الجندى
03-22-2005, 09:38 PM
حكم مناظرة أهل البدع ، وضوابطها .. للشيخ سليم الهلالي
مناظرة أهل البدع والرَّد عليهم من أصول الإسلام
اعلموا إخواني في الله أسعدكم الله: أن الرَّدَّ من أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح أهل الحديث على رؤوس البدع, رأس في مراد الشارع الحكيم.
ومن استقرأ الوحيين رأى في مواقف الأنبياء مع أممهم, والدعاة مع أهلهم مواقف المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن, وهكذا ورثتهم من بعدهم, فإليكم بيانها:
أولاً- القرآن الكريم:
وردت إشارات صريحة في القرآن الكريم تدل على ذلك, وباستقرائها تبين أنها وردت على وجوه:
أ- بيان وظيفة الأنبياء والرسل في دعوتهم:
من المهمات التي بعث الله جلَّ جلاله رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, بيان مواطن النزاع, والفصل في موارد الإشكال, وفي ذلك يقول الحق عزَّ وجلَّ: (﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين﴾ { النحل: 36-39}.
وفى متعلق اللام فى قوله تعالى﴿ ليبين لهم الذى يختلفون فيه ﴾تفسيران:
الأول: أنها تتعلق بقوله ﴿ بلى ﴾ أي: يبعثهم ﴿ ليبين لهم ﴾, الضمير في قوله: ﴿ لهم ﴾ عائد إلى من يموت, لأنه شامل للمؤمنين والكافرين.
الآخر: أنها تتعلق بقوله: ﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ﴾ أي: بعثناه ﴿ ليبين لهم ﴾.
قلت: والراجح هو التفسير الأخير, بدلالة قوله تعالى:
﴿ تالله لقد أرسلنا إلى أمم قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم. وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ {الزخرف: 63-64}.
إذن, فبيان الخلاف بإحقاق الحق وإزهاق الباطل مقصد إلهي من مقاصد إرسال وإنزال الكتب.
ب- الرد على صنوف المخالفين: من الدَّهريين, الصابئة, والمجوس, وأهل الكتاب, والمنافقين, والكفار, والمبتدعين.
ت- إبطال شبه الكافرين والجاحدين بالباطل, وعلى رأسهم إبليس حيث فند الحق شبهه.
ث- تعليم المؤمنين طريق الحوار والاسترشاد والجدل بالتي هي أحسن.
ثانياً: السنة النبوية الصحيحة:
ففي نصوصها الكثير الطيب, فمن فعله:
1- ردَّه صلى الله عليه وسلم على الخويصرة التميمي عندما اعترض على قسمته صلى الله عليه وسلم .
2- وردَّه صلى الله عليه وسلم على النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادته وتقالّوها.
3- وردَّه صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل.
4- وردَّه صلى الله عليه وسلم على من سأله يوم حنين أن يجعل للمسلمين ذات أنواط.
5- محاجة وفد نصارى نجران.
قال ابن قيم الجوزية معلقاً على قصة وفد نجران:
"ومنها : جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم, بل استحباب ذلك, بل وجوبُه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم, وإقامة الحجة عليهم, ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة, فليول ذلك إلى أهله, وليُخَلِّ بَيْنَ المَطِيِّ وحَادِيها, والقوس وباريها, ولولا خشية الإطالة لذكرنا من الحُجج التي تلزم أهل الكتابين الإقرار بأنه رسول الله بما في كتبهم, وبما يعتقدون بما لا يمكن دفعه ما يزيد على مئة طريق, ونرجو من الله سبحانه إفرادها بمصنف مستقل.
ودار بيني وبين بعض علمائهم مناظرةٌ في ذلك, فقلت له في أثناء الكلام: ولا يتم لكم القدح في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بالطعن في الربِّ تعالى والقدح فيه, نسبته إلى أعظم الظلم والسفه والفساد, تعالى الله عن ذلك.
فقال: كيف يلزمنا ذلك؟.
قلت: بل أبلغ مِن ذلك, لا يَتمُّ لكم ذلك إلا بجحوده وإنكار وجوده تعالى, وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندكم ليس بنبي صادق, وهو بزعمكم ملك ظالم, فقد تهيأ له أن يفتري على الله, ويتقول عليه ما لم يقله, ثم يتم له ذلك, ويستمر حتى يحلل, ويحرم, ويفرض الفرائض, ويشرع الشرائع, وينسخ الملل, ويضرب الرقاب, ويقتل أتباع الرسل, وهم أهل الحق, ويسبي نسائهم وأولادهم, ويغنم أموالهم وديارهم, ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض, وينسب ذلك كله إلى أمر الله تعالى له به ومحبته له, والربُّ تعالى يشاهده, وما يفعل بأهل الحقّ وأتباع الرسل, وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة, وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره, ويعلي أمره, ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر, وأعجب من ذلك أنه يجيب دعواته, ويهلك أعداءه من غير فعل منه نفسه ولا سبب, بل تارة بدعائه, وتارة يستأصلهم سبحانه من غير دعاء منه صلى الله عليه وسلم , ومع ذلك يقضي له كل حاجة سأله إياها, ويعده كل وعد جميل, ثم ينجز له وعده على أتم الوجوه, وأكملها, هذا وهو عندكم في غاية الكذب والإفتراء والظلم, فإنه لا أكذب ممن كذب على الله, واستمر على ذلك, ولا أظلم ممن أبطل شرائع أنبيائه ورسله, وسعى في رفعها من الأرض, وتبديلها بما يريد هو, وقتل أولياءه وحزبه وأتباع رسله, واستمرت نصرته عليهم دائماً, والله تعالى في ذلك كله يقره, ولا يأخذ منه باليمين, ولا يقطع منه الوتين, وهو يخبر عن ربه أوحى إليه أنه لا صلى الله عليه وسلم أظلم ممن افترى على الله كذِباً أو قال أوحي إليَّ ولم يُوحَ إليه شيء ومن قال سأنزلُ مِثْلَ ما أنزل الله){الأنعام: 93} فيلزمكم معاشر من كذبه أحد أمرين لابد لكم منها:
إما أن تقولوا: لا صانع للعالم, ولا مدبر, ولو كان للعالم صانع مدبر قدير حكيم, لأخذ على يديه, ولقابله أعظم مقابلة, وجعله نكالاً للظالمين إذ لا يليق بالملوك غير هذا, فكيف بملك السماوات والأرض, وأحكم الحاكمين؟
والثاني: نسبة الرب إلى ما لا يليق به من الجور, والسفه, والظلم, وإضلال الخلق دائماً أبد الآباد, لا بل نصرة الكاذب, والتمكين له من الأرض, وإجابة دعواته, وقيام أمره من بعده, وإعلاء كلماته دائماً, وإظهار دعوته, والشهادة له بالنبوة قرناً بعد قرن على رؤوس الأشهاد فكل مجمع وناد, فأين هذا من فعل أحكم الحاكمين, وأرحم الراحمين؟ فلقد قد حتم في رب العالمين أعظم قدح, وطعنتم في أشد طعن, وأنكرتموه بالكلية, ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود, وظهرت له شوكة, ولكن لم يتم له أمره, ولم تطل مدته, بل سلط عليه رسله وأتباعهم, فمحقوا أثره, وقطعوا دابره, واستأصلوا شأفته.
هذه سنته يفي عباده منذ قامت الدنيا, وإلى أن يرث الأرض ومن عليها فلما سمع مني هذا الكلام.
قال: معاذ الله أن نقول: إنه ظالم أو كاذب, بل كُل منصف من أهل الكتاب يقر بأن من سلك طريقه, واقتفى أثره, فهو من أهل النجاة والسعادة في الأخرى.
قلت له: فكيف يكون سالك طريق الكذاب, ومقتفي أثره بزعمكم من أهل النجاة والسعادة؟
فلم يجد بدأ من الاعتراف برسالته, ولكن لم يرسل إليهم.
قلت: فقد لزمك تصديقه, ولابد وهو قد تواترت عنه الأخبار بأنه رسول رب العالمين إلى الناس أجمعين, كتابيهم وأمِّيهم, ودعا أهل الكتاب إلى دينه, وقاتل من لم يدخل في دينه منهم حتى أقروا بالصغار والجزية, فَبُهِتَ الكافر, ونهض من فوره".
والمقصود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفى, وكذلك أصحابه من بعده, وقد أمره الله سبحانه بجداله بالتي هي أحسن في السورة المكية والمدنية, وأمره أن يدعوهم بعد ظهور الحُجَّة إلى المباهلة, وبهذا قام الدين, وإنما جعل السيف ناصراً للحجة, وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته, وهو سيف رسوله وأمته" ا.هـ.
ومن قوله:
1-"جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.
2-"يحمل هذا العلم من كل خلف عدد له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".
ومن إقراره صلى الله عليه وسلم :
1- إقراره لحسان بن ثابت في هجائه للمشركين:
ثالثاً: أقوال الصحابة رضي الله عنهم:
قام الصحابة رضي الله عنهم بواجب الجهاد عن الإسلام عقيدة وشريعة خير قيام من رد البدع, وتفنيد الأهواء المضلة ووئدها في مهدها, فمن ذلك:
1-مناظرة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأفراخ الخوارج في مسجد الكوفة.
2-مناظرة عبد الله بن عباس رضي الله عنه للخوارج.
3-مناظرة أمير المؤمنين على بن أبي طالب للخواج.
وستمر بك إن شاء الله, وهي مشهورة:
قال ابن عبد البر رحمه الله:
" وناظر على رضي الله عنه الخوارج حتى انصرفوا, وناظرهم ابن ابن عباس أيضاً بما لا مدفع فيه من الحجة من نحو كلام علي, ولولا شهرة ذلك وخشية طول الكتاب لاجتلبت ذلك على وجهه").
الجندى
03-22-2005, 09:39 PM
باب ذكر ما تعلق به من أنكر المجادلة وإبطاله
احتج من ذهب إلى إبطال الجدال بقول الله تعالى: ﴿الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص﴾ {الشورى: 35}.
وبقوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ){آل عمران: 20}.
ومن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل", ثم قرأ:﴿ ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ﴾ {الزخرف: 58}.
عن إسحاق بن عيسى الطباع قال: رأيت رجلاً من أهل المغرب جاء مالكاً فقال: " إن الأهواء كثرت قبلنا فجعلت على نفسي إن أنا رأيتك أن آخذ بما تأمرني".
فوصف له مالك شرائع الإسلام الزكاة والصلاة والحج ثم قال: " خذ بهذا ولا تخاصم أحداً ".
عن أبي عبد الله الأزدي قال: حدثني عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون بهذه الرسالة وقرأها علي:
" أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله, والاختصار في أمره, وإتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وترك ما أحدث المحدثون في دينهم مما قد كفوا مؤنته, وجرت فيهم سنته, ثم اعلم أنه لم تكن بدعة قط إلا وقد مضى قبلها عليها, فعليك بتقوى الله, ولزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة, وإنما جعلت السنة ليستن بها ويعتمد عليها, وإنما سنها من علم ما في خلافها من الزلل والخلاف والتعمق فارض لنفسك ما رضوا لأنفسهم بعلم وقفوا, وببصر ما كفوا, ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى, وبفضل لو كان فيها أحرى, وأنهم لهم السابقون, فإن كان الهدى ما أحدثتم وما أنتم فيه لقد سبقتموه, ولئن قلتم حَدَثَ حَدَثٌ بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيله ورغب بنفسه عنهم, ولقد وضعوا ما يكفي, وتكلموا بما يشفي, فما دونهم مقصر, ولا فوقهم محسن, وإنهم لذلك لعلى هدى مستقيم, فارجعوا إلى معالم الهدى وقولوا كما قالوا, ولا تفرقوا بينما جمعوا, ولا تجمعوا بينما فرقوا, فإنهم جعلوا لكم أئمة وقادة, هم حملوا إليكم كتاب الله وسنة نبيه, فهم على ما حملوا إليكم من ذلك أمناء وعليكم فيه شهداء, واحذروا الجدل فإنه يقربكم إلى كل مؤبقة ولا يسلمكم إلى ثقة ".
فنظرنا في كتاب الله تعالى وإذا فيه ما يدل على الجدال والحجاج فمن ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ {النحل: 125}.
فأمر الله رسوله في هذه الآية بالجدال, وعلمه منها جميع آدابه من الرفق البيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة.
وقال تعالى: ﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ﴾ {العنكبوت: 46}.
وقال تعالى: ﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ﴾ {البقرة: 258}.
وقال تعالى: ﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ﴾ {النحل: 123}.
وكتاب الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف, فتضمن الكتاب ذم الجدال والأمر به, فعلمنا علماً يقيناً: أن الذي ذمه غير الذي أمر به, وأن من الجدال ما هو محمود مأمور منهي عنه, فطلبنا البيان لكل واحد من الأمرين فوجدناه تعالى قد قال: ﴿ ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق ﴾ {الكهف: 56}.
وقال: ﴿ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا﴾ {غافر: 35}.
فبين الله في هاتين الآيتين المذموم, وأعلمنا أنه الجدال بغير حجة, والجدال في الباطل.
فالجدال المذموم وجهان:
أحدهما: الجدال بغير علم.
والثاني: الجدال بالشغب والتمويه نصرة للباطل بعد ظهور الحق وبيانه.
قال الله تعالى: ﴿ وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ﴾ { غافر:5}.
وأما جدال المحقين فمن النصيحة في الدين, ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: ﴿ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ﴾ {هود: 32}.
وجوابه لهم: ﴿ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن انصح لكم إن كان الله يريد أن يقويكم ﴾ {هود: 34}.
==========
وعلى هذا جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
فأوجب المناظرة للمشركين, كما أوجب النفقة والجهــــاد في سبيل الله. عن الشعبي قال: قال عمـــــــر لزيــاد بن حدير: "أتدري ما يهدم الإسلام؟ ".
قال: فقال عمر: "زلة عالم, وجدال منافق, وأئمة مضلون".
عن مالك أنه بلغه أن الزبير بن العوام قال لابنه: "لا تجادل الناس بالقرآن فإنك لا تستطيعهم ولكن عليك بالسنة".
وقد تحاج المهاجرون والأنصار وحاج عبد الله بن عباس الخوارج بأمر علي بن أبي طالب, وما أنكر أحد من الصحابة قط الجدال في طلب لاحق. وأما التابعون ومن بعدهم, فتوسعوا في ذلك.
وثبت أن الجدال المحمود هو طلب الحق ونصره, وإظهار الباطل وبيان فساده, وأن الخصام بالباطل هو اللدد الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".
وجميع ما حكينا أنه تعلق به من أنكر المجادلة محمول على أنه أريد به الجدال المذموم الذي وصفناه, على أن مالك بن أنس قد بينه وأنه الجدل الذي يقصد به رد ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم , وكذلك قول الخليل: " ما كان جدل قط إلا أتى بعده جدل يبطله".
أراد به الجدال الذي ينصر به الباطل, لأن ما تقدم كان حقاً لا يأتي بعده شيء يبطله وهو في معنى قول عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل".
ويقال لمن أنكر ما ذكرناه: خبرنا عن نفيك المحاجة ودعاءك إلى ترك المناظرة أقلت ذلك بدليل وبرهان أم بغير حجة ولا بيان؟.
فإن قال: قلته بحجة, فقد التزم ما بقى وكفى به حاكماً على نفسه لخصمه.
وإن قال: قلته بغير برهان ولا حجة, كفى الخصم مؤنته بتحكيمه الهوى على نفسه, وكان له عليه إثبات ما بقى من المناظرة مثل دعواه من غير حجة ولا برهان: ﴿ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ﴾ {القصص: 50}.
والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ﴾ {المؤمنون: 71}.
وكفى بقول يقود إلى هذا قبحاً " ا. هـ مختصراً.
الجندى
03-22-2005, 09:40 PM
التوفيق بين أقوال السلف في النهي عن مجادلة
أهل البدع وقيامهم بهذا الأصل
وردت أقوال كثيرة عن السلف في النهي عن مجادلة أهل البدع ومناظرتهم:
عن أبي على حنبل بن إسحاق بن حنبل قال:كتب رجل إلى عبد الله رحمه الله كتاباً يستأذنه في أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع, وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم, ويحتج عليهم, فكتب إليه أبو عبد الله :
بسم الله الرحمن الرحمن : أحسن الله عاقبتك, ودفع عنك كل مكروه ومحذور.
الذي كنا نسمع, وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام, والجلوس مع أهل الزَّيغ, وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله أو سنة رسول الله لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ, لتردَّ عليهم, فإنهم يلبسون عليك, وهم لا يرجعون.
فالسلامة - إن شاء الله- في ترك مجالستهم, والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم, فليتق الله امرؤ, وليصر إلى ما يعود عليه نفعه غداً من عمل صالح يقدمه لنفسه, ولا يمكن ممن يحدث أمراً, فإذا هو خرج منه, أراد الحجة, فيحمل نفسه على المحال فيه, وطلب الحجة لما خرج منه بحق أو بباطل, ليزين به بدعته, وما أحدث, وأشدُّ من ذلك أن يكون قد وضعه في كتاب قد حمل عنه, فهو يريد أن يزين ذلك بالحق والباطل, وإن وضح له الحق في غيره, ونسأل الله التوفيق لنا ولك.والسلام عليك" .
وقد ثبت عن أئمة السلف رحمهم الله أقوال مثل كلمة الصديق الثاني العالم الرباني إمام أهل السنة وناصر الإسلام يوم المحنة أحمد بن حنبل الشيباني.وقد أوردها بأسانيدها الشيخ الإمام والعلامة الهمام أبو عبد الله عبيد الله ابن محمد بن بطة العكبري في كتابه الفذ الموسوم بـ"الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" (2/429-483), فانظره, فإنه نفيس, وحسبك قوله (2/429):
"قد أعلمتك يا أخي- عصمني الله وإياك من الفتن, ووقانا وإياك جميع المحن- أن الذي أورد القلوب حمامها, وأورثها الشك بعد اتقائها, هو البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا تؤمن فتنته. وقد كفى العقلاء مؤنته, وأن الذي أمرضها بعد صحتها, وسلبها أثواب عافيتها, إنما هو من صحبة من تغر إلفته, وتورد النار في القيامة صحبته.
أما البحث والسؤال, فقد شرحت لك ما إن أصغيت إليه –مع توفيق الله, عصمك, ولك فيه مقنع وكفاية. أما الصحبة, فسأتلوا عليك من نبأ حالها ما إن تمسكت به, نفعك, وإن أردت الله الكريم به, وفقك".
ثم ساق الآيات والأحاديث والآثار, وعززها بكلمات تنبئ البصير الحاذق, والغفل الرَّيّض عن جناية مجالسة أهل البدع والأهواء, وأن فاعل ذلك على شفا جرف الفتنة, وإنْ رأى أنه أهلّ لمجابهتهم, نعوذ بالله من خاتمة السوء.
ومن ذلك قوله (2-470).
"فالله الله معشر المسلمين! لا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه, وما عهد من معرفته بصحة مذهبه, على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء, فيقول : أدخله, لأناظره أو لاستخرج منه مذهبه؛ فإنهم أشد فتنة من الدجال, وكلامهم ألصق من الجرب, وأحرق للقلوب من اللهب.
ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم, فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم, فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم".
قلت: صدق ونصح, فقد رأينا ذلك عياناً.
ولقد نشأت نابتةٌ اعتزت إلى منهج السلف, وما هم على ذلك, إلا دعوى لأمور لا تخفى, جالسوا أهل الأهواء تحت شعار مناظرتهم, وكشف حقيقتهم, ولم يركنوا لأقوال أئمة السلف الذين خبروا أهل الأهواء, وسبروا مذاهبهم الصماء, فحذروا من هذه الفتنة الصلعاء, حتى صار الأمر كما وصفه ابن بطة فقال (2/480):
"فقط فاض البحر العميق, فاستغنى عن هذا التمييز والنظر والتدقيق, وفقدت تلك الأعيان, وصارت الزندقة يتفكه بها الأحداث والشبان, ظاهرة في السوقة والعوام, وصار التعريض تصريحاً, والتمريض تصحيحاً, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
مسَّكنا الله وإياكم بعروته الوثقى, وأعاذنا وإياكم من مضلات الهوى, ولا جعلنا وإياكم ممن باع آخرته بالدنيا, إنه سميع مجيب".
وقال (2/482):
"فرحم الله أئمتنا السابقين وشيوخنا الغابرين, فلقد كانوا لنا ناصحين, وجمعنا وإياهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقاً, ولا جعلنا من الأئمة المضلين, ولا ممن خلف محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته بمخالفة, وجاهده؛ لمحاربته, والطعن على سنته, وشتم صحابته, ودعا الناس بالغش لهم إلى الضلال وسوء المقال".
قلت: رحم الله أئمتنا من السلف الصالح, الذين سبقونا بالعلم والإيمان, فقد نصحوا لنا, وصدقوا, فإن الرائد لا يكذب أهله, وما كان الأمر ليصير إلى ما نرى لو درج الأدعياء على أثرهم, ولكنهم زبَّبوا قبل أن يحصرموا, وراموا البروز قبل أن ينضجوا, وبالغوا قبل أن يبلغوا, وناموا عن العلم فما استيقظوا, وركبوا مطايا الخير للشر, فاصطنعوا النزال في حلائب العلم, يريدون أن يعظموا بذلك, فاللهم نشكو إليك هذا الغثاء الذي أكثر في العلوم الشرعية الدخن, وفتح على الأمة الإسلامية دهاليز الوهن, وعلى أيديهم تسلل أهل البدع والفتن.
قال العلامة البحر الرائق ذو التحقيق الفائق أبو القاسم اللالكائي في كتابه المستطاب الموسوم بـ "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (1/17-20):
" فمضت على هذه القرون ماضون, الأولون والآخرون, حتى ضرب الدهر ضرباته, وأبدى من نفسه حدثانه, وظهر قوم أجلاف زعموا أنهم لمن جعلهم أخلاف, وادعوا أنهم أكبر منهم في المحصول, وفي حقائق المعقول, أهدى إلى التحقيق, وأحسن منهم في التدقيق , وأن المتقدمين تفادوا من النظر, لعجزهم, ورغبوا عن مكالمتهم, لقلة فهمهم, وأن نصرة مذهبهم في الجدال معهم, حتى أبدلوا من الطيب خبيثاً, ومن القديم حديثاً, وعدلوا عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبعثه الله عليه, وأوجب عليه دعوة الخلق إليه, وامتن على عباده إتمام نعمته عليهم بالهداية إلى سبيله, فقال تعالى: ﴿ واذْكُروا نِعْمَةَ الله علْيكُمْ وما أنْزَلَ مِن الكِتابِ والحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه ﴾ {البقرة: 231}.
وقال في آية أخرى: ﴿ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ {النحل: 125}. أي بالجدال والخصومة.
فرغبوا عنهما, وعوَّلوا على غيرها, وسلكوا بأنفسهم مسلك المضلين, خاضوا مع الخائضين, ودخلوا في ميدان المتحيرين, وابتدعوا من الأدلة ما هو بخلاف الكتاب والسنة, رغبة للغلبة وقهر المخالفين للمقالة, ثم اتخذوها ديناً اعتقاداً بعدما كانت دلائل الخصومات والمعارضات, وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين, وتسموا بالسنة والجماعة, ومن خالفهم وسموه بالجهل والغباوة.
فأجابهم إلى ذلك من لم يكن في معرفة السنة, ولم يسع في طلبها, لما يلحقه فيها من المشقة, وطلب لنفسه الدعة والراحة, واقتصر على حسمه دون رسمه, لاستعجال الرياسة, ومحبة اشتهار الذكر عند العامة, والتقلب بإمامة أهل السنة, وجعل دأبه الاستخفاف بنقلة الأخبار, وتزهيد الناس أن يتدينوا بالآثار, لجهله بطرقها, وصعوبة المرام بمعرفة معانيها, وقصور فهمه عن مواقع الشريعة منها, ورسوم التدين بها, حتى عفت رسوم الشرائع الشريفة, ومعاني الإسلام القديمة, وفتحت دواوين الأمثال والشبه, وطويت دلائل الكتاب والسنة, وانقرض من كان يتدين بحججها للأخذ بالثقة والتمسك بهما للضنة, ويصون سمعه عن هذه البدع المحدثة, وصار علك من أراد صاحب مقالة, وجد على ذلك الأصحاب والأتباع, وتوهم أنه ذاق حلاوة السنة والجماعة بنفاق بدعته.
وكلا, إنه ليس كما ظنه أو خطر بباله, إذ أهل السنة لا يرغبون عن طرائقهم من الإتباع, ولو نشروا المناشير, ولا يستوحشون لمخالفة أحد بزخرف قول من غرور, أو بضرب أمثال زور.
فما جنى على المسلمين جناية أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة, يموتون من الغيظ, كمداً ودرداً, ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً.
حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً, وصار لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً, حتى كثرت بينهم المشاجرة, وظهرت دعوتهم بالمناظرة, وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة, حتى تقابلت الشبه في الحجج, وبلغوا من التدقيق في اللجج, فصاروا أقراناً وأخداناً, وعلى المداهنة خلاّناً وإخواناً, بعد أن كانوا في الله أعداء وأضداداً, وفي الهجرة في الله أعواناً يكفرونهم في وجوههم عياناً, ويلعنونهم جهاراً, وشتان ما بين المنزلتين, هيهات ما بين المقامين.
نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا, وأن يمسكنا بالإسلام والسنة, ويعصمنا بمهما بفضله ورحمته".
================
فإن قيل: كيف يتفق نهيهم عن مناظرة أهل البدع مع قيامهم به؟
فالجواب: أنهم ذموا مناظرة أهل البدع في حالات, وقاموا بها في حالات أخرى, فذمهم يدخل في أبواب, منها:
1- ذمهم للكلام والفلسفة ولو كان للذب عن العقائد الشرعية وحراستها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " درء تعارض العقل والنقل" (7/165-173) بعد أن نقل كلام الغزالي في ذم السلف لذلك:
"فهذا كلام أبي حامد, مع معرفته بالكلام والفلسفة, وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام, ويذكر خلاف من نازعهم, ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته, وإذا لم يكن فيه فائدة إلى الذب عن هذه العقائد, امتنع أن يكون معارضاً لها, فضلاً عن أن يكون مقدما عليها, فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضاً للكتاب والسنة, وما كان من ذلك مناقضاً للكتاب والسنة, وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذ لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين: لا من السلف والأئمة, ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة, وما يقبل من ذلك وما يرد, وما يُحمد وما يُذم, وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء.
هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدال باطلاً, وإن قصد به نصر الكتاب والسنة, فيذمون من قابل بدعة ببدعة, وقابل الفاسد بالفاسد, فكيف من قابل السنة بالبدعة, وعارض الحق بالباطل, وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق؟!
ولكن المقصود هنا بيان ما ذكره من اتفاق أئمة السنة على ذمه, وما ذكره من أنه هو وطريق المتفلسفة لا يفيد كشف الحقائق ومعرفتها, مع خبرته بذلك.
وهو تكلم بحسب ما بلغه من السلف, وما فهمه وعلمه مما يحمد ويذم, ولم تكن خبرته بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم , كخبرته بما سلكه من طرق أهل الكلام والفلسفة, فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة, ما فيه من الجانب الذي هو أخبر من غيره, وذلك أن ما ذكره من أن مضرته هي إثارة الشبهات في العلم, وإثارة الغضب في الإرادة, إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقاً, بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة, بل معلومة.
فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبهاً وعداوة قيل فيه ذلك, والسلف لم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك, ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة, ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله, بل كانوا أعلم الناس بذلك, وأعرفهم بأدلة ذلك, ولا حرموا نظراً صحيحاً في دليل صحيح يُفضي إلى علم نافع, ولا مناظرة في ذلك نافعة: إما لهدى مسترشد, وإما لإعانة مستنجد, وإما لقطع مبطل متلدد, بل هم أكمل الناس نظراً واستدلالاً واعتباراً, وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها, فإن الناظر الطالب للعلم: إما أن يكون نظره في كلام مَعُلَّم يبين له ويخاطبه بما يعرّفه الحق, وإما أن يكون في نفس الأمور الثابتة, التي يخبر عنها المتكلم, ويريد أن يعلم أمرها المتعلم, كسائر الناظرين في الطب والنحو وغير ذلك: إما أن ينظر في كلام المعلمين لهذا الفن, وإما أن ينظر فيما من شأنه أن يخبر عنه كالأبدان واللغات.
والسلف كان نظرهم في خير الكلام وأفضله, وأصدقه وأدله على الحق, وهو كلام الله تعالى, وهم ينظرون في آيات الله تعالى التي في الآفاق وفي أنفسهم, فيرون في ذلك من الأدلة ما يبين أن القرآن حق.
قال تعالى: ﴿ سَنُرِيِهمْ آيَاتِنَأ في الآفَاقِ وَفِي أنفٌسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الْحَقَّ ﴾ {فصلت: 53}.
والمناظرة المحمودة نوعان, والمذمومة نوعان.
وذلك لأن الناظر: إما أن يكون عالماً بالحق, وإما أن يكون طالباً له, وإما أن لا يكون عالماً به ولا طالباً له.
فهذا الثالث هو المذموم بلا ريب.
وأما الأولان: فمن كان عالماً بالحق فمناظرته المحمودة أن يبين لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشداً طالباً للحق إذا تبين له, أو يقطعه ويكف عدوانه إن كان معانداً غير متبع للحق إذا تبين له, ويوقَّفٌه ويُسلََّكه ويبعثه على النظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه حق وقصده الحق.
وذلك لأن المخاطب بالمناظرة إذا ناظره العالم المبين للحجة: إما أن يكون ممن يفهم الحق ويقبله إذا فهم, أو ليس له غرض في فهمه, بل قصده مجرد الرَّد له, فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شرُّه عن الناس وعداوته, وهذا هو المقصود الذي ذكره أبو حامد وغيره, وهو دفع أعداء السنة المجادلين بالباطل عنها.
وإما أن يكون الحق قد التبس عليه, وأصل قصده الحق, لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق, مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق, أو لضعف عقله لكونه لا يمكنه أن يفهم دقيق العلم, أو لا يفهمه إلا بعد عسر, أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه وظن أنه لا جواب عنه, فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك: إما معرفة بالحق, وإما شكاً وفوقفاً في اعتقاده الباطل, أو في اعتقاده صحة الدليل الذي استدل به عليه, وبعث همته على النظر في الحق وطلبه, إن كان له رغبة في ذلك, فإن صار من أهل العصبية الذين يتَّبعون الظن وما تهوى الأنفس أُلحق بقسم المعاندين.
وأما المناظرة المذمومة من العام بالحق, فأن يكون قصده مجرد الظلم والعدوان لمن يناظره, ومجرد إظهار علمه وبيانه لإرادة العلو في الأرض, فإذا أراد علوّاً في الأرض أو فساداً كان مذموماً على إرادته.
ثم قد يكون من الفجار الذين يؤيد الله بهم الدين, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" .
فكما قد يجاهد الكفار فاجر فينتفع المسلمون بجهاده, فقد يجادلهم فاجر فينتفع المسلمون بجداله, لكن هذا يضر نفسه لسوء قصده, وربما أوقعه ذلك في أنواع من الكذب والبدعة والظلم, فيجره إلى أمور أخرى.
وقد وقع في ذلك كثير من هؤلاء وهؤلاء.
وأما إن كان المناظر غير عالم بالحق, بأن لا يعرف الحق في نفس المسألة, أو يعرف الحق لكن لا يعرف بعض الحجج, أو الجواب عن بعض المعارضات, أو الجمع بين دليلين متعارضين, وأمثال ذلك فهذا إذا ناظر طالباً محموداً, وإن ناظر بلا علم, فتكلم بما لا يعرف من القضايا والمقدمات كان مذموماً.
================
والسلف رضوان الله عليهم كانت مناظرتهم مع الكفار وأهل البدع –كالخوارج وغيرهم- من القسم الأول, وكانت مناظرة بعضهم لبعض في مسائل الأحكام والتفسير: تارة من القسم الأول, وتارة من القسم الثاني, وهي المشاورة التي مدحهم الله عليها بقوله عز وجل: ﴿ وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ {الشورى: 38}.
وما ذكره الله تعالى عن الأنبياء المؤمنين من المجادلة يتناول هذا وهذا. وقد ذم الله تعالى في القرآن ثلاثة أنواع من المجادلة:
ذم صاحب المجادلة بالباطل ليدحض به الحق.
وذم المجادلة في الحق بعد ما تبين.
وذم المحاجة فيما لا يعلم المحاج.
فقال تعالى: ﴿ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ {غافر: 5}.
وقال تعالى: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقَّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ﴾ {الأنفال: 6}.
وقال: ﴿ هَا أنتُمْ هؤلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحاجون فِيمَا لِيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ﴾ {آل عمران: 66}.
والذي ذمَّه السلف والأئمة من المجادلة والكلام هو من هذا الباب, فإن أصل ذمهم الكلام هو: الكلام المخالف للكتاب والسنة, وهذا لا يكون في نفس الأمر إلا باطلاً, فمن جادل به جادل بالباطل, وإن كان ذلك الباطل لا يظهر لكثير من الناس أنه باطل لما فيه من الشبهة, فإن الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد لا يكن قولاً ومذهباً لطائفة تذب عنه, وإنما يكون باطلاً مشوباً بحق, كما قال تعالى: ﴿ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وأنتُمْ تَعْلَمُون ﴾ {آل عمران: 71}.
أو تكون فيه شبهة لأهل الباطل, وإن كانت باطلة وبطلانها يتبين عند النظر الصحيح, كالذين قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن ومجنون.
قالوا: إنه شاعر لأن الشعر كلام موزون مقفى فشبهوا القرآن به من هذا الوجه.
والكاهن يخبر أحياناً بواحدة تصدق فشبهوا الرسول به من هذا الوجه.
والمجنون يقول ويفعل خلال ما في عقول ذوي العقول, فلما زعموا أن ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف ما يأتي به العقلاء نسبوه إلى ذلك!
لكن ما ينصبه الله من الأدلة, ويهدي إليه عباده من المعرفة, يتبين به الحق من الباطل الذي يشتبه به, ولكن ليس كل من عرف الحقّ –إما بضرورة أو بنظر- أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه, فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع, وما به يعرفه به غيره نوع, وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به, فلهذا كان النظر أوسع من المناظرة, فكل ما يمكن المناظرة به يمكن النظر فيه, وليس كل ما يمكن النظر فيه يمكن مناظرة كل أحد به.
ولهذا كان أهل العلم بالحديث لهم علوم ضرورية بأقوال الرسول ومقاصده, ولا يشركهم فيها إلا من شركهم في أسبابها.
والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته, والجواب عما يعارضه, وإن كانوا في ذلك درجات, وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك, بل هذا يقوم بالبعض, وهذا يقوم بالبعض, كما في نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم , وغير ذلك من أمور الدين.
والكلام الذي ذموه نوعان:
أحدهما: أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً, وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب, فإن أصدق الكلام كلام الله.
والثاني: أن يكون فيه مفسدة, مثلما يوجد في كلام كثير منهم: من النهي عن مجالسة أهل البدع, ومناظرتهم, ومخاطبتهم, والأمر بهجرانهم.وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم, فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون, وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته, فإنه يجب منعه من ذلك, فإذ هجر وعزر, كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ ابن عسل التميمي, وكما كان المسلمون يفعلونه, أو قتل كما قتل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما – كان ذلك هو المصلحة, بخلاف ما إذا ترك داعياً, وهو يقبل الحق : إما لهواه, إما لفساد إدراكه, فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين.
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه, وناظروه وبيّنوا له الحق, كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه, ثم نكث التوبة بعد ذلك, فقلتوه.
وكذلك علي رضي الله عنه بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم, ثم رجع نصفهم, ثم قاتل الباقين.
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف, وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس, قوبل بالعقوبة.
قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وْعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابُ شَدِيدٌ ﴾ {الشورى: 16} ا.هـ.
2- ذمهم المناظرة إذا كان المناظر ضعيفاً لا يستطيع درء الشبهات ولا حلُّ المعضلات, فإن القلوب ضعيفة والشبه خَطَّافة.
قال شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" (7/173):
" وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة, إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة, فيُخاف عليه أن يفسده ذلك المُضلُّ, كما يُنهى الضعيف في المقاتلة في أن يقاتل عِلجاً قوياً من علوج الكفار, فإن ذلك يضرُّه ويضر المسلمين بلا منفعة".
أما إذا كان المناظر أحد الراسخين في العلم ويعرف الفلج في قوله لزمه البيان:
قال ابن عبد البر رحمه الله في " جامع بيان العلم" (2/106-107):
"هذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو ممن جاء عنه التغلط في النهي عن الجدال في الدين, وهو القائل: "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل" , ولما اضطر وعرف الفلج في قوله: ورجى أن يهدي الله به لزمه البيان, فبين وكان أحد الراسخين في العلم رحمه الله.
قال بعض العلماء: كل مجادل عالم وليس كل عالم مجادلاً, يعني: أنه ليس كل عالم يتأتي له الحجة, ويحضره الجواب, ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجة, ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء, وأنفعهم مجالسة ومذاكرة, والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم" ا.هـ.
3- ذمهم المناظرة إذا كان الخصم معانداً مقيماً على بدعته ولو ظهر له الحق:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "درء تعارض العقل والنقل" (7/174):
"وقد يُنهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله- وهو السوفسطائي- فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان سوفسطائياً, ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك, بل إن كان فاسد العقل داووه, وإن كان عاجزاً عن معرفة الحق –ولا مضرة فيه- تركوه, وإن كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة: إما بالتعزيز وإما بالقتل, وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر.
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها, أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة, أو فيها مفسدة راجحة, فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال.
أما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة وتارة أخرى. وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها: محمود ومذموم, ومفسدة ومصلحة, وحق وباطل" أهـ.
4-ذمهم التعرض لكل من طلب المناظرة.
5-ذمهم مناظرة من لم يعرف خطره, وينتشر شرر, فإن فِعْلَ ذلك يُظْهِرُهُ, وقد مضى هذا صريحاً في كلام اللالكائي
Powered by vBulletin™ Version 4.2.1 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, ENGAGS © 2010