المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بدعة إعادة فهم النص (1)



متروي
08-17-2010, 08:57 PM
مقدِّمة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهرَه على الدِّين كله ولو كره المشركون، والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمةً للعالمين نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فمن أسباب حفظ الله لدينه أن يُقَيِّضَ له على مرِّ العصور مَن يَذُبُّ عنه، ويَرُدُّ مطاعنَ الأعداء وافتراآتهم؛ ليبقى دينُ الله تعالى نقيًّا من كلِّ شائبة، غضًّا طريًّا لأصحاب الفطر السَّويَّة.
ولما تطاول بعضُ الكتَّاب في هذا العصر على مسلَّمات ديننا، عقدتُ العزمَ على إلقاء محاضرة بعنوان (بدعة إعادة فهم النَّصّ)؛ لكشف عوارهم، وهتك أستارهم؛ إعذارًا وإنذارًا، وقد يَسَّرَ اللهُ لي إلقاءَها في بعض مدن المملكة العربية السُّعوديَّة، وشاركني في إعدادها الفريقُ العلميُّ في مجموعة زاد، وها هو اليوم يسعى لإخراجها على هيئة مادَّة منشورة.
ومما يجدر الإشارة إليه أنَّني استفدتُ من كتابين تخصُّصًا في الرَّدِّ على هذا الفكر المنحرف؛ ألا وهما:
كتاب (العلمانيُّون والقرآن الكريم) للدكتور/ أحمد إدريس الطَّعَّان( ).
وكتاب (التَّيَّار العلمانيُّ الحديث وموقفُه من تفسير القرآن الكريم) لمنى محمد الشَّافعيّ( ).
واللهَ نسألُ أن يحفظَ دينَه وكتابَه وسنَّةَ نبيِّه؛ وهو حسبُنا ونعم الوكيل، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


محمد صالح المنجد


تمهيد
إنَّ معركةَ تحريف معنى النَّصِّ وتأويله على غير وجهه معركة قديمة، بدأت منذ عصر الصَّحابة رضوان الله عليهم عندما بزغ قرنُ الخوارج الذين أرادوا تفسيرَ النُّصوص الشَّرعيَّة وفهمها فهمًا مغايرًا لفهم أصحاب النَّبيِّ .
فخرجوا بمقولات عجيبة وآراء شاذَّة غريبة مخالفة لما كان عليه النَّبيُّ  وأصحابه رضي الله عنهم؛ فَكَفَّروا المسلمين بالذَّنب والمعصية، وخرجوا عن جماعتهم، فقاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- على هذا الفهم المحرَّف الجديد والتَّأويل المبتدع لكتاب الله.
ولذلك قال لهم ابنُ عبَّاس- رضي الله عنهما- عندما ناظرهم: «أتيتكم من عند أصحاب النَّبيِّ  المهاجرين والأنصار، ومَن عند ابن عمِّ النَّبيِّ  وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ»( ).
وقد أخبرنا النَّبيُّ  عن هذه المعركة التي ستقوم بين المحرِّفين للنُّصوص عن معانيها، وبين أصحابه والتَّابعين لهم بإحسان المتمسِّكين بفهمها على المراد الذي أنزله الله تعالى؛ فعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: كنَّا جلوسًا ننتظر رسولَ الله  فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، فقمنا معه، فانقطعت نعله، فتخلَّف عليها عليّ رضي الله عنه يخصفها، فمضى رسولُ الله  ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه فقال: «إنَّ منكم مَن يقاتل على تأويل هذا القرآن، كما قاتلت على تنزيله». فاستشرفنا، وفينا أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- فقال: «لا، ولكنَّه خاصف النَّعل». قال: فجئنا نبشِّره، وكأنَّه قد سمعه( ).
فقد أخبر النَّبيُّ  عن مجاهدين من أمَّته يقاتلون على تفسير وفهم القرآن والسُّنَّة؛ ليردُّوا الناس إلى الفهم الحقِّ لهما، كما قاتل  في بداية الإسلام على إثبات نزول القرآن، وأنَّه من عند الله.
فالمعركة مع أهل التَّحريف والتَّأويل الباطل مستمرَّةٌ لم تتوقَّف على مرِّ العصور والأيام، وفي كلِّ زمان لها دعاتُها وأربابُها.
وفي وقتنا الحاضر يرفع رايةَ التَّحريف فئامٌ من الكتَّاب والمفكِّرين تحت شعارات مختلفة يجمعها المطالَبة بتحريف دين الله، وإعادة فهم الإسلام ليتوافق مع الواقع.
فمرة يرفعون شعار: «تجديد الفكر الإسلامي».
ومرة يدعون لـ: «تجديد الخطاب الديني».
واليوم تراهم يدعون إلى «تعدد القراءات»، ويطالبون بـ «إعادة قراءة النص الشرعي»؛ ليخرجوا لنا بـ «قراءة جديدة للإسلام» تتواكب مع تطوُّرات الحياة ومتغيِّرات العصر كما زعموا.
لقد أدرك أعداءُ هذا الدِّين أنَّ اللهَ تكفَّل بحفظ نصوص الوحيين؛ فهي تُتلَى على مسامع الأمَّة صباحَ مساء؛ ولذلك لم يكن لهم من مدخل يدخلون منه إلَّا تحريف معاني ودلالات النُّصوص الشَّرعيَّة؛ وذلك سيرًا على منهج اليهود الذين قال الله فيهم: يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75].
«ولمَّا كان النَّبيُّ  قد أخبر أنَّ هذه الأمةَ تتَّبع سننَ من قبلَها حذوَ القذَّة بالقذَّة... وجب أن يكون فيهم مَن يحرِّفُ الكلمَ عن مواضعه؛ فيغيِّر معنى الكتاب والسُّنَّة فيما أخبر الله به، أو أمر به...»( ).
فها هي معركة تحريف معنى النَّصِّ الشَّرعيِّ وتأويله قائمةٌ في هذا الزَّمن تصديقًا لما أخبر به ، ولا يزال الصَّادقون المخلصون من هذه الأمَّة يصدُّون أولئك المحرِّفين ويردُّون عليهم قراءاتهم المحرَّفة؛ لتحقيق موعود الله- جلَّ وعلا- في حفظ الوحي؛ «لفظًا ومعنًى»، والعاقبة للمتقين.

أهميَّةُ التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة وتلقِّيها بالقبول
إنَّ من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين أنَّه لم يجعل أمرَ الطَّريق الموصل إليه ملتبسًا عليهم؛ بل بيَّنَه سبحانه وتعالى أكملَ بيان وأوضحَه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164].
وفرض اللهُ- سبحانه وتعالى- على كلِّ مسلم في كلِّ يوم وليلة أن يدعوه مرارًا ليهديَه الصِّراطَ المستقيمَ الذي وصفه بقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7]، وهم: الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69]، وأوَّلُ مَن يدخل في هذا بعد الأنبياء: الصَّحابة ومَن تابَعَهم على فهمهم للكتاب والسُّنَّة.
ولذلك أمر النَّبيُّ  بالتَّمَسُّك بمنهجهم والسَّير على طريقهم؛ فعن العرباض بن سارية- رضي الله عنه- قال: وَعَظَنا رسولُ الله  يوماً بعد صلاة الغداة موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إنَّ هذه موعظةُ مودِّع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسَّمع والطَّاعة؛ وإن تأمَّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ، وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عضّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدَثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ»( ).
ومن لطائف الفوائد في هذا الحديث: أنَّ رسولَ الله  بعد أن ذكر سنَّتَه وسنةَ الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين قال: «عضوا عليها بالنواجذ». ولم يقل: «عضوا عليهما». للدِّلالة على أنَّ سنَّتَه وسنَّةَ الخلفاء الرَّاشدين منهجٌ واحد وطريق واحد؛ فلا يكون الأخذُ بسنَّته على الوجه المطلوب إلَّا بالتَّمَسُّك بما جاء به من القرآن والسُّنَّة بفهم صحابته رضي الله عنهم.
فالقرآنُ الكريمُ والسُّنَّةُ الصَّحيحةُ هما المصدرُ الأساسُ للأحكام الشَّرعيَّة؛ فلا مصدرَ للأحكام الشَّرعيَّة ولا أساسَ لها إلا الوحي، وهو نوعان: القرآن والسُّنَّة.
فأمَّا القرآنُ فهو: كلامُ الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه، محفوظٌ من الخطأ والزَّلل والزِّيادة والنَّقص، تنزيل من حكيم حميد.
وهو حبلُ الله المتين وصراطُه المستقيم، أنزله على رسوله هدايةً للعالمين: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم: 1].
وجعله حَكَمًا بين الناس: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة: 213]، أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: 114]؛ أي: موضَّحًا فيه الحلال والحرام، والأحكام الشرعية، وأصول الدِّين وفروعه الذي لا بيان فوق بيانه، ولا برهان أجلى من برهانه، ولا أحسن منه حكمًا، ولا أقوم قيلاً ( ).
وأمَّا السُّنَّة فهي: قول رسول الله ، ويشمل ذلك فعله وإقراره؛ فكلُّها وحيٌ يلزم ويتَّبع؛ قال تعالى: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 2-4]؛ فهو  راشدٌ غيرُ ضالّ، مهتد غير غاو، لا يقول إلا صدقًا، ولا يفعل إلا حقًّا، ولا يقرِّر إلا عدلاً.
وسنَّتُه هي الحكمةُ التي أنزلها الله عليه: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113].
قال الشَّافعيُّ- رحمه الله: «فذكر الله الكتابَ وهو القرآن، وذكر الحكمةَ، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمةُ سنَّةُ رسول الله »( ).
وإنَّما أنزل اللهُ هذه الحكمةَ تبيانًا للقرآن الكريم؛ قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44].
وقد قام النَّبيُّ  بدوره في تبليغ القرآن وبيانه على أحسن وجه؛ فالقرآن الكريم كلامُه سبحانه وتعالى، والسُّنَّةُ النَّبويَّةُ بيانُه ووحيُه إلى رسوله ، ولقد مضى عصرُ السَّلَف الصَّالح وهم لا يفرِّقون من حيث التَّطبيق والتَّنفيذ والسَّمع والطَّاعة بين حكم شرعيٍّ نزل به القرآن أو جاءت به سنَّةُ رسول الله ، ملتزمين أمرَ الرَّبِّ جلَّ وعلا: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]؛ مجانبين نهيَه  عن التَّفريق بين الكتاب والسُّنَّة في أصل الاحتجاج حين قال: «ألا هل عسى رجل يَبْلُغُه الحديثُ عنِّي وهو متَّكئٌ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله؛ فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمْناه، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ الله  كما حرَّم الله»( ).
وعلى هذا النَّهج سارت الأمَّةُ طيلةَ القرون الثَّلاثة الفاضلة، وهي تقدِّم النَّصَّ بنوعيه وتقدِّسُه، وتعمل بهديه ولا تعدل عنه، وتسلِّم له تسليمًا تامًّا.
والتسليم للنصوص الشرعية بالرضا والقبول من أصول الإسلام، وأساسيات هذا الدين التي لا يقوم ولا يتم إلا بها؛ فالإسلام هو الاستسلامُ لله والانقيادُ له ظاهرًا وباطنًا؛ وهو الخضوعُ له والعبوديَّةُ له( )، قال أهل اللغة: أسلم الرجل، إذا استسلم ( ).
فالتسليم هو: خضوع القلب، وانقياده لما جاء عن الله ورسوله ، والاستسلام للنُّصوص من أجل مقامات الإيمان ... وهو محض الصِّدِّيقيَّة التي هي بعدَ درجة النُّبُوَّة، وأكمل النَّاس تسليمًا أكملُهم صدِّيقيَّةً ( ).
ولا أحد أحسنُ دينًا، ولا أصوبُ طريقًا، ولا أهدى سبيلاً ممَّن أسلم وجهَه لله تعالى فانقاد له بالطَّاعة التَّامَّة؛ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء: 125]؛ فهذه حالُ المؤمن: «كمالُ التَّسليم والانقياد لأمره، وتلقِّي خبره بالقبول والتَّصديق دون أن يحملَه معارضةُ خيال باطل يسمِّيه معقولاً، أو يحمِّله شبهةً، أو شكًّا، أو يُقدِّم عليه آراءَ الرِّجال وزبالات أذهانهم»( ).
قال الزُّهريُّ رحمه الله: «من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التَّسليم»( )، «ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التَّسليم والاستسلام»( )؛ فالوحيُ الإلهيُّ «لا سبيلَ إلى مقابلته إلَّا بالسَّمع والطَّاعة والإذعان والقبول؛ وليس لنا بعدَه الخيرةُ، وكلُّ الخيرة في التَّسليم له والقول به، ولو خالفه مَن بَين المشرق والمغرب»( )؛ قال- تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36]؛ فلا ينبغي ولا يليق ممَّن اتَّصَفَ بالإيمان إلَّا الإسراع في مرضاة الله ورسوله، والهرب من سَخَط الله ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما.
ولا يليق بمؤمن ولا مؤمنة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا من الأمور وألزما به أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي: الخيار؛ هل يفعلونه أو لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة أنَّ الرَّسولَ  أولى به من نفسه؛ فلا يجعل بعضَ أهواء نفسه حجابًا بينَه وبين أمر الله ورسوله.
وقد أقسم- تعالى- بذاته المقدَّسة أنَّه لا يثبت لأحد إيمان، ولا يكون من أهله، حتى يُحكِّمَ رسولَ الله  في جميع الأمور: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65].
فلا يصحُّ إيمان أحد حتى يُحَكَِّمَ النُّصوصَ في جميع أموره، وينقاد لها في الظَّاهر والباطن، ويسلِّم تسليمًا كلِّيًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ( )؛ قال الشَّوكانيُّ- رحمه الله: «وفي هذا الوعيد الشَّديد ما تقشعرُّ له الجلودُ، وترجف له الأفئدةُ؛ فإنَّه أوَّلاً أقسم- سبحانه- بنفسه مؤكِّدًا لهذا القسم بحرف النفي بأنَّهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان حتى يحصل لهم تحكيمُ رسول الله .
ثمَّ لم يكتف- سبحانه- بذلك حتى قال: ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ؛ فضمَّ إلى التَّحكيم أمرًا آخر؛ وهو عدمُ وجود حرج في صدورهم؛ فلا يكون مجرَّد التَّحكيم والإذعان كافيًا حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانشراح قلب وطيب نفس، ثمَّ لم يكتف بهذا كلِّه؛ بل ضَمَّ إليه قولَه: وَيُسَلِّمُوا؛ أي: يذعنوا، وينقادوا ظاهرًا وباطنًا.
ثمَّ لم يكتف بذلك؛ بل ضَمَّ إليه المصدرَ المؤكِّد، فقال: تَسْلِيمًا؛ فلا يَثْبُتُ الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التَّحكيم، ولا يجد الحرجَ في صدره بما قُضي عليه، ويسلِّم لحكم الله وشرعه تسليمًا لا يخالطُه ردٌّ، ولا تشويه مخالفة»( ).
والتَّسليمُ بما دلَّت عليه النُّصوص هو الفرقان بين أهل الحقِّ وأهل الباطل؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله: «جماع الفرقان بين الحقِّ والباطل والهدى والضَّلال والرَّشاد والغيّ وطريق الشقاوة والهلاك: أن يجعل ما بعث الله به رسلَه وأنزل به كتبَه هو الحقُّ الذي يجب اتِّباعُه؛ وبه يَحصلُ الفرقانُ والهدى، والعلم والإيمان؛ فيُصَدَّق بأنَّه حقٌّ وصدقٌ، وما سواه من كلام سائر الناس يُعْرَضُ عليه؛ فإن وافقَه فهو حقٌّ، وإن خالفَه فهو باطلٌ»( ).
والتَّسليمُ لنصوص الكتاب والسُّنَّة هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله؛ فإنَّ الشَّهادةَ لله بالوحدانية الموجبة لإفراده بالعبودية مبناها على التَّسليم التَّامِّ له في أمره ونهيه وخبره، وعدم المعارضة وإيراد الأسئلة لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]، ومقتَضَى الشَّهادة للنَّبيِّ  بالرِّسالة تصديقُه فيما أخبر، وطاعتُه فيما أمر، والانتهاءُ عمَّا عنه نهى وزجر، وألَّا يُعبدَ اللهُ إلَّا بما شرَّع.

التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة عند السَّلف الصَّالح
لقد ضرب الصَّحابةُ- رضي الله عنهم- أروعَ الأمثلة في التَّسليم والإجلال للنُّصوص الشَّرعيَّة، وفي ذلك نماذج كثيرة تربو عن الحصر، ومنها:
لمَّا نَزَلَ تحريمُ الخمر، وقرأ عليهم النَّبيُّ  الآيات في ذلك، وبلغ قولَه تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91]، قال عمر- رضي الله عنه: «انتهينا انتهينا»( ).
ثم نادى المنادي في المدينة: ألا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمت. فسارع النَّاسُ إلى جرَّار الخمر في بيوتهم فكسروها، حتى جُرَّت في سكك المدينة ( )؛ قال أنس- رضي الله عنه: «فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرَّجل»( )، ولمَّا نزلت آيةُ الحجاب: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] شَقَقْنَ نساء الأنصار والمهاجرات مروطَهنَّ ( ) فاختمرنَ بها ( ).
ولما أُخبر الصَّحابة- رضي الله عنهم- بتحوُّل القبلة نحو الكعبة «وكانت وجوهُهم إلى الشَّام، استداروا إلى الكعبة»( ) مباشرةً وهم في الصَّلاة.
ولما خلع النَّبيُّ  نعلَيْه في الصَّلاة خَلَعَ الصَّحابةُ- رضي الله عنهم- نعالَهم اتِّباعًا للنَّبيِّ  ( ).
وعندما رأى خاتم الذَّهب في يد رجل أخذه منه وألقاه، ولما ذهب النَّبيُّ  قيل له: خذْ خاتَمَك انتفع به. قال: «لا والله، لا آخذه أبدًا، وقد طرحه رسول الله »( ).
ولما حلف أبو بكر- رضي الله عنه- أن لا يُنفق على مسطح بن أثاثة- رضي الله عنه؛ لكلامه في ابنته عائشة- رضي الله عنها- في حادثة الإفك أنزل الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22]؛ فقال أبو بكر- رضي الله عنه: «والله لا أنزعها منه أبدًا»( ).
ولما زوَّج معقل بن يسار- رضي الله عنه- أختَه لرجل من الصَّحابة فطلَّقها ثمَّ ندم وجاء يخطبها، حلف أن لا يرجعها إليه، فأنزل الله: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 232]؛ فلما سمعها معقل- رضي الله عنه- قال: سمعًا لربِّي وطاعة. ثم دعاه فقال: أزوِّجُك وأُكْرمُك ( ).
ولما أمر النَّبيُّ  المغيرةَ- رضي الله عنه- أن ينظر إلى المرأة التي خطبها، تَرَدَّدَ أهلُها في الأمر وكرهوا ذلك، فسمعت ذلك المرأةُ وهي في خدْرها، فقالت: «إن كان رسول الله  أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فإنِّي أنشدك»؛ أي: أسألك بالله أن لا تنظر إليَّ( ).
ولما طلب النَّبيُّ  من أهل بيت من الأنصار أن يزوِّجوا ابنتَهم من جُلَيْبيب- رضي الله عنه- تردَّدَ أهلُها في تزويجه، فقالت الفتاة: «أتريدون أن تردُّوا على رسول الله  أمره، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه»( ).
ولما كان عبدُ الله بن رواحة- رضي الله عنه- ذاهبًا إلى المسجد سمع رسول الله  يقول وهو يخطب: اجلسوا. فجلس مكانه خارجَ المسجد حتى فرغ من خطبته، فبلغ ذلك النبي ، فقال: «زادك الله حرصًا على طواعية الله وطواعية رسوله»( ).
وعن جابر- رضي الله عنهما- قال: لما استوى رسولُ الله  يومَ الجمعة على المنبر قال: «اجلسوا»، فسمع ابن مسعود فجلس على باب المسجد فرآه النبي  فقال: «تعالى يا عبد الله بن مسعود»( ).
وسعد بن عبادة- رضي الله عنه- لما بلغه أنَّ رسول الله  قال: «خير دور الأنصار: بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير». وجد في نفسه وقال: خلفنا. فكنَّا آخرَ الأربع، أسرجوا لي حماري آتي رسول الله .
فكلَّمه ابنُ أخيه سهل فقال: أتذهب لتردَّ على رسول الله ، ورسول الله  أعلم، أوليس حسبك أن تكون رابعَ أربع؟! فرجع وقال: الله ورسوله أعلم. وأمر بحماره فحلَّ عنه ( ).
وعليُّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- يمسح ظاهرَ خُفَّيْه ويقول: «لو كان الدِّينُ بالرَّأي لكان أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسولَ الله  يمسح على ظاهر خُفَّيْه»( ).
ورافعُ بن خديج- رضي الله عنه- يقول: «كنَّا نحاقل الأرض على عهد رسول الله  فنكريها بالثُّلُث والرُّبع والطّعام المسمّى، فجاءنا ذات يوم رجلٌ من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله  عن أمر كان لنا نافعًا ( )، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا»( ).
ولما أساء أحدُهم القولَ مع عمر- رضي الله عنه- وهَمَّ أن يبطشَ به، ذكَّرَه أحدُهم بقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199].
قال ابنُ عبَّاس- رضي الله عنهما: «والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله»( ).
وسكبت جاريةٌ لعليّ بن الحسين– رحمه الله– عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها على وجهه، فشجَّه، فرفع رأسَه إليها، فقالت: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ.
قال: قد كظمت غيظي.
قالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفوت عنك.
قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: اذهبي فأنت حرة ( ).
وقد التزم سلفُ هذه الأمَّة هذا المنهج الذي كان عليه الصَّحابة؛ فكانت حالُهم قائمةً على التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة وتلقِّيها بكامل الرِّضا؛ «فكان من الأصول المتَّفَق عليها بين الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان أنَّه لا يقبل من أحد قطّ أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده»( ).
بل كانوا يسارعون لتطبيق النَّصِّ الشَّرعيِّ من غير تردُّد ولا شكٍّ.
عن أبي المصبح المقرائيّ قال: بينما نحن نسير بأرض الرُّوم في طائفة عليها مالك بن عبد الله الخثعميّ، إذ مرَّ مالك بجابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- وهو يقود بغلاً له.
فقال له مالك: أي أبا عبد الله، اركب؛ فقد حملك الله.
فقال جابر- رضي الله عنه: أُصلح دابَّتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله  يقول: «مَن اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه اللهُ على النَّار».
فسار حتى إذا كان حيث لم يسمعه الصَّوتُ نادى بأعلى صوته: يا أبا عبد الله! اركب فقد حملك الله.
فعرف جابر الذي يريد، فقال: أُصلح دابَّتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله  يقول: «من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمَه اللهُ على النَّار».
فتواثب النَّاس عن دوابِّهم، فما رأيت يومًا أكثر ماشيًا منه ( ).
ومن قال منهم قولاً يخالف النَّصَّ الشَّرعيَّ رجع عنه بمجرَّد أن يبلغَه.
قال عبد الواحد بن زياد: لقيتُ زُفَرَ بن الهذيل- رحمه الله( )- فقلت له: صرتم حديثًا في الناس وضُحْكةً.
قال: وما ذاك؟
قلت: تقولون: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، ثم جئتم إلى أعظم الحدود، فقلتم: تقام بالشبهات.
قال: وما هو؟
قلت: قال رسول الله : «لا يُقتل مسلمٌ بكافر»( ) فقلتم: يقتل به– يعني بالذِّمِّيِّ.
قال: فإنِّي أشهدك السَّاعةَ أنِّي قد رجعت عنه.
قال الذهبي- رحمه الله: هكذا يكون العالم وقَّافًا مع النص ( ).
وحتى من قلَّ علمُه من السَّلَف كان إيمانُه وتصديقُه بالنَّصِّ الشَّرعيِّ عظيمًا.
قال أبو إسحاق الحبَّال- رحمه الله: كنَّا يومًا نقرأ على شيخ، فقرأنا قوله : «لا يدخل الجنَّة قتَّات»( ).
وكان في الجماعة رجل يبيع القتَّ– وهو علف الدَّوابِّ– فقام وبكى، وقال: أتوب إلى الله من بيع القتّ.
فقيل له: ليس هو الذي يبيع القت؛ لكنَّه النَّمَّامُ الذي يَنقل الحديثَ من قوم إلى قوم.
فسكن بكاؤه، وطابت نفسه( ).
قال ابنُ القَيِّم- رحمه الله: «وقد كان السَّلفُ يَشتدُّ عليهم معارضةُ النُّصوص بآراء الرِّجال، ولا يُقرُّون ذلك»( ).
عن أبي قتادة قال: كنَّا عند عمران بن حصين- رضي الله عنه- في رهط منَّا، وفينا بشير بن كعب، فحدَّثنا عمران يومئذ قال: قال رسول الله : «الحياء خيرٌ كلُّه».
فقال بشير بن كعب: إنَّا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أنَّ منه سكينةً ووقارًا لله، ومنه ضعفاً!
فغضب عمران حتى احمرَّتا عيناه، وقال: ألا أراني أحدِّثك عن رسول الله وتُعارض فيه ( )؟!
قال: فأعاد عمران الحديثَ؛ قال: فأعاد بشير، فغضب عمران.
فما زلنا نقول فيه: إنَّه منَّا يا أبا نُجيد، إنه لا بأس به( ).
وعن أبي المخارق قال: ذكر عبادة بن الصَّامت- رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ  نهى عن درهمين بدرهم.
فقال فلان: ما أرى بهذا بأسًا يدًا بيد.
فقال عبادة: أقول قال النبي ، وتقول لا أرى به بأسًا، والله لا يظلني وإياك سقف أبدًا ( ).
ولما ذكر ابنُ المبارك- رحمه الله- حديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ...»( )، قال قائل: ما هذا؟ على معنى الإنكار.
فغضب ابنُ المبارك- رحمه الله- وقال: يمنعنا هؤلاء أن نحدِّثَ بحديث رسول الله ، كلَّما جهلنا معنى حديث تركناه! لا؛ بل نرويه كما سمعنا، ونُلزم الجهل أنفسنا ( ).
قال أبو معاوية محمد بن خازم: كنتُ أقرأ حديثَ الأعمش عن أبي صالح على أمير المؤمنين هارون الرَّشيد.
فكلَّما قلت: قال رسول الله، قال هارون: صلى الله على سيدي ومولاي.
حتى ذكرتُ حديث: «التقى آدم وموسى...( )».
فقال عمُّ هارون الرَّشيد: أين التقيا يا أبا معاوية؟!
فغضب الرَّشيدُ من ذلك غضبًا شديدًا، وقال: أتعترض على الحديث، عليَّ بالنَّطع والسَّيف. فأحضر ذلك.
فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرَّشيد: هذه زندقة. ثم أمر بسجنه، وأقسم أن لا يخرج حتى يخبره من ألقى إليه هذا.
فأقسم عمُّه بالأيمان المغلَّظة ما قال هذا له أحد؛ وإنَّما كانت هذه الكلمة بادرةً منِّي، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها، فأطلقه( ).
قال أبو إسماعيل الصَّابونيُّ- رحمه الله- معلِّقًا على هذه القصَّة: «هكذا ينبغي للمرء أن يعظِّمَ أخبارَ رسول الله  ويقابلها بالقبول والتَّسليم والتَّصديق، وينكر أشدَّ الإنكار على مَن يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرَّشيد- رحمه الله- مع مَن اعترض على الخبر الصَّحيح الذي سمعه بـ (كيف) على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول »( ).
ونظر سعيد بن المسيب رحمه الله إلى رجل صلى بعد النداء من صلاة الصبح فأكثر الصلاة، فحصبه ثم قال: إذا لم يكن أحدكم يعلم فليسأل؛ إنَّه لا صلاةَ بعد النِّداء إلا ركعتين، فانصرَفَ، فقال: يا أبا محمد، أتخشى أن يعذِّبَني اللهُ بكثرة الصَّلاة؟
قال: بل أخشى أن يعذِّبَك اللهُ بترك السُّنَّة ( ).
ومثله ما جاء عن الإمام مالك بن أنس- رحمه الله- أنَّ رجلاً جاءه فقال: من أين أُحْرم؟
قال: من حيث أَحرمَ رسولُ الله .
قال: فإن زدتُ على ذلك.
قال: فلا تفعل؛ فإنِّي أخاف عليك الفتنة.
قال: وما في هذه من الفتنة؟! إنَّما هي أميال أزيدها.
قال: فإنَّ الله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، وأيُّ فتنة أعظم من أن ترى أنَّ اختيارَك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله ( ).
ومن التَّسليم للنُّصوص الشَّرعيَّة أن لا يتقدَّم الإنسانُ على المشرِّع برأيه؛ كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1]؛ فلا يتقدَّم بين يديه بأمر، ولا نهي، ولا إذن، ولا تصرف، حتى يأمر هو، وينهى، ويأذن.
وهذا باق إلى يوم القيامة لم يُنسَخ؛ فالتَّقدُّمُ بين يدي سنته بعد وفاته كالتَّقدُّم بين يديه في حياته، ولا فرقَ بينهما عند كلِّ ذي عقل سليم.
قال أبو عبيدة- رحمه الله: تقول العرب: لا تقدِّم بين يدي الإمام، وبين يدي الأب. أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه.
وقال غيرُه: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى.
فإذا كان رفعُ الأصوات فوقَ صوته سببًا لحبوط الأعمال، فما الظَّنُّ برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنَّته وما جاء به ( ).
وهذه حالُ السَّلَف؛ «فالسُّنَّةُ أجلُّ في صدورهم من أن يقدِّموا عليها رأياً فقهيًا، أو بحثًا جدليًّا، أو خيالاً صوفيًّا، أو تناقضًا كلاميًّا، أو قياسًا فلسفيًّا، أو حكمًا سياسيًّا؛ فمَن قَدَّمَ عليها شيئًا من ذلك فبابُ الصَّواب عليه مسدودٌ؛ وهو عن طريق الرَّشاد مصدودٌ»( )، قال البخاريُّ- رحمه الله: سمعت الحميديَّ يقول: كنَّا عند الشَّافعيِّ، فأتاه رجل فسأله عن مسألة.
فقال: قضى فيها رسول الله  كذا وكذا.
فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟!
فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! ترى على وسطي زنارا؟! أقول لك: قضى رسول الله ، وأنت تقول: ما تقول أنت؟!( ).
وقال الرَّبيعُ بنُ سليمان- رحمه الله: سأل رجلٌ الشَّافعيَّ عن مسألة، فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النَّبيِّ .
فقال له السَّائلُ: يا أبا عبد الله تقول به؟
فرأيت الشَّافعيَّ أرعد وانتفض، فقال: «يا هذا، أي أرض تقلُّني، وأي سماء تظلُّني، إذا رويتُ عن النَّبيِّ  حديثًا فلم أقل به؟ نعم على السّمع والبصر، نعم على السَّمع والبصر»( ).
والتَّسليمُ عند السَّلف تسليمٌ تامٌّ للوحي؛ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران: 7]؛ فهم يسلِّمون بكلِّ ما جاء عن الله تعالى وما صحَّ عن رسوله ؛ فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب ومن شابَهَهم من أهل الأهواء.

متروي
08-17-2010, 08:59 PM
موقف المعادين للنُّصوص الشَّرعيَّة
تلك نماذج من حال السَّلف في السَّمع والطَّاعة والتَّسليم والقبول والخضوع والإذعان للوحي، فما هي يا ترى حالُ خصومهم؛ وخصوصًا هؤلاء المتأخِّرين؟
الجواب: أنَّهم على مرتبتين:
الأولى: [الجاحدون] لنصوص الوحي من الكتاب والسُّنَّة؛ وهم ثلاثة أصناف؛ صنف ردَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ جملةً وتفصيلاً، وصنف رَدَّ ما خالف عقولَهم منها، وصنف ردَّ ما عارض بعض العلوم والتَّجارب والعلم الحديث بزعمهم.
فإن أعجزهم ذلك شكَّكوا في صحَّة ما خالف أهواءهم منها.
الثَّانية: المتسترون تحت ستار [تأويل الوحي] وتحريف معانيه لما يتخوَّفون من حمية الناس لدينهم.
والمرتبة الأولى تقوم على تكذيب [لفظ النَّصِّ] من أساسه.
أما المرتبة الثانية– وهي الأخطر– فهي تكذيب [معنى النَّصّ] الذي هو مرادُ الله ورسوله منه.
وأصحاب هاتين المرتبتين في الحقيقة يستهدفون أصلَ الدِّين الذي هو [الانقيادُ والاستسلامُ لله ورسوله] بالمقاومة والمعارضة؛ فالجحدُ فيه عناد وعدم انقياد لـ [لفظ النَّصِّ]، والتَّأويل فيه عناد وعدم انقياد لـ [معنى النص].
والانقياد والاستسلام هو أصل الدِّين كلِّه؛ فحقيقتُه الانقيادُ التَّامُّ للفظ نصًّا ومعنى.
ومن تأمَّل تاريخَ البدع والانحرافات علم أنَّ أكثرَ ضَلال المنتسبين للإسلام لم يأت من جحد الوحي؛ وإنَّما من تأويل معانيه على غير مراد الله ورسوله؛ وهذه طريقةُ كثير من أهل الأهواء؛ كلَّما أعيتهم الحيل في ردِّ النُّصوص لجؤوا إلى التَّأويل الذي حقيقتُه تحريفٌ وتلاعبٌ بالنُّصوص.
وتحريفُ معاني النُّصوص مع إبقاء اللَّفظ على ما هو عليه من سُنَن اليهود الذين وَصَفَهم الله بقوله: يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75].
«ولما كان النَّبيُّ  قد أخبر أنَّ هذه الأمَّةَ تتبع سَنَنَ مَن قبلها حذوَ القَذَّة بالقَذَّة ... وجب أن يكون فيهم مَن يُحرِّفُ الكَلمَ عن مواضعه؛ فَيُغيِّر معنى الكتاب والسُّنَّة فيما أخبر اللهُ به، أو أمر به ...»( ).
وهذا المسلكُ من المزالق العظيمة التي انحرف بسببها كثيرٌ من النَّاس.
قال ابنُ القيِّم- رحمه الله:
هذا وأصل بلية الإسلام من

تأويل ذي التحريف والبطلان

وقد لَخَّصَ ابنُ برهان مفاسدَ التَّأويل الفاسد بقوله: «ولم يَزلَّ الزَّالُ إلَّا بالتَّأويل الفاسد»( ).
وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلَّا بالتَّأويل؟
وهل وقعت في الأمَّة فتنةٌ كبيرةٌ أو صغيرةٌ إلَّا بالتَّأويل؟
وهل أُريقت دماءُ المسلمين في الفتن إلَّا بالتَّأويل؟( ).
فبابُ التَّأويل بابٌ عريضٌ دخل منه الزَّنادقةُ لهدم الإسلام؛ فحرَّفوا النُّصوصَ وصرفوها عن ظواهرها، وحمَّلوها من المعاني ما يشتهون.
قال بشر المريسيّ: «ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فَأَقرُّوا به في الظَّاهر، ثم صرِّفوه بالتَّأويل»( ).
قال ابنُ أبي العزّ الحنفيّ- رحمه الله: «وبهذا تَسَلَّطَ المحرِّفون على النُّصوص، وقالوا: نحن نتأوَّلُ ما يُخالف قولَنا. فسمَّوا التَّحريفَ تأويلاً؛ تزيينًا له وزخرفةً؛ ليُقْبَلَ...»( ).
ولقد عرف المسلمون خلال التاريخ فرقًا وأفرادًا سلكوا مسلكَ تحريف النُّصوص عن معناها، وتأويلها تأويلاً يتوافق مع أفكارهم المنحرفة؛ كالمعتزلة والخوارج والفرق الباطنيَّة وبعض المتصوِّفة؛ فما تركوا شيئًا من أمر الدِّين إلا أوَّلوه( )، ولولا حماية الله ورعايته لهذا الدِّين لدَرَسَتْ معالمُه وضاعت حدودُه.
لقد أَوَّلَ الضَّالُّون الواجبات فصرفوها عن وجهها، وهوَّنوا على أتباعهم رميَها وراء ظهورهم؛ وأوَّلوا المحرَّمات تأويلاً جرَّأَ العصاةَ على ارتكابها والولوغ فيها، وأَوَّلُوا نصوصَ عذاب القبر ونعيمه، والسَّاعة وأهوالها، والمعاد، والحشر، والميزان، والجنة والنار؛ بحيث فَقَدت النُّصوصُ تأثيرَها في نفوس العباد.
وأَوَّلوا نصوصَ الصِّفات تأويلاً أضعف صلةَ العباد بربِّهم، وأفقد النُّصوصَ هَيْبَتَها؛ إذ جَعَلَها لعبةً في أيدي المؤوِّلين، يجتهدون ليلَهم ونهارَهم في صرفها عن وجهها بشتَّى أنواع التَّأويل»( ).
ومن الأمثلة على الانحرافات في فهم النُّصوص عند بعض المتقدِّمين( ):
مانعو الزَّكاة: الذين زعموا أنَّ قولَه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة: 103] يدل على أنَّ الزَّكاةَ تُدْفَعُ للنَّبيِّ  فقط، فإذا مات فلا زكاة.
ولذلك قاتلهم الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه- على منعها.
والقرامطة الباطنية:
فسَّروا الصَّلاةَ: بصلة الدَّاعي إلى دار السلام.
والزكاة: بإيصال الحكمة إلى المستحق.
والصيام: بكتمان أسرارهم.
والحج: بالسفر إلى شيوخهم.
والجنة: بالتَّمَتُّع في الدُّنيا باللَّذَّات، والنَّار: بالتزام الشَّرائع والدُّخول تحت أثقالها.
وباطنية الفلاسفة فسَّروا الملائكة والشَّياطين: بقوى النَّفس الطَّيِّبة والخبيثة.
وأنَّ نصوص المعاد والبرزخ والجنة والنار أمثال مضروبة لتفهيم العوامّ، ولا حقيقةَ لها عندهم.
والمعتزلةُ: فسَّروا قولَه تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] أي: جرحه بأظفار المحن ومخالب الفتن ( ).
وبعضُ غلاة الصُّوفيَّة فسَّروا قولَه تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]؛ أي: حتى تبلغَ درجةً معيَّنةً في الاقتراب منه، فإذا وصلتها فقد ارتفع عنك التَّكليف.
وأن معنى قوله: وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية: 18]: إلى الأرواح كيف جالت في الغيوب، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية: 91] أشار الله تعالى إلى قلوب العارفين كيف أطاقت حملَ المعرفة ( ).
ولما سُئل بعضُهم عن الحجَّة في الرَّقص؟ قال: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة: 1]( ).
وفسَّرَ بعضُ الغلاة البقرةَ المطلوبةَ للذَّبح في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] بأنَّها عائشة أمُّ المؤمنين- رضي الله عنها.
وأنَّ المقصودَ بقوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [الرحمن: 19] علي وفاطمة، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22] الحسن والحسين.
والشجرة الملعونة في القرآن: بنو أمية.
وفسر بعضهم قوله : «إنه لا نَبيَّ بعدي»( ) بأنَّه تبشيرٌ بنبيٍّ سيأتي بعدَه اسمُه (لا)!!
وقال بعضُهم: إنَّ حديثَ: «مَنْ بَدَّلَ دينَه فاقتلوه»( )، يَدْخُلُ فيه: مَن انتقل من اليهوديَّة أو النَّصرانية إلى الإسلام؛ وأنه يجب قتلُه!!
فظاهرةُ تحريف معاني النُّصوص الشَّرعيَّة لم تنقطع عبرَ الزَّمَن، ولا تزال مستمرَّةً حتى وقتنا الحاضر.

متروي
08-17-2010, 09:01 PM
الدَّعوةُ للقراءة الجديدة للنَّصِّ الشَّرعيِّ
إنَّ من الفتن التي ظهرت في هذا العصر مُحْييةً منهج الباطنية القدامى بصورة عصرية حداثية: الدَّعوة إلى إعادة قراءة النَّصّ الشرعي قراءة جديدة تكون- بزعمهم- متواكبةً مع تَطَوُّرات الحياة المعاصرة ومتناسبةً معها.
وتهدف هذه الدَّعوةُ إلى مراجعة شاملة للنُّصوص الشَّرعيَّة كافَّةً؛ فهي قراءةٌ لا يستعصي عليها شيءٌ من أصول الدِّين وفروعه؛ بل حتَّى قضيَّة التَّوحيد في الإسلام قابلةٌ للتَّأويل والقراءة الجديدة( ).
وقد أدَّت هذه القراءات الجديدة إلى تحريف معاني القرآن والسُّنَّة، ومناقضة قطعيَّات الشَّريعة؛ بل ومصادَمة الأصول المقرَّرة الثَّابتة.
وتأتي خطورةُ هذا الاتِّجاه من ناحيتين:
الأولى: أنَّ هذه الدَّعوةَ قامت على أيدي أناس يتظاهرون بالانتساب لهذا الدِّين؛ بل ويتسمَّى بعضُهم بـ [المفكِّر الإسلاميّ]؛ ممَّا يجعل لدعوتهم رواجًا وقبولاً لدى كثير من النَّاس؛
فهي خطَّةٌ تقوم على التَّغيير من داخل البيت الإسلاميِّ من خلال العبث بالنُّصوص الشَّرعيَّة بتحريفها وتفريغها من محتواها الحقيقيِّ، ووضع المحتوى الذي يريدون؛ فهم يَطرحون أفكارَهم وآراءَهم على أنَّها رؤى إسلاميَّة ناشئة عن الاجتهاد في فهم الدِّين.
ولقد حذَّرنا النَّبيُّ  من أمثال هؤلاء؛ فعن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: كان النَّاسُ يَسألون رسولَ الله  عن الخير، وكنتُ أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يدركَني.
فقلتُ: يا رسولَ الله، إنَّا كنَّا في جاهليَّة وشَرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شَرٍّ؟
قال: «نعم».
قلت: وهل بعد ذلك الشَّرِّ من خير؟
قال: «نعم، وفيه دخن».
قلت: وما دَخَنُه؟
قال: «قومٌ يَهدون بغير هديي، تعرف منهم وتُنكر».
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها».
قلت: يا رسول الله صفهم لنا.
فقال: «هم قوم من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا»( ).
فهم يَسْتَشهدون بالنُّصوص نفسها التي نستشهد بها ولا يجحدونها، ولكن يُفَسِّرونها تفسيرًا مغايرًا لتفسير السَّلَف الصَّالح.
الثَّانية: أنَّ هذه الظَّاهرةَ بدأت تتنامى في عالمنا الإسلاميِّ اليوم، ويقوم بالدّعوة إليها أفرادٌ من مختَلَف الأقطار العربيَّة والإسلاميَّة، وتتلقَّف الصُّحُف وغيرُها من وسائل الإعلام أقوالَهم بالتَّلَقِّي والقبول، وتعرض لهم المقابلات تلوَ المقابلات.
ومنهم عصرانيُّون، حداثيون، ليبراليون، وليبرو إسلاميين، وهم متشبعون بمذاهب فلسفية غربية، ويرومون إخضاعَ نصوص الشَّريعة لمعطيات هذه المذاهب.
ولا يكاد يخلو بلدٌ إسلاميٌّ من ممثِّلين لهذه الطائفة ومنتمين إليها، يسيرون على طريقتهم، ويرضعون من لبانهم.
وهذه الدَّعوةُ دعوةٌ قديمةٌ جديدةٌ؛ فهي قديمةٌ لوجود جذور تاريخيَّة لها، وقد ظهر في هذه الأمَّة سابقًا مَن حاوَلَ تحريفَ النُّصوص عن معانيها بالتَّأويل الباطل.
وجديدة لأنَّها تقوم على أسس وقواعد وتأصيلات منهجيَّة لهذا المنحى الباطل؛ فهي مصنعٌ لتوليد المعاني الباطلة الموافقة لرغباتهم وأهوائهم، ومحاولة شرعنتها وإيجاد المستندات لها.
وقد حَمَلَ هذا الاتجاهُ شعارًا هو الأخطرُ في سياق الشِّعارات المطروحة في هذا العصر؛ إنَّه شعار (التَّحديث والعصرنة للإسلام)؛ فهم يريدون منَّا تركَ ما أَجْمَعَتْ عليه الأُمَّةُ من معاني القرآن والسُّنَّة لفهم جديد مغاير لفهم السَّلَف الصَّالح يكون متناسبًا مع هذا العصر الذي نعيش فيه.
ولذلك لما سُئل محمد أركون عن كيفيَّة التَّعامل مع النُّصوص الواضحة غير المحتملة؛ كقوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11]، قال: «في مثل هذه الحالة لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير القرآني؛ لا يمكننا أن نستمرَّ في قبول ألَّا يكون للمرأة قسمةٌ عادلة!! فعندما يستحيل تكيُّفُ النَّصِّ مع العالم الحالي ينبغي العملُ على تغييره»( ).
ويقولُ محمَّد شحرور: «لا ضرورةَ للتَّقيُّد بالنُّصوص الشَّرعيَّة التي أوحيت إلى محمد رسول الله في كلِّ ما يتعلَّق بالمتاع والشَّهوات؛ ففي كلِّ مرَّة نرى في هذه النُّصوص تشريعًا لا يتناسب مع الواقع، ويعرقل مسيرة النُمُوّ والتَّقَدُّم والرفاهية، فما علينا إلا أن نميل عنه»( ).
فالرَّغبةُ في مسايرة الواقع والافتنان بالحياة الغربيَّة والتَّأَثُّر بمدارسها الفلسفيَّة ( ) والدِّارسة في جامعاتهم مع ضغوط الأعداء والجهل بالشَّريعة- كلّ ذلك كان سببًا في ظهور هذه المدرسة التَّحريفيَّة.