أبو الفداء
06-10-2010, 03:36 PM
الحمد لله الذي خلق كل شيء وقدره تقديرا، بث في الأرض من كل دابة، وخلق آدم بيده على صورته ونفخ فيه من روحه، ثم أسجد له الملائكة توقيرا .. والصلاة على خير خلقه محمد النبي الأمي، خاتم النبيين والسلام عليه وعلى آله تسليما كثيرا..
أما بعد..
فإنه لا يكاد يخفى على أحد في هذا الزمان ما لنظرية داروين الموسومة (النشوء والارتقاء) من تأثير بالغ على أصول الفكر العلمي الطبيعي والفلسفي – بصورة عامة – في بلاد الغرب في زماننا، لا سيما في أوروبا، المتصدرة في بث أوحال الإلحاد في الأرض في كل مكان، والله المستعان.
ولا يبالغ في الحقيقة من يدعي أن علوما بأكملها – تخصصات علمية مستقلة – قد قامت على أساس تلك النظرية وحدها، لا سيما فيما بين حقلي علم الأحياء الطبيعي وعلوم البحث والتنقيب الحفري التاريخي (الأركيولوجيا).. علوما تقوم أصولها – بكل ما فيها من مباحث - على تلك النظرية، قيام البناء على الأساس! ويكفي أن نشير ههنا على سبيل المثال إلى ما يسمى بعلم (الإحثاء) أو Paleontology وهو ذلك العلم المعني بدراسة ما يسمى بالتاريخ الطبيعي (وهو تاريخ ارتقاء الكائنات بعضها من بعض بناءً على نظرية داروين)! فهذا العلم ربيب لتلك النظرية، فبقاؤه – كله بكل ما فيه من مباحث – مرهون ببقائها، وزواله بزوالها، والمطالع كذلك لفلسفات الغرب خلال القرنين الماضيين يلمس بجلاء ما لهذه النظرية من تأثير في كافة حقولها عندهم، ولا تكاد اليوم تقف على كتاب من كتاب الفلسفة الغربية المعاصرة – حتى فلسفة الأخلاق والأديان – إلا وترى فيه تقريرا – بالتضمين أو التصريح - لتلك النظرية وبناءا عليها!
فكانت سنة الله في هذه الأمة كما قررها سيد المرسلين بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم.. أن يخرج من يتبع سنن اليهود والنصارى في التعامل مع هذه النظرية (... شبرا بشبر وذراعا بذراع)! فمما يؤسف له أشد الأسف، أن نرى من عقلاء المسلمين من يضربه الوهن والهزيمة النفسية في مقتل، كما ضربت كثيرا من النصارى الغربيين من قبل، من علماء الطبيعيات والفلاسفة المتصدرين لمناقشة الملاحدة في دعاواهم المعاصرة، فإذا هم يتلمسون موطنا وسطا بين تلك النظرية وما جاءنا من خبر الخلق في نصوصنا، يرومون الجمع بين المتناقضين من حيث لا يشعرون!
يقول قائلهم – كما قالت النصارى من قبل: "ليس في نصوصنا ما يمنع من قبول أصل نظرية داروين وفكرة ارتقاء الكائنات من بعضها البعض بصفة عامة، فبوسعنا أن نقول إن ذلك كله إنما كان من تقدير الرب جل وعلا، مع استثناء خلق آدم عليه السلام لما جاء فيه من النص الصريح"! ويقول القائل منهم (ينقل كلاما لا يعي حقيقته): "الارتقاء Evolution حقيقة علمية مجمع عليها في سائر دوائر العالم العلمية، فلا يمكننا إنكاره، وإنما نقول إن الله قد خلق به خلقه على ذلك النحو البديع الذي نراه، في عملية طويلة دامت عبر بلايين من السنين على سطح الأرض"! (يقلد في ذلك دعوى علماء النصارى المشتغلين بالرد على الملاحدة في أوروبا، حذو القذة بالقذة)، بل رأينا من ذهب إلى أبعد من هذا، وخالف صريح القرءان وقال بما معناه: "لا مانع من قبول نظريات التاريخ الطبيعي بأكملها، والقول بأن آدم عليه السلام كان سليلا للقردة العليا، اصطفاه الله وذريته من جنس بدائي بائد، ليرتقوا إلى تلك المنزلة التي نراها الآن لبني آدم في الأرض"!!
فيا لله كيف اهتز اليقين في تلك النفوس المسكينة، في قضايا غيبية لا سبيل إلى الوقوف على خبرها وحقيقة ما جرى فيها – أصلا - إلا بنص من الرب جل وعلا، فراحوا يتأولون النصوص خرقا للإجماع وهدما لفهم الأمة عبر قرونها المتطاولة لما بين يديها من نصوص الوحي، وراحوا يتلاعبون بها تلاعب النصارى وغيرهم من أهل التحريف والتبديل، وكأنما وضعهم هذا "الداروين" في مأزق وضيق عليهم الخناق وأحرجهم، فلم يجدوا إلى خروج من سبيل إلا بالرضوخ له ولمن صار يدين بدينه الجديد ممن أحكموا سيطرتهم على دوائر البحث الأكاديمي في أوروبا وغيرها، يقولون كما قالت قريش للذي بعثه الله فيهم بالحق، "نعبد إلهك يوما وتعبد آلهتنا يوما"!!
ويجهل إخواننا أن تلك الطائفة المهزومة من النصارى قد أصبح المثقفون في أوروبا يسمونهم بالخلقيين creationists وكأنما صار الخلق – بسبب طريقة هؤلاء المساكين المفتونين في المنافحة عن معنى الخلق - لا يزيد على كونه "نظرية" قابلة للأخذ والرد، يُطلب التدليل عليها كما يطلب على غيرها من فرضيات العلم الطبيعي أو الفلسفي!!! ووالله الذي لا إله إلا هو، ما رأت البشرية انحطاطا للعقل كما رأت على أيدي هاتين الطائفتين جميعا، المتنازعتين على وجود الرب جل وعلا، يقولون "لأهل الدين (نظرية) في نشأة الكائنات على الأرض (ألا وهي الخلق)، ولأهل العلم نظرية أخرى، ولكل من الفريقين أدلته"!!!
ولست في هذا المقال بالذي يروم هدم جهود إخوانه ممن انفردوا على ساحة الدعوة إلى الله تعالى في الغرب وفي بلادنا بالتصدي للملاحدة وأضرابهم، ولكنه نداء توجيه وتحذير، أوجهه إلى كافة المشتغلين بالرد على الملاحدة والمتكلمين في تأصيل موقف المسلم من قصة الخلق وتاريخ الكائنات على سطح هذه الأرض ومن نظرية داروين وما جاء به من البضاعة = أن اتقوا الله والزموا سبيل المؤمنين من قبلكم في هذا كما في غيره، ثم تعلموا – رعاكم الله - تلك النظرية الفاسدة على حقيقتها وافقهوها حق الفقه، فإن فعلتم فسيظهر لكم من قبل ما كان خافيا عليكم، وسيظهر لكم بطلان ووهاء كثير مما أعجبكم من طرائق للنصارى الغربيين في الرد على هؤلاء الدراونة! وسيتبين لكم أنه ليس بعد الهدى إلا الضلال، وأنه ليس بين الحق والباطل إلا باطل مخلوط بحق مدخول!
فاعلموا حفظكم الله وسددكم أن نظرية داروين في أصل الأنواع إنما تقوم – في أصلها الفلسفي – على مطلب إيجاد آلية عشوائية – أي لا تحتاج إلى قوة خارجية لتوجيهها وحكمها وضبطها – لنشوء تلك الكائنات على سطح الأرض، بدءا من أصل الخلية الواحدة! (ولك أيها العاقل الكريم أن تتأمل في وصفي الآنف للآلية بأنها عشوائية، وجعل العشواء آلية، وتنعم النظر في هذا الوصف: ففيه أصل الفساد في نظرية داروين لو تأملته!) فما كان إلا أن وضع داروين تلك الآلية فيما يسمى بالانتخاب الطبيعي Natural Selection بالإضافة إلى ما يسمى بالطفرة العشوائية Random Mutation . ولهذا لم يسم داروين كتابه الأول (أصل الكائنات بالارتقاء) وإنما (أصل الكائنات بالانتخاب الطبيعي)! وهذه الآلية هي إضافته التي حولت تلك النظرية من مجرد فكرة فلسفية قديمة إلى نظرية في علم الأحياء على نحو ما نرى.. فما حقيقة الانتخاب الطبيعي هذا وكيف تعمل تلك (الآلية)؟
تقوم فكرة الانتخاب الطبيعي ببساطة على افتراض أن التكيف مع الطبيعة شرط كان الأصل في سائر ما جاء إلى الأرض من كائنات هو العجز عن القيام به والتخلف عنه (على اعتبار أن تلك الكائنات ليست بمخلوقة ولا جاءت إلى الوجود بفعل فاعل مريد ذي قدرة وإرادة)، فكان مصيرها جميعا الهلاك والانقراض إلا ما كان منها سعيد الحظ بظهور جين جديد في خلاياه (بالطفرة العشوائية ونحوها) أفضي إلى ظهور عضو جديد أو وظيفة جديدة أو نظام بيولوجي جديد في ذلك النوع بعينه، أعانه على التكيف مع الطبيعة (كالمفتاح مع القفل على حد تشبيه دوكينز)، فلم يهلك ذلك الكائن، واستمر نوعه وبقي، وبهذا تكون الطبيعة قد "انتخبته" دون غيره من الكائنات ليبقى في الأرض، ولتنزل منه سلالة من كائنات أخرى، يهلك ما يهلك منها حتى تأتي الطفرة العشوائية السعيدة ليبقى منها ما يبقى، فكلها جاءت إلى الأرض بأمثال تلك الطفرات العشوائية التي وصلت بنا في النهاية – وبعد بلايين السنين – إلى هذا الحال الذي نراه على سطح الأرض!
هذه أيها الموحدون الكرام، وباختصار شديد، حقيقة ما يسمى بنظرية داروين في أصل الأنواع. يؤمن هؤلاء السفهاء بأن الحياة يمكن أن تنشأ على هذا النحو البديع الذي لا تكاد تدرك عظمته عقولنا، من خلال تراكم طويل لخطوات من الإضافات العشوائية الكثيرة التي لم تلتزم نسقا معينا ولا طريقا مخصوصا، حتى وصلت في النهاية إلى هذا الحال المحكم تام الإحكام الذي نراه الآن من حولنا في كل مكان! فأين عقولهم هؤلاء إذ يصفون العشواء التي لا حاكم لها، بأنها آلية محكومة تنضبط بقوانين الطبيعة عبر بلايين السنين، وكيف يغفلون عن ذاك التناقض العجيب؟؟ وأين عقولهم إذ يصفون الكائنات بالنشأة العشوائية، ويغفلون عن ضرورة الإرادة والتقدير في صياغة تلك العلاقة البديعة – من الأصل – بين الطبيعة والمخلوقات، وبين المخلوقات وبعضها البعض، التي هي شرط لبقاء الكائن و"انتخابه" بالأساس، كتلك العلاقة بين المفتاح والقفل التي ضربوا بها المثل؟؟ هؤلاء أسفه أهل الأرض عقولا، ولا عجب في هذا! ولكن العجب كل العجب، والمصيبة كل المصيبة، فيمن افتتن بهم من عقلاء المسلمين وراح يقول إن الإسلام ليس فيه ما يمنع من قبول نظرية داروين بعمومها فيما عدا ما يتعلق بخلق آدم عليه السلام!! شيء مخجل والله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
بأي عقل ودين يقبل المسلم الموحد التسليم بصحة هذه "الآلية" العشوائية العمياء، يدعي أن الله قد أجراها بإرادته وعلمه وتقديره؟؟ أي تقدير هذا وأي إرادة بقيت إذن يا أيها العاقل الفطن؟؟
إن كانت تلك الطفرات الجينية في زعمك يا مسكين ليست عشوائية وإنما قدرها الله تقديرا، كل منها في وقتها وحينها، فقد أبطلت معنى الانتخاب الطبيعي رأسا، وجئت بما يناقض (آلية) داروين التي ما فرح بها الملاحدة إلا لأنهم عدوها أول بديل مقبول لمعنى الخلق، يغني عن وجود الخالق!! فإن كان الله تعالى قد قدر تلك الطفرات التي يسميها الداروينيون بالعشوائية، فهو كذلك – ولابد – قد قدر أي الأنواع يبقى وأيها ينقرض، وهذا يهدم معنى الانتخاب الطبيعي رأسا ولا شك! ومع أننا لم نر مثل هذه الطفرة قط في تاريخ وجودنا على هذه الأرض (رأينا تكيفا للكائنات وتحورا لها جينيا، نعم، ولكن لم نر نشأة عضو جديد لوظيفة جديدة في كائن حي أبدا!!!) إلا أن من إخواننا من لا يرى مانعا من قبولها كطريقة يخلق الله بها الأنواع الجديدة على الأرض، من أنواع أخرى مشابهة!!
وأنا لا أقول إنه يمتنع عقلا أن يخلق الله بعض الكائنات الجديدة والأنواع الجديدة من خلال التغيير الجيني (وهذا نراه واقعا بالفعل)، بل ولا يمتنع عقلا ولا شرعا أن ينشئ الله جينات جديدة في نوع ما فتصير نوعا آخر (وإن كنا لم نر هذا من قبلأ)! لا يزال الله قادرا على ما يشاء، فعالا لما يريد وقتما يريد.. ولكن القصد أن الإخوة يتكلمون بمثل هذه الممكنات من منطلق (وما المانع؟)، في مقام النظر فيما جاء به داروين وتقرير ما جرت عليه قصة الخلق على الأرض! فلو أنهم قرأوا وفهموا أصول تلك النظرية حق الفهم لعرفوا ما المانع! ولو أنهم قرأوا قصة الخلق فيما جاء في كتاب الله تعالى وما صح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاكتفوا بها، ولما أشغلوا بالهم بتلك المحاولات المتهافتة المخزية للجمع بين الحق والباطل، وتصور قصة الخلق من منظور (ارتقائي) أو (دارويني)! بل لفهموا وأدركوا ما في وصف الكائنات بأنها (ترتقي) من تنقص واضح وحط من قدرة الخالق جل وعلا، إذ خلق في الابتداء أنواعا لا ترقى ولا تصلح، ثم أصلح خلقه ذاك "بالترقية"، سبحانه وتعالى عما يصفون!!
فإن قالوا إننا نرى بجلاء ظاهرة التكيف في الكائنات، والتغير الجيني الذي يفضي إلى ذلك التكيف، فهذه حقيقة "الارتقاء"، قلنا لهم ليس التكيف ارتقاءا! وإن كان التكيف حقيقة نراها فليس الارتقاء بحقيقة!! التكيف Adaptation إنما هو انتقال من حالة سابقة لمخلوق بديع الصنع تام الإحكام والتقدير في بيئته التي كان يعيش فيها، إلى حالة جديدة يكون بها تام التوافق مع بيئة أخرى جديدة صار الآن يعيش فيها، كيفا بعد كيف، وتوافقا بعد توافق، واتزانا محكما من بعد اتزان! أما الارتقاء evolution فانتقال عشوائي من وضع منحط ناقص، إلى وضع تصادف أن صار يرقى للبقاء والتوافق مع البيئة، فكان الانتخاب والبقاء لما هكذا صفته!
وفي الحقيقة فإن خير ما يوصف به دعاة الداروينية أنهم يؤمنون بذلك الخالق الذي سماه إمامهم في العصر الحديث ريتشارد دوكينز "بصانع الساعات الأعمى" The Blind Watchmaker معارضة لمثال ويليام بالي الذي ضربه لدقة الخلق بعمل صانع الساعات. ذلك بأنهم في الحقيقة لم يبطلوا وجود الخالق جل وعلا ولا يستطيعون، وإنما غاية ما فعلوا أن جعلوه خالقا أعمى ناقص العلم مسلوب الإرادة، وضع نظاما للحياة من طبيعة وكائنات تعيش فيها، وضبط متغيرات الكون كلها بما يناسب الحياة على الأرض، ثم راح يتخبط خبط عشواء في إنشاء تلك الكائنات، لا يدري أيها سيبقى وأيها سيفنى ومتى ولماذا!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فهذه حقيقة ملة الداروينيين: صانع الساعات الأعمى!
وهم ينافحون بشدة ضد من يقول إن نظريتهم مفادها أن الحياة نشأت نشأة عشوائية، يقولون الانتخاب الطبيعي ليس عشوائيا، ومن قال بهذا القول فلم يفهم الانتخاب الطبيعي! إنما هو آلية ونظام مستمر، متقيد بقيود قوانين الطبيعة! فإن جئت تلزمهم باللازم الواضح لهذا التقرير منهم، وهو الضرورة العقلية لوجود قائم على ذلك النظام يضبطه ويقيده بذلك القيد من أوله إلى آخره، حتى وإن كان خالقا يعبث بالطبيعة ويضرب ضرب العشواء فيها على حقيقة اعتقادهم (تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا)، قالوا كلا إنما هي صدفة بعد صدفة، وحدث عشوائي بعد حدث عشوائي، ومثل هذا لا يوصف بأن له منظما أو ضابطا يضبطه من الخارج!! فلا سبيل لمجادلة من يضاد عقله الذي في نفسه على هذا النحو، ويقلب ثوابت المنطق واللغة رأسا على عقب، يروم الاستدلال لإثبات المعاني الواضحة التي لا يماري فيها العقلاء، تلك المعاني التي لو اختلف في مثلها اثنان لم يبق لأداة العقل عند أي منهما كبير فائدة!
وأكرر، لا عجب من هؤلاء، فالسفاهة من أهل السفاهة لا تُستغرب! ولكن العجب العجاب ممن جاءنا من المسلمين يقول إنه لا يبعد أن يكون الله تعالى قد أنشأ الكائنات على الأرض على نحو ما تقول نظرية داروين!
ولعل قائلا منهم يقول: ما المانع من أن نقول كما قالت بعض النصارى موافقة لما عند علماء الأحياء (يعني الملاحدة) من نظريات، إن الله بدأ الخلق في بحيرة دافئة كانت فيها تلك الأحماض الأمينية والبروتينات التي تتكون منها الخلية، فضربها الله ببرق أو نحو ذلك فنشأت الخلية الأولى، ثم تركها بعد ذلك لترقى وتتعقد ببطء شديد، طفرة بعد طفرة على نحو ما قال الداروينيون، بلا "تدخل" منه في سيرها، حتى جاء وقت مجيء آدم، بعدما استوت الكائنات واستعدت لاستقباله، فخلقه في الجنة كما أخبرنا ثم أهبطه إلى الأرض ليجدها كما وجدها؟؟ هذا لا يتعارض مع قوله تعالى إنه خلق كل شيء وقدره تقديرا!
وأقول لهؤلاء: إن مثل هذا التصور باطل بطلانا لا أكاد أحصي أدلته من العقل والنقل، ولا أدري – والله – من أين أبدأ لبيان ذلك!! هذا كلام من لم يقرأ كتاب الله يوما قط! أي شيء يحملنا على قبول هذه الخرافة أصلا وبأي بينة؟؟ وهل وضعها واضعها إلا سعيا لتصور نشأة عشوائية للحياة دون خالق أصلا؟؟ وهل وقف هؤلاء المنهزمون الجهلاء يوما على آيات امتنان الرب جل وعلا على الناس بخلق الدواب والأنعام باختلاف ألوانها وأشكالها وما جعل الله في كل منها من نفع سخره لبني آدم تسخيرا؟ إن شطرا كبيرا من كتاب الله في هذا المعنى، فهل قرأه هؤلاء يوما ما؟ فمن أين له هذا المسكين القول بأن الله بدأ خلق الدواب من خلية واحدة في بحيرة؟ أأشهدهم الله حدث الخلق الأول وأوقفه عليه، أم يقولون على الله ما لا يعلمون؟؟ ستكتب شهادتهم ويسألون!
لا شيء عند المشتغلين بما يسمى بعلم أصل الحياة Abiogenesis (وهو أيضا من شعب العلوم القائمة قياما تاما على نظرية داروين) يرقى لأن يسمى دليلا أصلا، وما هم إلا قوم سفهاء يرومون محاكاة حدث النشأة الأولى هذا في المعمل (يتوهمون لسفاهتهم أنهم لو وفقوا في هذا فسيكون ذلك دليلا – وتأمل - على أن الحياة نشأت في بحيرة بلا خالق وبلا أي قوة خارجية تضبط وتجهز لذلك الحدث الفريد مثل تجهيزهم لتلك التجربة في المعمل!! فإن زعم أصحاب تلك التجارب أن الحياة نشأت على هذا النحو فهم ملاحدة على أي حال لا عقل لهم ولا يهتدون! أما هذا الموحد الذي يقول على الله بغير علم، يرجم بالغيب رجما، يقول أنشأ الله الدواب على الأرض بطريقة كذا وكذا كما قال داروين وغيره، يوافق ما زعمه هؤلاء السفهاء، فهذا حقه أن يعزر وينكل به تنكيلا!
ينبغي أن يكون واضحا لدى المسلمين جميعا أن هذا الحدث الفريد، حدث الخلق الأول، لا يمكن – عقلا – أن يستدل على شيء من أحداثه بالنظر فيما نراه الآن من حولنا في السماء والأرض! إذ هذه الأحداث التي نراها في الكون إنما بدأت بعد الحدث الأول الذي خلقت به ولابد! وكذلك الدواب، ما نراه اليوم من أحداث تجري بين أنواعها، لا دخل له بما جرى في حدث خلقها الأول، ولا يستدل بهذا على ذاك! فمن القضايا الفلسفية التي يأخذها الدراونة مأخذ المسلمات، وكأنها غير قابلة للنقاش = قضية الاستمرارية الكونية Uniformitarianism وهي الآن معدودة من أركان علم الجيولوجيا التي لا خلاف في صحتها. وفي الحقيقة فإن علماء الجيولوجيا لو لم يفترضوا استمرارية العمليات والأحداث التي تجري الآن على الأرض كما هي في الماضي فإنهم لن يمكنهم الخروج بشيء ذي بال فيما يتعلق بتاريخ للأرض وطبقاتها الظاهرة! ونحن لا نمانع من قبول ذلك الاقتراض فيما لا يظهر لنا – بالدليل الحسي أو العقلي أو النقلي – ما يمنعه.. فنقول مثلا: بما أن الطبقة الفلانية على سطح الأرض تتكون اليوم حيث تتكون بمعدل كذا، فإن هذا يعني أن الطبقة المشابهة التي سماكتها كذا التي نجدها في موضع كذا، يكون عمرها – بالقياس – كذا وكذا.. هذا المنطق في القياس مقبول بالجملة لا نرفضه، وهو يفضي إلى استنتاج ظني بشأن تاريخ تلك الطبقة.. ولكن إن جاءنا دليل آخر أقوى من هذا، يفيد بأن هذه الطبقة كانت أقصر عمرا مما دل عليه ذلك القياس، قدمنا الدليل الأقوى، وخرقنا مبدأ الاستمرارية هذا ولم يلزمنا إطراده! فإن القائلين به – وهو محل إجماع عندهم – لا يمنعون من ظهور ما يخرقه في تاريخ الأرض من كوارث أو نحوها..
فالآن عندما يأتينا قوم يريدون تطبيق هذا المبدأ نفسه على أصل خلق الأرض نفسها، يقولون إن استقراء ما يجري على طبقات الأرض من تغير وتحول تدريجي، يمكن أن يفيدنا بمعرفة عمرها الافتراضي وتاريخ نشأتها الأولى، فهل هذا الاستدلال نقبله منهم؟ لا نقبله! لماذا؟ لأن نشأة الأرض الأولى لم تكن حدثا متوسطا بين حدثين مماثلين في تاريخ الأرض، فيمكننا تحديده باستخدام تلك الطريقة الإطرادية في قياس ترتيب الأحداث في تاريخها قياسا على ما نراه الآن من ذلك، وإنما هو الحدث الأول الذي به خلقت الأرض نفسها بما فيها، يوم بسطها الله ودحاها وجعلها على نحو ما نرى! فمن الطبقات القديمة التي يرجع بها الجيولوجيون تاريخيا إلى بلايين السنين إعمالا لقاعدتهم هذه، ما لا يبعد أن يكون قد خلقه الله على هذا النحو يوم خلق الأرض وبسطها، في حدث واحد لا بالتراكم عبر بلايين السنين! فنحن لا ندري ولا يمكننا أن ندري كيف خلق الله الأرض في ذلك الحدث الأول، ولا يمكننا – بضرورة العقل – أن ندخله في تلك السلسلة القياسية الاستمرارية! وكذلك حدث الطوفان، طوفان نوح عليه السلام، هذا حدث لا شك أنه قلب الأرض رأسا على عقب في تاريخها الجيولوجي، فمجرد افتراض أنه لم يتغير شيء في سير النظام الكوني بعد حدث كهذا عما كان قبله = افتراض لا يقبله المسلمون! وهنا قضية فلسفية وأصولية دقيقة شديدة الأهمية، أرجو أن ينتبه إليها إخواننا من المشتغلين بفلسفة العلوم وبعلم الجيولوجيا .. لا سيما وقد رأينا منهم من يتحمس أشد الحماسة لنظرية الانفجار الكبير هذه يعدها مما يدلل على صحة الوحي!!
الفرق الجوهري بيننا وبين الملاحدة، أن الملاحدة لا يملكون إلا ما يرون الآن من القرائن من حولهم، أما نحن فلدينا من نصوص الوحي المعصوم الثابتة عندنا ما يفيدنا بما يجهل هؤلاء من خبر الماضي البعيد، ذلك الماضي الذي يحلمون بمعرفة أسراره وقد رموا خبر السماء فيه وراء ظهورهم، فصاروا لا يملكون إلا افتراض استمرارية ما يرونه الآن من أحداث في الكون وصولا إلى غور الماضي السحيق كطريق لمعرفة ما جرى فيه! فإن قالوا لنا إن نظرية الانفجار الكبير تقول إن الكون بدأ بانفجار، وقد دلنا على ذلك ما نراه من انتشار للسحب الكونية وما نراه الآن من توسع مطرد للكون وأجرامه ونحو ذلك، قلنا لهم لا يلزم – عقلا – أن يكون ذلك التوسع مستمرا من الماضي السحيق كما هو بداية من نقطة واحدة أو جرم واحد!! فإنه لا يبعد – عقلا – أن يكون الكون قد بدأ من جرمين كبيرين، انفجر أحدهما وبقي الآخر حيث لا نره – مثلا! أو أن يكون قد بدأ على نحو انكماشي انقباضي، ثم راح يتوسع إلى حد معين ثم رجع للانكماش وهكذا ونحن الآن في مرحلة من مراحل التوسع (وهذه نظرية يقول بها بعض الفلكيين الآن بالمناسبة!)! ولا يمتنع – وبنفس النسق العقلي – أن يكون الكون قد خلقه الله على نحو ما وصف لنا في القرءان والسنة، ثم حرك أجرامه في أفلاكها حتى جئنا نحن اليوم لنراه يتحرك ويتوسع على نحو ما نراه!! ولا يلزم أن يكون حدث الخلق الأول للكون انفجارا أصلا كما يدعون! وإنما هو كما وصفه الله، ووصفه رسوله، نقف عليه بلا زيادة ولا نقصان .. ولو كان ينفعنا العلم بالمزيد من خبر ذلك الغيب البعيد لأخبرنا به الملك الشهيد! الانفجار حدث تتناثر فيه الأجزاء المتفجرة عشوائيا كما لا يخفى من مجرد معناه!! فكيف ينسب هذا المعنى إلى الخالق جل وعلا في بنائه الأرض والسماء وإنشائه إياهما إنشاءا؟؟ وإن قالوا نحن لا نقول إنه انفجار عشوائي كما يدعون وإنما نقول إن الله أحدثه وأجراه على نحو ما أراد، فلماذا يتمسكون بمعنى الانفجار Bang ويحتجون على صحة القرءان به، مع أنه لم يقل بمثل هذا المعنى أحد ممن فسروا آيات الخلق في قرون أمتنا قط؟؟ الله وصف في القرءان تفجيره للماء من العيون، فلماذا لم يصف خلق الأرض والسماء بالتفجير كذلك؟؟؟ لماذا نعتصر أعناق كلام المفسرين لنخرج بما يوافق نظرياتهم؟! ولماذا تقبلون معاشر المسلمين من هؤلاء سعيهم للتنظير والافتراض في كيفية نشأة السماوات والأرض أصلا؟؟ ألا يكفيكم ما جاءكم من خبر الخلق في النص؟؟
نحن المسلمون نرفع أخبار الخلق عندنا فوق ما يتبعون من الظنون، ولا يعنينا اتفقاهم على خلاف ما عندنا إن اتفقوا، ولا يرهبنا ذلك ولا نتهيبه! وكذا لا يحملنا ما قد يظهر في بعض نصوصنا من موافقة لشيء مما افترضوه في نظرياتهم على الاندفاع إلى قبوله منهم وجعله آية من آيات صدق النبوة دونما تمحيص وتحقيق لمراتب الاستدلال العلمي المتبع في القول بتلك النظريات! وأصلنا الأصيل وركننا الركين أنهم مهما قالوا ومهما استدلوا، فلا شيء من استدلالاتهم يمكن – عقلا – أن يرقى لرد أو إبطال ما لدينا، بالنظر إلى قوة أدلتنا في الدلالة على ما عندنا في مقابل أدلتهم.. ولا يحملنا – وهو المعنى المهم في هذا المقام – على مثل ما حمل عليه النصارى من تحريف لمعاني النصوص في الكتاب كما صنعوا بسفر التكوين إذ قلبوه بأكمله إلى ضرب من المجاز حتى لا يقال إنهم ردوا ما جاء به العلم الحديث وتمسكوا "بأساطير الأولين"!!!
ما أخبرنا الله به في نصوصنا هو الحق كما أخبر، ولا يملك أحد من الخلق من الدلائل ما يمَكِّنه من معارضة تلك الأخبار أو إبطالها بحال من الأحوال! ونحن نتحدى أعلم فلاسفة الأرض جميعا أن يأتينا بدليل واحد يرقى – عقلا – لمخالفة ما صح به النص عندنا من أخبار الخلق الأول، سواء خلق السماوات والأرض أو خلق الدواب والحياة على الأرض!!
فإن علمنا هذا وفرغنا منه، وقررنا أنه لا معارضة لما جاءنا به النص من معاني الخلق، بقي أن نسأل إخواننا: لماذا – إذن – تنهزم أنفسكم وتضعف بإزاء تلك النظريات وكأنها وحي منزل، ونراكم ترومون لي أعناق نصوصنا حتى توافقها، بل تستنطقونها بتلك النظريات أحيانا؟؟ وكيف يصل بكم ذلك النزع الذميم إلى حد قبول نظرية تقوم قياما تاما على نفي القدرة الخالقة والإرادة الخارجية عن سير الحياة على الأرض وعن نشأتها، لمجرد أن صارت من مسلمات بعض العلوم في زماننا؟؟ وإن قلنا باستمرارية ما يجري من تغير في الكائنات إلى عمق التاريخ على الأرض، فأين ما عليه قلتم بالقياس إن الكائنات الحية نشأت كلها – من حيتان وطيور ودواب وحشرات – من أصل واحد ؟؟؟ أرأيتم ولو لمرة واحدة طائرا ينشأ بالتطور من زاحف (مثلا)؟؟ ليس يوجد أصلا فيما نرى الآن من أحداث بين الكائنات الحية ما يمكن أن نطرده استمرارا بإعمال هذه القاعدة القياسية، لنصل في النهاية إلى القول بقبول شجرة الارتقاء التي تبدأ عند الكائن أحادي الخلية!!! ولا يفيدهم التقارب بين صور الكائنات، ولا يخدمهم ترتيب الطبقات الجيولوجية التي وجدوا فيها ما وجدوا من الحفريات، لأن تلك القرائن الظنية – مهما كثرت وتراكمت – لا ترقى لمعارضة العقل الصريح الدال على ضرورة الخلق المحكم المتقن – لا هذا الارتقاء العشوائي المخزي الذي لا يحكمه حاكم – ولا لتكذيب ما جاء به النص عندنا من خبر الخلق!
فأكرر إن الأمر الذي ينبغي أن يفهمه عقلاء المسلمين أن تلك النظرية ما وضعت إلا لجعل العشواء (على سلسلة متتابعة عبر بلايين السنين) بديلا للخلق المحكم والتقدير المتين! فلو قلتم لهم الله هو الذي فعل هذا كله عبر تلك البلايين من السنين لأجابوكم – كما قال بعضهم تصريحا – بأن هذا من العبث لأن نظريتنا تقوم على الزعم بأنه لا يلزم أن يكون هناك خالق أصلا ليقوم على تلك العملية كما نصفها!! فإن لم ينتبه الموحدون إلى هذا المعنى، ولم يجعلوا ديدنهم إبطال تلك العملية أو الآلية من أصلها وإرجاع الأمر إلى نصوص الوحي في هذا وحدها دون غيرها، فقد قالوا على الله بغير علم، مقالة شديدة المذمة – والتناقض في ذات الوقت - كالتي قالها النصارى، حاصلها أن الله بدأ الحياة على الأرض ثم تركها وأخذ يشاهدها من الخارج لتجري بلا توجيه ولا إرادة حتى تصل إلى الحالة التي كان يريدها من قبل حتى يخلق فيها الإنسان ويجعلها كما نراها الآن!! فإن كان من شيء فإن هذا لازمه نفي العلم عن الله ونفي إرادة خلق آدم وابتلائه في الأرض، ونفي القضاء والقدر والحكم الرباني على سائر ما يجري على الأرض من أحداث، ونفي القيومية والكفر بأكثر صفات رب العزة جل وعلا التي ما استساغ النصارى مثل هذا القول الساقط إلا لجهلهم بها وتضييعهم لها في كتابهم!!
فكيف يغفل هذا المسكين عن لازم قوله إن الله بدأ الخلق الأول ثم "تركه" و"لم يتدخل فيه"؟؟ أهو وصف لله بالغفلة أم بالغياب أم بالانشغال عن الخلق وإهماله أم ماذا؟؟؟ ألا يعي من يقبل من الدارويينيين قصتهم هذه ما يلزمه من هذا القبول؟؟
إنه والله قول أشد ذما لله من قول أهل الكتاب إنه سبحانه "استراح" في اليوم السابع، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!!
((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) [الحج : 65]
((إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)) [فاطر : 41]
((أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [النحل : 79]
((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)) [الأنبياء : 16]
النصارى لغرقهم في الجهل والضلالة لم يجدوا مانعا من قلب نصوص كتابهم (كتاب الخلق) كلها إلى المجاز حتى لا يظهروا بمظهر مروجي الأساطير القديمة الذين لا يزالون – في القرن الواحد والعشرين! – يقولون بحرفية هذه الروايات، يعارضون بها ما جاء به "العلم الحديث"!!! وهذا الضرب من ضروب التحريف نعرفه، وقد عرفته سائر ملل الأرض من قبل، وما ضلت أغلب طوائف المبتدعة من أهل القبلة إلا بالوقوع في مثله: الانصراف إلى خلاف المعنى الظاهر من النص الذي كان عليه الأولون، وصولا إلى حد التأويل الباطني، بلا قرينة ولا بينة إلا الشبهة العقلية الواهية واتباع الهوى! يقولون لو حملنا هذا النص على ظاهره لعارضنا الدليل العقلي (وليس إلا معنى فاسدا جاءت به عقولهم بلا سلف ولا إمام) أو لعارضنا النظرية الفلانية التي أجمع عليها أهل الأحياء – بدعواهم – أو لوقعنا في التشبيه والتجسيم ... إلى آخر ما في تلك القلوب المتشابهة، والله المستعان!
فهل أنتم ذاهبون إلى أمثال تلك التحريفات والتبديلات؟؟
وأنا أعجب والله كيف يقبل المسلم الموحد من هؤلاء قصة مخزية سفيهة كقصة ارتقاء العين ونحوها (مثلا)، يقول إن الله أجرى هذا الارتقاء بعلمه وحكمته وتقديره؟؟ أما تستحون يا هؤلاء؟؟ ألا تتقون الله؟؟ أم تراكم لا تفهمون ما جاء به داروين؟؟ إن كنتم تجهلون فتلك مصيبة، وإن كنتم تعلمون فالمصيبة أعظم!!
فالحاصل يا عباد الله أنه لا يمكن للمسلم الموحد أن يقبل ببعض نظرية داروين دون بعضها، لأنها إنما تقوم قياما كاملا – في أصل آليتها التي جاء بها داروين - على تنحية العقل والإرادة والتدبير الخارجي (وما يلزم من معاني الخلق الواضحة الجلية شديدة الجلاء لسائر العقلاء) عن قصة نشأة الكائنات على سطح الأرض! فأي جزء منها هذا الذي يمكن للمسلم قبوله، وبأي برهان؟؟
ولماذا يا عباد الله يا عقلاء؟؟
أهو الضعف والوهن؟
أهو الجهل بحقيقة نظرية داروين وأصولها الفلسفية؟
أهو الجهل بما جاء في قصة الخلق من نصوص في دينكم؟
أهو الخوف من اتهامهم إياكم بمثل ما اتهم به السفهاءُ أتباعَ الأنبياء في كل زمان؟؟
أي شيء هذا إذن وكيف تفسرونه ؟؟؟
أسأل الله العلي العظيم أن يلهم هؤلاء رشدهم وأن يفقههم في دينهم ثم في دين هؤلاء الذين افتتنوا بهم، وأن يعجل برجوع الإسلام عزيزا في صدور أتباعه كما كان في زمان العزة والتمكين، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله
والحمد لله رب العالمين.
أما بعد..
فإنه لا يكاد يخفى على أحد في هذا الزمان ما لنظرية داروين الموسومة (النشوء والارتقاء) من تأثير بالغ على أصول الفكر العلمي الطبيعي والفلسفي – بصورة عامة – في بلاد الغرب في زماننا، لا سيما في أوروبا، المتصدرة في بث أوحال الإلحاد في الأرض في كل مكان، والله المستعان.
ولا يبالغ في الحقيقة من يدعي أن علوما بأكملها – تخصصات علمية مستقلة – قد قامت على أساس تلك النظرية وحدها، لا سيما فيما بين حقلي علم الأحياء الطبيعي وعلوم البحث والتنقيب الحفري التاريخي (الأركيولوجيا).. علوما تقوم أصولها – بكل ما فيها من مباحث - على تلك النظرية، قيام البناء على الأساس! ويكفي أن نشير ههنا على سبيل المثال إلى ما يسمى بعلم (الإحثاء) أو Paleontology وهو ذلك العلم المعني بدراسة ما يسمى بالتاريخ الطبيعي (وهو تاريخ ارتقاء الكائنات بعضها من بعض بناءً على نظرية داروين)! فهذا العلم ربيب لتلك النظرية، فبقاؤه – كله بكل ما فيه من مباحث – مرهون ببقائها، وزواله بزوالها، والمطالع كذلك لفلسفات الغرب خلال القرنين الماضيين يلمس بجلاء ما لهذه النظرية من تأثير في كافة حقولها عندهم، ولا تكاد اليوم تقف على كتاب من كتاب الفلسفة الغربية المعاصرة – حتى فلسفة الأخلاق والأديان – إلا وترى فيه تقريرا – بالتضمين أو التصريح - لتلك النظرية وبناءا عليها!
فكانت سنة الله في هذه الأمة كما قررها سيد المرسلين بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم.. أن يخرج من يتبع سنن اليهود والنصارى في التعامل مع هذه النظرية (... شبرا بشبر وذراعا بذراع)! فمما يؤسف له أشد الأسف، أن نرى من عقلاء المسلمين من يضربه الوهن والهزيمة النفسية في مقتل، كما ضربت كثيرا من النصارى الغربيين من قبل، من علماء الطبيعيات والفلاسفة المتصدرين لمناقشة الملاحدة في دعاواهم المعاصرة، فإذا هم يتلمسون موطنا وسطا بين تلك النظرية وما جاءنا من خبر الخلق في نصوصنا، يرومون الجمع بين المتناقضين من حيث لا يشعرون!
يقول قائلهم – كما قالت النصارى من قبل: "ليس في نصوصنا ما يمنع من قبول أصل نظرية داروين وفكرة ارتقاء الكائنات من بعضها البعض بصفة عامة، فبوسعنا أن نقول إن ذلك كله إنما كان من تقدير الرب جل وعلا، مع استثناء خلق آدم عليه السلام لما جاء فيه من النص الصريح"! ويقول القائل منهم (ينقل كلاما لا يعي حقيقته): "الارتقاء Evolution حقيقة علمية مجمع عليها في سائر دوائر العالم العلمية، فلا يمكننا إنكاره، وإنما نقول إن الله قد خلق به خلقه على ذلك النحو البديع الذي نراه، في عملية طويلة دامت عبر بلايين من السنين على سطح الأرض"! (يقلد في ذلك دعوى علماء النصارى المشتغلين بالرد على الملاحدة في أوروبا، حذو القذة بالقذة)، بل رأينا من ذهب إلى أبعد من هذا، وخالف صريح القرءان وقال بما معناه: "لا مانع من قبول نظريات التاريخ الطبيعي بأكملها، والقول بأن آدم عليه السلام كان سليلا للقردة العليا، اصطفاه الله وذريته من جنس بدائي بائد، ليرتقوا إلى تلك المنزلة التي نراها الآن لبني آدم في الأرض"!!
فيا لله كيف اهتز اليقين في تلك النفوس المسكينة، في قضايا غيبية لا سبيل إلى الوقوف على خبرها وحقيقة ما جرى فيها – أصلا - إلا بنص من الرب جل وعلا، فراحوا يتأولون النصوص خرقا للإجماع وهدما لفهم الأمة عبر قرونها المتطاولة لما بين يديها من نصوص الوحي، وراحوا يتلاعبون بها تلاعب النصارى وغيرهم من أهل التحريف والتبديل، وكأنما وضعهم هذا "الداروين" في مأزق وضيق عليهم الخناق وأحرجهم، فلم يجدوا إلى خروج من سبيل إلا بالرضوخ له ولمن صار يدين بدينه الجديد ممن أحكموا سيطرتهم على دوائر البحث الأكاديمي في أوروبا وغيرها، يقولون كما قالت قريش للذي بعثه الله فيهم بالحق، "نعبد إلهك يوما وتعبد آلهتنا يوما"!!
ويجهل إخواننا أن تلك الطائفة المهزومة من النصارى قد أصبح المثقفون في أوروبا يسمونهم بالخلقيين creationists وكأنما صار الخلق – بسبب طريقة هؤلاء المساكين المفتونين في المنافحة عن معنى الخلق - لا يزيد على كونه "نظرية" قابلة للأخذ والرد، يُطلب التدليل عليها كما يطلب على غيرها من فرضيات العلم الطبيعي أو الفلسفي!!! ووالله الذي لا إله إلا هو، ما رأت البشرية انحطاطا للعقل كما رأت على أيدي هاتين الطائفتين جميعا، المتنازعتين على وجود الرب جل وعلا، يقولون "لأهل الدين (نظرية) في نشأة الكائنات على الأرض (ألا وهي الخلق)، ولأهل العلم نظرية أخرى، ولكل من الفريقين أدلته"!!!
ولست في هذا المقال بالذي يروم هدم جهود إخوانه ممن انفردوا على ساحة الدعوة إلى الله تعالى في الغرب وفي بلادنا بالتصدي للملاحدة وأضرابهم، ولكنه نداء توجيه وتحذير، أوجهه إلى كافة المشتغلين بالرد على الملاحدة والمتكلمين في تأصيل موقف المسلم من قصة الخلق وتاريخ الكائنات على سطح هذه الأرض ومن نظرية داروين وما جاء به من البضاعة = أن اتقوا الله والزموا سبيل المؤمنين من قبلكم في هذا كما في غيره، ثم تعلموا – رعاكم الله - تلك النظرية الفاسدة على حقيقتها وافقهوها حق الفقه، فإن فعلتم فسيظهر لكم من قبل ما كان خافيا عليكم، وسيظهر لكم بطلان ووهاء كثير مما أعجبكم من طرائق للنصارى الغربيين في الرد على هؤلاء الدراونة! وسيتبين لكم أنه ليس بعد الهدى إلا الضلال، وأنه ليس بين الحق والباطل إلا باطل مخلوط بحق مدخول!
فاعلموا حفظكم الله وسددكم أن نظرية داروين في أصل الأنواع إنما تقوم – في أصلها الفلسفي – على مطلب إيجاد آلية عشوائية – أي لا تحتاج إلى قوة خارجية لتوجيهها وحكمها وضبطها – لنشوء تلك الكائنات على سطح الأرض، بدءا من أصل الخلية الواحدة! (ولك أيها العاقل الكريم أن تتأمل في وصفي الآنف للآلية بأنها عشوائية، وجعل العشواء آلية، وتنعم النظر في هذا الوصف: ففيه أصل الفساد في نظرية داروين لو تأملته!) فما كان إلا أن وضع داروين تلك الآلية فيما يسمى بالانتخاب الطبيعي Natural Selection بالإضافة إلى ما يسمى بالطفرة العشوائية Random Mutation . ولهذا لم يسم داروين كتابه الأول (أصل الكائنات بالارتقاء) وإنما (أصل الكائنات بالانتخاب الطبيعي)! وهذه الآلية هي إضافته التي حولت تلك النظرية من مجرد فكرة فلسفية قديمة إلى نظرية في علم الأحياء على نحو ما نرى.. فما حقيقة الانتخاب الطبيعي هذا وكيف تعمل تلك (الآلية)؟
تقوم فكرة الانتخاب الطبيعي ببساطة على افتراض أن التكيف مع الطبيعة شرط كان الأصل في سائر ما جاء إلى الأرض من كائنات هو العجز عن القيام به والتخلف عنه (على اعتبار أن تلك الكائنات ليست بمخلوقة ولا جاءت إلى الوجود بفعل فاعل مريد ذي قدرة وإرادة)، فكان مصيرها جميعا الهلاك والانقراض إلا ما كان منها سعيد الحظ بظهور جين جديد في خلاياه (بالطفرة العشوائية ونحوها) أفضي إلى ظهور عضو جديد أو وظيفة جديدة أو نظام بيولوجي جديد في ذلك النوع بعينه، أعانه على التكيف مع الطبيعة (كالمفتاح مع القفل على حد تشبيه دوكينز)، فلم يهلك ذلك الكائن، واستمر نوعه وبقي، وبهذا تكون الطبيعة قد "انتخبته" دون غيره من الكائنات ليبقى في الأرض، ولتنزل منه سلالة من كائنات أخرى، يهلك ما يهلك منها حتى تأتي الطفرة العشوائية السعيدة ليبقى منها ما يبقى، فكلها جاءت إلى الأرض بأمثال تلك الطفرات العشوائية التي وصلت بنا في النهاية – وبعد بلايين السنين – إلى هذا الحال الذي نراه على سطح الأرض!
هذه أيها الموحدون الكرام، وباختصار شديد، حقيقة ما يسمى بنظرية داروين في أصل الأنواع. يؤمن هؤلاء السفهاء بأن الحياة يمكن أن تنشأ على هذا النحو البديع الذي لا تكاد تدرك عظمته عقولنا، من خلال تراكم طويل لخطوات من الإضافات العشوائية الكثيرة التي لم تلتزم نسقا معينا ولا طريقا مخصوصا، حتى وصلت في النهاية إلى هذا الحال المحكم تام الإحكام الذي نراه الآن من حولنا في كل مكان! فأين عقولهم هؤلاء إذ يصفون العشواء التي لا حاكم لها، بأنها آلية محكومة تنضبط بقوانين الطبيعة عبر بلايين السنين، وكيف يغفلون عن ذاك التناقض العجيب؟؟ وأين عقولهم إذ يصفون الكائنات بالنشأة العشوائية، ويغفلون عن ضرورة الإرادة والتقدير في صياغة تلك العلاقة البديعة – من الأصل – بين الطبيعة والمخلوقات، وبين المخلوقات وبعضها البعض، التي هي شرط لبقاء الكائن و"انتخابه" بالأساس، كتلك العلاقة بين المفتاح والقفل التي ضربوا بها المثل؟؟ هؤلاء أسفه أهل الأرض عقولا، ولا عجب في هذا! ولكن العجب كل العجب، والمصيبة كل المصيبة، فيمن افتتن بهم من عقلاء المسلمين وراح يقول إن الإسلام ليس فيه ما يمنع من قبول نظرية داروين بعمومها فيما عدا ما يتعلق بخلق آدم عليه السلام!! شيء مخجل والله، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
بأي عقل ودين يقبل المسلم الموحد التسليم بصحة هذه "الآلية" العشوائية العمياء، يدعي أن الله قد أجراها بإرادته وعلمه وتقديره؟؟ أي تقدير هذا وأي إرادة بقيت إذن يا أيها العاقل الفطن؟؟
إن كانت تلك الطفرات الجينية في زعمك يا مسكين ليست عشوائية وإنما قدرها الله تقديرا، كل منها في وقتها وحينها، فقد أبطلت معنى الانتخاب الطبيعي رأسا، وجئت بما يناقض (آلية) داروين التي ما فرح بها الملاحدة إلا لأنهم عدوها أول بديل مقبول لمعنى الخلق، يغني عن وجود الخالق!! فإن كان الله تعالى قد قدر تلك الطفرات التي يسميها الداروينيون بالعشوائية، فهو كذلك – ولابد – قد قدر أي الأنواع يبقى وأيها ينقرض، وهذا يهدم معنى الانتخاب الطبيعي رأسا ولا شك! ومع أننا لم نر مثل هذه الطفرة قط في تاريخ وجودنا على هذه الأرض (رأينا تكيفا للكائنات وتحورا لها جينيا، نعم، ولكن لم نر نشأة عضو جديد لوظيفة جديدة في كائن حي أبدا!!!) إلا أن من إخواننا من لا يرى مانعا من قبولها كطريقة يخلق الله بها الأنواع الجديدة على الأرض، من أنواع أخرى مشابهة!!
وأنا لا أقول إنه يمتنع عقلا أن يخلق الله بعض الكائنات الجديدة والأنواع الجديدة من خلال التغيير الجيني (وهذا نراه واقعا بالفعل)، بل ولا يمتنع عقلا ولا شرعا أن ينشئ الله جينات جديدة في نوع ما فتصير نوعا آخر (وإن كنا لم نر هذا من قبلأ)! لا يزال الله قادرا على ما يشاء، فعالا لما يريد وقتما يريد.. ولكن القصد أن الإخوة يتكلمون بمثل هذه الممكنات من منطلق (وما المانع؟)، في مقام النظر فيما جاء به داروين وتقرير ما جرت عليه قصة الخلق على الأرض! فلو أنهم قرأوا وفهموا أصول تلك النظرية حق الفهم لعرفوا ما المانع! ولو أنهم قرأوا قصة الخلق فيما جاء في كتاب الله تعالى وما صح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاكتفوا بها، ولما أشغلوا بالهم بتلك المحاولات المتهافتة المخزية للجمع بين الحق والباطل، وتصور قصة الخلق من منظور (ارتقائي) أو (دارويني)! بل لفهموا وأدركوا ما في وصف الكائنات بأنها (ترتقي) من تنقص واضح وحط من قدرة الخالق جل وعلا، إذ خلق في الابتداء أنواعا لا ترقى ولا تصلح، ثم أصلح خلقه ذاك "بالترقية"، سبحانه وتعالى عما يصفون!!
فإن قالوا إننا نرى بجلاء ظاهرة التكيف في الكائنات، والتغير الجيني الذي يفضي إلى ذلك التكيف، فهذه حقيقة "الارتقاء"، قلنا لهم ليس التكيف ارتقاءا! وإن كان التكيف حقيقة نراها فليس الارتقاء بحقيقة!! التكيف Adaptation إنما هو انتقال من حالة سابقة لمخلوق بديع الصنع تام الإحكام والتقدير في بيئته التي كان يعيش فيها، إلى حالة جديدة يكون بها تام التوافق مع بيئة أخرى جديدة صار الآن يعيش فيها، كيفا بعد كيف، وتوافقا بعد توافق، واتزانا محكما من بعد اتزان! أما الارتقاء evolution فانتقال عشوائي من وضع منحط ناقص، إلى وضع تصادف أن صار يرقى للبقاء والتوافق مع البيئة، فكان الانتخاب والبقاء لما هكذا صفته!
وفي الحقيقة فإن خير ما يوصف به دعاة الداروينية أنهم يؤمنون بذلك الخالق الذي سماه إمامهم في العصر الحديث ريتشارد دوكينز "بصانع الساعات الأعمى" The Blind Watchmaker معارضة لمثال ويليام بالي الذي ضربه لدقة الخلق بعمل صانع الساعات. ذلك بأنهم في الحقيقة لم يبطلوا وجود الخالق جل وعلا ولا يستطيعون، وإنما غاية ما فعلوا أن جعلوه خالقا أعمى ناقص العلم مسلوب الإرادة، وضع نظاما للحياة من طبيعة وكائنات تعيش فيها، وضبط متغيرات الكون كلها بما يناسب الحياة على الأرض، ثم راح يتخبط خبط عشواء في إنشاء تلك الكائنات، لا يدري أيها سيبقى وأيها سيفنى ومتى ولماذا!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فهذه حقيقة ملة الداروينيين: صانع الساعات الأعمى!
وهم ينافحون بشدة ضد من يقول إن نظريتهم مفادها أن الحياة نشأت نشأة عشوائية، يقولون الانتخاب الطبيعي ليس عشوائيا، ومن قال بهذا القول فلم يفهم الانتخاب الطبيعي! إنما هو آلية ونظام مستمر، متقيد بقيود قوانين الطبيعة! فإن جئت تلزمهم باللازم الواضح لهذا التقرير منهم، وهو الضرورة العقلية لوجود قائم على ذلك النظام يضبطه ويقيده بذلك القيد من أوله إلى آخره، حتى وإن كان خالقا يعبث بالطبيعة ويضرب ضرب العشواء فيها على حقيقة اعتقادهم (تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا)، قالوا كلا إنما هي صدفة بعد صدفة، وحدث عشوائي بعد حدث عشوائي، ومثل هذا لا يوصف بأن له منظما أو ضابطا يضبطه من الخارج!! فلا سبيل لمجادلة من يضاد عقله الذي في نفسه على هذا النحو، ويقلب ثوابت المنطق واللغة رأسا على عقب، يروم الاستدلال لإثبات المعاني الواضحة التي لا يماري فيها العقلاء، تلك المعاني التي لو اختلف في مثلها اثنان لم يبق لأداة العقل عند أي منهما كبير فائدة!
وأكرر، لا عجب من هؤلاء، فالسفاهة من أهل السفاهة لا تُستغرب! ولكن العجب العجاب ممن جاءنا من المسلمين يقول إنه لا يبعد أن يكون الله تعالى قد أنشأ الكائنات على الأرض على نحو ما تقول نظرية داروين!
ولعل قائلا منهم يقول: ما المانع من أن نقول كما قالت بعض النصارى موافقة لما عند علماء الأحياء (يعني الملاحدة) من نظريات، إن الله بدأ الخلق في بحيرة دافئة كانت فيها تلك الأحماض الأمينية والبروتينات التي تتكون منها الخلية، فضربها الله ببرق أو نحو ذلك فنشأت الخلية الأولى، ثم تركها بعد ذلك لترقى وتتعقد ببطء شديد، طفرة بعد طفرة على نحو ما قال الداروينيون، بلا "تدخل" منه في سيرها، حتى جاء وقت مجيء آدم، بعدما استوت الكائنات واستعدت لاستقباله، فخلقه في الجنة كما أخبرنا ثم أهبطه إلى الأرض ليجدها كما وجدها؟؟ هذا لا يتعارض مع قوله تعالى إنه خلق كل شيء وقدره تقديرا!
وأقول لهؤلاء: إن مثل هذا التصور باطل بطلانا لا أكاد أحصي أدلته من العقل والنقل، ولا أدري – والله – من أين أبدأ لبيان ذلك!! هذا كلام من لم يقرأ كتاب الله يوما قط! أي شيء يحملنا على قبول هذه الخرافة أصلا وبأي بينة؟؟ وهل وضعها واضعها إلا سعيا لتصور نشأة عشوائية للحياة دون خالق أصلا؟؟ وهل وقف هؤلاء المنهزمون الجهلاء يوما على آيات امتنان الرب جل وعلا على الناس بخلق الدواب والأنعام باختلاف ألوانها وأشكالها وما جعل الله في كل منها من نفع سخره لبني آدم تسخيرا؟ إن شطرا كبيرا من كتاب الله في هذا المعنى، فهل قرأه هؤلاء يوما ما؟ فمن أين له هذا المسكين القول بأن الله بدأ خلق الدواب من خلية واحدة في بحيرة؟ أأشهدهم الله حدث الخلق الأول وأوقفه عليه، أم يقولون على الله ما لا يعلمون؟؟ ستكتب شهادتهم ويسألون!
لا شيء عند المشتغلين بما يسمى بعلم أصل الحياة Abiogenesis (وهو أيضا من شعب العلوم القائمة قياما تاما على نظرية داروين) يرقى لأن يسمى دليلا أصلا، وما هم إلا قوم سفهاء يرومون محاكاة حدث النشأة الأولى هذا في المعمل (يتوهمون لسفاهتهم أنهم لو وفقوا في هذا فسيكون ذلك دليلا – وتأمل - على أن الحياة نشأت في بحيرة بلا خالق وبلا أي قوة خارجية تضبط وتجهز لذلك الحدث الفريد مثل تجهيزهم لتلك التجربة في المعمل!! فإن زعم أصحاب تلك التجارب أن الحياة نشأت على هذا النحو فهم ملاحدة على أي حال لا عقل لهم ولا يهتدون! أما هذا الموحد الذي يقول على الله بغير علم، يرجم بالغيب رجما، يقول أنشأ الله الدواب على الأرض بطريقة كذا وكذا كما قال داروين وغيره، يوافق ما زعمه هؤلاء السفهاء، فهذا حقه أن يعزر وينكل به تنكيلا!
ينبغي أن يكون واضحا لدى المسلمين جميعا أن هذا الحدث الفريد، حدث الخلق الأول، لا يمكن – عقلا – أن يستدل على شيء من أحداثه بالنظر فيما نراه الآن من حولنا في السماء والأرض! إذ هذه الأحداث التي نراها في الكون إنما بدأت بعد الحدث الأول الذي خلقت به ولابد! وكذلك الدواب، ما نراه اليوم من أحداث تجري بين أنواعها، لا دخل له بما جرى في حدث خلقها الأول، ولا يستدل بهذا على ذاك! فمن القضايا الفلسفية التي يأخذها الدراونة مأخذ المسلمات، وكأنها غير قابلة للنقاش = قضية الاستمرارية الكونية Uniformitarianism وهي الآن معدودة من أركان علم الجيولوجيا التي لا خلاف في صحتها. وفي الحقيقة فإن علماء الجيولوجيا لو لم يفترضوا استمرارية العمليات والأحداث التي تجري الآن على الأرض كما هي في الماضي فإنهم لن يمكنهم الخروج بشيء ذي بال فيما يتعلق بتاريخ للأرض وطبقاتها الظاهرة! ونحن لا نمانع من قبول ذلك الاقتراض فيما لا يظهر لنا – بالدليل الحسي أو العقلي أو النقلي – ما يمنعه.. فنقول مثلا: بما أن الطبقة الفلانية على سطح الأرض تتكون اليوم حيث تتكون بمعدل كذا، فإن هذا يعني أن الطبقة المشابهة التي سماكتها كذا التي نجدها في موضع كذا، يكون عمرها – بالقياس – كذا وكذا.. هذا المنطق في القياس مقبول بالجملة لا نرفضه، وهو يفضي إلى استنتاج ظني بشأن تاريخ تلك الطبقة.. ولكن إن جاءنا دليل آخر أقوى من هذا، يفيد بأن هذه الطبقة كانت أقصر عمرا مما دل عليه ذلك القياس، قدمنا الدليل الأقوى، وخرقنا مبدأ الاستمرارية هذا ولم يلزمنا إطراده! فإن القائلين به – وهو محل إجماع عندهم – لا يمنعون من ظهور ما يخرقه في تاريخ الأرض من كوارث أو نحوها..
فالآن عندما يأتينا قوم يريدون تطبيق هذا المبدأ نفسه على أصل خلق الأرض نفسها، يقولون إن استقراء ما يجري على طبقات الأرض من تغير وتحول تدريجي، يمكن أن يفيدنا بمعرفة عمرها الافتراضي وتاريخ نشأتها الأولى، فهل هذا الاستدلال نقبله منهم؟ لا نقبله! لماذا؟ لأن نشأة الأرض الأولى لم تكن حدثا متوسطا بين حدثين مماثلين في تاريخ الأرض، فيمكننا تحديده باستخدام تلك الطريقة الإطرادية في قياس ترتيب الأحداث في تاريخها قياسا على ما نراه الآن من ذلك، وإنما هو الحدث الأول الذي به خلقت الأرض نفسها بما فيها، يوم بسطها الله ودحاها وجعلها على نحو ما نرى! فمن الطبقات القديمة التي يرجع بها الجيولوجيون تاريخيا إلى بلايين السنين إعمالا لقاعدتهم هذه، ما لا يبعد أن يكون قد خلقه الله على هذا النحو يوم خلق الأرض وبسطها، في حدث واحد لا بالتراكم عبر بلايين السنين! فنحن لا ندري ولا يمكننا أن ندري كيف خلق الله الأرض في ذلك الحدث الأول، ولا يمكننا – بضرورة العقل – أن ندخله في تلك السلسلة القياسية الاستمرارية! وكذلك حدث الطوفان، طوفان نوح عليه السلام، هذا حدث لا شك أنه قلب الأرض رأسا على عقب في تاريخها الجيولوجي، فمجرد افتراض أنه لم يتغير شيء في سير النظام الكوني بعد حدث كهذا عما كان قبله = افتراض لا يقبله المسلمون! وهنا قضية فلسفية وأصولية دقيقة شديدة الأهمية، أرجو أن ينتبه إليها إخواننا من المشتغلين بفلسفة العلوم وبعلم الجيولوجيا .. لا سيما وقد رأينا منهم من يتحمس أشد الحماسة لنظرية الانفجار الكبير هذه يعدها مما يدلل على صحة الوحي!!
الفرق الجوهري بيننا وبين الملاحدة، أن الملاحدة لا يملكون إلا ما يرون الآن من القرائن من حولهم، أما نحن فلدينا من نصوص الوحي المعصوم الثابتة عندنا ما يفيدنا بما يجهل هؤلاء من خبر الماضي البعيد، ذلك الماضي الذي يحلمون بمعرفة أسراره وقد رموا خبر السماء فيه وراء ظهورهم، فصاروا لا يملكون إلا افتراض استمرارية ما يرونه الآن من أحداث في الكون وصولا إلى غور الماضي السحيق كطريق لمعرفة ما جرى فيه! فإن قالوا لنا إن نظرية الانفجار الكبير تقول إن الكون بدأ بانفجار، وقد دلنا على ذلك ما نراه من انتشار للسحب الكونية وما نراه الآن من توسع مطرد للكون وأجرامه ونحو ذلك، قلنا لهم لا يلزم – عقلا – أن يكون ذلك التوسع مستمرا من الماضي السحيق كما هو بداية من نقطة واحدة أو جرم واحد!! فإنه لا يبعد – عقلا – أن يكون الكون قد بدأ من جرمين كبيرين، انفجر أحدهما وبقي الآخر حيث لا نره – مثلا! أو أن يكون قد بدأ على نحو انكماشي انقباضي، ثم راح يتوسع إلى حد معين ثم رجع للانكماش وهكذا ونحن الآن في مرحلة من مراحل التوسع (وهذه نظرية يقول بها بعض الفلكيين الآن بالمناسبة!)! ولا يمتنع – وبنفس النسق العقلي – أن يكون الكون قد خلقه الله على نحو ما وصف لنا في القرءان والسنة، ثم حرك أجرامه في أفلاكها حتى جئنا نحن اليوم لنراه يتحرك ويتوسع على نحو ما نراه!! ولا يلزم أن يكون حدث الخلق الأول للكون انفجارا أصلا كما يدعون! وإنما هو كما وصفه الله، ووصفه رسوله، نقف عليه بلا زيادة ولا نقصان .. ولو كان ينفعنا العلم بالمزيد من خبر ذلك الغيب البعيد لأخبرنا به الملك الشهيد! الانفجار حدث تتناثر فيه الأجزاء المتفجرة عشوائيا كما لا يخفى من مجرد معناه!! فكيف ينسب هذا المعنى إلى الخالق جل وعلا في بنائه الأرض والسماء وإنشائه إياهما إنشاءا؟؟ وإن قالوا نحن لا نقول إنه انفجار عشوائي كما يدعون وإنما نقول إن الله أحدثه وأجراه على نحو ما أراد، فلماذا يتمسكون بمعنى الانفجار Bang ويحتجون على صحة القرءان به، مع أنه لم يقل بمثل هذا المعنى أحد ممن فسروا آيات الخلق في قرون أمتنا قط؟؟ الله وصف في القرءان تفجيره للماء من العيون، فلماذا لم يصف خلق الأرض والسماء بالتفجير كذلك؟؟؟ لماذا نعتصر أعناق كلام المفسرين لنخرج بما يوافق نظرياتهم؟! ولماذا تقبلون معاشر المسلمين من هؤلاء سعيهم للتنظير والافتراض في كيفية نشأة السماوات والأرض أصلا؟؟ ألا يكفيكم ما جاءكم من خبر الخلق في النص؟؟
نحن المسلمون نرفع أخبار الخلق عندنا فوق ما يتبعون من الظنون، ولا يعنينا اتفقاهم على خلاف ما عندنا إن اتفقوا، ولا يرهبنا ذلك ولا نتهيبه! وكذا لا يحملنا ما قد يظهر في بعض نصوصنا من موافقة لشيء مما افترضوه في نظرياتهم على الاندفاع إلى قبوله منهم وجعله آية من آيات صدق النبوة دونما تمحيص وتحقيق لمراتب الاستدلال العلمي المتبع في القول بتلك النظريات! وأصلنا الأصيل وركننا الركين أنهم مهما قالوا ومهما استدلوا، فلا شيء من استدلالاتهم يمكن – عقلا – أن يرقى لرد أو إبطال ما لدينا، بالنظر إلى قوة أدلتنا في الدلالة على ما عندنا في مقابل أدلتهم.. ولا يحملنا – وهو المعنى المهم في هذا المقام – على مثل ما حمل عليه النصارى من تحريف لمعاني النصوص في الكتاب كما صنعوا بسفر التكوين إذ قلبوه بأكمله إلى ضرب من المجاز حتى لا يقال إنهم ردوا ما جاء به العلم الحديث وتمسكوا "بأساطير الأولين"!!!
ما أخبرنا الله به في نصوصنا هو الحق كما أخبر، ولا يملك أحد من الخلق من الدلائل ما يمَكِّنه من معارضة تلك الأخبار أو إبطالها بحال من الأحوال! ونحن نتحدى أعلم فلاسفة الأرض جميعا أن يأتينا بدليل واحد يرقى – عقلا – لمخالفة ما صح به النص عندنا من أخبار الخلق الأول، سواء خلق السماوات والأرض أو خلق الدواب والحياة على الأرض!!
فإن علمنا هذا وفرغنا منه، وقررنا أنه لا معارضة لما جاءنا به النص من معاني الخلق، بقي أن نسأل إخواننا: لماذا – إذن – تنهزم أنفسكم وتضعف بإزاء تلك النظريات وكأنها وحي منزل، ونراكم ترومون لي أعناق نصوصنا حتى توافقها، بل تستنطقونها بتلك النظريات أحيانا؟؟ وكيف يصل بكم ذلك النزع الذميم إلى حد قبول نظرية تقوم قياما تاما على نفي القدرة الخالقة والإرادة الخارجية عن سير الحياة على الأرض وعن نشأتها، لمجرد أن صارت من مسلمات بعض العلوم في زماننا؟؟ وإن قلنا باستمرارية ما يجري من تغير في الكائنات إلى عمق التاريخ على الأرض، فأين ما عليه قلتم بالقياس إن الكائنات الحية نشأت كلها – من حيتان وطيور ودواب وحشرات – من أصل واحد ؟؟؟ أرأيتم ولو لمرة واحدة طائرا ينشأ بالتطور من زاحف (مثلا)؟؟ ليس يوجد أصلا فيما نرى الآن من أحداث بين الكائنات الحية ما يمكن أن نطرده استمرارا بإعمال هذه القاعدة القياسية، لنصل في النهاية إلى القول بقبول شجرة الارتقاء التي تبدأ عند الكائن أحادي الخلية!!! ولا يفيدهم التقارب بين صور الكائنات، ولا يخدمهم ترتيب الطبقات الجيولوجية التي وجدوا فيها ما وجدوا من الحفريات، لأن تلك القرائن الظنية – مهما كثرت وتراكمت – لا ترقى لمعارضة العقل الصريح الدال على ضرورة الخلق المحكم المتقن – لا هذا الارتقاء العشوائي المخزي الذي لا يحكمه حاكم – ولا لتكذيب ما جاء به النص عندنا من خبر الخلق!
فأكرر إن الأمر الذي ينبغي أن يفهمه عقلاء المسلمين أن تلك النظرية ما وضعت إلا لجعل العشواء (على سلسلة متتابعة عبر بلايين السنين) بديلا للخلق المحكم والتقدير المتين! فلو قلتم لهم الله هو الذي فعل هذا كله عبر تلك البلايين من السنين لأجابوكم – كما قال بعضهم تصريحا – بأن هذا من العبث لأن نظريتنا تقوم على الزعم بأنه لا يلزم أن يكون هناك خالق أصلا ليقوم على تلك العملية كما نصفها!! فإن لم ينتبه الموحدون إلى هذا المعنى، ولم يجعلوا ديدنهم إبطال تلك العملية أو الآلية من أصلها وإرجاع الأمر إلى نصوص الوحي في هذا وحدها دون غيرها، فقد قالوا على الله بغير علم، مقالة شديدة المذمة – والتناقض في ذات الوقت - كالتي قالها النصارى، حاصلها أن الله بدأ الحياة على الأرض ثم تركها وأخذ يشاهدها من الخارج لتجري بلا توجيه ولا إرادة حتى تصل إلى الحالة التي كان يريدها من قبل حتى يخلق فيها الإنسان ويجعلها كما نراها الآن!! فإن كان من شيء فإن هذا لازمه نفي العلم عن الله ونفي إرادة خلق آدم وابتلائه في الأرض، ونفي القضاء والقدر والحكم الرباني على سائر ما يجري على الأرض من أحداث، ونفي القيومية والكفر بأكثر صفات رب العزة جل وعلا التي ما استساغ النصارى مثل هذا القول الساقط إلا لجهلهم بها وتضييعهم لها في كتابهم!!
فكيف يغفل هذا المسكين عن لازم قوله إن الله بدأ الخلق الأول ثم "تركه" و"لم يتدخل فيه"؟؟ أهو وصف لله بالغفلة أم بالغياب أم بالانشغال عن الخلق وإهماله أم ماذا؟؟؟ ألا يعي من يقبل من الدارويينيين قصتهم هذه ما يلزمه من هذا القبول؟؟
إنه والله قول أشد ذما لله من قول أهل الكتاب إنه سبحانه "استراح" في اليوم السابع، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!!
((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) [الحج : 65]
((إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)) [فاطر : 41]
((أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [النحل : 79]
((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)) [الأنبياء : 16]
النصارى لغرقهم في الجهل والضلالة لم يجدوا مانعا من قلب نصوص كتابهم (كتاب الخلق) كلها إلى المجاز حتى لا يظهروا بمظهر مروجي الأساطير القديمة الذين لا يزالون – في القرن الواحد والعشرين! – يقولون بحرفية هذه الروايات، يعارضون بها ما جاء به "العلم الحديث"!!! وهذا الضرب من ضروب التحريف نعرفه، وقد عرفته سائر ملل الأرض من قبل، وما ضلت أغلب طوائف المبتدعة من أهل القبلة إلا بالوقوع في مثله: الانصراف إلى خلاف المعنى الظاهر من النص الذي كان عليه الأولون، وصولا إلى حد التأويل الباطني، بلا قرينة ولا بينة إلا الشبهة العقلية الواهية واتباع الهوى! يقولون لو حملنا هذا النص على ظاهره لعارضنا الدليل العقلي (وليس إلا معنى فاسدا جاءت به عقولهم بلا سلف ولا إمام) أو لعارضنا النظرية الفلانية التي أجمع عليها أهل الأحياء – بدعواهم – أو لوقعنا في التشبيه والتجسيم ... إلى آخر ما في تلك القلوب المتشابهة، والله المستعان!
فهل أنتم ذاهبون إلى أمثال تلك التحريفات والتبديلات؟؟
وأنا أعجب والله كيف يقبل المسلم الموحد من هؤلاء قصة مخزية سفيهة كقصة ارتقاء العين ونحوها (مثلا)، يقول إن الله أجرى هذا الارتقاء بعلمه وحكمته وتقديره؟؟ أما تستحون يا هؤلاء؟؟ ألا تتقون الله؟؟ أم تراكم لا تفهمون ما جاء به داروين؟؟ إن كنتم تجهلون فتلك مصيبة، وإن كنتم تعلمون فالمصيبة أعظم!!
فالحاصل يا عباد الله أنه لا يمكن للمسلم الموحد أن يقبل ببعض نظرية داروين دون بعضها، لأنها إنما تقوم قياما كاملا – في أصل آليتها التي جاء بها داروين - على تنحية العقل والإرادة والتدبير الخارجي (وما يلزم من معاني الخلق الواضحة الجلية شديدة الجلاء لسائر العقلاء) عن قصة نشأة الكائنات على سطح الأرض! فأي جزء منها هذا الذي يمكن للمسلم قبوله، وبأي برهان؟؟
ولماذا يا عباد الله يا عقلاء؟؟
أهو الضعف والوهن؟
أهو الجهل بحقيقة نظرية داروين وأصولها الفلسفية؟
أهو الجهل بما جاء في قصة الخلق من نصوص في دينكم؟
أهو الخوف من اتهامهم إياكم بمثل ما اتهم به السفهاءُ أتباعَ الأنبياء في كل زمان؟؟
أي شيء هذا إذن وكيف تفسرونه ؟؟؟
أسأل الله العلي العظيم أن يلهم هؤلاء رشدهم وأن يفقههم في دينهم ثم في دين هؤلاء الذين افتتنوا بهم، وأن يعجل برجوع الإسلام عزيزا في صدور أتباعه كما كان في زمان العزة والتمكين، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله
والحمد لله رب العالمين.