المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بدعة إعادة فهم النص (3)



متروي
08-17-2010, 09:17 PM
من أصول وقواعد أهل السُّنَّة في فهم النُّصوص الشَّرعيَّة
لقد جاء الإسلامُ بقواعد واضحة لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة، حتى لا تزلَّ الأقدامُ أو تضلَّ الأفهام.
وهذه القواعد ركيزةٌ رئيسةٌ لصحَّة الاستدلال، ولا يستطيع المرءُ أن يعرف مرادَ الله ومرادَ رسوله  إلا إذا استقام فهمُه لدلائل الكتاب والسُّنَّة.
وما حدثت الأفكارُ والآراءُ والضَّلالاتُ إلَّا بسبب سوء الفهم.
ولو تُركت النُّصوصُ للنَّاس كُلٌّ يفهم منها حسبما يُمليه عليه فهمُه وعقلُه، لشَطَّ النَّاسُ في الفهم شططًا بعيدًا؛ لذلك كان لابُدَّ من أصول علميَّة نلتزم بها في فهم النُّصوص.
من هذه الأصول:
أولاً: وجوبُ الرُّجوع لمنهج السَّلف الصَّالح في فهم النُّصوص الشَّرعية:
قد يَقول قائل: لماذا يجب علينا اتِّباعُ منهج السَّلف دون غيرهم؟! أليسوا بشرًا كسائر البشر؛ فلماذا نخصُّهم بوجوب الاتِّباع؟!
وكما يقول كثيرٌ من الكتَّاب اليوم: هم رجالٌ ونحن رجالٌ.
فنقول: إنَّ السَّلفَ الصَّالحَ قد تميَّزوا بأمور لم تتوفَّر في غيرهم من هذه الأمَّة؛ فكانوا يمثِّلون الفهمَ الصَّحيحَ والتَّطبيقَ العمليَّ لما جاء في الكتاب والسُّنَّة.
وقد دلَّت الأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ الكثيرةُ من جهات عدَّة على وجوب الرُّجوع لفهم السَّلف لنصوص الكتاب والسُّنَّة، ومن ذلك:
1- أنَّ اللهَ توعَّدَ من خالف طريقهم ومنهجهم بالعذاب الأليم: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115]؛ فمَن سلك طريقًا في الفهم مخالفًا لطريق المؤمنين فقد توعَّدَه اللهُ بالعقاب الأليم، وأوَّلُ مَن يدخل في قوله: سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ المؤمنون الأوائل الذين رضي اللهُ عنهم بنصِّ القرآن؛ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله: «سَنَّ رسولُ الله  وولاةُ الأمر بعدَه سُنَنًا الأخذُ بها اتِّباعٌ لكتاب الله، واستكمالٌ لطاعة الله، وقوَّةٌ على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرُها، ولا تبديلها، ولا النَّظر في شيء خالَفَها؛ مَن اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين، وولَّاه اللهُ ما تولَّى، وأصلاه جهنمَ وساءت مصيرًا»( ).
2- أنَّ النَّبيَّ  أَمَرَ باتِّباعهم والسَّير على منهجهم في قوله: «فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عضّوا عليها بالنَّواجذ»( ).
قال ابنُ القيِّم- رحمه الله: «وقد قرن رسولُ الله  سنَّةَ أصحابه بسنَّته، وأمر باتِّباعها كما أمر باتِّباع سنَّته، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يُعَضَّ عليها بالنَّواجذ»( ).
وعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: «اتَّقوا اللهَ يا معشرَ القرَّاء، وخذوا طريقَ مَن كان قبلَكم؛ فلعمري لئن اتَّبعتموه لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا»( ).
أسير خلف ركاب النّجب ذا عرج

مؤمِّلاً كشفَ ما لاقيتُ من عوج

فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا

فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج

وإن بقيتُ بظهر الأرض منقطعًا

فما على عَرَج في ذاك من حرج

3- أنَّ السَّلفَ الصَّالحَ هم أفضل هذه الأمَّة وخيرُها علمًا وعملاً؛ قال : «خيرُ النَّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»( ).
قال ابنُ تيمية- رحمه الله: «ومن المعلوم بالضَّرورة لمن تدبَّر الكتابَ والسُّنَّة وما اتَّفق عليه أهل السُّنَّة والجماعة من جميع الطَّوائف، أنَّ خيرَ قرون هذه الأمَّة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كلِّ فضيلة أنَّ خيرَها القرنُ الأوَّلُ، ثمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛ كما ثبت ذلك عن النَّبيِّ  من غير وجه، وأنَّهم أفضلُ من الخلف في كلِّ فضيلة من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنَّهم أولى بالبيان لكلِّ مُشْكل؛ هذا لا يدفعه إلَّا مَن كابر المعلوم بالضَّرورة من دين الإسلام، وأضلَّه اللهُ على علم، وما أحسن ما قال الشَّافعيُّ في رسالته: هم فوقنا في كلِّ علم، وعقل، ودين، وفضل، وكلِّ سبب ينال به علم، أو يدرك به هدىً، ورأيُهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا»( ).
4- أنَّ التَّمسُّكَ بما كانوا عليه سببٌ للنَّجاة عند وقوع الفتن والاختلاف والتَّفرُّق؛ عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله : «إنَّ بني إسرائل تفرَّقت على ثنتين وسبعين ملَّة، وتفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين ملَّة؛ كلُّهم في النَّار إلَّا ملَّة واحدة».
قالوا: ومن هي يا رسول الله؟
قال: «ما أنا عليه وأصحابي»( ).
وهذا يدلُّ على أنَّ فيصلَ التَّفريق بين الحقِّ والباطل باتِّباع الصَّحابة فيما كانوا عليه.
5- أنهم أعلمُ بمراد الله تعالى ومراد رسوله  من غيرهم؛ وهذه من أهمِّ مميِّزاتهم التي تجعل منهجَهم وطريقَهم هو المقدَّمُ.
وذلك: «لما خصَّهم اللهُ تعالى به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللِّسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وحسن القصد وتقوى الرَّبِّ تعالى.
فالعربيَّةُ طبيعتُهم وسليقتُهم، والمعاني الصَّحيحة مركوزةٌ في فطرهم وعقولهم، ولا حاجةَ بهم إلى النَّظر في الإسناد وأحوال الرُّواة وعلل الحديث والجرح والتَّعديل، ولا إلى النَّظَر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليِّين؛ بل قد غُنُوا عن ذلك كلِّه؛ فليس في حقِّهم إلا أمران:
أحدهما: قال الله تعالى كذا وقال رسوله كذا.
والثاني: معناه كذا وكذا.
وهم أسعد النَّاس بهاتين المقدِّمتين، وأحظى الأمَّة بهما؛ فقواهم متوفِّرةٌ مجتمعةٌ عليهما»( ).
وهم إلى فَهم النُّصوص ودلالاتها أقربُ من غيرهم؛ لأنَّ القرآنَ يَتَنَزَّل عليهم بألسنتهم ( ) والنَّبيّ  بين ظهرانيهم يبيِّن لهم ما نزل إليهم، وما أشكل عليهم في شتَّى مسائل الدِّين.
وقد أخذوا عن الرسول  «لفظ القرآن ومعناه»؛ كما قال ابنُ تيمية- رحمه الله ( ).
فتعلَّموا القرآنَ بنصوصه ومعانيه، وقواعده وضوابطه، وتركهم النَّبيُّ  على ملَّة قويمة مستقرَّة، ومحجَّة بيضاء ناصعة، لا خفاء فيها ولا غموض، ولا لبس ولا إبهام؛ «قد تركتُكم على البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلَّا هالكٌ»( )؛ فكلُّ ما خفي وأشكل واشتبه فبيانُه وجلاؤُه في علم أصحاب رسول الله .
قال عمر بن الخطاب لابن عبَّاس- رضي الله عنهم: «كيف تختلف هذه الأمَّة ونبيُّها واحد، وقبلتها واحدة؟!
فقال ابن عبَّاس- رضي الله عنهما: «يا أميرَ المؤمنين؛ إنَّما أُنزل علينا القرآنُ فقرأناه، وعلمنا فيمن نزل، وإنَّه سيكون بعدنا أقوامٌ يقرؤون القرآنَ ولا يدرون فيمَن نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا...»( ).
قال الشَّاطبيُّ- رحمه الله: «فلهذا كلِّه يجب على كلِّ ناظر في الدَّليل الشَّرعيِّ مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصَّواب، وأقومُ في العلم والعمل»( ).
وقال الحافظُ ابنُ رجب الحنبليّ- رحمه الله: «فالعلمُ النَّافعُ من هذه العلوم كلِّها: ضبطُ نصوص الكتاب والسُّنَّة وفهم معانيها، والتَّقَيُّد في ذلك بالمأثور عن الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزُّهد والرَّقائق والمعارف وغير ذلك»( ).
وقال الحافظ ابنُ عبد الهادي- رحمه الله: «ولا يجوز إحداثُ تأويل في آية أو سنَّة لم يكن على عهد السَّلف، ولا عرفوه ولا بيَّنوه للأمَّة؛ فإنَّ هذا يتضمَّن أنَّهم جهلوا الحقَّ في هذا وضلُّوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر»( ).
وقال ابنُ تيمية- رحمه الله: «مَن فسَّر القرآنَ أو الحديث وتأوَّله على غير التَّفسير المعروف عن الصَّحابة والتَّابعين، فهو مفتر على الله، ملحدٌ في آيات الله، محرِّفٌ للكلم عن مواضعه؛ وهذا فتحٌ لباب الزَّندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام»( ).
وأمَّا القولُ بأنَّ السَّلفَ بشرٌ غير معصومين فكيف نُلزَم باتِّباعهم؟
فجوابه: أنَّ العصمةَ للمنهج لا للأفراد؛ فالأفرادُ غيرُ معصومين؛ أمَّا المنهجُ الذي ساروا عليه فهو المعصوم الذي لا يدخله خللٌ، ولا يعتريه نقصٌ؛ لأنَّ الأمَّةَ لا تجتمع على ضلالة، وملخَّصُ منهجهم اتِّباعُ الكتاب والسُّنَّة وعدمُ معارضتهما بآراء الرِّجال واعتماد لغة العرب أساسًا في فهم هذين الأصلين.
ثانيًا: الرُّجوعُ إلى لغة العرب في فهم المراد من كلام الله وكلام رسوله ؛
فقد شاء اللهُ تعالى أن تكون رسالتُه الخاتمة إلى البشريَّة باللُّغة العربيَّة، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3]، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [فصلت: 3]، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. [الزخرف: 3]، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف: 12].
وقد يكون من وجوه الحكمة في ذلك أنَّ هذه اللُّغةَ بَلَغَت في سلَّم اللغات الإنسانيَّة الذّروةَ في سعة الألفاظ، وفي ثراء أساليب النَّظم؛ ممَّا جَعَلَها أكفأَ اللُّغات في حمل المعاني، وأقدرها على أدائها؛ فالقرآنُ عربيٌّ في ألفاظه، وفي تراكيب تلك الألفاظ، وفي أساليبه ومعانيه؛ فمعاني كتاب الله تعالى موافقةٌ لمعاني كلام العرب، كما أنَّ ألفاظَه موافقةٌ لألفاظها، ولهذا فلا يمكن لأحد أن يفهم كلامَ الله ورسوله إلَّا من هذه الجهة.
قال الشاطبيُّ- رحمه الله: «فعلى النَّاظر في الشَّريعة والمتكلِّم فيها أصولاً وفروعًا ... أن لا يتكلَّمَ في شيء من ذلك حتى يكون عربيًّا، أو كالعربيِّ في كونه عارفًا بلسان العرب ... فإن لم يبلغ ذلك فحسبُه في فهم معاني القرآن التَّقليدُ، ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به»( ).
وما زال السَّلفُ ومَن كان على هديهم يستدلُّون على معاني الكتاب والسُّنَّة بكلام العرب من شعر وغيره.
قال ابنُ تيمية- رحمه الله: «فمعرفةُ العربيَّة التي خوطبنا بها ممَّا يُعين على أن نفقه مرادَ الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإنَّ عامَّةَ ضلال أهل البدع كان بهذا السَّبب؛ فإنَّهم صاروا يحملون كلامَ الله ورسوله على ما يدَّعون أنَّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمرُ كذلك»( ).
ولذلك قال الحسنُ- رحمه الله: «أهلكتهم العجمةُ يتأوَّلونه على غير تأويله»( ).
وقال الإمامُ الشَّافعيُّ: «ما جهل النَّاس ولا اختلفوا إلَّا لتركهم لسانَ العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس»( )؛ فمَن أراد تفهُّمَ كتابَ الله فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيلَ إلى تطلُّب فهمه من غير هذه الجهة ( ).
وقال الإمام مالك- رحمه الله: «لا أُوتى برجل غير عالمٍ بلغة العرب يفسِّر كتاب الله إلا جعلتُه نكالاً»( ).
وروي عن مجاهد- رحمه الله- أنَّه قال: «لا يحلُّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب»( ).
وقال أبو عبيد: سمعتُ الأصمعيَّ يقول: سمعتُ الخليلَ بنَ أحمد يقول: سمعت أيوب السِّختيانيّ- رحمه الله- يقول: «عامَّةُ مَن تزندق بالعراق لقلَّة علمهم بالعربيَّة»( ).
فعدمُ المعرفة بلسان العرب تؤدِّي للخطأ في فهم مراد الله ورسوله ، ومن أمثلة ذلك:
قولُ مَن زعم أنَّه يجوز للرَّجل نكاحُ تسع من النساء؛ مستدلًّا بقوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء: 3]، وجمع أربع إلى ثلاث إلى اثنتين يساوي تسع.
قال القرطبيُّ- رحمه الله: «وهذا كلُّه جهلٌ باللِّسان ... فإنَّ اللهَ تعالى خاطب العربَ بأفصح اللُّغات، والعربُ لا تدع أن تقول تسعة، وتقول اثنين وثلاثة وأربعة.
وكذلك تَستقبح ممَّن يقول: أعط فلانًا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول ثمانية عشر»( ).
فالمرادُ بالآية التَّخييرُ بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمعَ لقال تسع، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقلّ بيانًا ( ).
وقولُ مَن زَعَمَ أنَّ المحرَّمَ من الخنزير إنَّما هو اللَّحم، وأمَّا الشَّحم فحلال؛ لأنَّ القرآن إنَّما حرَّم اللَّحمَ دونَ الشَّحم في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة: 3].
ولو عرف أنَّ اللَّحمَ يُطْلَقُ على الشَّحم أيضًا في لغة العرب؛ بخلاف الشَّحم؛ فإنَّه لا يُطْلَقُ على اللَّحم، لم يقل ما قال ( ).
وقولُ مَن زعم أنَّ معنى قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 87].
أي يفوتنا، ولو علم أنَّ معنى نقدر: نضيِّق، لم يخبط هذا الخبط.
واعتقاد بعضهم أنَّ قولَه تعالى: يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج: 27]- أنَّ المرادَ بالآية الرِّجال؛ ولذلك يكتبون هذه الآيةَ في التَّمائم للفتاة البكر ليأتيها الرَّجلُ ويتزوَّجها!! وإنَّما معنى الآية مشاة على أرجلهم.
قال الشَّاطبيُّ- رحمه الله- معلِّقًا على حال هؤلاء الذين يفسِّرون القرآنَ بغير علم: «تخرصهم على الكلام في القرآن والسُّنَّة العربيَّين مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشَّريعة بما فهموا، ويدينون به، ويخالفون الرَّاسخين في العلم؛ وإنَّما دخلوا ذلك من جهة تحسين الظَّنِّ بأنفسهم واعتقادهم أنَّهم من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك.
كما حكي عن بعضهم أنَّه سئل عن قول الله تعالى: رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران: 117]( ) فقال: هو هذا الصرصر»( ).
ثالثًا: الرُّجوعُ للقواعد والأصول التي وَضَعَها السَّلَفُ في فهم النُّصوص:
كان للسَّلف قواعدُ ومبادئُ يسيرون عليها في فهمهم للنُّصوص الشَّرعيَّة، وأوَّلُ مَن جَمَعَ هذه القواعد وبيَّنَها وشرحَها الإمامُ الشَّافعيُّ في كتابه [الرِّسالة] الذي كان نواةً لما أُلِّف بعده من كتب علم [أصول الفقه].
والتي تُعنَى بجمع القواعد التي تضبط استنباطَ الأحكام الشَّرعيَّة من نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ ولذلك يشنُّ أصحابُ بدعة [إعادة قراءة النَّصّ] حملةً شعواء على الإمام الشَّافعيِّ وكتابه الرِّسالة؛ يقول أركون عن الإمام الشَّافعيِّ وكتابه الرِّسالة: «قد ساهم في سجن العقل الإسلاميِّ داخلَ أسوار منهجيَّة معيَّنة»( ).
ويقولُ عن تحديد الإمام الشَّافعيِّ لمصادر التَّشريع الإسلاميِّ بأنَّها الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقياسُ: «هذه هي الحيلةُ الكبرى التي أتاحت شيوعَ ذلك الوهم الكبير بأنَّ الشَّريعةَ ذات أصل إلهيٍّ»( ).
وهو عند الجابريّ: «المشرِّع الأكبر للعقل العربيّ»؛ لأنَّه جعل: «النَّصّ هو السُّلطة المرجعيَّة الأساسيَّة للعقل العربيّ وفاعليَّاته»( ).
وأمَّا الشَّرفيُّ فيُصرِّحُ قائلاً: «من غير المقبول اليومَ أن نتمسَّكَ بمنهج الشَّافعيِّ الأصوليِّ؛ إذ فهمُ الكتاب والسُّنَّة على نحو فهم الشَّافعيّ وتأويلُه لا يؤدِّيان إلَّا إلى مأزق منهجيٍّ لا عهدَ للأسلاف به»( ).
ويطالبُ أصحابُ هذه المدرسة بوضع قواعد جديدة لأصول الفقه.
يقول الجابري: «إنَّما نريد أن يتَّجه تفكيرُ المجتهدين الرَّاغبين في التَّجديد حقًّا والشَّاعرين بضرورته فعلاً إلى القواعد الأصوليَّة نفسها، إلى إعادة بنائها بهدف الخروج بمنهجيَّة جديدة تواكب التَّطَوُّرَ الحاصلَ»( ).
ويقولُ كذلك مبرِّرًا دعوتَه إلى تغيير علم أصول الفقه: «ولا شيءَ يَمنع من اعتماد قواعد منهجيَّة أخرى إذا كان من شأنها أن تحقِّقَ الحكمةَ من التَّشريع في زمن معيَّن بطريقة أفضل»( ).
ويقولُ محمَّدٌ الشَّرَفيُّ: «وقواعدُ الفقه التي وَضَعَها الفقهاء ليست في حقيقتها ذات طبيعة دينيَّة؛ وإنَّما هي قواعدُ من وضع بشر، فكانت منافيةً للعدل والمساواة وحقوق الإنسان»( ).
والهدفُ من هذه الدَّعوة التَّفلُّت من القواعد والضَّوابط التي وضعها العلماء للاستنباط؛ حتَّى يتسنَّى لهم العبث بالنُّصوص الشَّرعيَّة كما شاؤوا.
وسنذكر باختصار بعضَ القواعد التي وضعها العلماء لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة، منها:
1- العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبَب.
هذه القاعدة نصَّ عليها عامَّةُ العلماء؛ فقد تقع حادثة فتنزل في شأنها آية، أو يرد بسببها حديث، ويكون لفظُهما عامًّا يشمل تلك الحادثةَ وغيرَها؛ فالواجبُ حينئذ العمل بعموم لفظ الآية أو الحديث، لا أن يُجعل الحكمُ خاصًّا بذلك السَّبب.
فالأمَّةُ مجمعةٌ على أنَّ آيات الحدود، والكفَّارات، والمواريث، والنكاح، والطلاق، وغيرها، عامَّةٌ لجميع الأمَّة، مع أن بعضَها نزل في أقوام معيَّنين.
وأصحابُ القراءة الجديدة يَرفضون هذه القاعدة رفضًا باتًّا، ويرون تخصيصَ الآيات والأحاديث بأسباب نزولها.
ونتيجة هذه القراءة التَّحَلُّلُ من الأحكام الشَّرعيَّة؛ لأنَّ القرآنَ نزل لأسباب معيَّنة، وقد انقضت تلك الأسباب وانتهت؛ وبالتَّالي سينتهي معها العملُ بالقرآن!!
يقول أحدُهم عن آيات الولاء والبراء: «لا مناصَ من الإقرار بصحَّة الشَّهادات القرآنيَّة المقدَّمة من قبَل أنصار عقيدة الولاء والبراء؛ لأنَّها نصوصٌ واضحةٌ فصيحةٌ لا تَحْتَمل تأويلاً؛ لكنَّها تحتملُ تفسيرًا ربَّما كان هو الأصدق ممَّا يقدِّمه أنصارُ الكراهية والدم.
إنَّ هذه الآيات لا يمكن بحال تعميمُ معناها في الزَّمان المطلَق، والمكان المطلق، بحجَّة قاعدة: «العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب»؛ فالآياتُ تحدِّثنا عن زمن بعينه، وظرف بعينه؛ فمنعاً لوصول أسرار الدَّولة النَّاشئة عبرَ حالة عاطفيَّة بين أخوين أو أيّ رحمين، فقد نهى القرآنُ عن موالاتهم نصًّا ولفظًا ومعنى واضحًا كلَّ الوضوح يربط الآيات بزمنها وظروفها ومكانها، وليس بعد ذلك أو قبلَه أبدًا».
ثم يقول: «يمكن القولُ بملء الفم: لا لقواعد الفقه البشريَّة؛ مثل قاعدة: العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، ولا لقاعدة: لا اجتهادَ مع النَّصِّ»( ).
ويقول الجابريُّ داعيًا إلى ربط الأحكام بأسباب نزولها كي تبدو الشَّريعة أكثرَ طواعيةً وأشدَّ مسايرةً لظروف العصر وأحواله المتغيِّرة: «وهذا بابٌ عظيمٌ واسعٌ، يفتح المجال لإضفاء المعقوليَّة على الأحكام بصورة تجعل الاجتهادَ في تطبيقها وتنويع التَّطبيق باختلاف الأحوال وتغيُّر الأوضاع أمرًا ميسورًا»( ).
ويضرب الجابريُّ لذلك مثالاً بربط عقوبة القطع في السَّرقة بأسباب نزولها؛ وهي: ما كان عليه العربُ قبل الإسلام وزمن البعثة النَّبويَّة من حيث إقامتهم في مجتمع بدويٍّ صحراويٍّ، واعتمادهم على التَّنَقُّل والتّرحال؛ طلبًا للكلأ.
فلم يكن من الممكن عقابُ السَّارق بالسّجن؛ إذ لا سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون؛ وأمَّا في وقتنا الحاضر- وقت التَّطُوُّر العمرانيّ والصِّناعيّ- فقطعُ يد السَّارق غيرُ ملائم لرَدْعه عن تكرار السَّرقة؛ بل الملائمُ هو السّجن بدل القطع.
قال الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله: «فانظروا إلى ما فعل بنا أعداؤنا المبشِّرون المستعمرون! لعبوا بديننا وضربوا علينا قوانين وثنيَّةً مجرمةً نسخوا بها حكمَ الله وحكمَ رسوله، ثمَّ ربَّوا فينا ناسًا ينتسبون إلينا، أشربوهم في قلوبهم بُغضَ هذا الحكم، ووضعوا على ألسنتهم كلمةَ الكفر: أنَّ هذا حكمٌ قاس لا يناسب هذا العصرَ الماجنَ، عصرَ المدنيَّة المتهتِّكة!
وجعلوا هذا الحكم موضعَ سخريتهم وتندُّرهم!
فكان عن هذا أن امتلأت السُّجون في بلادنا وحدها بمئات الألوف من اللُّصوص، بما وضعوا في القوانين من عقوبات للسَّرقة ليست برادعة، ولن تكون أبدًا رادعةً، ولن تكون أبدًا علاجًا لهذا الدَّاء المستشري.
ولقد جادلت منهم رجالاً كثيرًا من أساطينهم، فليس عندهم إلَّا أنَّ حكمَ القرآن في هذا لا يناسب هذا العصر!!
وأنَّ المجرمَ إن هو إلَّا مريضٌ يجب علاجه لا عقابه!!
ثم ينسون قولَ الله- سبحانه- في هذا الحكم بعينه: جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة: 38]؛ فالله- سبحانه- وهو خالق الخلق، وهو أعلم بهم، يجعل هذه العقوبة للتَّنكيل بالسَّارقين نصًّا قاطعًا صريحًا؛ فأين يذهب هؤلاء النَّاس؟!
ولو عقل هؤلاء النَّاس الذين يَنتسبون للإسلام لعلموا أنَّ بضعةَ أيدٍ من أيدي السَّارقين لو قُطعت كلَّ عام لنجت البلادُ من اللُّصوص، ولما وقع كلَّ عام إلَّا بضعُ سرقات؛ كالشَّيء النَّادر، ولخلت السُّجونُ من مئات الألوف التي تجعل السُّجونَ مدارسَ حقيقيَّةً للتَّفنُّن في الجرائم.
لو عقلوا لفعلوا؛ ولكنَّهم يصرُّون على باطلهم؛ ليرضى عنهم سادتُهم ومعلِّموهم! وهيهات!!»( ).
2- وجوبُ العمل بظواهر النُّصوص:
من القواعد التي قرَّرَها أهلُ العلم في فهم النُّصوص فهمًا صحيحًا: أنَّه يجب العملُ بما دلَّ عليه ظاهرُ النَّصِّ؛ ما لم يرد دليلٌ صحيحٌ يدلُّ على أنَّ هذا الظَّاهرَ غيرُ مراد.
قال الشَّافعيُّ- رحمه الله: «والقرآنُ على ظاهره حتى تأتي دلالةٌ منه، أو سنَّةٌ، أو إجماع، بأنَّه على باطن دونَ ظاهر»( ).
وقال: «ليس لأحد أن يُحيل منها ظاهرًا إلى باطن، ولا عامًّا إلى خاصٍّ إلَّا بدلالة من كتاب الله؛ فإن لم تكن فسنَّة رسول الله، أو إجماع من عامَّة العلماء ... ولو جاز في الحديث أن يُحالَ شيءٌ منه عن ظاهره إلى معنى باطن يحتمله، كان أكثرُ الحديث يَحتمل عددًا من المعاني، ولا يكون لأحد ذهب إلى معنى منها حجَّةٌ على أحد ذهب إلى معنى غيره، ولكنَّ الحقَّ فيها واحدٌ؛ لأنَّها على ظاهرها وعمومها، إلَّا بدلالة عن رسول الله، أو قول عامَّة أهل العلم بأنَّها على خاصٍّ دونَ عامٍّ، وباطن دون ظاهر»( ).
وشيخُ المفسِّرين الإمامُ القرطبيُّ- رحمه الله- في تفسيره كثيرًا ما يقرِّرُ هذا المعنى قائلاً: «وغيرُ جائز تركُ الظَّاهر المفهوم إلى باطن لا دلالةَ على صحَّته»( ).
فالواجبُ إبقاءُ نصوص الكتاب والسُّنَّة على ظاهرها وعمومها وإطلاقها؛ ليس لأحد أن يحيلَ فيها ظاهرًا إلى باطن، ولا عامًّا إلى خاصٍّ، ولا مطلَقًا إلى مقيَّد ( )، إلَّا بدليل من كتاب الله- تعالى- أو سنَّة الرَّسول  الصَّحيحة، أو إجماع العلماء.
وحملُ اللَّفظ على غير ظاهره هو الذي يسمَّى التَّأويل؛ ويَنقسم إلى قسمين:
الأوَّلُ: تأويلٌ صحيحٌ؛ وهو صرفُ اللَّفظ عن معناه الظَّاهر إلى معنى آخر يَحتمله اللَّفظُ؛ لوجود دليل يدلُّ على ذلك ( )؛ كقوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]؛ فظاهر الآية أنَّ القاتلَ مخلَّدٌ في نار جهنم.
وقد تواترت الأحاديثُ عن رسول الله  أنَّه يخرج من النَّار مَن كان في قلبه أدنى مثقال ذرَّة من إيمان، وعلى قبول توبة كلِّ تائب؛ ممَّا يَقتضي صرفَ لفظ الآية عن ظاهرها وتأويلها بطول البقاء في النَّار لا دوام الخلود؛ وهو معنى سائغٌ في لغة العرب ( ).
والثَّاني: تأويلٌ باطلٌ؛ وهو صرفُ اللَّفظ عن ظاهره إلى معنى آخر، من غير دليل صحيح يدلُّ على إرادة هذا المعنى؛ كتأويل الجنِّ بـ «الميكروب»، والطير الأبابيل بـ «البعوض»، وحجارة السِّجِّيل بـ «جرثومة الجدريّ»( ).
وتأويل قوله تعالى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر: 1-3] بأنَّ الفجرَ هو الانفجارُ الكونيُّ الأوَّل، واللَّيالي العشر تعني أنَّ المادةَ مرَّت بعشر مراحل للتَّطَوُّر حتى أصبحت شفَّافةً للضَّوء، وأن (الشَّفعَ والوَترَ) تعني الهيدروجين، وفيه الشَّفع في النَّواة، والوتر في المدار( ).
وأنَّ الظُّلمات الثَّلاث في قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ [الزمر: 6] هي المراحلُ الدَّاروينيَّة الثلاث التي مرَّت بها الحياةُ على سطح الأرض( ).
وهو من التَّلاعُب بالنُّصوص وتحريفها عن معانيها، ومن جنس الإلحاد في آيات الله؛ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [فصلت: 40].
قال ابنُ القَيِّم- رحمه الله: «فتأويلُ التَّحريف من جنس الإلحاد؛ فإنَّه هو الميلُ بالنُّصوص عمَّا هي عليه؛ إمَّا بالطَّعن فيها، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها»( ).
ولو قُدِّرَ أنَّ المتكلمَ أراد من المخاطَب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته من غير قرينة ولا دليل ولا بيان، لصادم هذا الفعلُ مقصودَ الإرشاد والهداية، ولكان تركُ الخطاب خيراً له وأقربَ إلى الهدى من تكليفه بصرف الكلام عن ظاهره بغير دليل وتعريضه لفتنة اعتقاد الباطل بالحَمل على الظَّاهر ( ).
3- ردُّ المتشابه من النُّصوص إلى المحكَم:
والمحكَم: ما لا يَحتمل من التَّفسير إلا وجهاً واحدًا.
والمتشابه: ما احتمل أَوجُهاً كثيرة ( ).
وقد أمر الله- عزَّ وجلَّ- بردِّ المتشابه إلى المحكَم فقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7].
قال ابنُ كثير- رحمه الله: «يخبر تعالى أنَّ في القرآن آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب؛ أي: بيِّنات واضحات الدِّلالة، لا التباسَ فيها على أحد من النَّاس.
ومنه آيات أُخر فيها اشتباه في الدِّلالة على كثير من النَّاس أو بعضهم؛ فمَن رَدَّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكَّمَ محكمَه على متشابهه عندَه، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس»( ).
وتركُ المحكم والاعتمادُ على المتشابه يؤدِّي للضَّلال؛ فقد رَدَّ الخوارجُ والمعتزلةُ النُّصوصَ المحكمةَ الصَّريحةَ في إثبات الشَّفاعة بما تشابه من قوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48].
وردَّ الجبريَّةُ النُّصوصَ المحكمةَ في إثبات مشيئة العبد وكونه قادرًا مختارًا بما تشابه عندهم من قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 30].
4- جمعُ النُّصوص الواردة في الباب الواحد:
فلا تتَّضح المسائلُ والأحكامُ حتَّى تستوفي جميع النُّصوص الواردة فيها؛ لأنَّها من مشكاة واحدة، ولا يمكن أن يرد بينها تناقضٌ ولا اختلافٌ؛ كما قال : «... إنَّ القرآنَ لم ينزل يكذِّبُ بعضُه بعضًا؛ بل يصدِّقُ بعضُه بعضًا؛ فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردُّوه إلى عالمه»( ).
فلا يجوز أن يؤخَذَ نصٌّ ويُتْركَ نصٌّ آخر؛ فهذا يؤدِّي إلى تقطيع النُّصوص وبَتْرها، وقد قال تعالى عن اليهود: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85].
وإنَّ كثيرًا من البدع والضَّلالات في القديم والحديث إنَّما ظهرت بسبب إهمال هذه القاعدة الجليلة؛ فبعضُ المبتدعة يأخذ نصًّا، ويترك نصوصًا أخرى قد تكون مخصِّصةً، أو مقيِّدةً، أو مبيِّنةً، أو ناسخةً، أو غير ذلك.
قال الشَّاطبيُّ- رحمه الله: «كثيرًا ما ترى الجهَّالَ يحتجُّون لأنفسهم بأدلَّة فاسدة، وبأدلة صحيحة؛ اقتصارًا على دليل ما، واطِّراحًا للنَّظر في غيره من الأدلَّة»( )؛ فالخوارجُ أخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، ففهموها على غير مرادها، فكفَّروا المسلمين واستباحوا دماءَهم وأموالَهم.
وأَخَذَ المرجئةُ بنصوص الوعد، وتركوا نصوصَ الوعيد، ففهموها على غير مرادها، وقالوا: لا يَضُرُّ مع الإيمان معصيةٌ، كما لا ينفع مع الكفر طاعةٌ.
والجمعُ بين النُّصوص يكون بردِّ العامِّ إلى الخاصِّ، والمطلَق إلى المقيَّد، والمجمَل إلى المبيَّن، والمتشابه إلى المحكَم، وهذه طريقة الرَّاسخين في العلم.

متروي
08-17-2010, 09:20 PM
مَن المؤهَّلُ لفهم النُّصوص الشَّرعيَّة؟
من الأمور التي لابدَّ من بيانها وتوضيحها أنَّ النُّصوصَ الشَّرعيَّةَ قسمان:
الأوَّلُ: نصوصٌ صريحةٌ واضحةُ الدِّلالة؛ وهي أغلبُ نصوص القرآن والسُّنَّة؛ فالقرآنُ معظمُه واضحٌ وبيِّنٌ وظاهرٌ لكلِّ الناس؛ كما قال ابنُ عبَّاس- رضي الله عنهما: التَّفسيرُ على أربعة أوجه:
- وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها.
- وتفسير لا يُعذَر أحدٌ بجهالته.
- وتفسير يعلمه العلماء.
- وتفسير لا يعلمه إلَّا الله، مَن انتحلَ منه علمًا فقد كَذَبَ ( ).
ففي القرآن قسمٌ يعرفُه كلُّ مَن قرأَه؛ إذ لا صعوبةَ في فهمه؛ فالحلال فيه واضح، والحرام واضح، وكذلك الحدود، وفرائض الدِّين، وما فيه من قَصص وعبر، وهذا الجانب من القرآن يشكِّلُ القسمَ الأكبرَ منه؛ فهو سهلٌ مفهومٌ.
فالقرآنُ آياتٌ بيِّناتٌ واضحاتٌ في الدِّلالة على الحقِّ؛ أمرًا ونهيًا وخبرًا( )؛ كما قال تعالى: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [العنكبوت: 49].
وقال تعالى: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [النساء: 28]؛ أي: جعلناه قرآنًا عربيًّا واضحَ الألفاظ سهلَ المعاني؛ خصوصًا على العرب ( ).
قال ابنُ القَيِّم- رحمه الله: «وكذلك عامَّةُ ألفاظ القرآن؛ نعلم قطعًا مرادَ الله ورسوله منها، كما نعلم قطعًا أنَّ الرَّسولَ بلَّغها عن الله؛ فغالبُ معاني القرآن معلومٌ أنَّها مرادُ الله خبرًا كانت أو طلبًا؛ بل العلمُ بمراد الله من كلامه أوضحُ وأظهرُ من العلم بمراد كلِّ متكلِّم من كلامه؛ لكمال علم المتكلِّم وكمال بيانه، وكمال هداه وإرشاده، وكمال تيسيره للقرآن؛ حفظًا وفهمًا، عملاً وتلاوةً»( ).
الثَّاني: نصوصٌ دقيقةُ الدِّلالة:
وهذه يقوم أهلُ العلم والاجتهاد بالنَّظَر فيها لاستنباط المسائل والأحكام واستخراجها منها، وللحيلولة دونَ حصول الفوضى وادِّعاء المدَّعين غير المؤهَّلين للاستنباط وَضَعَ العلماءُ ضوابط وشروطًا يجب توافُرُها فيمَن يتصدَّر للاجتهاد والاستنباط تؤهِّلُه للوقوف على الحكم حسب جهده الذي يبذله لذلك، وهذه الشُّروطُ والضَّوابطُ محصَّلةٌ من قواعد اللُّغة العربيَّة وما عرف من خطابات الشَّارع من أمر ونهي وخبر وغير ذلك.
وهذه النُّصوصُ غيرُ واضحة الدِّلالة، قد يختلف العلماء في فهم المراد منها؛ كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228]؛ فهل القرء هو الطُّهر من الحيض، أم هو الحيض؟
وهذا الاختلافُ في دائرة الاجتهاد الذي يدور صاحبُه بين الأجر والأجرين، وممَّا يلاحَظُ في بعض البرامج الحواريَّة عبرَ وسائل الإعلام المختلفة؛ من فضائيَّات، وإذاعات، وتلفاز، ومجلَّات وصحف، ما يَسْلُكُه بعضُهم حين يضيق عليه الخناق في النِّقاش من القول بأنَّ الدِّين ملكٌ للجميع؛ فليس لأحد أن يدَّعي حقَّ احتكار تفسيره وفرضه على النَّاس؛ لأنَّه لا يوجَد في الإسلام بابويَّة ولا كهنوتيَّة!
وهذه كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل؛ فالحقُّ: أنَّ الدِّينَ من حيث تطبيقه والعمل بأحكامه ليس خاصًّا بأحد؛ أمَّا الباطلُ: فهو إخضاعُ تفسير نصوصه لرغبة كلِّ إنسان وهواه؛ بحيث يُؤَوِّلُ نصوصَه بحسب التَّشَهِّي الذي يريده؛ لأنَّ هذا يجرُّ إلى تمزيق الأمَّة، وجعل النُّصوص ألعوبةً بيد غير المؤهَّلين؛ لاستنباط الأحكام منها.
وهذا ما حصل عند ظهور هذه الدَّعوة؛ ممَّا أدَّى إلى الاستخفاف بمجتهدي هذه الأمَّة من الصَّحابة ومن بعدهم، وإحلال الفوضى في القول والفتوى محلَّ الاجتهاد الحقِّ والدِّقَّة فيه.
وقد لاحظ تلك المشكلةَ الحافظُ ابنُ رجب- رحمه الله- واشتكى منها قائلاً: «يا لله العجب! لو ادَّعى معرفةَ صناعة من صنائع الدُّنيا، ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها، لكَذَّبوه في دعواه، ولم يأمنوه على أموالهم، ولم يمكِّنوه أن يَعملَ فيها ما يدَّعيه من تلك الصِّناعة؛ فكيف بمن يدَّعي معرفةَ أمر الرَّسول ، وما شوهد قطُّ يَكتب علمَ الرَّسول، ولا يُجالس أهلَه ولا يدارسه.
فلله العجب! كيف يقبل أهل العقل دعواه، ويحكِّمونه في أديانهم، يفسدها بدعواه الكاذبة؟!»( ).

إذا أحدٌ أتى في أيِّ علم
بفتوى أو برأي أو مقالَه

كَتَمْناه بأجوبة: تمهَّل!
فإنَّ لكلِّ معلوم رجالَه

سوى علم الشَّريعة مستباحٌ
لكلِّ النَّاس حتى ذي الجهالة

فكلُّ العلم محفوظ مصون
عداه لكل إنسان حلال