المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكم القول: "صدق الله العظيم" عند نهاية قول الله.



الجندى
07-16-2005, 09:31 PM
منقول
المصدر (http://www.almanhaj.net/vb/showthread.php?t=423)

بسم الله الرحمن الرحيم

قد لاحظت استخدام بعض الأخوة جملة ((صدق الله العظيم)) عند نهاية قول الله، وهذه الزيادة ليس لها أصل في الشرع.

قال فضيلة الشيخ ابن باز - رحمه الله -:

"اعتياد الناس أن يأتوا بقولهم: (صدق الله العظيم) عند الانتهاء من قراءة القرآن الكريم لا نعلم له أصلاً ولا ينبغي اعتياده، بل هو على القاعدة الشرعية من قبيل البدع إذا اعتقد أحد أنه سنة فينبغي ترك ذلك وأن لا يعتاد ذلك.

وأما الآية {قُلْ صَدَقَ اللّهُ} [آل عمران:95]، فليست في هذا الشأن، وإنما أمره الله أن يبين لهم صدق الله فيما بينه في كتبه العظيمة من التوراة وغيرها، وأنه صادق فيما بين لعباده في التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة.

كما أنه صادق سبحانه فيما بينه لعباده في كتابه العظيم القرآن، ولكن ليس هذا دليلاً على أنه مستحب أن يقول ذلك بعد قراءة القرآن أو بعد قراءة آيات، أو قراءة سورة ، وليس هذا ثابتاً ولا معروفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته رضوان الله عليهم. ولما قرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً} [النساء:41] قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "حسبك" قال ابن مسعود: "فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان" عليه الصلاة والسلام، أي يبكي لما تذكر هذا المقام العظيم يوم القيامة وهو المذكور في الآية العظيمة وهي قوله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ} أي يا محمد {هَـؤُلاء شَهِيداً} أي على أمته عليه الصلاة والسلام.

المقصود أن زيادة كلمة: (صدق الله العظيم) عند نهاية القراءة ليس لها أصل في الشرع. فالمشروع تركها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، أما إذا فعلها الإنسان بعض الأحيان من غير قصد فلا يضر، فإن الله صادق في كل شيء سبحانه وتعالى. لكن اعتياد ذلك بعد كل قراءة كما يفعله كثير من الناس اليوم ليس له أصل كما تقدم."

المصدر: كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله . م/9 ص 342.

قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:

اعتاد كثير من الناس إذا انتهى من قراءة القرآن أن يقول {قُلْ صَدَقَ اللّهُ} [آل عمران:95] وهذا ليس بمشروع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولم يكن من عادة الصحابة رضي الله عنهم أن يفعلوه، ولا كان ذلك في عهد التابعين. وإنما حدث في العصور المتأخرة استحسانا من بعض القراء واستنادا إلى قول الله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللّهُ} ولكن هذا الاستحسان مردود لأنه لو كان حسنا ما تركه صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم من سلف هذه الأمة.

وأما قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللّهُ} فليس المراد أن يقولوها إذا انتهى من قراءته ولو كان هذا هو المراد لقال الله: فإذا انتهيت من قراءتك فقل صدق الله كما قال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .

والآية المذكورة التي استند إليها من ابتدع قول: صدق الله عند انتهاء القراءة إنما ذكرها الله تعالى تأكيدا لما أخبر به عن حل الطعام كله لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

ولو كان المراد منها أن تقال عند انتهاء القراءة لكان أولى من يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من يعمل بها، فلما لم يكن ذلك علم أن ليس مراداً.

والخلاصة أن قول: صدق الله العظيم عند انتهاء القارئ من قراءته قول محدث لا ينبغي للمسلم أن يقوله.

وأما اعتقاد المرء أن الله تعالى صادق فيما يقوله فهذا فرض، ومن كذب الله أو شك في صدق ما أخبر به فهو كافر خارج من الملة والعياذ بالله.

ومن قال: صدق الله عند المناسبات مثل أن يقع شئ من الأشياء التي أخبر الله بها فيقول: صدق الله تأكيدا لخبر الله فهذا جائز لورود السنة به فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان خطب فأقبل الحسن والحسين فنزل من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}

المصدر: إزالة الستار عن الجواب المختار، لابن عثيمين ص79-80.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك واتوب إليك.

حازم
07-20-2005, 07:49 PM
بحث : التزام قول (صدق الله العظيم) بعد التلاوة بدعة !!! (الحلقة الأولى )

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضِل الله، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسولُه، (صلى الله عليه وآله وسلم) ...
أما بعدُ ...
فإنَّ أصدق الحديثِ كتابُ اللهِ تعالَى، وأحسنَ الهَدْي هَديُ مُحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها وكُلَّ مُحدثَةٍ بِدْعَة، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالة، وكُلَّ ضلالةٍ في النار ...
فمن الأمور المُحدَثَة التي انتشرت انتشارًا هائلا في هذا العَصر؛ بحيثُ لا تكاد تَجِدُ قارِئًا للقُرآن مُعرِضًا عَنها؛ هي التزامُ قولِ (صدق اللهُ العَظيم) بعد الفراغ مِن تلاوة القرآن الكريم.
فاعْلَم –أخي- أنَّ التزامَ قولِ (صدق اللهُ العَظيم) بعد الفراغ مِن تلاوة القرآن الكريم بِدْعَة، وكل بِدْعَة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النَّار؛ فهي لم تَرِد –فَضلا عَن أن تَثبت- قَطُّ عَن النَّبي (صلى الله عليه وسلم) "قولا أو تَقريرًا" ولا عَن أحَدٍ مِن أصحابِه ولا عَن أحد التَّابِعين، ولا أظُنُّ أنَّها كانت مَعروفةً قَبل مائتي عام، هذا على أقصَى تَقْدير؛ وإلا فغالِبُ ظَنِّي أنَّها لم تَكن مَعروفَةً قبل مائة عام، واللهْ أعْلَم. عمومًا تاريخ تَلَفُّظ النَّاس بها بعد التلاوة يحتاج إلى تَحرير؛ لتعرِفَ صِدق ما أقول!
وعليه؛ فهل غابَتَ هذه الجُملَة عَن العُصور الثلاثة المُفَضَّلة الأولى المَشهود لها بالخَيرية، وعَن العُصور التي تَلَتها بما فيهم عَصر الأئمة الأربعة، وعن القُرون التالية لها حتى عَهدٍ قَريب، حتى عَرَفها أهلُ زمانِنِا، فأتَوا بما لم تأتِ به الأوائِلُ!
وواللهِ لو كان التَّلفُّظ بهذه الجُملَة خيرًا لسبقونا إليه، عليهم رَحمَةُ اللهِ –تَبارَك وتعالى.
وقد أمرَنَا اللهُ –سُبحانَه وتعالى- باتباعِه واتباعِ نَبيِّه (صلى الله عليه وسلم) في غَير آية مِن آياتِ القُرآن الكَريم؛ فقال –تعالى- (مَن يُطِع الرَّسولَ فقد أطاعَ الله) [النِّساء: 80]، وقال (وما آتاكُم الرَّسولُ فَخُذوه وما نهاكُم عَنه فانتَهوا) [الحَشر: 7]، وقال (يا أيُّها الذين آمَنوا لا تُقَدِّموا بَينَ يَدَي اللهِ ورَسولِه) [الحُجُرات: 1]، وقال (وما تَنَازَعتُم في شَيء فَرُدُّوه إلى اللهِ والرَّسول) [النِّساء: 59]، وقال (فلا وَرَبِك لا يؤمِنون حتَّى يُحَكِّموك فيما شَجَرَ بَينَهم ثم لا يَجدِوا في أنفُسِهم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ ويُسَلِّموا تَسليمًا) [النِّساء: 65]، وقال (قُل إن كُنتم تُحِبُّون اللهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُم اللهُ ويَغفِر لَكُم ذُنُوبَكم) [آل عِمران: 31].
وبَيَّن الحَقُّ –عَزَّ وجَل- في كِتابِه أنَّ الدِّين كَمُل بوفاةِ النَّبي (صلى الله عليه وسلم)؛ فقال –تعالى- على لِسان نَبيِّه (صلى الله عليه وسلم): (اليومَ أكمَلتُ لَكمُ دينَكم وأتمَمتُ عَلَيكم نِعمَتي ورَضيتُ لكم الإسلامَ دينًا) [المائدة: 3].
وقال النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم): "مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ مِنه فهو رَدٌ" [متفق عليه]، وفي رواية: "مَن عَمِلَ عَمَلا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌ" [رواه مُسلِم]، وقال: "إيَّاكم ومُحدَثاتُ الأمور؛ فإنَّ كل مُحدَثَة بِدْعَة، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالة" [رواه أحمَد، وهو في صَحيح الجامِع]، وقال: "وكُل ضلالةٍ في النار" [رواه النَّسائي، وهو في صَحيح الجامِع].
فالأصل في العِبادات التَّحريم إلا إذا دَلَّ النَّصُ على خِلاف ذَلِك، بِعَكس العادات؛ فتنَبَّه!
ولو كانَ هذا القَولُ مَشروعًا لَبَيَّنه النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) لأمَّتِه؛ بل ثَبَت عَن النَّبي (صلى الله عليه وسلم) أنَّه قال لعَبد الله بن مَسعود (رَضي الله عَنه): "اقْرأ عَليَّ القُرآن"، فقال: يا رَسولَ الله أقرأ عَليَك وعَلَيك أنزِل؟! قال: "إنِّي أحِبُّ أن أسمَعَه مِن غَيري"، فقرأتُ عليه سُورَة النِّساء. حتَى جِئتُ إلى هذه الآية: (فكيف إذا جِئنا مِن كُلِّ أمَّة بِشَهيدٍ وجِئنَا بِكَ على هؤلاءِ شَهيدًا) [الآية: 41]. قال: "حَسبُك الآن"، فالتَفَتَ إليه فإذا عَيناه تَذرِفان. [مُتفق عَليه]، وفي رواية للبخاري [ح 5050، 4582 - «فتح»] قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): "أمسِك".
ومِن القواعِد الأصولية أنَّه "لا يجوز تأخير البَيان عَن وَقت الحاجَة"؛ فلو كان قول (صَدق اللهُ العَظيم) مَشروعًا لَنَبَّه النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) عَبدَ الله بنَ مسعود –رَضي الله عَنه- عَلَيه ودَلَّه عليه وأمرَه بأن يقولَه؛ فلما لم يُبَيِّن النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) مَشروعية ذلك دَلَّ على أنَّه لا يُشرَع؛ و"تَرك البَيان في وَقت الحاجَة بَيانٌ" –كما تُقَرِّرُ القاعِدَة الأصولية.
بل قال (صلى الله عليه وسلم) بعد الفراغ مِن التلاوة: "حَسبُك الآن"؛ مِمَّا يَدُل دلالةً واضِحَةً أنَّها هذا القولَ لا يَشرُع، بل المَشروع بعد الفراغ مِن التلاوة هو السُّكوت أو الكلام المُباح أو مُباشرة العَمل أو خِلافُه مِمَّا هو مُباحٌ في أصلِه، ولا نَقولُ: كيف نَخلِط بين القُرآن وكلام البَشَر دون فاصِل! نقول: نحن أمِرنا بالاتباع لا الابتداع، ومَصدر الدِّين النَّقل لا العَقل، والدِّينُ لا يؤخَذ بالرأي، و"لو كان الدِّينُ بالرأي لكان أسفل الخُف أولى بالمَسح مِن أعلاه"؛ كما ثَبَتَ عَن (علىُّ بن أبي طالِب) –رَضي الله عَنه- [رواه أبو داود].
بل قد ثَبَت –والحمدُ لله- في السُّنَة القولية ما يَدُل على أنَّ النَّبيَ (صلى الله عليه وسلم) لم يَفصِل بين القرآن الكَريم وكلامِه العادي بفاصِل؛ ففي "خُطبة الحاجَة" كان النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) يقرأ –أحيانًا- ثلاث آيات بعد الشهادَتَين؛ هم على التَّرتيب: الآية 102 مِن سورة "آل عِمران"، الآية 1 مِن سورة "النِّساء"، الآيتَين 70، 71 مِن سورة "الأحزاب"، ثم يقول بَعدَها -دون فاصل-: "أما بعد؛ فإنَّ أصدق الحَديث كِتابُ الله تعالى ..." [رواه مُسلِم والنَّسائي].
ومِن تناقُض الذين يَستَنكِرونَ عَدمَ فصل القُرآن والكلام العادي بِفاصِل (كَقول: صدق الله العَظيم)؛ أنَنَّا نقولُ لهم: أليس قول (صدق الله العظيم) كلام البشر؟!! فكيف تَفصِلون بين القُرآن وكلام البَشَر بكلامٍ البَشَر ؟!!
وأقولُ لهم أيضًا: لماذا اقتصرتُم على قول (صدق اللهُ العَظيم) دون غَيرِها ؟!! يَعني: لماذا لا تقولون –مَثلا- (صدق الرَّحمَنُ الرَّحيم) أو (صَدَقَ المَلِكُ الوهَّاب) ؟!! ولماذا تَقتَصِرون –أصلا- على لفظة "صَدَق" دون غَيرِها ؟!! لِمَ لا تقولون –مَثلا- (الحَقُّ ما قال الله) ؟!!
وإلى مَن لا يَقتَنِعون بقولِ اللهِ (تَبارَك وتعالى) وقولِ رَسولِه (صلى الله عليه وسلم)، ولا يَقتَنِعون إلا بالعَقل –زَعُموا؛ مع أنَّ العَقل السَّليم لا يُنافي الشَّرع الصَّريح ألبَتَة؛ أقول:
مِن المُقَرَّر عِند عُلماء اللغة العَرَبية والبَيان أنَّ الجُملَ نوعان:
1- جُمل خبرية (تقريرية): وهي الجُمَل التي تَحتَمِل التَّصديق والتَّكذيب. كقولك: أحمد مُلتَزِم بهَدي النَّبي (صلى الله عليه وسلم)، أو جاء أحمَد، أو لم يُسافِر أحمد اليوم، أو يَتلو أحمد القرآنَ كلَ يوم. فهذه الجُمَل تَحتَمِل أن يُصَدَّق قائِلُها أو يُكَذَّب، فلو قال لك قائِلٌ: أحمد مُجتَهِد، تَستطيعُ أن تقولَ له: صَدقتَ أو كَذَبت، وهكذا في كل الجُمَل الخَبَريَّة؛ وضابِطُها ما قُلناه وهي كل جملة ليست إنشائية.
2- جُمَل إنشائية: وهي الجُمَل التي لا تَحتَمِل التَّصديق أو التَّكذيب، وقد تكون جملةً طَلَبيَّة (أمر، نَهي) أو جملةً تَدُّل على الطَّلَب؛ كأن تُسبَق باستفهام أو تَمَني أو تَرَجِّي. كقولِك لأخيك: صَلِّ صلاة موَدِّع! أو لا تُقَلِّد المُشركين! أو هل رأيتَ مُحمَّدًا؟! أو لَيتَ المُسلِمين يَعودون إلى دينِهم! أو لَعَل اللهَ يُخرِج مِن أمَّتِنَا مَن يُعيدُ إليها مَجدَها! فهذه الجُمَل السابِقَة لا تَحتَمِل مِن سامِعها أن يُصَدِّقَ قائِلَها أو يُكَذِّبُه؛ فلو قال لك قائِلٌ: صَلِّ، فلا يجوزُ أن تقولَ له: صَدَقتَ أو كَذَبتَ، وهكذا في كل الجُمَل الإنشائية.
إذا تَبَيَّن هذا؛ فالقُرآن الكَريم يَجمَع في سُوَرِه بين الجَملَ الخَبَرية والإنشائية، بل قَد تَجمَع الآية الواحِدَة النَّوعَين مَعًا، وهاكَ أمثِلَةً مِن كل نوع:
فَمِن أمثِلَة الجُمَل الخَبَرية؛ قولُه –تعالى-: (إنَّ اللهَ على كُلِّ شَئ قَديرٌ) [البقرة: 20]، (أولئك على هدي مِن رَبهم وأولئك هم المُفلِحون) [البقرة: 5]، (قَد أفلَح المؤمِنون) [المؤمِنون: 1].
ومِن أمثِلَة الجُمَل الإنشائية؛ قولُه –تعالى-: (واتَّقُوا يومًا لا تَجزي نَفسٌ عَن نَفسٍ شَيئًا) [البقرة: 48]، (ولا تكونوا كالذين نَسُوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهم) [الحشر: 19]، (أليس اللهُ بأحكِم الحاكِمين) [التين: 8].
ومِن أمثِلَة الآيات التي جَمَعت بين الجُملَتَين مَعًا؛ قولُه –تعالى- (ألم تَعلم أنَّ اللهَ له مُلكُ السَّموات والأرض، وما لكم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَليٍّ ولا نَصير) [البقرة: 107].
وقارئ القُرآن لا يخَلو –عِند فَراغِه مِن التلاوة- أن يَقِف على إحدى نَوعَي الجُمَل: إمَّا أن يَقِفَ على جمُلَة خَبَرية أو إنشائية. فهل –باللهِ- إن وَقَف على جُملَةٍ إنشائية يَليقُ به أن يقولَ (صَدَق الله العَظيم)، وهي –كما بَيَّنَّا- لا تَحتَمِلُ التَّصديق أو التَّكذيب؟!! أفيجوزُ هذا العَبَثُ بِكتابِ الله –تبارك وتعالى- ؟!! وإن قال: أقولُها عِند رأس الجُمَل الخَبَرية فَقَط! نقولُ له: كَذَبت ورَبي؛ واقِعُك يُخالِفُ قولَك، ثُم مِن أين لك الدَّليل على التَّفريقِ بين النَّوعَين ؟!! أتَضَعُ ضوابِطًا لبِدْعَة ابتدعتَها ما أنزَلَ اللهُ بِها مِن سُلطان ؟!! (تاللهِ إنَّ هذا لَشئٌ عجاب) [ص: 5].
الجواب عَن الشُّبهات الوارِدَة في هذه المسألة:
الشُبهة الأولى: قد يَستَدِلُ البَعضُ على جوازِها بقولِه –تعالى- (قُل صَدَق الله فاتَّبِعوا مِلَّة إبراهيم حِنيفًا) [آل عِمران: 95]، وقولِه (ومَن أصدَقُ مِن الله حَديثًا) [النِّساء: 87]، وقولِه (ومَن أصدَقُ مِن الله قِيلا) [النِّساء: 122]، فهو استدلال مَردودٌ مِن غَير وَجه:
(1) بُمراجَعَةِ أسباب نُزولِ الآية الأولى؛ يَتَبَيُّن أنَّ مَعنى الآية: "أي ظَهَرَ وثَبَت صِدقَه في أنَّ (كُل الطَّعام كان حِلا لِبَني إسرائيل إلا ما حَرَّم إسرائيلُ على نَفسِه مِن قَبْلِ أن تُنَزَّلَ التَّوراة) [آل عِمران: 93]؛ فلم يَكُن ذلك في التوراة مُحَرَّمًا كما أخَبَر رَبُّنا -تَبارَك وتعالى، وفيه تَعريضٌ بِكذِب اليَّهود الصَّريح"، [راجِع: «تَفسير القُرطبي»: (2/ 1482: 1485)، و«روح المَعاني/ للآلوسي»: (3/ 241: 246)، كِلاهما طـ دار الغَد العربي بمصر].
ومِن القواعِد الأصوليَّة الهامَّة أنَّ "العِبرَة بِعُموم اللفظ لا بِخصوص السَّبَب"؛ ولِذَلك فمَعنى الآية –عُمومًا-: "أي قُل يا مُحَمَّد: صَدَقَ اللهُ فيما أخبَرَ بِه وفيما شَرَعَه في القرآن"، كما في «تَفسير ابن كَثير»: (1/ 382، طـ مُطصفى البابي الحَلبي).
(2) قُل لي –بِرَبِّك- أين في الآية الكَريمة ما يَدُل على أنَّ الله أمر (أو أرشد) نَبيَّه (صلى الله عليه وسلم) أن يلتَزِمَ قولَ هذه الجُملَة بعد الفراغ مِن تلاة القُرآن خاصَّةً؟! فمِنَ أينَ لَكم بهذا التَّقييد ؟!! ولو سَلَّمنَا جَدلا أنَّه –تَبارَك وتعالَى- أمرَه بِذَلِك وَحيًا فلَّمَّا لم يُنقَل إلينا عُلِم –بالضَّرورة- أنَّ هذا الاعتقادَ لا أصلَ له ألبتة!
(3) ألم تسأل نفسَك لماذا لم يَفهَمِ النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم) أو أحدٌ مِن أصحابِه أو تابِعوهم مِن هذه الآية الكَريمة أنَّ المقصودَ التزامُ قولِها بعد كل تلاوةٍ للقُرآن؟!! أم أنَّك أتيتَ بِمَا لم تأتِ به الأوائِل؟!
(4) لو ألزمتَ نفسَك بأنَّ المَقصودَ بالآيةِ الكَريمَةِ التزامَ قولِ هذه الجُملَة بعد الفَراغ مِن التلاوة، فأنا ألزِمُك إلزامًا لا انفكاك له –إن شاء الله تعالى- أن تفهمَ أنَّك أثناءَ قِراءَتِك للقُرآن إذا مَررتَ بقولِه تعالى (قُل هو الله أحَد) [الإخلاص: 1] أن تَقطَعَ القِراءة وتَقول: "هو الله أحد"! وإذا مَررتَ بقولِه تعالى (قل يأ أيُّها الكافِرون) [الكافِرون: 1] أن تَقطَعَ القِراءة وتَقول: "يا أيُّها الكافِرون"، وهكذا في باقي الآيات التي استُفتِحَت بِلفظَة (قُل)، فما رأيُّك؟!!
(5) أمَّا الآيتان الكَريمتان الأخريتان فمعناهما: "لا أحد أصدق مِن الله" [راجع: «تَفسير القُرطبي»: 2/ 1967، 2057].
الشُبهة الثانية: وقد يَستَدِل بَعضُهم بِما [رواه التِّرمذيُ والبَيهَقيُّ] عَن (عَبد الله بن بُريدَة) عَن أبيه –رَضي الله عَنه يقول: رأيتُ النَّبيَ (صلى الله عليه وسلم) يَخطُب، فجاء الحَسَنُ والحُسَين وعليهما قميصان أحمران، يَمشيان ويَعثران، فنزل رسولُ اللهِ (صلى اللهُ عليه وسلم) فحَمَلَهُما فوَضَعَهُما بَينَ يَديه، ثُمَّ قال: "صدق اللهُ (إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتنةٌ) [التَّغابُن: 15]، نَظَرتُ إلى هَذَين الصَّبيين يَمشيان ويَعثران فَلَم أصبِر حتَّى قَطَعْتُ حَديثي وَرَفَعْتُهما"، ثم أخذ في خُطبَتِه. اهـ.
وشاهِد الاستدلال قولُه (صلى الله عليه سلم): "صَدَق الله ...".
وهذا الاستدلالُ فيه نَظَرٌ:
(1) قولُه (صلى الله عليه وسلم): "صَدَق الله" قبل الآية لا بَعدَها! فهو خارِجُ مَحلِّ النِّزاع، ثُمَّ إنَّه (صلى الله عليه وسلم) اقتصر على "صَدَق الله"، والمُخالِفُ لا يَقتَصِرُ عَليها؛ وإن اقتَصَر فهي بِدْعَةٌ أيضًا؛ لِمَا يأتي في (2).
(2) عِند تأمُل سَبَب ذِكرِه (صلى الله عليه وسلم) للآية يَتَّضِحُ أنَّه لا دلالة في الحَديث على ما يَزعُمون؛ فهو (صلى الله عليه وسلم) إنَّما قال ذلك لِِبيان صِدْق خَبَرِ الله –تبارَك وتعالى- بأنَّ الأموالَ والأولادَ فِتنَةٌ، ولا أدَلَّ على ذَلِك مِن أنَّه (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا رأي الحَسَنَ والحُسَين –رَضي الله عَنهما- يَمشيان ويَعثران اشتَغَل قَلبُه بِهما ولَم يَصبِر حتى قَطَع خُطبَتَه ونَزَل مِن على مِنبَرِه وحَمَل الحَسَن والحُسَين –رَضي الله عَنهما- ووَضَعهما بَينَ يَدَيه؛ فالحَديثُ واقِعَةُ عَين لا تَنهَضُ للاستدلال على حُكمٍ عامٍّ تَعُمُّ به البَلوى، فتأمَل.
(3) قد يكونُ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) قد أخَذَ بِعُموم قَولِه تعالى (قُل صَدَقَ الله) [آل عِمران: 95] في واقِعَةٍ مَا، ولو اقتدى مُكَلَّفٌ بالنَّبي (صلى الله عليه وسلم) في أمرٍ كهذا؛ فاستعمَلَ عمومَ آيَّةٍ في مَوقِفٍ خاص؛ فلا حَرَجَ -إن شاء اللهُ تعالى.
ولقد وَقَع هذا مع النَّبي (صلى الله عليه وسلم) في آيَةٍ أخرى؛ فقد ثَبَتَ في [صَحيح مُسلِم] أنَّ النَّبي (صلى الله عليه وسلم) لَمَّا أيقَظَ عَليًّا وأمَرَه وفاطمةَ –رَضي الله عَنهما- بالصلاة مِن الليل، وقال له على -رَضي الله عنه-: "إن أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا"، ولَّى النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يَضرب فَخذَه، ويقول: (وكان الإنسان أكثر شئ جَدلا) [الكهف: 54]. فجعل (صلى الله عليه وسلم) عليًّا –رَضي الله عنه- داخِلا فيها، مع أنَّ سَبَبَ نزولها الكُفار الذين يُجادِلون في القرآن، [انظر: «تفسير القُرطبي»: (5/ 4158، طـ دار الغد العربي بمصر)، «مُذكرة في أصول الفِقه»/ للعلامة (محمد الأمين الشنقيطي) –رَحِمَه الله، ص 235، طـ دار البصيرة بمصر].
الشُبهة الثالثة: وقَد يَستَدِل بَعضُهم على جوازِها بأنَّ الأكثَرون مِن المُسلمين يَلتَزِمون قولَها بعد الفَراغ مِن التلاوة!
وهذه شُبهَة أوهَى مِن بَيتِ العَنكبوت، وتُغني حِكايَتُها عَن رَدِّها، وفسادُها عَن إفسادِها. ومَع ذلك فأقولُ: لقد قال اللهُ –سُبحانَه وتعالى- في كِتابِه العَزيز الذي لا يأتيه الباطِلُ مِن بَين يَديه ولا مِن خَلفِه: (وإن تُطِع أكثَرَ مَن في الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبيلِ الله) [الأنعام: 116]، وقال (ومَا أكثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصتَ بِمؤمِنين) [يوسف: 103]. وتأمَل –بَارَكَ اللهُ فيك- آياتِ القُرآن التي وَرَدَت فيها كَلِمَة الكثرة واشتقاقاتُها تَجِدْها جَميعًا –بلا استثناء- تُقَرِّرُ أنَّ القَليلَ مِن النَّاس هم الذين يَتِّبِعُون الحَقَّ ويُطيعون رَبَّهم، وأنّ الكثرة الباقية لا يؤمِنون بالله ولا يَشكُرونَه ولا يُطيعونَه، فتأمَل! فإذَن عَمَلُ الكَثرة ليس دليلاً على أنَّهم أصابوا الحَقَّ، ومِن الأقوالِ الرائِعَة لـ (الفُضَيل بن عياض) -رَحِمَه الله- قولُه: "لا تَستوحش طُرقَ الهُدَى لِقِلَةِ أهلها، ولا تَغتَر بكثرة السالكين الهالكين"، والله المُستعان!
فائدة (1): وأحِبُّ أن أقولَ للقارئ الكَريم: "البِدعَة تُميتُ السُّنَة؛ فما ظهرت بِدْعَة إلا مُحيت سُنَة"، وبِتَطبيقِ هذا القَول على هذه البِدْعَة نَقول: مِن آثارِ هذه البِدْعَة السَّيئة أنَّها مَحَت سُنَةً حَسَنَةً حَثَنَها عليها النَّبيُ (صلى الله عليه وسلم)؛ حيثُ قال (صلى الله عليه وسلم): "مَن قرأ القُرآن فليسألِ الله به" [حَسن: رواه التِّرمذي]، فيُشرَع للقارئ بعد الفَراغ مِن التِّلاوة أن يتوسَلَ لله بتلاوَتِه؛ فهي تَدخُل في عُموم العَمَل الصالِح الذي يُشرَع التَّوسَّلُ به وسؤالِ الله الحاجات.
ولا يَسَعُنا في الخِتام إلا أن نُرَدِّدَ –دائِمًا- مع القائِل:
وكل خَيرٍ في اتباع مَن سَلَف *** وكل شَر في ابتداع مَن خَلَف
فائدة (2): أنَّه مِمَّن أفتى بِبِدْعيَّة التزام هذه الجُملَة بعد تلاوة القُرآن:
1- اللجنة العلمية الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية برئاسَة العلامة (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) –رَحِمَه الله، فتوى رَقم (4310)، (4/ 118).
2- العلامة (بكر بن عبد الله أبو زيد) –حَفِظَه الله- في رِسالَتِه القَيِّمة «بِدَع القُراء القَديمة والمُعاصِرَة»، ص 22: 23، طـ مؤسسة قُرطبة بمصر.
ومِن نافِلَة القَول: أنَّه –وإن كُنتُ قد انفصَلتُ إلى أنَّ التزام هذا القول بعد التلاوة بِدْعَة- إلا أنِّي أقول: إنَّ قول الله –سُبحانَه وتعالى- حَقٌ وصِدق، وكلامُه أصدَقُ الحَديث، وهو العَظيمُ –سُبحانَه- على الدَّوام، لا في نهاية التلاوة فَحَسبُ. تمامًا مثلما أنكر العُلماء المُحَقِّقون زيادة لفظة "سيدنا" في الأذان والتَّشهد وصيغ الصلاة على النَّبي (صلى الله عليه وسلم)؛ إلا أنَّهم مُقِرُّون بأنَّ النَّبي (صلى الله عليه وسلم) هو سَيدُنا وسَيدُ آبائِنا وأجدادِنا، وله مِنَّا وافِرُ التَّبجيل والتَّقدير والتَّكريم، كيف وقد قال: "أنا سَيِّدُ النَّاس يومَ القيامَة" [مُتفقٌ عَليه]. بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وآله وأصحابِه وسَلَّم تَسليمًا كَثيرًا، آمين.
اللهمَّ ارزُقنا اتباع شَرع نَبيِّك (صلى الله عليه وسلم)، وجَنِّبنَا الابتداع في الدِّين، وآخِر دعوانا أن الحَمدُ لله رَب العالَمين.
سُبحانَك اللهم وبِحَمدِك، أشهد أن لا إلهَ إلا أنتَ، أستَغفِرُك وأتوبُ إليك.

حازم
07-20-2005, 07:52 PM
قول (صدق الله العظيم) بعد التلاوة بدعة ! (الحلقة الثانية)

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضِل الله، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسولُه، (صَلَّىَ الله عليه وآله وَسَلَّم).
أما بَعد ...
فإنَّ أصدق الحديثِ كتابُ اللهِ تعالَى، وأحسنَ الهَدْي هَديُ مُحمدٍ (صَلَّىَ الله عليه وآله وَسَلَّم)، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها وكُلَّ مُحدثَةٍ بِدْعَة، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالة، وكُلَّ ضلالةٍ في النار ...
كُنتُ قد كَتَبتُ بَحثًا في إحدى منتديات "شَبكة الفوائد الإسلامية" –حَفِظَها اللهُ تَعالَى- سَميِّتُه: «التِزام قَول (صَدَق اللهُ العَظيم) بعد التلاوة بِدْعَة !!!»؛ ورَغبَةً مِنِّي في نَشر الخَير بأوسَعِ صُورَةٍ مُمكِنَة، أدرجتُ نُسخَةً مِنه في "المُنتدى العَام" بِشَبَكَةِ "الفَجر" –حَفِظَها اللهُ تَعالَى؛ فلاقَى هذا البَحثُ مِن أحَد الأعضاء رَفضًا لِمَا انفصَلتُ فيه بأنَّ التِزام قَول (صَدَقَ اللهُ العَظيم) بعد الفَراغ مِن تلاوة القُرآن بِدْعَة! ويا لَيْتَ هذا العُضو المَذكور كَانَ يَمِلكُ عَلَىَ رَفضِه أثارَةً مِن عِلم؛ بل هي الشُّبَه والاستشكالات التي يُورِدُها على أنَّها أدِلَةٌ يُستَدَلُ بِها على زَعمِه، وهي في الحَقيقة يُحتاجُ لأن يُستَدَلُ لَها لا بِهَا، فكيف إذا عَلِمتَ –أخي الحَبيب- أنَّها عِند التَّحقيق لا تُخالِفُ ما انفصلتُ إليه؛ بل تَعضدُه وتُقَويه –كما سيظَهر جَليًّا في الجَواب عَنها بِحَول الله وعَونِه وقُوَتِه.
والذي دعاني إلى إدراج نُسخَةٍ مِن جوابِي على هذا العُضو المَذكور في هذا المُنتدَى المُبارَك -إن شاء اللهُ تَعالَى "الفوائد"؛ سَببان:
أولاهما: أنَّ هذه الاستكشالات قد تَرِدُ على خاطِر كَثيرٍ مِن أحبائِنا القُراء.
ثانيهما: أنَّ الجوابَ عَنها يَتَضَمَّنُ أصولا وفوائِدَ نافِعةً –إن شاءَ اللهُ تَعالَى- خاصَّةً فيما يَتَعَلَّقُ بالبِدْعَة وضوابِطِها؛ وهو ما كان حَقُّه ومكانُه بَحثي السابِق؛ ولكن "قَدَرُ اللهِ وما شاء فَعَل".
فائِدَة:
هكذا وَرَد في رواية الإمامُ (مُسلِم) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى-: "قَدَرُ اللهِ وما شَاءَ فَعَلَ" (ح 2664)؛ بِتَحريك القاف والدال (دون تَشديدِها)؛ على أنَّها مَصدَر مِن الفِعل (قَدَّر)، ولَفظُ الجلالة مُضافٌ إليه مَجرور بالكَسرَة الظاهِرَةِ تَحتَ آخِرِه.
بينما في إحدى روايات الإمامَين (ابْنِ ماجَة) و(أحمَد) –رَحِمَهما اللهُ تَعالَى-: "قَدَّر اللهُ وما شاءَ فَعَل" (ح 79، 8573 –على التَّرتيب)؛ بتَشديد الدال المَفتوحَة، ولَفظُ الجلالة فاعِلُ مَرفوع بالضَّمَّة الظاهِرَةِ فوقَ آخِرِه.
وكلا الروايَتَين مَحفوظتان –إن شاءَ اللهُ تَعالَى؛ فبأيِهما تَعبَّد المُكَلَّفُ فلا حَرَج؛ ويُستَحَبُ له أن يَقول هذه تارةً وهذا تارةً أخرَى؛ لأنَّ هذا اختلافُ تَنوُّع لا تَضاد، واللهُ أعْلَم.
--------------------------------
وهذا نَصُّ المُشارَكَةِ الأولى للأخ المَذكور –هَداه الله-:
--------------------------------
"يا سبحان الله !! من قال : صدق الله العظيم. فقد ابتدع بدعة، وهذه البدعة إنما هي ضلالة تدخل قائلهاالنار!! هل الكلام الطيب والثناء على الله يعتبر ضلالا !! ظهر من بيننا قوم اتهموا غيرهم بالابتداع في الدين حتى لو كان أحد يدعو بدعاء من نفسه يمجد فيه الله ويتضرع إليه -لقال له هؤلاء: يا هذا إن دعاءك هذا بدعة لأنه ليس دعاء مؤثورا عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سمع أعرابيا يدعو بدعاء من عند نفسه يقول فيه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان...) فقال عليه الصلاة والسلام :لقد دعا الله باسمه الأعظم. لم يقل له : يا هذا انك ابتدعت دعاء لم آمر به. هل إذا ذكرنا صحابيا وقلنا: رضي الله عنه) هل تعتبر مقولة: رضي الله عنه) بدعة؟ لأن هذه الكلمة لم تكن تقال في عهد الصحابة، ولم نسمع أحدا من الصحابة خاطب صحابيا آخر قائلا له: رضي الله عنك. كان الصحابة إذا سألهم النبي في أمر الدين ولم يعلموه، لم يكن جوابهم فقط: لا نعلم، وإنما كانوا يضيفون إليها : الله ورسوله أعلم، فهل أنكر رسول الله عليهم أن يقولوا : الله ورسوله أعلم!!
إن القول بضلال من قال صدق الله العظيم كمثل ذلك الذي رأى النصارى واليهود يسارعون في مد يد العون والمساعدة لإخوان لنا أصابهم نقص من الثمرات وابتلوا بالجفاف والجوع، فقال: لا تتشبهوا باليهود والنصارى حتى ولو كان في الإحسان.ولا تمدوا يد العون لإخواننا في الصومال والسودان لأن اليهود والنصارى سبقونا إلى ذلك ونحن لا نريد أن نتشبه بهم" اهـ.
--------------------------------
بَعد المُشارَكة الأولَى للأخ المَذكور؛ رَدَّ عَليه أحدُ الإخوة –حَفِظَه الله- بِمَا نَصُّه: "(لقد رَضيَ اللهُ عَن المُؤمنينَ إذ يُبَايعونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلوبِهم فأنزَلَ السَّكينةَ عَليهم وأثَابَهم فَتحًا قَريبًا). ومن هم المؤمنون ؟؟؟؟ هم الصحابه" اهـ. فَرَدَ عَليه الأخ المَذكور بِمَا نَصُّه:
--------------------------------
"هذه الآية لم تنزل في كل الصحابة وإنما نزلت في من بايعوا بيعة الرضوان، والرضى هنا على الفعل وهو البيعة، مثل ما أقول: رضي الله عن أبي عبد العزيز إذ صام أيام رمضان وقام لياليه، فالرضى على الصيام والقيام، وليست الآية إنشائية بأمر، لو كانت إنشائية لجاءت في صيغة الأمر، ولسمعنا المتأخرين من الصحابة يترضون على الأولين في حضورهم أو غيابهم. إذن هي كلمة ابتدعناها وليس في ذلك إشكال ، لسنا ملزمين بها وإنما هي كلمة مستحبة. ولماذا لم تظهر لك إلا آية الرضى؟ فآية: ( قل صدق الله ...) إنشائية، وأمر بالقول.
أما أخانا صاحب النية الصافية فقوله :الأصل في العبادات التحريم، هذا ليس حديث شريف، الأصل في العبادات الالتزام بالأمر، والحلال بين والحرام بين، إذا جاءني سائل مسكين حتى ولو كان يهوديا فإني لن أنهره ولن أنتظر فتوى من أحد أو أبحث عن نص في الكتاب والسنة يجيز لي أن أتصدق على غير المسلمين، فهذه معروفة بالفطرة، والله جعل الصدقة للمساكين على إطلاقهم. كذلك كلمة: صدق الله العظيم إذا قيلت بعد سماع القرآن فهي مستحبة، وإذا سمعت حديث شريف وقلت: صدق رسول الله، فأين البدعة هنا !!
أريد أن أعرف، أي فقه هذا الذي يجمد الفكر ويسمي الثناء والكلام الطيب بدعة !! أي مذهب هذا!! أنا أتبع مدرسة العلم الفقهي وليس العلم النقلي المتجمد" اهـ.
-----------------
وكان هذا نَصُّ رَدِّي عَليه:
-----------------
أخي الكَريم (الحَسَن الهاشمي) ...
اعْلَم –عَلَمَني اللهُ وإيَّاك- أنَّ القولَ على اللهِ بِغَير عِلم مِن أكبَرِ الكبائر؛ يقول الله تعالى (قل إنَّما حَرَّم رَبيَ الفواحِش ما ظَهَر مِنها وما بَطَن والإثمَ والبَغي بِغَير الحَق وأن تُشركوا بالله ما لم يُنَزِّل به سُلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تَعلمون) [الأعراف: 33]؛ فجَعَل اللهُ –تعالى- "القولَ على الله بِلا عِلم" أعظَم مِن الشرك بالله؛ لأنَّه "يَتَضمَّنُ الكَذِبَ على الله ونِسبَتَه إلى ما لا يَليقُ به، وتَغييرَ دينِه وتَبديله، ونفيَ ما أثبَتَه وإثباتَ ما نفاه، وتَحقيقَ ما أبطله وإبطالَ ما حققه، وعداوةَ مَن والاه وموالاةَ مَن عاداه، وحُبَّ مَا أبغضه وبُغضَ ما أحبَّه، ووصفَه بما لا يَليقُ به في ذاتِه وصِفاتِه وأقوالِه وأفعالِه، فليسَ في أجناس المُحَرَّمات أعَظمُ عِند الله مِنه، ولا أشدَّ إثمًا، وهو أصلُ الشِّرك والكُفر، وعليه أسسَت البِدَع والضلالات، فكل بِدعَة مُضِلَة في الدين أساسُها القول على الله بِلا عِلم" اهـ مِن كلام الإمام (ابن القَيم) –رَحِمَه الله- في كِتابِه الماتِع «مَدارِج السالكين» (1/ 397).
فليسَت أحكامُ الدِّين تُعرَفُ بالعَقلِ والرأي؛ فيُستحسَن مِنها ما استحسَنَه العَقل، ويُستقبَحُ ما استقبَحَه العَقل! بل أحكام دينِنِا مَصدَرُها الكِتابُ والسُّنَّة، وجَميع المصادِر التَّشريعية الأخرى (كالإجماع والقياس وغَيرِها) إنَّما تَستَنبِط مِن الكِتاب والسُّنَّة. ألم تَسمَع قَولَ الإمامِ (الشَّافعيِّ) –رَحِمَه الله-: "مَن استحسَن فَقَد شَرع" ؟!
وَوَاللهِ إنَّ نَبذَ أحكامِ الكِتاب والسُّنَّة وفَهمِ عُلمائِنا لِكليهما لَخَطرٌ عَظيمٌ، تُخشَى عواقِبُه على فاعِلِه!
أيصِحُ أن نُقابِلَ نُصوصَ الكِتاب والسُّنَّة وقواعِدَ العُلماء المَبنيَّةَ عَليهما بآرائِنا واستشكالاتِنا وفَهمِنا القاصِر ؟!!
ألم يَكفِك –أخي- أنَّنِّي قد ذَكَرتُ لك أنَّ الحُكم بِبدعيَّة هذا القَول قد أفتَى به العلامةُ (ابنُ بَاز) –رَحِمَه الله- وأعضاءُ اللجنة العلمية الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة، والعلامةُ المُحَقِّقُ (بَكر بن عَبد الله أبو زيد) –حَفِظَه اللهُ- ؟!!
يا أخي الكَريم إن كان هُناك ثَمَّة استشكال عِندَك بخصوص هذه المَسألة فاطرَحه للنِّقاش، ولكن على سَبيل التَّعلُّم لا على سَبيل التَّعقيب على العُلماء. واعْلَم أنَّ تَعقُّبَك هذا ليس تَعقُّبًا عَليَّ؛ إنَّما هو تَعقُّبًا على عُلمائِنا الأفاضِل الذين أفتَوا بِبِدْعيَّة هذا القَول بعد الفَراغِ مِن التلاوة.
يقول العلامَةُ (محمد بن محمد المختار الشنقيطي) –حَفِظَه الله وشفاه ورعاه-: "يَنبَغي لكُلِّ طَالِب عِلمٍ أن يَحفَظَ قَدرَه وأن يَحفَظَ للعُلماءِ حَقَّهم. ولذلك أنَبِّه عَلَى ما شَاعَ وذاعَ بَينَ كَثيرٍ مِن طُلاب العِلم وخاصَّةً في هذه الأزمنة، وإلَى اللهِ المُشتَكَى ...
كَثيرٌ مِن الأمور تحُكى عن أهل العلم ويأتي طالب العلم ويُورِد سؤالَه على سبيل التَّعقيب وعلى سبيل الاجتهاد، ويقول: كيف هذا، قد ورد هذا. إنَّما يقول ذلك على سبيل الاستشكال؛ يقول: أشكل عندي كلام العلماء، أشكل علي، وكيف نُوَفِّقُ بين هذا وبين قول النبي (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم)؟! وأمَّا أن يُورِدَ الشيءَ عَلَى أنَّه نَوع ٌمِنَ التَّعقيب عَلَى العُلماءِ أو نَوعُ مِنَ الأخذِ عَلَىَ كَلامِهم فَهَذَا لا يَنبغي عَلَى طالِب العلم. المُنبَغي عَلَىَ الإنسانِ أن يَعلمَ أنَّ هؤلاء العُلماءِ كانُوا عَلَى دَرَجَةٍ مِنَ الوَرَع وخَوفِ الله –جَلَّ وعَلا- ما يَمنَعُهم عَن أن يَقولوا عَلَىَ اللهِ بِدُون عِلم" اهـ كلامُه –جزاه الله خيرًا- نقلا عَن «شَرح زاد المُستقنِع»، شَريط رَقم (6/ ب).
وأمَّا الجوابُ عَمَّا أورَدتَه مِن الاستكشالات (!)؛ فهاكَ الجواب:
(1) قَولُك: "هل الكلام الطَّيب والثناء على الله يُعتَبَر ضَلالا" اهـ.
قُلتُ: إنَّما الطِّيبُ مِن الكَلام هو ما حَكَمَ بِطيبِه الشَّرعُ، والحَسَنُ ما حَسَنَه الشَّرعُ، وقد يكونُ الكلامُ طَيِّبًا في أصلِه، فإذا وُضِعَ في غَير مَوضِعِه الذي عَيَّنَه وقَيَّدَه به الشَّرعُ؛ صار مُستقبَحًا يَرفُضُه الشَّارِع الحَكيم –جَلَّ وعَلا. وقد يكونُ الكلام مُستقبَحًا في أصلِه، فيَظُنُّه المُكَلَّفُ طَيِّبًا لِجَهلٍ أو تأويلٍ أو غَيرِهما.
والثناءُ على اللهِ إنَّما يكونُ بما أثنَى به رَبُّنَا على نَفسِه أو أثنَى رسولُه (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) عَليه، أما ثناءُنا نَحنُ العَبيدُ يَجِبُ أن يكون مُقَيِّدًا بما أثنى به رَبُّنَا أو رَسولُه على اللهِ –تبارَك وتعالَى. والثناءُ على اللهِ يكونُ بأسمائه وصفاتِه الحُسنَى، ومِن المُقَرَرِ عِند عُلماء أهل السُّنَّة والجَمَاعَة أنَّ "أسماءَ الله تَوقيفيَّةٌ لا مَجالَ للعِقل فيها" و"الأدِلَة التي تُثبَتُ بِهَا أسماءُ اللهِ تعالى وصِفاتُه هي كِتابُ اللهِ –تعالَى- وسُنَةُ رَسولِه (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم)؛ فلا تُثبَتُ أسماءُ الله وصِفاتُه بِغَيرِهما"، (راجِع: «القواعِد المُثلَى في صِفات الله وأسمائِه الحُسنَى»/ للعلامة (محمد بن صالح العُثيمين) –رَحِمَه اللهُ، ص 16، 39، طـ مكتبة السُّنَّة بِمصر).
قالَ رَسولُ اللهِ (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم): "... لا أحصي ثناءً عَليك، أنتَ كما أثنيتَ على نَفسِك" [رواه مُسلِم (ح 486)].
إذا عَلِمتَ هذا –أخي- فالكلامُ الطَّيِّبُ والثَّناءُ على اللهِ لا يكون ضَلالا إذا كان مُعتَبَرًا لدَى الشَّرع، أمَّا إذا حَكَمَ المُكَلَّفُ علَى الكلامِ بأنَّه طَيِّبًا أو أنَّه يتضَمَنُ الثَّناء -مِن وِجْهَة نَظَرِه هو، نَظَرنَا هل اعتبَرَه الشَّرعُ أم لا؟! فإن كان مُعتَبَرًا فهو ليس ضلالا، وإلا فلا !
فلو أنَّ إنسانًا أثنى على اللهِ بِقَولِه: "يا ساتِر، يا سَتَّار، يا مُسَهِّل، يا مُهَندِس الكَون، يا مُعين، يا مَقصود، ..." فهل اعتبَرَ الشَّرعُ هذا الثَّناء أم لا؟! الجوابُ: لا؛ لم يَعتَبِر الشَّرعُ هذا الثَّناء؛ لأنَّ هذه الأسماء ليسَت مِن أسماء الله الحُسنَى التي دَلَّنَا عليها القُرآن أو السُّنَّة! رَغم أنَّ مَعناها طَيِّبٌ وحَسَنٌ -عِند المُكَلَّف! ومَعَ ذَلِك؛ فبَعضُ هذه الأسماء قد دَلَّت نُصوصُ الشَّرع على مَعناه –دونَ لَفظِه؛ فهو –سُبحانَه وتعالَى- يَستُر عَبدَه ويُعينُه ويَقصُدُه عِبادُه لِقضاء حوائِجِهم، لكن أن نتعبَدَه –سُبحانَه- بهذه الألفاظ؛ فهذا هو مَحلُ النَّظَر!
وأقولُ لأخي الكَريم (الحَسَن): ما رأيك في الصلاة والسلام على رَسولِ الله (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) ؟! أليس هو كلامًا حَسَنًا طَيِّبًا مُعتَبَرًا ؟! لكن هل اعتبَرَه الشَّرع في كُلِّ الأحوال والظُروف التي يَمُرُّ بِها المُكَلَّف؟!
فما رأيُّك لو صَلَّىَ أحدُهم على النَّبي (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) في رُكوع الصلاة أو سجودِها؟! بل أقولُ لَك: ما رأيَّك لو عَطسَ أحدُ المُكَلَّفين؛ فقال: "الحَمدُ لله، والصلاةُ والسَّلامُ على رَسولِ الله (صَلَّىَ الله عليه وآلِه وَسَلَّم)" ؟!! أو لم يَقُل: "الحَمدُ لله" وصلى وَسَلَّم فَقَط ؟! أنقولُ لَه: لقد أحسَنتَ ولم تَبتَدِع في الدِّين؛ لأنَّ الصلاةَ والسلامَ علَى رَسُولِ الله (صَلَّىَ الله عليه وآلِه وَسَلَّم) كلامًا طَيِّبًا حَسَنًا ؟!!
بل ثَبَت أنَّ رَجُلا عَطَس فقال: الحَمدُ لله، والسَّلامُ على رَسُولِ الله. فقال (عَبدُ اللهِ بن عُمَر) –رَضيَ اللهُ عَنهما-: وأنا أقولُ: الحَمدُ لله، والسَّلامُ على رَسولِ الله، وليسَ هكذا عَلَّمَنَا رَسولُ اللهِ (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم)! عَلَّمَنَا أن نَقولَ: "الحَمدُ للهِ عَلَىَ كُلِّ حال" [رواه التِّرمذي: (2738)].
"فانظُر كيف أنكَرَ (ابنُ عُمَرَ) –رَضيَ الله عَنهما- وَضعَ الصلاة بجانِب الحَمد؛ بِحُجَّةِ أنَّه (صَلَّىَ اللهُ عليه وَسَلَّم) لم يَصنَع ذلِك، مع تَصريحِه بأنَّه يُصَلي على النَّبي (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم)؛ دَفعًا لِمَا عَسى أن يَرِد على خَاطِر أحَد أنَّه أنكَرَ الصلاة عليه (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) جُملَةً! كما يتوهَمُ ذلك بَعضُ الجَهَلة حينما يَرَون أنصارَ السُّنَّة يُنكِرون هذه البِدْعَة وأمثالَها، فيَرمونَهم بأنَّهم يُنكِرون الصلاةَ عليه، صَلَّىَ اللهُ –تعالَى- عليه وآله وَسَلَّم، هداهُم اللهُ –تعالَى- إلى اتباعِ السُّنَّة" اهـ نَقلا مِن كلام العلامة (الألباني) –رَحِمَه الله- في «سِلسِلَة الأحاديث الضَّعيفة»: (2/ 294، طـ المَكتَب الإسلامي). فتأمَّل هذا الكلامَ المُبارَكَ –إن شاء اللهُ تعالى!
ومِمَّا يَحسُن نَقْلُه هُنا بِخصوص هذا الأثر قَولَ الإمام (ابْن العَرَبي) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى- عِندَ شَرحِه له في «تُحفَة الأحوَذي»: "الأدب مُتابَعَةُ الأمر مِن غَير زيادَةٍ ونُقصان مِن تِلقاء النَّفس إلا بِقياسٍ جَليّ" اهـ؛ فتأمَل!
فالحاصِلُ أنَّ ما أطلَقَه الشَّارِعُ لا يَجوزُ لنا أن نَلتَزِم تَقييدَه بِبَعضِ المواضِع أو الأزمِنَة أو الهَيئات زاعِمين أنَّنَا نَتَعبَّدُ الله بِه!
ومِثالا عَلى ذَلِك: رَفع اليَّدَين في الدُّعاء؛ فقد ثَبَت بالتواتُّر المَعنَوي أنَّ النَّبيَّ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) كان يَرفَع يَدَيه في الدُّعاء، وهذا نَصٌّ عامٌ؛ ومَع ذَلِك "لَمَّا فَعَلَه بَعضُهم في مَوطِن لم يَفعلْه رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليه وعلى آلِه وَسَلَّم) فيه؛ أنَكَر صاحِبُ رَسولِ الله (صَلَّى اللهُ عَليه وعلى آلِِه وَسَلَّم) عَليه: فَعن (عِمارَة بن رؤيبة) –رَضيَ اللهُ عَنه- أنَّه رأى (بِشر بن مَروان) على المِنبَر رافِعًا يَدَيه، فقال: "قَبَّح اللهُ هاتَين اليَدَين؛ لَقَد رأيتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى الله عَليه وَسَلَّم) ما يَزيدُ عن أن يَقول بيَدِه هكذا؛ وأشار بإصبُعِه السَّبابَة" [رواه مُسلِم: (874)]" [بِتَصَرُّفٍ مِن كِتاب «الانتصار للحَقِّ وأهلِ العِلم الكِبَار»/ للشيخ (أحمد بن إبراهيم بن أبي العينين) –أثابَه اللهُ تَعالَى، ص 35: 36].
فانظُر –أخي- إنكار الصَّحابَة –رَضيَ اللهُ عَنهم- على عِبادَةٍ لها أصلٌ عام فَعَلَه رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) في مواطِن ولم يَفعلْه في أخرَى، فكيف بشيء لم يَفعلْه رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) قَطُّ في حياتِه "كَقول (صَدَقَ اللهُ العَظيم) بعد التلاوة" ؟!! لا شكَ أنَّ الإنكارَ مِنهم –رَضيَ الله عَنهم- كان سَيكون أشَدَّ وأنكَى!
ولا يَخفَى عَليكم قِصَة (أبي موسى الأشعَري) –رَضي اللهُ عَنه- عِندما رأى قومًا حِلَقًا جُلوسًا يَنتَظِرون الصَّلاة، في كُلِّ حَلَقَةٍ رَجُل، وفي أيديهم حَصًى، فيقول: كَبَّروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هَلِّلوا مائة، فيُهَلِّلون مائة، ويقول: سَبِّحُوا مائة، فيُسَبِّحون مائة. فأخبَرَ (عَبْدَ اللهِ بن مَسعود) –رَضيَ اللهُ عَنه- بِذَلِك؛ فأنكَرَ عليهم ذَلِك إنكارًا شَديدًا، وقال لَهم: "عُدوا سيئاتِكم، فأنا ضامِنٌ أن لا يَضيع مِن حسناتِكم شئٌ، وَيْحَكُم يا أمَّة مُحمَّد ما أسرَع هَلَكَتَكُم، هؤلاء صحابَة نَبيِّكم (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) مُتوافِرون، وهذه ثيابُه لم تَبْلَ وآنيَتُه لم تُكسَر، والذي نَفسي بيَدِه؛ إنَّكم لَعَلى مِلَّةٍ أهدَى مِن مِلَّة مُحَمَّدٍ أوْ مُفتَتِحُو بابِ ضَلالة؟!".
قالوا: واللهِ يا أبا عَبْدَ الرَّحمَن؛ ما أردنَا إلا الخَير! قال: وكَم مِن مُريدٍ للخَير لن يُصيبَه! إنَّ رَسولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) حَدَّثنَا أن قَومًا يَقْرءون القُرآن لا يُجاوِز تَراقِيَهُم؛ وايمُ اللهِ ما أدري لَعَلَّ أكثرَهم مِنكم! ثم تولَّى عَنهم.
فقال (عمَرو بن سَلَّمة) –وهو أحدُ الرواة-: رأينَا عامَّةَ أولئِكَ الحِلَقِ يُطاعِنُونَا يَومَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الخَوارِج. [رواه الدارِمي: (204)].
فانظر –رَحِمَك اللهُ- إلى البِدْعَة وأثرِها السييء؛ لا على صاحِبِها فَحَسبُ؛ بل علي عُموم الأمَّةِ الإسلامية!
وتَدَبَر –أخي- كيف أنكَر (عَبْدُ اللهِ بْنِ مَسعودٍ) –رَضيَ اللهُ عَنه- عِبادَةً (التَّكبير والتَّهليل والتَّسبيح) بِكَيفيةٍ لم يَفعلْها رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم)، رَغم أنَّ أصلَ العِبادَةِ مَشروعٌ ! فكيف بما يتَّخِذُه المُكَلَّفُ عِبادَةً ولا أصلَ له في الشَّرع ألبتَة "كَقول (صَدَقَ اللهُ العَظيم) بعد التلاوة" ؟!!
وهذا الأثَرُ السَّابِق –الذي سُقتَه لَك باختِصار- حَوَى فوائِد ودُرَرًا جَمَّة؛ تَجِدُها في كِتاب «البِدْعَة وأثرُها السَّييء على الأمَّة»/ للشيخ (سليم الهلالي) –أثابَه اللهُ تَعالَى.
تنبيه وفائِدَة:
لقد استَهَلَ الأخُ (الحَسن) كلامَه بِقَولِه: "يا سُبحان الله !!"؛ و"سُبحان" ليس مِن أسماءِ اللهُ الحُسنَى؛ ولِذا لا يجوز أن نَتَعبَدَ اللهَ بِهذا الاسم. أمَّا إضافَتُه لِلَفظ الجلالة "الله" بَعد سَبْقِه بياء النِّداء؛ فهذا مِمَّا لا أعْلَمُ له وَجْهًا ولا أصلا في اللُغَة!
فالصَّوابُ: حَذفُ "ياء" النِّداء؛ لِتصير الجُملَةُ هكذا: "سُبحان الله"؛ وهو ذِكرٌ حَسَنٌ مُستَحَبٌ؛ يجوزُ التَّلَفُظُ به بِقَصدِ التَّعَجُّب؛ فقد ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) قال لأسماء –رَضيَ اللهُ عَنها-: "سُبحان اللهِ! تَطَهَّري بِهَا" –يَعني الفُرصَة مِن المِسك- [حَسَن: رواه أبو داود، وهو في «صَحيح أبي داود»/ للعلامة (الألباني) –رَحِمَه الله-: (308)]، واللهُ أعْلَم.

(1) قَولُك: "ظَهَرَ مِن بَينِنَا قَومٌ اتَّهَمُوا غَيرَهُم بالابتداعِ في الدِّين حَتَّى لَو كانَ أحدٌ يَدعُو بِدعُاءٍ مِن نَفسِه يُمَجِّدُ فيه اللهَ ويَتَضَرَّعُ إليه -لقَالَ لَه هؤلاء: يا هَذا إنَّ دُعاءَك هذا بِدْعةٌ؛ لأنَّه ليسَ دُعاءً مؤثورًا [كذا؛ والصَّوابُ: مأثورًا] عَن رَسولِ اللهِ (صَلَّىَ اللهُ عليه وَسَلَّم)" اهـ.
قُلت: كلامُك فيه عِدَّة مُؤاخَذَات:
أولا: قولُك: " ظَهَرَ مِن بَينِنَا قَومٌ ..."؛ لم تُبَيِّن -أخي الكَريم- مَن تَقصِدُ بكلامِك هذا؟! وأخشَى أن يكونَ بُهتانًا ورَميًا بالباطِل؟! وفي نِهايَة مُشارَكَتِك هذه لَمزٌ آخَر، فاسألِ اللهَ العَفو والمَغفِرَة.
ثانيًا: قولُك: "اتَّهَمُوا غَيرَهُم بالابتداعِ في الدِّين حَتَّى لَو كَانَ أحدٌ يَدعُو بِدُعَاءٍ مِن نَفسِه يُمَجِّدُ فيه اللهَ ويَتَضَرَّعُ إليه -لقَالَ لَه هؤلاء: يا هَذا إنَّ دُعاءَك هذا بِدْعةٌ؛ لأنَّه ليسَ دُعاءً مؤثورًا [كذا؛ والصَّوابُ: مأثورًا] عَن رَسولِ اللهِ (صَلَّىَ اللهُ عليه وَسَلَّم)" اهـ.
قُلتُ: هذه الجُملَةُ فيها عِدَّة مؤاخذات:
1- مِن أينَ لكَ أنَّ هؤلاء القَومِ يُبَدِّعون مَن دَعَا بِدُعَاءٍ لم يُؤثَر عَن رَسولِ الله (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) ؟!
2- قولُك: "يُمَجِّدُ فيه اللهَ ويَتَضَرَّعُ إليه"؛ يَجِبُ تَقييدُ ذلك بتَمجيدِ اللهِ بِما مَجَّدَ به نَفسَه أو مَجَّدَه به رَسولُه (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم)، كما بَيَّنَّا في الاستكشال الأول (1).
3- اعْلَم –أخي- أنَّ الدعاء الذي لم يؤثَر عَن رَسولِ الله (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) لا يخَلو مِن حالَتيَن: إمَّا أن يكونَ له أصلٌ شَرعي أو لا يُخالِفُ أصلا شَرعيًّا أو ليس فيه ما يُنافي الشَّرع، أو يكونَ بألفاظٍ لا يُقِرُّها الشَّرْع، كألفاظ الصُّوفية وغيرِهم مِن المُبتدِعَة (كقولِك: الله، هو هو هو، حَي، مَدَد، ...). فالأوَلُ جائِزٌ لا حُرمَةَ فيه، وأمَّا الثاني مُحَرَّمٌ.
والدَّليلُ على جوازِ الأول النُّصوص العامَّة مِن الكِتاب والسُّنَّة التي تَحُثُّ على الدُّعاء وتُبَيِّنُ فَضلَه؛ وهاكَ بعضَها:
قال اللهُ –تَعالَى-: (وَقَالَ رَبُّكُم ادْعوني أستَجِبْ لَكُم) [غافِر: 60]، وقال –تَعالَى-: (ادْعوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وخُفيَّةً إنَّه لا يُحِبُّ المُعتَدين) [الأعراف: 55]، وقال –تَعالَى-: (وإذا سألَك عِبادي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أجيبُ دَعوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ) [البقرة: 186]، وقال –تَعالَى-: (أمَّن يُجيبُ المُضطَّرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوء) [النَّمل: 62]. وقالَ رَسولُ اللهِ (صَلَّىَ اللهُ عليه وآلِه وَسَلَّم): "الدُعاءُ هو العِبادَة" [صحيح: رواه أبو داود والتِّرمذي]، وقال (صَلَّىَ الله عليه وآلِه وَسَلَّم): "ادعُوا اللهَ وأنتُم مُوقِنون بالإجابَةِ واعْلَمُوا أنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ دُعاءً مِن قَلبٍ غَافِلٍ لاهٍ" [حَسَن: رواه التِّرمذيُّ، وحَسَنَه (الألبانيُّ) –رَحِمَه الله- في «صَحيح التِّرمذي»: (2766)].
فهذه النُّصُوصُ وغَيرُها تَدُل دلالةً واضِحَةً عَلَىَ الحَثِّ والتَّرغيب في الدُعاء، دون أن تُلزِّمَ المُكَلَّفَ بِدُعاءٍ مَخصُوصٍ بألفاظٍ مَعلومَة، عِلمًا بأنَّ المُكَلَّف لو دَعَا بأدعيَّةٍ عامَّةٍ مِن القُرآن والسُّنَّة، حَسبَ حَالِ الدُّعاء وُمناسَبَتِه، لَكَانَ أولَى وأفضَل؛ ومِن أقوالِ الإمام (أبي حامِد الغَزالي) –رَحِمَه الله- الرائِعَة في كِتابِه «إحياءِ عُلوم الدِّين»: "الأصلُ ألا يتجاوزَ الدعواتِ المأثورةَ [أى عَن النَّبىِّ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم)]، فإنَّه قَد يَعتَدِى في دُعائِه؛ فيسألُ ما لا تَقتَضيه مَصلَحتُه، فَمَا كُلُّ أحَدٍ يُحسِنُ الدُعَاء" اهـ.
ولا يَفوتُني أن أنَبِّه أنَّ جوازَ الدُّعاء بألفاظٍ لم تَرِد في الكِتاب والسُّنَّة مُقَيِّدٌ بِعَدَمِ التَّعَدِّي في الدُّعاء؛ لقَولِ اللهِ –تَعالَى-: (ادْعوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وخُفيَّةً إنَّه لا يُحِبُّ المُعتَدين) [الأعراف: 55]، وقَولِ رَسولِه (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم): "إنَّه سَيكونُ فى هذه الأمَّةِ قَومٌ يَعتَدُون فى الطُّهور والدُعاء" [رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وأحمد، وسَنَدُه صَحِيحٌ].
وعلى هذا يُحمَلُ قَولُ الإمامِ (القُرطبي) –رَحِمَه الله- وهو يُعَدِّدُ بَعضَ مَظاهِر التَّعَدِّي في الدُّعاء: "ومنها أن يَدعو بِمَا ليسَ في الكِتاب والسُّنَّة؛ فَيَتَخَيَّرُ ألفاظًا مُفَقَّرَة وكَلِماتٍ مُسجَعَة قد وَجَدَها في كَراريس لا أصلَ لها ولا مُعوِّلَ عَليها، فيجْعلُها شِعارَه ويَترُكُ ما دَعَا به رَسولُه [صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم]" اهـ مِن «الجامِع لأحكامِ القُرآن»: (3/ 2742)؛ فهو –رَحِمَه الله- إنَّما يتَكَلَّمُ عَن الدُّعاء الذي لم يُجيزُه الشَّرعُ أصلا، فتنَبَّه!
هذا إذا كان الدُّعاءُ عامًّا غيرَ مُقَيِّدٍ بِمكَانٍ أو زَمَانٍ أو هَيئةٍ؛ فالمُقَيَّدُ لَه أدعيَّةٌ بَيَّنَها النَّبيُّ (صَلَّىَ الله عليه سلم) كُلٌّ بِحَسب حالِه؛ فهُناك أدعيَّةٌ للسجود والتَّشَهُّد وصلاة الجنازَة ودخُول الخلاء والخُروج مِنه ودخول المَنزل والخُروج مِنه ودخول المَسجد والخُروج مِنه وغَيرِها الكَثير والكَثير؛ مِمَّا دَعَى العُلماء لِتَخصيصِه بالتَّصنيف. وهُناك بَعضُ المواطِن جَعَل فيها الرَّسولُ (صَلَّىَ اللهُ عليه وَسَلَّم) سَعَةً للمُكَلَّفِ أن يَختارَ مِنَ الدُعَاءِ ما يَشاءُ؛ لِعموم النُّصوص (كالسُّجود والتَّشَهُّد وبين الأذان والإقامَة وغَيرِها)، مَع كونِ الدُّعاءِ بالمأثورِ –إن وُجِد- هو الأفضَلُ باتفاقِ المُسلمين؛ فخيرُ الهَدي هَديُ مُحَمَّدٍ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وآلِه وَسَلَّم).
أمَّا الذي لا يَستطيعُ حِفظَ هذه الأدعية المُقَيَّدَة فلا يجوزُ له ابتداعُ دُعَاءٍ مَخصوصٍ يلتَزِمُه طُوال حَياتِه؛ فهذا هو الذي نُبَدِّعُ فِعلَه. أمَّا إن كَانَ يَدعو بما يَستطيعُ ويَجتَهِدُ قَدْر طاقَتِه لإصابَةِ السُّنَّة فأتَى بِألفاظٍ ليسَت مأثورَةً عَن النَّبيِّ (صَلَّىَ اللهُ عليه وَسَلَّم)؛ فهذا مأجورٌ إن شاء اللهُ تعالَى؛ لأنَّه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إلا وُسعَهَا) [البقرة: 286].
ثالِثًا: كلامُك –أخي- فيه إيماءٌ بالسُّخريَة والاستِهزاء بالمُخَالِف؛ بل صَرحتَ –أخي- في مُشارَكَتِك الأخيرَة بذلك أبلَغ تَصريح؛ حيث قُلتَ عَن أخينا (صافي النيَّة): "صاحب النيَّة الصافيَة"، وقُلتَ: "أنا أتبع مَدرسَة العِلم الفِقهي وليس العِلم النَّقْلي المُتَجَمِّد" !!! وفي نِهايَة مُشارَكَتِك هذه ما يؤكِدُ ذَلِك!
وهذا ليس مِن خُلُقِ المُسلِم؛ قَالَ اللهُ –تعالَى-: (يا أيُّها الذين آمَنوا لا يَسخَرْ قَومٌ مِن قَومٍ عَسَى أن يَكونُوا خَيرًا مِنهم) [الحُجُرات: 11]، وقَالَ –تَعالَى-: (ما يَلفِظُ مِن قَولٍ إلا لَدَيهِ رَقيبٌ عَتيد) [ق: 18]، وقَالَ رَسولُ اللهِ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وآلِه وَسَلَّم): "بِحَسبِ امْرىءٍ مِن الشَّرِّ أن يَحقِرَ أخَاهُ المُسلِم" [رواه مُسلِم]، وقَال: "مَن كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِر فَليَقُل خَيرًا أو ليَصمُت" [مُتفق عَليه].
هَداني اللهُ وإيَّاك إلى ما يُحِبُّ ويَرضَى.

(3) قَولُك: "مَعَ أنَّ النَّبيَّ (عليه الصلاةُ والسَّلام) سَمِعَ أعْرابيًّا يَدعُو بِدُعاءٍ مِن عِندِ نَفسِه يَقولُ فيه: "اللهمَّ إني أسألُك بأنَّ لكَ الحَمدُ لا إلَه إلا أنتَ الحَنَّانُ المَنَّانُ ..."، فقَالَ (عَليه الصَّلاةُ والسَّلام): "لقد دَعَا اللهَ باسمِه الأعْظَم"؛ لَم يَقُل لَه: يا هذا انك [كذا؛ والصواب: إنَّك؛ فالهَمزَةُ هَمزَةُ قَطْعٍ لا وَصل] ابتدعت دُعَاءً لم آمُر به" اهـ.
قُلتُ: الحَديثُ بهذا اللفظ –دون زيادة "لقد"- صَحَحَ إسنادَه العلامَةُ (الألبانيُّ) –رَحِمَه الله- في تَخريج «مِشكاة المَصابيح»: (ح 2230).
يا أخِي ألا تَعلَم أنَّ تَعريفَ السُّنَّة عند عُلماء الأصُول هي: "ما صَدَر عَن النَّبيِّ (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) غَير القُرآنِ: مِن قَولٍ أو فِعلٍ أو تَقرير" (راجِع: «الوَجيز في أصول الفِقه»/ لعبد الكَريم زِيدان –أثابَه الله، ص 165، طـ دار التَّوزيع والنشر الإسلامية بمصر)؛ "فالرِّسُولُ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) كان يُقِرُّ أصحابَه على أقوالٍ وأفعالٍ يأتونَ بها لم تَكن مَشروعَةٍ مِن قَبلُ [بِسكوتِه وعَدَمِ إنكارِه وبموافَقَتِه وإظهارِ استحسانِه]، وبِتَقريرِه لها تُصبِح شَرعًا يُعبَدُ الله به، [ولو صِرنا نَتَتَبَّعُ الأمثِلَةَ على ذَلِك لَخَرجنا بأمثِلَةٍ وَفيرَة]، أمَّا بَعدَ مَوت الرَّسُولِ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) فإنَّ الشَّرع لم يَعُد بِحاجَةٍ إلى زيادَة؛ لأنَّ اللهَ أتَمَّه وأكمَلَه، ولم يَترُك الرَّسولُ (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) شَيئًا يُقَرِّبُنا إلى الجَنَّةِ إلا وَقد [حَثَّنَا عَليه]، ولم يَدَع أمرًا يُقَرِّبُنا مِن النَّار إلا وَقَد [حَذَرَنا مِنه –بأبي هو وأمِّي، صَلَّىَ الله عَليه وعلى آلِه وَسَلَّم]" (مُستفادٌ –عَدا ما بَين المَعكوفَتَين- مِن كِتاب «البِدْعَة وأثرُها السَّييءُ على الأمَّة"/ لِسليم الهِلالي –أثابَه الله-).
فتأمَّل –أخي- هذا الكلامَ تَخرُجْ مِن إشكالاتٍ عَديدة أوردتَها في مُشاركاتِك، ومِن هُنا أتيت!
ومِثالُنا هذا –الذي أورَدَه الأخ (الحَسن)- يَدخُل في السُّنَّة التَّقريرية التي هي حُجَّةٌ يُعمَلُ بِها بإجماعِ المُسلِمين.
ولو كان هذا الدُّعاءُ مِمَّا لا يُقِرُّه الشَّرعُ لَنهاه النَّبيُّ (صَلَّىَ الله عَليه وَسَلَّم) عَنه.
إذا تأملتَ هذا؛ عَرَفتَ أنَّ قَولَك "يَدعُو بِدُعاءٍ مِن عِند نَفسهِ ... يا هذا انك [كذا؛ والصواب: إنَّك؛ فالهَمزَةُ هَمزَةُ قَطْعٍ لا وَصل] ابتدعت دُعَاءً لم آمُر به" لا مَعنىً له ألبَتَة!
أقولُ هذا مَع أنَّ قولَك: "يَدعُو بِدُعاءٍ مِن عِند نَفسهِ" فيه نَظَرٌ:
فقولُ الأعرابي: "اللهمَّ إنِّي أسألك"؛ قالَه النَّبيُّ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) في مُناسَباتٍ عِدَّة؛ عِند هُبوب الرِّيح والهَمِّ والحُزن والدُّخول على الزَوجِة ليلة الزَّفاف وغَيرِها، أذكُر مِنها قولَه (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم): "اللهمِّ إنِّي أسالُك الهُدى والتُّقَى والعَفافَ والغِنَى" [رواه مُسلِم (72)].
وقولُه: "لك الحَمدُ"؛ أصلُها في القُرآنِ الكَريم في قَولِ اللهِ –تَعالَى-: (وَلَه الحَمدُ في السَّمواتِ والأرضِ وعَشيًّا وَحين تُظهِرون) [الروم: 18]، وفي قَولِه –َتعالَى-: (الحَمدُ لله رَب العالَمين) [الفاتحة: 1]. وكانَ رَسولُ اللهِ (صَلَّىَ الله عليه وَسَلَّم) إذا استَجَدَّ ثَوبًا سَمَّاه باسمِه –عِمامًة أو قَميصًا أو رِدَاءً- يقولُ: "اللهمَّ لَك الحَمدُ أنتَ كَسَوتَنيه ..." [صَحيح: رواه أبو دَاود والتِّرمذي وأحمَد، وهو في «صَحيح أبي داود»/ للعلامة (الألباني) –رَحِمَه اللهُ-: (3393)].
وقولُه: "لا إلَهَ إلا أنت"؛ أصلُها في القُرآنِ الكَريم في قَولِ اللهِ –تَعالَى- على لِسان نَبيِّه (يونُس) –عليه السَّلام-: (لا إلَهَ إلا أنتَ سُبحانَك إنِّي كُنتُ مِن الظالِّمين) [الأنبياء: 87]؛ وهي أشهَر مِن أن يُستَدَلُّ لَهَا؛ فهي كَلِمَةُ التَّوحيد الذي مِن أجلِه أرسِلَت الرُّسُل (صَلَّىَ الله عليهم وَسَلَّم)؛ واستخدامُ الخِطاب هُنا (أنتَ) لِضَرورَةِ الدُّعاء، واللهُ أعْلَم.
وقولُه: "بَديع السَّموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حَي يا قَيوم"؛ أصلُها في القُرآنِ الكَريم في قَولِه –تَعالَى-: (بَديُع السَّمواتِ والأرض) [البقرة: 117]، وقَولِه: (تَبارَك اسمُ رَبِّك ذي الجَلال والإكرام) [الرَّحمَن: 78]، وقَولِه: (اللهُ لا إله إلا هو الحَيُّ القَيومُ) [البقرة: 255].
لم تَبقَ إلا لَفظةً "الحَنَّان المَنَّان"؛ وهي مِن شَرعِنا لإقرار النَّبيِّ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) الأعرابيَ على قَولِها. ويَنبَغي أن يُعلَم أنَّ لفظة "المَنَّان" أصلُها في قَولِه –َتعالَى-: (قالَت لَهُم رُسُلُهم إن نحنُ إلا بَشَرٌ مِثلُكم ولَكِنَّ الله يَمُنَّ على مَن يشاءُ مِن عبادِه) [إبراهيم: 11].
فهذا الحَديثُ –كما تَرَى- لا يَنهَضُ للاستدلال على ما استدللتَ بِهِ، فتأمَل!

(4) قَولُك: "هَل إذا ذَكَرنَا صَحَابيًّا وقُلنَا: "رَضيَ اللهُ عَنه"، هَل تُعتَبَرُ مَقولَة [كذا؛ وهي مِمَّا لا أعْلَمُ له أصلا في اللُغَة! فالصَّواب: "مَقالَة أو قَول"]: "رَضيَ اللهُ عَنه" بِدْعَة؟ لأنَّ هذه الكَلِمَة لَم تَكُن تُقَالُ في عَهد الصَّحابَة، وَلَم نَسمَعْ أحَدًا مِنَ الصَّحَابَة خَاطَبَ صَحابيًّا آخَرَ قائِلا لَه: "رَضيَ اللهُ عَنك" اهـ.
قُلتُ: بلي؛ ألم تَقرأ قَولَ اللهِ –تَعالَى-: (والسَّابِقون الأولون مِن المُهاجِرين والأنصار والذين اتَّبَعوُهم بإحسانٍ رَضيَ اللهُ عَنهم ورَضوا عَنه وأعَدَّ لَهم جناتٍ تَجري تَحتَها الأنهارُ خالِدين فيها أبدًا ذلك الفَوزُ العَظيم) [التوبة: 100] ؟!! ألم تَشمَل هذه الآية جَميعَ الصَّحابَة بل والتابِعين لَهم بإحسانٍ إلى يَومِ القيامَة ؟! وهل الرِّضَا هُنا على فِعلٍ مُعَيِّن أم هو عامٌّ ؟! أظُنُّ أنَّ الجَوابَ على أسئلَتِك السابِقَة أصبَح سَهلا مَيسورًا ؟! فهَل –يا أخي- هذه الكَلِمَة لم تَكُن تُقالُ في عَهْد الصَّحابَة فِعلا كما تَزعُم ؟! إذَن في عَهد مَن أنزِل القُرآنُ الكَريم ؟! ومَن الذي كان يَقرأه ؟!
فأنا أطالِبُك الآن أن تتراجَعَ عَن قَولِك في "مُشارَكَتِك الأخيرة": "إذن هي –أي: رَضي اللهُ عَنهم- كلمة ابتدعناها وليس في ذلك إشكال" !!!
واعْلَم أخي أنَّ هذه الآيةَ إخبارٌ مِن اللهِ -سُبحانَه وتَعالَى- بأنَّه "قَد رَضي عَن السَّابِقين الأوَّلين مِن المُهاجِرينَ والأنصارِ والذينَ اتَّبَعوهم بإحْسَان" [كما في «تَفسير ابن كَثير»: (2/ 383: 384، طـ مُصطَفَى البابي الحَلبي بمصر).
فهذه الآيةُ الكَريمةُ السابِقَة أصلٌ عَظيمٌ في مَشروعية التَّرَضي عَن الصَّحابَة حين يَمُرُّ ذِكرُ أحَدِهم؛ وهذا هو هَديُ سَلَفِنا الصَّالِح –عَليهم رحمَةُ اللهِ جَميعًا؛ قال الإمامُ (النَّوَوي) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى- وهو يَذكُر أدَبَ كاتِب الحَديث: "وكَذَلِك يَقولُ في الصَّحَابي "رَضيَ اللهُ عَنه"، فإن كان صَحَابيًّا ابنَ صحابي قَالَ "رَضيَ اللهُ عَنهما"، وكَذَلِك يَتَرَضَّى ويتَرَحَمُ عَلَىَ سائِر العُلماء والأخيار" [«صَحيح مُسلِم بِشَرح النَّوَوي»: (1/ 39)، وراجِع: «تَذكِرَة السَّامِع والمُتكَلم في أدَب العالِم والمُتعَلِم»/ لِبَدر الدين بن جَمَاعَة –رَحِمَه اللهُ-: (ص 176)، و«مُقَدِّمَة ابن الصَّلاح»: (ص 372)، و«الجَامِع لأخلاقِ الرَّاوي وآدَابِ السَّامِع»/ للإمام (الخَطيب البَغدادي) –رَحِمَه اللهُ-: (2/ 141)] (1).
وقال الإمامُ (ابنُ كَثيرٍ) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى-: "وأمَّا أهلُ السُّنَّة فإنَّهم يَتَرَضَّونَ عَمَّنَ رَضيَ اللهُ عَنه وَيَسُبُّونَ مَن سَبَّه اللهُ ورَسولُه، وَيُوالُون مَن يُوالي اللهَ ويُعادُون مَن يُعادِي اللهَ، وَهُم مُتَّبِعُونَ لا مُبْتَدِعون، وَيَقتَدون ولا يَبْتَدون، وهؤلاء هُم حِزبُ اللهِ المُفلِحون وعِبادُه المؤمِنون" اهـ كلامُه –رَحِمَه اللهُ- نَقلا مِن «تَفسيرِه»: (2/ 384).
------------------حاشية سُفليَّة------------
(1) «صَحيح مُسلِم بِشَرح النَّوَوي»: طـ المطبعة المصرية ومكتبتها، «تَذكِرَة السَّامِع والمُتكَلم في أدَب العالِم والمُتعَلِم»: طـ دار الكتب العلمية بِبَيروت، «مُقَدِّمَة ابن الصَّلاح»: طـ دار المعارف بمصر، «الجَامِع لأخلاقِ الرَّاوي وآدَابِ السَّامِع»: طـ مؤسسة الرسالة بِبَيروت.
-------------------------------------
فنَحنُ –المُسلمين- حين نَترَضَّي عَن الصحابَة بِقَولِنا: "رَضيَ اللهُ عَنهم"؛ فإنَّما نَحن مُتَّبِعون لا مُبتَدِعون، ومُقتَدون بالقُرآن لا مُبتَدون. والتَّرَضي مِنَّا عَنهم إمَّا إخبارٌ وإقرارٌ مِنَّا بِرِضَا الله عَنهم (وهذا يُفيد الإيمانَ بِكتابِ الله وتَصديقِه)، أو دُعاءٌ لَهم؛ وهذه شيمَةُ أهل الإيمان؛ كَمَا قال اللهُ تَعالَى: (والذينَ جاءُوا مِن بَعدِهم يَقولون رَبَّنَا اغفِر لَنَا ولإخوانِنَا الذين سَبَقونَا بالإيمانِ ولا تَجْعَل في قُلوبِنَا غِلا للذين آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحَشر: 10]؛ فأمَرَنا اللهُ –سُبحانَه وتَعالَى- بالاستغفار للصحابَة وذِكرِ مَحاسِنِهم؛ "فَمَن لم يَستَغفِر للصَّحَابَة على العُموم ويَطْلُبْ رِضوانَ اللهِ لَهم؛ فِقَد خالَفَ ما أمَرَه اللهُ به في هذه الآية، فإن وَجَدَ في قَلبِه غِلا لهم فقد أصابَه نَزغٌ مِن الشَّيطان وحَلَّ به نَصيبٌ وافِرٌ مِن عِصيانِ الله بِعَداوَةِ أوليائِه وخَير أمَّةِ نَبيه (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم)، وانفَتَح له بابٌ مِن الخُذلان يَفِدُ به على نارِ جَهَنَّم إن لم يَتَدارَك نَفسَه باللجأ إلى اللهِ –سُبحانَه- والاستغاثَةِ به؛ بأن يَنزَعَ عَن قَلبِه ما طَرَقَه مِن الغِلّ لِخَيرِ القُرونِ وأشرَفِ هذه الأمَّة" [نَقلا مِن «فَتح القَدير الجامِع بَينَ فَنَّيّ الرِّوايَة والدِّرايَة في عِلم التَّفسير»/ للإمامِ (الشَّوكانِي) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى-].
وهذه الآيَةُ الكَريمَة رَدٌ كافٍ على قَولِي أخينا (الحَسَن): "وليست الآيَةُ -أي: قولُ اللهِ –تَعَالَى-: (لَقَد رَضي اللهُ عَن المؤمِنين إذ يُبايعونَك تَحتَ الشَّجَرَة) [الفَتح: 18]- إنشائيةٌ بأمر، لَو كانَت إنشائيةً لجاءَت في صيغة الأمر". وهي رَدٌ أيضًا عَلَى قَولِه: "وَلَسَمِعْنا المُتأخرين مِنَ الصَّحَابَة يَتَرَّضَّونَ على [كذا، والصَّواب: عَن] الأوَّلين في حُضورِهم أو غيابِهم"؛ وهذا ما تُؤكِدُ الآيةُ خِلافَه تَمامًا! وهي أيضًا رَدٌ عَلَى قَولِه: "هَذه الكَلِمَة –أي: رَضي الله عَنهم- لم تَكُن تُقال في عَهد الصَّحابَة، ولَم نَسمَع أحَدًا مِنَ الصَّحابَة خَاطَبَ صحابِيًّا آخَرَ قائلا له: رضي الله عنك". واللهُ –تَعالَى- أعْلَم.

(5) قَولُك: "كانَ الصَّحابَة [لم يَتَرَضَّي أخونَا (الحَسَن) عَلَيهم –رَضي اللهُ عَنهم- مَع دِفاعِه الشَّديد عَن التَّرضي عَنهم!] إذا سألهم النَّبيُّ [أقول: صَلَّىَ اللهُ عَليه وآلِه وَسَلَّم (!)] في أمر الدين [كَذا؛ والأولَى أن يَقول: "أمر مِن أمورِ الدِّين" –مَثلا-] وَلَم يَعْلَمُوه، لَم يَكُن جَوابُهم فَقَط: لا نعلم، وإنَّما كانُوا يُضيفون إليها: الله ورَسوله أعْلَم، فَهَل أنكَر رَسولُ اللهِ [أقولُ: صَلَّىَ اللهُ عَليه وآلِه وَسَلَّم (!)] عليهم أن يقولوا: الله ورَسولُه أعْلَم !!" اهـ.
قُلتُ: لَقَد أجَبْتُ على استشكالِك هَذا (!) جوابًا شافيًا –إن شاءَ اللهُ تَعالَى- عِندَ جوابي عَن استشكالِك السَّابِق (رَقم 3)؛ فراجِعْه –بارَك اللهُ فيك! وخُلاصَةُ جَوابي: أنَّ إقرارَ النَّبي (صَلَّىَ اللهُ عَليه وآلِه وسَلَّم) قَولَ صَحابَتِه –رَضيَ اللهُ عَنهم-: "الله ورَسوله أعْلَم"؛ عِند سؤالِه لَهم سؤالا لا يَعرِفونَه؛ إنَّما هو يَدْخُل تحت مَبحَث "السُّنَّة التَّقريرية" التي هي حُجَّةٌ يُعمَلُ بِها بإجماعِ المُسلِمين، ولو كان هذا القَولُ مِمَّا لا يُقِرُّه الشَّرعُ لَنهاهُم النَّبيُّ (صَلَّىَ الله عَليه وَسَلَّم) عَنه، واللهُ أعْلَم.
ولا يَفوتُني أن أنَبِّه –هُنَا- على أمرَين هامِّين جِدًّا بِخصوص هذا القَول:
الأمرُ الأول: كَيفَ نَجْمَعُ بَينَ قِولِ الصَّحابَة –رَضيَ اللهُ عَنهم-: "الله ورَسوله أعْلَم" -بالعَطف بالواو- وإقرارِ النَّبي (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) لَهم عَلَى ذَلِك، وإنكارِه (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) على مَن قال: "ما شاءَ اللهُ وَشِئتَ" [كما عِند «مُسلِم»: (ح 870)] ؟!
يُجيبُ العلامةُ (ابْنُ عُثيمين) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى- على هذا السؤالِ بِقَولِه: "قَولُه "الله ورَسوله أعْلَم" جائِزٌ؛ وَذَلِك لأنَّ عِلمَ الرَّسولِ [صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم] مِن عِلم الله؛ فاللهُ –َتعالَى- هُوَ الذي يُعَلِّمُه ما لا يُدرِكُه البَشَرُ، ولِهذا أتِي بالواو. وكَذَلِك في المَسائِل الشَّرعيَّة يُقال: الله ورَسوله أعْلَم"؛ لأنَّه أعْلَم الخَلق بِشَريعَة الله، وعِلمه بِهَا مِن عِلمِ الله الذي عَلَّمَه؛ كما قال اللهُ –تَعالَى-: (وأنزَلَ اللهُ عَليكَ الكِتاب والحِكمَة وعَلَّمَك ما لم تَكُن تَعْلَم) [النِّساء: 113].
وَليس هذا كَقولِه "ما شاءَ اللهُ وَشِئت"؛ لأنَّ هذا في باب القُدرَة والمَشيئة، ولا يُمكِن أن يَجْعَل الرَّسولَ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) مُشارِكًا لله فيها.
فَفي الأمور الشَّرعيَّة يُقال: "الله وَرسولُه أعْلَم"، وفي الأمورِ الكَونيَّة لا يُقالُ ذَلِك.
ومِن هُنا نَعرِفُ خَطأ وجَهل مَن يَكتُب الآن على بَعضِ الأعمال: (وُقل اعْمَلوا فَسَيرَى اللهُ عَمَلَكم وَرَسولُه) [التوبة: 105]؛ لأنَّ الرَّسولَ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) لا يَرَى العَمَلَ بَعد مَوتِه" اهـ كلامُه –عَليه سَحائِبُ الرَّحمَة- نَقلا عَن كِتاب «المَناهي اللفظية: ألفاظ ومَفاهيم في ميزانِ الشَّريعَة»، ص 96: 98، طـ مَكتَبة السُّنَّة بِمصر.
الأمرُ الثَّاني: يَنبَغي أن يُعلَم أنَّ مَشروعية قَول: "الله ورَسوله أعْلَم" إنَّما كانَت في حياةِ النَّبي (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) لا بَعد موتِه! فَبعَد وفاتِه (صَلَّى الله عَليه وعلى آلِه وصَحبِه وَسَلَّم) انقَطَع عَملُه وعِلمُه، وصَارَ العِلمُ التَّامُّ: الشَّرعي والكَوني مُختَصًّا باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحدَه.
ولهذا استحَبَ العُلماء –رَحِمَهم اللهُ تَعالَى- أن تُذَيَّلَ فَتوى المُفتي بِقَولِه: "والله أعْلَم"؛ ولم نَسمَع أنَّ أحدَهم كان يَقول: "الله ورَسوله أعْلَم"!
وعلى هذا يُحمَل قَولُ العلامةُ (ابنُ عُثيمين) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى- في الفَتوَى السَّابِقة التي نَقلناها بتَمامِها: "قَولُه "الله ورَسوله أعْلَم" جائِزٌ"، وَقولُه: "فَفي الأمور الشَّرعيَّة يُقال: "الله وَرسولُه أعْلَم" اهـ؛ فَهو –رَحِمَه اللهُ- إنَّما يُجيبُ عَن سؤالٍ بِعَينِه أوردنَا نَصَّه على رأسِ الإجابَة!

(6) قَولُك: "إنَّ القَولَ بِضَلالِ مَن قَالَ "صَدَقَ اللهُ العَظيم" كَمَثَلِ ذلِك الذي رأى النَّصارَى وَاليَهودَ يُسارِعُون في مَدِّ يَدِ العَون والمُساعَدَة لإخوانٍ لَنَا أصابَهُم نَقْصٌ مِنَ الثَّمرات وابتُلُوا بالجَفَافِ والجُوع، فقال: لا تتشبهوا [كذا؛ والأولَى: تَشَبَّهُوا] باليَهودِ والنَّصارَى حَتَّى وَلَو كانَ في الإحْسان، وَلا تَمُدُّوا يَدَ العَون لإخوانِنَا في الصُّومَال والسُودَان؛ لأنَّ اليَهودَ وَالنَّصارَى سَبَقُونَا إلَى ذلك وَنَحْن لا نُريد أن نَتَشَبَّه بِهم" اهـ.
قُلتُ:
أولا: مَتى كان اليَهودُ والنَّصارَى يُسارِعون في مَدِّ يَدِ العَون والمُساعَدَة لإخوانِنَا في الصُّومَال والسُودَان ؟!! رُبَما تَقصِد: يُسارِعون في مَدِّ يَدِ العَونِ والمُساعَدَة لاقتلاع جُثَثِهم لِتَطهير أراضي المُسلمينَ مِنها !
ثانيًا: كلامُك فيه سُخريَة واستِهزاء ولَمزٌ لإخوانِك المُسملين! أيَليقُ هذا ونَحنُ نتدارَسُ أحكامَ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- ؟!
وأحيلُك –أخي- على ما نَصَحتُك به في رَدي على استشكالِك (رَقم (1) – ثالِثًا).
ثالِثًا: حَقًّا؛ أنا لا أفهَم وَجْهَ الشَّبَهِ بَينَ مسألَتِنا وهذا المِثالِ الذي ضَرَبتَه لَنا! أم هو التَّكَلُّف في الرَّد، ولا كَرامَة!
رابِعًا: رُبَما يَكونُ هذا المِثالُ استشكالا مِنك فِعلا –أخي؛ وتَوَدُّ الجوابَ عَنه؛ يَعني: كَيف نَمتَثِلُ لِنَهي النَّبي (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) عَن التَّشَّبُّه بالمُشرِكين ومُخالَفَتِهم، إذا صَدَر مِنهم فِعلا يَرضاه الإسلامُ ويَحُثُّ عَليه [كَهذا الذي في المِثال (!)] ؟! فسأتحِفُك –حالا- بالجوابِ بِحَول اللهِ وقِوَتِه وعَونِه؛ فأقولُ:
اعْلَم –أخي- أنَّ أحكامَ الإسلام وأصولَه تُقَرِّر تَحريمَ التَّشَّبُّه بالمُشركين ووجوبَ مُخالَفَتِهم فيما كان مِن هَديِهم وعاداتِهم واعتقاداتِهم وأخلاقِهم وسُلوكياتِهم؛ بِحَيثُ صارَت هذه الصِّفاتُ فوارِقَ تُمَيِّزُهم عَن غَيرِهم، حتى لو أنَّ أحَدَ المُسلمين قَلَّدَهم فيها صَارَ كأنَّه مِنهم؛ لِشِدَةِ ارتباطِ هذه العلامات بِهم وتَمَيُّزِهم بِها، واللهُ أعْلَم.
قال الإمامُ (المَناويُّ) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى-: "مَن تَشَبَّه بِقَومٍ: أي تَزَيَّا في ظاهِرِه بِزيِّهِم، وفي تَعَرُّفِه بِفِعلِهم، وفي تَخَلُّقِه بِخُلُقِهم، وسَارَ بِسيرَتِهم وهَديِهم في مَلبَسِهم وبَعضِ أفعالِهم، أي: وكان التَّشَبُّه بِحَقٍّ قد طابَقَ فيه الظاهِرُ الباطِنَ فهو مِنهم" اهـ كلامُه نَقلا عَن «فَيض القَدير»: (6/ 104، طـ المكتبة التجارية الكُبرَى بمصر).
أمَّا ما كان في أصلِ شَرعِنا مَشروعًا (مُباحًا أو مُستَحَبًّا أو واجِبًا) وقَلَّدونَا هُم فيه؛ فهذا خارِجُ نَصِّ الحَديث ولم يَدخُل فيه أصلا! كالِمثال الذي أورَدَه أخونا (الحَسَن)؛ فمُساعَدةُ المُحتاجين والإنفاقُ في سَبيل الله؛ مَعلومٌ مِن دِينِنَا بالضَّرورة؛ بِنَصِ الكِتاب والسُّنَّة. فماذا يَضيرُنا لو أنَّ أحَدَ المُشركين قَلَّدَنَا فيه، خاصًّةً أنَّ الإنفاقَ والصَّدقَة مِن خَصائِصِ المُسلمين وصِفاتِهم، التي يَعرِفُها الجاهِلُ والعالِم والعَدو والصَّديق، فَتَنَبَّه!
وللفائِدَة والأهمية أضرِبُ مِثالا آخرَ يَتَّخِذُه بَعضُهم حُجَّةً في هَجر أحكام الشَّرع ومَعصيَة الله –سُبحانَه وتَعالَى- عياذًا بالله مِن ذَلِك:
اتَّفَقُ العُلماء على وجوبِ إعفاء اللحية وتَحريم حَلقِ ما دون القَبضَةِ مِنها؛ (أمَّا ما زاد عَن القَبضَة فالخِلافُ فيه مَشهور، والرَّاجِحُ عَدمُ الأخذ مِنها مُطلَقًا)، والنُّصوص مِن الكِتاب والسُّنَّة واضِحَةٌ جَليَّة. غَير أنَّ البَعضَ استَشكَل تَقييدَ الأمر بإعفائِها بُمخالَفَةِ المُشركين؛ وقال: "بَعضُ المُشركين يُعفون لِحاهَم في عَصرِنا، وما مَوقِفُ المُسلِم لو أعفى كُلُّ المُشركين لِحاهُم؟!".
أقولُ: الأصلُ أنَّ إعفاءَ اللحيَة مِن خَصائِص المُسلمين وهَديِهِم، وحَلَقَها مِن هَدي المُشرِكين وعاداتِهم، فلا يَضُرُّنا أن يُقَلِّدَنا بَعضُ المُشرِكين (أو كُلُّهم) في هذا الهَدي، فافهَم هذا الأصلَ وعُضَّ عَليه بالنَّواجِذ.
يَبقَى الإشكالُ في تَقييد الأمرِ بِإعفائِها -في بَعضِ الأحاديثِ لا كُلِّها- بِمُخالَفَة المُشرِكين؛ فأقولُ: المَقصود بالمُخالَفَة إمَّا المُخالَفَة في الأصل أو الصِفَة: فَمِن المُشركينَ مَن يَحلِقُ لِحيَتَه فنحن نُعفيها، ومِنهم مَن يَقُصُّها ويأخُذ مِنها فَنحن نُوفِرُها ولا نَتَعَرَّضُ لَها. وفي الحالَتَين فالمُسلِم لا يأخُذُ مِن لِحيَتِه مُطلَقًا كما أومأتُ سابِقًا! أمَّا لو أعفَى كُلُّ المُشركين لِحاهُم فَقَد عادُوا –إذَن- إلى أصلِ الفِطرَة؛ لأنَّ إعفاءَ اللحيَة "مِن الفِطرَة" –كما في حَديث (عائِشَة) –رَضيَ اللهُ عَنها- عِند "مُسلِم": (ح 261)؛ وتَبقَى المُخالَفَةُ أيضًا في أنَّنَا نَقُصُّ الشَّارِب بأخذِ ما طال عَن الشِّفة، واللهُ أعْلَم.
ومَِّا يُزيلُ الإشكالَ –إن شاءَ اللهُ تَعالَى- أن تَعلَم أخي أنَّ (المُشرِكين المَوجودين في زَمنِ النَّبي (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) كانوا ذَوي لِحَى [انظُر: «صَحيح مُسلِم»: (ح 1800)]؛ لأنَّ العَرَب لم تَترُك زينَةَ اللِّحي لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وقد أقرَّهم الإسلامُ عَليها، ولَعَلَّهم توارَثُوها مِن دين (إبراهيم) –عَليه السَّلام. وكان الغَربيونَ يُعفون لِحاهُم إلى أن أشاع المَلِك (بُطرس) مَلِك روُسيا حَلق اللحية في أورُبا في أول القَرن السَّابِع عَشر، ومِنهم تَسَرَّبَت إلى المُسلِمين هذه السُّنَّة السَّيئَة فيما بَعد، [وإلى اللهُ المُشتَكَى]. أمَّا كَيفيَة مُخالَفَةُ المُشركين مَع إعفائِهم لِحاهم في زَمَنِه (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) فَبِقَصِّ الشَّارِب وأخذِ ما طَالَ عَن الشِّفة، أو بِتَوفير اللِّحَى إذا كانُوا يُقَصِّرونَها؛ فالمُخالَفَةُ هُنا في وَصف الفِعل، أمَّا إذا حَلَقُوا لِحاهم فَنَحنُ نُخالِفُهم في أصْلِ الفِعل بإعفاء اللِّحَى) اهـ بِتَصَرُّفٍ مِن كلام العلامة (محمد إسماعيل) –حَفِظَه اللهُ- في كِتابِه «اللحية لِمَاذا؟»، هامش ص 21، طـ دار عَبد الواحِد للطباعة ومَكتَبَة أبي حُذيفَة.
ولو ضَربنَا صَفحًا عَن كل ما سَبَق؛ فليسَت هذه هي العِلَّة الوَحيدَةُ في المَسألة؛ بل توجَد عِلَلٌ كَثيرَة تَجِدُها مَبسوطَةً في كِتاب «أدِلَة تَحريم حَلقِ اللحية»، وإن شِئتَ الاختصار فَفي كِتاب «اللحيَة لِماذا؟»/ كِلاهُما لِشَيخِنا العلامةُ الحَبيب (محمد بن أحمد إسماعيل المُقَدَّم) –حَفِظَه اللهُ تَعالَى وأمتَعَنَا بِطولِ بَقائِه، آمين.

(7) قَولُك: "الأصلُ في العِبادَاتِ التَّحريمُ: هَذَاَ لَيس حَديث [كذا؛ والصَّوابُ: حَديثًا؛ على النَّصب] شريف [كذا؛ والصَّوابُ: شَريفًا؛ بِفَتح الفاء]؛ الأصلُ في العباداتِ الالتزامُ بالأمر، والحَلالُ بَيِّنٌ والحَرَامُ بَيِّنٌ" اهـ.
قُلتُ:
أولا: واللهِ يا أخي؛ أنا لا أرضَى لَك هذا الكلامَ الشَّنيع؛ الذي هَدمتَ به أصولَ شَريعَتِنا الغَرَّاء، بَعد أن هَدَمتَ جُهودَ عُلماء المُسلمين في استنباط القواعِد والأصول الجامِعَة لِفروع الشَّريعة!
ثانيًا: اعْلَم أنَّ مِن القواعِد الأصوليًّة الهامَّة التي ذَكَرها الإمامُ (أحمَد) وشَيخُ الإسلام (ابن تَيميَّة) –رَحِمَهما اللهُ تَعالَى- وغَيرُهما أنَّ: "الأصل في العِبادات التَّحريم (الحَظر)؛ فلا يُشرَعُ مِنها إلا ما شَرَعَه اللهُ ورَسولُه. والأصل في العادات الإباحَة؛ فلا يَحرُم مِنها إلا ما حَرَّمَه اللهُ وَرَسولُه". وهذه القاعِدة لم تأتي عَفوًا؛ بل دَلَّت عَليها نُصوص الكِتابِ والسُّنَّةِ في مواضِع:
أمَّا الأصلُ الأول: فَيَدُلُ عَليه قَولُه –تَعالَى-: (أمْ لَهُم شُركاءُ شَرَعُوا لَهم مِن الدِّينِ مَا لم يأذَن بِه اللهُ) [الشُّورَى: 21]. ومِثل الأمر بِعبادَةِ اللهِ وَحدَه لا شَريك له في مواضِع كَثيرة؛ كَقولِه –تَعالَى-: (واعْبُدوا اللهَ ولا تُشرِكُوا به شَيئًا) [النِّساء: 36]، وقولِه –تَعالَى-: (وَقَضَى رَبُّك ألا تَعبُدوا إلا إيَّاه) [الإسراء: 23]، وقولِه –تَعالَى-: (وما أمِروا إلا لِيَعبُدوا اللهَ مُخلِصينَ لَه الدِّين حُنفاء) [البَيِّنَة: 5]، وغَيرِها كَثير.
(أمَّا الأصلُ الثاني: فَيَدُلُ عَليه (قَولُه –تَعالَى-: (هُوَ الذي خَلَق لَكم ما في الأرضِ جَميعًا) [البقرة: 29]؛ أي: لِجَميع أنواع الانتفاعات، فأباح مِنها جَميع المَنافِع سِوَى ما وَرَد في الشَّرعِ المَنعُ مِنه لِضَرَرِه. وقَولُه –تَعالَى- (قُل مَن حَرَّم زينَةَ اللهِ التي أخرَجَ لِعبادِه والطَّيباتِ مِنَ الرِّزق قُل هي للذين آمَنُوا في الحياةِ الدُّنيَا خالِصَةً يَومَ القيامَة) [الأعراف: 32]؛ فأنكَرَ –تَعالَى- على مَن حَرَّم ما خَلق اللهُ لِعبادِه مِن المآكِل والمشارِب والملابِسِ وتوابِعِها.
وبيانُ ذَلِك: أنَّ العِبادَة هي ما أمِرَ به أمرُ إيجابٍ أو استحبابٍ؛ فَكُلُّ واجِبٍ أوجَبَه اللهُ ورَسولُه أو مُستَحَبٌ فهو عِبادَةٌ يُعبَدُ الله به وَحدَه ويُدانُ اللهُ به، فَمَن أوجَبَ أو استَحَبَ عِبادةً لم يَدُل عَليها الكِتابُ ولا السُّنَّة فقد ابتدَعَ دينًا لم يأذَنِ اللهُ به، وهو مَردودٌ على صاحِبِه؛ كما قال (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم): "مَن عَمِل عَملا ليس عَليه أمرُنا فهو رَدٌّ" [مُتَّفَقٌ عَليه]، ومِن شُروط العِبادَة: الإخلاص لله، والمُتابَعَة لِرَسولِ الله (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) ... واللهُ –تَعالَى- هو الحاِكمُ لِعبادِه على لِسان رَسولِه (صَلَّى الله عَليه وسَلَّم)؛ فلا حُكمَ إلا حُكمه، ولا دينَ إلا دينه.
وأمَّا العادات كُلُّها: كالمآكِل والمشارِب والملابِس كُلِّها والأعمال والصنائِع والمُعاملات والعادات كُلِّها؛ فالأصلُ فيها الإباحَةُ والإطلاق؛ فَمَن حَرَّم شَيئًا لم يُحَرِّمْه اللهُ ولا رَسولُه فهو مُبتَدِع؛ كما حَرَّم المُشرِكون بَعضَ الأنعام التي أحلَّها اللهُ ورَسولُه، وكَمَن يُريد بِجَهلِه أن يُحَرِّمَ بَعضَ أنواع اللِّباس أو الصنائِع أو المُخترعاتِ الحَديثةِ بِغَير دَليلٍ شَرعيٍّ يُحَرِّمُها. فَمَن سَلَك هذا المَسلَك فهو ضالٌّ جاهِلٌ. والمُحَرَّمُ مِن هذه الأمورِ قد فُصِّلَت في الكِتاب والسُّنَّة؛ كما قال –تَعالَى-: (وَقَد فَصَّلَ لَكُم ما حَرَّم عَليكُم) [الأنعام: 119]، ولَم يُحَرِّمِ اللهُ عَلينَا إلا كُلَّ ضَارٍّ خَبيث ...
[فالحاصِلُ] أنَّ "كُلَّ مَن أمَرَ بِشَيءٍ لم يأمُر به الشَّارِعُ فهو مُبتَدِع، وكُلَّ مَن حَرَّم شَيئًا لم يُحَرِّمْه الشَّارِعُ مِن العادات فهو مُبتَدِع") اهـ نَقلا عَن الكِتاب الماتِع القَيِّم «القواعِد والأصول الجامِعَة، والفُروق والتَّقاسيم البَديعة النافِعَة»/ للعلامة (عبد الرَّحمَن بن ناصِر السَّعدي) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى، بتصَرُّف مِن "القاعِدَة السادِسَة"، واقرأها بِتمَامِها؛ فهي مُهِمَّةٌ جِدًّا!
ويَقولُ العلامةُ (ابْنُ عُثيمين) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى- في «مَنظومَتِه»:
والأصلُ في الأشياءِ حِلَّ وامنَعِ * * * عِبـادَةً إلا بإذنِ الشَّـارِع
ثالِثًا: وأنا أقولُ لك –والبادي أظْلَم-: "قَولُك: الأصلُ في العِبادات الالتزامُ بالأمر"؛ ليس حَديثًا شَريفًا ولا آيةً في القُرآن وَلَم يَسبِقُك به أحَدٌ –لا مِن أهْلِ العِلم ولا مِن أهْلِ الجَهل- فيمَا أعْلَم؛ فهل أتيتَ بما لم تأتِ به الأوائِلُ! وأنا أتحداك أن تأتي لي بِدَليلٍ ولو ضَعيفٍ (ولو مِن حيث الدلالة) يُثبِتُ ما زَعمتَ! بل وأتحداكَ أن تَنجَحَ في استخدامِ هذه القاعِدَةَ المَزعومَة في استنباطِ الأحكام الشَّرعيَةِ!
رابِعًا: أقسِمُ بالله –غَيرَ حانِثٍ إن شاءَ اللهُ تَعالَى- أنَّك –رَغمَ مُعارَضَتِك للقواعِد الأصوليَة- تتعَبَّدُ اللهَ بِتلكَ القاعِدة وغَيرِها! فأنا أسألُك –على سَبيل المِثال فِقط- هَل يَجوزُ أن يؤذِنَ عَشرَةُ مؤذِنين في مَسجِدٍ واحِدٍ لِوَقتٍ واحِدٍ بِصَوتِ رَجُلٍ واحِد ؟!! وماذا تَفعَلُ إذا وَجَدتَ ماءً في الطَّريق وأنتَ لا تَدري هَل هو طاهِرٌ أم لا ؟!! وكيف تَتَصَرَّفُ وَقَد شَكَكتَ هل انتَقَضَ وضوءُك أم لا؟!! وهَل يَجوزُ استخدامُ الهاتِفِ أم لا ؟!! وهَل ......... ؟!!!!

(8) قَولُك: "جاءني سائِلٌ مِسكينٌ حَتَّى وَلَو كَانَ يَهوديًّا فإنِّي لَن أنهَرَه ولَن أنتَظِرَ فَتوىَ مِن أحَدٍ أو أبْحَثَ عَن نصٍّ في الكِتابِ والسُّنَّة يُجيزُ لي أن أتصَدَّقَ على غَير المُسلمينَ، فهذه مَعروفَةٌ بالفِطْرَة، والله جَعَلَ الصَدَقَةَ للمساكين على إطلاقهم" اهـ.
قُلت: لقد أبعدتَ النُّجْعَة أخي !!!
فَقَولُك "ولَن أنتَظِرَ فَتوىَ مِن أحَدٍ أو أبْحَثَ عَن نصٍّ في الكِتابِ والسُّنَّة يُجيزُ لي ..."؛ لا يَنبَغي أن يَصدُر مِن مُسلِمٍ يؤمِنُ بالله رَبًّا وبالإسلام دينًا وبمُحَمَّدٍ (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) نَبيًّا ورَسولا؛ ألم تَقرأ قَولَ اللهِ –تَعالَى-: (فلا وَرَبِك لا يؤمِنون حَتَّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَر بَينَهم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهم حَرَجًا مِمَّا قَضَيتَ ويُسَلِّمُوا تَسليمًا) [النِّساء: 65]، وقَولَه: (إنَّما كَانَ قَولَ المُؤمِنين إذا دُعُوا إلى اللهِ ورَسُولِه لِيَحْكُمَ بَينَهم أن يَقولوا سَمِعنَا وأطعنَا وَأولَئِكَ هُمُ المُفلِحون) [النور: 51] وقَولَه: (وأطيعُوا اللهَ والرَّسُولَ لعلَّكم تُرحَمون) [آل عِمران: 132]، وقَولَه: (فاسألوا أهلَ الذِّكر إن كُنتُم لا تَعْلَمُون) [النَّحل: 43] ؟!!
أتُريدُ أن تَتَبِع الهَوى وتُعرِضَ عَن نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّة بِزَعم اتِّباع "الفِطْرَة" ؟!! وما ضابِطُ الفِطْرَة يا أخي ؟!
قالَ الإمامُ (الشَّافعيُّ) –رَحِمَه اللهُ-: "مَن استحسَنَ فَقد شَرَع" ! فأنتَ إذا استحسَنتَ حُكمًا مِن الأحكام دون استنادٍ إلى نَصٍّ مِن الكِتاب والسُّنَّة فَقَد نازَعتَ الله –سُبحانَه وتَعالَى- في التَّشريع، عياذًا باللهِ!
ألم تَقرأ قَولَ اللهِ –تَعالَى-: (أمْ لَهُم شُركاءُ شَرَعُوا لَهم مِن الدِّينِ مَا لم يأذَن بِه اللهُ) [الشُّورَى: 21] ؟!!
وَوَاللهِ إنَّ دينَنَا هو دينُ الفِطْرَة؛ قال اللهُ –تَعالَى- (فأقِم وَجْهَك للدين حَنيفًا فِطْرَتَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاس عَليها لا تَبْديل لِخَلقِ اللهِ ذلك الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يَعْلَمون) [الروم: 30]، وثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ (صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم) كان يُعَلِّم أصحابَه –رَضيَ اللهُ عَنهم- أن يَقولوا إذا أصبَحُوا: "أصبَحنَا على فِطْرَة الإسلام ..." [صَحَحه العلامةُ (الألبانيُّ) –رَحِمَه الله- في «السلسلة الصَّحيحة»: (2989)]، وقال (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم) للبراء بن العازِب –رَضي اللهُ عَنه: "إذا أتيتَ مَضجَعَك فتوضأ وضوءَك للصَّلاة ..."، إلَى أن قالَ له: "فإن مِتَّ؛ مِتَّ على الفِطْرَة" [مُتَّفَقٌ عَليه].
وكأنَّك أخي قد عُدتَ إلى صوابِك وإلى "الفِطْرَة" (!) ورَجَعتَ إلى نُصوصِ الكِتاب والسُّنَّة؛ فإنَّك قُلتَ –في الآخِر-: "والله جَعَلَ الصَدَقَةَ للمساكين على إطلاقهم"؛ فكأنِّي بِكَ –أخي- قد استمسكتَ بِكتابِ رَبِّك وسُنَّة نَبيِّك (صَلَّىَ اللهُ عَليه وَسَلَّم)؛ فهنيئًا لَك!

(9) أما قَولُك: " أيّ فِقهٍ هذا الذي يُجَمِّد الفِكرَ ويُسَمي الثَّنَاءَ والكَلامَ الطِّيبَ بِدْعَة !! أيّ مَذهَبٍ هذا!! أنا أتَّبِعُ مَدرَسَةَ العِلم الفِقْهي وَلَيسَ العِلَم النَّقْلي المُتَجَمِد" اهـ؛ فأنا أعتَذِرُ عَن التَّعليق! واللهُ المُستعان.

وأخيرًا ...
أخي (الحَسن)؛ قد يكونُ جوابي فيه بَعضُ الشِّدَّة؛ ولكن "المؤمِنَ للمؤمِن كاليَدَين تَغسِلُ إحداهُما الأخرَى، وقَد لا يَنقَلِعُ الوَسَخُ إلا بِنَوعٍ مِن الخُشونَة، لَكِن ذَلِكَ يُوجِب مِن النَّظافَةِ والنُّعومَة ما نَحمَد مَعه ذَلِك التَّخشين" ! كما يَقولُ شَيخُ الإسلامِ (ابن تَيميَّة) –رَحِمَه اللهُ تَعالَى- [«مَجموع الفَتاوَى»: (28/ 53)].
أسألُ اللهَ العَظيمَ ربَّ العَرشِ العَظيمِ أن يُفَقِّهَنَا في دِينِنَا، إنَّه على كل شيء قَديرٌ.
و"سُبحانَك اللهُمَّ وبِحَمدِك، أشهَدُ ألا إلَه إلا أنتَ، أستَغفِرُك وأتوبُ إليكَ".

وكتبه محمد بن يوسف

داعية التوحيد
09-07-2005, 03:38 AM
بارك الله في الجميع

البراء بن مالك
11-16-2005, 09:41 PM
بارك الله في جهودكم لقمع البدعة

عبدالعزيز الباروني
11-17-2005, 12:34 PM
بمناسبة هذا الموضوع

أخبرتني المرحومة جدتي ذات مرة من غير واجب أن نقول ( صدق الله العظيم)

لأن الله صادق في آياته

المقداد بن الأسود
11-17-2005, 07:28 PM
أخبرتني المرحومة جدتي ذات مرة من غير واجب أن نقول ( صدق الله العظيم)
الافضل أن تقول المرحوم أو المرحومة بإذن الله فُلانٌ أو فُلانَةُ
رحم الله جدتك وسائر المسلمين