متروي
08-17-2010, 09:06 PM
الأُسس التي بَنَتْ عليها هذه المدرسةُ منهجَها
لمدرسة [الباطنيَّة الجُدُد] أُسُسٌ ومبادئ قامت عليها، وتسعى لنشرها والتَّرويج لها في كافَّة الوسائل المتاحة.
ومن أهم هذه الأسس:
الأوَّلُ: القولُ بالظَّنِّيَّة المطلَقة لدلالة النَّصِّ الشَّرعيِّ.
يقرِّر أصحاب هذه المدرسة أنَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ كتابًا وسنَّةً هو نَصٌّ ظَنِّيُّ الدِّلالة بصفة مطلَقة؛ فهو لا يحتمل معنى واحدًا فقط؛ بل هو مفتوح على احتمالات لأكثر من معنى من المعاني.
والنَّصُّ المحكم الذي لا يحتمل إلَّا دلالة واحدة لا وجودَ له ( )؛ فَيَتَرَتَّب عليه أنَّ أيَّ فهم للنَّصِّ الشَّرعيِّ ينبغي أن يحظى بالاحترام؛ إذ يمكن أن يكون حقًّا، وليس ثمة قراءات صحيحة وأخرى خاطئة؛ بل القراءاتُ كلُّها صحيحةٌ( ).
«فالقرآنُ هو نَصٌّ مفتوحٌ لجميع المعاني، ولا يمكن لأيِّ تفسير أو تأويل أن يغلقَه أو يستنفدَه بشكل نهائيٍّ»( ) كما يقول أركون.
وبناءً على هذا فلا يَحقُّ لأحد الادِّعاء بأنَّ ما توصَّل إليه من فهم هو الصَّحيح دونَ غيره؛ حتى لو كان هذا الفهمُ انعقد عليه إجماعُ الأمَّة.
وأركون بهذا الكلام لا يدعو العلماء والمجتهدين للنَّظَر في معنى النُّصوص الشَّرعيَّة التي تحتمل دلالتها اللُّغويَّة أكثر من معنى؛ بل يدعو كلَّ فرد لأن تكون له قراءتُه الخاصَّةُ لهذا النَّصِّ ينتهي فيها إلى ما يَرْتَضيه من مدلول بحريَّة مطلَقة لا يحتكم فيها إلَّا إلى ضميره( ).
ولذلك يقول: «إنَّ القراءةَ التي أحلم بها هي قراءةٌ حرَّةٌ إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتِّجاهات؛ إنَّها قراءة تجد فيها كلُّ ذات بشريَّة نفسَها»( ).
ويقول أحدهم: «النَّصُّ يتَّسع للكلِّ، ويتَّسع لكلِّ الأوجه والمستويات»( ).
وأنصارُ هذه المدرسة يرفعون شعار: «النَّصُّ مقدَّسٌ، والتَّأويلُ حرٌّ»؛ من حقِّ كلِّ مسلم أن يتعاملَ مع النَّصِّ بالطريقة التي يراها؛ فكلمةُ الجيب في قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] من الممكن أن يَفهمَ منها شخصٌ معنى، وغيرُه معنى آخر، وغيرُه معنى ثالثًا، ولكلٍّ قراءتُه، وفَهمُ السَّلف لهذه الآية هو قراءةٌ من هذه القراءات غير الملزمة.
فشحرور مثلاً يَفهم منها أنَّها تعني ما كان مكوَّنًا من طبقتين، وعليه فحجابُ المرأة الشَّرعيُّ بات مقصورًا وفقًا للمذهب الشَّحروريِّ على الفرج والثَّديين والإبطين فقط!!( )؛ فالتي ترتدي لباسًا إلى أنصاف الفخذين، وتستر ما تحت الثَّديين والإبطين هي امرأةٌ محجَّبَةٌ تنعم برضا الله وتنفيذ أوامره!!
ويفسِّرُ قولَه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38]: أي: كفُّوا أيديَهما عن السَّرقة بالسِّجن مثلاً ( ).
وقال غيره: المعنى كفُّوا أيديهما عن السَّرقة بتوفير العيش الكريم لهما.
ويُفهم من قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] أنَّ هذا الكونَ يَحمل تناقضاته، وأنَّ المادَّةَ تحمل تناقضَها معها؛ لذلك فإنَّ هذا الكونَ سيتدمَّر وسيتبدَّل وسيهلك؛ ولكن هلاكَه سيحوِّله إلى مادة أخرى.
وآخرُ يفهم من قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] النفس الواحدة: البروتون، وزوجها: الإلكترون ( ).
وغيرُه يَفهم من قوله تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه: 12] أنَّ المقصودَ بالنَّعلَين هما النَّفسُ والجسدُ؛ هوى النَّفس وملذَّات الجسد( ).
ولو سرْنا على منهج هذه المدرسة في تفسير النُّصوص فسيؤولُ بنا الأمرُ إلى فوضى من الآراء والأفكار التي لا حدَّ لها؛ لأنَّ النُّصوصَ لا يتحصَّل من معناها شيءٌ يضبطُه قانونٌ حسب قولهم.
وإذا كان القرآنُ كتابًا مفتوحًا على جميع المعاني كما يقولون؛ فما الفائدةُ من إنزاله ليكون منهاجًا وسبيلاً للمؤمنين؟! وبالمقابل هل يحقُّ لأيِّ إنسان أن يَفهمَ نصوصَ علم الطِّبِّ والهندسة وغيرهما حسبَ فهمه، وأن يمارسَ هذه الأنشطةَ عمليًّا في أرض الواقع إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتجاهات؟!
إنَّ هذا المبدأَ الذي تقوم عليه هذه المدرسةُ لو تمَّ العملُ به في قراءة النُّصوص لانهدمت الحياةُ الاجتماعية بأكملها؛ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 71].
وذلك لأنَّ هذه الحياةَ تقوم على ما تواضع عليه النَّاسُ من دلالات لغويَّة يتمُّ التَّفاهم بينهم بناءً عليها، ولو انتفى ذلك وأصبح كلُّ واحد يفهم معاني النُّصوص بحسب تأويله الخاصِّ الذي يقتضيه تكوينُه الثَّقافيّ، فإنَّ النَّتيجةَ أن لا يدركَ أحدٌ مدلولَ خطاب الآخر؛ فينعدم التَّواصُلُ والتَّعاون؛ فضلاً عن التَّدَيُّن.
كيف سيُطَبِّقُ رجالُ القانون بهذه القراءة أحكامَ القانون، وكلٌّ منهم له قراءتُه الخاصَّةُ للقانون؟!
وكيف سيحاكم الناس بهذا القانون، ولكلِّ واحد منهم قراءتُه الخاصَّة به؟
وكيف سيعمل المتلقي للأوامر والنَّواهي من أيِّ جهة من الجهات، والحال أنَّه قد يفهم الأمر نهيًا، والنَّهي أمرًا بتأويله اللُّغويّ الذَّاتيِّ؟
وكيف سيتعلم المتعلمون مع أنَّهم قد يفهمون مما يتلقون ويقرؤون خلاف ما قصد المعلم أو الكاتب تبليغه إليهم؟
ماذا لو قدَّم أحدُ أصحاب هذه الفكرة لتلاميذه في الامتحان قصيدةَ المتنبِّي في مدح سيف الدَّولة ثمَّ خَطَرَ للتلاميذ أن يكونوا من أصحاب [القراءة المعاصرة] في إجابتهم؛ فكتب أحدهم: [هذا هجاء مقذع]. مؤوِّلاً كلَّ كلام المتنبِّي على قاعدة الاستعارة التَّهَكُّميَّة!!
وكتب الآخر: [هذا غزل رقيق؛ فالمتنبِّي أسقط على سيف الدولة صورةَ الأنثى التي لم يجدها في الواقع!!].
وكتب الثَّالثُ: [هذه قصيدة في الفخر؛ فالثنائية متوهمة فقط، وليس سيف الدولة في القصيدة إلا الأنا الأخرى
(alter – ego) للمتنبِّي].
وأمَّا الرَّابع فقدَّم الورقةَ بيضاء!!
كيف يمكن للمعلم أن يصحِّحَ إجابات التَّلاميذ بناءً على مذهبه؛ فإن حاكَمَهم إلى معيار ما، فقد ناقض نفسه، وللتلاميذ أن يقولوا له: كيف تحاكمنا إلى فهمك، وقد أمليت علينا أنَّ كلَّ القراءات مشروعةٌ؟!
وإن سار مع منطق القراءة الجديدة فهي الفوضى لا محالة، وحتى الورقة البيضاء ينبغي أن تعطى درجة؛ لأنَّ سكوتَ التلميذ عن الإجابة تعبيرٌ استفزازيٌّ حداثيٌّ عن الثَّورة على كلِّ نصٍّ تراثيٍّ، ورفضٌ لكلِّ إسقاطات عصريَّة على شاعريَّة المتنبِّي ( ).
إنَّها الفوضى التي ليس بعدها فوضى، والدَّمار للحياة المعرفيَّة والاجتماعية الذي ليس بعده دمارٌ، ولو كان الأمرُ كما يدَّعيه هؤلاء على النَّحو الذي وصفنا، لما كان للنَّصِّ الشَّرعيِّ فائدة، ولا كان لتخصيص القرآن بلغة العرب مغزى.
فهل يُعْقَل أن يكون المرادُ الإلهيُّ بالوحي الذي أنزله الله وحضَّ على اتِّباعه وأمر بالاستسلام له وعاقب على الإعراض عنه متروكًا لكلِّ إنسان يفهم منه ما يريد؟!
هل يُعْقل أن يكون جوهرُ الوحي وأصولُ معانيه تتناقض الأجيالُ في تفسيرها جذريًّا؟!
الأساس الثَّاني: إهدارُ فهم علماء الأمَّة للنُّصوص الشَّرعيَّة:
وهذا ناتجٌ عن قولهم بأنَّ فهمَ السَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة لا يعدو أن يكون قراءةً من القراءات التي يَحتملها النَّصُّ، وبالتالي فهي غيرُ ملزمة لأحد.
يقول التُّرابيُّ: «وكلُّ التُّراث الفكريّ الذي خلَّفَه السَّلَفُ الصَّالحُ في أمور الدِّين هو تراثٌ لا يُلتَزَم به؛ وإنَّما يُسْتَأْنَسُ به»( ).
وهذا تَلَطُّفٌ منه في العبارة؛ أمَّا غيرُه فيصرِّح بأنَّ فهمَ الصَّحابة كان فهمًا خاطئًا ( )، وتوالى الخطأ بالتَّناقل إلى اليوم، وأنَّهم قد غفلوا عن الوجه الحقِّ من الإسلام ( ).
ويسخرون من فهم السَّلَف ويقولون: إلى متى تظلُّون على الفهم الصَّحراويِّ البدويِّ للقرآن والسُّنَّة؟
قال ابن تيمية- رحمه الله: «استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أمِّيِّين ... لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله ... هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة؛ بل في غاية الضلالة»( ).
وحالُ هؤلاء شبيهٌ بحال المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ [البقرة: 13].
المقصودون في هذه الآية هم الصحابة؛ فكلُّ مَن سَبَّهم ونسبهم إلى السَّفَه ونقص العلم والحكمة فهو السَّفيه بنصِّ القرآن، والواقعون في هذا «محجوبون عن معرفة مقادير السَّلَف، وعمق علومهم، وقلَّة تكلُّفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخِّرون إلَّا بالتَّكَلُّف والاشتغال بالأطراف التي كانت همَّةُ القوم مراعاةَ أصولها، وضبطَ قواعدها، وشدَّ معاقدها، وهممهم مشمَّرة إلى المطالب العالية في كلِّ شيء؛ فالمتأخِّرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدراً»( ).
ويَزْعُم بعضُهم أنَّ فهمَ الصَّحابة والسَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة كان مناسبًا لواقعهم وثقافة عصرهم، ولا يتناسب مع عصرنا؛ وهذا قولٌ باطلٌ؛ فإنَّ نصوصَ القرآن نزلت بلغة عربيَّة ذات معان محدَّدة يعقلُها العارفون بهذه اللُّغة: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، ثم جاءت السُّنَّة لتزيد المعاني اللُّغويَّة بيانًا.
ثم إنَّ أصحابَ رسول الله فسَّروا هذه النُّصوصَ بحسب ما فهموا من لغة القرآن والسُّنَّة التي كانت لغتهم، وبحسب ما سمعوا من رسول الله ، وبحسب ما شاهدوا من المناسبات التي نزلت بسببها الآيات والأحوال التي ذكرت فيها الأحاديث.
ثمَّ جاءت الأجيالُ تلوَ الأجيال من أئمَّة المسلمين وعلمائهم لتفهم من نصوص الكتاب والسُّنَّة هذا الفهمَ نفسَه كما تدلُّ عليه مؤلَّفاتُهم؛ فالقولُ بأنَّهم فسَّروا النُّصوصَ بحسب ثقافة عصورهم مجرَّدُ وهم تبطله الحقائق التَّاريخيَّة.
الأساس الثالث: القول بـ (تاريخيَّة النَّصِّ الشَّرعيّ):
ومعنى ذلك أنَّ ما تضمنته النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ من أوامر ونواه إنَّما كانت موجَّهةً إلى الناس الموجودين في زمن نزول الوحي، أو كانت حالُهم تشبه حالَ مَن نزل عليهم القرآن؛ وأمَّا مَن جاء بعدَهم وعاش واقعًا غيرَ واقعهم فلا يشمله النَّصُّ الشَّرعيُّ.
فإذا تغيرت أوضاع الناس في مجمل حياتهم – كما هو الأمر في حياة الناس اليوم – فإنَّ تلك الأحكامَ التي يتضمَّنها النَّصُّ ليست متعلِّقةً بهم أمرًا ونهيًا، ولهم أن يتديَّنوا فهمًا وتطبيقًا بخلافها؛ معتبرين أنَّ ذلك هو الدِّين الصَّحيح في حقِّهم، كما كانت تلك الأحكام هي الدِّين الصَّحيح في حقِّ المخاطبين زمنَ النُّزول؛ يقول التُّرابيُّ: «ونحن أشدُّ حاجةً لنظرة جديدة في أحكام الطَّلاق والزَّواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة، ونبني عليها فقهَنا الموروثَ...»( ).
ويقولُ أحدُهم: «موقفُ القرآن الكريم من المرأة كان موقفًا في عصر معيَّن، ووضعت تلك القواعدُ لعصر معيَّن، ومن الممكن جدًّا أنَّ مثلَ هذه الأشياء قد لا يَسمح العصر الذي نعيش فيه بتطبيقها»( ).
وقال آخرُ: «ونحنُ نعرف أنَّ النُّصوصَ القديمةَ ليست مقطوعةَ الصِّلة بالمجتمعات القديمة، وأنَّ نظامَ الحكم ومكانةَ المرأة وحقوقَ الإنسان وواجباته وعلاقةَ الدِّين بالسُّلطة في هذه النُّصوص تعبير عن واقع قديم لم يعدّ موجودًا ولم نعدّ في حاجة إليه».
ويرى بعضُهم أنَّ ما فُرض من تفاصيل العبادات والمعاملات هو أثرٌ لمقتضيات البيئة الحجازيَّة البسيطة في عصر الرَّسول دون غيرها من البيئات ( )؛ فالإنسانُ اليومَ في حلٍّ من تلك الفروض بمقتضى أوضاعه الجديدة، والخطاب القرآنيّ بصيغة (يا أيُّها النَّاس)، «المقصود بالنَّاس هنا الجماعة الأولى التي كانت تحيطُ بالنَّبيِّ ، والتي سمعت القرآن من فَمه لأَوَّل مرَّة»( ).
ويقولُ أحدُهم: «كذلك من الملائم هنا إعادةُ النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الملازمة لزمانها، والتي لا يمكن تصوُّر تطبيقها حاليًا بعد تطوُّر الفكر السِّياسيِّ العالميِّ، وعلى رأسها ما يعرف بـ [فقه أهل الذِّمَّة]... فلا مجالَ لإعمال مثل هذا الفقه المرتبط بظروف سالفة».
ويطالب بـ «إعادة النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الاقتصاديَّة التي كان تشريعُها ملازمًا لواقعها الاجتماعيِّ المختلف كليَّةً عن واقعنا المعاصر، ويأتي على رأسها ما يتعلَّق بعمليَّات البنوك التي تمثِّل عصبَ الاقتصاد المعاصر؛ مثل العوائد على رؤوس الأموال المقرضة ( ) والتي كان الهدفُ من تحريمها آنذاك حمايةَ الضُّعفاء والمحتاجين من أن تُسْتَغَلَّ حاجتُهم إلى الأموال لتمويل قُوتهم اليوميّ؛ فتتراكم عليهم الدُّيون ويستولي المقرضون على بيوتهم ومزارعهم»( ).
وأحكامُ الحدود إنَّما أَمْلَتْها الظُّروفُ التي كان عليها المجتمعُ آنذاك؛ حيث كان المجتمعُ بدائيًّا ليس فيه دولةٌ تقوم على استتباب الأمن؛ وإنَّما يتواثب فيه الناس بعضُهم على بعضهم للانتقام؛ فتكون إقامةُ الحدود: «أقلَّ الحلول شرًّا، وأدناها مَضَرَّةً؛ لأنَّها على ما فيها من وحشية تمثِّل وقايةً لمجتمع تلك الفترة ممَّا هو أسوأُ وأعنفُ وأكثرُ فظاعةً»( ).
وهذا يعني أنَّه إذا تغيَّرت أحوالُ المجتمع، ووُجدت الدَّولةُ التي تضبط الأمن، وتوفَّرت السُّجون، أصبحت أحكام الحدود التي تضمَّنها القرآن غير ملزمة للمخاطَبين بهذا النَّصِّ القرآنيّ ( ).
والحجاب لم يَعُدْ ملائمًا للعصر بزعمهم، ولا لمكانة المرأة وتحرُّرها، واقتحامها لكافَّة مجالات الحياة العامَّة من مدارس وجامعات ومعامل وإدارات وتجارات ( ).
بل حتى العبادات قابلة للتَّغيير في هذا العصر؛ فطريقةُ العبادة التي التزمها المسلمون زمنَ نزول القرآن ليست ملزمةً لمن يأتي بعدهم إذا ما تغيَّرت ظروف الحياة؛ بل يمكنهم أن يأتوا من هذه العبادات بما يلائم ظروفَهم الجديدةَ.
فإذا كان النبيُّ على سبيل المثال «يؤدِّي صلاتَه على نحو معين، إلا أنَّ ذلك لا يَعني أنَّ المسلمين مضطَّرُّون في كلِّ الأماكن والأزمنة والظُّروف للالتزام بذلك النحو ...»( ).
وبناءً على هذا المبدأ ستنتهي هذه القراءةُ إلى أن لا يكون للنُّصوص الشَّرعيَّة معنى ثابتٌ؛ فما يفهم عند أهل زمن على أنَّه مطلوبٌ يصبح عند غيرهم غيرَ مطلوب، وما يُفهم عندهم على أنَّه غير مطلوب يُفهم عند غيرهم على أنَّه مطلوب؛ نتيجةَ تَغَيُّر الثَّقافات بين الأزمان ( ).
وسببُ هذا الضَّلال في الفهم يرجع لنظرتهم لنصوص القرآن والسُّنَّة على أنَّها نصوصٌ بشريَّةٌ تعامَل كبقيَّة النُّصوص؛ فيجري عليها ما يجري على غيرها من النُّصوص، وتخضع لمقتضيات التاريخ وتغيُّراته.
ولذلك يقول نصر حامد أبو زيد: «إنَّ النَّصَّ القرآنيَّ وإن كان نصًّا مقدَّسًا، إلَّا أنَّه لا يخرج عن كونه نصًّا؛ فلذلك يجب أن يَخضع لقواعد النَّقد الأدبيِّ كغيره من النُّصوص الأدبيَّة»( ).
ويقول أركون: «إنَّ القرآنَ ليس إلَّا نصًّا من جملة نصوص أخرى تحتوي على نفس مستوى التَّعقيد والمعاني الفوَّارة الغزيرة؛ كالتَّوراة والإنجيل والنُّصوص المؤسسة للبوذيَّة أو الهندوسيَّة، وكل نص تأسيسيّ من هذه النصوص الكبرى حظي بتوسُّعات تاريخيَّة معيَّنة، وقد يحظى بتوسُّعات أخرى في المستقبل»( ).
وفي هذا من التَّلبيس ما فيه؛ فكيف يَستوي كتاب الله مع الكتب المحرَّفة، أو تلك التي اكتتبها بشر؟! وكيف يُقاس كلامُ ربِّ العالمين الذي علم ما كان وما سيكون على كلام الإنسان الذي لا يدرك من العلم إلَّا قليلاً؟! إنَّ كلامَ الله لا يمكن حصرُه وتقييدُه بزمن معين؛ لأنَّ اللهَ أنزله ليكون دستورًا للنَّاس في كلِّ زمان ومكان، وهو يعلم ما يَصلح لعبيده ويناسبهم في جميع الأزمنة والأحوال، لا يخفى عليه شيء وهو السَّميع البصير.
ونقول لهؤلاء أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: 140].
الأساس الرابع: القولُ بنسبيَّة الحقيقة، وعدم وجود حقيقة مطلَقَة:
فهم لا يؤمنون بوجود حقيقة واحدة ثابتة في كلِّ زمان ومكان؛ بل الحقُّ نسبيٌّ؛ فما تراه حقًّا يراه غيرُك باطلاً، وما تظنُّه اليومَ صوابًا قد لا يكون كذلك غدًا.
يقول أركون: «إنَّ القولَ أنَّ هناك حقيقةً إسلاميَّةً مثاليةً وجوهريةً مستمرة على مدار التاريخ وحتى اليوم، ليس إلا وهمًا أسطوريًا لا علاقةَ له بالحقيقة والواقع»( ).
ويقولون: لا أحدَ يَملك الحقيقةَ المطلقةَ. ويوظِّفون ذلك سياسيًّا في شعاراتهم: [التّعدديّة]، و[قبول الآخر].
ويقصدون بالآخر: اللَّادينيَّة والإلحاد والفجور، ويرون أنَّه لا بدَّ من التَّعامل مع جميع هذه المفاهيم على قدم المساواة، ولا داعي للإنكار على فكر ما، أو التَّشنيع على شذوذ ما؛ لأنَّ الحقيقةَ المطلقةَ غيرُ موجودة؛ يقول أحدهم: «لن تكون متقدِّمًا أو صاحبَ أمل في التَّقَدُّم إلا إذا قبلت الرَّأيَ على أنَّه حقيقةٌ، والحقيقة على أنَّها مطلَقَة وليست نسبيَّة»( ).
وحاصلُ هذه المقولات: أنَّه لا أحدَ يمكنه القطعُ بأنَّ رأيَه أو معتقدَه هو الحقُّ وأنَّ رأيَ غيره أو معتقدَه خطأ قطعًا؛ وإنَّما غايةُ ما يمكنه الجزمُ به أنَّ رأيَه صواب يحتملُ الخطأ، وأنَّ رأيَ غيره خطأ يحتمل الصواب ( ).
فما يراه حقًّا قد يراه الآخر باطلاً، وما يراه خيرًا قد يراه الآخر شرًّا؛ وهو ما يُسَمَّى بنسبيَّة الحقيقة.
وبناءً على قولهم فالحقُّ قد يكون في الإسلام، وقد يكون في غيره من الدِّيانات المحرَّفة أو الباطلة؟!
الحقُّ قد يكون عند أهل السُّنَّة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع!
ولذلك يرى بعضُهم أنَّ من حقِّ أيِّ مواطن في دولة الإسلام تغييرَ دينه إذا اقتنع بغيره ( ).
وهذه المقولاتُ التي تُقَرِّر بأنَّه لا أحد يَحتكر الحقيقةَ كافيةٌ لنقض أصل الإيمان؛ لأنَّ أصولَ الإيمان مبنيَّةٌ على القطعيَّة واليقين؛ فمَن لم يوقن بتوحيد الله، فليس بمؤمن في دين الله، ومَن لم يوقن يقينًا لا شَكَّ فيه بأنَّ الله فردٌ صمدٌ لا شريكَ له في ملكه وخلقه، فليس بمؤمن في دين الله.
ومن لم يوقن يقينًا لا تردُّدَ فيه بأنَّ القرآنَ معصومٌ من التَّحريف والتَّبديل، وأنَّ النَّبيَّ هو خاتَمُ الأنبياء والرُّسل، وأنَّ الوحيَ قد انقطع بموته، فليس بمؤمن في دين الله.
وقل مثلَ ذلك فيما سوى هذا وذاك من أصول الدِّين وقطعيَّاته؛ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 32]؛ فهما طريقان لا ثالث لهما: الحقّ، وما عداه فهو الضَّلال.
فالحقُّ واحدٌ لا يتعدَّدُ، والضَّلالُ ألوان وأنماط، فماذا بعد الحقِّ إلَّا الضَّلال؟
ولو لم يكن ثمَّةَ حقيقةٌ مطلَقةٌ لكان أمرُ الله باتِّباع الحقِّ والتزامه عبثًا لا معنى له، ولو صحَّ هذا فما معنى قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]؛ أين هذا الصِّراطُ المستقيم الذي يأمرنا اللهُ باتِّباعه إذا كان لا أحدَ يملك الحقيقة، وأين هي تلك السُّبُلُ الضَّالَّة التي نهانا عن اتِّباعها إذا كانت الحقيقةُ نسبيَّةً؟!
«وهذا المذهبُ أوَّلُه سفسطةٌ وآخرُه زندقةٌ؛ لأنَّه يرفع الأمرَ والنَّهيَ والإيجاب والتَّحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسانُ إن شاء أن يُوجب وإن شاء أن يُحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفرٌ وزندقةٌ»( ).
وقد وَصَفَ ابنُ الجوزيّ- رحمه الله- القائلين بهذا القول بالجهل، فقال: «قد زعمت فرقةٌ من المتجاهلين أنَّه ليس للأشياء حقيقةٌ واحدةٌ في نفسها؛ بل حقيقتُها عندَ كلِّ قوم على حسب ما يعتقد فيها ...»( ).
لمدرسة [الباطنيَّة الجُدُد] أُسُسٌ ومبادئ قامت عليها، وتسعى لنشرها والتَّرويج لها في كافَّة الوسائل المتاحة.
ومن أهم هذه الأسس:
الأوَّلُ: القولُ بالظَّنِّيَّة المطلَقة لدلالة النَّصِّ الشَّرعيِّ.
يقرِّر أصحاب هذه المدرسة أنَّ النَّصَّ الشَّرعيَّ كتابًا وسنَّةً هو نَصٌّ ظَنِّيُّ الدِّلالة بصفة مطلَقة؛ فهو لا يحتمل معنى واحدًا فقط؛ بل هو مفتوح على احتمالات لأكثر من معنى من المعاني.
والنَّصُّ المحكم الذي لا يحتمل إلَّا دلالة واحدة لا وجودَ له ( )؛ فَيَتَرَتَّب عليه أنَّ أيَّ فهم للنَّصِّ الشَّرعيِّ ينبغي أن يحظى بالاحترام؛ إذ يمكن أن يكون حقًّا، وليس ثمة قراءات صحيحة وأخرى خاطئة؛ بل القراءاتُ كلُّها صحيحةٌ( ).
«فالقرآنُ هو نَصٌّ مفتوحٌ لجميع المعاني، ولا يمكن لأيِّ تفسير أو تأويل أن يغلقَه أو يستنفدَه بشكل نهائيٍّ»( ) كما يقول أركون.
وبناءً على هذا فلا يَحقُّ لأحد الادِّعاء بأنَّ ما توصَّل إليه من فهم هو الصَّحيح دونَ غيره؛ حتى لو كان هذا الفهمُ انعقد عليه إجماعُ الأمَّة.
وأركون بهذا الكلام لا يدعو العلماء والمجتهدين للنَّظَر في معنى النُّصوص الشَّرعيَّة التي تحتمل دلالتها اللُّغويَّة أكثر من معنى؛ بل يدعو كلَّ فرد لأن تكون له قراءتُه الخاصَّةُ لهذا النَّصِّ ينتهي فيها إلى ما يَرْتَضيه من مدلول بحريَّة مطلَقة لا يحتكم فيها إلَّا إلى ضميره( ).
ولذلك يقول: «إنَّ القراءةَ التي أحلم بها هي قراءةٌ حرَّةٌ إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتِّجاهات؛ إنَّها قراءة تجد فيها كلُّ ذات بشريَّة نفسَها»( ).
ويقول أحدهم: «النَّصُّ يتَّسع للكلِّ، ويتَّسع لكلِّ الأوجه والمستويات»( ).
وأنصارُ هذه المدرسة يرفعون شعار: «النَّصُّ مقدَّسٌ، والتَّأويلُ حرٌّ»؛ من حقِّ كلِّ مسلم أن يتعاملَ مع النَّصِّ بالطريقة التي يراها؛ فكلمةُ الجيب في قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] من الممكن أن يَفهمَ منها شخصٌ معنى، وغيرُه معنى آخر، وغيرُه معنى ثالثًا، ولكلٍّ قراءتُه، وفَهمُ السَّلف لهذه الآية هو قراءةٌ من هذه القراءات غير الملزمة.
فشحرور مثلاً يَفهم منها أنَّها تعني ما كان مكوَّنًا من طبقتين، وعليه فحجابُ المرأة الشَّرعيُّ بات مقصورًا وفقًا للمذهب الشَّحروريِّ على الفرج والثَّديين والإبطين فقط!!( )؛ فالتي ترتدي لباسًا إلى أنصاف الفخذين، وتستر ما تحت الثَّديين والإبطين هي امرأةٌ محجَّبَةٌ تنعم برضا الله وتنفيذ أوامره!!
ويفسِّرُ قولَه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38]: أي: كفُّوا أيديَهما عن السَّرقة بالسِّجن مثلاً ( ).
وقال غيره: المعنى كفُّوا أيديهما عن السَّرقة بتوفير العيش الكريم لهما.
ويُفهم من قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] أنَّ هذا الكونَ يَحمل تناقضاته، وأنَّ المادَّةَ تحمل تناقضَها معها؛ لذلك فإنَّ هذا الكونَ سيتدمَّر وسيتبدَّل وسيهلك؛ ولكن هلاكَه سيحوِّله إلى مادة أخرى.
وآخرُ يفهم من قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] النفس الواحدة: البروتون، وزوجها: الإلكترون ( ).
وغيرُه يَفهم من قوله تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه: 12] أنَّ المقصودَ بالنَّعلَين هما النَّفسُ والجسدُ؛ هوى النَّفس وملذَّات الجسد( ).
ولو سرْنا على منهج هذه المدرسة في تفسير النُّصوص فسيؤولُ بنا الأمرُ إلى فوضى من الآراء والأفكار التي لا حدَّ لها؛ لأنَّ النُّصوصَ لا يتحصَّل من معناها شيءٌ يضبطُه قانونٌ حسب قولهم.
وإذا كان القرآنُ كتابًا مفتوحًا على جميع المعاني كما يقولون؛ فما الفائدةُ من إنزاله ليكون منهاجًا وسبيلاً للمؤمنين؟! وبالمقابل هل يحقُّ لأيِّ إنسان أن يَفهمَ نصوصَ علم الطِّبِّ والهندسة وغيرهما حسبَ فهمه، وأن يمارسَ هذه الأنشطةَ عمليًّا في أرض الواقع إلى درجة التَّشَرُّد والتَّسَكُّع في كلِّ الاتجاهات؟!
إنَّ هذا المبدأَ الذي تقوم عليه هذه المدرسةُ لو تمَّ العملُ به في قراءة النُّصوص لانهدمت الحياةُ الاجتماعية بأكملها؛ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 71].
وذلك لأنَّ هذه الحياةَ تقوم على ما تواضع عليه النَّاسُ من دلالات لغويَّة يتمُّ التَّفاهم بينهم بناءً عليها، ولو انتفى ذلك وأصبح كلُّ واحد يفهم معاني النُّصوص بحسب تأويله الخاصِّ الذي يقتضيه تكوينُه الثَّقافيّ، فإنَّ النَّتيجةَ أن لا يدركَ أحدٌ مدلولَ خطاب الآخر؛ فينعدم التَّواصُلُ والتَّعاون؛ فضلاً عن التَّدَيُّن.
كيف سيُطَبِّقُ رجالُ القانون بهذه القراءة أحكامَ القانون، وكلٌّ منهم له قراءتُه الخاصَّةُ للقانون؟!
وكيف سيحاكم الناس بهذا القانون، ولكلِّ واحد منهم قراءتُه الخاصَّة به؟
وكيف سيعمل المتلقي للأوامر والنَّواهي من أيِّ جهة من الجهات، والحال أنَّه قد يفهم الأمر نهيًا، والنَّهي أمرًا بتأويله اللُّغويّ الذَّاتيِّ؟
وكيف سيتعلم المتعلمون مع أنَّهم قد يفهمون مما يتلقون ويقرؤون خلاف ما قصد المعلم أو الكاتب تبليغه إليهم؟
ماذا لو قدَّم أحدُ أصحاب هذه الفكرة لتلاميذه في الامتحان قصيدةَ المتنبِّي في مدح سيف الدَّولة ثمَّ خَطَرَ للتلاميذ أن يكونوا من أصحاب [القراءة المعاصرة] في إجابتهم؛ فكتب أحدهم: [هذا هجاء مقذع]. مؤوِّلاً كلَّ كلام المتنبِّي على قاعدة الاستعارة التَّهَكُّميَّة!!
وكتب الآخر: [هذا غزل رقيق؛ فالمتنبِّي أسقط على سيف الدولة صورةَ الأنثى التي لم يجدها في الواقع!!].
وكتب الثَّالثُ: [هذه قصيدة في الفخر؛ فالثنائية متوهمة فقط، وليس سيف الدولة في القصيدة إلا الأنا الأخرى
(alter – ego) للمتنبِّي].
وأمَّا الرَّابع فقدَّم الورقةَ بيضاء!!
كيف يمكن للمعلم أن يصحِّحَ إجابات التَّلاميذ بناءً على مذهبه؛ فإن حاكَمَهم إلى معيار ما، فقد ناقض نفسه، وللتلاميذ أن يقولوا له: كيف تحاكمنا إلى فهمك، وقد أمليت علينا أنَّ كلَّ القراءات مشروعةٌ؟!
وإن سار مع منطق القراءة الجديدة فهي الفوضى لا محالة، وحتى الورقة البيضاء ينبغي أن تعطى درجة؛ لأنَّ سكوتَ التلميذ عن الإجابة تعبيرٌ استفزازيٌّ حداثيٌّ عن الثَّورة على كلِّ نصٍّ تراثيٍّ، ورفضٌ لكلِّ إسقاطات عصريَّة على شاعريَّة المتنبِّي ( ).
إنَّها الفوضى التي ليس بعدها فوضى، والدَّمار للحياة المعرفيَّة والاجتماعية الذي ليس بعده دمارٌ، ولو كان الأمرُ كما يدَّعيه هؤلاء على النَّحو الذي وصفنا، لما كان للنَّصِّ الشَّرعيِّ فائدة، ولا كان لتخصيص القرآن بلغة العرب مغزى.
فهل يُعْقَل أن يكون المرادُ الإلهيُّ بالوحي الذي أنزله الله وحضَّ على اتِّباعه وأمر بالاستسلام له وعاقب على الإعراض عنه متروكًا لكلِّ إنسان يفهم منه ما يريد؟!
هل يُعْقل أن يكون جوهرُ الوحي وأصولُ معانيه تتناقض الأجيالُ في تفسيرها جذريًّا؟!
الأساس الثَّاني: إهدارُ فهم علماء الأمَّة للنُّصوص الشَّرعيَّة:
وهذا ناتجٌ عن قولهم بأنَّ فهمَ السَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة لا يعدو أن يكون قراءةً من القراءات التي يَحتملها النَّصُّ، وبالتالي فهي غيرُ ملزمة لأحد.
يقول التُّرابيُّ: «وكلُّ التُّراث الفكريّ الذي خلَّفَه السَّلَفُ الصَّالحُ في أمور الدِّين هو تراثٌ لا يُلتَزَم به؛ وإنَّما يُسْتَأْنَسُ به»( ).
وهذا تَلَطُّفٌ منه في العبارة؛ أمَّا غيرُه فيصرِّح بأنَّ فهمَ الصَّحابة كان فهمًا خاطئًا ( )، وتوالى الخطأ بالتَّناقل إلى اليوم، وأنَّهم قد غفلوا عن الوجه الحقِّ من الإسلام ( ).
ويسخرون من فهم السَّلَف ويقولون: إلى متى تظلُّون على الفهم الصَّحراويِّ البدويِّ للقرآن والسُّنَّة؟
قال ابن تيمية- رحمه الله: «استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قومًا أمِّيِّين ... لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله ... هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة؛ بل في غاية الضلالة»( ).
وحالُ هؤلاء شبيهٌ بحال المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ [البقرة: 13].
المقصودون في هذه الآية هم الصحابة؛ فكلُّ مَن سَبَّهم ونسبهم إلى السَّفَه ونقص العلم والحكمة فهو السَّفيه بنصِّ القرآن، والواقعون في هذا «محجوبون عن معرفة مقادير السَّلَف، وعمق علومهم، وقلَّة تكلُّفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخِّرون إلَّا بالتَّكَلُّف والاشتغال بالأطراف التي كانت همَّةُ القوم مراعاةَ أصولها، وضبطَ قواعدها، وشدَّ معاقدها، وهممهم مشمَّرة إلى المطالب العالية في كلِّ شيء؛ فالمتأخِّرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدراً»( ).
ويَزْعُم بعضُهم أنَّ فهمَ الصَّحابة والسَّلف للنُّصوص الشَّرعيَّة كان مناسبًا لواقعهم وثقافة عصرهم، ولا يتناسب مع عصرنا؛ وهذا قولٌ باطلٌ؛ فإنَّ نصوصَ القرآن نزلت بلغة عربيَّة ذات معان محدَّدة يعقلُها العارفون بهذه اللُّغة: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، ثم جاءت السُّنَّة لتزيد المعاني اللُّغويَّة بيانًا.
ثم إنَّ أصحابَ رسول الله فسَّروا هذه النُّصوصَ بحسب ما فهموا من لغة القرآن والسُّنَّة التي كانت لغتهم، وبحسب ما سمعوا من رسول الله ، وبحسب ما شاهدوا من المناسبات التي نزلت بسببها الآيات والأحوال التي ذكرت فيها الأحاديث.
ثمَّ جاءت الأجيالُ تلوَ الأجيال من أئمَّة المسلمين وعلمائهم لتفهم من نصوص الكتاب والسُّنَّة هذا الفهمَ نفسَه كما تدلُّ عليه مؤلَّفاتُهم؛ فالقولُ بأنَّهم فسَّروا النُّصوصَ بحسب ثقافة عصورهم مجرَّدُ وهم تبطله الحقائق التَّاريخيَّة.
الأساس الثالث: القول بـ (تاريخيَّة النَّصِّ الشَّرعيّ):
ومعنى ذلك أنَّ ما تضمنته النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ من أوامر ونواه إنَّما كانت موجَّهةً إلى الناس الموجودين في زمن نزول الوحي، أو كانت حالُهم تشبه حالَ مَن نزل عليهم القرآن؛ وأمَّا مَن جاء بعدَهم وعاش واقعًا غيرَ واقعهم فلا يشمله النَّصُّ الشَّرعيُّ.
فإذا تغيرت أوضاع الناس في مجمل حياتهم – كما هو الأمر في حياة الناس اليوم – فإنَّ تلك الأحكامَ التي يتضمَّنها النَّصُّ ليست متعلِّقةً بهم أمرًا ونهيًا، ولهم أن يتديَّنوا فهمًا وتطبيقًا بخلافها؛ معتبرين أنَّ ذلك هو الدِّين الصَّحيح في حقِّهم، كما كانت تلك الأحكام هي الدِّين الصَّحيح في حقِّ المخاطبين زمنَ النُّزول؛ يقول التُّرابيُّ: «ونحن أشدُّ حاجةً لنظرة جديدة في أحكام الطَّلاق والزَّواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة، ونبني عليها فقهَنا الموروثَ...»( ).
ويقولُ أحدُهم: «موقفُ القرآن الكريم من المرأة كان موقفًا في عصر معيَّن، ووضعت تلك القواعدُ لعصر معيَّن، ومن الممكن جدًّا أنَّ مثلَ هذه الأشياء قد لا يَسمح العصر الذي نعيش فيه بتطبيقها»( ).
وقال آخرُ: «ونحنُ نعرف أنَّ النُّصوصَ القديمةَ ليست مقطوعةَ الصِّلة بالمجتمعات القديمة، وأنَّ نظامَ الحكم ومكانةَ المرأة وحقوقَ الإنسان وواجباته وعلاقةَ الدِّين بالسُّلطة في هذه النُّصوص تعبير عن واقع قديم لم يعدّ موجودًا ولم نعدّ في حاجة إليه».
ويرى بعضُهم أنَّ ما فُرض من تفاصيل العبادات والمعاملات هو أثرٌ لمقتضيات البيئة الحجازيَّة البسيطة في عصر الرَّسول دون غيرها من البيئات ( )؛ فالإنسانُ اليومَ في حلٍّ من تلك الفروض بمقتضى أوضاعه الجديدة، والخطاب القرآنيّ بصيغة (يا أيُّها النَّاس)، «المقصود بالنَّاس هنا الجماعة الأولى التي كانت تحيطُ بالنَّبيِّ ، والتي سمعت القرآن من فَمه لأَوَّل مرَّة»( ).
ويقولُ أحدُهم: «كذلك من الملائم هنا إعادةُ النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الملازمة لزمانها، والتي لا يمكن تصوُّر تطبيقها حاليًا بعد تطوُّر الفكر السِّياسيِّ العالميِّ، وعلى رأسها ما يعرف بـ [فقه أهل الذِّمَّة]... فلا مجالَ لإعمال مثل هذا الفقه المرتبط بظروف سالفة».
ويطالب بـ «إعادة النَّظَر ببعض التَّشريعات الفقهيَّة الاقتصاديَّة التي كان تشريعُها ملازمًا لواقعها الاجتماعيِّ المختلف كليَّةً عن واقعنا المعاصر، ويأتي على رأسها ما يتعلَّق بعمليَّات البنوك التي تمثِّل عصبَ الاقتصاد المعاصر؛ مثل العوائد على رؤوس الأموال المقرضة ( ) والتي كان الهدفُ من تحريمها آنذاك حمايةَ الضُّعفاء والمحتاجين من أن تُسْتَغَلَّ حاجتُهم إلى الأموال لتمويل قُوتهم اليوميّ؛ فتتراكم عليهم الدُّيون ويستولي المقرضون على بيوتهم ومزارعهم»( ).
وأحكامُ الحدود إنَّما أَمْلَتْها الظُّروفُ التي كان عليها المجتمعُ آنذاك؛ حيث كان المجتمعُ بدائيًّا ليس فيه دولةٌ تقوم على استتباب الأمن؛ وإنَّما يتواثب فيه الناس بعضُهم على بعضهم للانتقام؛ فتكون إقامةُ الحدود: «أقلَّ الحلول شرًّا، وأدناها مَضَرَّةً؛ لأنَّها على ما فيها من وحشية تمثِّل وقايةً لمجتمع تلك الفترة ممَّا هو أسوأُ وأعنفُ وأكثرُ فظاعةً»( ).
وهذا يعني أنَّه إذا تغيَّرت أحوالُ المجتمع، ووُجدت الدَّولةُ التي تضبط الأمن، وتوفَّرت السُّجون، أصبحت أحكام الحدود التي تضمَّنها القرآن غير ملزمة للمخاطَبين بهذا النَّصِّ القرآنيّ ( ).
والحجاب لم يَعُدْ ملائمًا للعصر بزعمهم، ولا لمكانة المرأة وتحرُّرها، واقتحامها لكافَّة مجالات الحياة العامَّة من مدارس وجامعات ومعامل وإدارات وتجارات ( ).
بل حتى العبادات قابلة للتَّغيير في هذا العصر؛ فطريقةُ العبادة التي التزمها المسلمون زمنَ نزول القرآن ليست ملزمةً لمن يأتي بعدهم إذا ما تغيَّرت ظروف الحياة؛ بل يمكنهم أن يأتوا من هذه العبادات بما يلائم ظروفَهم الجديدةَ.
فإذا كان النبيُّ على سبيل المثال «يؤدِّي صلاتَه على نحو معين، إلا أنَّ ذلك لا يَعني أنَّ المسلمين مضطَّرُّون في كلِّ الأماكن والأزمنة والظُّروف للالتزام بذلك النحو ...»( ).
وبناءً على هذا المبدأ ستنتهي هذه القراءةُ إلى أن لا يكون للنُّصوص الشَّرعيَّة معنى ثابتٌ؛ فما يفهم عند أهل زمن على أنَّه مطلوبٌ يصبح عند غيرهم غيرَ مطلوب، وما يُفهم عندهم على أنَّه غير مطلوب يُفهم عند غيرهم على أنَّه مطلوب؛ نتيجةَ تَغَيُّر الثَّقافات بين الأزمان ( ).
وسببُ هذا الضَّلال في الفهم يرجع لنظرتهم لنصوص القرآن والسُّنَّة على أنَّها نصوصٌ بشريَّةٌ تعامَل كبقيَّة النُّصوص؛ فيجري عليها ما يجري على غيرها من النُّصوص، وتخضع لمقتضيات التاريخ وتغيُّراته.
ولذلك يقول نصر حامد أبو زيد: «إنَّ النَّصَّ القرآنيَّ وإن كان نصًّا مقدَّسًا، إلَّا أنَّه لا يخرج عن كونه نصًّا؛ فلذلك يجب أن يَخضع لقواعد النَّقد الأدبيِّ كغيره من النُّصوص الأدبيَّة»( ).
ويقول أركون: «إنَّ القرآنَ ليس إلَّا نصًّا من جملة نصوص أخرى تحتوي على نفس مستوى التَّعقيد والمعاني الفوَّارة الغزيرة؛ كالتَّوراة والإنجيل والنُّصوص المؤسسة للبوذيَّة أو الهندوسيَّة، وكل نص تأسيسيّ من هذه النصوص الكبرى حظي بتوسُّعات تاريخيَّة معيَّنة، وقد يحظى بتوسُّعات أخرى في المستقبل»( ).
وفي هذا من التَّلبيس ما فيه؛ فكيف يَستوي كتاب الله مع الكتب المحرَّفة، أو تلك التي اكتتبها بشر؟! وكيف يُقاس كلامُ ربِّ العالمين الذي علم ما كان وما سيكون على كلام الإنسان الذي لا يدرك من العلم إلَّا قليلاً؟! إنَّ كلامَ الله لا يمكن حصرُه وتقييدُه بزمن معين؛ لأنَّ اللهَ أنزله ليكون دستورًا للنَّاس في كلِّ زمان ومكان، وهو يعلم ما يَصلح لعبيده ويناسبهم في جميع الأزمنة والأحوال، لا يخفى عليه شيء وهو السَّميع البصير.
ونقول لهؤلاء أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: 140].
الأساس الرابع: القولُ بنسبيَّة الحقيقة، وعدم وجود حقيقة مطلَقَة:
فهم لا يؤمنون بوجود حقيقة واحدة ثابتة في كلِّ زمان ومكان؛ بل الحقُّ نسبيٌّ؛ فما تراه حقًّا يراه غيرُك باطلاً، وما تظنُّه اليومَ صوابًا قد لا يكون كذلك غدًا.
يقول أركون: «إنَّ القولَ أنَّ هناك حقيقةً إسلاميَّةً مثاليةً وجوهريةً مستمرة على مدار التاريخ وحتى اليوم، ليس إلا وهمًا أسطوريًا لا علاقةَ له بالحقيقة والواقع»( ).
ويقولون: لا أحدَ يَملك الحقيقةَ المطلقةَ. ويوظِّفون ذلك سياسيًّا في شعاراتهم: [التّعدديّة]، و[قبول الآخر].
ويقصدون بالآخر: اللَّادينيَّة والإلحاد والفجور، ويرون أنَّه لا بدَّ من التَّعامل مع جميع هذه المفاهيم على قدم المساواة، ولا داعي للإنكار على فكر ما، أو التَّشنيع على شذوذ ما؛ لأنَّ الحقيقةَ المطلقةَ غيرُ موجودة؛ يقول أحدهم: «لن تكون متقدِّمًا أو صاحبَ أمل في التَّقَدُّم إلا إذا قبلت الرَّأيَ على أنَّه حقيقةٌ، والحقيقة على أنَّها مطلَقَة وليست نسبيَّة»( ).
وحاصلُ هذه المقولات: أنَّه لا أحدَ يمكنه القطعُ بأنَّ رأيَه أو معتقدَه هو الحقُّ وأنَّ رأيَ غيره أو معتقدَه خطأ قطعًا؛ وإنَّما غايةُ ما يمكنه الجزمُ به أنَّ رأيَه صواب يحتملُ الخطأ، وأنَّ رأيَ غيره خطأ يحتمل الصواب ( ).
فما يراه حقًّا قد يراه الآخر باطلاً، وما يراه خيرًا قد يراه الآخر شرًّا؛ وهو ما يُسَمَّى بنسبيَّة الحقيقة.
وبناءً على قولهم فالحقُّ قد يكون في الإسلام، وقد يكون في غيره من الدِّيانات المحرَّفة أو الباطلة؟!
الحقُّ قد يكون عند أهل السُّنَّة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع!
ولذلك يرى بعضُهم أنَّ من حقِّ أيِّ مواطن في دولة الإسلام تغييرَ دينه إذا اقتنع بغيره ( ).
وهذه المقولاتُ التي تُقَرِّر بأنَّه لا أحد يَحتكر الحقيقةَ كافيةٌ لنقض أصل الإيمان؛ لأنَّ أصولَ الإيمان مبنيَّةٌ على القطعيَّة واليقين؛ فمَن لم يوقن بتوحيد الله، فليس بمؤمن في دين الله، ومَن لم يوقن يقينًا لا شَكَّ فيه بأنَّ الله فردٌ صمدٌ لا شريكَ له في ملكه وخلقه، فليس بمؤمن في دين الله.
ومن لم يوقن يقينًا لا تردُّدَ فيه بأنَّ القرآنَ معصومٌ من التَّحريف والتَّبديل، وأنَّ النَّبيَّ هو خاتَمُ الأنبياء والرُّسل، وأنَّ الوحيَ قد انقطع بموته، فليس بمؤمن في دين الله.
وقل مثلَ ذلك فيما سوى هذا وذاك من أصول الدِّين وقطعيَّاته؛ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: 32]؛ فهما طريقان لا ثالث لهما: الحقّ، وما عداه فهو الضَّلال.
فالحقُّ واحدٌ لا يتعدَّدُ، والضَّلالُ ألوان وأنماط، فماذا بعد الحقِّ إلَّا الضَّلال؟
ولو لم يكن ثمَّةَ حقيقةٌ مطلَقةٌ لكان أمرُ الله باتِّباع الحقِّ والتزامه عبثًا لا معنى له، ولو صحَّ هذا فما معنى قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153]؛ أين هذا الصِّراطُ المستقيم الذي يأمرنا اللهُ باتِّباعه إذا كان لا أحدَ يملك الحقيقة، وأين هي تلك السُّبُلُ الضَّالَّة التي نهانا عن اتِّباعها إذا كانت الحقيقةُ نسبيَّةً؟!
«وهذا المذهبُ أوَّلُه سفسطةٌ وآخرُه زندقةٌ؛ لأنَّه يرفع الأمرَ والنَّهيَ والإيجاب والتَّحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسانُ إن شاء أن يُوجب وإن شاء أن يُحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفرٌ وزندقةٌ»( ).
وقد وَصَفَ ابنُ الجوزيّ- رحمه الله- القائلين بهذا القول بالجهل، فقال: «قد زعمت فرقةٌ من المتجاهلين أنَّه ليس للأشياء حقيقةٌ واحدةٌ في نفسها؛ بل حقيقتُها عندَ كلِّ قوم على حسب ما يعتقد فيها ...»( ).