المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لمسات من العطف



السعادة في العبادة
06-18-2010, 10:01 AM
لمسات من العطف

خطبة للشيخ محمد مسعد ياقوت

القرآن الكريم، له لمساتٌ بارعة في العطف والحنو . يفيضُ بالحب والتحنن على القلوب المكروبة، والنفوس المكلومة، ويعملُ من ذي نفسه حثيثًا على تخفيف الجراحات التي التي يكابد قُرحها المؤمنون، ثم هو يعمل على بث الثقة في نفوسهم برَوْح الله.

لمساتٌ من العطف .. فهل مِن نموذجٍ لتلك اللمسات القرآنية ؟

سؤال نجيبُ عنه في رحاب آيات من سورة آل عمران إحدى الزهراوين اللتين تأتين يوم القيامة .

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

هاكم تلك الآياتِ المختارةَ – أيها الأحبة – تعمد إلى القلوب المهمومة، والنفوس التي أضنتها المصائبُ والبلايا، وتنثرُ عليها زخاتٍ من العطف والإشفاق.. ليكون القرآنُ شفاءً ورحمةً للمؤمنين، ودواء نفسانيًا، وعلاجًا روحانيًا أنجحُ من أي من الأدوية، إنه التِّرْياق الذي لا يعدله ترياق ..

وإلا، فقلي بربك، ماذا يعتريك حينما تستمع إلى آياتِ الله ، وفيها من مثل قوله : " لا تحزن"، " لا تك في ضيق"، " لا تبتئس"، "لا تيأسوا "، " لا تقنطوا"، " لا تهنوا "، " لعلك باخعٌ نفسك"، وقوله : " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا"، وقوله : " لم يمسسهم سوء"، وقوله : " فلا تخافوهم "، وقوله : " ولا يحزنك الذين يُسارعون في الكفر"، وغيرها من الألفاظ القرآنية، والعبارت الربانية الحانية، التي تنزل على القلوب المتعبة بردًا وسلامًا، فتستحيلُ فرحةً مستبشرةً، ملأها الثقةُ والرضا، بنعمة من الله وفضل، لا خوف ولا حزن .

دونكم الفكرةُ، وهاك التفصيلَ والشرح، فأعرني سمعك وقلبك .

***

"الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ "

هذه الآيةُ نزلت على المسلمين وهم في غاية الغم والهم، ذلك حينما عادوا من معركة أُحدٍ مهزومين، قد جرَعوا آلام النكسة حتى الثُّمالَةِ، قتل منهم سبعون، في غداة واحدة، ونال العدو من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فشجوا رأسه الكريمة، وكسروا رَباعيته، وهشموا أنفه، وأسالوا الدم من وجهه الشريف، ومثّلوا بجثث القتلى المسلمين، فقطعوا الآذان، وجدعوا الأنوف، وبقروا البطون، فما إن عاد المسلمون وقد نفضوا أيدهم من دفن الشهداء ، حتى أمرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للتجهز مرةً أخرى لملاقاة العدو، فقد وصلت الأنباءُ تفيدُ أن العدو قد ندم على عدم استباحة المدينة المنورة يومَ أحد، وهم الآن يفكرون في الهجوم على المدينة بغتةً، فخرج إليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو سيد الشجعان، كالغضنفر الثائر، ليُثنيهم عن هذا العزم،: و"ليرى الناسُ أنّ به وأصحابِه قوةً على عدوهم". كما أشار الإمام أبو جعفر الطبري<!--[if !supportFootnotes]-->[1]<!--[endif]--> .

قادَ الجيادَ إلى الطِّعانِ ولم يقُدْ ... إلاَّ إلى العاداتِ والأوطانِ

في جحفلٍ ستر العيونَ غُبارُهُ ... فكأنَّما يُبْصرنَ بالآذانِ

يرمي بها البلدَ البعيدَ مُظفَّرٌ ... كلُّ البعيدِ له قريبٌ دانِ

والطُّرْقُ ضَيَّقَةُ المَسالِكِ بالقَنا ... والكفْرُ مُجْتَمِعٌ عَلى الإيمان

خضعتْ لِمُنْصلكَ المناصل قوةً ... وأبذ دينُك سائرَ الأديانِ

بيد أن العقل يقولُ: كان علي المسلمين أن يستريحوا من عناء تلك الجولة المريرة حتى تُطبب جراحُهم، وتزول آلامهم، ولكنهم – رضوان الله عليهم – ، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فاستجابوا لله والرسول رغم هذا اللأَى، فقال الله تعالى وهو يمدحمهم ويُخفف عنهم ويعدهم بالأجر : "الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ "، ثم لعمرو الله كانت مفخرةً بعد ذلك، يعتز به المؤمنون، إذ امتاز الذين استجابوا من الذين تلكأوا، ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها – أنها قالت لعروة : كَانَ أَبَوَاكَ مِنَ { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ }، الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ – رضي الله عنهما – قالت : لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، قَالَ : "مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ ؟ "، فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً <!--[if !supportFootnotes]-->[2]<!--[endif]-->.

المؤمنون الواثقون، الذين أجابوا دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمواصلة النفير، من بعد ما أصابتهم الجراحاتُ والآلام، ونال منهم القرح- والقَرْحُ والقُرْحُ لغتان، بمعنى عَضُّ السلاح ونحوه مما يَجْرَحُ الجسدَ ومما يخرج بالبدن كما أن القَرْح بمعنى الآثارُ، والقُرْحُ هو الأَلَمُ نفسه- ، ورغم ما حصل لهم من التعب والهم الشديدين، للذين أحسنوا الطاعة منهم، ولبوا داعي الله، واتقوا ربهم في القوة والضعف، وفي العسر واليسر – أجرٌ عظيم، وثواب جزيل، جزاء تلك الاستجابة، فما أكرم َ الطاعة حينما تعز، وما أعظم ثوابَ العاملين رغم القرح.

وهم الذين بايعوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على السمع والطاعة، في الراحة والتعب، وأن ينشطوا للخير إذا دعوا إليه على أية حال كانوا، ففي الصحيح من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : قَالَ : بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ<!--[if !supportFootnotes]-->[3]<!--[endif]-->.



"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "

هؤلاء المؤمنون الذين استجابوا لدعوة رسول الله – صلى الله عليه والسلام – بالخروج مرةً أخرى بعد أُحد، جاءتهم الأخبارُ تقول : إن العدو قد جمع لكم العدةَ والعتاد لاستئصال المسلمين، إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم، وخافوهم، لكن المؤمنين يبلغون رسالات الله ولا يخشون أحدًا إلا الله، فلم يَكْتَرِثْوا لذلك التخويف، ولم يقعوا فريسةً في شراك الحرب النفسية، بل ثبتوا، ورسخوا، ومضوا لأمر الله، فزادهم إيمانًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وَإِنَّمَا زَادَهُمْ طُمَأْنِينَةً وَسُكُونًا "<!--[if !supportFootnotes]-->[4]<!--[endif]-->. نعم، زادهم ثباتًا إلى ثباتهم، وسكينةً فوق سكينة، وطمأنيةً في إثر طمأنينة، وفوضوا أمرهم إلى الله، وقالوا – في ثبات وثقة لهؤلاء المثبِّطين والمُخوفين- : الله كافينا كيدكم بما شاء وكيف شاء، ونِعْم الوكيل، الْحَافِظُ، المفوَّض إليه تدبيرُ الأمور، القائم على شؤون خلقه، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ؟ ويخوفونك بالذين من دونه. لا تخف ولا تكترث.



"حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " ، كلمةٌ لا تقوم لها شيء، وتهدُ الجبالَ هدًا، وهي مع ذلك كلِّه تسكبُ فيضًا من الراحة في القلوب، وهي شعارُ الأنبياء والصديقين وقت المحن والمدلهمات :

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)<!--[if !supportFootnotes]-->[5]<!--[endif]-->.

على قدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ ... وتأتي على قدْرِ الكرامِ المكارمُ

فتعظُمُ في عين الصَّغيرِ صغارُها ... وتصغر في عين العظيمِ العظائمُ



"فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ "

فرجع المؤمنون من تلك الأزمة، وقد صرفهم الله إلى بيوتهم آمنين مطمئنين بنعمة منه وفضل، إذ انتصروا على أعدائهم في تلك الحرب النفسية، ولَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، من جرح أو فقد، ولم يلاقوا ما يسوءهم، أمنةً منه .

وقد أصابوا بذلك رضوان الله، إذ خرجوا طائعين على ما أصابهم من القرح.

والله ذو فضل عظيم . ينصرُ عباده المؤمنين، ويدافع عنهم ويبث الرعب في قلوب أعدائهم .

ليت شعري، هكذا لما فوَّض المؤمنون أمرهم إلى الله متوكلين عليه، حينما رماهم الناس عن قوس واحدة، عاد المؤمنون سالمين:

1ـ بنعمة من الله

2ـ وفضل

3ـ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سوء

4ـ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ

وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : « يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ، هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ »، والحديث في الصحيحين<!--[if !supportFootnotes]-->[6]<!--[endif]-->.

وايم الله، إن التوكل، ملاذٌ للقلوب الخائفة ! قال الإمام السيوطي في " الديباج" : "حد التوكل ، الثقة بالله ، والايقان بأن قضاءه نافذ"<!--[if !supportFootnotes]-->[7]<!--[endif]-->. ويا ويح ذلك الذي يلوذ بكل باب، إلا بابَ الله .

ثم يمسحُ عليهم مسحةَ تطمينِ وتثبيت، لئلا يقلقوا من كيد الظالمين وأتباع الشيطان :

" إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"

لا تبالوا ! إنما ذلك التثبيط والتخويفُ مصدره الشيطانُ، الذي يعدكم الفقر والقرح والهزيمة، ويجعلكم تخافون أَولياءه من الكافرين والمنافقين، فالشيطان يُعظِّم من شأن أهل الباطل في نفوس المهاذيل، وينفشهم نفشًا، ويضخمهم تضخيمًا، فضعيفُ النفس يرى الظالمَ كالأسد الهصور، بينما يراه المؤمن الواثق كبعوضةٍ فما فوقها، أو كما ينظرُ السِّنَّوْرُ إلى الفُوَيْسِقَة المزهوةَ بنفسها، ونسيت أنها فأرة، والقرنبى في عين أمها حسنة .

فلا تخافوا أتباع الشيطان، الذين هم أصلاً فريسةُ إبليس، وخافوا الله رب العالمين، الذي بيده مقاليدُ النصرُ والتمكين .

"فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ " قال ابن القيم : "أفردوني بالمخافة أكفكم إياهم"<!--[if !supportFootnotes]-->[8]<!--[endif]-->، فمن خاف الله خوف الله منه أعداءه.

فإن كنتم مؤمنين؛ فلا يليق بكم أبدًا أن تخشوا سدنةَ الباطل، فضلاً عن سيدهم الشيطان .

وإن كنتم مؤمنين، فلا يحقُ لكم أن تُذعنوا لغير الله، ولا يجوز لكم أن تخضعوا لغير الله، فضلاً أن تخشوا أحدًا غيره، ولا سيما وهي مخلوقاتٌ من مخاليقه، وعبيدٌ من جملة عبيده.



"وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ "

وهذه لمسةٌ أخرى، لتلك القلوب المتحرقة خوفًا على دين الله، وتقول للمسلم الغيور الذي أضنته خططُ الكيد، ومكرُ والليل والنهار من شياطين الإنس والجن: لا تحزن على هؤلاء الذين يبادرون في الكفر سراعًا، وينتقلون فيه من كفر إلى كفر، ومن ظلم إلى ظلم، ويتحمسون في باطلهم، ويتهالكون في رفع راية الضلال، إنهم لن ينقصوا قدر الله بشيء، ولن يضروا الإسلام في شيء، إنما يسعون في إلحاق الضرر بأنفسهم، وإن ما أنفقوه وبذلوه في محاربة الحق، سيكون عليهم حسرةً ثم يُغلبون، فسيكفيكهم الله، وهو السميع العليم، قال تعالى : (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [سورة المجادلة آية: 21]، وقال – صلى الله عليه وسلم - : "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ "<!--[if !supportFootnotes]-->[9]<!--[endif]--> – والحديث في صحيح مسلم -، وقال – صلى الله عليه وسلم - : "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ " والحديث في مسند الإمام أحمد من حديث تميم الداري، وهو في السلسلة الصحيحة.



"يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " : لا يحزنك فعالُهم، ولا تبالي، وثقْ بنصر الله، ولا تك في ضيق مما يمكرون .

يريدُ الله ألا يجعل لهم نصيبًا من رحمته في الآخرة، وذلك بكفرهم وبظلمهم وبصدهم عن سبيل الله . وإنما حظهم في الآخرة هو العذاب العظيم الهائل .



" إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "

لا تبالي ! إن الذين باعوا الآخرة بالدنيا، والجنة بالنار، والإسلام بالكفر، والحق بالباطل، لن يضروا إلا أنفسهم، ولهم عذاب وجيع، شديد الإيلام .

لكأنما الذي يحارب الإسلام كما الذي ينفخ في الشمس بملأ ما فيه من قوة، يريد أن يطفئها، تالله إن الناس لو اجتمعوا في صعيد واحد ينفخون الهواء نحو الشمس ما حركها ذلك قيد أنملة، ولا الذي يحاربُ الإسلام!



"وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ "

وتلك لمسةٌ رفيقة تمسح على النفوس المكتوية ِبنار الظلم والظالمين، وتقول : اصبري أيتها النفوسُ المظلومة، غدًا أفضل بإذن الله، وإنما يؤخر الله الظالمين ليوم عظيم، وموقف مهيب، تشيب فيه الولدانُ، ويقول الكافر ياليتني كنت ترابًا ..

ولا يظنن الذين ظلموا؛ أن تأخيرنا لعقابهم<!--[if !supportFootnotes]-->[10]<!--[endif]-->، وتركهم يتمتعون بما لذ وطاب من صنوف اللذائذ في الحياة الدنيا - خيرٌ لهم، أو مكافئةٌ من الله لهم، بل هو شرٌ لهم، إذ ستطول أعمارُهم في المعصية، ويزدادوا إثمًا على إثمهم، ولهم عذابٌ يهينهم غاية الإهانة.

إنما يؤخرهم كما يؤخر القصابُ ذبيحته، ريثما تحملُ الشحم وتَسْمَنُ، غير أنهم كالناقة الحبوط، يأكلون حتى الموت، إنما يؤخرهم الله ليوم تشخص فيه الأبصار، (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) [سورة إبراهيم آية: 43]

وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – والحديثُ في الصحيحين -:" إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"<!--[if !supportFootnotes]-->[11]<!--[endif]-->.

لا يزال القرآن يسوقَ إلينا لمسات عطفه :

" مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ "

هكذا الدنيا، دار بلاء وابتلاء، (وَلا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، فما كان الله ليترك المسلمين على ما هم عليه من اختلاط المؤمنِ بالمنافق، والصادق بالكاذب، حتى يُعرفَ الطالحُ من الصالح، وذلك لا يكون إلا بمواقف الابتلاء، ومشاهد المحن، كما حدث في معركة أحد، حيث رجع المنافقون إلى المدينة تاركين المؤمنين في أرض المعركة للعدو، فامتاز المنافقون، وتطهر جيشُ المسلمين من الثلة الخبيثة .

"وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ "، فالغيب لا يعلمه إلا الله :

أَعْلَمُ ما فِي اليومِ والأمْسِ قَبْلَهُ... ولكنَّنِي عن عِلْم ما فِي غَدٍ عَمِ

فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ. . لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ

يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ. . لِيَوْمِ الحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ

وما كان الله، ليُخبركم بالغيب أو بما ستؤول إليه المعارك، وذلك من تمام البلاء .

ولكن الله يصطفى مِنْ أنبياءه ورُسُلِهِ، من يشاء، فيطلعهم على بعض الأمور الغيبية بإذن منه سبحانه، ولحكمة يعلمها هو .

فَآَمِنُوا بِاللَّهِ عالم الغيب والشهادة، وآمنوا برُسُلِهِ، فإنما هم أعلام الهدى الذين ابتعثهم الله لتبصير الناس، وإرشادهم لخيري الدنيا والآخرة.

وَإِنْ تُؤْمِنُوا بالله ورسله واليوم الآخر، وَإن تَتَّقُوا الله بالائتمار بأوامر، والانتهاء عما نهى، فَلَكُمْ عند الله ثوابٌ جليل، ومكافئةٌ كبيرة، وسعادةٌ خالدة، وحَبرةٌ تالدة، في جنةٍ عرضها السماوات والأرض. .

تلك آياتُ الله العبقة الندية بأحكامها وحكمتها:

تقول لك : وعد اللهُ سعادةً لا تنقطع، وأجرًا عظيمًا، لهؤلاء المُحسنين، الذين استجابوا لله والرسول، الذين يعملون رغم الإصابات، ويُجاهدون رغم الجراحات ..ثم إننا لعمرو الله لنغفل كثيرًا عن نعمة العافية، حيث العملُ القليل والصحة الموفورة.

ـ هذه اللمساتُ تقول لنا : حينما يجتمع الناس لإلحاق الضرر بعبد من عباد الله، وبينما هم يجدِّون في الكيد، وإيقاع الأذى به وهو يجدُّ في اللجوء إلى الله، وتفويض الأمر إليه، وقلبُه ولسانه عامران بذكر الله، إذا بالقوم ينقلبون مدحورين يجرون أذيال الهزيمة مرعوبين، وعبد الله عائدٌ إلى أهله لم يمسسه سوء، آمنًا مطمئنًا، متبعًا رضوان الله، يعلم أن الأمة لو اجتمعت لتضره بشيء لا تضره بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليه .

ـ تقول تلك اللمساتُ : إن الشيطان لا يألوا جهدًا في إلحاق الأذى النفسي بالمؤمنين، من إرهاب وإرعاب بالظالمين، إنه يخوف الناس بأوليائه، الذين يراهم المهاذيل شيئًا مرعبًا عظيمًا، بيد أن المؤمنَ ينظرُ إلى أولياء الشيطان كما ينظر الفيلُ إلى الهر الذي يحكي انتفاخًا صولة الأسد . فلا تخافوهم وخافوا الله رب العالمين.

ـ تقول لي ولك تلك اللمساتُ الحانية : لا تبتئس بكيد الكائدين، ولا الذين يُسارعون في الكفر ! ما أنفقوه لمحاربة الإسلام، وما بذلوه لصد الناس عن طريق الله، سيضيع هباءً منثورًا، وينقلبُ ما أنفقوه حسرةً في قلوبهم، ثم يُغلبون، ولا حظ لهم في الآخرة، ولهم عذاب عظيم.

ـ ألا فلتعلمي يا نفسُ إن إملاءَ الله للظالمين، ومدَّه لهم في سعة الدنيا، من المال والسطوة ـ ليس من الخير الذي يسوقه الله لبعض عباده، ، بل هو استدارجٌ إلى النار، واختِدَاعٌ إلى الفِخاخ، مثلما الفأرُ العصي الذي تضع له ما يحبه من طُعم في المصيدة .

وأخيرًا :

اعلم أن الله لا يترك فئةً مؤمنةً من دون تمحيص واختبار، حتى يميز الخبيث من الطيب، ويُظهر الجبانَ من الشجاع، والهالعَ من الصابر، والكاذبَ من الصادق، فإذا ما نزل البلاء، فانظر نفسك في أي الفريقين، وسل اللهَ العافيةَ والتثبيت، وفوّض أمرك إليه، وامض في طريقك لا تكترث بالأشواك، ولا تعبأ بأي من العقبات ما دمت متبعًا رضوان الله، ولا تحزن ولا تبالي ولا تبئس بأذى المؤذين، وتزود من القرآن الكريم بين الفينة والأخرى، من لمسات عطفه الحانية.

هشام الرابط
06-18-2010, 10:02 PM
بارك الله فيك