المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بدعة إعادة فهم النص (2)



متروي
08-17-2010, 09:06 PM
الأُسس التي بَنَتْ عليها هذه المدرسةُ منهجَها
لمدرسة [الباطنيَّة الجُدُد] أُسُسٌ ومبادئ قامت عليها، وتسعى لنشرها والتَّرويج لها في كافَّة الوسائل المتاحة.
ومن أهم هذه الأسس:
الأوَّلُ: القولُ بالظَّنِّيَّة المطلَقة لدلالة النَّصِّ الشَّرعيِّ.
يقرِّر أصحاب هذه المدرسة أنَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ كتابًا وسنَّةً هو نَصٌّ ظَنِّيُّ الدِّلالة بصفة مطلَقة؛ فهو لا يحتمل معنى واحدًا فقط؛ بل هو مفتوح على احتمالات لأكثر من معنى من المعاني.
والنَّصُّ المحكم الذي لا يحتمل إلَّا دلالة واحدة لا وجودَ له ( )؛ فَيَتَرَتَّب عليه أنَّ أيَّ فهم للنَّصِّ الشَّرعيِّ ينبغي أن يحظى بالاحترام؛ إذ يمكن أن يكون حقًّا، وليس ثمة قراءات صحيحة وأخرى خاطئة؛ بل القراءاتُ كلُّها صحيحةٌ( ).
«فالقرآنُ هو نَصٌّ مفتوحٌ لجميع المعاني، ولا يمكن لأيِّ تفسير أو تأويل أن يغلقَه أو يستنفدَه بشكل نهائيٍّ»( ) كما يقول أركون.
وبناءً على هذا فلا يَحقُّ لأحد الادِّعاء بأنَّ ما توصَّل إليه من فهم هو الصَّحيح دونَ غيره؛ حتى لو كان هذا الفهمُ انعقد عليه إجماعُ الأمَّة.
وأركون بهذا الكلام لا يدعو العلماء والمجتهدين للنَّظَر في معنى النُّصوص الشَّرعيَّة التي تحتمل دلالتها اللُّغويَّة أكثر من معنى؛ بل يدعو كلَّ فرد لأن تكون له قراءتُه الخاصَّةُ لهذا النَّصِّ ينتهي فيها إلى ما يَرْتَضيه من مدلول بحريَّة مطلَقة لا يحتكم فيها إلَّا إلى ضميره( ).
ولذلك يقول: «إنَّ القراءةَ التي أحلم بها هي قراءةٌ حرَّةٌ إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتِّجاهات؛ إنَّها قراءة تجد فيها كلُّ ذات بشريَّة نفسَها»( ).
ويقول أحدهم: «النَّصُّ يتَّسع للكلِّ، ويتَّسع لكلِّ الأوجه والمستويات»( ).
وأنصارُ هذه المدرسة يرفعون شعار: «النَّصُّ مقدَّسٌ، والتَّأويلُ حرٌّ»؛ من حقِّ كلِّ مسلم أن يتعاملَ مع النَّصِّ بالطريقة التي يراها؛ فكلمةُ الجيب في قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] من الممكن أن يَفهمَ منها شخصٌ معنى، وغيرُه معنى آخر، وغيرُه معنى ثالثًا، ولكلٍّ قراءتُه، وفَهمُ السَّلف لهذه الآية هو قراءةٌ من هذه القراءات غير الملزمة.
فشحرور مثلاً يَفهم منها أنَّها تعني ما كان مكوَّنًا من طبقتين، وعليه فحجابُ المرأة الشَّرعيُّ بات مقصورًا وفقًا للمذهب الشَّحروريِّ على الفرج والثَّديين والإبطين فقط!!( )؛ فالتي ترتدي لباسًا إلى أنصاف الفخذين، وتستر ما تحت الثَّديين والإبطين هي امرأةٌ محجَّبَةٌ تنعم برضا الله وتنفيذ أوامره!!
ويفسِّرُ قولَه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38]: أي: كفُّوا أيديَهما عن السَّرقة بالسِّجن مثلاً ( ).
وقال غيره: المعنى كفُّوا أيديهما عن السَّرقة بتوفير العيش الكريم لهما.
ويُفهم من قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] أنَّ هذا الكونَ يَحمل تناقضاته، وأنَّ المادَّةَ تحمل تناقضَها معها؛ لذلك فإنَّ هذا الكونَ سيتدمَّر وسيتبدَّل وسيهلك؛ ولكن هلاكَه سيحوِّله إلى مادة أخرى.
وآخرُ يفهم من قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] النفس الواحدة: البروتون، وزوجها: الإلكترون ( ).
وغيرُه يَفهم من قوله تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه: 12] أنَّ المقصودَ بالنَّعلَين هما النَّفسُ والجسدُ؛ هوى النَّفس وملذَّات الجسد( ).
ولو سرْنا على منهج هذه المدرسة في تفسير النُّصوص فسيؤولُ بنا الأمرُ إلى فوضى من الآراء والأفكار التي لا حدَّ لها؛ لأنَّ النُّصوصَ لا يتحصَّل من معناها شيءٌ يضبطُه قانونٌ حسب قولهم.
وإذا كان القرآنُ كتابًا مفتوحًا على جميع المعاني كما يقولون؛ فما الفائدةُ من إنزاله ليكون منهاجًا وسبيلاً للمؤمنين؟! وبالمقابل هل يحقُّ لأيِّ إنسان أن يَفهمَ نصوصَ علم الطِّبِّ والهندسة وغيرهما حسبَ فهمه، وأن يمارسَ هذه الأنشطةَ عمليًّا في أرض الواقع إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتجاهات؟!
إنَّ هذا المبدأَ الذي تقوم عليه هذه المدرسةُ لو تمَّ العملُ به في قراءة النُّصوص لانهدمت الحياةُ الاجتماعية بأكملها؛ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 71].
وذلك لأنَّ هذه الحياةَ تقوم على ما تواضع عليه النَّاسُ من دلالات لغويَّة يتمُّ التَّفاهم بينهم بناءً عليها، ولو انتفى ذلك وأصبح كلُّ واحد يفهم معاني النُّصوص بحسب تأويله الخاصِّ الذي يقتضيه تكوينُه الثَّقافيّ، فإنَّ النَّتيجةَ أن لا يدركَ أحدٌ مدلولَ خطاب الآخر؛ فينعدم التَّواصُلُ والتَّعاون؛ فضلاً عن التَّدَيُّن.
كيف سيُطَبِّقُ رجالُ القانون بهذه القراءة أحكامَ القانون، وكلٌّ منهم له قراءتُه الخاصَّةُ للقانون؟!
وكيف سيحاكم الناس بهذا القانون، ولكلِّ واحد منهم قراءتُه الخاصَّة به؟
وكيف سيعمل المتلقي للأوامر والنَّواهي من أيِّ جهة من الجهات، والحال أنَّه قد يفهم الأمر نهيًا، والنَّهي أمرًا بتأويله اللُّغويّ الذَّاتيِّ؟
وكيف سيتعلم المتعلمون مع أنَّهم قد يفهمون مما يتلقون ويقرؤون خلاف ما قصد المعلم أو الكاتب تبليغه إليهم؟
ماذا لو قدَّم أحدُ أصحاب هذه الفكرة لتلاميذه في الامتحان قصيدةَ المتنبِّي في مدح سيف الدَّولة ثمَّ خَطَرَ للتلاميذ أن يكونوا من أصحاب [القراءة المعاصرة] في إجابتهم؛ فكتب أحدهم: [هذا هجاء مقذع]. مؤوِّلاً كلَّ كلام المتنبِّي على قاعدة الاستعارة التَّهَكُّميَّة!!
وكتب الآخر: [هذا غزل رقيق؛ فالمتنبِّي أسقط على سيف الدولة صورةَ الأنثى التي لم يجدها في الواقع!!].
وكتب الثَّالثُ: [هذه قصيدة في الفخر؛ فالثنائية متوهمة فقط، وليس سيف الدولة في القصيدة إلا الأنا الأخرى
(alter – ego) للمتنبِّي].
وأمَّا الرَّابع فقدَّم الورقةَ بيضاء!!
كيف يمكن للمعلم أن يصحِّحَ إجابات التَّلاميذ بناءً على مذهبه؛ فإن حاكَمَهم إلى معيار ما، فقد ناقض نفسه، وللتلاميذ أن يقولوا له: كيف تحاكمنا إلى فهمك، وقد أمليت علينا أنَّ كلَّ القراءات مشروعةٌ؟!
وإن سار مع منطق القراءة الجديدة فهي الفوضى لا محالة، وحتى الورقة البيضاء ينبغي أن تعطى درجة؛ لأنَّ سكوتَ التلميذ عن الإجابة تعبيرٌ استفزازيٌّ حداثيٌّ عن الثَّورة على كلِّ نصٍّ تراثيٍّ، ورفضٌ لكلِّ إسقاطات عصريَّة على شاعريَّة المتنبِّي ( ).
إنَّها الفوضى التي ليس بعدها فوضى، والدَّمار للحياة المعرفيَّة والاجتماعية الذي ليس بعده دمارٌ، ولو كان الأمرُ كما يدَّعيه هؤلاء على النَّحو الذي وصفنا، لما كان للنَّصِّ الشَّرعيِّ فائدة، ولا كان لتخصيص القرآن بلغة العرب مغزى.
فهل يُعْقَل أن يكون المرادُ الإلهيُّ بالوحي الذي أنزله الله وحضَّ على اتِّباعه وأمر بالاستسلام له وعاقب على الإعراض عنه متروكًا لكلِّ إنسان يفهم منه ما يريد؟!
هل يُعْقل أن يكون جوهرُ الوحي وأصولُ معانيه تتناقض الأجيالُ في تفسيرها جذريًّا؟!
الأساس الثَّاني: إهدارُ فهم علماء الأمَّة للنُّصوص الشَّرعيَّة:
وهذا ناتجٌ عن قولهم بأنَّ فهمَ السَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة لا يعدو أن يكون قراءةً من القراءات التي يَحتملها النَّصُّ، وبالتالي فهي غيرُ ملزمة لأحد.
يقول التُّرابيُّ: «وكلُّ التُّراث الفكريّ الذي خلَّفَه السَّلَفُ الصَّالحُ في أمور الدِّين هو تراثٌ لا يُلتَزَم به؛ وإنَّما يُسْتَأْنَسُ به»( ).
وهذا تَلَطُّفٌ منه في العبارة؛ أمَّا غيرُه فيصرِّح بأنَّ فهمَ الصَّحابة كان فهمًا خاطئًا ( )، وتوالى الخطأ بالتَّناقل إلى اليوم، وأنَّهم قد غفلوا عن الوجه الحقِّ من الإسلام ( ).
ويسخرون من فهم السَّلَف ويقولون: إلى متى تظلُّون على الفهم الصَّحراويِّ البدويِّ للقرآن والسُّنَّة؟
قال ابن تيمية- رحمه الله: «استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أمِّيِّين ... لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله ... هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة؛ بل في غاية الضلالة»( ).
وحالُ هؤلاء شبيهٌ بحال المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ [البقرة: 13].
المقصودون في هذه الآية هم الصحابة؛ فكلُّ مَن سَبَّهم ونسبهم إلى السَّفَه ونقص العلم والحكمة فهو السَّفيه بنصِّ القرآن، والواقعون في هذا «محجوبون عن معرفة مقادير السَّلَف، وعمق علومهم، وقلَّة تكلُّفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخِّرون إلَّا بالتَّكَلُّف والاشتغال بالأطراف التي كانت همَّةُ القوم مراعاةَ أصولها، وضبطَ قواعدها، وشدَّ معاقدها، وهممهم مشمَّرة إلى المطالب العالية في كلِّ شيء؛ فالمتأخِّرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدراً»( ).
ويَزْعُم بعضُهم أنَّ فهمَ الصَّحابة والسَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة كان مناسبًا لواقعهم وثقافة عصرهم، ولا يتناسب مع عصرنا؛ وهذا قولٌ باطلٌ؛ فإنَّ نصوصَ القرآن نزلت بلغة عربيَّة ذات معان محدَّدة يعقلُها العارفون بهذه اللُّغة: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، ثم جاءت السُّنَّة لتزيد المعاني اللُّغويَّة بيانًا.
ثم إنَّ أصحابَ رسول الله  فسَّروا هذه النُّصوصَ بحسب ما فهموا من لغة القرآن والسُّنَّة التي كانت لغتهم، وبحسب ما سمعوا من رسول الله ، وبحسب ما شاهدوا من المناسبات التي نزلت بسببها الآيات والأحوال التي ذكرت فيها الأحاديث.
ثمَّ جاءت الأجيالُ تلوَ الأجيال من أئمَّة المسلمين وعلمائهم لتفهم من نصوص الكتاب والسُّنَّة هذا الفهمَ نفسَه كما تدلُّ عليه مؤلَّفاتُهم؛ فالقولُ بأنَّهم فسَّروا النُّصوصَ بحسب ثقافة عصورهم مجرَّدُ وهم تبطله الحقائق التَّاريخيَّة.
الأساس الثالث: القول بـ (تاريخيَّة النَّصِّ الشَّرعيّ):
ومعنى ذلك أنَّ ما تضمنته النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ من أوامر ونواه إنَّما كانت موجَّهةً إلى الناس الموجودين في زمن نزول الوحي، أو كانت حالُهم تشبه حالَ مَن نزل عليهم القرآن؛ وأمَّا مَن جاء بعدَهم وعاش واقعًا غيرَ واقعهم فلا يشمله النَّصُّ الشَّرعيُّ.
فإذا تغيرت أوضاع الناس في مجمل حياتهم – كما هو الأمر في حياة الناس اليوم – فإنَّ تلك الأحكامَ التي يتضمَّنها النَّصُّ ليست متعلِّقةً بهم أمرًا ونهيًا، ولهم أن يتديَّنوا فهمًا وتطبيقًا بخلافها؛ معتبرين أنَّ ذلك هو الدِّين الصَّحيح في حقِّهم، كما كانت تلك الأحكام هي الدِّين الصَّحيح في حقِّ المخاطبين زمنَ النُّزول؛ يقول التُّرابيُّ: «ونحن أشدُّ حاجةً لنظرة جديدة في أحكام الطَّلاق والزَّواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة، ونبني عليها فقهَنا الموروثَ...»( ).
ويقولُ أحدُهم: «موقفُ القرآن الكريم من المرأة كان موقفًا في عصر معيَّن، ووضعت تلك القواعدُ لعصر معيَّن، ومن الممكن جدًّا أنَّ مثلَ هذه الأشياء قد لا يَسمح العصر الذي نعيش فيه بتطبيقها»( ).
وقال آخرُ: «ونحنُ نعرف أنَّ النُّصوصَ القديمةَ ليست مقطوعةَ الصِّلة بالمجتمعات القديمة، وأنَّ نظامَ الحكم ومكانةَ المرأة وحقوقَ الإنسان وواجباته وعلاقةَ الدِّين بالسُّلطة في هذه النُّصوص تعبير عن واقع قديم لم يعدّ موجودًا ولم نعدّ في حاجة إليه».
ويرى بعضُهم أنَّ ما فُرض من تفاصيل العبادات والمعاملات هو أثرٌ لمقتضيات البيئة الحجازيَّة البسيطة في عصر الرَّسول  دون غيرها من البيئات ( )؛ فالإنسانُ اليومَ في حلٍّ من تلك الفروض بمقتضى أوضاعه الجديدة، والخطاب القرآنيّ بصيغة (يا أيُّها النَّاس)، «المقصود بالنَّاس هنا الجماعة الأولى التي كانت تحيطُ بالنَّبيِّ ، والتي سمعت القرآن من فَمه لأَوَّل مرَّة»( ).
ويقولُ أحدُهم: «كذلك من الملائم هنا إعادةُ النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الملازمة لزمانها، والتي لا يمكن تصوُّر تطبيقها حاليًا بعد تطوُّر الفكر السِّياسيِّ العالميِّ، وعلى رأسها ما يعرف بـ [فقه أهل الذِّمَّة]... فلا مجالَ لإعمال مثل هذا الفقه المرتبط بظروف سالفة».
ويطالب بـ «إعادة النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الاقتصاديَّة التي كان تشريعُها ملازمًا لواقعها الاجتماعيِّ المختلف كليَّةً عن واقعنا المعاصر، ويأتي على رأسها ما يتعلَّق بعمليَّات البنوك التي تمثِّل عصبَ الاقتصاد المعاصر؛ مثل العوائد على رؤوس الأموال المقرضة ( ) والتي كان الهدفُ من تحريمها آنذاك حمايةَ الضُّعفاء والمحتاجين من أن تُسْتَغَلَّ حاجتُهم إلى الأموال لتمويل قُوتهم اليوميّ؛ فتتراكم عليهم الدُّيون ويستولي المقرضون على بيوتهم ومزارعهم»( ).
وأحكامُ الحدود إنَّما أَمْلَتْها الظُّروفُ التي كان عليها المجتمعُ آنذاك؛ حيث كان المجتمعُ بدائيًّا ليس فيه دولةٌ تقوم على استتباب الأمن؛ وإنَّما يتواثب فيه الناس بعضُهم على بعضهم للانتقام؛ فتكون إقامةُ الحدود: «أقلَّ الحلول شرًّا، وأدناها مَضَرَّةً؛ لأنَّها على ما فيها من وحشية تمثِّل وقايةً لمجتمع تلك الفترة ممَّا هو أسوأُ وأعنفُ وأكثرُ فظاعةً»( ).
وهذا يعني أنَّه إذا تغيَّرت أحوالُ المجتمع، ووُجدت الدَّولةُ التي تضبط الأمن، وتوفَّرت السُّجون، أصبحت أحكام الحدود التي تضمَّنها القرآن غير ملزمة للمخاطَبين بهذا النَّصِّ القرآنيّ ( ).
والحجاب لم يَعُدْ ملائمًا للعصر بزعمهم، ولا لمكانة المرأة وتحرُّرها، واقتحامها لكافَّة مجالات الحياة العامَّة من مدارس وجامعات ومعامل وإدارات وتجارات ( ).
بل حتى العبادات قابلة للتَّغيير في هذا العصر؛ فطريقةُ العبادة التي التزمها المسلمون زمنَ نزول القرآن ليست ملزمةً لمن يأتي بعدهم إذا ما تغيَّرت ظروف الحياة؛ بل يمكنهم أن يأتوا من هذه العبادات بما يلائم ظروفَهم الجديدةَ.
فإذا كان النبيُّ  على سبيل المثال «يؤدِّي صلاتَه على نحو معين، إلا أنَّ ذلك لا يَعني أنَّ المسلمين مضطَّرُّون في كلِّ الأماكن والأزمنة والظُّروف للالتزام بذلك النحو ...»( ).
وبناءً على هذا المبدأ ستنتهي هذه القراءةُ إلى أن لا يكون للنُّصوص الشَّرعيَّة معنى ثابتٌ؛ فما يفهم عند أهل زمن على أنَّه مطلوبٌ يصبح عند غيرهم غيرَ مطلوب، وما يُفهم عندهم على أنَّه غير مطلوب يُفهم عند غيرهم على أنَّه مطلوب؛ نتيجةَ تَغَيُّر الثَّقافات بين الأزمان ( ).
وسببُ هذا الضَّلال في الفهم يرجع لنظرتهم لنصوص القرآن والسُّنَّة على أنَّها نصوصٌ بشريَّةٌ تعامَل كبقيَّة النُّصوص؛ فيجري عليها ما يجري على غيرها من النُّصوص، وتخضع لمقتضيات التاريخ وتغيُّراته.
ولذلك يقول نصر حامد أبو زيد: «إنَّ النَّصَّ القرآنيَّ وإن كان نصًّا مقدَّسًا، إلَّا أنَّه لا يخرج عن كونه نصًّا؛ فلذلك يجب أن يَخضع لقواعد النَّقد الأدبيِّ كغيره من النُّصوص الأدبيَّة»( ).
ويقول أركون: «إنَّ القرآنَ ليس إلَّا نصًّا من جملة نصوص أخرى تحتوي على نفس مستوى التَّعقيد والمعاني الفوَّارة الغزيرة؛ كالتَّوراة والإنجيل والنُّصوص المؤسسة للبوذيَّة أو الهندوسيَّة، وكل نص تأسيسيّ من هذه النصوص الكبرى حظي بتوسُّعات تاريخيَّة معيَّنة، وقد يحظى بتوسُّعات أخرى في المستقبل»( ).
وفي هذا من التَّلبيس ما فيه؛ فكيف يَستوي كتاب الله مع الكتب المحرَّفة، أو تلك التي اكتتبها بشر؟! وكيف يُقاس كلامُ ربِّ العالمين الذي علم ما كان وما سيكون على كلام الإنسان الذي لا يدرك من العلم إلَّا قليلاً؟! إنَّ كلامَ الله لا يمكن حصرُه وتقييدُه بزمن معين؛ لأنَّ اللهَ أنزله ليكون دستورًا للنَّاس في كلِّ زمان ومكان، وهو يعلم ما يَصلح لعبيده ويناسبهم في جميع الأزمنة والأحوال، لا يخفى عليه شيء وهو السَّميع البصير.
ونقول لهؤلاء أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: 140].
الأساس الرابع: القولُ بنسبيَّة الحقيقة، وعدم وجود حقيقة مطلَقَة:
فهم لا يؤمنون بوجود حقيقة واحدة ثابتة في كلِّ زمان ومكان؛ بل الحقُّ نسبيٌّ؛ فما تراه حقًّا يراه غيرُك باطلاً، وما تظنُّه اليومَ صوابًا قد لا يكون كذلك غدًا.
يقول أركون: «إنَّ القولَ أنَّ هناك حقيقةً إسلاميَّةً مثاليةً وجوهريةً مستمرة على مدار التاريخ وحتى اليوم، ليس إلا وهمًا أسطوريًا لا علاقةَ له بالحقيقة والواقع»( ).
ويقولون: لا أحدَ يَملك الحقيقةَ المطلقةَ. ويوظِّفون ذلك سياسيًّا في شعاراتهم: [التّعدديّة]، و[قبول الآخر].
ويقصدون بالآخر: اللَّادينيَّة والإلحاد والفجور، ويرون أنَّه لا بدَّ من التَّعامل مع جميع هذه المفاهيم على قدم المساواة، ولا داعي للإنكار على فكر ما، أو التَّشنيع على شذوذ ما؛ لأنَّ الحقيقةَ المطلقةَ غيرُ موجودة؛ يقول أحدهم: «لن تكون متقدِّمًا أو صاحبَ أمل في التَّقَدُّم إلا إذا قبلت الرَّأيَ على أنَّه حقيقةٌ، والحقيقة على أنَّها مطلَقَة وليست نسبيَّة»( ).
وحاصلُ هذه المقولات: أنَّه لا أحدَ يمكنه القطعُ بأنَّ رأيَه أو معتقدَه هو الحقُّ وأنَّ رأيَ غيره أو معتقدَه خطأ قطعًا؛ وإنَّما غايةُ ما يمكنه الجزمُ به أنَّ رأيَه صواب يحتملُ الخطأ، وأنَّ رأيَ غيره خطأ يحتمل الصواب ( ).
فما يراه حقًّا قد يراه الآخر باطلاً، وما يراه خيرًا قد يراه الآخر شرًّا؛ وهو ما يُسَمَّى بنسبيَّة الحقيقة.
وبناءً على قولهم فالحقُّ قد يكون في الإسلام، وقد يكون في غيره من الدِّيانات المحرَّفة أو الباطلة؟!
الحقُّ قد يكون عند أهل السُّنَّة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع!
ولذلك يرى بعضُهم أنَّ من حقِّ أيِّ مواطن في دولة الإسلام تغييرَ دينه إذا اقتنع بغيره ( ).
وهذه المقولاتُ التي تُقَرِّر بأنَّه لا أحد يَحتكر الحقيقةَ كافيةٌ لنقض أصل الإيمان؛ لأنَّ أصولَ الإيمان مبنيَّةٌ على القطعيَّة واليقين؛ فمَن لم يوقن بتوحيد الله، فليس بمؤمن في دين الله، ومَن لم يوقن يقينًا لا شَكَّ فيه بأنَّ الله فردٌ صمدٌ لا شريكَ له في ملكه وخلقه، فليس بمؤمن في دين الله.
ومن لم يوقن يقينًا لا تردُّدَ فيه بأنَّ القرآنَ معصومٌ من التَّحريف والتَّبديل، وأنَّ النَّبيَّ  هو خاتَمُ الأنبياء والرُّسل، وأنَّ الوحيَ قد انقطع بموته، فليس بمؤمن في دين الله.
وقل مثلَ ذلك فيما سوى هذا وذاك من أصول الدِّين وقطعيَّاته؛ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 32]؛ فهما طريقان لا ثالث لهما: الحقّ، وما عداه فهو الضَّلال.
فالحقُّ واحدٌ لا يتعدَّدُ، والضَّلالُ ألوان وأنماط، فماذا بعد الحقِّ إلَّا الضَّلال؟
ولو لم يكن ثمَّةَ حقيقةٌ مطلَقةٌ لكان أمرُ الله باتِّباع الحقِّ والتزامه عبثًا لا معنى له، ولو صحَّ هذا فما معنى قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]؛ أين هذا الصِّراطُ المستقيم الذي يأمرنا اللهُ باتِّباعه إذا كان لا أحدَ يملك الحقيقة، وأين هي تلك السُّبُلُ الضَّالَّة التي نهانا عن اتِّباعها إذا كانت الحقيقةُ نسبيَّةً؟!
«وهذا المذهبُ أوَّلُه سفسطةٌ وآخرُه زندقةٌ؛ لأنَّه يرفع الأمرَ والنَّهيَ والإيجاب والتَّحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسانُ إن شاء أن يُوجب وإن شاء أن يُحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفرٌ وزندقةٌ»( ).
وقد وَصَفَ ابنُ الجوزيّ- رحمه الله- القائلين بهذا القول بالجهل، فقال: «قد زعمت فرقةٌ من المتجاهلين أنَّه ليس للأشياء حقيقةٌ واحدةٌ في نفسها؛ بل حقيقتُها عندَ كلِّ قوم على حسب ما يعتقد فيها ...»( ).

متروي
08-17-2010, 09:10 PM
نتائجُ القراءة المعاصرة
إنَّ الدَّعوةَ لقراءة جديدة ومعاصرة للنَّصِّ الشَّرعيِّ دعوةٌ لها نتائج خطيرة ( )، ومن ذلك:
1- نزعُ الثِّقة بمصدر الدِّين؛ فهذه القراءةُ الجديدةُ للنَّصِّ تفضي إلى نزع الثِّقة في مصدر الدِّين قرآنًا وسنَّةً من النُّفوس.
2- إلغاءُ العمل بالقرآن الذي نزل ليكون مرجعًا ومنهاجًا للناس؛ لأنَّ كلَّ إنسان سيفهم منه فهمًا مغايرًا لفهم الآخر؛ ممَّا يَنْتُجُ عنه أن لا يكون هناك قانونٌ عامٌّ يَحْتَكم إليه جميعُ الناس؛ وذلك واضحٌ عند الاحتجاج على أحدهم بآية من التَّنزيل؛ سيقول مباشرة: هذا فهمك للآية ولا يلزمني. أو: هذه قراءة ممكنة للقرآن من جملة قراءات كثيرة أخرى ممكنة.
فإن قيل له: قال ابن عباس أو غيره من السَّلَف قال: رأي ابن عباس قراءةٌ أخرى ممكنة.
فالنتيجة إذًا: رفعُ القرآن الإلهيّ من الأرض، ولا يبقى إلا القراءات البشريَّة النِّسبيَّة المحتَمَلة؛ وأمَّا [مرادُ الله] من الآية الذي هو الحقُّ الوحيد، فلا يمكن الوصول إليه حسب زعمهم.
يقول نصر حامد أبو زيد: «بفرض وجود دلالة ذاتيَّة للنَّصِّ القرآنيِّ فإنَّه من المستحيل أن يدَّعي أحدٌ مطابقةَ فهمه لتلك الدِّلالة»( )؛ فبعد أن أنزل اللهُ علينا هذا القرآنَ ليكون نورًا مبينًا يهدينا ويرشدنا ويخرجنا من الظُّلمات إلى النُّور، يحاول هؤلاء قطع تلك الصِّلة بين العباد وربِّهم، ويزعمون استحالةَ وصول أحد من البشر إلى مراد الله.
إنَّ النتيجةَ الحتميَّةَ لهذا القول أن يصبح القرآنُ والسُّنَّةُ ألفاظًا لا معاني لها يرجع إليها، وبذلك تكون هذه الأمَّةُ كغيرها من الأمم التي عطَّلت العملَ بالوحي الإلهيِّ؛ فعن زياد بن لبيد- رضي الله عنه- قال: ذَكَرَ النَّبيُّ  شيئًا فقال: وذاك عند أوان ذهاب العلم.
قلت: يا رسول الله، وكيف يَذْهَبُ العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرِّئه أبناءَنا، ويقرِّئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟
قال: «ثكلتك أمُّك يا ابنَ أمِّ لبيد؛ إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أَوَلَيس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التَّوراةَ والإنجيلَ لا يَنتفعون ممَّا فيهما بشيء»( ).
3- ومن أخطر نتائج هذه القراءة: إلغاءُ الفهم الصَّحيح للدِّين:
فالقراءةُ الجديدةُ للنَّصِّ الشَّرعيّ بما أنَّها قراءةٌ محرّفة للنصّ باحتمالات غير متناهية، وبما أنّها شأن شخصيّ فرديّ، وبما أنّنا الآن في زمن تغيَّرت ظروفه تغيُّرًا جَذريًّا عمَّا كان عليه الأمر من قبل، فإنَّها ستكون قراءةً ناسخةً للدِّين الصَّحيح الذي تناقلتْه أجيالُ الأمَّة من العهد النَّبويِّ إلى الآن ( ).
فهذه القراءةُ الجديدةُ سينشأ عنها دينٌ يمكن أن يُسَمَّى أيّ شيء إلَّا الإسلام.
وقد اعتمد بعضُ هؤلاء المحرِّفين تعبيرًا عن الفهم الجديد للدِّين مصطلحَ «الرِّسالة الثَّانية للإسلام»، أو «الوجه الثَّاني لرسالة الإسلام»؛ إشارةً إلى أنَّ الرِّسالةَ الأولى هي التي استقرَّ عليها فهمُ الأمَّة للإسلام، والرسالةُ الثَّانية هي الرسالةُ الحقيقيَّة التي لم تُفهم، والتي آن أوانُ فهمها لتكون هي الدِّين الحقُّ الذي تبشِّر به القراءةُ الجديدةُ ( ).
إنَّ الفهمَ الجديدَ للدِّين الذي تنتجه هذه القراءةُ هو فهمٌ قد يَنتهي من حيث المبدأ إلى مخالَفة كلِّ ما هو سائد من فهم؛ سواءً تعلَّق الأمرُ بالمرتكزات العقديَّة، أو بالشَّرائع والأخلاق ( ).
فالإسلامُ الذي يتحدَّثون عنه في هذه القراءة المعاصرة ليس هو الإسلام الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ على محمد  وقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران: 91]، وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 58]؛ وإنَّما إسلامٌ جديد منفتح، وغير مغلق، وغير مكتمل ( )، بعكس ما أراده الباري- عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3]؛ فالإسلام الجديد العصريُّ المستنير ليس من الضَّروريِّ أن يقوم على خمسة أركان؛ فالشَّهادتان في الدِّين الجديد ليس لهما مدلولٌ إيمانيٌّ لأنَّه «وفي حقيقة الأمر وطبقًا لمقتضيات العصر لا تعني الشهادة التلفظ بهما أو كتابتهما؛ إنَّما تعني الشَّهادة على العصر، فليست الشَّهادتان إذن إعلانًا لفظيًّا عن الألوهية والنُّبوَّة؛ بل الشَّهادةُ النَّظريَّة والشَّهادة العمليَّة على قضايا العصر وحوادث التَّاريخ»( ).
أمَّا الجزء الثَّاني من الشَّهادة فليس من الإسلام؛ لأنَّ المسلمين هم الذين أضافوها؛ إذ كان الإسلامُ في البداية دعوةً إلى لقاء لكلِّ الأديان ( ).
وليس من الضَّروريِّ أن يَحتشدَ النَّاسُ جماعات في مسجد لإقامة الصَّلاة؛ وذلك لأنَّ الصَّلاةَ مسألةٌ شخصيَّةٌ( )، وليست واجبةً ( )، وقد فرضت أصلاً لتليين عريكة العربي، وتعويده على الطَّاعة للقائد( )، وتُغني عنها رياضة اليوغا ( )؛ وهو ما غفل عنه الفقهاء( ).
ولا بأسَ من الجمع بين الصَّلاتين؛ لأنَّ الأوضاع الحديثة تجعل الالتزامَ بالوقت متعذِّرًا في كثير من الحالات ( ).
والزكاة أيضًا ليست واجبة وإنَّما هي اختيارية ( ).
كما أنَّها لا تؤدِّي الغرضَ؛ لأنَّها تراعي معهودَ العرب في حياتهم التي كانوا عليها؛ فهي تَمَسُّ الثروات الصَّغيرة والمتوسطة أكثر ممَّا تمسُّ الثَّروات الضَّخمة...)( ).
والصوم كذلك ليس فرضًا وإنما هو للتخيير ( ).
وهو مفروضٌ على العربيِّ فقط؛ لأنَّه مشروطٌ بالبيئة العربيَّة؛ ولذلك فالصَّومُ بالنِّسبة للمسلم غير العربيِّ مجرَّد دلالة وعبرة دينيَّة ( )؛ بل إنَّ الصَّومَ يَحرم على المسلمين في العصر الحاضر؛ لأنه يقلِّل الإنتاجَ ( ).
أما الحجّ فليس من الضَّروري أن يُقام بطقوسه المعروفة؛ إذ يُغني عنه الحجُّ العقليُّ أو الحجُّ الرُّوحيُّ ( ).
وعلى هذا الأساس من التَّأصيل للفهم الجديد ألغت هذه القراءةُ الحدودَ ( )، باعتبارها أحكامًا تاريخية لا تناسب عصرنا، وهي عقوبات وحشية همجية بغيضة ( ).
ونظامُ الإرث الذي يميِّز بين الرَّجل والمرأة لا يتلاءم مع هذا العصر؛ فيجب أن يُلغى ( ).
وأنظمة الأسرة: نظام القوامة، نظام الطلاق، نظام الحضانة، نظام التعدد، حرمة الإجهاض، لا تنسجم مع تطورات العصر؛ فيجب أن تُلْغَى أو تُعَدَّل؛ لمنافاتها للعدل والمساواة بين الرَّجل والمرأة( ).
والقراءةُ المتأنِّيةُ للقرآن لا يمكن أن تؤدِّي إلَّا إلى منع تعدُّد الزَّوجات!! كما يقول أركون ( )، وانتهت هذه القراءةُ أيضًا إلى ما يُشْبه إباحةَ بعض أنواع من الزِّنا وإخراجه من دائرة التَّجريم الذي أَثْبَتَتْه قطعيَّات النُّصوص؛ فقال محمَّدٌ الشَّرفيُّ: «يتحتَّم حصرُ معنى الزِّنا في العلاقة الجنسيَّة بين رجل وامرأة أحدُهما متزوِّجٌ؛ لأنَّ هذه العلاقةَ فقط يمكن اعتبارُها جنايةً»( ).
والخمرُ ليست محرَّمةً؛ ولكن مأمورٌ باجتنابها فقط؛ كما يقول العشماويُّ ومحمَّد شحرور ( )، والرِّبا المحرَّم ما كان أضعافًا مضاعفةً فقط.
وهكذا يتمُّ طمسُ الإسلام الرَّبَّانيّ الذي أُرسل به محمد ، وإبراز الإسلام المخترع بأركانه الجديدة والعصرية والمفتوحة، والقابلة لكلِّ الأفهام والتَّأويلات، التي لا تتوقف عند حدٍّ معيَّن؛ لأنَّه لا حدودَ يمكن الوقوف عندها؛ فالإيمانُ أيضًا ليس هو الإيمان الذي يقوم على ستَّة أركان؛ «فالإيمانُ في عصرنا يعني الانتقالَ إلى إدراك عميق لمنهجيَّة الخلق والتَّكوين كما يوضِّحُها اللهُ في القرآن، وهي مرحلةٌ إيمانيَّةٌ لم يصلها من قبل إلَّا الذين اصطفاهم الله»( ).
ويكفي أن يتحقَّقَ في الإيمان المعاصر عند بعضهم ركنان فقط؛ هما: الإيمان بالله واليوم الآخر ( )، وعند البعض الآخر: «الإيمان بالله والاستقامة»( ).
والقصدُ من ذلك هو إدخالُ النَّصارى واليهود في مفهوم الإيمان والإسلام، واعتبارُهم ناجين يوم القيامة.
وعند طائفة ثالثة يُفتَح المجالُ للبوذيَّة وكلِّ الأديان الوضعيَّة للدُّخول في سفينة النَّجاة ( ).
لأنَّه يعسر على المؤمن في عالم اليوم أن يُهمل التَّحدِّيَّات التي تمثِّلها الأديانُ الأخرى المخالفة لدينه الموروث؛ فليس من الحكمة الإلهيَّة أن أحكم أنا المسلم على ثلاثة أرباع البشريَّة من معاصري غير المسلمين بالذِّهاب إلى الجحيم؟!( ).
فلفظ (المسلم) و (المؤمن) يشمل عندهم اليهود والنصارى وغيرهم؛ نظرًا لتطوُّر المفاهيم الاجتماعية والوطنية والسياسية، ومفهوم (ملَّة إبراهيم)- والتي تعني التَّوحيد- تَطَوَّرت إلى معنى وحدة الأديان.
والشرك بالله- عزَّ وجَلَّ- لم يعد هو التَّوَجُّه بالعبادة إلى غير الله- عز وجل؛ وإنَّما أصبح يعني الثَّبات في هذا الكون المتحرِّك، وعدم التَّطَوُّر بما يتناسب مع الشُّروط الموضوعيَّة المتطوِّرة دائمًا؛ فالتَّخلُّف شركٌ والتَّقدُّم توحيدٌ ( ).
إنَّ التَّوحيدَ هو توحيدُ الأمَّة والفكر وليس توحيدَ الآلهة( ).
والفنُّ بما فيه من رقص وموسيقى من شعب الإيمان والتَّوحيد( ).
والغيبيَّات عمومًا كالعرش والكرسيّ والملائكة والجنّ والشَّياطين والصِّراط والسِّجلَّات وغير ذلك ليست إلا تصوُّرات أسطوريَّة ( ).
والعالَمُ الآخرُ أسطورةٌ اخترعها الكهنة ليسيطروا على النَّاس ويحكموهم ( ).
والبعثُ الذي يريده القرآن والنَّبيُّ  ليس هو البعث بعد الموت؛ وإنَّما هو البعثُ من عالم الطُّفولة والتَّخلُّف إلى عالم التَّقدُّم والوعي ( ).
«قد لا يكون البعث واقعةً مادِّيَّةً تتحرَّك فيها الجبال، وتخرج لها الأجساد؛ بل يكون البعثُ هو بعثُ الحزب وبعثُ الأمَّة وبعثُ الرُّوح؛ فهو واقعةٌ شعوريَّةٌ تمثِّل لحظةَ اليَقَظة في الحياة في مقابل لحظة الموت والسُّكون»( ).
وحديثُ القرآن عن اللَّوح المحفوظ «هو صورة فنِّيَّةٌ، الغايةُ منها إثباتُ تدوين العلم؛ فالعلم المدوَّن أكثرُ دقَّةً من العلم المحفوظ في الذَّاكرة، أو المتصوَّر في الذِّهن»( ).
وأنَّ المرءَ لكي يكون مسلمًا لا يحتاج إلى الإيمان بالجنّ والملائكة؛ فالإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العملُ ( ).
و«الجنة والنار هما النعيم والعذاب في هذه الدنيا، وليس في عالم آخر يحشر فيه الإنسان بعد الموت؛ الدُّنيا هي الأرض، والعالَم الآخر هو الأرض؛ الجنةُ ما يصيب الإنسان من خير في الدُّنيا، والنَّارُ ما يصيب الإنسانَ من شرٍّ فيها»( )، و«أمور المعاد هي الدراسات المستقبلية بلغة العصر، والكشف عن نتائج المستقبل ابتداءً من حسابات الحاضر»( ).
و«أن المقصود بالنفخ في الصور، وقيام الساعة: صراعُ المتناقضات»( ).
«أمَّا الحور العين والملذات فهي تعبير عن الفن والحياة بدون قلق»( ).
فطريقةُ هؤلاء القوم: تفسير النُّصوص الشَّرعيَّة بالتَّأويلات الفاسدة المتضمّنة تكذيب الرسول ؛ فحسبهم ذلك بطلانًا.
وقد صدق فيهم قولُ النَّبيِّ : «سيكون في آخر أمتي أناس يحدِّثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم»( ).
وفي لفظ: «يكون في آخر الزَّمان دجَّالون ( )، كذّابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم، لا يضلّونكم، ولا يفتنونكم»( ).
وأمَّا زعمُ بعضهم بأنَّ هذا من التَّجديد في الدِّين الذي أخبر به النَّبيُّ  بقوله: «إنَّ اللهَ يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها دينَها»( )، فليس بصحيح؛ لأنَّ المقصودَ بالتَّجديد إحياء ما اندرس من معالم هذا الدِّين الذي كان عليه النَّبيُّ  وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، لا الإتيان بدين جديد مخترَع ( ) يتناقض مع ما كان عليه النبي  وأصحابه وأئمة القرون المفضلة.
فالدِّين أصلُه ثابتٌ لا يتبدَّل ولا يتغيَّر؛ ولكن تعلق الأدران والأوهام والأغلاط بالدِّين في عقول الناس وتصرفاتهم هو الذي يحتاج إلى تجديد.
وقد صدر عن مجمع الفقه الإسلاميِّ بخصوص القراءة الجديدة للقرآن ما يلي:
«إنَّ مجلسَ مجمع الفقه الإسلاميّ الدَّوليّ المنبثق عن منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ المنعقد في دورته السّادسة عشرة بدُبيّ (دولة الإمارات العربية المتحدة) 30 صفر – 5 ربيع الأول 1426هـ، الموافق 9 – 14 نيسان (إبريل) 2005م، بعد اطِّلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع القراءة الجديدة للقرآن وللنُّصوص الدِّينيَّة، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرَّر ما يلي:
أولاً: إنَّ ما يسمَّى بالقراءة الجديدة للنُّصوص الدِّينيَّة إذا أدَّت لتحريف معاني النُّصوص- ولو بالاستناد إلى أقوال شاذَّة بحيث تخرج النُّصوص عن المجمع عليه، وتتناقض مع الحقائق الشرعية- يُعَدُّ بدعةً منكَرَةً وخطرًا جسيمًا على المجتمعات الإسلاميَّة وثقافتها وقيمها، مع ملاحظة أنَّ بعضَ حَمَلة هذا الاتِّجاه وقعوا فيه بسبب الجهل بالمعايير الضَّابطة للتَّفسير أو الهوس بالتَّجديد غير المنضبط بالضَّوابط الشَّرعيَّة.
وتتجلَّى بوادرُ استفحال الخطر في تبنِّي بعض الجامعات منهجَ هذه القراءات، ونشر مقولاتها بمختلف وسائل التَّبليغ، والتَّشجيع على تناوُل موضوعاتها في رسائل جامعيَّة، ودعوة رموزها إلى المحاضرة والإسهام في النَّدوات المشبوهة، والإقبال على ترجمة ما كتب من آرائها بلغات أجنبيَّة، ونشر بعض المؤسَّسات لكتبهم المسمومة.
ثانيًا: أصبح التَّصَدِّي لتيار هذه القراءات من فروض الكفاية، ومن وسائل التَّصَدِّي لهذا التَّيَّار وحسم خطره ما يلي:
* دعوة الحكومات الإسلاميَّة إلى مواجهة هذا الخطر الدَّاهم، وتجلية الفرق بين حرية الرأي المسؤولة الهادفة المحترمة للثوابت، وبين الحرية المنفلتة الهدَّامة؛ لكي تقوم هذه الحكومات باتِّخاذ الإجراءات اللَّازمة لمراقبة مؤسَّسات النَّشر ومراكز الثَّقافة ومؤسَّسات الإعلام، والعمل على تعميق التَّوعية الإسلاميَّة العامَّة في نفوس النشء والشباب الجامعي والتَّعريف بمعايير الاجتهاد الشَّرعيِّ والتَّفسير الصَّحيح وشرح الحديث النَّبويّ.
* اتِّخاذ وسائل مناسبة [مثل عقد ندوات مناقشة] للإرشاد إلى التَّعَمُّق في دراسة علوم الشَّريعة ومصطلحاتها، وتشجيع الاجتهاد المنضبط بالضَّوابط الشَّرعيَّة وأصول اللُّغة العربيَّة ومعهوداتها.
* توسيع مجال الحوار المنهجيِّ الإيجابيِّ مع حملة هذا الاتِّجاه.
* تشجيع المختصِّين في الدِّراسات الإسلاميَّة لتكثيف الرُّدود العلميَّة الجادَّة ومناقشة مقولاتهم في مختلف المجالات؛ وبخاصَّة مناهج التَّعليم.
* توجيهُ بعض طلبة الدِّراسات العليا في العقيدة والحديث والشَّريعة إلى اختيار موضوعات رسائلهم الجامعيَّة في نشر الحقائق والرَّدِّ الجادِّ على آرائهم ومزاعمهم.
* تكوين فريق عمل تابع لمجمع الفقه الإسلاميِّ الدَّوليِّ، مع إنشاء مكتبة شاملة للمؤلَّفات في هذا الموضوع ترصد ما نُشر فيه والرُّدود عليه؛ تمهيدًا لكتابة البحوث الجادَّة، وللتَّنسيق بين الدَّارسين فيه ضمن مختلف مؤسَّسات البحث في العالم الإسلاميِّ وخارجه، والله أعلم»( ).