المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سورة المرسلات سيد قطب (((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ )))



memainzin
08-20-2010, 04:21 PM
التعريف بسورة المرسلات

هذه السورة حادة الملامح , عنيفة المشاهد , شديدة الإيقاع , كأنها سياط لاذعة من نار . وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة , حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات , تنفذ إليه كالسهام المسنونة !

وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة , وحقائق الكون والنفس , ومناظر الهول والعذاب ما تعرض . وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار:(ويل يومئذ للمكذبين)!

ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة . وهو لازمة الإيقاع فيها . وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة , ومشاهدها العنيفة , وإيقاعها الشديد .

وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة "الرحمن" عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد:(فبأي آلاء ربكما تكذبان ?). . كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة "القمر" عقب كل حلقة من حلقات العذاب:(فكيف كان عذابي ونذر ?). . وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة , وطعما مميزا . . حادا . .

وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة , متعددة القوافي . كل مقطع بقافية . ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة . ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص , وعنفها الخاص . واحدة إثر واحدة . وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر , بنفس العنف وبنفس الشدة .

ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة:(والمرسلات عرفا . فالعاصفات عصفا . والناشرات نشرا فالفارقات فرقا . فالملقيات ذكرا , عذرا أو نذرا). . وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام .

وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها . . وهذا نموذج منها , كما اختار إطارا من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في "سورة الضحى " وإطارا من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة "والعاديات" . . وغيرها كثير .

وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع , يمثل جولة أو رحلة في عالم , تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات . . أعرض بكثير جدا من مساحة العبارات والكلمات , وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى !

والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل . وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض , وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر:(فإذا النجوم طمست . وإذا السماء فرجت . وإذا الجبال نسفت . وإذا الرسل أقتت . لأي يوم أجلت ? ليوم الفصل . وما أدراك ما يوم الفصل ? ويل يومئذ للمكذبين !).

والجولة الثانية مع مصارع الغابرين , وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين:(ألم نهلك الأولين ? ثم نتبعهم الآخرين ? كذلك نفعل بالمجرمين . ويل يومئذ للمكذبين !).

والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير:(ألم نخلقكم من ماء مهين ? فجعلناه في قرار مكين ? إلى قدر معلوم ? فقدرنا فنعم القادرون . ويل يومئذ للمكذبين !). .

والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتا , وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي:(ألم نجعل الأرض كفاتا ? أحياء وأمواتا , وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ? ويل يومئذ للمكذبين !). .

والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب:(انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون . انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ! لا ظليل ولا يغني من اللهب . إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر . ويل يومئذ للمكذبين !). .

والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين , ومزيد من التأنيب والترذيل:(هذا يوم لا ينطقون , ولا يؤذن لهم فيعتذرون . ويل يومئذ للمكذبين ! هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين . فإن كان لكم كيد فكيدون . ويل يومئذ للمكذبين !). .

والجولة الثامنة مع المتقين , وما أعد لهم من نعيم:(إن المتقين في ظلال وعيون , وفواكه مما يشتهون . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . إنا كذلك نجزي المحسنين . ويل يومئذ للمكذبين !). .

والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب:(كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون . ويل يومئذ للمكذبين !). .

والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب:(وإذا قيل لهم:اركعوا لا يركعون . ويل يومئذ للمكذبين !).

والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات: (فبأي حديث بعده يؤمنون ?). .

وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع , وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها . فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن - والمكية منها بوجه خاص - ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة , وفي أضواء متعددة , وبطعوم ومذاقات متعددة , وفق الحالات النفسية التي تواجهها , ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله , فتبدو في كل حالةجديدة , لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة .

وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم . وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد . كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله . ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة . حادة الملامح . لاذعة المذاق . لاهثة الإيقاع !

والآن نستعرض السورة في سياقها القرآني بالتفصيل:

الدرس الأول:1 - 7 القسم بمخلوقات عظيمة على حقيقة البعث

والمرسلات عرفا . فالعاصفات عصفا . والناشرات نشرا . فالفارقات فرقا . فالملقيات ذكرا:عذرا أو نذرا . . إن ما توعدون لواقع . .

القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها ; والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى الموكدات في مواضع منه شتى . وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم , , وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها , ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعا . فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية , كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية . وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة , وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعا . . ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول .

والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع . وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب , وقواه المكنونة , المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر . وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها . فقال بعضهم:هي الرياح إطلاقا . وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقا . وقال بعضهم:إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة . . مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها . وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله . وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر .

(والمرسلات عرفا). . عن أبي هريرة أنها الملائكة . وروي مثل هذا عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى الروايات , والسدي والربيع بن أنس , وأبي صالح في رواية [ والمعنى حينئذ هو القسم بالملائكة المرسلة أرسالا متوالية , كأنها عرف الفرس في إرسالها وتتابعها ] .

وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات . . إنها الملائكة .

وروي عن ابن مسعود . . المرسلات عرفا . قال:الريح . [ والمعنى على هذا أنها المرسلة متوالية كعرف الفرس في امتدادها وتتابعها ] وكذا قال في العاصفات عصفا والناشرات نشرا . وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح في رواية .

وتوقف ابن جرير في المرسلات عرفا هل هي الملائكة أو الرياح . وقطع بأن العاصفات هي الرياح . وكذلك الناشرات التي تنشر السحاب في آفاق السماء .

وعن ابن مسعود:(فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا , عذرا أو نذرا)يعني الملائكة . وكذا قال:ابن عباس ومسروق ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري بلا خلاف . فإنها تنزل بأمر الله على الرسل , تفرق بين الحق والباطل . وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار .

ونحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذروا . وفي النازعات غرقا . . وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها . وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا . وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام . وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها , والظلال المباشرة التي تلقيها . وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها . .

وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة , كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزا , وهو يستجوبه عن ذنب , أو عن آية ظاهرة ينكرها , ثم يطلقه على الوعيد والتهديد ويل يومئذ للمكذبين). .

الدرس الثاني:8 - 15 بعض مشاهد القيامة وتهديد المكذبين

بعد ذلك تجيء الهزة العنيفة بمشاهد الكون المتقلبة في يوم الفصل الذي هو الموعد المضروب للرسل لعرض حصيلة الرسالة في البشرية جميعا:

(فإذا النجوم طمست , وإذا السماء فرجت , وإذا الجبال نسفت , وإذا الرسل أقتت . لأي يوم أجلت ? ليوم الفصل . وما أدراك ما يوم الفصل ? ويل يومئذ للمكذبين). .

يوم تطمس النجوم فيذهب نورها , وتفرج السماء أي تشق , وتنسف الجبال فهي هباء . . وقد وردت مشاهد هذا الانقلاب الكوني في سور شتى من القرآن . وكلها توحي بانفراط عقد هذا الكون المنظور , انفراطا مصحوبا بقرقعة ودوي وانفجارات هائلة , لا عهد للناس بها فيما يرونه من الأحداث الصغيرة التي يستهولونها ويرعون بها من أمثال الزلازل والبراكين والصواعق . . وما إليها . . فهذه أشبه شيء - حين تقاس بأهوال يوم الفصل - بلعب الأطفال التي يفرقعونها في الأعياد , حين تقاس إلى القنابل الذرية والهيدروجينية ! وليس هذا سوى مثل للتقريب . وإلا فالهول الذي ينشأ من تفجر هذا الكون وتناثره على هذا النحو أكبر من التصور البشري على الإطلاق !

وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون , تعرض السورة أمرا عظيما آخر مؤجلا إلى هذا اليوم . . فهو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة . دعوة الله في الأرض طوال الأجيال . . فالرسل قد أقتت لهذا اليوم وضرب لها الموعد هناك , لتقديم الحساب الختامي عن ذلك الأمر العظيم الذي يرجح السماوات والأرض والجبال . للفصل في جميع القضايا المعلقة في الحياة الأرضية , والقضاء بحكم الله فيها , وإعلان الكلمة الأخيرة التي تنتهي إليها الأجيال والقرون . .

وفي التعبير تهويل لهذا الأمر العظيم , يوحي بضخامة حقيقته حتى لتتجاوز مدى الإدراك:

(وإذا الرسل أقتت . لأي يوم أجلت ? ليوم الفصل . وما أدراك ما يوم الفصل ?). .
وظاهر من أسلوب التعبير أنه يتحدث عن أمر هائل جليل . فإذا وصل هذا الإيقاع إلى الحس بروعته وهوله , الذي يرجح هول النجوم المطموسة والسماء المشقوقة والجبال المنسوفة . ألقى بالإيقاع الرعيب , والإنذار المخيف:

(ويل يومئذ للمكذبين !). .
وهذا الإنذار من العزيز الجبار , في مواجهة الهول السائد في الكون , والجلال الماثل في مجلس الفصل بمحضر الرسل , وهم يقدمون الحساب الأخير في الموعد المضروب لهم . . هذا الإنذار في هذا الأوان له طعمه وله وزنه وله وقعه المزلزل الرهيب . .

الدرس الثالث:16 - 19 هلاك الكفار السابقين واللاحقين

ويعود بهم من هذه الجولة في أهوال يوم الفصل , إلى جولة في مصارع الغابرين:الأولين والآخرين . .

(ألم نهلك الأولين ? ثم نتبعهم الآخرين ? كذلك نفعل بالمجرمين . ويل يومئذ للمكذبين !). هكذا في ضربة واحدة تتكشف مصارع الأولين وهم حشود . وفي ضربة واحدة تتكشف مصارع الآخرين وهم حشود . وعلى مد البصر تتبدى المصارع والأشلاء .

وأمامها ينطلق الوعيد ناطقا بسنة الله في الوجود: (كذلك نفعل بالمجرمين)! فهي السنة الماضية التي لا تحيد . . وبينما المجرمون يتوقعون مصرعا كمصارع الأولين والآخرين , يجيء الدعاء بالهلاك , ويجيء الوعيد بالثبور ويل يومئذ للمكذبين). .

الدرس الرابع:20 - 24 لقطات من نشأة الإنسان

ومن الجولة في المصارع والأشلاء , إلى جولة في الإنشاء والإحياء , مع التقدير والتدبير , للصغير والكبير:

(ألم نخلقكم من ماء مهين ? فجعلناه في قرار مكين ? إلى قدر معلوم ? فقدرنا فنعم القادرون . ويل يومئذ للمكذبين). .

وهي رحلة مع النشأة الجنينية طويلة عجيبة , يجملها هنا في لمسات معدودة . ماء مهين . يودع في قرار الرحم المكين . إلى قدر معلوم وأجل مرسوم . وأمام التقدير الواضح في تلك النشأة ومراحلها الدقيقة يجيء التعقيب الموحي بالحكمة العليا التي تتولى كل شيء بقدره في إحكام مبارك جميل:(فقدرنا فنعم القادرون)وأمام التقدير الذي لا يفلت منه شيء يجيء الوعيد المعهود:(ويل يومئذ للمكذبين). .


الدرس الخامس:25 - 28 إشارات عن الأرض وتسخيرها للإنسان


ثم جولة في هذه الأرض , وتقدير الله فيها لحياة البشر , وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة:


ألم نجعل الأرض كفاتا ? أحياء وأمواتا ? وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ? ويل يومئذ للمكذبين . .

ألم نجعل الأرض كفاتا تحتضن بنيها أحياء وأمواتا . (وجعلنا فيها رواسي شامخات)ثابتات سامقات , تتجمع على قممها السحب , وتنحدر عنها مساقط الماء العذب . أفيكون هذا إلا عن قدرة وتقدير , وحكمة وتدبير ? أفبعد هذا يكذب المكذبون ?:(ويل يومئذ للمكذبين !). .


الدرس السادس:29 - 34 بعض أهوال النار المعذب فيها الكفار


وعندئذ - بعد عرض تلك المشاهد , وامتلاء الحس بالتأثرات التي تسكبها في المشاعر - ينتقل السياق فجأة إلى موقف الحساب والجزاء . فنسمع الأمر الرهيب للمجرمين المكذبين , ليأخذوا طريقهم إلى العذاب الذي كانوا به يكذبون , في تأنيب مرير وإيلام عسير:


انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون . انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعاب . لا ظليل ولا يغني من اللهب . إنها ترمي بشرر كالقصر . كأنه جمالة صفر . ويل يومئذ للمكذبين ! . .


اذهبوا طلقاء بعد الارتهان والاحتباس في يوم الفصل الطويل . ولكن إلى أين ? إنه انطلاق خير منه الارتهان . .(انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون). . فها هو ذا أمامكم حاضر مشهود .(انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب). . إنه ظل لدخان جهنم تمتد ألسنته في ثلاث شعب . ولكنه ظل خير منه الوهج لا ظليل ولا يغني من اللهب). . إنه ظل خانق حار لافح . وتسميته بالظل ليست إلا امتدادا للتهكم , وتمنية بالظل تتكشف عن حر جهنم !


انطلقوا . وإنكم لتعرفون إلى أين ! وتعرفونها هذه التي تنطلقون إليها . فلا حاجة إلى ذكر اسمها . .(إنها ترمي بشرر كالقصر . كأنه جمالة صفر). . فالشرر يتتابع في حجم البيت من الحجر . [ وقد كان العرب يطلقون كلمة القصر على كل بيت من حجر وليس من الضروري أن يكون في ضخامة ما نعهد الآن من قصور ] فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك ! هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر ?!


وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول , يجيء التعقيب المعهود:(ويل يومئذ للمكذبين !).


الدرس السابع:35 - 37 عدم كلام الكفار واعتذارهم يوم القيامة


ثم يأخذ في استكمال المشهد بعد عرض الهول المادي في صورة جهنم , بعرض الهول النفسي الذي يفرض الصمت والكظم . .


(هذا يوم لا ينطقون . ولا يؤذن لهم فيعتذرون). .
فالهول هنا يكمن في الصمت الرهيب , والكبت الرعيب , والخشوع المهيب , الذي لا يتخلله كلام ولا اعتذار . فقد انقضى وقت الجدل ومضى وقت الاعتذار ويل يومئذ للمكذبين)! . .

وفي مشاهد أخرى يذكر حسرتهم وندامتهم وحلفهم ومعاذيرهم . . واليوم طويل يكون فيه هذا ويكون فيه ذاك - على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما - ولكنه هنا يثبت هذه اللقطة الصامتة الرهيبة , لمناسبة في الموقف وظل في السياق .


الدرس الثامن:38 - 40 عجز وضعف الكفار يوم القيامة


(هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين . فإن كان لكم كيد فكيدون . ويل يومئذ للمكذبين !). .


هذا يوم الفصل لا يوم الاعتذار . وقد جمعناكم والأولين أجمعين . فإن كان لكم تدبير فدبروه , وإن كان لكم قدرة على شيء فافعلوه ! ولا تدبير ولا قدرة . إنما هو الصمت الكظيم , على التأنيب الأليم . .(ويل يومئذ للمكذبين !). .


الدرس التاسع:41 - 45 لقطات من نعيم المؤمنين في الجنة


فإذا انتهى مشهد التأنيب للمجرمين , اتجه الخطاب بالتكريم للمتقين:


(إن المتقين في ظلال وعيون , وفواكه مما يشتهون . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . إنا كذلك نجزي المحسنين . ويل يومئذ للمكذبين !). .


إن المتقين في ظلال . . ظلال حقيقية في هذه المرة ! لا ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب ! وفي عيون من ماء لا في دخان خانق يبعث الظمأ الحرور:(وفواكه مما يشتهون). . وهم يتلقون فوق هذا النعيم الحسي التكريم العلوي على مرأى ومسمع من الجموع:(كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . إنا كذلك نجزي المحسنين)ويا لطف هذا التكريم من العلي العظيم(ويل يومئذ للمكذبين !). . يقابل هذا النعيم والتكريم !


الدرس العاشر:46 - 47 تهديد الكفار في الدنيا


وهنا تعرض في خطفة سريعة رقعة الحياة الدنيا التي طويت في السياق . فإذا نحن في الأرض مرة أخرى . وإذا التبكيت والترذيل يوجهان للمجرمين !


(كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون . ويل يومئذ للمكذبين !). .
وهكذا تختلط الدنيا بالآخرة في فقرتين متواليتين , وفي مشهدين معروضين كأنهما حاضران في أوان , وإن كانت تفرق بينهما أزمان وأزمان . فبينما كان الخطاب موجها للمتقين في الآخرة , إذا هو موجه للمجرمين فيالدنيا . وكأنما ليقال لهم:اشهدوا الفارق بين الموقفين . . وكلوا وتمتعوا قليلا في هذه الدار , لتحرموا وتعذبوا طويلا في تلك الدار . .(ويل يومئذ للمكذبين !).


الدرس الحادي عشر:48 - 50 عناد الكفار فلا ينفع معهم حديث


ثم يتحدث معجبا من أمر القوم وهم يدعون إلى الهدى فلا يستجيبون:
(وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون . ويل يومئذ للمكذبين !). .


مع أنهم يبصرون هذا التبصير , وينذرون هذا النذير . .


(فبأي حديث بعده يؤمنون ?). .


لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهز الرواسي , وبهذه الهزات التي تزلزل الجبال , لا يؤمن بحديث بعده أبدا . إنما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس , والويل المدخر لهذا الشقي المتعوس !


إن السورة بذاتها , ببنائها التعبيري , وإيقاعها الموسيقي , ومشاهدها العنيفة , ولذعها الحاد . . إنها بذاتها حملة لا يثبت لها قلب , ولا يتماسك لها كيان .


فسبحان الذي نزل القرآن , وأودعه هذا السلطان !

منقول