مالك مناع
06-07-2010, 10:51 AM
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعدُ:
لقد وُهِبَ الإنسان أشياء كثيرة في حياته، وَ مما وُهِبَ أمران، فقد أنعم الله عليه عقلاً مستقلاً، ومنحه آلَةَ كيفية الاستفادة من عقول الآخرين، دون مصادرة لعقله واهداره، و المتتبع لأحوال الناس من أمراء و ولاة وعلماء ومشايخ وعامة الخلق يجد أن كُلاً من هولاء له علاقات، ومقربين وبطانة وخلان وأصحاب، يلحَقه تَأَثُّرٌ بالأقوال والأفعال لأولئك المقربين من الجلساء والخلان والأصحاب، وانتقالٌ للطباع والسلوك بصورة لافتة، حتى أنك تلاحظ ذلك التأثير المسلكي قد يصل بصاحبه إلى تقليد اللهجات، وقد يبلغ به إلى محاكاة تاماة، ومشابهة مطابقة عند بعض الناس، وهذا التقليد في الأقوال والأفعال؛ إما متبادل بين الطرفين، أو تأثير من أحد الجانبين، فجهة مُوَجِّهة والأخرى مُسْتقبلة لكلِّ شئ دون تمييز بين الخير والشر، أو تمحيص للحق من الباطل، وهذه العلاقة إما تنتهي باتفاق أو إلى افتراق، فعندما تنتهي رحلة الدنيا بإزالة الغطاء عن كل الأمور، وبيان المستور، فلا محالة أن الأمور تصير إلى محبة مطلقة أو عداوة مطلقة، ولهذا قال تعالى: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]. فعلاقة أهل الديانة والتقوى تُبْنَى على الصِّدق والدَّعوة للخير،لا يعرفون ولا يحبون العلاقات المشوبة بالغدر والخيانة، ولذلك عندما تستبين الأمور ويكشف عما في الصدور؛ يقول تعالى على لسانهم: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَال الذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[البقرة: 166-167].
[فوائد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]
روى البخاري (3928، 6830، 7323) في »صحيحه« من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجةٍ حجها؛ إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان؟ يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فَلْتَةً فتَمَّت، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائمٌ العَشِيَّة في الناس فمُحذِّرَهم هؤلاء الذين يريدون أن يَغْصِبوهُم أُمورَهم، قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغاءَهُم، فإنَّهم هُمُ الذين يَغلِبُونَ على قُرْبِكَ حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقومَ فتقولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عنكَ كُلُّ مُطَيرٍ، وأن لا يعُوها، وأن لا يَضَعُوها على مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حتى تَقْدَمَ المدينة؛ فإنها دَارُ الهِجرَةِ وَالسُّنةِ فَتَخْلُصَ بأهل الفِقه وأشرافِ النَّاسِ فتقول ما قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أهلُ العِلمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا على مَوَاضِعِهَا، فقال عمر: أمَا والله - إن شاء الله - لأقُومَنَّ بذلك أوَّل مقامٍ أقومُهُ .
وفي رواية في »الصحيح«: فقال عمر: لأقُومَنَّ العشيَّة، فأحذّر هؤلاء الرّهط الذين يريدون أن يغصبوهم، قلت: لا تفعل فإن الموسم يجمع رَعَاعَ الناس، يَغْلِبونَ على مَجلِسِكَ، فأخاف أن لا يُنْزِلوها على وَجْهِها، فيَطِيرُ بِها كُلُّ مَطِيرٍ، فأمْهِل حتى تَقْدَمَ المدينة؛ دار الهِجرَةِ، ودار السُّنة؛ فَتَخْلُصَ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك وَيُنْزِلوها على وَجْهِها، فقال: والله لأّقُومَنَّ به في أولِ مقامٍ أقومُهُ بالمدينة .
وفي رواية في »الصحيح«: فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم، وإني أرى أن تمهلن حتى تَقْدَمَ المدينة؛ فإنها دارُ الهِجرَةِ، والسُّنةِ، والسَّلامةِ، وَتَخْلُصَ لأهلِ الفِقْه وأشرافِ الناس وذَوِي رَأْيِهِم، قال عمر: لأَقومَنَّ في أول مقام أقومه بالمدينة. وهذا الحديث ذكره البخاري في »صخيحه« في كتاب مناقب الأنصار والاعتصام بالكتاب والسنة - باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم.
أولا: قيمة أهل العلم والرأي في المشورة:
كان للصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موقف ورأي، ونصح صائب للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحج، عندما همَّ عمر بالنيل من أقوام في مكة، تكلموا وخاضوا في أمر الخلافة والولاية .
ثانياً: مناقب عمر بن الخطاب:
ومنها قبول أمير المؤمنين وموافقته رأي ونصح عبد الرحمن بن عوف، لصواب ما قاله، ومن مناقبه ما رواه البخاري في »صحيحه« (7286) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، في حديث طويل.. فغضب عمر، حتى هَمَّ بأن يقع به، فقال الحُرُّ: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿خُذْ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الجَاهِلِينَ﴾، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله.
ثالثا: وجوب مناصحة ولاة الأمر من الأمراء والعلماء:
ويكون النصح بضوابط كما ناصح ذلكم الصحابي الجليل؛ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، دون علم من الرعاع والغوغاء، وبعيداً عن أعين الدهماء وأسماع عوام الناس، ولذلك لم يُنْقَل انتشار خبر هذه المناصحة بين حجَّاج مكة، الذين جاءوا من أنحاء البلدان الإسلامية، لأن من النصائح (ما يكون أمام الناس)، أو بأسلوب فظ مما يدفع المنصوح للإعراض وعدم القبول، فالواجب اللين في التعامل مع المؤمنين، لا بالغلظة والفظاظة التي تُنَفِّرُ الناسَ عن دين الله، قال تعالى في وصف رفق نبيِّه وتعامله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[ال عمران : 159]، وقال تعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[التوبة : 128].
رابعاً: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:
ودليله ترجيح أمير المؤمنين وكبار الصحابة باحتمال المفاسد التي وقعت في مكة، وتأجيل تحصيل المصالح حتى العودة إلى دار الهجرة والسنة والسلامة .[فقال عمر: لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم. قلت (عبدالرحمن بن عوف): لا تفعل، فإن الموسم يجمع رَعَاعَ الناس، يَغْلِبونَ على مَجلِسِكَ، فأخاف أن لا يُنْزِلوها على وَجْهِها، فيَطِيرُ بِها كُلُّ مَطِيرٍ، فأمْهِل حتى تَقْدَمَ المدينة؛ فقال عمر: أمَا والله - إن شاء الله - لأقُومَنَّ بذلك أوَّل مقامٍ أَقُومُهُ بالمدينة].
خامساً: منهج الصحابة في المناصحة:
1- وجوب التناصح في وجود أهل الرأي والفقه والعلم. قال: [وَتَخْلُصَ لأهلِ الفِقْه وأشرافِ الناس وذَوِي رَأْيِهِم]، وقال:[فَتَخْلُصَ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها].
2- لا يشارك في المشورة من لا علم له ولا رأي.
3- بيان أن النصيحة والمشورة لا تكون أمام العوام، قال: [ يا أمير المؤمنين إن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم].
4- اختيار صاحب الرأي السديد، الذي لا يفشي سراً، ولا يكشف ستراً، ويكون مشفقاً حريصاً على بلوغ الحق مكانه. لقوله: [ فَيَعِي أهلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا على مَوَاضِعِهَا].
5- لا تناصح أمام من لا يفقه معاني الكلام وقيمة النصيحة، فتُحْمل على غير مرادها، قال عبد الرحمن بن عوف لعمر: [ فإن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم، فإنَّهم هُمُ الذين يَغْلِبُونَ على قُرْبِكَ حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقومَ فتقولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عنكَ كُلُّ مُطَيرٍ، وأن لا يعُوها، وأن لا يَضَعُوها على مَوَاضِعِهَا]، وقال: [يغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطير بها كل مطير].
6- اختيار المكان الذي يؤمن فيه من الفتن، قال: [فأمْهِل حتى تَقْدَمَ المدينة؛ فإنها دارُ الهِجرَةِ، والسُّنةِ، والسَّلامةِ]، وقال: [فتقول ما قُلْتَ مُتَمَكِّنًا].
سادسا: العمدة لأهل الحل والعقد ولا رأي لغيرهم:
1- لقد أولى الخليفة عمر وعبد الرحمن بن عوف الاهتمام بأهل العلم وذوي الرأي بجعلهم أصحاب المشورة، فلم يخطب بجموع الناس في مكة في هذه القضية، [إن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم]، وجعل كلمته في الخاصة الذين يعقلون شؤون الدين والدنيا. قال عبد الرحمن ووافقه أمير المؤمنين: [وَتَخْلُصَ لأهلِ الفِقْه وأشرافِ الناس وذَوِي رَأْيِهِم]، وقال:[فَيَعِي أهلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا على مَوَاضِعِهَا].
2- إن عمر لم يأخذ برأي أهل الأمصار في مكة، ولم يُقِم لِرأيهم وزناً، قال: [إن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم].
3- فهل صودرت الديموقراطية الغربية بحجب رأي قطاع كبير من الشعب، ومنع تصويتهم على اصطلاح الديموقرطية؟! وهذا دليل على أن الديموقرطية مسلك ضرره أكثر من نفعه. قال: [وأنا أخشى أن تقومَ فتقولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عنكَ كُلُّ مُطَيرٍ، وأن لا يعُوها، وأن لا يَضَعُوها على مَوَاضِعِهَا]، وقال: [يغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطير بها كل مطير].
سابعاً: أهمية البطانة والمقربيبن، فإن لكلٍ بطانة:
1- الأمراء والولاة لهم بطانة ومقربون ومؤثرون في صنع القرار وإدارة البلاد .
2-العلماء والمشايخ لهم بطانة من أقرانهم أوتلاميذهم، وبعض أؤلئك التلاميذ له دور في اختيار الكتاب والنهج الذي يقرره ويقرأه الشيخ على تلاميذه، ويفرض على باقي التلاميذ تدريسه، وقد وُجِدَ لبعض المشايخ تلاميذ دسوا كتباً للشيخ والتلاميذ حتى انحرفوا عن الطريق، وبعض التلاميذ من بطانة الشيخ يمارس تأثيراً للتقليل من شأن شيخه، فيروج لأي زلة للشيخ، دون علم الشيخ أو حتى نصحه، لكي ينْفَضَّ الناس من حوله، وبعض المشايخ لا يَتَنبَّه لهذا، لأثر الملازمة وعامل الأُلْفَةِ .
3- وبعض الناس له بطانة من أصحابه، لا يخرج عن دينه وطريقته، فيعيش حياته تبعاً لحياة غيره.
4- والزوجة بطانة لزوجها، ونرى بعض الأزواج لا يخرج عن مراد بطانته، ولا يحرك ساكناً دون علم الزوجة، فحثما وُجِّه تَوَجَّه، ومع مرور السنوات ألف تلك الحياة وأصبح لا ينكرها .
ولذلك نجد أن كثيرا من الولاة يقع تحت تأثير بطانته، و كذا بعض المشايخ واقع تحت تأثير تلميذه، ومثله الزوج واقع تحت تأثير يطانته من زوجة وولد.
قال عمر: لأَقومَنَّ في أول مقام أقومه بالمدينة
قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العَشّية مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر علي وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون، قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، [فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها؛ فلا أحل لأحد أن يكذب علي ].
قال الحافظ في »الفتح« (12/155): وفيه الحث على تبليغ العلم، ممن حفظه وفهمه وحَثَّ من لا يفهم على عدم التبليغ الا إن كان يورده بلفظه ولا يتصرف فيه.
ثامناً: الرعاع والغوغاء هم وقود الفوضى:
أيها الناس! من أجل الحفاظ على مصالح الأمة فإن من أعظم الواجبات التنبيه إلى أن الرعاع والدهماء هم سبب الفوضي في كل زمان ومكان، فهناك من يبعث الفتنة، ثم يثير عامة الناس ليكونوا وقودا لإشعالها، وما هذه الدعوات، وهذا الانفلات الذي نراه هنا وهناك، كالخروج إلى الشوارع وأقامة المظاهرات والإضرابات والإعتصامات، إلا من جنس مايفعله الخوارج، وهي دعوة صريحة لضياع مصالح العباد، ونَزعٌ لِهيبة البلاد، وذهاب لحقوق الخلق، فإذا لم يوضع حدٌ لمثل هذه الفوضى، التي يقودها أُناسٌ ليسوا من ذوي الرأي والعلم والحكمة، فالأمر يتجه إلى زعزعة الأمن حتى ينتهي بالدول والأمم إلى الانهيار والسقوط والدمار، ، ولذلك تَنَبَّه الصحابة في العهد الأول كما في الحديث ، فكان الانتقاء لأهل الرأي والعلم، فجعل الأمر إلى كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة، ولم يثار الأمر مع الذي جاؤا من الأمصار المختلفة، فوضع الأمر في نصابه، وبيد أهله، حفاظاً على العقول والدين والأنفس والأعراض والأموال وضروريات الحياة، والحمد لله رب العالمين.
لقد وُهِبَ الإنسان أشياء كثيرة في حياته، وَ مما وُهِبَ أمران، فقد أنعم الله عليه عقلاً مستقلاً، ومنحه آلَةَ كيفية الاستفادة من عقول الآخرين، دون مصادرة لعقله واهداره، و المتتبع لأحوال الناس من أمراء و ولاة وعلماء ومشايخ وعامة الخلق يجد أن كُلاً من هولاء له علاقات، ومقربين وبطانة وخلان وأصحاب، يلحَقه تَأَثُّرٌ بالأقوال والأفعال لأولئك المقربين من الجلساء والخلان والأصحاب، وانتقالٌ للطباع والسلوك بصورة لافتة، حتى أنك تلاحظ ذلك التأثير المسلكي قد يصل بصاحبه إلى تقليد اللهجات، وقد يبلغ به إلى محاكاة تاماة، ومشابهة مطابقة عند بعض الناس، وهذا التقليد في الأقوال والأفعال؛ إما متبادل بين الطرفين، أو تأثير من أحد الجانبين، فجهة مُوَجِّهة والأخرى مُسْتقبلة لكلِّ شئ دون تمييز بين الخير والشر، أو تمحيص للحق من الباطل، وهذه العلاقة إما تنتهي باتفاق أو إلى افتراق، فعندما تنتهي رحلة الدنيا بإزالة الغطاء عن كل الأمور، وبيان المستور، فلا محالة أن الأمور تصير إلى محبة مطلقة أو عداوة مطلقة، ولهذا قال تعالى: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]. فعلاقة أهل الديانة والتقوى تُبْنَى على الصِّدق والدَّعوة للخير،لا يعرفون ولا يحبون العلاقات المشوبة بالغدر والخيانة، ولذلك عندما تستبين الأمور ويكشف عما في الصدور؛ يقول تعالى على لسانهم: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَال الذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[البقرة: 166-167].
[فوائد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما]
روى البخاري (3928، 6830، 7323) في »صحيحه« من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجةٍ حجها؛ إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان؟ يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فَلْتَةً فتَمَّت، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائمٌ العَشِيَّة في الناس فمُحذِّرَهم هؤلاء الذين يريدون أن يَغْصِبوهُم أُمورَهم، قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغاءَهُم، فإنَّهم هُمُ الذين يَغلِبُونَ على قُرْبِكَ حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقومَ فتقولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عنكَ كُلُّ مُطَيرٍ، وأن لا يعُوها، وأن لا يَضَعُوها على مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حتى تَقْدَمَ المدينة؛ فإنها دَارُ الهِجرَةِ وَالسُّنةِ فَتَخْلُصَ بأهل الفِقه وأشرافِ النَّاسِ فتقول ما قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أهلُ العِلمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا على مَوَاضِعِهَا، فقال عمر: أمَا والله - إن شاء الله - لأقُومَنَّ بذلك أوَّل مقامٍ أقومُهُ .
وفي رواية في »الصحيح«: فقال عمر: لأقُومَنَّ العشيَّة، فأحذّر هؤلاء الرّهط الذين يريدون أن يغصبوهم، قلت: لا تفعل فإن الموسم يجمع رَعَاعَ الناس، يَغْلِبونَ على مَجلِسِكَ، فأخاف أن لا يُنْزِلوها على وَجْهِها، فيَطِيرُ بِها كُلُّ مَطِيرٍ، فأمْهِل حتى تَقْدَمَ المدينة؛ دار الهِجرَةِ، ودار السُّنة؛ فَتَخْلُصَ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك وَيُنْزِلوها على وَجْهِها، فقال: والله لأّقُومَنَّ به في أولِ مقامٍ أقومُهُ بالمدينة .
وفي رواية في »الصحيح«: فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم، وإني أرى أن تمهلن حتى تَقْدَمَ المدينة؛ فإنها دارُ الهِجرَةِ، والسُّنةِ، والسَّلامةِ، وَتَخْلُصَ لأهلِ الفِقْه وأشرافِ الناس وذَوِي رَأْيِهِم، قال عمر: لأَقومَنَّ في أول مقام أقومه بالمدينة. وهذا الحديث ذكره البخاري في »صخيحه« في كتاب مناقب الأنصار والاعتصام بالكتاب والسنة - باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم.
أولا: قيمة أهل العلم والرأي في المشورة:
كان للصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه موقف ورأي، ونصح صائب للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحج، عندما همَّ عمر بالنيل من أقوام في مكة، تكلموا وخاضوا في أمر الخلافة والولاية .
ثانياً: مناقب عمر بن الخطاب:
ومنها قبول أمير المؤمنين وموافقته رأي ونصح عبد الرحمن بن عوف، لصواب ما قاله، ومن مناقبه ما رواه البخاري في »صحيحه« (7286) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، في حديث طويل.. فغضب عمر، حتى هَمَّ بأن يقع به، فقال الحُرُّ: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿خُذْ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الجَاهِلِينَ﴾، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله.
ثالثا: وجوب مناصحة ولاة الأمر من الأمراء والعلماء:
ويكون النصح بضوابط كما ناصح ذلكم الصحابي الجليل؛ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، دون علم من الرعاع والغوغاء، وبعيداً عن أعين الدهماء وأسماع عوام الناس، ولذلك لم يُنْقَل انتشار خبر هذه المناصحة بين حجَّاج مكة، الذين جاءوا من أنحاء البلدان الإسلامية، لأن من النصائح (ما يكون أمام الناس)، أو بأسلوب فظ مما يدفع المنصوح للإعراض وعدم القبول، فالواجب اللين في التعامل مع المؤمنين، لا بالغلظة والفظاظة التي تُنَفِّرُ الناسَ عن دين الله، قال تعالى في وصف رفق نبيِّه وتعامله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[ال عمران : 159]، وقال تعالى: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[التوبة : 128].
رابعاً: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:
ودليله ترجيح أمير المؤمنين وكبار الصحابة باحتمال المفاسد التي وقعت في مكة، وتأجيل تحصيل المصالح حتى العودة إلى دار الهجرة والسنة والسلامة .[فقال عمر: لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم. قلت (عبدالرحمن بن عوف): لا تفعل، فإن الموسم يجمع رَعَاعَ الناس، يَغْلِبونَ على مَجلِسِكَ، فأخاف أن لا يُنْزِلوها على وَجْهِها، فيَطِيرُ بِها كُلُّ مَطِيرٍ، فأمْهِل حتى تَقْدَمَ المدينة؛ فقال عمر: أمَا والله - إن شاء الله - لأقُومَنَّ بذلك أوَّل مقامٍ أَقُومُهُ بالمدينة].
خامساً: منهج الصحابة في المناصحة:
1- وجوب التناصح في وجود أهل الرأي والفقه والعلم. قال: [وَتَخْلُصَ لأهلِ الفِقْه وأشرافِ الناس وذَوِي رَأْيِهِم]، وقال:[فَتَخْلُصَ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها].
2- لا يشارك في المشورة من لا علم له ولا رأي.
3- بيان أن النصيحة والمشورة لا تكون أمام العوام، قال: [ يا أمير المؤمنين إن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم].
4- اختيار صاحب الرأي السديد، الذي لا يفشي سراً، ولا يكشف ستراً، ويكون مشفقاً حريصاً على بلوغ الحق مكانه. لقوله: [ فَيَعِي أهلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا على مَوَاضِعِهَا].
5- لا تناصح أمام من لا يفقه معاني الكلام وقيمة النصيحة، فتُحْمل على غير مرادها، قال عبد الرحمن بن عوف لعمر: [ فإن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم، فإنَّهم هُمُ الذين يَغْلِبُونَ على قُرْبِكَ حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقومَ فتقولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عنكَ كُلُّ مُطَيرٍ، وأن لا يعُوها، وأن لا يَضَعُوها على مَوَاضِعِهَا]، وقال: [يغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطير بها كل مطير].
6- اختيار المكان الذي يؤمن فيه من الفتن، قال: [فأمْهِل حتى تَقْدَمَ المدينة؛ فإنها دارُ الهِجرَةِ، والسُّنةِ، والسَّلامةِ]، وقال: [فتقول ما قُلْتَ مُتَمَكِّنًا].
سادسا: العمدة لأهل الحل والعقد ولا رأي لغيرهم:
1- لقد أولى الخليفة عمر وعبد الرحمن بن عوف الاهتمام بأهل العلم وذوي الرأي بجعلهم أصحاب المشورة، فلم يخطب بجموع الناس في مكة في هذه القضية، [إن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم]، وجعل كلمته في الخاصة الذين يعقلون شؤون الدين والدنيا. قال عبد الرحمن ووافقه أمير المؤمنين: [وَتَخْلُصَ لأهلِ الفِقْه وأشرافِ الناس وذَوِي رَأْيِهِم]، وقال:[فَيَعِي أهلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا على مَوَاضِعِهَا].
2- إن عمر لم يأخذ برأي أهل الأمصار في مكة، ولم يُقِم لِرأيهم وزناً، قال: [إن الموسم يَجْمَعُ رَعَاعَ الناسِ وَغَوْغَاءَهُم].
3- فهل صودرت الديموقراطية الغربية بحجب رأي قطاع كبير من الشعب، ومنع تصويتهم على اصطلاح الديموقرطية؟! وهذا دليل على أن الديموقرطية مسلك ضرره أكثر من نفعه. قال: [وأنا أخشى أن تقومَ فتقولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عنكَ كُلُّ مُطَيرٍ، وأن لا يعُوها، وأن لا يَضَعُوها على مَوَاضِعِهَا]، وقال: [يغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطير بها كل مطير].
سابعاً: أهمية البطانة والمقربيبن، فإن لكلٍ بطانة:
1- الأمراء والولاة لهم بطانة ومقربون ومؤثرون في صنع القرار وإدارة البلاد .
2-العلماء والمشايخ لهم بطانة من أقرانهم أوتلاميذهم، وبعض أؤلئك التلاميذ له دور في اختيار الكتاب والنهج الذي يقرره ويقرأه الشيخ على تلاميذه، ويفرض على باقي التلاميذ تدريسه، وقد وُجِدَ لبعض المشايخ تلاميذ دسوا كتباً للشيخ والتلاميذ حتى انحرفوا عن الطريق، وبعض التلاميذ من بطانة الشيخ يمارس تأثيراً للتقليل من شأن شيخه، فيروج لأي زلة للشيخ، دون علم الشيخ أو حتى نصحه، لكي ينْفَضَّ الناس من حوله، وبعض المشايخ لا يَتَنبَّه لهذا، لأثر الملازمة وعامل الأُلْفَةِ .
3- وبعض الناس له بطانة من أصحابه، لا يخرج عن دينه وطريقته، فيعيش حياته تبعاً لحياة غيره.
4- والزوجة بطانة لزوجها، ونرى بعض الأزواج لا يخرج عن مراد بطانته، ولا يحرك ساكناً دون علم الزوجة، فحثما وُجِّه تَوَجَّه، ومع مرور السنوات ألف تلك الحياة وأصبح لا ينكرها .
ولذلك نجد أن كثيرا من الولاة يقع تحت تأثير بطانته، و كذا بعض المشايخ واقع تحت تأثير تلميذه، ومثله الزوج واقع تحت تأثير يطانته من زوجة وولد.
قال عمر: لأَقومَنَّ في أول مقام أقومه بالمدينة
قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العَشّية مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر علي وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون، قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، [فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها؛ فلا أحل لأحد أن يكذب علي ].
قال الحافظ في »الفتح« (12/155): وفيه الحث على تبليغ العلم، ممن حفظه وفهمه وحَثَّ من لا يفهم على عدم التبليغ الا إن كان يورده بلفظه ولا يتصرف فيه.
ثامناً: الرعاع والغوغاء هم وقود الفوضى:
أيها الناس! من أجل الحفاظ على مصالح الأمة فإن من أعظم الواجبات التنبيه إلى أن الرعاع والدهماء هم سبب الفوضي في كل زمان ومكان، فهناك من يبعث الفتنة، ثم يثير عامة الناس ليكونوا وقودا لإشعالها، وما هذه الدعوات، وهذا الانفلات الذي نراه هنا وهناك، كالخروج إلى الشوارع وأقامة المظاهرات والإضرابات والإعتصامات، إلا من جنس مايفعله الخوارج، وهي دعوة صريحة لضياع مصالح العباد، ونَزعٌ لِهيبة البلاد، وذهاب لحقوق الخلق، فإذا لم يوضع حدٌ لمثل هذه الفوضى، التي يقودها أُناسٌ ليسوا من ذوي الرأي والعلم والحكمة، فالأمر يتجه إلى زعزعة الأمن حتى ينتهي بالدول والأمم إلى الانهيار والسقوط والدمار، ، ولذلك تَنَبَّه الصحابة في العهد الأول كما في الحديث ، فكان الانتقاء لأهل الرأي والعلم، فجعل الأمر إلى كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة، ولم يثار الأمر مع الذي جاؤا من الأمصار المختلفة، فوضع الأمر في نصابه، وبيد أهله، حفاظاً على العقول والدين والأنفس والأعراض والأموال وضروريات الحياة، والحمد لله رب العالمين.