المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أفضل الجهاد



nafez_1962
09-12-2010, 09:32 PM
أفضل الجهاد
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى ــ حلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد وتقديم :
يقول سيد الخلق محمد , صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : ( أفضل الجهاد : كلمة حق عند سلطان جائر ) ..
يثبت عليه الصلاة والسلام هنا , أن للجور سلطاناً , قد يطغى على الناس , ويحول بينهم , وبين أمنهم وإيمانهم , ويفلسف الحياة لهم , على طريقته الخاصة ..
فيمنعهم من أن يعبدوا الله , إلا كما يشتهي ويريد , ويُصدِّر إليهم قناعات , ما أنزل الله بها من سلطان , يفرضها عليهم , ويحاسبهم بموجبها , ويتخذهم خـوَلاً وعبيداً يفعل بهم ما يشاء , ويتداولهم كالعملة المهترئة , وسقـَط المتاع ..
ذلك هو السلطان الجائر , الذي يتجاوز الحدود والمعالم , ويستبيح الحرمات , ويُـكره على الموبقات , ويستعذب للناس فعل ما لا ينبغي من السلوكيات ..
واليوم شاعت في كوكبنا المنكوب , كل ألوان التعسف والتجبر , وحُرم الإنسان من أبسط الحقوق , وصار سلعة معروضة للبيع في السوق !..
وصار للجور وللظلم وللمفسدين , معسكرات هائلة , ودول كبرى وعظمى , واستراتيجيات وسياسات , مرسومة ومعدة بعناية فائقة , تـُطـبَّـق على البشر , وعلى المستضعفين من الشعوب , وتـُلحق بهم أفدح الخطوب والمصائب والأحزان ..
وصار الجوْر يَـنبوعاً , ونهراً جارياً , يتدفق بكل أذية وبلية , واستهتار بالقيم الإنسانية والأخلاقية , كما صار مرجعية لكل متسلط وحاكم , ورأينا ما تواضع عليه البشر من العدل , غريباً أشد الغرابة والغربة , ورأينا الجائرين في حكمهم , يسيئون إلى الشمس والقمر والشجر , والماء والتراب والهواء , ويتجاوزون كل معقـول ومنقـول , ويكشفون عن كل السيئات والسوْآت , ويُعدمون جرثومة الحياء والحياة !..
أساليب الجور والظلم , وسفك الدم , واستباحة العرض والأرض والهوية , تـَعبر القارات والمحيطات , وتهجم من كل الآفاق والجهات , وتهبط على جناح الأثير , وتنقضُّ بسرعة الصوت والضوء , مدمرة كل الأعراف والشرعيات الجديدة !..
فلا تدع فرصة لمتدبر , وتسلبه كل الاختيارات , ولا تتركه إلا محطماً , ومتهالكاً لا روح فيه , وباحثاً فقط , عن الشراب والطعام , واجترار الآلام ..
وفيما بين كلمة الحق , والسلطان الجائر , تهيم البشرية على وجهها , لاهثة خلف سراب الوعود الجائرة , التي تقدم الجنة الموعودة : جحيماً وحميماً , وعذاباً أليماً وضياعاً كبيراً , وذهولاً شديداً , وجزائرَ من العدم والألم , وما هو شر من الموت ..
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة حق
المعنى الإجمالي والمبدئي :
هو أن كلمة الحق هذه , ليس فيها باطل ولا لغو ولا زور , ولا تكرار مُمل , ولا إسهاب مُخل , وهي في بواعثها : بريئة من النية السوء , والمداهنة والانتقائية , وابتغاء العَـرض الأدنى , من المنافع العاجلة , والمآرب الخفية , التي تناقض مالله من الدين الخالص , والقول الصدق , الذي لا شِـية فيه , ولا شائبة تتخلله ..
فمقطع الحق : كلمة سواء , وجوهر مَحْض , ونقد نقي بناء , ودمغ للباطل والظلم , ومواجهة صريحة وصحيحة , لسلطان الجور الجائر , والفساد الظاهر , وحكم الطاغوت والطغيان , وامتهان كرامة الإنسان ..
إن الإسلام الحق , هو الكلمة الحق , وهو الدواء والترياق , من أدواء الفاسدين وسموم الفسّاق , الذين يمعنون في هذه الحياة : هتكاً وفتكاً , واستباحة لكل محظور ومحرم , وممارسة للأحكام : سياسة وقضاء , على نحو فظيع ومرعب , تتقذره النفوس , وتنفر منه الطباع , وتشمئز العقول , ويرفضه الوجدان الحي , والضمير النقي .. وهنا يأتي دور النصيحة الخالصة , والناصحين الأقوياء والأوفياء ..
وحيث إن الجهاد في الإسلام , لبسط سلطان القسط والعدل في الأرض , بدلاً من سلطان الجور والظلم , فإن كلمة الحق الفاصلة والحاسمة , في دنيا الاختلال والتصدع هي حقاً أفضل الجهاد , وأعلى مراتب الكفاح والنضال والمقاومة , في سبيل الله والمستضعفين , والمؤمنين المضطهدين , والفقراء والمعذبين ..
إن السلطان الجائر , إما أن يكون حُكماً ونظاماً , بمواصفات ساقطة ومنحطة , أو يكون حاكماً وآمراً , منهجه الزيغ والانحراف , والضغط على الضعفاء والفقراء , وتأمين الحماية للمفسدين والفجرة الأقوياء , وهضمُ ما للشعوب من حقوق وكرامة وحرية , وعيش كريم , بارئ من الاستغلال والانتهازية , والفوارق الطبقية ..
وإن نظرة فاحصة ومدققة , إلى واقع العالم الراهن , المفعم بالنوائب والنكبات , والأسوإ والأخطر من الأحقاد والتحديات , تجعلنا نتفهم بسرعة , أن الأرض كلها , واقعة تحت أعباء سلطان جائر , وسلطات طاغية , وطاقات عسكرية وأمنية هائلة , تزلزل وترهب , وتسفك الدم الحرام , وتبيد أية فرصة للحوار والسلام .. وتزيد المظلومين ظلماً , والفقراء فقراً , وتملأ المجتمعات : ضراوة وشراسة وإثماً ..
وكل ذلك بشكل غير مسبوق , ولم يمر مثيل لعُـشر معشاره من قبل : سرعة وتخطفاً , وإمكاناتٍ خارقة , وإجراءاتٍ محيطة ومهيمنة ..
لقد كان ما يوصف بسلطان جائر , رهناً بمدينة أو قطر , قد يجد الناس فيه متنفساً , وفرصة للاستجمام والرحمة , والإفلات من قبضة الظالمين ..
ولكن واقع هذه الدنيا , يأخذ بالخِـناق , ويكبت الأنفاس , ويلاحق الإنسان المعاصر , باللعنة والخوف والرهبة , في كل زاوية وموقع , ولا منجاة ولا ملجأ , إلا أن يكون ضحية وعدماً , وخاسراً أكبر , وبلا هوية ولا سيماء ..
ويظن الناس , أن كلمة الحق , جراأة وتهور , واقتحام للتهلكة , ومنازعة لأولي الأمر , لسحب دنياهم من تحتهم , وخصومة مع المغرورين والمستكبرين !..
إن هذا المفهوم قاصر وسطحي , وغير عميق ولا دقيق , وهو عقيم الأثر , وفاقد التأثير , وضَره أقرب من نفعه , وهو يجافي مبدأ الحكمة طبعاً ..
إن كلمة الحق , ليست سهماً يطلقه المؤمن , ثم يدير ظهره , أو يتراجع بعده , دون أن يكون قد سدد وقارب , وفكر مَلياً , وأحاط خـُبراً بمجمل المشكلة , وخوافيها المثيرة , واحتمالاتها الممكنة والخطيرة , وكان لديه الخطاب , والخطى الواثقة ..
إن كلمة الحق كتاب ناطق , وفكر وخطاب فائق , هي منهج وطريق , وأسلوب عمل ودعوة , وموعظةٍ غالية وحسنة , ومسـؤولية عن وعي وخبرة , واستيعابٌ لأبعاد القضية , الظاهرة والخفية , وحبٌّ حقيقي لكل البرية !..
وليست كلمة الحق وعظاً رخيصاً , ومتاجرة بالعلم والقلم , وإدعاء القيم , ونداءاتٍ عاطفية , في أوساط العوام والعاجزين , وإثارة لمشاعر البؤساء والقاعدين !..
ولكنها خطاب للأقوياء , أي لمراكز القوة الفاعلة , الذين يُرهبون ويهددون , ويسيئون التصرف بدافع الاستخفاف والاقتدار , والتنمر على المرتزقة والمضبوعين والصغار , الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا ..
فالسلطان الجائر , هو الذي يتلقى دعماً وتأييداً ممن هم مَظِـنـَّة الحق والدين , والمبدإ الرصين , والتجرد الصادق , والنزاهة المطلقة , من حملة العلم والفكر والقلم..
الأمر الذي يسبب عبئاً إضافياً , على كلمة الحق , وقائليها إن وُجدوا , وقارئيها إن قرأوا , ويجعل طريقها حرجاً ووعْراً , وعاقبتها هماً وقهراً ..
النظام العربي , والنظام العالمي , وجهان لعملة واحدة , من حيث المظالمُ والمطامع , والأحقاد السياسية , والفلسفة الميكيافيلية , واللهجة الإعلامية : المنظورة والمرئية والمسموعة , ومواضيعُها المعهودة والمتداولة ..
فالعرب ليسوا أقل رجعية وهمجية , من سواهم , أعني أنظمتهم الحكومية , ونـُخَـبهم الثقافية , فيدورون في فـَلك واحد , ويتواطأون على ما فيه جور وحيف وانحياز , وقمعٌ للفكر والرأي , واستبداد واستعباد , لسواد الشعوب , وقواهم المنتجة والعاملة , حيث يقدَّمون قرابين , في اللعبة السياسية والحزبية الوضيعة ..
كان الغرب والأمريكان , يتمتعون بقدر ملحوظ , من الديمقراطية المزعومة , ولكنهم أخيراً , داسوها بأحذيتهم , وساءت أحوالهم , ودب إليهم دبيب الحسد والحقد والبغضاء , فيما بينهم , وتفسخت مجتمعاتهم , وأصبحت شعوبهم تـُحكم بالحديد والنار وكمِّ الأفواه , وأجهزة القمع , وإسكات المعارضين بحدة وبشدة , وانتشار البطالة والفقر المُدقِع , واستحكام الأزمات الاقتصادية والنفسية الحادة , وانقلبت ضدهم الطبيعة فأحرقتهم وأغرقتهم , ودمرت قيمهم الدنيوية , التي كانوا يتبجحون بها , وآل مدهم إلى جزر وانحسار , وترفهم إلى نقص وانكسار , وباتوا مهددين بنسخ ظلهم , وذهاب ريحهم , بعد أن باءت محاولاتهم وإجراءاتهم إلى فشل ذريع , وإحباط مريع ..
( سنة الله في الذين خلوْا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) ..
وقد رأينا جنودهم المجندة , التي هبطت على هذه الأمة كالجراد المنتشر , وأسلحتهم التدميرية الشاملة , كيف لم تـُجدهم نفعاً , ولم تـُغـْن عنهم شيئاً , ولحقت بهم مجتمعين , أعظمُ الهزائم والخسائر , وتساقط جنودهم , كأوراق الخريف في يوم عاصف .. وتلك هي عاقبة الجائرين والظالمين , الذين لا يرحمون , ولا يعتبرون ..
( وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُـنقلب ينقلبون ) ...
ولعل الكثيرين من السطحيين , يريدون أن يجعلوا من كلمة الحق , قضية شخصية , وصراعاً على الدنيا والمناصب , وأن يَكيلوا التهم جُزافاً , وأن يهبطوا إلى مستوى القدح والذم والتجريح , ومواجهة الخصوم بما يكرهون ويَـنفِرون !..
فتفقد كلمة الحق , تأثيرها وبريقها الساطع والمضيء , لتصبح مجرد سيف خشبي , يُلوَّح به في الهواء , ويمعن ضرباً في صفحة الماء , ويستثير الغوغاء ..
وبعـد :
فإن كلمة الحق , المتوازنة إلهياً , خيار صعب , من خيارات متاحة , ولكنه أعلاها كعباً , وأقدسها قيمة , وأشرفها وأبقاها عاقبة ونتيجة , وأبعدها أثراً ..
والخلود أبداً لكلمة الحق والصدق , وسواها من الكلمات , غثاء تافه , وقول أبتر ومنقوص , وبيان ليس بالأبين ولا بالأحسن , وأدب غير مُجوَّد ولا مُتـْقـن ..
تعترينا في هذه الآونات والمآلات , أنماط كلام مبهم وغامض , كله عموميات وتعميات , ويوميات تذهب مع الأيام , وطوفانُ وعظ مكرر ومعاد , ونـَتاج أقلام رخيصة , تضرب في حديد بارد , وتستعطي الفتات , وتبدع فيما هو غير هادف ولا مفهوم .. فكأنه قشور يابسة , لا لباب فيها , وحروف مركبة ليست بذات معنى , وإبداع موهوم , لا يسمن ولا يغني من جوع , وألقاب تـُمنح بالمَجّان , للماجنات والماجنين !..
فيمضي موكب الحياة , لا يلوي على شيء , نحو مزيد من التردي والضحالة والأمية , والهاوية السحيقة , والانكفاء وسوء الأداء , وإتاحةِ الفرصة للأعداء !..
في حين يتعاظم الجور المفتت للأكباد , ويتفاقم طوفان الظلم والإثم والفساد .. تحت سمع السلطويين وبصرهم , وبأمرهم ومشاركتهم , وسلطانهم الجائر !..
ويقول عليه الصلاة والسلام : ( إذا رأيتَ أمتي تهاب الظالم أن تقول له : أنت ظالم , فقد تـُودِّع منهم ) ..
ويجب أن يكون معلوماً , أن الحياة هذه تخضع لناقد خبير وبصير , يده فوق كل الأيدي , وهو يبديء ويحصي ويعيد , وأن أئمة الجور , لن يكونوا بمنجاة من عقاب الله , وأخذه الأليم والشديد , حينما يقرر سبحانه وتعالى ذلك في الوقت المناسب ..
والحياة تـُقـرأ على هذا النحو , وتـَبعث إلى الجائرين : رسائل تتهددهم , وتنالهم من حيث لا يشعرون , وتحيط بهم من جراء أعمالهم , إحاطة السوار بالمِعصم , ولا يواريهم ملجأ ولا مَـنجم .. وتنذرهم بسوء المنقلب والمصير والمَغـْرم ..
كـَشفُ النقاب , عن واقع هذه الحياة , التي غدت فريسة الجائرين , والمفسدين والظالمين , ليس إلا بكلمة الحق , التي تـُفصح وتـُصرح وتـُعريِّ المواقف , وتحول دون أن تكون لأعداء الحق والرحمة , مصداقية وجذور قوية , فإنما مثلهم : كلمة خبيثة كشجرة خبيثة , اجْـتـُثـَّتْ من فوق الأرض ما لها من قرار ..
لست أزعم أنني قلت كلمة حق , عند سلطان جائر , بل قلت أدبيات وتجليات ومفاهيم , توضع على الطريق , وتـُنصب معالمَ ينتهي إليها البشر , ويهتدي بهداها كل من يريد أن يسهم في نصرة العدل , وخذلان الجور والظلم , وأن يكون من الذين يخشوْن الله , ولا يخشون أحداً سواه , ويقنع بالحلال , وعيشة المؤمنين الصابرين ..
ولعلنا بهذا البيان , نكون قد قرأنا بفهم وبوعي , قوله عليه الصلاة والسلام :
( أفضل الجهاد : كلمة حق عند سلطان جائر ) ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. عبد الرحمن
22 رمضان المبارك 1431 هـ ــ 1 أيلول 2010 م