المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرات في الدين الخالص



الشيخ عبدالرحمن عيسى
06-23-2010, 01:11 AM
نظرات
في الدين الخالص
(( ألا لله الدين الخالص ))
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى ــ حلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وتمهيد :
لقد وصف الله سبحانه وتعالى , الإسلام الحق , بأنه الدين الخالص لله , أي الخالص من الشِيات والشوائب , وكل الثقافات , وكل الانطباعات , والخالصُ من المراءاة والمباهاة , والمتاجرة والبيع , والمداولةِ كالأسهم في البورصات , والاستعاضة عنه بالمِزاجيات والذوقيات , وتقديم الأولويات المذهبية والطائفية والعنصرية ..
المشكلة : أن الإسلام الحق والخالص , قد اكتسب عبر المراحل والقرون , سِـماتٍ وبصمات , من الداخلين فيه من الأمم الأخرى , ونشأت ناشئة الفِـرق الإسلامية , ذات المعتقدات والتصورات التي ليست منه في شيء , فأصبحت هذه المعتقدات والتصورات , واجهة أمامية لكل فرقة , وعناوينَ كبيرة , اختفى وراءها الإسلام الحق , والدين الخالص , وصدَق على المسلمين , أنهم فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً وأحزاباً , كل حزب بما لديهم فرحون ..
وهكذا تم عبور الأجيال إلى الإسلام , ولم يستمسك بالعُـروة الوثقى , ويعتصمْ بحبل الله , إلا مَنْ عصم الله , من المؤمنين الموحِّدين , والسالكين على درب النبي ومن معه من الصالحين ..
ويقول سبحانه : ( إن الدين عند الله الإسلام .. ) .
فالدين : ما يَدين به الإنسان , ويخضع له من معتقد وانتماء وولاء , في هذه الحياة , ويعتبره ضميرَه ووجدانـَه , ولا يرضى به عوضاً ولا بديلاً , فينفي سبحانه , أن يكون الدين بهذا المعنى , إلا على وَفق الإسلام الحق , الذي هو استسلام لأمر الله المحْض , وسلامٌ مع البشر والكائنات , دون كراهية وحقد وإيذاء .. ولذلك يقول سبحانه : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) .
فالدين : شعائر وعبادات والتزامات , والإسلام : سلوك وأخلاق , وقيم فاعلة في النفس والمجتمع , ورائدة في الحب والحرب , والخِصب والجدْب , والحكومة الربانية العتيدة ..
وإن مما تمتاز به هذه الأمة , أن لها وجهين : دين وإسلام , فالدين وُجْدانيات , والإسلام سلوكيات , في حين أن بقية الأمم , لها الدين فقط , المنسحب من الحياة , والموغل في الرهـْبنة , أو الواغل فيها بعنف وتزيُّـد , وعنصرية مفضوحة , وأساطير الأولين , اكتتبها أربابها من مخلفات الوثنيات القديمة !..
وما دام الأمر كذلك , فالدين لدينا : روح وحياة , والإسلام : إطار ومدار , وكيان مُفـْعم بالحياة الحية والنابضة , والنزعة الحضارية الناهضة .. والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم ..
عبد الرحمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
إماطة اللثام والغموض :
ولعلنا نريد بهذا البحث , أن نـُميط اللثام , قدر الجهد والمستطاع , عن ملامح ما يمكن أن يكون عليه التصور , لإسلام مستقبلي قادم غير بعيد , يقود المجتمع , وينقذ الأمة , ويحرر الأمم والشعوب , وينهي حالة الضياع والجور والظلم , التي تستبد بالعالم , وتحيل الحياة فيه , إلى كوارث وفظائعَ وأشلاء , وحمامات دماء .. مثلما نتصور أن هذا الإسلام المرتقب , يتعامل مع أعقد المشاكل والمشكلات , بديناميكية وآلية سمحة ومَرِنة , متـَّئدة غير متعجلة , ومركـَّزة غير مرتجَلة , ومتوازنة غير مختلة ولا منحازة ..
ولا يخفى أن التصورات حول هذا الإسلام , كثيرة ومتعددة , حسب الأمزجة والجماعة المتصوِّرة , وحسب الفكر المنقـِّب , وحسب المرجعية المعتمدة في هذا السياق , وفتاواها الجاهزة !.. والمرجعياتُ مختلفة ومتخالفة : فهناك مَنْ يرى العنف والتشدد , ومن يرى التكفير والردة , ومن يرى الحرب والتحدي , ومن يرى الطائفية والمذهبية , ومن يرى المهادنة والمداهنة , ومن يرى النفاق والذوبان في الأنظمة والسلطة , ومن يرى الانتقائية الممقوتة , ومن يرى الوعظ المجاني والرخيص , ومن يرى السير في ركاب الأقوياء والأعداء , ومن يرى التحديث والمعاصرة , ومن يرى الانسحاب والتواري والجمود ..
فهذا البحث يقدم رؤية وسطية حقاً , وتصوراً راسخاً , ويحمل بوادر صيغة إسلامية , تتسم بالواقعية المنطقية , وبالعملية الأصيلة , وبالطرح المتوازن , وبالاستراتيجية العالمية , وترتكز على الروح والمعنى والمضمون , ومقاصد الشريعة الحقة , وعلى الأساسيات والإنسانيات في هذا الدين , وتأخذ بأيدي الغرقى والمستغيثين , قبل البحث في هـُوياتهم وانتماءاتهم ..
الشريعة : مقاصدُ وقواعد :
من المؤكد بَـداهة , أن مقاصد الشريعة الغراء خمسة , وكل شيء في خدمتها ومصلحتها وصيانتها .. وهي : حفظ النفس والمال والعرض والعقل والدين ..
وأن هذه الضرورات الخمس , ليست مهددة فحسب , بل مقتحَمة ومجتاحة ومحطمة , ومآسي النفس والدين والعرض , والمال والعقل , أكبر من أن تسطر في كتاب , أو يحيط بها قلم وفكر , في هذه الدنيا المستباحة والذبيحة !..
ومما لا يخفى على المتابع من أهل الذكر , أن البشر في الأرض , من مسلمين وغير مسلمين , نساء ورجالاً وولداناً , هم في مأزق صعب , وأزمة حادة , وحصار يدفع بهم إلى الهاوية , وإلى مكان سحيق , ولا ينفع معهم ولا يجدي , إلا أسلوب الإغاثة والإطفاء والإنقاذ , والترفق والتيسير , ورفعُ الحرج والتعسير , والأخذ بمبدإ الضرورات الشرعية , وأحكام الاضطرار والمضطر , غير باغٍ ولا عاد ..
وإن الإسلام مسؤولية عن قناعة , وحرية عن وعي , وإجابة عن دعوة , وتراحم عن تعاون وألفة , ومنهج حياة وسلوك , عن قرار ورضى واختيار ..
وكما قال سبحانه : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيِّ ) . فلا إكراه في الدين , ولا عنف في الممارسة , ولا تشنج في التصور , ولا هرطقة ولا تنطع , ولا محدودية ولا حرفية في البلاغ والأداء , ومقاربةِ ما انحرف من أشياء وأشياء , فوق كل الصعُـد والأنحاء ..
ومن القواعد المقررة , والمقاصد المشروعة في الإسلام , أن المشقة تجلب التيسير , وإذا ضاق الأمر اتسع , وأن الدين يسر , ولن يشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه , فسددوا وقاربوا , والضرورات تبيح المحظورات , ولا ضرر ولا ضرار , وواجبٌ رفع الحرج , والعفو عما يشق الاحتراز عنه , وإرادةُ الله : التخفيفَ والرحمة , وإتمامَ النعمة ..
الإسلام والأوضاع الجديدة :
هذا وقد نجمت أمور وأوضاع عبر التاريخ , استوعبها الفقه الإسلامي والمجتهدون , والفقهاء الأمناء الحقيقيون , وهناك الآن , مبتدعات ومستحدثات , وأمزجة ومخترعات , أصبحت من ضرورات الحياة , ومستلزمات العيش , وفجرت مصائب وأوبئة , لم تكن قط في أسلافنا , فالتعامل مع كل ذلك , لا يكون إلا بدقة ورفق وموضوعية , وموعظة وأسوة حسنة نبوية , ودعوةٍ مفتوحة غير منغلقة , وتركيزٍ على الجوهر والمَخبر , لا على الظاهر والمظهر , ومسؤوليةٍ قيادية راحمة وعالمة , ومرجعيةٍ مقتدرة واحدة , تجمع الشمل , وتلم الشعْث , وتدني القاصي والمستنفـِر , وتـُطامن من المتأبيِّ والمستكبر , وتصبر على الجاهل , وتكشف المتلاعب بالدين والمتجاهل .. وتولي المرأة عناية خاصة , ترفع عنها أوزار هذه الحياة الفاجرة والظالمة !..
إن أخطر وأكبر عقدة تواجه الإسلام , هي قضية المرأة التي تتمتع بتأثير فاعل في المجتمع والدولة , والتعليم والأسرة , وقوة المشاركة والمنافسة , وضخامة المواهب والطاقات المتفجرة , وأصبحت المرأة غيرَ المرأة : طهارة وإثماً , بناء وهدماً , احتشاماً وسفوراً , وجهالة وعلماً ..
وغير المرأة من العقد والتعقيدات الراسخة والمتجذرة , والبدع والموبقات المهلكة , والفرص الإباحية المدمرة , وسهرات الليالي الحمراء والسوداء ..
أي أن الإسلام لدى عودته ومرجعيته , سوف يجد أنماط عيش وحياة : سياسية وأخلاقية واجتماعية , لم يعهدها من قبل , في كثافتها وصفاقتها , وتحديها للدين وللحق وللعدل , وعليه أن يتصدى لها , وأن لا يضيق بها , وأن تتراجع هي أمامه , لا أن يتراجع هو أمامها .. وأن يقوِّمها حتى تعتدل وتستقيم , وتعود كهيئتها يوم خلق الله السموات والأرض ..
وعظمة الإسلام الحق , تكمن وتظهر , في نوعية الاستيعاب والمعالجة , والمواجهة والمقاربة , والأولويات الصاعدة , والتأتيِّ المحبب , والحب الجامع والرائع , والرحمة الحانية والهادية والواسعة , التي تفتقدها المرآة , ويفتقدها المجتمع كله ..
ولا يغربن عن البال , أن امتلاك زمام المبادر والمباشرة , في منح ومشروعية هذه المعطيات والوعود والبشريات , لن تكون إلا بقيادة إسلامية محمدية عليا , تتمتع بالكفاءة الفذة , والمصداقية المطلقة , وتخضع لها كل المرجعيات الدينية , ودوائر الإفتاء والتنظير , في السياسة والمجتمع , ووسائل الإعلام , ورجالات الفكر والثقافة والتعليم ..
استدعاء الإسلام العظيم :
ولقد يقول قائل , من قاصري الفكر والنظر , أو من ملاحظي مآربهم وانتماءاتهم : إن الإسلام موجود , ما دامت المساجد عامرة بالناس والبنيان , والكعبة لا تكاد تتسع للطائفين والعاكفين , والشهادات العالية , مدلاة على الجدران والصدور , والمكاتب والمكتبات , تضيق بالأبحاث والعلوم , والكليات والثانويات الشرعية , تـُخرِّج المزيد من الشيوخ والمفتين , وطلاب العلم الطامحين , وعديمي التجربة الناضجة في الحياة !..
وهم لا يتصورون أن يتعدى الإسلام هذه الإشارات والحدود , على حين تبقى شؤون الحياة العليا والدنيا , في قبضة الكافرين والظالمين والمنافقين , أعداء الله والإنسانية والدين ..
ونساءُ كثيرٍ من الأمة , ضحايا السفور والفتنة , والإباحية الجنسية الصاعقة , والعبثِ بكل شيء , وبأنوثة المرأة , وبراءة الأطفال , وعقول الرجال ..
إذن البحث يدور حول استدعاء الإسلام الحق , الذي يحررنا من كل هذه الطقوس الشيطانية , والموبقات والرهبانية , ويجمع شملنا بنبينا وقرآننا , بعد البعد والقطيعة , والإدبار عن الله وعن الشريعة , ويعيد إلينا اعتبارنا , وحقوق وجودنا الحضاري الفاعل في هذه الحياة ..
وطبيعي جداً , أن الذين يعيشون على ضفاف هذا الواقع المتفسخ والآسن , لا يريدون أن يكون للإسلام الحق , حضور حقيقي , وتغيير جوهري , في حياة المسلمين الراهنة , لسبب ظاهر وغير خفي , فإنهم يعلمون أن التغيير يَذهب بهم , ويُلغي دوْرهم , فلا تجد فيهم من ينتظر فرجاً , أو يرتقب تغييراً , بل هم أعداء ذلك , لأن ما هم فيه , من بحبوحة العيش , ويسر ورخاء , وقضاء الحاجات جميعاً , هو الفرج بعينه , وسواه كرب وبلاء وخسارة , إذا كان يجعلهم عبيداً , يجري عليهم ما يجري على العبيد , الصابرين المحتسبين !..
وأما المستضعفون والمظلومون , والمحرومون والمعذبون من هذه الأمة , فليذهبوا إلى الجحيم , ما داموا هم يملأون جيوبهم وبطونهم , ويتقلبون في أعطاف النعيم !.. ويبتزون الجاه الزائف , ويعيشون على الفتات المتساقط من موائد القادرين والظالمين ..
ما يفتقده العرب والعالم :
إن صيغة إسلامية حقيقية واقعية , مسؤولة على مستوى العرب والعالم , هي التي يفتقدها العرب والعالم , في هذه الأواخر المتأخرة من الزمن , الذي تراكمت وتفاقمت فيه الدواهي والفتن التي تزلزل العقول والعروش , وتـُذهل الحكومات والجيوش ..
وإن دعواتٍ مُعمَّمة , من قبل الموظفين الدينيين والمتصدرين , إلى ضرورة الرجوع إلى الدين , والأخذِ بالكتاب والسنة , وبسطَ القول في المثاليات , وتكرارَ المُسَلمات , والمواعظ المجانية , التي لا تسبب التزاماً ومسؤولية , هي كل ما يقدَّم إلى الأمة , التي لا تزداد إلا ذهولاً وضياعاً , وانهماكاً في الشهوات والدنيويات , والهزيل والساقط من الهمة والنيات ..
وإننا لنرى في واقعنا وحاضرنا العربي والإسلامي , ما هو ناطق بذلك , ومُصدِّر له , إلى درجة لافتة للنظر , مع فقدان عنصر الصدق والإخلاص , والورع عما لا يحل ولا يجوز , وشيوع أنماط عجيبة ومريبة , من المداهنة والنفاق , والرياء الفاضح , وبيع اللسان والقلم , والآيات والتاريخ , والملاحم النبوية الإسلامية , بأثمان بخسة , ودنيا حقيرة ..
والطبقات الحاكمة والنافذة , ومن معها من المترفين والمترهـِّلين , والعملاء والانتهازيين , نراهم يقللون من جدوى الإسلام , في الحياة العامة والمعاصرة , ودنيا السياسات والاستراتيجيات وأنه قاصر ومتقاصر عن الوفاء والإيفاء بالاحتياجات العربية الملحة , وليست فيه القدرة والمرونة على التحديث والمعاصرة , وأن مفرزات الغرب والأمريكان , أعلى كعباً منه , وأقدر على حل أزمة الأمة والعالم , وأن الإسلام الحق , عاجز عن إحداث تغيير في القيم العالمية السائدة ..
المرأة وحقيقة المشكلة :
ويجب التنبه والانتباه , إلى أن المشكلة ليست في الإسلام الحق , من حيث هو دين الله , واختياره للبشر , ولكن في عرض الإسلام , وانحلال عزيمة الداعين إليه واختلافهم , وتدنـِّي مستوياتهم , وعدم النية في تحمل المسؤولية , المترتبة على أهل العلم , وحملة الرسالة في ظاهر الأمر , وبادي الرأي .. حيث لا جـِدَّية في كل ذلك على الإطلاق ..
وكأن دين الله للبشر في آخر الدهر , لا يصلح لسرعة الصوت والضوء , وحضارة الكمبيوتر والتكنولوجيا , والليزر والأقمار الصناعية , والقنوات الفضائية , والعابرات للقارات , والأحدث والأخطر من الجرائم والإباحيات , وانفجار الثقافات ..
وهناك من يجادل بأن المرأة قد خرجت سافرة , إلى هذه الدنيا العريضة , وانخرطت في كل مجالاتها الصعبة والعسيرة , وقد صارت مثقفة ومتعلمة ورائدة , وزاحمت الرجال بالمناكب , وسبقتهم إلى كل المسؤوليات والمناصب , وصار حضورها المكثف , لا يمكن الاستغناء عنه , في كل المواكب والمواقع , وتفجرت فيها المواهب والطاقات والإمكانات ..
فنجد نساء عبقرياتٍ في الخير والشر , متفوقاتٍ في الحُلو والمر , ويَصنعن أمشاج هذه الحياة , بكل معطياتها وأبعادها , وما فيها من لأواء وبلاء , وشدائد الضراء ..
أضف إلى أن المرأة المعاصرة , اضطرتها الظروف القاهرة , إلى أن تكون معيلة بمفردها أو مع أبيها وزوجها , أو أولادها اليتامى .. الأمر الذي يؤكد أنها قد خرجت وتحررت , ولن تعود إلى بيتها كما كانت , وأن الفتيات الدارسات , أكثر من الفتيان الدارسين , وأن مسؤوليات النساء , قد تضاعفت أكثر من أي وقت مضى , وآل الأمر والحكم إليهن , في أكثر البيوت والحالات , وصرن حاكمات وقاضيات ومبدعات .. وسبقن الرجال , وعبثن بهم !..
فإذا كان الأمر كذلك , فماذا عسى يكون عند الإسلام , تـُجاه ذلك , إذا ما كان قد تسلم الزمام , في يوم من الأيام , وما هو فاعل في حرب النجوم والأقمار , والأفلام وأجهزة الإعلام , وأجهزة الأمن العام , وكبائر الخطايا والآثام ؟..
تساؤلات مشروعة :
فأنى للإسلام أن يكون له دور قيادي فاعل ومتفاعل , في فضِّ هذه التعقيدات والإشكالات , وهل سيعيدنا إلى ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا , وما هو صانع تجاه التفجر السكاني المرعب والمخيف , والتخطف العالمي العنيف , والمداخلات الخفية , التي اخترقت عظام الأمة , بكل قوة وجدية , فأصبح الواحد منا لا يعرف عدواً من صديق , وغامت الرؤية , وعَميت علينا الأنباء , وعَمي الطريق ؟!..
إننا إن أغمضنا أعيننا عن كل ذلك , كان مثلنا كالنعامة الحمقاء , أو كالمرأة الخرقاء, التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً وأشتاتاً , وعبثاً مميتاً , وكنا مخدوعين وربِّ الكعبة , وكان السراب والتباب مصيرنا , وضل سعينا , ونحن نحسب أننا نـُحسن صُنعاً , ونظن أننا أشد قوة , وأكثر جمعاً !.. وأننا أقرب إلى الله , مع تفاهتنا وسفاهتنا , وأننا عالة على الكافرين أعدائنا !!..
ولكن ومهما يكن من أمر , فهل تحول الموانع والذرائع , دون أمر الله إذا جاء , ودون إنجاز مشروع الإغاثة والعناية الإلهية , لإنقاذ العرب والإنسانية , من هذه الوثنية السياسية الفاضحة , والجاهلية بوجوهها المختلفة والكالحة , والفوضى التي تضرب أطنابها فوق كل أرض , وفي كل اتجاه ودرب , وتخلق واقعاً لا عهد لنا به من قبل ..
ولا ننكر وجود خلل وتخلخل وثـُغرة كبيرة , في كيان الخطاب الإسلامي المتداول الآن , كالعملة الورقية المهترئة , إذ هناك أكثر من خطاب مختلف , ومرجعياتٌ كثيرة ومتعددة الإشكال تقتسم المسلمين من عرب وغيرهم , وتشطرهم إلى مزيد من الولاءات والانتماءات , وتفسير الدين والتاريخ حسب ذلك كله , وحسبما يهوى ويشاء السادة الحاكمون , والغثائيون من الـنـُّخب المثقفين , وعُـشاق وعشيقات الفروج , ومُضلات الهوى العاري والمكشوف !..
واقع المرجعيات الدينية :
وهذه المرجعيات متخالفة ومتناقضة , وانتقائية وغوغائية , ومسيَّسة محلياً وقطرياً , وتلتفت بشدة وبحدة , إلى الناحية الدنيوية المعيشية , والمنافع العاجلة , والمكاسب والمناصب الموضوعة , وتحرص على أن تكون لها دنيا عريضة , وأرصدة وفيرة , وأن تحيا مُتـْرفة ومستريحة , وغير مسؤولة , وبعيدة عن هم الدين والدعوة , وتعمل بالحوافز المادية المُبتزَّة !..
وفي كل قطر من أقطار العروبة والإسلام , ترى شيوخاً متعممين , ومثقفين جامعيين , ومتخصصين في الشريعة والفتوى والدين , يقولون ما لا يفعلون , ويكتمون كثيراً من الحق والعلم وقد يتعاملون مع التراث والشريعة والمواعظ , بانتقائية ممقوتة , توافق الهوى والمصلحة الذاتية والمزاجَ السياسي والحكومي , والإعلامَ الغـُثائي والرسمي ..
وكل منهم يُدْلي بدلوه , ويعبر عن اعتقاده وظنه , وقد يداهن أولي الأمر , وينتقي لهم ما يشتهون : إيثاراً لدنياه , واتباعاً لهواه , ويرد على مَنْ سواه , فأنى لهؤلاء أن يشكلوا خطاباً إسلامياً جامعاً وكاملاً وقادراً على حمل أعباء الرسالة , وما يستدعيه واقع الأمة , من وجوب التدارك والتدخل السريع , ومواجهة محدثات البدع والأمور , بعقل مفتوح , وتجرد لله , وأسوة حسنة , تعصم من الزيغ , ومزالق الأقدام , وتـُلزم بتقوى الله , واتباع سيدنا رسول الله عليه صلى الله ..


أخطاء وتصورات شائعة :
يخطيء الذين يتصورون , أن الإسلام يهدم الحياة المعاصرة بكل معطياتها ومنجزاتها , وليس لها عنده إلا الحظر والمنع والردع والتحريم والتأثيم , والعودة إلى حياة الجواري والحريم , وكأن الإسلام لحىً طويلة , وثياب قصيرة , وبيوت خاوية , ونساء متوارية , وسير على الأقدام , وعيش بدون تكاثر وزحام , وكأن الإسلام في وارد العجز والتخلف والاستسلام ..
وليس من المنطق في شيء , أخذ تصور عن الإسلام , من خلال ما انتهى إليه عند المسلمين , في آخر هذا الزمان , فلسنا ملزمين أن نبدأ من آخر المسيرة المتعثرة , حيث الدين حكايات ملفقة , وأحاديثُ ضعيفة وموضوعة , ومفاهيم خاطئة , ومعلومات غثة ومجتثة , وعباءات وألقاب فضفاضة , وشهادات مشتراة , وإعجابُ كلٍ برأيه وبعلمه , وغرورٌ حتى الجنون , وتكبر حتى الكفر , وتعاظم حتى الغثيان , وشعور أحدهم أنه أكثر من إنسان !..
إن الغـُلوَّ والتطرف , وكل السلبيات , هي التي ستنتهي عندما يعود الإسلام الحق , إغاثة وإطفاء , وإنجاءً من سعير الكفر , وجحيم الإباحية والشذوذات جميعاً , وهتكِ حقوق الإنسان : ممارسة وفعلاً , واغتيالِ عقله وقلبه , وطاقة حُبه , ليعيش بلا قلب وبلا حب وبلا مشاعر أصلاً , وكأنه حجر أصم , أو أشد قسوة وتصلباً !..
مثلما يخطيء الذين يظنون أن الإسلام في عودته المرتقبة , يؤخذ جملة واحدة , ويطبق بالقسر وبالقهر , والعقوبات الأشد , وبالتصفيات الجسدية والطائفية !.. وبالسيف وحبال المشانق , والسجون والمقابر الجماعية .. وأنهار الدماء ..
أستغفر الله العظيم ..
فبعد تناهي القرون , وأحداث الزمان , وبعد كل هذا التمزق والعصيان , لا يؤتى بالإسلام ليسقط على هذا الواقع , ملغياً ومنهياً ما يمكن إلغاؤه وإنهاؤه , وفارضاً بقوة الحديد والنار , والتشدد المُوبق , ما يراه القائمون عليه , حسب تصورهم وجهلهم وثقافتهم , ومخزونهم التاريخي الخاطيء , فيفسدون ولا يصلحون , ويسيئون ولا يحسنون !.. وينفضُّ كثير من المسلمين , وتقوم حرب بين المؤيدين والمعارضين , من هذه الأمة ذاتها !.. ( أيْ حرب أهلية ) . وما أكثرها ؟!..
فالقضية المِفصلية , هي في الأولويات والأحق والأجدر والأهم والأعم , وصولاً إلى بداية صحيحة , وطريق قويمة , وخطىً واثقة وثابتة , وبناءٍ حضاري إنساني سليم ..
وهذا هو إسلام الإغاثة والتدارك , ومد الجسور والمعابر , وإطفاء اللهب المستعر في الصدور , وفي السرائر والضمائر , ويحرق الوجدانيات والمشاعر ..
فقد زاغت الأبصار , وبلغت القلوب الحناجر , وساءت الظنون والخواطر , وظن الجميع ألا ملجأ ولا مَنـْجاة . فمتى يفهم الناس , أن الإسلام روح إلهية نبوية متدفقة , وبدون هذه الروح , فإنهم أموات غير أحياء , وما يشعرون أيَّـان يـُبعثون ..
وليس الإسلام الحق , في إيجاد مجتمع صالح متدين الآن , كما يتوهم الغافلون , ولكن في إنقاذ مجتمع , وخلاص أمة , وهداية شاردين وخاطئين .. وجمعٌ على الحق والهدى والدين ..
السؤال الذي يَرد الآن :
ولعل السؤال الآن : ما هي ملامح هذا الإسلام الحق , الذي يراد له أن يكون الملاذ والعاصم , من كل هذه الأوضاع العربية والعالمية , المتردية والمتصدعة والمنهارة ؟..
نعم إنه ذلك الإسلام الحر والمتحرر من سلطة رجال الدين , ومن سائر صنوف التنطع والتقوقع , والتراجع إلى الخلف , بتراجع المحسوب عليهم , والمنطلقُ بالحياة العربية والإنسانية , إلى أوسع آفاقها الإيجابية , التي لا تعرف حدوداً ضاغطة , ولا قيوداً مرهقة , ولا هرطقة ولا تزمتاً ولا تعنتاً , وتنفتح على جميع خلق الله : تسامحاً وحباً , واتساعاً : رحمة وعلماً , وتعاملاً بالتيسير ورفع الحرج والإحراج , عن المكلفين أجمعين ..
بمعنى أنها حياة حافلة بالتوافق والتلاقي , غنية بالفرص والعطاءات , والمواهب والإبداعات , وتصان فيها كل مكتسبات التقدم والتنمية والعصرنة , بعيداً عن توسيع دائرة المحظورات والممنوعات .. مع واجب التدرج في الإيغال وتحريم المحرمات ..
كما تصان الحياة من التلوث والدياثة , والانفلات الأعمى , والانسياق الأهوج , وراء المتعة الجسدية البحتة , والإغراء والفتنة , والمتاجرة الرخيصة , بكل القيم والذمم !..
وهذا هو الإسلام العائد والمستعيد , والمنجد والمغيث , وليس إسلامَ الألقاب الفارغة , والأبراج العاجية العالية , والمظاهر الخادعة , والأطماع المهيمنة , والقدوة الانتهازية السيئة , والحسابات الدنيوية المؤْثـَرة , والانفصام وانعدام الالتزام , وتهميش الأصول والأحكام , وإحالةِ أمر التدين والدين , إلى مجرد الادعاء والدعوى , ومعسول الكلام ..
أخيراً : هل من الممكن أن نفهم الآن , هذه الإشكالية والمفارقة , وهي أن كثيراً من الذين يفرضون أنفسهم أئمة على الأمة , وأوصياء على الإسلام , ليسوا أكثر من عقبات كأداء , أمام تقدم الإسلام الحق في هذا الزمن , بسبب عجزهم المخزي , وغرورهم الكبير , وتدينهم الكاذب , وحبهم للدنيا , واتكائـِهم على الناحية العلمية الضَّحْـلة , والموعظة المُجْـترة , واستغلالهم المكشوف لكتاب الله عز وجل : القرآن المجيد ..
وحسبنا الله العظيم .. والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. عبد الرحمن