المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إعادة نشر/بحث قديم /هل باتت السلفية الجهادية على الأبواب؟



أبو حمزة السلفي
06-24-2010, 07:13 PM
في الذكرى الأربعين لـ "النكسة" والتاسعة والخمسين لـ "النكبة":
هل باتت السلفية الجهادية على الأبواب؟
الكاتب؛ د. أكرم حجازي
مضت أربعة عقود كاملة على حرب الرابع من شهر حزيران سنة 1967 التي استكملت فيها إسرائيل احتلال ما تبقى من فلسطين وأجزاء واسعة من الأراضي العربية في سوريا (هضبة الجولان ) ومصر (صحراء سيناء) والأردن.
أحد أصدقائي ضحك لما قال لي أن العرب أسموها "نكسة" العام 1967 لأنهم لم يريدوا أن يعترفوا بأنها هزيمة، ولعل أيديولوجياتهم في عقود الخمسينات والستينات من القرن العشرين كانت تحول بينهم وبين الحقيقة فأخذتهم العزة بالإثم وأسموها "نكسة" مثلما اعتزوا بذات الإثم حين أسموا اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها وقيام دولة إسرائيل سنة 1948 على أكثر من ثلاثة أرباعها "نكبة"!
وفي الحقيقة أن العرب لم يطلقوا أية تسميات على كل الكوارث التي لحقت بالعرب والمسلمين منذ انهيار السلطنة العثمانية وزوال نظام الخلافة وتقسيم العالم العربي، وكأنهم كانوا في حالة من انعدام الوزن والضلال التام لدرجة أنهم لم يتنبهوا لما جرى وسيجري لهم لاحقا مع هذه التقسيمات. فقط تنبهوا للنكبة وللنكسة ولكنهم لم يتنبهوا قط لكونهم أجزاء فسيفسائية لن تقو على تحريك موضع أقدامها، ومع ذلك، ويا للمفارقة، تجدهم بارعين في تسويق الهزيمة الحضارية الشاملة بوصفها خسارة لجولة وليس لحرب؟
وها نحن في الذكرى الأربعين لـ "النكسة" والتاسعة والخمسين لـ "النكبة" نبدو عربا وفلسطينيين في أضعف حالاتنا ولم نتساءل بعد: لماذا نفشل دائما حيث ينجح الآخرون في العراق مثلا أو لبنان أو أفغانستان؟ ولماذا ندفع الثمن بلا مقابل؟ ولماذا ندخل المأزق تلو المأزق؟ أين كنا وأين وصلنا؟ وهل من قوى جديدة قادمة على حطام القوى الراهنة؟ لقد شهدنا وما زلنا نشهد متغيرات حضارية تمس صميم حياتنا ووجودنا، ولكن بدلا من الاسترسال في التاريخ من الأفضل أن نتوقف عند بعض منعطفاته الحادة ولنأخذ بعض المحطات كمنطلق للفهم.
أولا: الثورة والاستقلال
نجحت القوى الدولية الكبرى في أوائل القرن العشرين في تفكيك الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وولجت إلى العالم العربي وفككته إلى دويلات صغيرة جرى تقاسمها بين بريطانيا وفرنسا عبر اتفاقية سايكس – بيكو سيئة الذكر. وبات الوطن العربي يتشكل من 21 دولة عربية جديدة! ولا أدري كيف يمكن لنا، كعرب، أن نستسيغ هذا العدد من الدول إلا إذا استساغت الصين أو روسيا أو الهند تفككها إلى عشرات مثلها.

وبطبيعة الحال وكدول استعمارية من المفترض أن يكون لها هدف واحد وهو نهب ما يمكن نهبه بأسرع وقت قبل أن يحين الرحيل غير أن هذه الدول كان لها هدفا ثانيا أحسب أن أغلبنا وقع في فخه دون أن نتنبه له ربما حتى أيامنا هذه. فأنْ تأتي الدول الاستعمارية إلى بلدان عربية ذات محتوى إسلامي وتفككها إسلاميا ثم عربيا فهذا يعني أنها ستعمل على جبهتين: الأولى، هي القضاء التام على الإرث الإسلامي وتوزيعه بين الورثة الجدد من الدول المستحدثة. أما الثانية فهي تثبيت الدولة المستحدثة عبر توجيه حركات الاحتجاج والمقاومة لتلعب دور الحركات الوطنية بحيث تكون مهمتها رفع رايات الاستقلال والحرية والعلم والحكومة الوطنية. وبهذه الآلية سيدافع العرب ليس عن إمبراطوريتهم الإسلامية ولا عن وحدتهم العربية ولا عن هويتهم كمسلمين عربا بقدر ما سيستشهدون دفاعا عن الحرية والاستقلال. وها نحن نعيش في دول مستقلة ممزقة بائسة سياسيا واقتصاديا وعلميا بل وحضاريا، فهل يمكن لأحد أن يتحدث بعد انقضاء قرن على التفكك عن وحدة عربية؟
الطريف في الدولة المستقلة ذات السيادة والمنفصلة عن محيطها انفصالا تاما بدت مع مرور الزمن كما لو أنها أمة قائمة بذاتها بقطع النظر عن تاريخها أو عن صغرها أو كبرها ديمغرافيا وجغرافيا، فهي دولة تستمد شرعيتها من مدافن التاريخ القديم وحطام شواهده إن وجدت وتتنكر لتاريخها الإسلامي، بل أنها تصطنع لها تاريخا هو أقرب إلى شهادة الزور منه إلى أية حقيقة تاريخية. وإذا قسنا خطابها السياسي فهي دولة علمانية السياسات والمؤسسات والبناء، والعجيب أنها تتجاهل كل رصيد معرفي توفره الحضارة الإسلامية وتتمسك بخطاب علماني وتقارع خصومها من الغرب بمقتضى مفهوم هو أصيل نمط الحياة الغربي وصراعاته التاريخية مع الكنيسة! ولا علاقة لها به إلا من باب التبعية والتقليد عملا بمقولة العلامة العربي ابن خلدون" المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب". وبالتالي فلا معنى للحديث الممجوج منذ عقود طويلة عن القدرات العربية والثروات البشرية والاقتصادية أو أي مخزون حضاري، حتى لو كان الإسلام وعاءه، بما أن لكل منا ،كعرب، تاريخه ودولته وحدوده وبرلمانه وعلمه وحاكمه وشعبه. فهل كانت فكرة القومية أو الثورة أفضل حالا؟ لنر.
ثانيا: القومية العربية
تبع التفكك وظهور الدول المستقلة واغتصاب فلسطين انهيارا في بعض أنظمة الحكم العربية واستقلالا لدول أخرى. وبدا الدفاع عن الأيديولوجيات ذات النزعة الوطنية أو القطرية راسخا في دول ومهتزا في دول أخرى، ولكن على مستوى النخبة من الطلبة والمثقفين والمعارضين للوضع الجديد كانت الأمور تسير باتجاه معاكس باحثة عن آلية ما لوحدة الوطن العربي تجلت أدواتها الأيديولوجية تارة بالقومية العربية وتارة بالوحدة الأممية عبر الأفكار اليسارية القادمة من الشرق، وفي كلتي الحالتين ثمة من دافع عن النظرية الليبيرالية وآخر دافع عن النظرية الماركسية أو المعدلة بالصيغة العربية وهي تستحدث مفهوم الاشتراكية على مقاسها. وكان اللافت للنظر أن تستوطن بعض المفاهيم الماركسية لب الأيديولوجية القومية العربية، مبكرا، إلى درجة التحالف الآثم، فماذا كانت النتيجة؟
فشلت القطرية ووصلت الدولة الوطنية إلى طريق مسدود، كما أن الماركسية انهارت أقوى حصونها غير مأسوف عليها وكذا القومية العربية. ولو سألنا أي فلسطيني الآن سؤالا بسيطا: هل تنتظر دعما من العرب؟ لكان الجواب بالنفي القاطع. فلا الفلسطيني ينتظر دعما ولا العربي بقادر على تقديم أي دعم كان. أما لو تحدثنا عن مظاهر الفشل للقومية لعددنا العشرات منها فلنكتف بذكر بعضها:
• ظهور دول تبنت الأطروحة القومية والتزمت فعليا بأطروحة قطرية فجة ترقى في كثير من الأحايين إلى العنصرية ( = الاستعلائية ) إن لم يكن الانغلاق.
• ظهور أجيال بحالها تربت على الاعتزاز بالذات القطرية، آل بعضها أو أقسام كبيرة منها إلى التنكر للعروبة والأصول القومية.
• التشدد في ممارسة المركزية كخيار الدولة العاصمة نجم عنه إيقاع للتمايز واللامساواة داخل البلد الواحد وعدم التوزيع العادل للثروة.
• ظهور الأطروحة القومية كأطروحة نخبوية وليس كأطروحة شعبية، بمعنى أن التفاعل في الأطروحة القومية ولد ونشأ وترعرع في مستويات ثقافية وسياسية عليا لم يكن للتشكيلات الاجتماعية شأن بها، وإن تفاعلت معها في بعض الأحايين من باب الفزعة أو الحمية وليس من باب الفكر والأيديولوجيا.
• تحول الأطروحة القومية إلى مادة للسخرية والحقد والانتقام لدى كافة التشكيلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية جزئيا أو كليا، في الداخل القطري وفي الخارج الإقليمي.
• تفكيك الجغرافيا والديمغرافيا القطرية إلى جزر طائفية ومذهبية وعرقية متصارعة إلى حد التناحر.
فالحقيقة المؤكدة تقول بأن المجتمعات العربية الراهنة هي من مخلفات المجتمع العثماني على امتداد أربعة قرون في حين أن الدولة العربية المستقلة هي نتاج معاهدات استعمارية، وليس لكليهما (المجتمع والدولة) أية مرجعية يمكن الاستناد إليها في تقرير المسائل الاجتماعية والسياسية ذات الطابع اليومي ناهيك عن المسائل ذات البعد الاستراتيجي. أما الأيديولوجيات العلمانية ( الوطنية، القومية، الماركسية، الاشتراكية... ) فهي بالقطع ليست أصيلة لا اجتماعيا ولا سياسيا. فالقومية، فضلا عن أنها مفهوم وافد من الغرب، هي أصلا وتأسيسا ثقافة نخبة وليست نتاج ثقافة اجتماعية محلية، وعليه فلنتساءل: كيف يمكن لنا أن نتحدث عن وحدة عربية تمتد على مساحة 14.5 مليون كم مربع ومئات ملايين السكان بينما الواقع يشي بأن أحدا من الأفراد في هذا الوطن الكبير لم يعش لحظة عروبة ولا يمكن له أن يتخيلها لأنها ليست جزء من تفكيره ولا من تاريخه ولا من نموه الحضاري؟ فعلى سبيل المثال لو عمل شاب من تونس في دولة خليجية لأحس أنه يعيش في غربة، بل لو ابتعد مقر عمله عن بيته مسافة 100 كم لاعتقد أنه في غربة، فكيف يمكن لمجتمع يتصور أفراده الغربة على بعد عشرات الكيلومترات أن يفكر فعليا في الوحدة؟ أو أن يعتقد أن كل هذه المسافات الشاسعة هي وطنه وسكانها هم أهله؟ ولكن ماذا عن فكرة الثورة والتسوية؟
ثالثا: الثورة والتسويات السلمية
قد تنطلق شرارة الثورة سرا استجابة لواقع ما ولكنها لا يمكن أن تعلن عن نفسها وتستمر دون حوار مع بيئة سياسية واجتماعية أصيلة تسمح لها بالنشاط المسلح والسياسي المكثف بأقل العراقيل والضغوط، أو بمعنى آخر توفر قاعدة آمنة للعمل. هذا الأمر ينطبق بالضبط على حالة الثورة الفلسطينية. فقد كان من الممكن أن تنجح لو كانت الدول الحاضنة لها ذات أصالة تاريخية وسياسية بحيث تكون المصالح المشتركة بين الثورة وأي نظام سياسي هي من العمق والثبات والرسوخ بحيث لا تعلوها أية مصالح أيا كان مستواها كي لا ترتد عليها في لحظة ما وبالا. وبما أن كل الدول العربية هي نتاج لنشاط استعماري وتعاني من تبعية مرجعية شاملة لدول المركز فمن الطبيعي أن تكون المصالح المشتركة بين الثورة والدولة الوطنية على طرفي نقيض مقابل تماسك المصالح مع المركز وطغيانها على أية مصالح أخرى خاصة في اللحظات الحاسمة، وبهذا التوصيف يمكن أن نفهم السهولة التي تم بها احتواء الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة والحركة الوطنية العربية من جهة ثانية وتحويل كلا الحركتين إلى انعكاسات لمصالح أجنبية. بمعنى أن الغرب ذاته له مصلحة بوجود حركات وطنية محلية مثلما كانت له نفس المصلحة بوجودها إبان الفترة الاستعمارية، وبالتالي فليس الموجود من هذه الحركات، إلى يومنا هذا، إلا نوعا من التماثل مع الاحتياجات الأمنية للغرب بقطع النظر عن مضمون الحركات ذاتها أو أهدافها أو منطلقاتها أو أيديولوجياتها أو تطلعاتها أو حتى تضحياتها.
في هذا السياق، ولأن الدولة العربية هي أشبه ما تكون بدولة وظيفية، فقد دافع البعض عما يراه وجهتي نظر في الوطن العربي إحداهما، هي مدرسة التسوية التي تعتقد، وهي تستعمل لغة العجز،: أن السلام مع إسرائيل أعاد للعرب أكثر من ثلثي الأراضي المحتلة بينما تقول الأخرى، وهي تستعمل لغة الأيديولوجيا،: أن إسرائيل تماطل ولا تريد السلام وتترك للزمان فرصة للحكم على اختياراتها. وواقع الأمر أن المدرستين فشلتا في تحقيق أي إنجاز خارج الرؤية الغربية أو الإسرائيلية. فمصر التي استعادت سيناء ضمن قيود مشددة إنما دفعت الثمن من الأراضي الفلسطينية حصرا، زيادة على منح إسرائيل الشرعية التامة والحق في الوجود على الغالبية العظمى من مساحة فلسطين، وهي أرض ليست ملكا لمصر كي تبادلها بسيناء. كما أنها استعادتها (سيناء) مقابل شلل تام في سياساتها الخارجية والدفاعية تجاه أقرانها العرب والفلسطينيين الذين باتت ظهورهم مكشوفة لكل التدخلات الغربية والإسرائيلية. بل أن مصر ذاتها واقعة تحت التبعية الكاملة والتهديد اليومي لدرجة أن السد العالي الذي تتباهى به مصر بات عبئا عليها أمام التهديدات الإسرائيلية بتدميره إذا ما حاولت مصر خوض حرب ضد إسرائيل. فعن أي مدرسة يتحدث هؤلاء؟ هل يتحدثون حقا عن مدرسة المصالحة مع الغرب؟ وعلى أي أساس؟
رابعا: الغرب واليهود من الجريمة إلى النفاق
في أوائل القرن العشرين اقتطعت بريطانيا، بمساندة الغرب، فلسطين من قلب الوطن العربي والعالم الإسلامي مساحة وسكانا ومنحتها لليهود بحجة العودة إلى أرض الميعاد. ولأن المجال لا يتسع لمناقشة هذه المسألة؛ لنقُل أن العالم أجمع يعلم أن ما قامت به الدول الكبرى هو سرقة غير مسبوقة لوطن من بين أيدي أصحابه وطردهم إلى خارج البلاد. ولم يشهد التاريخ الإنساني، ولن يشهد، مثيلا لهذا النوع من الجرائم بحق الإنسانية، ولم يشهد على وجود قوم ادعوا في لحظة من الزمن أنهم كانوا يعيشون في مكان محدد قبل آلاف السنين وأنهم الآن بصدد العودة إليه، ولو صح هذا بالنسبة لليهود في فلسطين، وهو ليس صحيحا، لكان حقا على سكان فلسطين والعالم أجمع معاقبة هؤلاء الأدعياء الذين فرطوا بوطنهم كل هذه المدة من الزمن وليس تكريمهم.
لا ريب أن الغرب يدرك الجريمة التي ارتكبها، ويدرك أن المحرقة (الهولوكوست) هي زعم أكثر منه حقيقة، ولعل ما يُعرَف بالمؤرخين الجدد كانوا أول من يدفع الثمن حين أثبتوا أن المحرقة مسألة مبالغ بها وأن التحليلات والتحقيقات الجديدة تثبت صحة آرائهم. وتدرك إسرائيل واليهودية العالمية أن أسطورة الهولوكوست آخذة في التآكل وأن تدارك الأمر يستدعي بذل الجهود للحيلولة دون ذلك. وتأسيسا على هذا استُدعي النظام الدولي ليبرئ إسرائيل من العنصرية كاختصاص بنيوي لا يضيرها أن تستعمله حتى ضد سكانها فتميز بين الأبيض والأسود وبين اليهود الأشكناز (الغربيين) واليهود السفارديم (الشرقيين)، بل أن القوانين المحلية باتت بالمرصاد لكل فرد أوروبي أو أمريكي يشكك بالأسطورة أو ينكرها أو لمجرد أنه ينتقد معطيات إثباتها، ودون ذلك فهو معادي للسامية. وأخيرا كانت الأمم المتحدة ميدان الدفاع عن الأسطورة. فماذا بقي من خطوط دفاعية لم تستعملها إسرائيل بعد أن بلغ التشكيك مداه؟
رغم معرفة العالم بأن إسرائيل هي الأخطر على السلام العالمي بشهادة الشعوب الأوروبية إلا أنه لم ينصف الفلسطينيين يوما ولم يمنع قتلهم ولا تشريدهم ولا قهرهم ولا إذلالهم، وبدلا من ذلك اتجه إلى قهر أشقائهم العرب في كل مكان وصولا إلى قهر الإسلام ذاته عقيدة وعبادة وتربية وسلوك وحتى نمط حياة. والأسوأ أن الغرب ينتقل من الجريمة إلى النفاق وبالعكس دون أن يرتد له طرف. ولعل المحاضرة التي ألقاها اللورد جورج كيري رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليكانية (كانتربري) في جامعة جريجوريان في شهر تموز / يوليو 2004 هي خير مثال على ما نقول. فقد احتوت المحاضرة على سيل من اللغط والإهانة للإسلام وللمسلمين ولعقيدتهم، وهو حقيقة ليس لغطا بقدر ما هو خبث غربي في قلب الحقائق وتحويرها خدمة لسياساته الاستعلائية وأغراضه العنصرية وهو يعلم ذلك علم اليقين. فقد ورد في المحاضرة أن نقطة التحول الأولى في تاريخ العالم الإسلامي والتي قلبت تفكيره باتجاه ما يسميه المحاضر بالتطرف الديني وتبني الإرهاب والدخول في عداوات مع شتى عقائد العالم كانت في أعقاب سنة 1967، ويقول كيري حرفيا: "اعتبر الكثيرون سنة 1967 نقطة تحول في عقول الكثرة من المسلمين, ففي هذه السنة قامت البلاد العربية (سوريا ومصر والأردن) بهجوم مفاجئ ضد إسرائيل, وكانت النتيجة هزيمة موجعة (للعرب) حيث ضاعت منهم مساحات كبيرة من الأراضي في سيناء وغزة والجولان"!
هذا القلب للحقائق هو أصيل في الفهم الغربي لكيفية التعاطي مع الآخر. ومثل هذه المغالطة تشبه فهم الغرب لمفهوم السامية الذي يستعمل سيفا مسلطا على كل من ينبس، ظاهرا أو باطنا، بأي نقد لإسرائيل وللحركة الصهيونية وغطرستهما وكذبهما وتزويرهما للحقائق. فالغرب لا يريد لهذا المفهوم أن يعبر إلا عن محتوى واحد، وهو أن السامية مفهوم عرقي يعني اليهود حصرا وليس أحدا غيرهم. هذا المحتوى يروجه مفكرو الغرب وعلماؤه ومؤرخوه من أنثروبولوجيين وإثنيين وهم يعلمون علم اليقين أنه واحدة من أقرف الأكاذيب والتزوير الصهيوني التي يروجها اليهود في عصرنا الراهن، وهو كذبة لا تفوقها حتى كذبة الهولوكست. فالسلالة السامية الأكثر نقاء في أصول الأجناس والأعراق هي السلالة العربية وليس اليهودية التي ضمت حتى الآن ما يزيد على اثنين وتسعين قومية من شتى بقاع الأرض، فضلا عن أن أحدا لم يعترف باليهودية كقومية مستقلة على أساس الدين. ولكن ما دور الإسلام السياسي في مواجهة هذا النفاق؟
خامسا: الإسلام الوطني والإسلام العالمي
منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي بدأت الحركات الإسلامية في فلسطين تعد العدة لانطلاقتها على أسس عقدية وليس أسس وطنية، ومثل هذا الإعداد شمل حتى دول مجاورة وخاصة مصر غير أن التجربة فشلت لثلاثة أسباب (1) أنها اتسمت بالعجلة كحال الحركات الوطنية الأخرى (2) وبسبب دخول الإخوان المسلمين على خط المقاومة المسلحة عبر حركة حماس (3) وبسبب ظهور إيران وتوجه بعض قادة حركة الجهاد الإسلامي نحوها طلبا للعون والنصرة.
ومع انطلاقة الجهاد الأفغاني بدأت بواكير الإسلام العالمي المقاتل تتبلور بسرعة فائقة إلى أن انتهت بتيار جارف هو تيار السلفية الجهادية وتنظيماتها المتعددة ابتداء من القاعدة كتنظيم وانتهاء بالفرد وما يسمى بالخلايا النائمة. هذا الانفجار لتيار السلفية الجهادية أذِن بزوال مرحلة الحركات العلمانية والإسلامية التقليدية على السواء. فالسنوات والعقود القادمة قد تشهد اختفاء تاما للعلمانية ولتنظيمات الإسلام الوطني. ولكن ما الذي يعنيه ظهور هذا التيار؟ ولماذا يبدو مختلفا عن غيره من التيارات المقاتلة على امتداد قرن؟ ولماذا يخيف الآخر العدو؟
إذا تجاوزنا الخلاف القائم وحتى العداء بين التيارات الجديدة والتيارات الأخرى فيمكن أن نسجل بعض الملاحظات التالية:
• تقدم السلفية الجهادية نفسها كتيار يتبنى مصالح الأمة الإسلامية في شتى أماكن تواجدها سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الأقليات أو الدول. وتدعو إلى "إقامة حكم الله في الأرض" وتحرير أوطان المسلمين ورفع مكانتهم والدفاع عن مصالحهم في شتى بقاع الأرض عبر مقاتلة قوى العدوان الصائلة أو المحتلة لبلاد المسلمين من الأندلس وحتى فلسطين.
• تسعى السلفية الجهادية إلى استعادة نظام الخلافة الإسلامية كنظام حكم ونمط حياة بديلا عن أنظمة الحكم الحالية وكياناتها السياسية والاجتماعية. وهي بهذا المعنى لا تعترف البتة بأي نظام سياسي أو اجتماعي قائم على ما تسميه بتحكيم غير الشريعة الإسلامية. كما أنها تبدو على هذا النحو الجماعة الإسلامية الأولى الفريدة من نوعها وفي أطروحاتها منذ انهيار نظام الخلافة وحتى الآن.
• الوطن بالنسبة للسلفية الجهادية هو حيث تكون العقيدة. فلا معنى لوطن أو جماعة إسلامية بلا عقيدة أو بلا حاكمية. لذا بالنسبة لها ليس مهما أين يبدأ الجهاد أولا بقدر ما يهمها إعلان الجهاد ومباشرته ضد ما تراه عدوا صائلا.
• تستعمل السلفية الجهادية مفهوم "السلفية" كمنهج علمي وعملي موقوفا على القرون الثلاثة الأولى باعتبارها خير القرون بحسب العلماء، وبالتالي فهي تسعى لإخضاع كل سلوكها ومعتقداتها وعملها إلى مصادر الشريعة وهي القرآن والسنة والإجماع والفقه، وتسقط الشريعة على كل حدث أو سلوك بقطع النظر عن مفاهيم الواقع وتغير الزمان والمكان.
• تؤمن السلفية بحسب اعتقادها هذا أن النصر من عند الله وليس بفعل القوة المادية، فهي تعمل على الإعداد ما استطاعت ولكنها لا تؤمن قط بما تسميه الجماعة الإسلامية المصرية مثلا بـ "الهدف المستحيل". ولهذا فهي ترى في تدمير برجي التجارة الأمريكيين بمثابة تحطيم لـ "هبل العصر". ولا يخفى أن مثل هذه المقارنة تعني أن هناك آلهة أخرى كافرة ومشركة وظالمة كـ "اللات والعزى" ينبغي تحطيمها عاجلا أم آجلا.
• تعتقد السلفية الجهادية أن الحديث عن أمة عربية مسألة مغلوطة تاريخيا، فالعرب قبل الإسلام كانوا مناذرة وغساسنة، وكلاهما تابع لهذه القوة الدولية أو تلك، ولم يكن لهم وجود يعتد به إلا في ظل التاريخ الإسلامي ودون ذلك يعودون إلى حيث كانوا أقواما مفككة وتابعة لهذه القوة أو تلك. لذا فإن مفهوم الأمة الإسلامية هو المفهوم الصحيح الذي يستغرق العرب ويرفع من مكانتهم. لكن هذه الأمة التي تعيش الآن تبعية وتخلفا ظاهرا لم تعش منذ أكثر من مائتي عام لحظة توحيد وهو ما تحاول السلفية تحقيقه لضمان النصر على أعدائها.
هكذا إذن تمضي أربعين عاما على "النكسة" ونحو ستة عقود على "النكبة"، وينتقل الفلسطينيون مع العرب من أيديولوجيا إلى أخرى وسط تراجع مخيف وخطير على قضيتهم، أما الآن فقلما نجد من يتحدث عن وحدة عربية أو عن أمميات جديدة أو حتى عن دولة وطنية باتت في مهب الريح. فالجماعات السلفية، وبلغة الجهاد وليس المقاومة أو القتال فقط، تبدو الأهم والأخطر بين المتحدثين الآن، ولعل أكثر ما يميز السلفية الجهادية هو إصرارها على التحدي أيا كانت النتائج، ولو تحققنا من انتشارها شعبيا وحتى على مستويات النخبة وقدرتها على الإعداد والحشد المعرفي لوجدنا أن منتجاتها الفقهية والمعرفية يزيد على 10 غيغا بايت، بما يعادل ستة ملايين صفحة بصيغة صفحات الهوت ميل على الشبكة العنكبوتية أو أكثر. وهذا جهد يفوق مئات المرات ما أنتجته كل الحركة الوطنية العربية والفلسطينية من تراث معرفي حول قضايا الوحدة والثورة والتقدم والعدالة وغيرها من المفاهيم. وبطبيعة الحال السؤال هنا لا يتعلق فقط بحجم الجهد المعرفي ومحاولات نشر ثقافة الجهاد واحتياجاتها بل بالشرائح الاجتماعية والعلمية والمثقفة التي تقف خلف هذا الإنتاج الهائل، وما إذا كان هذا الجهد من الإعداد يمكن أن يمر، ولو بعد حين، دون مواجهة أم لا؟
18 / 5 / 2007