سامر الخطيب
08-18-2010, 08:59 AM
علاقة الفعل بالفاعل
ذات يوم استيقظ الفعل(1) من نومه باكراً، وشعر بطاقة تسري فيه، ترتب عليها تفعيل حاسة الأذن، فصار يسمع بها، وحاسة العين، فصار يبصر بها، وانتقل هذا الإحساس إلى دماغه ليقوم شيء مخفي فيه بقراءة هذه الإحساسات بصورة واعية، ويصدر الحكم عليها، قام الفعل بتكرار عملية السمع، وتقليب البصر في الأشياء، ووقف ساكناً يستمتع بما يجري في دماغه من عملية جمع هذه الإحساسات، وقيام قوة واعية بتحليلها وتركيبها، وربطها مع معلومات سابقة أو لاحقة، والحكم عليها.
وبدأ الفعل السير واكتشاف ما حوله من أشياء وصفات، وهو بحالة ذهول ومتعة في الوقت ذاته، إلى أن التقى مع مجموعة أفعال مثله، عرض لهم ما عرض له، والتقت العيون، وأحس كل واحد منهم باستقلال وجوده عن غيره، و شعروا بصفة الوعي والإدراك تحصل في نفوسهم، فاقتربوا من بعضهم مبتسمين، وتبادلوا التحيات والترحيب، وسأل أحدهم قائلاً: هل يوجد بينكم فاعل؟
فأجاب الجميع بالنفي، وقالوا: كلنا أفعال.
فقال فعل: من هو الفاعل إذاً؟
فرد عليه فعل ناقص قائلاً: لا يوجد فاعل أصلاً! هل تراه بيننا. وضحك ساخراً.
فنظر إليه فعل من الأفعال الخمسة بازدراء، وقال له: اصمت تباً لك من فعل ناقص كيف صرت فعلاً إذا لم يكن لك فاعل؟ ألا تعلم أن الفاعل سابق في وجوده عن الفعل، ولولا الفاعل لما وُجد الفعل.
فسكت الفعل الناقص خجلاً، وأرخى نظره إلى الأرض! واستمر الحوار بين الأفعال الخمسة.
قال الفعل الأول: تعالوا نبحث عن الفاعل؟
رد الفعل الثاني: وكيف ذلك؟
قال الثالث: لنجرب أن ننادي عليه؟
وطفقوا يصرخون: أين أنت أيها الفاعل!.حتى مزقوا حناجرهم وسكتوا بعد ذلك ينتظرون جواباً، ومضى وقت تلو آخر، ولم يسمعوا أي جواب لندائهم.
بدد الصمت َصوت الفعل الناقص: ألم أقل لكم أنه لا يوجد فاعل لنا!.
رد عليه الفعل الخامس قائلاً: إلى متى تحشر نفسك فيما لا تُحسن التفكير فيه؟
لماذا إذاً اتفقنا على ندائه ابتداء؟ أليس من منطلق وجوده ضرورة، وذلك كوننا أفعالاً تحتاج إلى فاعل وجوباً، فنحن ننادي من نثبت وجوده، وليس على سبيل التجربة أو البرهان لإثبات وجوده، وإنما للتعرف عليه، فينبغي أيها الفعل الناقص أن تنتبه إلى هذا الفرق بين مفهوم الإثبات، ومفهوم الكيف؟.
تدخل الفعل الرابع قائلاً: دعك منه، ولنتابع بحثنا عن الفاعل!.
قال الفعل الثالث: تعالوا نجرب السبر والتقسيم على ما نراه حولنا، عسى أن يكون أحدهم هو الفاعل!.
نظر الأفعال الخمسة إلى أنفسهم، وتبادلوا النظرات بينهم.
قال الفعل الأول: هل يوجد أحد منكم يتصف بصفة الفاعل؟
فرد الجميع بالنفي!
قال الفعل الثاني: هل قام أحدكم بفعل إيجاد السماء والأرض!؟
رد عليه الفعل الخامس قائلاً: عندما بدأ وعينا وإدراكنا شاهدنا السماء والأرض موجودة قبلنا، فنحن أفعال متأخرة عنهما في وجودنا، وبالتالي فنحن لم نوجد السماء والأرض.
قال الفعل الثالث: هل يحتمل أن يكون الفاعل هو السماء أو الأرض!؟
رد الفعل الرابع قائلاً: يستحيل ذلك، لأن هذه الأشياء هي أفعال أدنى منا صفة، وذلك لفقدان الوعي والإدراك عندها!.
ولم يتمالك الفعل الناقص نفسه، وتدخل في الحوار قائلاً: ألا يوجد احتمال أن نكون أوجدنا أنفسنا، ونصير نحن الفاعل والفعل في وقت واحد؟
نظر إليه الفعل الأول وقال: عجيب أمرك يا ناقص! متى تكف عن هرائك؟
كيف يمكن أن يكون الفعل فاعلاً لنفسه؟ إذ لو افترضنا ذلك الهراء لكانت النتيجة الهلاك والفناء للفعل والفاعل معاً، من حيث انقلاب الفاعل فعلاً، والفعل فاعلاً، انظر إلى فعل (قرأ) على سبيل المثال؟ هل يمكن أن يصير فعل (قرأ) هو الفاعل (القارئ) أو هل يمكن أن يصير الفاعل (القارئ) فعل (قرأ)؟ بمعنى آخر هل يمكن أن يندمج الفاعل بفعله حيث يصيران واحداً لهما صفتان متناقضتان (الفاعل والفعل) أو (القادر والمقدور)!.
قال الفعل الخامس: لماذا لا نستطيع أن نعرف الفاعل؟
رد الفعل الثالث: يا أخي هذا شيء طبيعي لأننا لسنا فاعلين، وإنما نحن أفعال، والأفعال لا تدرك فاعلها، ولا تدرك كل أفعاله، ولا تدرك مقاصده الذاتية من أفعاله.
قال الفعل الثاني: لذلك لا يصح أن يسأل الفعل فاعله ما هو مقصدك من إيجاد هذا الفعل؟ وإنما ينبغي أن يسأل عن ماهية وظيفة الفعل في الوجود.
قال الفعل الأول: هذه مسألة عظيمة ينبغي الانتباه إليها أثناء بحثنا وحوارنا!.
قال الفعل الناقص: اسمحوا لي بالسؤال عن النقطة الأخيرة؟ فأنا لم أفهمها!؟
رد عليه الفعل الخامس: وضعت الآن أولى قدميك على جادة الصواب! فالسؤال مفتاح العلم والبحث والدراسة، أما أسلوب التهكم والهراء والهرطقة فهو أسلوب يوصلك إلى الضلال والضياع والفشل، يا بني! قصد الفعل الثاني بقوله أن نفرق بين ما يتعلق بالفاعل من أمور، وما يتعلق بالفعل من أمور، فمسألة وجودنا نحن الأفعال لها وجهان:
الأول: يتعلق بالفاعل نفسه، وهذا أمر يستحيل على الفعل أن يدركه، بل لا يهمه أصلاً.
الثاني: يتعلق بالفعل نفسه، وهذا أمر يدركه الفعل من خلال إخبار الفاعل له، أو من تفاعل الفعل - إن كان له صفة الوعي- مع ذاته والواقع، فيصل إلى الوظيفة التي وُجِدَ من أجلها.
الفعل الرابع: لنتابع عملية الحوار والسبر والتقسيم.
الفعل الأول: من خلال ما وصلنا إليه من أفكار يظهر لنا مفهوم الغيب من وجهين:
أ - غيب يتعلق بصفات الفاعل وذاته.
ب- غيب يتعلق بأفعال الفاعل في الواقع.
الفعل الثاني: مفهوم الغيب الذي يتعلق بالفاعل يستحيل اختراقه ودراسته لأنه انتقال من مستوى الفعل الذي نعيش فيه ويحكمنا إلى مستوى الفاعل وصفاته، وهو لا يخضع لذات مواصفات الفعل أو معاييره، بينما يخضع مفهوم الغيب الذي يتعلق بالفعل لمعايير ومواصفات الفعل الذي نحن جزء منه، وبالتالي يخضع للدراسة ويمكن اختراقه، وما كان غيباً يصير في عالم الشهادة.
الفعل الثالث: إذاً؛ الفعل لا يمكن له أن يحيط علماً ومعرفة بكل أفعال الفاعل، وذلك لأنه جزء من الأفعال ذاتها!.
الفعل الناقص: إن الأمر يزداد غموضاً، كيف يستحيل على الفعل أن يدرك الفاعل، ومع ذلك يُصدق الفعل بوجود الفاعل ضرورة؟
الفعل الرابع: يا بُني! إن الفعل له وجود موضوعي مشاهد لا ينكره أحد، وهذا الفعل يستحيل وجوده دون فاعل سابق عنه في الوجود، ما يدل على أن وجود الفاعل أشد ثبوتاً من الفعل ذاته رغم غياب ذات الفاعل عن الإدراك أو التصور، وظهور الفعل؛ مع قصور صفات الفعل عن صفات الفاعل التي أدت إلى استحالة إدراك الفعل لصفات الفاعل.
الفعل الخامس: لذا؛ كان الغيب مفهوماً علمياً يفرضه مفهوم الشهادة.
الفعل الناقص: كيف يكون ذلك؟
الفعل الخامس: يا بني! ارتق بفكرك واستحضر الأفكار التي ذكرناها آنفاً؟ ألم نقل منذ قليل إن الفعل له وجود موضوعي مشاهد، وهذا الفعل يحتاج إلى فاعل، لأن الفعل لا بد له من فاعل ضرورة، والفاعل بالنسبة إلى الفعل هو غيب لا يخضع لذات مقاييس ومواصفات الفعل ذاته، ما يؤكد أن الغيب أساس لعالم الشهادة، وعالم الشهادة دليل على وجود الغيب، ومن هذا الوجه صار مفهوم الغيب مفهوماً علمياً نتعامل معه بثقة من خلال عالم الشهادة، والغيب أوسع من عالم الشهادة بالنسبة للفعل الذي هو جزء من عالم الشهادة.
الفعل الناقص: هل يمكن أن يكون الفاعل الذي قام بفعلنا أيضاً هو فعل لغيره؟
الفعل الثالث: إنك تُعيد صياغة الأسئلة بصورة جديدة، لقد ذكرنا لك سابقاً أنه يستحيل أن يجتمع أو يندمج الفاعل مع فعله حيث يصيران واحداً، لأن ذلك يترتب عليه الهلاك والفناء لكليهما، فما ينبغي أن يصير الفاعل فعلاً، ولا أن يصير الفعل فاعلاً.
انظر مثلاً لجملة: درس زيد الكتاب. فلا يمكن لفعل ( درس ) أن يصير ( زيداً )، ولا الفاعل ( زيد ) يمكن أن يصير فعل ( درس )، لابد من تغاير بين الفاعل وفعله، ولا بد أن يسبق الفاعل فعله في الوجود ضرورة، بل محور الوجود هو للفاعل وليس للفعل، ومفهوم وجود الفاعل كامن في داخل الفعل، فمجرد أن يتحرك الوعي والإدراك في الفعل، ويُدرك وجوده يكون قد أدرك وجود الفاعل ضرورة لازمة لوجوده!، انظر كيف يتعلق فعل ( درس )، والمفعول به ( الدرس) بزيد الفاعل، ولولا الفاعل لما ظهر الفعل ولا المفعول به!،وبالتالي يكون نفي الفاعل أو الشك بوجوده هو ضرب من الجنون المطبق!، ونفي للوعي والإدراك عند الفعل نفسه، وبالتالي لا يصلح للنقاش أو الحوار، والإنسان الذي يناقش مفهوم وجود الفاعل أو يُشكك به، هو إنسان غير صادق مع نفسه، ويحاول أن ينقل هذا المرض إلى غيره.
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }إبراهيم10
الفعل الناقص: لا أعتقد أنك أجبتني، فأنا أفترض استمرار وجود فعل دون فاعل قبله إلى ما لانهاية حيث يصير كل فعل هو فاعل لمن بعده، وفعل لمن قبله.
الفعل الأول: إنك بهذا الافتراض أسبغت الوجود على الفعل والمفعول به فقط، ونفيت الفاعل، وهذا الافتراض يناقض حقيقة احتياج الفعل لفاعل في عملية إيجاده، وهذه الفرضية معروفة باسم التسلسل، وهي باطلة في الواقع، لأنها لو كانت حقاً لما كان ينبغي أن يقوم عالم الشهادة والغيب ابتداء، لأن محور الوجود هو الفاعل، ففرضية التسلسل يترتب عليها الهلاك والفناء للفعل والمفعول به بالمستوى ذاته إذا تم الدمج بينهما مع نفي الفاعل الأول، ويقتصر الوجود على فعل (درس)، والمفعول به (الكتاب) مع نفي الفاعل (زيد)، وذلك بصورة لانهاية لها، وهذا عبث وباطل عقلاً وواقعاً، وهذه تخيلات محلها الذهن فقط لا تصلح للدراسة أو النقاش، والخوض فيها هو خوض في بحر من الهراء والوهم، وهو أشبه بقول أحدهم لآخر يريد أن يناقشه: تعال نفترض أننا لا نملك عقلاً ونتناقش؟! و لك أن تتصور طبيعة النقاش لو رضي الطرف الثاني بهذا الهراء والجنون.
الفعل الناقص: ماذا تقولون لمن يدَّعي أنه يملك برهان نفي على كل برهان إثبات للفاعل، فتصير ـ من حيث النتيجة ـ مسألتا نفي الفاعل وإثباته متساويتين، وتنتفي عنهما صفة العلمية ويصير القَبول والرفض مسألة شخصية وجدانية؟
الفعل الرابع: إن هذا الكلام هراء وهرطقة، متى كان النفي يحتاج إلى برهان؟ فمن يحاول أن ينفي شيئاً فهو يصدق بوجوده مسبقاً في نفسه، وإلا لما احتاج إلى نفيه، فمن المعلوم أن الإثبات يحتاج إلى برهان، ولذلك يُقال: إن كنت مُدَّعياً فالبينة، بينما النفي هو أمر تحصيل حاصل في الواقع لا يحتاج إلى برهان. انظر مثلاً لمسألة وجود كائنات فضائية عاقلة خارج الأرض، لا نطلب من الذي ينفيها أن يأتي ببرهان على ذلك، وإنما نطلب البرهان ممن يُثبتها، وإذا لم يثبتها بالبرهان، تخضع لمعيار المستحيل والممكن، فإن كانت من الممكنات، يقف العلم منها بصورة حيادية لا ينفيها ولا يثبتها،ويترك ذلك للدراسة تمهيدا للحسم مع الزمن، وبرهان إثبات وجود أمر، هو ذاته برهان على نفي النفي، وبالتالي لا يصح البحث عن برهان لنفي برهان الإثبات،فهذا عمل اعتباطي، ونتيجته الفشل سلفاً لبطلان عمله ابتداءً.
انظر مثلاً: للطارق الذي يقوم بالطرق على الباب. ففعل الطرق برهان على وجود الطارق ضرورة، وهذا البرهان في إثبات الفاعل، هو في ذات الوقت برهان على نفي نفي وجود الطارق، ومن هذا الوجه يقولون: نفي النفي إثبات.
فكل برهان إثبات يتضمن في بنيته نفي النفي، فكيف يمكن أن تأتي ببرهان لنفي الإثبات؟ بمعنى آخر، كيف يمكن أن تنفي وجود الطارق(الفاعل) مع استمرار الطرق(الفعل)!؟ فهذا هراء لا قيمة له أبداً.
والتصديق غير الإتباع، فالتصديق يفرض ذاته على العقل نتيجة البرهان، فهو موقف علمي لا يستطيع العقل نفيه في قرارة نفسه، بينما الإتباع أمر شخصي يتعلق بالإرادة والحرية، ومن هذا الوجه كان الإيمان متعلقاً بالحرية، والإيمان هو تصديق زائد إتباع، ومجرد التصديق وحده لا يُسمى إيماناً قط.
لذا؛ كانت الحرية للإيمان؛ لا للتصديق والإثبات؛ لأن التصديق أمر متعلق بالعقل، والعقل لا يملك القدرة على نفي تصديق الأمر الثابت؛ مثل مفهوم واحد زائد واحد يساوي اثنين، ولكن يملك الإنسان بإرادته أن يكفر أو يُكَذِّبَ ذلك الحكم العقلي بسلوكه القولي أو الفعلي، ومن هذا الوجه صحت المقولة التي تقول:التصديق بوجود الله موقف عقلي فطري لازم، والإيمان به موقف أخلاقي. وبالتالي فالمفهومين لا يخضعان لعملية البرهنة عليهما، وكلاهما موقف شخصي لا يتناولهما العلم دراسة.
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29
الفعل الناقص: هل يمكن أن يتعدّد وجود الفاعلين؟
الفعل الثاني: إن سؤالك في حد ذاته يتضمن تصديق بوجود الفاعل الأول ضرورة، ولكن تشك في وجود الآخر سواء أكان واحداً أم مجموعة!، فعليك بما هو ثابت، وأعرض عن أوهامك الذهنية لأنها افتراضات غير حقيقية، ومن نسج خيالك تحاول أن تثبتها أو تنفيها، وهذا ليس موقفاً علمياً، وأنت مُطالب بالبرهان على التعددية لمقام الإلوهية، لأن البَيِّنة على المدَّعي، وبينما تأت بالبرهان التزم بتوحيد الله، ومع ذلك؛ إنّ تعدد الفاعلين أمر مرتبط بتعدد الفعل، فإن كانت الأفعال متعددة فلاشك أن الفاعلين متعددون بعدد الأفعال.
الفعل الناقص: إن الأفعال في الواقع متعددة كما ترون، مما يؤكد تعدد الفاعلين.
الفعل الأول: يا لك من سطحي الفهم، متسرع الحكم. لقد قصد بقوله تعدد الأفعال، تعدد النظام الذي يحكم الفعل، وليس تعدد صور الفعل، فالفعل بصوره الكثيرة محكوم بنظام واحد من الذرة إلى المجرة، وهذا برهان على أحدية الفاعل.
الفعل الناقص: ألا يحتمل أن يكون هناك وجود آخر، ونظام آخر له فاعل غير فاعلنا؟
الفعل الخامس: إنك تناقش الآن أوهاماً في ذهنك، بينما نناقش وجوداً موضوعياً مشاهداً ونحن جزء منه، وفي هذا الوجود الموضوعي لا يوجد إلا نظام واحد يدل على أحدية الفاعل بالنسبة لنظامنا ووجودنا، أما افتراض وجود عالم آخر ونظام آخر، وبالتالي فاعل آخر، فهذه أوهام لا تخضع للنقاش، أو الدراسة أبداً، فالدراسة مرتبطة بعالم الشهادة للوصول إلى عالم الغيب.
الفعل الثاني: عود على بدء. هل يحتاج الفاعل إلى قيامه بالفعل، بمعنى آخر، هل يصدر الفعل من الفاعل ضرورة أو اختياراً؟
الفعل الثالث: إن ذلك متعلق بصفة الفاعل من كونه فاعلاً ذاتاً أم فاعلاً اكتساباً، بمعنى أن الفاعل الذي تتوقف حياته على فعله، فهو يصدر منه ضرورة لاستمرار حياته مثل فعل الطعام والشراب بالنسبة للإنسان، ويصير الإنسان فاعلاً اكتساباً، وليس ذاتاً.
أما إذا كان الفعل يصدر من الفاعل مع استغناء الفاعل عنه في استمرار حياته، ووجوده، فهو لا شك يصدر اختياراً، وإرادة، وليس ضرورة، ويكون فاعلاً ذاتاً، لا اكتساباً.
الفعل الناقص: لماذا يُسمّى فاعلاً إذا لم يكن له فعل في الواقع.
الفعل الرابع: إن تسمية الفاعل ظهرت لحظة قيامه بالفعل، وقبل حدوث الفعل لا وجود لكلمة الفاعل، وإنما الوجود لمقومات صفة الفاعل التي هي الحياة،والإرادة والقدرة، والقيومية والصمدية، والعلم والحكمة، وما شابه ذلك من صفات ذاتية، وعندما قام بالفعل ظهرت صفات فعلية له مثل الخالق، والرازق، والمحي، والمميت...الخ.
الفعل الخامس: وصلنا الآن إلى أن وجود الفاعل الأول لا يُبرهن على وجوده، وذلك لأنه أكبر حقيقة، وهو برهان على الوجود، ومفهوم وجوده قائم في أنفسنا بداهة وفطرة،وأفعاله أدلة على صفاته، وهو ليس كمثله شيء، ولا يخضع لمقاييسنا أو مواصفاتنا، ويصدر منه الفعل اختياراً لا ضرورة، و مسألة وجوده أشد وأحق إثباتاً من وجودنا نحن، لأن الفعل لابد له من فاعل وجوباً، والفاعل سابق في الوجود عن فعله ضرورة، والوجود الموضوعي يحكمه نظام واحد من الذرة إلى المجرة، ما يؤكد على أحدية الفاعل الأول، ووصلنا أيضاً إلى أن الفعل لايدرك فاعلَه، ولا يدرك مقاصده، بل ولا يدرك كل أفعاله، لأن الفعل يعيش في عالم الشهادة، ويتعامل مع عالم الغيب بناء عليه، ومفهوم الغيب هو مفهوم علمي، وديني لابد منه، فنحن نعيش في عالم لا مرئي، وما نراه أقل من القليل.
لذا؛ ينبغي على الفعل أن يلزم حدّه، ويعرف قَدر نفسه فلا يطلب المحال، ولا يُنصب نفسه حكماً على فاعله يريد أن يعرف كل شيء عنه، وعن مقاصد أفعاله، وينبغي أن يدرك الفعل عجزه، لأن العجز عن الإدراك إدراك، وهذا الإدراك من مقومات الإيمان بالفاعل الأول، ومن الخطأ استخدام هذا العجز لإضعاف الإيمان بالفاعل الأول، وإن حصل ذلك يكون الإنسان قد وقع بالهراء والسفسطة، ويكون مثله مثل من عجز عن معرفة من يقوم بالطرق على الباب، فقال: لا يوجد طارق أصلاً!.وهذا يلزمه إعادة الدراسة مرة ثانية، وتحديث طريقة تفكيره.
الفعل الناقص:ما تقولون بمن يرفض هذه الطريقة في إثبات الفاعل الأول، ويطالب بدراسة الأمر من خلال ما يحدث من كوارث ومصائب وظلم وطغيان على أرض الواقع، ويتساءل أين الفاعل الأول العادل الحكيم من ذلك؟ ولماذا لا يتدخل بنفسه ويضع حداً للظلم والبؤس الإنساني؟ ويصل من خلال ذلك إلى نفي وجود الفاعل أصلاً، ويضرب على ذلك مثلاً الإنسان الذي يطرق باباً ولا يُفتح له.فيصل إلى قناعة أنه لا يوجد أحد خلف هذا الباب.
الفعل الرابع:إن الجواب على ما ذكرت ورد فيما سبق من الحوار، ولكنك لم تنتبه إلى ربط الأفكار مع بعضها كعادة من في قلوبهم زيغ، لا يسمعون إلاّ صوتهم.
ومع ذلك سوف أختصر لك الجواب:
أيها الفعل الناقص اعلم! أن البرهان لا يخضع للتصويت وهوى الآخر في أن يقبله أو يرفضه، البرهان حيادي، ويفرض ذاته بذاته على الفكرة، انظر إلى برهان وجود فاعل الطرق على الباب من حيث وقوع الحواس أو أحدها على أثر الفاعل( الطرق) مما يؤدي عند السامع العاقل ضرورة إلى وجود الفاعل الطارق، ويصل إلى ذلك بنفسه دون أن يجبره أحد على البرهان، فتخيل لو أن هذا السامع للطرق قال:لا أقبل بهذا البرهان الذي حصل في نفسي على وجود الفاعل، وأريد منكم أن تُثبتوا لي الفاعل من غير هذا الوجه؟ فسوف يكون جواب السامعين الآخرين قم انظر بنفسك للفاعل إن كان يمكن رؤيته، وانتفاء إمكانية رؤيته ليس برهاناً على نفي وجوده، لأننا نصدق بكثير من الأمور دون رؤيتها،ونتعامل بثقة معها وبصورة علمية دون أن يخطر في أذهاننا أي شك في وجودها.وإن استمر في رفض البرهان الثابت في نفسه، فهذا ينم عن مشكلة خاصة به، تؤكد أنه يعاني من مرض في تفكيره نتيجة معاناة نفسية يعيشها في أعماقه، وهو في ذلك بين أمرين: إما أن يكون خبيث النية يعلم الحق وينكره، أو ساذجاً تنقصه إمكانات الرؤية الفكرية الحاسمة.
أما مسألة نفي وجود الفاعل لعدم معرفة مقاصد أفعاله، أو ما ينتج عنها من مصائب، فهذا موقف طفولي في التعامل مع الأحداث!، انظر كيف يتعامل المجتمع مع الجنايات والجرائم التي تحدث في الواقع، يبحث عن فاعلها ليعاقبه، ولا يخطر في ذهنه نفي الفاعل لها، فمسألة صلاح الأعمال، أو فسادها لا علاقة لها بثبوت الفاعل أو نفيه، لأن المسألة متعلقة بالحكم على الفعل، وليس على وجود الفاعل.
ومسألة وجود الفاعل الأول ثابتة فطرة وبداهة، والوجود كله يدل عليه، ووجوده يقتضي حكماً ثبوت صفات العدل والحكمة والقدرة والإرادة المطلقة كضرورات لازمة لألوهيته، ونفي معرفة مقاصد أفعاله لا يصح عقلاً وعلماً أن ينفي وجوده، لأن المسألتين منفصلتان عن بعضهما تماماً، ومن الطبيعي ألا يُحيط الفعل ( الإنسان) بمقاصد الفاعل الأول(الخالق المدبر)، كما أن الفاعل غير ملزم بتفسير مقاصد أفعاله للفعل، لأنه فاعل بإرادة كاملة وعلم مطلق{ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107، ونفي وجود الفاعل لا يؤثر على الفاعل نفسه، وإنما يؤثر على الفعل ذاته ونمط حياته وسلوكه، إذ سوف يُصاب بالاضطراب والقلق نتيجة قطع صلته مع فاعله.
فنظام الوجود يضعه الفاعل، والفعل يخضع له طوعاً أو كرهاً، ولا قيمة لاعتراضه على النظام، فنظام الحياة والموت يقوم على قانون الثنائية والزوجية في الأمور(حق/باطل، عدل/ظلم، خير/ شر) والفعل-الإنسان- جزء من هذا النظام ليس له إرادة في تغيير النظام أو تعديله أو الاعتراض عليه، ومهمته أن ينسجم مع النظام ويسير وفقه، وينفذ ما يطلب الفاعل منه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } (الملك2)، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان، ومادة الامتحان هي مهمة الخلافة في الأرض بالحق والخير والعدل والمحبة وعمرانها، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }البقرة30 ، والتدخل الإلهي المباشر في منع الظلم أو الشر نقض وإبطال لأصل الامتحان والابتلاء للإنسان، بل إنقاص من قيمة الإنسان وفضله، وتقليل من شأنه، وإلغاء مقام خلافته وتقييد حريته، فالوضع الراهن على ما هو عليه من صراع بين الحق والباطل هو منتهى التكريم للإنسان كجنس وأعلى درجات تفضيله على سائر المخلوقات.
وغير ذلك يُعد ترويجاً لفلسفة قدرية جبرية جديدة، تدمغ الإنسان بهوان العجز أمام قدر لا يرحم، فيمتنع عن الاختيار بحجة الإجبار.
أما استخدام عدم فتح باب البيت المطروق، كدليل على نفي وجود أحد داخله، فهذا باطل في الواقع المشاهد، فكثيراً ما نطرق باب أحدهم ولا يفتح لنا، ونعلم بعد ذلك أنه كان في البيت، فالمثل ساقط كبرهان لنفي الفاعل، لاسيما أن الفاعل لا يخضع لإرادتنا، أو رغباتنا، أو هوانا!.
الفعل الناقص: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18. العقل نعمة من الله والحرية كرامة
ذات يوم استيقظ الفعل(1) من نومه باكراً، وشعر بطاقة تسري فيه، ترتب عليها تفعيل حاسة الأذن، فصار يسمع بها، وحاسة العين، فصار يبصر بها، وانتقل هذا الإحساس إلى دماغه ليقوم شيء مخفي فيه بقراءة هذه الإحساسات بصورة واعية، ويصدر الحكم عليها، قام الفعل بتكرار عملية السمع، وتقليب البصر في الأشياء، ووقف ساكناً يستمتع بما يجري في دماغه من عملية جمع هذه الإحساسات، وقيام قوة واعية بتحليلها وتركيبها، وربطها مع معلومات سابقة أو لاحقة، والحكم عليها.
وبدأ الفعل السير واكتشاف ما حوله من أشياء وصفات، وهو بحالة ذهول ومتعة في الوقت ذاته، إلى أن التقى مع مجموعة أفعال مثله، عرض لهم ما عرض له، والتقت العيون، وأحس كل واحد منهم باستقلال وجوده عن غيره، و شعروا بصفة الوعي والإدراك تحصل في نفوسهم، فاقتربوا من بعضهم مبتسمين، وتبادلوا التحيات والترحيب، وسأل أحدهم قائلاً: هل يوجد بينكم فاعل؟
فأجاب الجميع بالنفي، وقالوا: كلنا أفعال.
فقال فعل: من هو الفاعل إذاً؟
فرد عليه فعل ناقص قائلاً: لا يوجد فاعل أصلاً! هل تراه بيننا. وضحك ساخراً.
فنظر إليه فعل من الأفعال الخمسة بازدراء، وقال له: اصمت تباً لك من فعل ناقص كيف صرت فعلاً إذا لم يكن لك فاعل؟ ألا تعلم أن الفاعل سابق في وجوده عن الفعل، ولولا الفاعل لما وُجد الفعل.
فسكت الفعل الناقص خجلاً، وأرخى نظره إلى الأرض! واستمر الحوار بين الأفعال الخمسة.
قال الفعل الأول: تعالوا نبحث عن الفاعل؟
رد الفعل الثاني: وكيف ذلك؟
قال الثالث: لنجرب أن ننادي عليه؟
وطفقوا يصرخون: أين أنت أيها الفاعل!.حتى مزقوا حناجرهم وسكتوا بعد ذلك ينتظرون جواباً، ومضى وقت تلو آخر، ولم يسمعوا أي جواب لندائهم.
بدد الصمت َصوت الفعل الناقص: ألم أقل لكم أنه لا يوجد فاعل لنا!.
رد عليه الفعل الخامس قائلاً: إلى متى تحشر نفسك فيما لا تُحسن التفكير فيه؟
لماذا إذاً اتفقنا على ندائه ابتداء؟ أليس من منطلق وجوده ضرورة، وذلك كوننا أفعالاً تحتاج إلى فاعل وجوباً، فنحن ننادي من نثبت وجوده، وليس على سبيل التجربة أو البرهان لإثبات وجوده، وإنما للتعرف عليه، فينبغي أيها الفعل الناقص أن تنتبه إلى هذا الفرق بين مفهوم الإثبات، ومفهوم الكيف؟.
تدخل الفعل الرابع قائلاً: دعك منه، ولنتابع بحثنا عن الفاعل!.
قال الفعل الثالث: تعالوا نجرب السبر والتقسيم على ما نراه حولنا، عسى أن يكون أحدهم هو الفاعل!.
نظر الأفعال الخمسة إلى أنفسهم، وتبادلوا النظرات بينهم.
قال الفعل الأول: هل يوجد أحد منكم يتصف بصفة الفاعل؟
فرد الجميع بالنفي!
قال الفعل الثاني: هل قام أحدكم بفعل إيجاد السماء والأرض!؟
رد عليه الفعل الخامس قائلاً: عندما بدأ وعينا وإدراكنا شاهدنا السماء والأرض موجودة قبلنا، فنحن أفعال متأخرة عنهما في وجودنا، وبالتالي فنحن لم نوجد السماء والأرض.
قال الفعل الثالث: هل يحتمل أن يكون الفاعل هو السماء أو الأرض!؟
رد الفعل الرابع قائلاً: يستحيل ذلك، لأن هذه الأشياء هي أفعال أدنى منا صفة، وذلك لفقدان الوعي والإدراك عندها!.
ولم يتمالك الفعل الناقص نفسه، وتدخل في الحوار قائلاً: ألا يوجد احتمال أن نكون أوجدنا أنفسنا، ونصير نحن الفاعل والفعل في وقت واحد؟
نظر إليه الفعل الأول وقال: عجيب أمرك يا ناقص! متى تكف عن هرائك؟
كيف يمكن أن يكون الفعل فاعلاً لنفسه؟ إذ لو افترضنا ذلك الهراء لكانت النتيجة الهلاك والفناء للفعل والفاعل معاً، من حيث انقلاب الفاعل فعلاً، والفعل فاعلاً، انظر إلى فعل (قرأ) على سبيل المثال؟ هل يمكن أن يصير فعل (قرأ) هو الفاعل (القارئ) أو هل يمكن أن يصير الفاعل (القارئ) فعل (قرأ)؟ بمعنى آخر هل يمكن أن يندمج الفاعل بفعله حيث يصيران واحداً لهما صفتان متناقضتان (الفاعل والفعل) أو (القادر والمقدور)!.
قال الفعل الخامس: لماذا لا نستطيع أن نعرف الفاعل؟
رد الفعل الثالث: يا أخي هذا شيء طبيعي لأننا لسنا فاعلين، وإنما نحن أفعال، والأفعال لا تدرك فاعلها، ولا تدرك كل أفعاله، ولا تدرك مقاصده الذاتية من أفعاله.
قال الفعل الثاني: لذلك لا يصح أن يسأل الفعل فاعله ما هو مقصدك من إيجاد هذا الفعل؟ وإنما ينبغي أن يسأل عن ماهية وظيفة الفعل في الوجود.
قال الفعل الأول: هذه مسألة عظيمة ينبغي الانتباه إليها أثناء بحثنا وحوارنا!.
قال الفعل الناقص: اسمحوا لي بالسؤال عن النقطة الأخيرة؟ فأنا لم أفهمها!؟
رد عليه الفعل الخامس: وضعت الآن أولى قدميك على جادة الصواب! فالسؤال مفتاح العلم والبحث والدراسة، أما أسلوب التهكم والهراء والهرطقة فهو أسلوب يوصلك إلى الضلال والضياع والفشل، يا بني! قصد الفعل الثاني بقوله أن نفرق بين ما يتعلق بالفاعل من أمور، وما يتعلق بالفعل من أمور، فمسألة وجودنا نحن الأفعال لها وجهان:
الأول: يتعلق بالفاعل نفسه، وهذا أمر يستحيل على الفعل أن يدركه، بل لا يهمه أصلاً.
الثاني: يتعلق بالفعل نفسه، وهذا أمر يدركه الفعل من خلال إخبار الفاعل له، أو من تفاعل الفعل - إن كان له صفة الوعي- مع ذاته والواقع، فيصل إلى الوظيفة التي وُجِدَ من أجلها.
الفعل الرابع: لنتابع عملية الحوار والسبر والتقسيم.
الفعل الأول: من خلال ما وصلنا إليه من أفكار يظهر لنا مفهوم الغيب من وجهين:
أ - غيب يتعلق بصفات الفاعل وذاته.
ب- غيب يتعلق بأفعال الفاعل في الواقع.
الفعل الثاني: مفهوم الغيب الذي يتعلق بالفاعل يستحيل اختراقه ودراسته لأنه انتقال من مستوى الفعل الذي نعيش فيه ويحكمنا إلى مستوى الفاعل وصفاته، وهو لا يخضع لذات مواصفات الفعل أو معاييره، بينما يخضع مفهوم الغيب الذي يتعلق بالفعل لمعايير ومواصفات الفعل الذي نحن جزء منه، وبالتالي يخضع للدراسة ويمكن اختراقه، وما كان غيباً يصير في عالم الشهادة.
الفعل الثالث: إذاً؛ الفعل لا يمكن له أن يحيط علماً ومعرفة بكل أفعال الفاعل، وذلك لأنه جزء من الأفعال ذاتها!.
الفعل الناقص: إن الأمر يزداد غموضاً، كيف يستحيل على الفعل أن يدرك الفاعل، ومع ذلك يُصدق الفعل بوجود الفاعل ضرورة؟
الفعل الرابع: يا بُني! إن الفعل له وجود موضوعي مشاهد لا ينكره أحد، وهذا الفعل يستحيل وجوده دون فاعل سابق عنه في الوجود، ما يدل على أن وجود الفاعل أشد ثبوتاً من الفعل ذاته رغم غياب ذات الفاعل عن الإدراك أو التصور، وظهور الفعل؛ مع قصور صفات الفعل عن صفات الفاعل التي أدت إلى استحالة إدراك الفعل لصفات الفاعل.
الفعل الخامس: لذا؛ كان الغيب مفهوماً علمياً يفرضه مفهوم الشهادة.
الفعل الناقص: كيف يكون ذلك؟
الفعل الخامس: يا بني! ارتق بفكرك واستحضر الأفكار التي ذكرناها آنفاً؟ ألم نقل منذ قليل إن الفعل له وجود موضوعي مشاهد، وهذا الفعل يحتاج إلى فاعل، لأن الفعل لا بد له من فاعل ضرورة، والفاعل بالنسبة إلى الفعل هو غيب لا يخضع لذات مقاييس ومواصفات الفعل ذاته، ما يؤكد أن الغيب أساس لعالم الشهادة، وعالم الشهادة دليل على وجود الغيب، ومن هذا الوجه صار مفهوم الغيب مفهوماً علمياً نتعامل معه بثقة من خلال عالم الشهادة، والغيب أوسع من عالم الشهادة بالنسبة للفعل الذي هو جزء من عالم الشهادة.
الفعل الناقص: هل يمكن أن يكون الفاعل الذي قام بفعلنا أيضاً هو فعل لغيره؟
الفعل الثالث: إنك تُعيد صياغة الأسئلة بصورة جديدة، لقد ذكرنا لك سابقاً أنه يستحيل أن يجتمع أو يندمج الفاعل مع فعله حيث يصيران واحداً، لأن ذلك يترتب عليه الهلاك والفناء لكليهما، فما ينبغي أن يصير الفاعل فعلاً، ولا أن يصير الفعل فاعلاً.
انظر مثلاً لجملة: درس زيد الكتاب. فلا يمكن لفعل ( درس ) أن يصير ( زيداً )، ولا الفاعل ( زيد ) يمكن أن يصير فعل ( درس )، لابد من تغاير بين الفاعل وفعله، ولا بد أن يسبق الفاعل فعله في الوجود ضرورة، بل محور الوجود هو للفاعل وليس للفعل، ومفهوم وجود الفاعل كامن في داخل الفعل، فمجرد أن يتحرك الوعي والإدراك في الفعل، ويُدرك وجوده يكون قد أدرك وجود الفاعل ضرورة لازمة لوجوده!، انظر كيف يتعلق فعل ( درس )، والمفعول به ( الدرس) بزيد الفاعل، ولولا الفاعل لما ظهر الفعل ولا المفعول به!،وبالتالي يكون نفي الفاعل أو الشك بوجوده هو ضرب من الجنون المطبق!، ونفي للوعي والإدراك عند الفعل نفسه، وبالتالي لا يصلح للنقاش أو الحوار، والإنسان الذي يناقش مفهوم وجود الفاعل أو يُشكك به، هو إنسان غير صادق مع نفسه، ويحاول أن ينقل هذا المرض إلى غيره.
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }إبراهيم10
الفعل الناقص: لا أعتقد أنك أجبتني، فأنا أفترض استمرار وجود فعل دون فاعل قبله إلى ما لانهاية حيث يصير كل فعل هو فاعل لمن بعده، وفعل لمن قبله.
الفعل الأول: إنك بهذا الافتراض أسبغت الوجود على الفعل والمفعول به فقط، ونفيت الفاعل، وهذا الافتراض يناقض حقيقة احتياج الفعل لفاعل في عملية إيجاده، وهذه الفرضية معروفة باسم التسلسل، وهي باطلة في الواقع، لأنها لو كانت حقاً لما كان ينبغي أن يقوم عالم الشهادة والغيب ابتداء، لأن محور الوجود هو الفاعل، ففرضية التسلسل يترتب عليها الهلاك والفناء للفعل والمفعول به بالمستوى ذاته إذا تم الدمج بينهما مع نفي الفاعل الأول، ويقتصر الوجود على فعل (درس)، والمفعول به (الكتاب) مع نفي الفاعل (زيد)، وذلك بصورة لانهاية لها، وهذا عبث وباطل عقلاً وواقعاً، وهذه تخيلات محلها الذهن فقط لا تصلح للدراسة أو النقاش، والخوض فيها هو خوض في بحر من الهراء والوهم، وهو أشبه بقول أحدهم لآخر يريد أن يناقشه: تعال نفترض أننا لا نملك عقلاً ونتناقش؟! و لك أن تتصور طبيعة النقاش لو رضي الطرف الثاني بهذا الهراء والجنون.
الفعل الناقص: ماذا تقولون لمن يدَّعي أنه يملك برهان نفي على كل برهان إثبات للفاعل، فتصير ـ من حيث النتيجة ـ مسألتا نفي الفاعل وإثباته متساويتين، وتنتفي عنهما صفة العلمية ويصير القَبول والرفض مسألة شخصية وجدانية؟
الفعل الرابع: إن هذا الكلام هراء وهرطقة، متى كان النفي يحتاج إلى برهان؟ فمن يحاول أن ينفي شيئاً فهو يصدق بوجوده مسبقاً في نفسه، وإلا لما احتاج إلى نفيه، فمن المعلوم أن الإثبات يحتاج إلى برهان، ولذلك يُقال: إن كنت مُدَّعياً فالبينة، بينما النفي هو أمر تحصيل حاصل في الواقع لا يحتاج إلى برهان. انظر مثلاً لمسألة وجود كائنات فضائية عاقلة خارج الأرض، لا نطلب من الذي ينفيها أن يأتي ببرهان على ذلك، وإنما نطلب البرهان ممن يُثبتها، وإذا لم يثبتها بالبرهان، تخضع لمعيار المستحيل والممكن، فإن كانت من الممكنات، يقف العلم منها بصورة حيادية لا ينفيها ولا يثبتها،ويترك ذلك للدراسة تمهيدا للحسم مع الزمن، وبرهان إثبات وجود أمر، هو ذاته برهان على نفي النفي، وبالتالي لا يصح البحث عن برهان لنفي برهان الإثبات،فهذا عمل اعتباطي، ونتيجته الفشل سلفاً لبطلان عمله ابتداءً.
انظر مثلاً: للطارق الذي يقوم بالطرق على الباب. ففعل الطرق برهان على وجود الطارق ضرورة، وهذا البرهان في إثبات الفاعل، هو في ذات الوقت برهان على نفي نفي وجود الطارق، ومن هذا الوجه يقولون: نفي النفي إثبات.
فكل برهان إثبات يتضمن في بنيته نفي النفي، فكيف يمكن أن تأتي ببرهان لنفي الإثبات؟ بمعنى آخر، كيف يمكن أن تنفي وجود الطارق(الفاعل) مع استمرار الطرق(الفعل)!؟ فهذا هراء لا قيمة له أبداً.
والتصديق غير الإتباع، فالتصديق يفرض ذاته على العقل نتيجة البرهان، فهو موقف علمي لا يستطيع العقل نفيه في قرارة نفسه، بينما الإتباع أمر شخصي يتعلق بالإرادة والحرية، ومن هذا الوجه كان الإيمان متعلقاً بالحرية، والإيمان هو تصديق زائد إتباع، ومجرد التصديق وحده لا يُسمى إيماناً قط.
لذا؛ كانت الحرية للإيمان؛ لا للتصديق والإثبات؛ لأن التصديق أمر متعلق بالعقل، والعقل لا يملك القدرة على نفي تصديق الأمر الثابت؛ مثل مفهوم واحد زائد واحد يساوي اثنين، ولكن يملك الإنسان بإرادته أن يكفر أو يُكَذِّبَ ذلك الحكم العقلي بسلوكه القولي أو الفعلي، ومن هذا الوجه صحت المقولة التي تقول:التصديق بوجود الله موقف عقلي فطري لازم، والإيمان به موقف أخلاقي. وبالتالي فالمفهومين لا يخضعان لعملية البرهنة عليهما، وكلاهما موقف شخصي لا يتناولهما العلم دراسة.
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29
الفعل الناقص: هل يمكن أن يتعدّد وجود الفاعلين؟
الفعل الثاني: إن سؤالك في حد ذاته يتضمن تصديق بوجود الفاعل الأول ضرورة، ولكن تشك في وجود الآخر سواء أكان واحداً أم مجموعة!، فعليك بما هو ثابت، وأعرض عن أوهامك الذهنية لأنها افتراضات غير حقيقية، ومن نسج خيالك تحاول أن تثبتها أو تنفيها، وهذا ليس موقفاً علمياً، وأنت مُطالب بالبرهان على التعددية لمقام الإلوهية، لأن البَيِّنة على المدَّعي، وبينما تأت بالبرهان التزم بتوحيد الله، ومع ذلك؛ إنّ تعدد الفاعلين أمر مرتبط بتعدد الفعل، فإن كانت الأفعال متعددة فلاشك أن الفاعلين متعددون بعدد الأفعال.
الفعل الناقص: إن الأفعال في الواقع متعددة كما ترون، مما يؤكد تعدد الفاعلين.
الفعل الأول: يا لك من سطحي الفهم، متسرع الحكم. لقد قصد بقوله تعدد الأفعال، تعدد النظام الذي يحكم الفعل، وليس تعدد صور الفعل، فالفعل بصوره الكثيرة محكوم بنظام واحد من الذرة إلى المجرة، وهذا برهان على أحدية الفاعل.
الفعل الناقص: ألا يحتمل أن يكون هناك وجود آخر، ونظام آخر له فاعل غير فاعلنا؟
الفعل الخامس: إنك تناقش الآن أوهاماً في ذهنك، بينما نناقش وجوداً موضوعياً مشاهداً ونحن جزء منه، وفي هذا الوجود الموضوعي لا يوجد إلا نظام واحد يدل على أحدية الفاعل بالنسبة لنظامنا ووجودنا، أما افتراض وجود عالم آخر ونظام آخر، وبالتالي فاعل آخر، فهذه أوهام لا تخضع للنقاش، أو الدراسة أبداً، فالدراسة مرتبطة بعالم الشهادة للوصول إلى عالم الغيب.
الفعل الثاني: عود على بدء. هل يحتاج الفاعل إلى قيامه بالفعل، بمعنى آخر، هل يصدر الفعل من الفاعل ضرورة أو اختياراً؟
الفعل الثالث: إن ذلك متعلق بصفة الفاعل من كونه فاعلاً ذاتاً أم فاعلاً اكتساباً، بمعنى أن الفاعل الذي تتوقف حياته على فعله، فهو يصدر منه ضرورة لاستمرار حياته مثل فعل الطعام والشراب بالنسبة للإنسان، ويصير الإنسان فاعلاً اكتساباً، وليس ذاتاً.
أما إذا كان الفعل يصدر من الفاعل مع استغناء الفاعل عنه في استمرار حياته، ووجوده، فهو لا شك يصدر اختياراً، وإرادة، وليس ضرورة، ويكون فاعلاً ذاتاً، لا اكتساباً.
الفعل الناقص: لماذا يُسمّى فاعلاً إذا لم يكن له فعل في الواقع.
الفعل الرابع: إن تسمية الفاعل ظهرت لحظة قيامه بالفعل، وقبل حدوث الفعل لا وجود لكلمة الفاعل، وإنما الوجود لمقومات صفة الفاعل التي هي الحياة،والإرادة والقدرة، والقيومية والصمدية، والعلم والحكمة، وما شابه ذلك من صفات ذاتية، وعندما قام بالفعل ظهرت صفات فعلية له مثل الخالق، والرازق، والمحي، والمميت...الخ.
الفعل الخامس: وصلنا الآن إلى أن وجود الفاعل الأول لا يُبرهن على وجوده، وذلك لأنه أكبر حقيقة، وهو برهان على الوجود، ومفهوم وجوده قائم في أنفسنا بداهة وفطرة،وأفعاله أدلة على صفاته، وهو ليس كمثله شيء، ولا يخضع لمقاييسنا أو مواصفاتنا، ويصدر منه الفعل اختياراً لا ضرورة، و مسألة وجوده أشد وأحق إثباتاً من وجودنا نحن، لأن الفعل لابد له من فاعل وجوباً، والفاعل سابق في الوجود عن فعله ضرورة، والوجود الموضوعي يحكمه نظام واحد من الذرة إلى المجرة، ما يؤكد على أحدية الفاعل الأول، ووصلنا أيضاً إلى أن الفعل لايدرك فاعلَه، ولا يدرك مقاصده، بل ولا يدرك كل أفعاله، لأن الفعل يعيش في عالم الشهادة، ويتعامل مع عالم الغيب بناء عليه، ومفهوم الغيب هو مفهوم علمي، وديني لابد منه، فنحن نعيش في عالم لا مرئي، وما نراه أقل من القليل.
لذا؛ ينبغي على الفعل أن يلزم حدّه، ويعرف قَدر نفسه فلا يطلب المحال، ولا يُنصب نفسه حكماً على فاعله يريد أن يعرف كل شيء عنه، وعن مقاصد أفعاله، وينبغي أن يدرك الفعل عجزه، لأن العجز عن الإدراك إدراك، وهذا الإدراك من مقومات الإيمان بالفاعل الأول، ومن الخطأ استخدام هذا العجز لإضعاف الإيمان بالفاعل الأول، وإن حصل ذلك يكون الإنسان قد وقع بالهراء والسفسطة، ويكون مثله مثل من عجز عن معرفة من يقوم بالطرق على الباب، فقال: لا يوجد طارق أصلاً!.وهذا يلزمه إعادة الدراسة مرة ثانية، وتحديث طريقة تفكيره.
الفعل الناقص:ما تقولون بمن يرفض هذه الطريقة في إثبات الفاعل الأول، ويطالب بدراسة الأمر من خلال ما يحدث من كوارث ومصائب وظلم وطغيان على أرض الواقع، ويتساءل أين الفاعل الأول العادل الحكيم من ذلك؟ ولماذا لا يتدخل بنفسه ويضع حداً للظلم والبؤس الإنساني؟ ويصل من خلال ذلك إلى نفي وجود الفاعل أصلاً، ويضرب على ذلك مثلاً الإنسان الذي يطرق باباً ولا يُفتح له.فيصل إلى قناعة أنه لا يوجد أحد خلف هذا الباب.
الفعل الرابع:إن الجواب على ما ذكرت ورد فيما سبق من الحوار، ولكنك لم تنتبه إلى ربط الأفكار مع بعضها كعادة من في قلوبهم زيغ، لا يسمعون إلاّ صوتهم.
ومع ذلك سوف أختصر لك الجواب:
أيها الفعل الناقص اعلم! أن البرهان لا يخضع للتصويت وهوى الآخر في أن يقبله أو يرفضه، البرهان حيادي، ويفرض ذاته بذاته على الفكرة، انظر إلى برهان وجود فاعل الطرق على الباب من حيث وقوع الحواس أو أحدها على أثر الفاعل( الطرق) مما يؤدي عند السامع العاقل ضرورة إلى وجود الفاعل الطارق، ويصل إلى ذلك بنفسه دون أن يجبره أحد على البرهان، فتخيل لو أن هذا السامع للطرق قال:لا أقبل بهذا البرهان الذي حصل في نفسي على وجود الفاعل، وأريد منكم أن تُثبتوا لي الفاعل من غير هذا الوجه؟ فسوف يكون جواب السامعين الآخرين قم انظر بنفسك للفاعل إن كان يمكن رؤيته، وانتفاء إمكانية رؤيته ليس برهاناً على نفي وجوده، لأننا نصدق بكثير من الأمور دون رؤيتها،ونتعامل بثقة معها وبصورة علمية دون أن يخطر في أذهاننا أي شك في وجودها.وإن استمر في رفض البرهان الثابت في نفسه، فهذا ينم عن مشكلة خاصة به، تؤكد أنه يعاني من مرض في تفكيره نتيجة معاناة نفسية يعيشها في أعماقه، وهو في ذلك بين أمرين: إما أن يكون خبيث النية يعلم الحق وينكره، أو ساذجاً تنقصه إمكانات الرؤية الفكرية الحاسمة.
أما مسألة نفي وجود الفاعل لعدم معرفة مقاصد أفعاله، أو ما ينتج عنها من مصائب، فهذا موقف طفولي في التعامل مع الأحداث!، انظر كيف يتعامل المجتمع مع الجنايات والجرائم التي تحدث في الواقع، يبحث عن فاعلها ليعاقبه، ولا يخطر في ذهنه نفي الفاعل لها، فمسألة صلاح الأعمال، أو فسادها لا علاقة لها بثبوت الفاعل أو نفيه، لأن المسألة متعلقة بالحكم على الفعل، وليس على وجود الفاعل.
ومسألة وجود الفاعل الأول ثابتة فطرة وبداهة، والوجود كله يدل عليه، ووجوده يقتضي حكماً ثبوت صفات العدل والحكمة والقدرة والإرادة المطلقة كضرورات لازمة لألوهيته، ونفي معرفة مقاصد أفعاله لا يصح عقلاً وعلماً أن ينفي وجوده، لأن المسألتين منفصلتان عن بعضهما تماماً، ومن الطبيعي ألا يُحيط الفعل ( الإنسان) بمقاصد الفاعل الأول(الخالق المدبر)، كما أن الفاعل غير ملزم بتفسير مقاصد أفعاله للفعل، لأنه فاعل بإرادة كاملة وعلم مطلق{ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }هود107، ونفي وجود الفاعل لا يؤثر على الفاعل نفسه، وإنما يؤثر على الفعل ذاته ونمط حياته وسلوكه، إذ سوف يُصاب بالاضطراب والقلق نتيجة قطع صلته مع فاعله.
فنظام الوجود يضعه الفاعل، والفعل يخضع له طوعاً أو كرهاً، ولا قيمة لاعتراضه على النظام، فنظام الحياة والموت يقوم على قانون الثنائية والزوجية في الأمور(حق/باطل، عدل/ظلم، خير/ شر) والفعل-الإنسان- جزء من هذا النظام ليس له إرادة في تغيير النظام أو تعديله أو الاعتراض عليه، ومهمته أن ينسجم مع النظام ويسير وفقه، وينفذ ما يطلب الفاعل منه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } (الملك2)، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان، ومادة الامتحان هي مهمة الخلافة في الأرض بالحق والخير والعدل والمحبة وعمرانها، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }البقرة30 ، والتدخل الإلهي المباشر في منع الظلم أو الشر نقض وإبطال لأصل الامتحان والابتلاء للإنسان، بل إنقاص من قيمة الإنسان وفضله، وتقليل من شأنه، وإلغاء مقام خلافته وتقييد حريته، فالوضع الراهن على ما هو عليه من صراع بين الحق والباطل هو منتهى التكريم للإنسان كجنس وأعلى درجات تفضيله على سائر المخلوقات.
وغير ذلك يُعد ترويجاً لفلسفة قدرية جبرية جديدة، تدمغ الإنسان بهوان العجز أمام قدر لا يرحم، فيمتنع عن الاختيار بحجة الإجبار.
أما استخدام عدم فتح باب البيت المطروق، كدليل على نفي وجود أحد داخله، فهذا باطل في الواقع المشاهد، فكثيراً ما نطرق باب أحدهم ولا يفتح لنا، ونعلم بعد ذلك أنه كان في البيت، فالمثل ساقط كبرهان لنفي الفاعل، لاسيما أن الفاعل لا يخضع لإرادتنا، أو رغباتنا، أو هوانا!.
الفعل الناقص: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }آل عمران18. العقل نعمة من الله والحرية كرامة