المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رفع الحيف بدحض مقولة انتشار الإسلام بالسيف



عمرو
07-21-2005, 04:58 PM
رفع الحيف بدحض مقولة انتشار الإسلام بالسيف

محمد حسن يوسف

في هذه الآونة التي تكالب فيها الجميع على الإسلام، للنيل منه والحط من شأنه والتلبيس على الناس أمور دينهم، يكثر من يردد مقولة أن انتشار الإسلام إنما تم بفعل السيف، يريد بذلك أن يؤكد على عدم وضوح براهينه ودلائله، وأنه بذلك ليس سوى دين يخضع لسلطان ملك جبار أظهره على الناس بسيفه، وليس دينا منزلا من عند الله على رسول كريم لكي يهدي به الناس أجمعين!!

والمتأمل في هذه المقولة يجد أنها ليست بجديدة، بل هي مقولة قديمة، أطلقها أهل الكتاب من قبل لما رأوا سرعة انتشار الإسلام شرقا وغربا، واتساع رقعة الدولة الإسلامية في سنوات معدودات لتبسط نفوذها وسلطانها على مساحة شاسعة من الأرض المعمورة، فأظهروا ما في أنفسهم من غل وحقد، وأرادوا الكيد لذلك بإطلاق تلك المقولة، والتي حكاها عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه " الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح " عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات وأتم التسليم.

وواقع الأمر أنك حينما تسمع هذه المقولة، تجد أن الجميع ينساقون للرد عليها بالتفنيد وأن الإسلام دين سلام لم ينتشر بالسيف وإنما انتشر بالحجة والبرهان. وهذا هو بالضبط ما يريده أعداء الإسلام منا. فهم يريدون إسقاط فريضة هامة في ديننا، ألا وهي فريضة الجهاد. ويريدون منا النظر إلى هذا الركن الهام من ديننا نظرة شك وازدراء، فهو السبب وراء تلك المقولة التي يطلقونها. ولكن حقيقة الأمر ليست كذلك.

ففي واقع الأمر أن الإسلام قد انتشر بالسيف، ولكن بجانب الحوار والحجة والبرهان. فلم يكن السيف مسلطا على رقاب العباد: إما الإسلام وإما القتل. ولكي نفهم ذلك، دعني بداية اضرب لك مثالا من واقع الحياة قد شاهدته وعاينته بنفسك. فهب أنك أقرضت شخصا ما مبلغا من المال. ثم جئت تطالب هذا الشخص برد ما سبق وأن اقترضه منك. فرأيت منه صدودا وإعراضا!! فإما أن تتركه يأخذ مالك ويمضي، وإما أن تبحث لك عن سبيل لكي تسترد منه المال المسلوب.

فإذا لجأت للشرطة واستعنت بها على استرداد حقك، فهل تكون في هذه الحالة ظالم لهذا الشخص للاستعانة بالشرطة عليه؟ أليس هو الذي ألجأك لهذا الأمر بمماطلته وتسويفه وعدم إرادته لدفع ما عليه؟!!
ونفس الأمر على الصعيد الدولي. فحينما اعتدى صدام العراق على دولة الكويت، أدان العالم بأسره ذلك العدوان، وأصدر مجلس الأمن قراراته التي تقضي بخروجه منها. فلو لم يحشد العالم جميعه قواته لإجباره على الخروج، هل كان ليخرج بمجرد صدور تلك القرارات؟!! وكذلك الحال بالنسبة لإسرائيل! فقد أصدر مجلس الأمن ركاما ضخما من القرارات التي تدينها وتقضي بردها للأراضي التي سلبتها. فهل استجابت لتلك القرارات؟ وهل كان الأمر سيختلف لو كان مع المسلمين القوة الكافية التي تجبرها على تنفيذ هذه القرارات؟!!

والآن ننتقل بالبحث إلى مرحلة أخرى: فالناس أمام دعوة الحق صنفان. الصنف الأول ينشد الحق ويذعن له، فإذا ظهرت له أدلته انقاد لها والتزم بها. فهذا الصنف تستخدم معه الحجج والبراهين والأدلة، التي إذا ما عُرضت له، فإنه يستجيب لها ويعمل بها. أما الصنف الآخر، فهو معاند مكابر لا يريد الهدى ولا يلتزم به إذا عرفه. فهذا الصنف لا علاج له إلا بالسيف لكي يذعن للحق وينقاد له.

ثم نخطو بالبحث إلى مرحلة جديدة: إنك لتسمع عن زعماء العالم والمحركين لدفته. هؤلاء الحكام يقفون حجر عثرة في سبيل انتشار المبادئ التي جاءت بها الرسالات السماوية التي نزل بها الوحي من عند الله سبحانه وتعالى لرحمة البشر وإسعادهم وتنظيم حياتهم. وهؤلاء الحكام يستطيعون – بما يملكون من قوى البطش وأدوات التنكيل ووسائل إعلام – أن يدفعوا شعوبهم للوقوف معهم في نفس الخندق للتنكيل بمن يدعوهم إلى الالتزام بشرع الله.

ذلك أن شريعة الله تجعل الناس متساوين تماما كأسنان المشط، وهو ما ترفضه هذه الطبقة الحاكمة. كما أن شرع الله يجعل الحكم لله، ويسلب الإنسان حق تشريع القوانين وفقا لأهوائه، ويجعل هذا الحق لله وحده. وهذا ما يرفضه طواغيت الأرض الذين يريدون تعبيد الناس وفقا لأهوائهم وشرائعهم المنكوسة.

فماذا يكون السبيل إذن؟ واقع الأمر أننا نجد أنفسنا أمام أحد أمرين: أما أن نترك هؤلاء لطمس جميع الحقائق، والتحكم بأهوائهم في مصائر العباد، بحيث يمنعوا دين الله أن يظهر وكلمته أن تعلو. والأمر الآخر هو أن يقوم المسلمون بقتالهم بكل عنف وشدة وضراوة بما يتناسب مع مدى جرمهم، حتى يلينوا لدين الله ويخضعوا لسلطانه ويذلوا لعظمته.
وهكذا فإن الإسلام لم يستخدم السيف مباشرة لإخضاع جميع البشر. وإنما كان ذلك وفقا لمنهجية محددة التزم بها المسلمون الأوائل ونفذوها حرفيا، فما كان نتيجة ذلك إلا انتشار الإسلام في زمن قياسي ليعم أرجاء المعمورة.

وننتقل الآن إلى معالجة أخرى للقضية. حيث نريد أن نعرف ما هي الأسباب التي دفعت المسلمون للانسياح في الأرض لنشر دين الإسلام فيها؟ وفي الواقع يأتينا الرد على ذلك من ربعي بن عامر أثناء مقابلته لرستم القائد الفارسي. حيث سأله: ما جاء بكم؟ فكان رد ربعي بن عامر عليه: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.[1] إذن فالهدف الأساسي وراء حروب المسلمين كان نشر دين الله والتمكين له في الأرض.
ومن ناحية أخرى، فلقد كان لانتشار الإسلام كدين على وجه الأرض أسباب أخرى. وبداية أود تقرير حقيقة هامة، وهي أن أمور العقيدة من أخطر الأمور التي لا يمكن لها الانتشار بالسيف. فالسيف المسلط على رقاب البشر لا يمكن أن يكون هو السبب وراء انتشار عقيدة ما، أيا كانت، في نفوس البشر المهزومين. بل العكس هو الصحيح، أي أن استخدام القوة لنشر العقيدة لا يأتي إلا بالنتائج العكسية والنفور من هذه العقيدة كما هو معروف للجميع.

إذن ما الذي أدى لانتشار الإسلام في البلاد المفتوحة؟ ويأتينا الرد على هذا التساؤل في هذه المرة من عالم مسيحي، هو: " كيتاني " في كتاب سير توماس أرنولد المعنون " الدعوة إلى الإسلام "، إذ يقول: إن انتشار الإسلام بين نصارى الكنائس الشرقية إنما كان نتيجة شعور باستياء من السفسطة المذهبية، التي جلبتها الروح الهيلينية إلى اللاهوت المسيحي، لأنها أحالت تعاليم المسيح البسيطة السامية، إلى عقيدة محفوفة بمذاهب عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات، مما أدى إلى خلق شعور من اليأس، بل إلى زعزعة أصول العقيدة الدينية ذاتها. فلما أهلت آخر الأمر أنباء الوحي المحمدي من الصحراء، لم تعد تلك المسيحية الشرقية، التي اختلطت بالغش والزيف، وتمزقت بفعل الانقسامات الداخلية، وتزعزعت قواعدها الأساسية، واستولى على رجالها اليأس والقنوط، من مثل هذه الريب، لم تعد المسيحية بعد ذلك قادرة على مقاومة إغراء هذا الدين الجديد.[2]

ومن الأهمية بمكان، توضيح أن المال لم يكن يشكل أي هدف للفاتحين المسلمين. ذلك أنه قد يتطرق للنفس أن المال ربما يكون أحد الأسباب التي دفعت المسلمين للقيام بفتوحاتهم. ولكن الإجابة على تلك الخاطرة تأتي من أبو عبيدة عامر بن الجراح.
فيحكي لنا القاضي أبو يوسف في كتابه " الخراج ": لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم، وحسن السيرة فيهم، صاروا أشداء على عدو المسلمين وعيونا للمسلمين على أعدائهم، فبعث أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم – أي المسلمين – بأن الروم قد جمعوا جمعا لم يُر مثله، فأتى رؤساء أهل كل مدينة الأمير، الذي خلفه أبو عبيدة بن الجراح عليهم، فأخبروه بذلك، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب إلى كل والٍ ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها، يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي من الجزية والخراج.

فقد كانت جيوش المسلمين تعطي الأعداء الاختيار من بين ثلاثة بدائل: القبول بالإسلام، فإن أبوا فالنزول على حكم الإسلام ودفع الجزية ولهم العهد، فإن أبوا فالقتال. ويأتي خيار القتال لأن القائمين على أمر العدو لن يتركوا نشر الدعوة إلى الإسلام تمر بسلام في ديارهم. فيكون القتال للتمكين للدعوة الإسلامية. وإلا فلم يجبر المسلمين مطلقا أهل أي بلد على اعتناق الإسلام. أما خيار النزول على حكم الإسلام ودفع الجزية، فذلك لأن المسلمين سيقومون بحماية أهل هذه البلد من الأعداء المحيطين بهم. فلما رأى المسلمون عدم قدرتهم على دفع الأعداء المحيطين بالبلد الذي نزلوا فيه في ذلك الوقت، رأى أبو عبيدة أن يرد على أهل تلك البلد أموالهم التي أخذها من قبل، ليكونوا في حل من أمرهم. وهكذا نجد بوضوح جلي أن المسلمين لم يكن هدفهم جبي الأموال، وإلا فما كانوا ليردوا الأموال التي جاءت إليهم. وإنما كان كل ما يهدفون إليه هو نشر العقيدة الإسلامية في ربوع الأرض والتمكين لها.

كذلك فلم يكن هم المسلمين فتح البلاد. وإنما كان هدفهم التمكين لنشر الإسلام. والفرق بين الهدفين كبير. ويحدثنا التاريخ عن القائد قتيبة بن مسلم الباهلي، أحد قواد المسلمين الذين كانوا يقودون فتح بلاد ما وراء النهر، وانساب في الأرض حتى أوشك أن يصل إلى الصين. وحدث وهو يغزو سمرقند ويقاتل أهلها، أن دخل صفد من أعمالها بدون هذا التخيير بين الأمور الثلاثة. فشكوا إلى عمر بن عبد العزيز، وقالوا: ظلمنا قتيبة وغدر بنا فأخذ بلادنا. وقد أظهر الله العدل والإنصاف. وطلبوا أن يؤذن لهم ليقدموا على أمير المؤمنين ويبسطوا قضيتهم. فأذن لهم. ولما علم شكواهم كتب إلى واليه ذلك الكتاب:
إن أهل سمرقند شكوا ظلما وتحاملا من قتيبة عليهم، حتى أخرجهم من أرضهم. فإذا أتاك كتابي، فأجلس إليهم القاضي، فلينظر في أمرهم. فإن قضى لهم، فأخرج العرب إلى معسكرهم قبل أن يظهر عليهم قتيبة.
فأجلس الوالي لهم القاضي، فقضى أن يخرج العرب إلى معسكرهم، وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا، أو ظفرا عن عنوة. فقال أهل الصفد من سمرقند: بل نرضى بما كان ولا نحدث.[3]

كذلك كانت القوة الذاتية الكامنة في الإسلام من العوامل التي وقفت وراء انتشاره في أرجاء واسعة من المعمورة. وتتمثل هذه القوة الذاتية في الإسلام في بساطة مناسكه من صلاة وصيام وزكاة وحج، فضلا عن روعة حضارته من مساجد وعلوم وآداب. وكان الذي حمل لواء هذه القوة الذاتية للإسلام جماعات عديدة من التجار. وشارك التجار في هذا النشاط من الدعوة إلى الإسلام جماعات دينية اشتهرت باسم " الطرق الصوفية ". فكان هؤلاء التجار من غير المحترفين للدعوة أصلا، ولكنهم اجتذبوا الناس أينما حلوا إلى دينهم بالمثل الطيب والقدوة الحسنة. فكان التاجر المسلم مثالا للصدق والأمانة وسط البيئات التي تجول فيها للتجارة، وعضوا فعالا في رفاهية تلك البيئات وأهلها. وصار بهذا الخلق مثلا أعلى للداعية الإسلامي، وملجأ للناس يجدون عنده ما يهديهم إلى الدين الإسلامي وتعاليمه.[4]

إن من الصحيح أن المسلمين فتحوا البلاد بقوة جيوشهم وروحهم المعنوية، ولكن ليس من الصحيح أبدا أن المسلمين فتحوا القلوب بالقوة أيضا، لأن هذا من المحالات. بل فتحوا هذه القلوب بمبادئهم السمحة العادلة التي سبقتهم إلى قلوب الشعوب فرحبت بهم، وسهلت لهم شيئا من عناء الفتح، ثم أقبلت على دين الله ... الإسلام.[5]

ولتصوير ذلك أدق تصوير، نستمع إلى هذا الحوار التالي: فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: خرج جيش من المسلمين أنا أميرهم، حتى نزلنا الإسكندرية، فقال صاحبها: اخرجوا إليّ رجلا منكم اكلمه، ويكلمني، فقلت: لا يخرج إليه غيري، فخرجت ومعي ترجمان، ومعه ترجمان، حتى وُضع له منبران، فقال: من أنتم؟ فقلنا: نحن العرب، ونحن أهل الشوك والقَرَظِ ( هو ورق أسود يستخدم في الدباغ وغيره )، ونحن أهل بيت الله، كنا أضيق الناس أرضا، وأشدّ الناس عيشا، نأكل الميتة، ويُغير بعضنا على بعض، بشرَّ عيش، عاش به الناس. حتى خرج فينا رجلا ليس بأعظمنا يومئذ شرفا، ولا أكثرنا مالا، فقال: " أنا رسول الله ". يأمرنا بما لا نعرف، وينهانا عما كنا عليه، وكانت عليه آباؤنا، فشَنِفنا له ( أبغضناه ) وكذبناه، ورددنا عليه مقالته، حتى خرج إليه قوم من غيرنا، فقالوا: نحن نصدقك ونؤمن بك، ونتبعك ونقاتل من قاتلك، فخرج إليهم، وخرجنا إليه، فقاتلناه فقتلنا، وظهر علينا، وغلبنا، وتناول من يليه من العرب، فقاتلهم حتى ظهر عليهم. فلو يعلم من ورائي ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم حتى يشرككم ما أنتم فيه من العيش. فضحك، ثم قال: إن رسولكم قد صدق. قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاءكم به رسولكم، فكنا عليه، حتى ظهر فينا ملوك، فجعلوا يعملون فينا بأهوائهم، ويتركون أمر الأنبياء، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم، لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه، ولم يتناولكم أحد إلا ظهرتم عليه. فإذا فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر الأنبياء، وعملتم مثل الذي عملوا بأهوائهم، خُليّ بيننا وبينكم، فلم تكونوا أكثر منا عددا، ولا أشد منا قوة. قال عمرو بن العاص: فما كلمت رجلا أَذْكَر ( أكثر رجولة ) منه.[6]

8 من جمادى الآخرة عام 1426 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 14 من يوليو عام 2005 ).


----------------------------
[1] البداية والنهاية لابن كثير، 7/32-33.
[2] نقلا عن: شبابنا وقضايا دينهم، عبد المنعم النمر، ص: 106.
[3] نظرية الحرب في الإسلام، الإمام محمد أبو زهرة، ص: 30، نقلا عن: الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج5 ص22.
[4] تاريخ العالم الإسلامي، إبراهيم العدوي. ص: 333.
[5] شبابنا وقضايا دينهم، عبد المنعم النمر، ص: 112.
[6] رواه الطبراني، وفيه: محمد بن عمرو بن علقمة، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ح [10383].