المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسة تفسير: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...}



شيعي سابقا
07-19-2010, 06:23 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


دراسة ما أورده ابن القيم في تفسير: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...}

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:



أما مشاركتي الأولى فهي دراسة لما أورده ابن القيم في تفسير قول الله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (المائدة: من الآية44) .

وهي جزء من بحثي للدكتوراه؛ فأرجو من الأعضاء المتخصصين في العقيدة أن يبدو رأيهم فيما كتبته وتوصلت إليه في هذه المسألة المهمة.

وهذا أوان الشروع في المقصود :

قسّم ابن القيم رحمه الله الكفر إلى نوعين : كفر أكبر ، وكفر أصغر . وذكر أن الأصغر موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود ، ثم ذكر بعض أمثلته ، وقال في هذا السياق :

( وهذا تأويل ابن عباس وعامة [الصحابة]([1]) في قوله تعالى : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ (المائدة: من الآية44) ، قال ابن عباس : ليس بكفر ينقل عن الملة ؛ بل إذا فعله فهو به كفر ، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر .([2])

وكذلك قال طاووس.([3]) وقال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .([4])

ومنهم : من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له ؛ وهو قول عكرمة ([5]). وهو تأويل مرجوح ؛ فإن نفس جحوده كفر ، سواء حكم أو لم يحكم .

ومنهم: من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله . قال : ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام . وهذا تأويل عبد العزيز الكناني ([6])، وهو أيضاً بعيد ؛ إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل ، وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه .

ومنهم: من تأولها على الحكم بمخالفة النص ، تعمداً من غير جهل به ولا خطأ في التأويل. حكاه البغوي عن العلماء عموماً.([7])

ومنهم: من تأولها على أهل الكتاب . وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما ([8])، وهو بعيد ، وهو خلاف ظاهر اللفظ ؛ فلا يصار إليه .

ومنهم : من جعله كفراً ينقل عن الملة .([9])

والصحيح : أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين : الأصغر والأكبر ، بحسب حال الحاكم . فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة ، وعدل عنه عصياناً ، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ؛ فهذا كفر أصغر . وإن اعتقد أنه غير واجب ، وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله ؛ فهذا كفر أكبر . وإن جهله وأخطأه ؛ فهذا مخطئ ، له حكم المخطئين .)([10])



الدراسة :

الحكم بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله من المسائل الشائكة ، وهذه المسألة متعلقة بالعقيدة ، وقد بحثها بالتفصيل جماعة من أهل العلم ([11]) . وسأقتصر في هذه الدراسة على عرض موقف أئمة التفسير من هذه الآية ، مع بعض التنبيهات ، ثم أعلق على ما ذكره ابن القيم رحمه الله من نتائج في كلامه السابق .

ذكر ابن جرير رحمه الله أقوال أهل التأويل في تأويل الكفر في هذا الموضع ، وهي خمسة :

الأول : أنه عنى به اليهود الذين حرّفوا كتاب الله وبدّلوا حكمه .

الثاني : عنى بالكافرين أهل الإسلام ، وبالظالمين : اليهود ، وبالفاسقين : النصارى .

الثالث : عنى بذلك : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .

الرابع : أن هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب ، وهي مراد بها جميع الناس مسلموهم وكفارهم .

والخامس : معنى ذلك : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به ؛ فأما الظلم والفسق فهو للمقرّ به .([12])

ثم ذكر أن القول الأولى بالصواب عنده هو أنها نزلت في كفار أهل الكتاب ؛ لدلالة السياق على ذلك ، وأن الحكم بالكفر يشمل كذلك كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به ؛ لدلالة العموم على ذلك ([13]).

وأما ابن عطية فلم ينص على ترجيح قول من الأقوال ، إلا أنه ذكر أن جماعة عظيمة من أهل العلم قالت : الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله ، ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان . وعلق على قول من قال : " عنى بالكافرين أهل الإسلام ، وبالظالمين : اليهود ، وبالفاسقين : النصارى " بأنه لا يعلم لهذا التخصيص وجهاً إلا مراعاة من ذُكر قبل كل حكم .([14])

وذكر الرازي في تفسيره مسألتين متعلقتين بهذا الحكم :

الأولى : أن المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود في إقدامهم على تحريف حكم الله تعالى في حد الزاني المحصن ، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة ، وقالوا : إنه غير واجب ، فهم كافرون على الإطلاق ، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن .

والثانية : ذكر فيها أن الخوارج احتجوا بظاهر هذه الآية على أن كل من عصى الله فهو كافر ؛ لأن كل من أذنب ذنباً فقد حكم بغير ما أنزل الله ، فوجب أن يكون كافراً .

ثم ذكر أجوبة العلماء والمفسرين عن هذه الشبهة ، مع التعقيب عليها بما يراه ، وهذا مختصر لما ذكره :

الجواب الأول : أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم . قال : ( وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .)

والثاني : أن المراد بالكفر هنا كفر النعمة لا كفر الدين ، فهو كفر دون كفر . قال : ( وهو أيضاً ضعيف ؛ لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين .)

والثالث: يجوز أن يكون المعنى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين ([15]). قال: ( وهذا ضعيف أيضاً ؛ لأنه عدول عن الظاهر.)

والرابع : قال عبد العزيز بن يحيى الكناني: قوله ﴿ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ صيغة عموم ، فقوله ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ معناه : من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . قال الرازي : ( وهذا أيضاً ضعيف ؛ لأنه لو كانت هذه الآية وعيداً مخصوصاً بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم . وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم ؛ فيدل على سقوط هذا الجواب .)

والخامس: أن الكفر إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله ، وأقر بلسانه كونه حكم الله ، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ، ولكنه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية . قال الرازي : ( وهذا هو الجواب الصحيح ، والله أعلم .)([16])

وما صححه الرازي هو قول بعض طوائف المرجئة ([17]) ، وظاهر الآية يخالفه ؛ لأن الحكم بالكفر واقع على تارك الحكم بما أنزل الله .

وبدأ القرطبي كلامه بقوله : ( قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ و ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾ و ﴿ الْفَاسِقُونَ ﴾ نزلت كلها في الكفار؛ ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء ([18]).. وعلى هذا المُعظَم . فأما المسلم فلا يكفر وإن ٱرتكب كبيرة . )([19]) ، ثم صرح بعد إيراده لبعض الأقوال الأخرى بأن هذا القول هو الصحيح .

ثم أعقب ذلك بنقله لاختيار اثنين ممن سبقوه ، وهما النحاس ، وابن العربي .

وقد اختار النحاس أن الآية نزلت في اليهود خاصة ، وهم المعنيون بالحكم . قال : ( ويدل على ذلك ثلاثة أشياء :

منها : أن اليهود قد ذُكِروا قبل هذا في قوله : ﴿ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ فعاد الضمير عليهم .

ومنها : أن سياق الكلام يدل على ذلك ؛ ألا ترى أن بعده : ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فيهَا ﴾ فهذا الضمير لليهود بإجماع . وأيضاً ؛ فإن اليهود هم الذين أنكروا الرّجم والقصاص .) ثم أجاب عن دلالة العموم في الآية المستفادة من "مَن" التي جاءت في سياق الشرط بقوله : («مَن» هنا بمعنى الذي مع ما ذكرناه من الأدلة ؛ والتقدير: واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ؛ فهذا من أحسن ما قيل في هذا ) .([20])

بينما اختار ابن العربي قول من قال : "الكافرون" للمشركين , و"الظالمون" لليهود , و"الفاسقون" للنصارى . قال : ( وبه أقول ; لأنه ظاهر الآيات .)([21])

وجاء أبوحيان ليجمع الأقوال نقلاً عمن سبقه ، وخاصة الرازي ؛ فقد نقل أغلب كلامه . ولم يبدِ رأياً واضحاً يدل على اختياره ، إلا أنه صدّر تفسيره للآية في البحر بقوله : ( ظاهر هذا العموم ، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم ، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود .)([22]) واقتصر على الجزء الأول من هذا القول في النهر ، وهو القول بالعموم([23]) ؛ فقد يكون هذا هو ما يميل إليه .

واقتصر الحافظ ابن كثير عند تفسيره الآية على ذكر أهم الآثار التي نقلت في تفسيرها ، وعلى ذكر اختيار ابن جرير .([24])

ولما فسّر الآية التي تليها بيّن سبب حكم الله عليهم بالكفر في هذه الآية قائلاً : ( لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً .) ([25])وهذا يدل على أنه يرى أن الكفر هنا هو الكفر الأكبر ، وأن الحكم بغير ما أنزل الله يكون كذلك إذا كان بهذه الصفة ، وهي القصد والعناد ، مع جحود حكم الله .

وقرر ابن عاشور أن المقصود بهذا الحكم اليهود ، وفيه تحذير المسلمين من مثل صنعهم . ثم بين أنه لا يصح الاحتجاج بهذه الآية على كفر مرتكب الكبيرة كما هو مذهب الخوارج ، وذكر أن الحكم الذي دلت عليه هذه الآية قضيّة مُجملة عند جمهور المسلمين - من الصّحابة فمن بعدهم - ؛ لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة ؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب ، ومساق الآية يبيّن إجمالها . قال : ( ولذلك قال جمهور العلماء : المراد بمن لم يحكم هنا خصوص اليهود ، قاله البراء بن عازب ، ورواه عن رسول الله r . فعلى هذا تكون (مَنْ) موصولة ، وهي بمعنى لام العهد . والمعنى عليه : ومن ترك الحكم بما أنزل الله تَركا مثل هذا التّرك ، وهو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته.) ثم قال : ( وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلاً لها .)

ثم ذكر قولين آخرين في توجيه الآية ، وهما : قول من قال بأن المراد : مَن ترك الحكم جحداً أو استخفافاً به . وعلى هذا يكون الحكم عاماً .

والثاني : قول من تأول الكفر بالمعصية ؛ أي : كفر دون كفر .

ولم يصرح بما يراه هو ، غير أن سياق كلامه يدل على أنه يختار رأي جمهور العلماء – حسب قوله - ، وهو أنّ هذا الحكم خاص باليهود .([26])

وبعد هذا العرض يتبين ما يأتي :

أولاً : أن المفسرين متفقون على نزول هذه الآية في سياق آيات نزلت في شأن اليهود ، وأنهم المعنيون بها ابتداءً .([27]) وهذا الاتفاق دل عليه سبب نزولها الصحيح الصريح ، وهو ما ثبت عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال : مُرّ على رسول الله r بيهودي مُحمّماً مجلوداً ، فدعاهم r فقال : « أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟» ، فقالوا: نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم ، فقال : « أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ » قال : لا والله ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجده الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكّنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال رسول الله r : « اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه » ، فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل : ﴿ ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ ﴾ إلى قوله : ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هـذَا فَخذوه ﴾ ( المائدة : 41 ) يقول: ائتوا محمداً r فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، فأنزل الله تعالى : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ ( المائدة : 44 ) ، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ( المائدة : 45 ) ، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ( المائدة : 47 ) . قال : في الكفار كلها .([28])

ويؤيد هذا سياق الآية ، فما قبلها وما بعدها من الآيات نازلة في شأن اليهود . فاجتمعت هنا دلالة سبب النزول مع دلالة السياق .

ثانياً : وأما العموم الذي يدل عليه ظاهر الآية فقد اختلفوا هل هو باق معتبر أو لا ؟ ولهم مسالك متنوعة أمام هذا الظاهر :

فمنهم من اعتبره ، وقال إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولكن يكون الكفر هنا كفر معصية ، وليس الكفر المخرج من الملة ؛ فهو كفر دون كفر .([29])

ومنهم من اعتبره كذلك ، فعمم الحكم على جميع المخاطبين من أهل الكتاب وغيرهم ، إلا أنه جعل الكفر محمولاً على حالات معينة ، وليس على كل حال . فمن ترك الحكم بما أنزل الله لا يكفر إلا بجحوده للحكم ، أو استهانته به ، أو تفضيل غيره عليه .([30])

ومنهم من قال إنه لا عموم في الآية ، كما ذهب إلى ذلك النحاس في إعرابه للآية ، وأوضحه ابن عاشور في تفسيره .([31])

ثالثاً : لم يقل أحد من أئمة التفسير : إن هذه الآية تدل على كفرِ كلِ من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين كفراً أكبر بإطلاق ، بل قرر أكثرهم أن هذا هو مذهب الخوارج . وهو كذلك .

وقد اشتمل كلام ابن القيم السابق على عدة أحكام :

أولها : أن ابن عباس رضي الله عنهما وعامة أصحابه يرون أن الكفر في هذه الآية من الكفر الأصغر ، فهو كفر دون كفر . وهذا الحكم ليس على إطلاقه ؛ لأنه قد ثبت عن ابن عباس أنه قال في الآية : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق .([32])

كما ثبت عنه أنها في اليهود خاصة .([33])

ولا شك أن تأويل ابن عباس للكفر في الآية – بمجموع هذه الروايات - ليس مطابقاً لتأويل أصحابه ، فلا ينبغي التسوية بينهم في الحكم من غير تفصيل .([34])

الثاني : أن تأويل من تأول الآية بترك الحكم بما أنزل الله جحوداً تأويلٌ مرجوح ؛ لأن نفس الجحود كفر ، سواء حكم أم لم يحكم . وهذا الحكم أشكل عليّ ؛ لأن القول الذي ضعفه ابن القيم قد ثبت عن عباس رضي الله عنهما ، وهو ما رجحه ابن جرير ، ثم إن العلة التي ذكرها ابن القيم تنطبق على ما نص عليه هو في آخر كلامه ، عندما ذكر أن الحكم بغير ما أنزل الله يكون كفراً أكبر إذا اعتقد عدم وجوبه ؛ فيقال في هذه الحالة ما قاله في الجحود ؛ فمن اعتقد عدم وجوبه كفر ولو لم يحكم . وهذه المسألة تحتاج إلى تحرير .([35])

الثالث : استبعاده لقول من قال : إن المقصود ترك الحكم بجميع ما أنزل الله . والأمر كما قال ، وهذا قول ساقط كما بين الرازي .

الرابع : استبعاده كذلك لقول من تأول الآية على أهل الكتاب ، وأنه لا يصار إليه لمخالفته ظاهر اللفظ . وحكمه هذا يَرِدُ عليه ما صح عن البراء وابن عباس رضي الله عنهم من التصريح بكونها نزلت فيهم ، وأنهم المعنيون بها – كما سبق -.

ويمكن الجمع بين القولين بحمل قول البراء ومن وافقه على أنها نزلت فيهم ، وهم المعنيون بها ابتداءً ، ولا يلزم من ذلك أنها لا تعم غيرهم ، بل العبرة بعموم اللفظ كما هو مقرر . ومما يدل على ذلك أن في أقوال بعض القائلين بأنها خاصة في أهل الكتاب ما يدل على العموم ، كبعض أقوال ابن عباس رضي الله عنهما .([36])

والحكم الخامس : تصحيحه لتناول الحكم بغير ما أنزل الله للكفرين الأكبر والأصغر ، بحسب حال الحاكم . وتفصيل الأحوال التي ذكرها محلها كتب العقيدة .

ويؤخذ من حكم ابن القيم هذا أن وصف الكفر هنا يحمل على نوعيه : الأكبر والأصغر .

ويُشكل على هذا أن الله U قال : ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ فحكم الله بالكفر المطلق على من لم يحكم بما أنزل الله ، والكفر المطلق لا يكون إلا في الكفر الأكبر . ويدل على ذلك أن الله U أكد هذا الحكم بعدة مؤكدات :

أحدها : إتيانه بلفظ الاسم الدال على ثبوت الكفر .

الثاني : تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم ، فإنك إذا قلت : زيد العالم الصالح ، أفاد ذلك إثبات كمال ذلك له ، بخلاف قولك : عالم صالح .

الثالث : إتيانه سبحانه بالمبتدأ والخبر معرفتين ، وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ كما في قوله تعالى : ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (البقرة: من الآية5) ، وقوله تعالى : ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ (البقرة: من الآية254) ، وقوله : ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾ (الأنفال: من الآية4) ، ونظائره .

الرابع : إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر ، وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين : قوة الإسناد ، واختصاص المسند إليه بالمسند كقوله : ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ ( الحج: من الآية64) ، وقوله : ﴿ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ (المائدة: من الآية76) ، وقوله : ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ (الشورى: من الآية5) ، ونظائر ذلك .([37])

والحاصل أن الكفر إذا أطلق ، وعرف باللام فهو الكفر الأكبر المخرج من الملة ، إلا إذا قيِّد ، أو جاءت قرينة تصرفه عن ذلك 0([38])

ويضاف إلى ذلك أن لفظ "الكافرون" جاء بصيغة اسم الفاعل ، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه إذا أطلق لفظ "الكفر" جاز دخول جميع أنواع الكفر فيه ، وإذا أطلق اسم الفاعل "الكافر" لم يكن إلا للكفر الناقل عن الملة ؛ لأن اسم الفاعل لا يشتق إلا من الفعل الكامل .([39])

وقد مرّ قريباً تضعيف الرازي لتأويل من تأول الكفر بكفر النعمة .



النتيجة :

بعد العرض السابق لأقوال المفسرين ، واختياراتهم في تأويل الكفر في قول الله تعالى : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يظهر أنه ليس هناك قول سالم من إشكال يرد عليه ، والأقرب إلى الصواب – فيما ظهر لي – هو أن الكفر هنا هو الكفر الأكبر المخرج من الملة ، وأن المعنيّين بالآية هم اليهود أصالة ، ومن فعل فعلهم فلم يحكم بما أنزل الله رداً لحكم الله ، أو استخفافاً به ، أو تفضيلاً لغيره عليه ، أو اعتقاداً لعدم وجوبه .

أو يقال : إن الآية على عمومها وظاهرها ، تقرر أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر وتبقى بعض الحالات المعينة لا يحُكم فيها بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله في وقائع معينة لقيام مانع من موانع الحكم بتكفيره ، أو لعدم توفر الشروط اللازمة حتى يحكم بكفره ؛ وذلك بناءً على القاعدة المعروفة : أن من فعل فعلاً يوجب الكفر فلا يحكم بكفره حتى تتوفر الشروط ، وتنتفي الموانع . والله أعلم





الحواشي السفلية والتعليقات: --------------------------------------------------


([1] ) هكذا في الطبعة التي بين يدي ، وبعد النظر في المأثور في تفسير هذه الآية لم يظهر لي وجه هذه الكلمة ؛ لأنه لم يرو في هذا المعنى عن الصحابة ما يكفي للحكم بأنه قول عامة الصحابة ، فغلب على ظني أن في الكلمة تصحيفاً ، وأن الصحيح : ( تأويل ابن عباس وعامة أصحابه ) لأنهم هم الذين نقل عنهم هذا القول . وقد سألت الباحث علي القرعاوي أحد محققي مدارج السالكين في قسم العقيدة في كلية أصول الدين في الرياض عن هذه الكلمة ، فأكد لي أن الصحيح المعتمد في أكثر مخطوطات الكتاب هو ما غلب على ظني ؛ فالحمد لله على توفيقه . ثم وجدتها كذلك في طبعة أخرى بتحقيق عامر بن علي ياسين ، فتبين أن الصحيح :"وعامة أصحابه" .

([2] ) أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق هشام بن حُجَير عن طاووس عن ابن عباس : ( إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه ، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة ، ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَـافِرُونَ ﴾ كفر دون كفر .) ثم قال : ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) . وقال الذهبي : ( صحيح . ) . وهشام ضعفه الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، والعقيلي وجماعة ، وقال علي بن المديني : قرأت على يحي بن سعيد حدثنا ابن جريج عن هشام بن حجير ، فقال يحي بن سعيد : خليق أن أدعه . قلت أضربُ على حديثه ؟ قال نعم . وقال ابن عيينة لم نكن نأخذ عن هشام بن حجير ما لا نجده عند غيره .[ انظر الضعفاء للعقيلي 4 / 337 – 338 ، والكامل لابن عدي 7 / 2569 وتهذيب الكمال 30 / 179 – 180 ، وهدي الساري لابن حجر 447 – 448 .]

ويضاف إلى ذلك أنه قد خالف غيره من الثقات ، فعن عبد الله بن طاووس عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله تعالى : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ﴾ قال : "هي كفر" ، وفي لفظ : "هي به كفر" أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ( 1 / 186 ) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة ص339 ، وابن جرير ( 10 / 356 ) وغيرهما بسند صحيح وهذا هو الثابت عن ابن عباس رضي الله عنه ، فقد أطلق اللفظ ولم يقيّد . وبعد قول ابن عباس عند هؤلاء الثلاثة : ( قال ابن طاووس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .) وهذا فيه دليل على أن العبارة الأخيرة ليست من كلام ابن عباس ، خلافاً لمن أدخل كلام ابن طاووس في كلام ابن عباس .

والخلاصة أن طريق هشام بن حجير منكر من وجهين :

الوجه الأول : تفرد هشام به .

الوجه الثاني : مخالفته من هو أوثق منه .

وفي المقابل قام الباحث على بن حسن الحلبي بدراسة قول ابن عباس : " كفر دون كفر " في جزء مفرد بعنوان "القول المأمون" ، وأثبت صحته .



([3] ) أخرجه ابن جرير في تفسيره 10/355 بلفظ : "ليس بكفر ينقل عن الملة" .

([4] ) أخرجه عبدالرزاق في تفسيره 1/186 ، وابن جرير في تفسيره 10/355 ، 356.

([5] ) هكذا نسبه إليه البغوي في تفسيره معالم التنزيل 3/61 بدون إسناد ، ولم أجد هذا القول منسوباً إلى عكرمة في شيء من التفاسير المسندة ، وإنما روي عنه أنها نزلت في أهل الكتاب كما في تفسير ابن جرير 10/351 ، وانظر الدر المنثور للسيوطي 5/325 . وأما هذا القول فقد نسبه ابن جرير إلى ابن عباس ، وسيأتي إن شاء الله .

([6] ) انظر معالم التنزيل للبغوي 3/61 .

([7] ) المصدر السابق 3/61 ، ونص كلام البغوي : ( وقال العلماء : هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمداً ، فأما من خفي عليه ، أو أخطأ في تأويل فلا ) . وكل الأقوال التي ذكرها ابن القيم في تفسير هذه الآية ما عدا الأخير منقولة من تفسير البغوي .



([8] ) أخرج قوليهما ابن جرير في تفسيره 10/347 ، 351 .

([9] ) لم أجد هذا قولاً منسوباً إلى أحد من السلف بهذا اللفظ ، وهو بهذا الإطلاق قول الخوارج . انظر كتاب : الحكم بغير ما أنزل الله للدكتور عبدالرحمن المحمود 138 .

([10] ) مدارج السالكين لابن القيم 1/588-589 ، وبدائع التفسير 2/112 ، وقريب منه في كتاب الصلاة لابن القيم ص57-58 .

([11] ) ومن آخر ما كتب حول هذه المسألة وأجمعه : كتاب الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه للدكتور عبدالرحمن المحمود ، وقد خصص مبحثاً كاملاً استغرق ثلث الكتاب لشرح آيات سورة المائدة هذه من ص115 إلى ص234 .

([12] ) انظر تفصيل هذه الأقوال ومن قال بها في جامع البيان لابن جرير 10/346-357 .

([13] ) المصدر السابق 10/358 .

([14] ) انظر المحرر الوجيز لابن عطية 4/456-458 .

([15] ) وهذا ما ذهب إليه أبوعبيد القاسم بن سلام وقرره في كتابه : الإيمان ( معالمه ، وسننه ، واستكماله ، ودرجاته ) ص86-90 .

([16] ) التفسير الكبير للفخر الرازي 12/6 .

([17] ) هم مرجئة الفقهاء القائلون بأن الإيمان شيئان : إقرار بالقلب ، وقول باللسان ، وأما الأعمال فهي خارجة عنه مع أنها تقوى وبر . انظر قولهم ومقارنته بقول أهل السنة في الإيمان في كتاب الإيمان للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ص10 وما بعدها ، وانظر تقرير ذلك في كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية ص382-385 ، وقد نص على أن الرازي يقول في الإيمان بقول المرجئة .

([18] ) سيأتي بتمامه قريباً .

([19] ) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/190 .

([20] ) إعراب القرآن للنحاس 2/21-22 ، وقد ذكر بعض كلامه هذا في كتابه الآخر معاني القرآن 2/316 . وقد وافقه على أن "مَن" ليست للعموم الخطيب الإسكافي في درة التنزيل 1/462-463 .

([21] ) انظر أحكام القرآن لابن العربي 2/127 . وجعله " الكافرون" للمشركين غريب ، والذي عليه أصحاب هذا القول أنه للمسلمين ؛ لأن الخطاب لهم قبله ، فيحتمل أن هناك تصحيفاً في كلام ابن العربي ؛ لأن القرطبي لما نقل اختياره قال : ( وقيل : "الكافرون" للمسلمين .... وهذا اختيار أبي بكر بن العربي .) . قال الشنقيطي في أضواء البيان 2/92 : ( الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية ﴿ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ نازلة في المسلمين ، لأنه تعالى قال قبلها مخاطباً لمسلمي هذه الأُمة ﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِأيَتِى ثَمَناً قَلِيلاً﴾ ، ثم قال: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَـافِرُونَ ﴾ فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية ، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر ، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلاً له ، أو قاصداً به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.)

([22] ) انظر البحر المحيط لأبي حيان 4/269-270 .

([23] ) انظر النهر الماد من البحر لأبي حيان 2/247 .

([24] ) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/1178-1179 .

([25] ) المصدر السابق 3/1179 .

([26] ) انظر التحرير والتنوير لابن عاشور 6/210-212 .

([27] ) وقد نص ابن الزبير الغرناطي في كتابه ملاك التأويل 1/398 على إجماع المفسرين على تناول الوعيد الوارد في الآية لليهود .

([28] ) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحدود رقم 1700 ، وهو مذكور في كتب التفسير وأسباب النزول . وللآيات سبب نزول آخر ، وهو ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن الله أنزل: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ و﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ و ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ أنزلها الله في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي r المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله r ، ويومئذ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ، إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا وفرقاً منكم ؛ فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله r بينهم ، ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ، فدسوا إلى رسول الله r ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله r ، فلما جاؤوا رسول الله r ، أخبر الله رسوله r بأمرهم كله وما أرادوا ، فأنزل الله تعالى: ﴿ ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ ﴾ إلى قوله ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ففيهما والله نزلت ، وإياهما عنى الله U . أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/88-90 رقم 2212 ، وقال محققو المسند : إسناده حسن . قال ابن كثير في تفسيره 3/1178 بعد إيراده هذا السبب : ( وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم ، ولهذا قال بعد ذلك ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ﴾ (المائدة: من الآية45) إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ) وعلق أحمد شاكر على قول ابن كثير " فنزلت هذه الآيات في ذلك كله" بقوله : ( وهذا هو الصحيح المتعين ، وليس يجب أن يكون نزول الآيات لحادث واحد وقد صحّ وقوع الاثنين . وكثيراً ما تقع حوادث عدة ، ثم يأتي القرآن فيصلاً في حكمها ، فيحكي بعض الصحابة بعض السبب ، ويحكي غيره غيرَه ، وكلٌ صحيح . ) من حاشية المسند 4/90 . وعلى كلا السببين فلا إشكال في كون الآيات في شأن اليهود .

([29] ) انظر الموافقات للشاطبي 4/39 .

([30] ) وقد عبّر أبو السعود عن هذا المعنى بعبارة رصينة ، فقال : ( ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ كائناً من كان ، دون المخاطبين خاصة ؛ فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً . أي : من لم يحكم بذلك مستهيناً به منكِراً ، كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاءً بيّناً ﴿ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ لاستهانتهم به .) إرشاد العقل السليم لأبي السعود 3/42 باختصار .

([31] ) وقد بالغ محمد رشيد رضا في رد ظاهر الآية ، وقال إنه لم يقل به أحد قط ؛ فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقاً سواء حكم بغير ما أنزل الله تعالى أم لا . هكذا قال في فتوى له نقلها في تفسيره المنار 6/406 . وليس الأمر كما ظن ؛ لأن المراد بفعل الشرط المنفي هو الاتصاف بنقيضه ، أي : ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله . انظر التحرير والتنوير لابن عاشور 6/212-213 .

([32] ) أخرجه ابن جرير في تفسيره 10/357 ، وإسناده حسن كما في التفسير الصحيح للدكتور حكمت بن بشير بن ياسين 2/184 .

([33] ) أخرجه هذه الرواية سعيد بن منصور ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه كما في الدر المنثور للسيوطي 5/324-325 ويشهد لها قوله في سبب نزول الآية الثاني المذكور سابقاً : ففيهما والله نزلت ، وإياهما عنى الله U .

([34] ) وقد انقسم بعض المتأخرين تجاه قول ابن عباس : "كفر دون كفر " إلى طرفين ووسط ، فمنهم من ضعف قوله هذا كما سبق ، ومنهم من صححه واستدل به على أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر مطلقاً . ومنهم من توسط ، فرأى أن هذا القول ثابت عنه ، ولكنه محمول على حالة معينة ، وهي حالة من حكم جائراً في مسألة معينة بغير ما أنزل الله . وقد درس قوله هذا الدكتور عبدالرحمن المحمود في كتابه : الحكم بغير ما أنزل الله ، وعقد له مطلباً مستقلاً ص215- 234 .

([35] ) درس الدكتور المحمود هذه المسألة في كتابه السابق ، وذكرها ضمن الشبه التي تعلق بها البعض ، وهي شبهة : أنه لا يكفر إلا المستحل الجاحد لما أنزل الله ، وقرر أن هذا القول هو قول المرجئة . انظر كتابه : الحكم بغير ما أنزل الله 286-317 .

أقول : يمكن أن يقال : قول ابن عباس ومن وافقه يحمل على أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً فقد كفر ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يكفر إلا بالجحود . وقول المرجئة يحصر الكفر في الجحود .



([36] ) انظر تفصيل هذه المسألة في كتاب الدكتور المحمود : الحكم بغير ما أنزل الله ص125-151 .

([37] ) ذكر هذه المؤكدات ابن القيم عند تعليقه على قول الله U : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ (المنافقون:9) وأنها تدل على كفر تارك الصلاة لأن الخسران المطلق لا يكون إلا للكفار . انظر كتاب الصلاة له ص42-43 . مع التنبيه أن كلامه هنا جاء تعليقاً على آية خوطب بها المؤمنون ؛ فكيف بآية المائدة التي نزلت في اليهود ؟!.

([38] ) وقد قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع ، انظر كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم 1/237-238 ، وكتابه شرح العمدة 4/80-82 . وقرره قبله ابن الزبير الغرناطي في كتابه ملاك التأويل 1/400كما سيأتي في التعليق التالي .

([39] ) ذكر هذا التفريق الحافظ ابن رجب في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/131 ، وقال إنه اختيار ابن قتيبة ، وحكم عليه بأنه قول حسن ، لولا ما تأوله ابن عباس وغيره في الكفر في هذه الآية . وهو في روائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن رجب الحنبلي 1/430-431 .وقد تتبعت مواضع هذا اللفظ "الكافر" بالإفراد والجمع في القرآن ، فوجدته قد ذكر قريباً من السبعين مرة ، وكلها أطلقت على الكافر الخارج عن ملة الإسلام إلا قول الله تعالى – على لسان فرعون - : ﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ (الشعراء:19) . قال ابن الزبير الغرناطي في كتابه ملاك التأويل 1/400 : ( والكفر إذا ورد مجرداً عن القرائن إنما يقع على الكفر في الدين ، ثم إنه قد يقع على كفر النعمة ، ويفتقر إلى قرينة ، ومنه ..) وذكر هذه الآية التي في الشعراء
.
__________________ منقول
د. محمد بن عبدالله بن جابر القحطاني

moh396@hotmail.com