحديدًا دقيقًا، ولا عجب؛ فهو "لب كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليه مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نَظمهم ونَثرهم"[5]، وتعالى الله العظيم عما يقولون علوًّا كبيرًا.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــ
[1] من مقدمة كتاب "دفاع عن البلاغة"، للأستاذ أحمد حسن الزيات، ص15، ط/ نهضة مصر، 1967م.
[2] يقصد بين قائمًا وواقفًا.
[3] "ثلاث رسائل في إعجاز القرآن الكريم"، ص 43، ط/ دار المعارف.
[4] "دراسات جديدة في إعجاز القرآن الكريم"، د/ عبدالعظيم المصطفى، ص 131، ط/ مكتبة وهبة بالقاهرة.
[5] "المفردات"، للراغب الأصفهاني، ص 10.

مالك مناع
06-02-2010, 01:31 PM
ملامح من الإعجاز البياني في ضوء القراءات القرآنية
د.أحمد محمد الخراط

لا يخفى على أحدٍ منَّا وفرة الدراسات البيانيَّة التي تناولت إعجاز القرآن من حيث نظمُه وأداؤه التعبيري. وأود في هذا البحث أن ألفت أنظار الباحثين والمهتمين بدراسات إعجاز القرآن إلى جانب عَزّتْ فيه الدِّلاء، ونَدَرَت الأقلام، وقَلّت التأملات، وهو جانب الإعجاز البياني في ساحة القراءات القرآنية المتواترة، ولا سيما أن علماءنا كافة يقرون بسلامتها، وصحة سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان علماء البيان، قد خدموا جوانب الإعجاز التعبيري المختلفة، التي تلتقي عليها القراءات القرآنية المتواترة، وذلك في الدراسات السالفة والمعاصرة، وكتبوا في روعة نظمها وأسلوبها وأسرار اختيار الحروف والكلمات، إذا كان علماء البيان قد فعلوا كل ذلك فإن مجال الكتابة والتأمل على ضفاف الجانب الجمالي الأدبي في القراءات كلٍ على حِدَة هو لون جديد من ألوان إعجاز هذا الكتاب الخالد؛ لأنه إذا كان معجزاً في بيانه الراقي عندما تلتقي القراءات على أداء ألفاظ الآية فإن هذا الاعجاز الجمالي يمتد ويمتد، حتى إنه ليدخل في نسيج كل قراءة بمفردها. وحبذا لو عُني المتخصصون بإبراز هذا الجانب الذي يتصل بأغوار اللغة والبلاغة أكثر ممَّا يتصل باختلاف اللهجات العربية.

وإذا كانت هذه القراءات كلها في الأصل للتيسير على العرب الذين تلقَّوا هذا القرآن، حيث كانوا ذوي لهجات ولغات متعددة، فإن حكمة الله قد اقتضَتْ أن يكون في هذه القراءات حِكَمٌ أخرى كثيرة، منها في هذا المقام أن تدلَّ من ناحيةٍ على صيانة كتاب الله وحفظه من أي تحريف وتبديل، مع كونه يتلى على أوجهٍ كثيرة. ومَنْ يطالعْ في كتب القراءات يعجبْ لهذه الدقة، والإحاطة برواياته وأدائه، على الرغم من تنوُّع طرق الأداء فيه، فقد سُجِّلَتْ هذه الطرق ووُصِفت على نحوٍ دقيق مبوب منظم. أليس في هذا دليل على أفق من آفاق الآية الكريمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] ومن ناحية ثانية اقتضت حكمة الله أن يكون مع هذا الاختلاف في الأداء والقراءة ضروبٌ جديدة من الجمال والبلاغة يمتلكها كلُّ وجه من وجوه هذه القراءة، فيمتد الإعجاز وتتعاظم صوره، ويومئذ يفرح المؤمنون بهذا العطاءِ الرحبِ الفسيح وتطمئن قلوبُهم به.

وأودّ هنا أن أنبه إلى ضابطين ضروريين في هذا السياق وهما:

1 – ليس من منهجنا عَقْدُ العزم على تفضيل قراءة متواترة على غيرها، تفضيلاً يغضُّ من شأن الأولى أو الثانية، التي نعرض لأسرار أدائها. وقد رُوي عن الإمام أبي العباس ثعلب أنه قال:"إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة لم أُفَضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن، فإذا خرجْتُ إلى كلام الناس فضَّلْتُ الأقوى"[2].

ونودُّ أن نكشف عن الجمال التعبيري في القراءات القرآنية غيرِ قراءة حفص عن عاصم المشهورة اليوم في العالم الإسلامي. ونحن إذا انتوينا ذلك، فليس من مقصودنا أن نشير إلى أن قراءة حفص هذه لا تملك من عوامل الإعجاز البياني والجمال التعبيري لدى موازنتها بغيرها.

معاذ الله أن يقول هذا ذو قلب بصير بمواطن البيان وأطايب الكلام، فالإعجازُ في كل قراءةٍ أمرٌ ملموس. وسبحانَ الله الذي جعل في كتابه على تنوع طرق أدائه لمفرداته روعةً وحسناً وجمالاً ونكهة. فأنت إذاً أمام حديقة غنَّاء، فيها من مُعْجب الورود والرياحين والأزهار، فتأخذ الحيرةُ لُّبَّك، والدهشةُ فؤَادَك، فلا تدري ماذا تجني، وماذا تشمُّ، وماذا تقطف، فكل قراءةٍ وردةٌ متناسقة الأكمام، طيبة الرائحة، شهية الجنى. وهذا المجال كما قلت رحب فسيح، ألفت نظر الباحثين والمختصين إليه، لعلهم يضيفون إليه جديداً رائقاً؛ لنصل في مطافنا هذا إلى يقين راسخ – إن شاء الله – بأن هذا الكتاب لا تنقضي عجائبه، ولا يقف عطاؤه في محيط دائرة لا يتعدَّاها. وفي هذا جانب يمكن أن يَفيدَ منه الدعاة، فيكون لهم مجال جديد للقول والاستدلال على مصدره.

2 – أما الضابط الثاني فيتعلق بمنهج هذه الدراسة، حيث يتمثل في المحافظة على منطوق اللغة، وحدودها، وطاقتها التعبيرية، والابتعاد عن التكلف، الذي لا تُقِرُّه دائرة اللغة نفسها، وذلك لأن المتأمِّل في هذا الجانب، ينبغي له أن يبقى في محيط العطاء، الذي يمنحه نسيج اللغة، وعبقها الذي تتنفس من خلاله.

من هذه النماذج التي اختَرْتُها، قراءة حمزة[3] {فلا تعلم نفس ما أَخْفِيْ لهم مِنْ قُرّة أَعْين} حيث ورد الفعل مستقبلاً، وربنا عزوجل يخبر بهذا الفعل عن نفسه. وقرأ باقي القراء بالفعل الماضي المبني للمجهول ((أُخْفِيَ لهم)). يلاحظ البلاغيون أن الفعل المضارع ينطوي على حياة ورونق. فهو من ناحية يُشْعِر بالحركة المتجددة من صنوف النعيم المخبوء. ففي كل يوم من أيام القيامة يكشف الله عزوجل عن خفاء، وما يكشفه اليوم غيرُ ما يكشفه غداً. وتبقى النفس المؤمنة تطمع في المزيد؛ لتُرْوِيَ غليلها، بما يخفيه لها ربُّها عزوجل، من أَطايبَ ونفائس، فتقَرَّ عينُها بذلك المَخْفيّ المتجدد المستمر في عطائه الجزيل. ومن ناحية ثانية يحقق الفعل المضارع ((أُخفيْ)) انسجاماً مع الفعل المضارع الذي قبله، المتصل به، وذلك لأن قراءة حمزة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ}فيكون ثمة توافق بين المضارع الأول ((ينفقون)) والمضارع الثاني ((أُخْفِي)) كما يكون ثمة جزاء مستمر متجدد في نسيج المضارع، ذي الفعل الربَّاني ((أُخْفِيْ)) في مقابل المضارع ذي الفعل البشري ((ينفقون)). ومن ناحية ثالثة: يقوي إخبار الله تعالى عن نفسه، أن قبله إخباراً عنه سبحانه في قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَِمْلَأَنَّ}[4] وفي قوله: ((إِنَّا نَسِينَاكُمْ)) وفي قوله: ((بِآيَاتِنَا)) فكلُّ هذا إخبارٌ من الله عن نفسه، فجرى ما بعده عليه.

* * *

وقرأ نافع {وَأَلْقُوهُ فِي غياباتِ الْجُبِّ}[5] بالألف جمع غيابة، وقرأ الباقون ((غيابة)) بالإفراد، والسياق القرآني حسب القراءة بالجمع يشير إلى أن البئر لها غَيابات متعددة، لأن لكل جزء منها غَيابةً، والمراد ظلمات البئر ونواحيها المتعددة فكان الجمع لمراعاة ذلك. إخوة يوسف في مرحلة الوصول إلى البئر في رحلة الحسد والبغضاء موتورون، امتلؤوا غيظاً وتِرة، وتفجَّروا حقداً وغضباً، وهم الآن قد تَمكَّنوا من أخيهم، والسبيلُ مُيَسَّر إلى إرواء ما يعتمل في القلوب والصدور، فكان قرارهم بعد ذلك بإلقائه في هذه الغيابات السحيقة. أجل إنها غيابات؛ لأنها أحقاد تراكمية مجتمعة، وجَمْعُ الغَيابة في هذا السياق يناسب الأشكال السوداء، من الحالة النفسية، التي تتمَطى وتتثاءب فيهم، لقد تصوروها غَياباتٍ امتداداً للغَيابات التي تجثم في ذاكرتهم، من الحسد المتجدد، والغضب الدائم. فبالله عليك يا من تُمْسك بيد يوسف لا تكتفي برميه في البئر، وإنما تود لو ترميه في غياباتها، في أعماقها، في ظلماتها المتعددة، فلعلَّ في هذا شفاءً لما في الصدور، وبَلْسماً لما في القلوب، وبذلك لن تراه عيوننا فيما نستقبل. وهكذا توافق التعبير اللفظي مع الخلجات النفسية المتصاعدة، في هذا الجمع الغنيّ الثر. ثم إن كل ما غاب عن النظر من الجب يُعَدُّ غَيابة، وذلك أشياء كثيرة.

وقرأ أبو عمرو: {وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلُنا بادئَ الرأي} [6] منْ بَدَأت بكذا، ومعناها: أوَّلَ الرأي. وقرأ غير أبي عمرو ((باديَ)) من غير همزٍ، من بدا يبدو، أي: ظهر. والمعنى على قراءة أبي عمرو: أن قوم نوح قالوا له: ما نراك اتبعك إلا أراذلُنا في بادئ رأيهم، من غير أن يتأمَّلوا أمرك أو يتدبَّروه؛ لأنهم إنْ فكَّروا في دينك تردَّدوا في اتباعك. والمعنى على قراءة الجماعة: اتبعوك في ما ظهر لهم من آرائهم. وفي ضوء قراءة أبي عمرو ينقل لنا القرآن الكريم موقف قوم نوح على طريقته في التصوير الفني الدقيق. فهم قوم عمَّهم الغيظ، وشحنَتْهم البغضاء، فكانوا يختلقون الأكاذيب والإشاعات على هذا النبي الكريم؛ ليقللوا من شأن دعوته، ويزهِّدوا الناس فيها. فمَنْ أولئك الذين اتبعوه؟ إنهم أولاً أراذل القوم وسفلتهم، وهم ثانياً اختاروا طريقتك يا نوح، من غير أن يتقدموا نحو أغوار الفكر والتأمل أشواطاً بعيدة، فرأيُهم إنْ كان فطيراً فلا عجب يا نوح؛ لأنهم لم يجربوك ولم يَخْبَرُوك، وكثيراً ما يتهم الإنسان بصره الحسي، عندما يفتحه بعد رقاد طويل؛ فإذا ما تأمَّل المشهد ووعى عرف الحقيقة.

وكثيراً ما يندم المرء على قرار اتخذه ولكنه يعترف أنه قرار مبني على بادئ الرأي. ولقد علقَتْ أفكارهم بدعوتك من الوهلة الأولى فحسب، من غير سابق تجربة، وأساسِ فهم ورويَّة. ومن المعلوم أن القراراتِ التي يتخذَها الرجل من غير نظرة كلية شاملة قراراتٌ سريعة فطيرة. وعندي أن ثمة مذاقاً في هذه القراءة يختلف عن مذاق القراءة الثانية؛ لأن قراءة غير أبي عمرو معناها اتبعوك في ظاهر رأيهم. وفرقٌ بين الإنسان عندما يعطي قراءة بعدما شهده من ظاهر الأمور التي يتعامل معها، وبين القرار السريع الخفيف. فالحكم المبني على الظاهر قد يستدعي التأمُّلَ في هذا الأمر الظاهر، كما يستدعي تقليب وجهات النظر والتشاور مع الآخرين، وهذا لا يتوافر في القرار المبني على بادئ الرأي، وسياقُ الآية سياق ذم وحقد وبغضاء وهذا الجانب تكشفه قراءة أبي عمرو التي تستوعب هذه الانفعالات النفسية، وهي تتكامل مع القراءة الأخرى التي تكشف جانباً آخر من انفعالاتهم النفسية.

وصور التلاؤم الصوتي والتناسب اللفظي في القراءات القرآنية كثيرة. ومن المعلوم أن هذه الألوان مما ترتاح إليه النفس العالمة بأسرار الفن التعبيري، ومفاتيح الجمال، التي تشارك في رونق الاداء وطلاوته، وذلك لأنها تعنى بتنظيم الألفاظ والجمل والنظم على نحوٍ هندسي، يحقق المزاوجة، ويراعي التساوق، فتتلو الآية الكريمة وأنت تحس بأن الكلمة كالطائر الجميل، الذي يعرف أين يحلق؟ ومتى؟ وأين يستقر؟ على نحو معجب رائق.

ومن أمثلة ذلك قراءة حمزة والكسائي وابن عامر:{إنِ الحكُم إلا الله يقضي الحق وهو خير الفاصلين }[7]. وقرأ الباقون ((يقصُّ الحق)) و((يقضي)) مِنْ قضى يقضي إذا حَكَمَ وفَصَلَ، لمراعاة قوله ((وهو خير الفاصلين)) لأنَّ الفصل عادة يكون في ميدان القضاء، واتخاذ الأحكام، وبهذا يكون ثمة تناسق بين صدر الآية وآخرها؛ حيث إنها بدأت بقضاء الحقوق المشروعة من قبل الله عزوجل، وانتهت بالثناء على خير قاضٍ في ميدان القضاء، فليس الحكم الحق المَقْضِيّ إلا لله، وهو خير مَنْ يفصل في الحقوق. فيكون بين أيدينا لفظتان متساوقتان: ((يقضي))، و((الفاصلين))، وذلك في سياق الحكم الذي بدأت به الآية، وبذلك تكون الألفاظ منتقاة تسير على منوال واحد. ومن أمثلة الألفاظ المتناسقة بناء وصياغة في القراءات المتواترة قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي عمرو {فالقُ الإصباح وجاعلُ الليل سكناً}، وقرأ الباقون {وجَعَلَ الليلَ سكناً }"[8].

فقراءة نافع ومَن معه من أئمة القراءة ((وجاعلُ الليل)) مبنية على قوله في صدر الآية {فالق الإصباح} فأجرى ((جاعلُ الليل)) على لفظ ما تقدَّمه، إذ أتى في سياقه، فالله عزوجل خالقٌ فجاعلٌ، فهذا تناسق في البناء والصياغة يوحي بالهندسة اللفظية المنظمة، ولا سيما أنَّ مجالَ القدرة والإبداع مجالٌ واحد، وهو المجال الكوني في الأفلاك العلوية. قال الإمام مكي بن أبي طالب[9] ((ويقوي ذلك أن حكم الأسماء أن تُعْطف عليها أسماء مثلها، فكان عطف فاعِل على فاعلٍ)) ومرةً أخرى أذكِّر بنهج هذا البحث في عدم تفضيل قراءة على قراءة بحيث يتعدَّى على قَدْر قراءةٍ متواترة، ولكنها محاولة في فَهْم أسرار كل قراءة على حِدة.

ومن الأمثلة اللطيفة قراءة ابن كثير وأبي عمرو: {إنَّ الذين اتَّقَوْا إذا مَسَّهُم طَيْفٌ من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مُبْصرون}[10]. وقرأ الآخرون ((طائف))، وحجة من قرأ طَيْفٌ قولُه تعالى قبل هذه الألفاظ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} ولم يقل ((نازغ))، فالميدان الذي نحن فيه إصابةُ الإنسان بخلل عَقَدي أو حسي، والأسلوب القرآني الشائع أسلوبُ وزنِ ((فَعْل)) نحو ((نَزْغ))، أو أسلوب ((فُعْل)) نحو: {وإذا مَسَّكم الضرُّ} ولم يقل الضار. وفي لغة العرب: ((أصابته نظرةٌ)) ولا يقال: ناظرة. وقوله ((طَيْف)) في القراءة يحتمل أن يكون مصدر طاف يطيف طيفاً، ويحتمل أن يكون اسماً مثل الطائف. وهكذا يتحقق في هذه القراءة التناسق بين الآيتين في مجال الموضوع الواحد: ينزغَنَّك نَزْغٌ ومَسَّهم طَيْفٌ، وهذا التناسق البديع له طاقة فنية، في أي عمل يكون تَوَخّي الإجادةِ والإبداع فيه واضحاً.

ومن أمثلة تحقيق التناسق مع إصابة غرض معنوي آخر قراءةُ أبي عمرو {يوم نَنْفُخُ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زُرْقا}[11] وقراءة غيره ((يُنْفَخُ))، ففي قراءة أبي عمرو أخبر الله عزوجل عن نفسه على أن يكون آمراً بذلك النفخ، كما يقول السلطان: نحن نكتب إلى فلان، ومعناه نأمر أحد أعواننا بالكتابة، لا أنه يتولَّى الكتابة بنفسه. وقد أجمع القراء على لفظ الجمع في قوله ((ونحشر)) فحققت قراءةُ أبي عمرو الاتساقَ بين ننفخ ونحشر فيكون الكلام على منظومةٍ واحدة. أما الغرض المعنوي الذي يتحقق في قراءة ((ننفخُ)) فهو المهابة والجلالة، حيث أسند ربنا عزوجل الفعل إلى نفسه؛ لتحقيق هذه الرهبة المقصودة، حيث يُشْعر الفعل ((ننفخ)) بأن الله يتولى مسألة الإشعار ببَدء الوقت المعلوم. فيا ويلَ المجرمين الزرق، الذين ينتظرون مصيرهم المحتوم.

والأمثلة كثيرة متعددة.

وننتقل الآن إلى جانب آخر من الملامح البلاغية المعبرة في القراءات القرآنية، وهو اشتمال إحدى هذه القراءات على بُعْدٍ معنوي هادف. وإذا تلقى القلب البصير المنظومة البيانية التي تشتمل على أكثر من غرض ازداد إعجابه بما يتلقى.

قرأ ابن عامر: {أأذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذابَ الهُون}[12] فالفعل بهمزتين: أأَذهبتم، الأولى همزة الاستفهام التوبيخي، والثانية همزة الفعل المسماة بهمزة القطع، والمعنى: أأذهبتم طيباتكم، وتلتمسون الفَرَجَ، فأنى لكم هذا؟ وقرأ الباقون ((أذهبتم)) على الخبر. إن الجزاء الحق في هذا الوقت العصيب ذو ألوان، منه عذاب حي، حيث تشوَى أجسامهم بنار الله الموقدة، ومنه عذاب معنوي، متمثِّل في هذه اللذعات والقوارص التوبيخية، التي يحملها بين طياته هذا الاستفهام الموجع: أأذهبتم طيباتكم، ويُعْرَضُ هذا الاستفهام التوبيخي بصفة أسلوب الخطاب المباشر، فتكون هذه القراءة قد جمعت لهم بين العذابين: الحسي والمعنوي، فيتضاعف العذاب والألم وتتسع دائرتهما.

ومن قبيل أن تحمل القراءة القرآنية بني طياتها بُعْداً آخر ومنحى ثانياً قراءة حمزة: {وجَعَلنا قلوبَهم قَسِيِّة}[13] وقرأ الآخرون ((قاسية)). و((قَسِيَّة)) على وزن فعيلة، وهي صيغة مبالغة، فمثلاً لفظة ((عليم)) تحمل شحنة أكثر مما تحمله عالم، وكذلك ((قَسِيّ)) تحمل أكثر من قاسٍ. فقراءة حمزة تشتمل على ما في قراءة الجمهور من صفة القسوة، وإذا قسا القلب فإن بشاشة الإيمان تخبو. وبما أن الضمير ((نا)) في ((جعلنا)) يعود على رب العزة والجلال فإنه سبحانه يقول: ((وجَعَلْنا)) وهو يرى من بعض صنوف عباده تصرفاً لا يُرضيه، فيقدر لهم من أسباب العقاب ما يستحقونه، وقسوةُ القلب ضرب من هذا العقاب، الذي انتهى بهم إلى الويل. وهذا السياق يناسب صيغ المبالغة، التي عدَّد الصرفيون منها فعيل. فقلوبهم جعلها الله قَسِيَّة بسبب طغيانهم، فهي أكثر من قاسية.

وثمة فَهْمٌ آخر لهذه القراءة، يذكره الإمام أبو زنجلة في كتابه ((الحجة))[14] وهو أن معنى القسيَّة: هي التي ليست بخالصةِ الإيمان، أي قد خالطها كفر، فهي فاسدة، ولهذا قيل للدراهم التي خالطها غش: قَسِيَّة.

وقد تأتي القراءة القرآنية معتمدة على لفظ معين، يفيد تعداد المسائل التي نزلت الآية لتعبر عن مدلولها ووقائعها. فقد قرأ حمزة والكسائي {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كثير ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}[15]، ما السر في لفظة ((كثير)) في هذه القراءة من قوله: إثم كثير؟ أود الآن أن استذكر قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } [16]. فهذه الآية تعدد ضروباً من الإثم الذي سبَّبه الخمر والميسرُ هي: الإيقاع في العداوة والبغضاء، والصدُّ عن ذكر الله، والصدُّ عن الصلاة، فهي إذاً أشياء كثيرة متعددة، ومن هنا جاء الوصف: إثم كثير، والإثم هنا ويُراد به الآثام الكثيرة، فهو واحد في اللفظ ومعناه الجمع، ويدل على ذلك قوله تعالى: {ومنافعُ للناس}، في مقابل إثم كثير، ومن هنا حَسُنَ أن يوصف الإثم بالكثير في قراءة حمزة والكسائي. أمَّا لماذا أجمعوا على قراءة {وإثمهُما أكبرُ من نَفْعِهما} بالباء؟ فالجواب أن الأول في قوله ((إثم كثير)) بمعنى الآثام. وأمَّا الثاني في قوله {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فلفظه ومعناه بالإفراد، يدلُّ على ذلك أنه أتى بالنفع بعده موحداً فقال: أكبر من نفعهما، في حين أتى به قبلاً مجموعاً فقال: {ومنافعُ للناس}ولا عجب من هذه المنظومة الدقيقة المنتقاة؛ فهي من لدن حكيم بصير.

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَْيْمَانَ}[17] أي: أوجبتم. فما السرُّ وراء تخفيف الفعل ((عَقَدْتم))، بينما هو في القراءة المتواترة الثانية ((عَقَّدْتم)) بالتشديد، وذلك لأن الكفارة تَلْزَم مَنْ يحنث إذا عقد يميناً بالحَلْف مرة واحدة، كما تلزم من يحلف مرات كثيرة. فعدد مرات الحَلْف هنا لا اعتبار له في الكفَّارة، وباب فعَّل يراد به في الاستعمال الشائع، ترديدُ الفعل مرة بعد مرة، وتكثير مباشرته. فإذا قال القائل: ((عَقَّدْتُ)) سبق إلى ذهن السامع أن الكفَّارة تجب عليه لأنه كرَّر الحَلْفَ، وهذا خلافُ ما عليه الفقهاء. ومن هنا فإن التخفيف في الآية منبه على الحكم الفقهي الذي لا يشترط تكرار الحَلف وترديده، فهذه الكفارة المبنية على الحلف واجبةٌ، سواءً أكررت في يمينك أم لم تكرر، بخلاف مسألة الطلاق مثلاً؛ حيث إن عدد مرات الطلاق واردة في الاعتبار.

وفي أداء التخفيف والتشديد في الأفعال والمشتقات من عالَم القراءات البياني حَكمه وأسرار كثيرة. من ذلك قراءة ابن عامر {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ}[18] فصيغة فَعَّل هنا تفيد التكرار مرة بعد مرة ولذلك جاء بعده قوله ((بركاتٍ من السماء)) ولم يقل بركة؛ وذلك لأن صيغة ((فَعَّل)) الاستعمال العربي البليغ، تعطي غير ما تعطيه صيغة ((فَعَل)) من الكثرة والتكرار والتعداد.

ومن ذلك قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [19] وذلك لأنَّ هذا فعل يتردد ويتكرر، ففي كل يوم وليلة تغشية جديدة، فهي مكررة لمجيئها ليلة بعد ليلة. ويتضح هذا جلياً قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}[20] بالتشديد؛ وذلك لأن التشديد إنما وقع لتكرر الفعل. فما الفعل المكرر حتى جاء التشديد للتكثير في ((مُوهِّن)).

إنه أولاً قد ثبَّت أقدام المؤمنين بالغيث الغزير، وهو ثانياً قد ربط على قلوبهم وهو ثالثاً قد قلَّل من عدد جيش المسلمين في أعين الكافرين عند القتال، فذلك من الله عزوجل شيءٌ بعد شيء، وحال بعد حال، وفي وقت بعد وقت، فجاء تشديد الفعل لتردُّد هذه العوامل، فكأن الله عزوجل قد أوقع الوهن بكيد الكافرين مرة بعد مرة، ولهذه العلل مجتمعةً قال ((مُوهِّنٌ)).

وفي سياق الحكمة من التشديد والتخفيف في الحروف قراءة الحرميين وأبو عمرو وابن عامر: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}[21] كما ورد في الآية الثانية {مفتحت لهم الأبواب}[22] قال الإمام اليزيدي[23] ((كلُّ ما فُتح مرة بعد مرة فهو التفتيح)) والتفتيح تفعيل مصدر فعَّل فتَّح. وهذا التفتيح الذي يقوم به الملائكة الموكَّلون بالأبواب، مرةً بعد مرة وحيناً بعد حين، يناسب جو البهجة والسرور العميق، الذي يهز قلوب المؤمنين ويناسب درجات ثوابهم الموعود، فلكل طائفة منهم باب محدد، يفتح في وقت معين. والمؤمن الذي يشعر أن بابه الخاصَّ به، سيُفتح في وقت معين، له ولطائفته فحسب، سوف يزداد شعوره بالغبطة والتكريم من الباري عزوجل، فيكون هذا التكريم لوناً من ألوان البهجة المعنوية. ناهيك عمَّا أعدَّ الله لضيوفه في داخل هذه الأبواب.

ويبقى أن نشير إلى أن القراءة القرآنية، قد تراعي من خلال لفظها المنتقى، ما سيق قبل هذا اللفظ من معطيات ومقدمات، تدل على آيات الله في خلقه، وإبداعه، فيكون هذا اللفظ المعين مبنياً على سبب سابق. فقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {وانظُرْ إلى العظام كيف نُنْشِرُها}[24] والنشر هنا الإحياء، لأنه قال قبل ذلك: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فالمادة المعروضة المتقدمة، عبارةٌ عن عظام قدَّر الله لها الموت ثم الحياة، والقائل يريد أن يطمئنَّ على مسألةِ إحياء الموتى، فقيل له: انظر كيف نُنْشِرُ العظام، أي نُحْييها. تقول العرب: أنشر الله الموتى. وأما القراءة الثانية ((نُنْشِزُها)) بالزاي، فمعناها كيف نرفع عظام الميت البالية إلى مواضعها، وكيف نركب بعضها على بعض، وهذا أمر يسبق الإحياء الذي هو موضع السؤال، فكأن كل قراءة تكشف جانباً من الجوانب، ثم تتكامل الجوانب كلها في النهاية، وهكذا نرى أن القراءات لا تتفاضل، وإنما تتكامل.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: {وكأيِّن مِنْ نبيٍّ قُتِل معه ربيون كثير }[25] أي: جموعٌ كثيرة، مقابل قراءةِ الآخرين: ((قاتل معه)). ووجه قراءة نافع ومَنْ معه، أن الآية نزلت في معاتبة مَنْ أدبر عن القتال يوم أحد، حيث قال القائل: قُتِل محمد صلى الله عليه وسلم. فلما تراجعوا كان اعتذارهم أنْ قالوا: سَمِعْنا بقتل محمد، فنزلت الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[26] إلى أن قال: {وكأيِّن مِنْ نبيٍّ قُتِل معه ربيون كثير} أي: جموع كثيرة، فما ضَعُفَ الجمعُ، وما تراجعوا، لكن قاتلوا وصبروا، فكذلك أنتم كان يجب عليكم أن لا تَهِنوا لو قُتل نبيكم، فكيف ولم يُقتل؟ فهذه الآية إذن حديث عما جرى عليه سَيْرُ أمم الأنبياء السابقين ليتأسَّوا بهم.

هذه هي المعطيات السابقة، التي تم سوقها في مجال الحرب والقتل، وأسباب النزول الخاصة بمعركة أحد. وبما أن السياق سياق مدح فإنَّ كلاً من القراءتين تثبت جانباً وتوحي به، ثم تتكامل الجوانب كلها بعد ذلك، حتى يتجلى المدح بأبهى صورة، ومعارك الأنبياء السابقة فيها قتال وصبر وثبات وتحمل، وفيها قتل واستشهاد، ولم يؤثر القتل فيهم ويحملهم على الفرار، فقراءة ((قُتِل)) تثبت جانباً بصريح العبارة، وإن كان مضمناً معناه في القراءة الأخرى، وقراءة ((قاتل)) تثبت جانباً آخر، وبالجانبين معاً، بقتالهم وقتلهم في سبيل الله وبرغم هذا فإنهم لم يهنوا ولم يستكينوا، بهذين الجانبين تكتمل لوحة المدح في أبهى صورها.

وبعدُ فهذا بحر لا ساحل له، بل هذا غيض من فيض وتلك دعوة علمية أسوقُها لأهل العلم والتخصص، لإدلاء الدلاء في هذا الميدان الرحب؛ لتعزيز دراسات الإعجاز، التي تدور حول بلاغة القرآن وأدبه الراقي، في جميع طرق أدائه وقراءاته المتواترة الصحيحة، فيكون في هذه الدراسات دَعْمٌ خصب للجهود السابقة واللاحقة، التي كشفت اللثام عن الجانب البياني والتعبيري، فيما اتفق عليه القراء السبعة. ومن مجموع هذه الدراسات سوف يزداد القلب اطمئناناً، بمصدر هذا الكتاب الخالد، المحفوظ بكل طرق أدائه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[27] ولا ننسى أبداً أهمية ما ينبغي مراعاته من ضوابط، بأن لا يكون منهج البحث تفضيل قراءة على قراءة، بحث يُغَضُّ من شأن جانب على حساب جانب، ومنها أن يكون معيار البحث معتمداً على منطوق اللغة وفهمها. ومن المفيد أن نستأنس بجهود السلف رضوان الله عليهم، في هذه الدراسات.


--------------------------

[1] الحجر (9).
[2] انظر: الدر المصون 1/48.
[3] السجدة (17)، وانظر: السبعة لابن مجاهد 516.
[4] السجدة (13).
[5] يوسف (10). وانظر: السبعة 345.
[6] هود (27). وانظر: السبعة 332.
[7] الأنعام (57) وانظر: السبعة 259.
[8] الأنعام (96). وانظر: السبعة 263.
[9] الكشف 442.
[10] الأعراف (201). وانظر: السبعة 301.
[11] طه (102). وانظر: السبعة 424.
[12] الأحقاف (20). وانظر: السبعة 598.
[13] المائدة (13). وانظر: السبعة 243.
[14] الحج 224.
[15] البقرة (219). وانظر: السبعة 182.
[16] المائدة (91).
[17] المائدة (89). وانظر: السبعة 247.
[18] الأعراف (96). وانظر السبعة 286.
[19] الأعراف (54).
[20] الأنفال (18).
[21] الزمر (71).
[22] ص(50).
[23] الحجة 625. وانظر: السبعة 563.
[24] البقرة (259). وانظر: السبعة 189.
[25] آل عمران (146). السبعة 216.
[26] آل عمران (144).
[27] الآية (17) من القمر.