ياسمين
09-26-2010, 11:16 PM
ا
لآيا ت الكونية
ودلالتها على وجود الله تعالى
للداعية الشيخ محمد متولي الشعراوي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
الله سبحانه وتعالى وضع في كونه آيات تنطق بوجوده، وتشهد بعظمته، وتدل بأنه الاله الخالق، ولقد خاطب الله تعالى كل العقول في كل الأزمان وحثها على التفكير والتعمّق والتأمل في ملكوته سبحانه، فكل أيات الكون ناطقة بوحدانيته تعالى، وما العلم الا كاشف لقدرة الله في الكون.
قال تعالى:{ ذلكم الله ربكم، لا اله الا هو، خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل} الأنعام 102.
في جولة تشمل مظاهر الحياة والكون، في الأنفس والآفاق يستعرض الامام الداعية محمد متولي الشعراوي أدلة وجود الله تعالى المادية عن طريق العقل فقط في قراءة هادئة هادفة، تخاطب العقول والقلوب وتدعوها للتفكر ثم الايمان.
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء انه سميع مجيب.
الفصل الأول
لماذا الأدلة
المادية والكونية
الأدلة نوعان
الله سبحانه وتعالى وضع في كونه آيات تنطق بوجوده، وتنطق بعظمته، وتنطق بأنه هو الخالق، الجماد يشهد أن لا اله الا الله، والنبات يشهد أن لا اله الا الله، والحيوان يشهد أن لا اله الا الله، والانسان يشهد أن ال اله الا الله، وكل هذا يشهد بأدلة ناطقة لا تحتاج حتى الى مجرد البحث والتفكير والتعمّق.
ولقد خاطب الله سبحانه وتعالى كل العقول في كل الأزمان، فجعل هذه الأدلة التي تنطق بوجوده من أول الخلق، ثم كلما تقدم الانسان، وارتقت الحضارة، وكشف الله من علمه ما يشاء لمن يشاء، ازدادت القضية رسوخا وازدادت الآيات وضوحا، ذلك أن الله تعالى شاء عدله أن يخاطب كل العقول، فجاءت آيات الله في الكون الناطقة بألوهيته وحده ليفهمها العقل البسيط، والعقل المرتقي في الكون، ولا اعتقد أن أحدا يستطيع أن يجادل في هذه الأدلة ولا أن ينكر وجودها.
ولقد أوجد الله سبحانه وتعالى في هذا الكون أدلة مادية، وأدلة عقلية، وأدلة نصل اليها بالحواس، كلها تنطق بوحدانية الله ووجوده.
ولقد جعل الله الأداة الآولى للادراك وجوده هي العقل، تاعقل هو الذي يدرك وجود الله تعالى بالدليل العقلي الذي وضعه الخالق في الكون، ولكن مهمة العقل بالنسبة لهذا الوجود محدودة، ذلك أننا بالعقل ندرك أن هناك خالقا مبدعا قادرا، ولكننا بالعقل لا نستطيع أن ندرك ماذا يريد الخالق منا، وكيف نعبده، وكيف نشكره، وماذا أعد لنا من جزتء، يثيب به من أطاعه، ويعاقب به من عصاه؟؟ فهذا كله فوق قدرة العقل.
ولذلك كان لا بد أن يرسل الله الرسل ليبلغونا عن الله، لماذا خلق الله هذا الكون؟ ولماذا خلقنا؟ وما هو منهج الحياة الذي رسمه لنا لتتبعه؟ وماذا أعد لنا من ثواب وعقاب؟ فتلك مهمة فوق قدرات عقولنا، وتلك مهمة لو استخدمنا فيها العقل لما وصلنا الى شيء.
وجاء الرسل ومعهم المعجزات من الله بصدق رسالاتهم ومعهم المنهج، وقاموا بابلاغ الناس، ولكننا لن نتحدث هنا عن معجزات تالاسل، وعما جاؤوا به، ولن نتكلم عن أي شيء غيبي.
سنتحدث عن الماديات وحدها، ونتكلم عن الأدلة المادي، بما فيها تلك الأدلة التي ترينا فتجعلنا نوقن أن الغيب موجود، وأن ما لا نراه يعيش حولنا، كل هذا بالعقل وليس بالايمان.
فالله سبحانه وتعالى وضع الدليل الايماني في الكون كما وضع الدليل العقلي، ولكننا سنحتكم للعقل وحده، ليرى الناس جميعا أن الاحتكام للعقل يعطينا آلاف الأدلة.
هذه الأدلة هي من آيات الله، وكلها تشهد أن لا اله الا الله.
واذا أردنا أن نبدأ بالأدلة المادية فلا بدّ أن نبدأ بالخلق ، ذلك الدليل الذي نراه جميعا أمام أعيننا ليلا ونهارا، ونلمسه لأننا نعيشه، فالبداية هي أن هذا الكون بكل ما فيه قد وجد أولا قبل أن يخلق الانسان، وتلك قضية لا يستطيع أحد أن يجادل فيها، فلا أحد يستطيع أن يقول ان خلق السموات والأرضتم بعد خلق الانسان، بمعنى أن الانسان جاء ولم تكن هناك أرض يعيش عليها، ولا شمس تشرق، ولا ليل ولا نهار، ولا هواء يتنفسه، بل ان الانسان جاء وكل شيء قد أعد له، بل ان هناك أشياء أكبر من قدرة الانسان خلقت وسخرت للانسان تعطيه كل متطلبات الحياة دون مقابل، وأشياء أخرى خلقت وسخرت للانسان تعطيه ما يشاء ولكنها محتاجة الى جهد الانسان وعمله، وذلك حتى تتم عمارة الأرض.
اذن فباستخدام العقل وحده لا أحد يستطيع أن يجادل في أن هذا الكون قد حلق وأعد للانسان قبل أن يخلق الانسان نفسه، فاذا جاء الحق سبحانه وتعالى وقال لنا:
{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى الى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، وهو بكل شيء عليم} البقرة 29.
لا يستطيع أحد أن يجادل عقليا في هذه القضية، لأن الكون تم خلقه قبل خلق الانسان، فكيف يكون للانسان عمل قبل أن يوجد ويخلق؟ وتأتي الآية:
{ واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة} البقرة 30.
نقول: ان هذا يؤكد الحقيقة بأن الكون أعد للانسان قبل أن يخلق، وهذه قضية يؤكدها العقل، ولا يستطيع أن يجادل فيها.
وبذلك نكون قد وصلنا الى النقطة الأولى، وهي ان الله سبحانه وتعالى بكمال صفاته وقدراته قد خلق هذا الكون وأوجده ونظمه غير مستعين بأحد من خلقه، ولا محتاج أحد من عباده، واننا جميعا أي البشر قد جئنا الى كون معد لنا اعدادا كاملا.
ولكن قدرة هذا الكون لا تخضع لنا ولا لقدراتنا، بل هي أكير من هذه القدرات بكثير. فالشمس مثلا أقوى من قدرة البشر جميعا، وكذلك الأرض والبحار والجبال، اذن فلا بد أن تكون هذه الأشياء قد أخضعت لنا بقدرة من خلقها وليس بقدرتنا نحن، ذلك أنها مسخرة لنا لا تستطيع أن تعصي أمرا، فلا الشمس تستطيع أن تشرق وتغيب يوما حسب هواها لتعطي الدفء ووسائل استمرار الحياة لمن تريد، وتمنعه عمن تشاء، ولا الهواء يسنطيع أن يهب يوما ويتوقف يوما، ولا المطر يستطيع أن يمتنع عن الأرض فتنعدم الحياة ويهلك الناس، ولا الأرض تستطيع أن تمتنع عن انبات الزرع، لا شيء من هذا يمكن أن يحدث، ولا تستطيع البشرية كلها أن تدعي أن لها دخلا في مهمة هذا الكون، لأنه لا خلق هذه الأشياء ولا استمرارها في عطائها يخضع لارادة البشر.
فاذا جئنا الى الانسان وجدناه هو الاخر لا بدّ أن يشهد بأن له خالقا وموجودا، فلا يوجد من يستطيع أن يدّعي أنه خلق انسانا، ولا من يستطيع أن يدّعي أنه خلق نفسه.
**
دليل الخلق
اذن فقضية الخلق محسومة لله تعالى لا يقبل فيها جدل عقلي، فاذا جاء بعض الناس وقالوا: ان هذا الكون خلق بالمصادفة، نقل: ان المصادفة لا تنشئ نظاما دقيقا كنظام الكون، لا يختل رغم مرور ملايين السنين.
واذا جاء بعض العلماء ليدعي أنه كانت هناك ذرات ساكنة ثم تحركت وتكثفت واتحدت!!. نقول: من الذي أوجد هذه الذرات، ومن الذي حرّكها من السكون؟
واذا قيل ان الحياة بدأت بخلية واحدة من الماء نتيجة تفاعلات كيمياوية، نقول: من الذي أوجد هذه التفاعلات لتصنع هذه الخلية؟
ونحن لن ندخل مع هؤلاء في جدل عقيم، وانما نقول لهم: ان من اعجاز الخالق، أنه أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا، وأنبأنا أكثر من ذلك أن هؤلاء يضلون، أي ليسوا على حق، ولكنهم على ضلال، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ ما أشهدتم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذين المضلين عضدا} الكهف 51.
وهكذا نرى من يأتي ليضل الناس بنظريات كاذبة عن أصل خلق السموات والأرض، وأصل خلق الانسان، ومن يدعي أن أصل الانسان قرد، وهي نظرية يملؤها الغباء، فنحن لم نشهد قردا يتحول انسانا، واذا كان أصل الانسان قردا، فلماذا بقيت القرود على حالها حتى الآن ولم تتحول الى بشر؟! ومن الذي منعها أن يحدث لها هذا التحول ما دام قد حدث في الماضي؟! ولقد نسي هؤلاء أن الوجود لا بدّ أن يكون من ذكر وأنثى والا انقرض النوع، وهؤلاء يقولون لنا عندما ادعوا أن قردا تحوّل انسانا، من أين جاء القرد الذي تحول الى امرأة ليتم التكاثر!!
وبدون الدخول في جدل لا يفيد، نقول لهولاء جميعا: لقد جئتم مثبتين لكلام الله، فلو أنه لم يأت من يضل بنظريات كاذبة في خلق لبسموات والأرض وفي خلق الانسان، لقلنا: ان الله تعالى قد أخبرنا في القرآن الكريم، أنه سيأتي من يضل في خلق السموات والأرض وفي خلق الانسان، ولكن لم يأت أحد يفعل ذلك، ولكن كونهم جاءوا وكونهم أضلوا يجعلنا نقول: سبحانه ربنا:، لقد أخبرنا عن المضلين وجاءوا فعلا بعد قرون كثيرة من نزول القرآن، فكأن هؤلاء الذين جاءوا ليحاربوا قضية الايمان، قد أثبتوها وأقاموا الدليل عليها.
على أننا نقول لكل من جاء يتحدث عن خلق السموات والأرض وخلق الانسان مدعيا أن الله ليس هو الخالق، نقول له: أشهدت الخلق؟ فاذا قال لا، نسأله ففيم تجادل.
على أن قضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى لأنه هو وحده سبحانه الذي قال انه خلق، ولم يأت أحد ولن يجروء أحد على أن يدّعي أنه الخالق.
واذا كان من يفعل شيئا يحرص على الاعلان عما فعل، فلا يوجد شيء صغير اخترعه البشر في الدنيا، الا وحرص صاحبه على الاعلان عن نفسه.
فاذا كان الذي اخترع المصباح قد حرص أن يعرف العالم كله اسمه وتاريخه وقصة اختراعه، أيكون الذي أوجد الشمس غافلا عن أن يخبرنا أنه هو الذي خلقها، واذا كانت هناك قوة أخرى قد أوجدت أفلا تعلن عن نفسها؟.
اذن فقضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه وحده الذي قال انه خلق، حتى يأتي من يدّعي الخلق، ولن يأتي، فان الله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق بلا جدال، وحتى الكفار لم يستطيعوا أن يجادلوا في هذه القضية، ولذلك يأتي القرآن في سورة العنكبوت فيقول:
{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله، فأنّى يؤفكون} العنكبوت 61.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} العنكبوت 63.
وهذه الآيات نزلت في الكافرين والمشركين، وهم رغم كفرهم واشراكهم لم يستطيعوا أن يجادلوا في خلق الكون والانسان.
اذن فقضية الخلق محسومة لله، لأنه سبحانه وتعالى هو الذي خلق، وهو الذي أخبرنا بانه هو الذي خلق.
ولكن القضية لا تقف عند الكون وحده، بل تمتد الى كل ما في الدنيا حتى تلك الأشياء التي يقدر عليها الانسان، فأصل الوجود بكل ما فيه من خلق الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول:
{ ذلكم الله ربكم، لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل} الأنعام 102.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال أنه { خالق كل شيئ} فما من شيء في هذا الوجود الا هو خالقه.
ولنأخذ هذه القضية في كل ما حولنا، في كل هذا الكون، لنأخذ مثلا الخشب، شجرة الخشب التي تعطينا كل الأخشاب التي نستعملها في بيوتنا وأثاثنا الى غير ذلك، هذه الشجرة من أين جاءت؟ تسأل تاجر الخشب من أين جاءت؟ يقول من السويد، وتسأل أهل السويد يقولون من الغابات، وتذهب الى الغابة فيقولون لك من شتلات نعدها، وتسال من أين جاءت هذه الشتلات؟ من جيل سابق من الأشجار، والجيل السابق من جيل سبقه،، وتظل تمضي حتى تصل الى الشجرة الأولى التي أخذ منها كل هذا، من الذي أوجد الشجرة الأولى؟ انه الله، فلا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الشجرة الأولى أو أوجدها من العدم.
فاذا انتقلنا الى باقي أنواع الزرع لنبحث عن التفاحة الأولى والبرتقالة الأولى، والتمرة الأولى، وحبة القمح الأولى، وشجرة القطن الأولى، نجد أنها وغيرها من كل ما تنتجه الأرض، كلها من خلق الله خلقا مباشرا، ثم بعد ذلك استمر وجودها بالأسباي التي خلقها الله في الكون.
قد يقال: ان هناك تهجينا وتحسينا وخلطا بين الأنواع لتنتج نوعا أكثر جودة، نقول: ان هذا كله لا ينفي أن الثمرة الأولى مخلوقا مباشرا من الله، وقد يدعي بعض العلماء أنهم حسنوا أو استنبطوا نوعا جديدا، نقول لهم: كل هذا لا ينفي أن الوجود الأول من الله، وأنهم استخدموا ما خلق الله بالعلم المتاح من الله في كلما فعلوه، ولكن أحدا لا يستطيع أن يدّعي أنه أوجد أي شيء في الأرض من العدم، فكل هذه الاكتشافات العلمية هي من موجود، ولا يوجد اكتشاف علمي واحد من عدم. فكل هذه الاكتشافات العلمية من موجود، ولا يوجد اكتشاف علمي واحد من العدم.
واذا انتقلنا من النبات الى الحيوان، نجد أن كل الحيوانات والطيور والحشرات بدأت بخلق من الله سبحانه وتعالى، وبخلق من ذكر وأنثى، وهذه هي بداية الخلق جميعا، ولا يستطيع أحد أن يدّعي أن خلق من عدم ذكر أو أنثى، وهذه هي بداية الخلق جميعا، ولا يستطيع أحد أن يدّعي أنه أنه خلق من عدم ذكر أو أنثى من أي نوع من النبات أو الحيوان، والله سبحانه وتعالى يلفتنا في القرآن فيقول:
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون} الذاريات 49.
التحدي الالهي في الخلق
اننا نريدهم، ونحن نتحدى علماء الدنيا كلها، أن ياتي عالم فيقول لنا انه أوجد من العدم، أو أنه خلق ذكرا أو أنثى من أي شيء موجود في هذا الكون، وما أكثر الموجودات في كون الله، وهنا تأتي الحقيقة القرآنية تتحدى في قوله تعالى:
{ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب} الحج 73.
هذا هو التحدي الالهي الذي سيبقى قائما حتى يوم القيامة، فلن يستطيع علماء الدنيا ولو اجتمعوا أن يخلقوا ذبابة.
ولقد وصل الانسان الى القمر، وقد يصل الى المريخ، وقد يتجاوز ذلك ولكنه سيظل عاجزا عن خلق ذباب مهما كشف الله له من العلم، فلن يعطيه القدرة على خلق ذبابة، وهذا من اعجاز الله، لأنه وحده الذي خلق كل شيء، والعلم كاشف لقدرات الله في الأرض، ولكنه ليس موجدا لشيء، ولذلك يقول القرآن الكريم:
{ ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل} الأنعام 102.
وبهذا نكون قد أثبتنا بالدليل العقلي أن الله خالق كل شيء في الدنيا، فاذا كان الله قد خلق من هم دون الانسان من نبات وجماد وحيوان فكيف بالانسان بما له من ادراكات وعقل وفكر وتمييز، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} الطور 35.
واذا كان كل شيء في هذا الكون من خلق الله سبحانه وتعالى، فان قوانين اكون أيضا، تلك هي القوانين التي يسير عليها الكون هي من وضع الله سبحانه وتعالى، الا ما شاء الله أن يجعل للانسان فيه اختيار، فالقوانين التي يمضي عليها الكون هي من وضع الله، والأسباب التي تتم بها الأشياء هي من وضع الله، فالشمس والقمر والنجوم والأرض لا تتبع قوانين البشر، بل تتبع القانون اللهي، والذي خلقها وضع لها القانون الأمثل لتؤدي مهمتها في الكون.
فالشمس لها حركة كونية، ولها تحرّك آخر في فلك خلقه الله لها، وكذلك القمر وكذلك الأرض، وكذلك الرياح، والنجوم، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان} الرحمن 1_7.
اذن فالشمس والقمر والنجوم تتحرك بحساب دقيق فلا تتأخر الشمس عن موعد شروقها ثانية ولا تتقدم ثانية منذ ملايين السنين، وكذلك القمر في دورته الشهرية، وكذلك النجوم في حركتها، يقول الله تعالى:
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} يس 40.
أي أن كل هذه الأجرام لها فلك أو مسار معين تمضي فيه باذن الله. ولا تستطيع البشرية كلها أن تؤخر شروق الشمس ثانية، أو أن تقدمها ثانية، أو أن توقف دوران الأرض أو تسرع بها أو تبطئ الى غير ذلك.
اذن فثبات قوانين الكون دليل على دقة الخالق وابداعه وعظمته وقدرته، وهذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره.
دليل الثابت والمتحرك
يأتي الفلاسفة ليقولوا: ان الثبات وحده لا يعطي القدرة الكاملة للحق سبحانه وتعالى، ذلك أن الاله بقدرته لا بدّ أن يستطيع أن يخرج عن ميكانيكيته، فذلك هو دوام القدرة أو طلاقة القدرة، أما بقاء الثابت على ثباته، فان ذلك يعطي الدليل على دقة القدرة وابداع الخالق، ولكنه لا يعطي الدليل على طلاقة القدرة؟!
نقول: ان الله قد أعطى في كونه الدليل على طلاقة القدرة، ولكنه لم يعطه في القوانين الكونية، لأنه لو أعطاه في القوانين الكونية فأشرقت الشمس يوما، وغابت أياما، ودارت الأرض ساعات وتوقفت ساعات، وتغيّر مسار النجوم لفسد الكون!! اذن فمن كمل الخلق أن تكون القوانين الكونية بالنسبة للنظام الأساسي للكون ثابتة لا تتغير والا ضاع النظام، وضاع معه الكون كله، فلا يقول أحد: ان ثبات النظام الكوني يحمل معه الدليل على عدم طلاقة القدرة، بل هو يحمل الدليل على طلاقة القدرة التي تبقي هذا النظام ليصلح الكون.
والله سبحانه وتعالى لا يريد كونا فاسدا في نظامه، ولكنه يريد كونا يتناسب مع عظمة الخالق وقدرته وابداعه، فيبقي بطلاقة القدرة الثبات في قوانين هذا الكون، ويظهر بطلاقة القدرة أنه قادر أن يغيّر، ويخرق النواميس بما لا يفسد الحياة في الكون، ولكن بما يلفت خلقه الى طلاقة قدرته.
ولنتحدث قليلا عن طلاقة قدرة الله تعالى في كونه، أول مظاهر طلاقة القدرة هي المعجزات التي أيّد الله بها رسله وأنبياءه، ولكننا لن نتحدث عنها هنا، فنحن مع العقل وحده، لنؤكد بالدليل العقلي أن كل ما في الكون يؤكد أنه لا اله الا الله، وأنه هو الخالق والموجد، نأتي الى الأشياء التي تنطق بطلاقة القدرة وهي في كل شيء، واذا جاز لنا أن نبدأ بالانسان فاننا نبدأ بميلاد الانسان أولا، والانسان ككل شيء في هذا الكون يوجد من ذكر وأنثى، فاذا اجتمع الذكر والأنثى جاء الولد، هذا هو قانون الأسباب، وقد يلتقي الذكر والأنثى ولا يأتي الولد، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى:
{ لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوّجهم ذكرانا واناثا ويجعل من يشاء عقيما، انه عليم قدير} الشورى 42.
اذن الله سبحانه وتعالى جعل في قوانين الأسباب ـنه متى تزوج الذكر والأنثى يأتي الولد، ولكنه أبقى لنفسه طلاقة القدرة فجعل هناك ذكرا وانثى يتزوجان أعواما ويلة لا يرزقان بالولد، فمع قوانين الأسباب كانت هناك طلاقة القدرة، ولم يجعلها الله سبحانه وتعالى عامة، بل جعلها في أمثلة قليلة لتلفتنا الى طلاقة قدرته، حتى لا نحسب اننا نعيش بالأسباب وحدها.
طلاقة القدرة في الكون
ولم تقف طلاقة قدرة الله في خلق الانسان عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل كل أوجه الخلق، فألصل في الايجاد هو من ذكر وأنثى، ولكن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته خلق انسانا بدون ذكر أو أنثى وهو " آدم" عليه السلام، وخلق من ذكر بدون أنثى وهي " حواء"، خلقها من ضلع آدم عليه السلام، وخلق انسانا من انثى بدون ذكر وهو " عيسى" عليه السلام، وهذه كلها حدثت مرة واحدة لاثبات طلاقة قدرته، وهي لا تتكرر، لأنها تلفتنا الى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس على قدرته قيود ولا حدود، فهو جل جلاله خالق الأسباب، وقدرته تبارك وتعالى فوق الأسباب، على أن هناك أشياء كثيرة عن طلاقة قدرة الله بالنسبة للانسان سنتحدث عنها تفصيلا في فصل قادم.
نأتي الى طلاقة قدرة الله تعالى في ظواهر الكون، لو أخذنا المطر مثلا، الله سبحانه وتعالى بأسباب الكون جعل مناطق ممطرة في الكون، ومناطق لا ينزل فيها المطر، والعلماء كشف الله لهم من علمه ما جعلهم يضعون خريطة للأسباب تحدد المناطق الممطرة وغير الممطرة.
يأتي الله سبحانه وتعالى في لفتة الى طلاقة قدرته، قتجد المناطق الممطرة لا تنزل فيها قطرة ماء وتصاب بالجدب، ويهلك الزرع والحيوان، وقد يموت الانسان عطشا، بالرغم من أن هذه المناطق كان المطر ينزل فيها وربما سار في أنهار ليروي غيرها من البلاد التي لا ينزل فيها المطر. فنجد مثلا منابع النيل التي هي مناطق غزيرة المطر، تأتي فيها سنوات جدب فلا يجد الناس الماء، ونجد بلادا كالولايات المتحدة وبلاد أوروبا يصيبها الجدب في سنوات، ولا يحدث هذا بشكل مستمر، بل في سنوات متباعدة، لو أن المطر ينزل بالأسباب وحدها ما وقع هذا الجدب في المناطق الغزيرة المطر، ولكن الله يريد أن يلفتنا الى طلاقة قدرته والى أن الماء الذي ينزل من السماء ليس خاضعا للأسباب وحدها، ولكن الي يحكمه هو طلاقة قدرة الله، حتى لا نعتقد أننا أخذنا الدنيا وملكناها بالأسباب، ولكي نعرف أن هناك طلاقة لقدرة الله سبحانه وتعالى هي التي تعطي وتمنع، وأنه جل جلاله فوق الأسباب وهو سبحانه المسبب يغيّر ويبدّل كما يشاء.
فاذا جئنا الى الزرع، ذلك الذي فيه عمل للانسان، نجد مظاهر طلاقة القدرة، فالانسان يزرع الزرع والله يعطيه كل الأسباب، الماء موجود والكيماويات متوفرة، والأرض جيّدة، ثم بعد ذلك تأتي آفة لا يعرف أحد عنها شيئا، ولا يحسب حسابها فتقضي على هذا الزرع تماما، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وأحيط بثمره فأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا} الكهف 42.
ونحن نعرف أن الآفات تصيب كل مكان في الأرض لا يعلو عليها علم مهما بلغ، وهكذا نعرف أن الأرض لا تعطينا الثمر بالأسباب وحدها، ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى التي هي فوق الأسباب، لكيلا نعبد الأسباب وننسى المسبب وهو الله تعالى.
فاذا انتقلنا الى الحيوان نجد طلاقة القدرة واضحة، فهناك من الحيوان ما تزيد قوته على الانسان مرات ومرات، ولكن الله سبحانه وتعالى قد أخضعه وذلله للانسان، فتجد الصبي الصغير يقود الجمل أو الحصان ويضربه، والجمل مثلا يستطيع أن يقضي عليه بضربة قدم واحدة ولكنه لا بفعل شيئا ويمضي ذليلا مطيعا ولا يرد على الايذاء رغم قدرته على ذلك، ونجد الكلب مثلا يحرس صاحبه ويدافع عنه لأن الله ذلله له.
فاذا جئنا الى الذئب أو الى الثعب من نفس فصيلة الكلب نجده يفترس الانسان ويقتله، ولو أن هذا التذليل للحيوان بقدرة الانسان لاستطاع كما ذلل الجمل والبقرة والكلب أن يذلل الذئب والثعلب وغيرهما من الحيوانات، ولكن الله يريد أن يلفتنا الى أن هذا التذليل بقدرته سبحانه وتعالى، ان الثعبان الصغير وهو حشرة ضئيلة الحجم يقتل الانسان، دون أن يستطيع أن يذلله، ليلفتنا الله سبحانه الى أن كل شيء بقدرته وجعل موازين القوة والضخامة تختل، حتى لا يقال ان هذا الحيوان قوي بحجمه أو بالقوة التي خلقت له، بل جعل أضعف الأشياء يمكن أن يكون قاتلا للبشر.
ثم نأتي الى الجماد، الأرض من طبيعتها ثبات قشرتها حتى يستطيع الناس أن يعيشوا عليها، ويبنوا مساكنهم، ويمارسوا حياتهم، ولو أن قشرة الأرض لم تكن ثابتة لاستحالة الحياة عليها، ولاستحالت عمارتها، والله سبحانه وتعالى يريد منا عمارة الأرض، ولذلك جعل قشرتها ثابتة صلبة، ولكن في بعض الأحيان تتحول الى عدم ثبات، فتنفجر البراكين ملقية بالحمم، وتحدث الزلازل التي تدمر كل ما على المكان الذي تقع فيه.
ويتقدم العلم ويكشف الله بعضا من علمه لبعض خلقه ما يشاء، ولكن يبقى الانسان عاجزا على أن يتنبأ بالزلازل، فيأتي الزلزال في أكثر بلاد الدنيا تقدما ليفاجئ أهلها دون أن يشعروا بقرب وقوعه، بل انه من طلاقة قدرة الله تعالى أنه أعطى بعض الحيوانات، التي ليس لها عقول تفكر، ولا علم ولا حضارة، أعطاها غريزة الاحساس بقرب وقوع الزلزال، ولذلك فهي تسارع بمغادرة المكان أو يحدث لها هياج، ان كانت محبوسة في لأقفاص أو حظائر مغلقة، وذلك ليلفتنا الله سبحانه وتعالى الى أن العلم يأتي منه سبحانه وتعالى ولا يحصل عليه الانسان بقدرته، فيعطي سبحانه من لا قدرة له على الفكر والكشف العلمي ما لا يعطيه لذلك الذي ميزه بالعقل والعلم.
لماذا؟ لنعلم أن كل شيء من الله فلا نعبد قدراتنا، ولا نقول: انتهى عصر الدين والايمان وبدأ عصر العلم، بل نلتفت الى أن الله يعطي لمن هم دوننا في الخلق علما لا نصل نحن اليه، فنعرف أن كل شيء بقدرته وحده سبحانه وتعالى.
ومظاهر طلاقة قدرة الله في الكون كثيرة، فهو وحده الذي ينصر الضعيف على القوي، وينتقم للمظلوم من الظالم، وكل ما في الكون خاضع لطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى، على أن طلاقة القدرة في تغيير ما هو ثابت من قوانين الكون كلها ويحدث الدمار وتنتهي الحياة.
وذلك مصداقا لقوله تعالى:
{ اذا السماء انفطرت واذا الكواكب انتثرت واذا البحار فجّرت واذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت واخرّت} الانفطار 1_5.
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم، تنبئنا بما سيحدث عندما تقوم القيامة.
اذن الذين يقولون: ان عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه هي الثبات والدقة الت لا تتأثر بالزمن، والتي تبقى ملايين السنين دون أن تختل ولو ثانية واحدة، نقول لهم: هذه موجودة وانظروا الى القوانين الكونية ودقتها وكيف أنها لم تتأثر بالزمن.
والين يقولون: ان عظمة الحق سبحانه وتعالى في طلاقة قدرته في كونه، وألا تكون الأسباب مقيدة لقدرة الخالق والمسبب، نقول لهم: انظروا في الكون وحولكم مظاهر طلاقة القدرة، وليست هذه المظاهر مختفية أو مستورة، بل هي ظاهرة أمامنا جميعا، وليست في أحداث بعيدة عن حياتنا، بل هي تحدث لنا كل يوم.
واذا صاح انسان من قلبه: (ربنا كبير)، أو (ربنا موجود)، أو ( ربك يمهل ولا يهمل)، فمعنى ذلك أنه رأى طلاقة قدرة الله، تنصف مظلوما، أو تنتقم من ظالم، أو تنصر ضعيفا على قوي، أو تأخذ قويا وهو محاط بكل قوته الدنيوية.
فالانسان لا يتذكر قدرة الله عندما يرى الكون أمامه يمضي بالأسباب، ذلك أن هذا شيء عادي لا يوجب التعجب، فانتصار القوي على الضعيف لا يثير في النفس اندهاشا، والأجر المعقول للعمل شيء عادي، والأحداث بالأسباب هو ما يعيشه الناس، ولكننا نتذكر قدرة الله تعالى اذا اختلت الأسباب أمامنا، وجاء المسبب ليعطينا ما لا يتفق مع الأسباب ولا مع قوانينها.
في هذا الفصل استعرضنا بعض أسباب الوجود التي تثبت قضية الايمان بالدليل العقلي، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون} الذاريات 21.
على أن بعض الناس ينظر الى نفسه فلا يرى شيئا، فما معنى هذه الآية الكريمة؟
هذا هو موضوع الفصل القادم.
الفصل الثاني
يقول الله سبحانه وتعالى
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}
آيات الله في خلق الانسان
هذه الآية يمر عليها كثير من الناس دون ان يتنبهوا الى الفيوضات والمعاني التي تحتويها. بل انك ا1ذا سألت انسانا غير مؤمن ماذا يعرف عن هذه الآية الكريمة؟ فيقول لك: لا شيء في نفسي!!
فأنا انسان أولد وأكبر وأتزوج وأعمل وتنتهي حياتي وأموت. فماذا في نفسي؟ نقول له: لو أنك تدبرت لعلمت أن في نفسك آيات وآيات.. سنذكر في هذا الفصل بعض هذه الآيات، لأن آيات الله في الانسان كثيرة ومتعددة.
أول شيء هو قول الحق سبحانه وتعالى:
{ واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين} الأعراف 172.
اذا قرأت هذه الآية يقول لك غير المؤمن: لم نشهد شيئا ولم نرى شيئا ولم نحس شيئا! ونقول: بل شهدت، وأنت شهيد على نفسك في ذلك، كيف؟ الله سبحانه وتعالى عرفنا بانه موجود، وعرفنا بشهادة ربوبيته وليس بشهادة ألوهية، ومعنى ذلك أن المؤمن والكافر يعلم في نفسه وجود الله، ولكن الكافر يحاول أن يستر هذا الوجود ليحقق شهواته وما يريد ولو على حساب حقوق الآخرين، ولننظر الى ما أحل الله وما حرّم الله، ثم لننظر الى النفس البشرية على عمومها لنرى ما تفعل، ولنعرف يقينا أن هذه النفس تعرف ما أحل الله وتستريح له وتنسجم معه، وتعرف ما حرّم الله فيصيبها انزعاج واضطراب وذعر وهي ترتكبه، وأول هذه الأشياء هو العلاقة بين الرجل والمرأة.
اذا جاءك رجل وقال: أريد أن أختلي في حجرة ابنتك، ماذا تفعل به؟ قد تقتله، وان لم تقتله قد تضربه، ويعينك على ذلك كل الناس، وسيجد فعله هذا استناكارا عاما من المؤمن وغير المؤمن.
فاذا جاءك هذا الرجل وقال: أريد أن أتزوج ابنتك، فانك تستقبله بالترحاب وتدعو الناس للترحيب به، وتعلن النبأ على الجميع، وتعقد القران، وبعد عقد القران تتركه هو وابنتك في الحجرة، وتوافق على الخلوة بينهما.
ما الفرق بين الحالتين؟ بعض الناس يقول انها وثيقة الزواج التي تحرر، فهل الفرق هو الورقة فعلا؟ لا، الفرق هو الحلال والحرام، ما أحله الله وما حرّمه، ما أحله ينسجم مع النفس البشرية ويقبله كل الناس، وما حرّمه الله تستنكره كل نفس بشرية وتنفعل ضدّه.
كيف يحدث هذا؟ لأنك عرفت يقينا منهج الحق والباطل، وممن عرفته؟ من الذي وضعه، ليس هذا فقط، بل انظر الى انسان في شقة مع زوجته، يدخل مطمئن تماما يدخل أمام الناس الى بيته، واذا طرق الباب قام وفتح للطارق، واذا جاء صديق استقبله باطمئنان، واذا خرج الى الشارع وأخذ زوجته معه أمام الناس جميعا، انظر الى نفس الرجل مع زوجة غيره، يغلق الأبواب ولنوافذ حتى لا يراه أحد، واذا طرق الباب انزعج ولا يفتح، واذا جاءه صديق أصيب بالذعر، واذا خرج الى الشارع مشي بعيدا عنها.
ما الفارق بين الحالتين؟ الفارق هو الحلال والحرام اللذان تعرفهما كل نفس، حتى تلك التي لم تقرأ شيئا عن الدين، لأن الله تعالى قال:
{ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}.
فاذا انتقلنا بعد ذلك الى اوجه الحياة، لص يريد أن يسرق، يتأكد أولا من أن الطريق خال، ولا يجرؤ أن يفعل ذلك الا في الظلام أو بعيدا عن الناس، وبمجرد أن يأخذ ما يريد ان يسرقه ينطلق بسرعة وهو يتلفت يمينا ويسارا خوفا من أن يراه أحد، ثم يبحث عن مكان يخفي فيه المسروقات، انفعالا رهيبة في داخله تؤكد أنه يعرف أن ما يفعله اثم وخطيئة، لكن الانسان عندما يريد أن يدخل بيته ليأخذ شيئا دخل أمام الناس جميعا ومشى باطمئنان، وحمل الشيء الذي يريده وهو لا يخشى أن يراه أحد، ذلك أنه يحس في داخله بأنه يفعل شيئا لا يحرّمه الله، الذي يأخذ رشوة مثلا، يتلفت حوله يمينا ويسارا ويسارع باخفائها، والذي يقبض مرتبه يفعل ذلك أمام الدنيا كلها.
وهكذا كل مقاييس الخير والشر، مقاييس الخير تنسجم معها النفس البشرية، وتحس بطبيعتها وراحتها، ومقاييس الشر تضطرب معها النفس البشرية وتحس بالفزع والذعر وهي ترتكبها، من الذي وضع في النفس هذا، أنها تعرف يقينا هذه المقاييس التي وضعها الله لمنهجه في كونه، ومن الذي أعلم هذه النفس أن هناك مقاييس، وأن هناك الها، الا أن تكون الآية الكريمة:
{ واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين} الأعراف 172.
هي التفسير الوحيد لمقاييس الخير ومقاييس الشر التي وضعت فينا بالفطرة، وبما أن هذا عطاء ربوبية، فان الله سبحانه وتعالى رب الناس كل الناس، من آمن به ومن لم يؤمن، ولذلك وجدت في البشر كلهم.
نأتي بعد ذلك الى نقطة ثانية، الله سبحانه وتعالى غيب، وغير المؤمن يقول أنا لا أؤمن الا بما أرى، أنا هو غيب عني فلا أؤمن به لأنني لم أشهده، والايمان غير الرؤية، فأنت اذا رأيتني أمامك لا تقول: أنا أؤمن أني أراك، لأن الرؤية عين يقين ليس بعدها دلالة! ولا تقول أنا أؤمن أنني أجلس مع أصدقائي، ولا تقول اني أؤمن أني لست أرى الشمس مثلا!! ذلك هو عين اليقين، وهناك: " علم يقين"، " وعين يقين"، " وحق يقين".
فعلم اليقين هو الذي يأتيك من انسان تثق فه وفي أنه صادق في كلامه، فاذا قال لك انسان مشهود له بالصدق أنا رأيت فلانا يفعل كذا، فأنت تصدق بوثوقك بمن قال، فاذا رأيت الشيء أمامك يكون ذلك " عين اليقين"، فالذي يقول لك مثلا ان هناك مخلوقا نادرا في بلدة كذا فأنت تصدقه، لأنك تثق به، فاذا جاء معه بهذا المخلوق وأظهره أمامك أصبح علم اليقين عين اليقين، فاذا لمسته بيدك وتحسسته وتأكد من اوصافه يكون هذا " حق اليقين".
ولذلك فان الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب عغير المؤمنين عن جهنم يقول:
{ كلا لو تعلمون علم اليقين لترونّ الحجيم ثم لترونّها عين اليقين} التكاثر 5_7.
أي أن كلا منا سيرى جهنم بعينيه في الآخرة، ثم يقول سبحانه وتعالى:{ وأما ان كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ان هذا لهو حق اليقين} الواقعة 92-95.
أي أن الكفار حين يدخلون النار ويعذبون فيها سيكون ذلك حق اليقين، أي واقعا يعيشونه وليست مجرّد رؤية.
هذه هي الرؤية، أما الايمان فهو تصديق بغيب، فأنت تقول: أنا أؤمن أن ذلك حدث كما أراك أمامي، أي أنك لم تشهد ما حدث، ولكنك وصلت بالدليل والاقتناع الى أنه قد حدث، وأصبح في نفسك كيقين الرؤية تماما.
أين الروح في جسدك؟
غير المؤمنين يقول ان الله غيب وأنا لا أصدق الا ما أرى! نقول: قبل أن تعلن هذا الكلام تذكر الآية الكريمة:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
وأنت في جسدك الروح هي التي تهبك الحياة والحركة، فاذا خرجت الروح من جسدك سكنت الحركة وانتهت الحياة.
اذن كل منا يعرف أن هناك شيئا اسمه الروح، اذا دخل الجسد أعطاه الحياة، واذا خرج كمه توقفت الحياة، فمن منا رأى الروح؟ بل من منا يعرف أين موقعها من الجسد؟ أهي في القلب الذي ينبض؟ أو في العقل الذي يفكر؟ أو في القدم التي تتحرك؟ أو في العين التي ترى؟ أو في الأذن التي تسمع؟ أين مكانها بالضبط؟ وما هي الروح؟
أكبر علماء الدنيا لا يعرف عنها شيئا، حتى ذلك العالم السويسري الذي جاء بالناس وهم يحتضرون ووضعهم على ميزان دقيق، وعندما أسلموا الروح وجد أن الجسد قد فقد بضع جرامات لحظة خروج الروح، فأعلن أن الروح لها وزن، أو أن لها كيانا ماديا وان كان لا يزيد على غرامات، نقول ان هذا غير صحيح، لأن هذه الجرامات قد تكون هي وزن الهواء الذي خرج من الرئتين، ولم يدخل غيره، أ, تكون بسبب توقف سريان الدم بالجسم.
اذن الروح، وهي موجودة في جسدك، غيب عنك، فأنت لا تعرف ما هي؟ ولا أين هي؟ وأنت لا تعرف كيفية سريانها في الجسم، والا قل لنا اذا أصيب الانسان في حادث وبترت ساقاه، أين ذهبت الروح التي كانت في الساقين تعطيهما الحركة والحياة؟ ولكنك تستدل على وجود الروح مع أنها غيب عنك بآثارها في أنها تعطي الحياة والحركة لجسدك، ولكن هل وجود الروح في المخلوق الحيّ وجود يقيني؟ يقول أكبر علماء الدنيا الماديين: نعم، ولا يستطيع أحد أن ينكر ان الجسد الحي فيه الروح، وأن الجسد الميت قد خرجت الروح منه.
اذا فوجود الروح علم يقين مستدل عليها بأثارها، فهل اذا كان وجود الروح في جسدك يؤكد لك يقينا أنها موجودة مستدلا على ذلك بالحركة والحياة التي تعطيها في الجسد، ألا يدل هذا الكون كله بما فيه من اعجاز الخلق على وجود الله يقينا؟ ألا تنظر الى جسدك والروح فيه ثم تنظر الى الكون لتستخدم نفس القانون؟ أم أنك في جسدك لا تستطيع أن تجادل, وفي الكون بعظمته تجادل؟! أليس هذا كذبا على النفس واحتقارا لمهمة العقل!! ألا نتدبر في معنى الآية الكريمة:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}؟!.
قدرات الانسان
ثم نأتي بعد ذلك الى النقطة الثالثة، غير المؤمن يقول أنا سيد نفسي، أنا حاكم نفسي أفعل بها ما أشاء، نقول: هذا افتراء على الله، فجسدك هو ملك لله، وهو يفعل فيه ما يشاء الا ما شاء أن يجعلك فيه مختارا، واذا لم تصدّق ذلك فانظر الى جسدك.
القلب ينبض، فهل أنت الذي تجعله ينبض؟ وهل تستطيع ان توقفه قليلا ليستريح؟ أو تجعله اذا توقف أن يعود الى الحركة مرة أخرى؟ وكيف يمكن أن يتبع القلب لارادتك، وهو ينبض وأنت نائم مسلوب الارادة، ومن الذي يعطي الأمر للقلب لكي يقلل نبضاته وأنت نائم، لأنك متوقف عن الحركة، ويجعله يسرع في النبض وأنت تقوم بأي مجهود محتاج الى سرعة حركة الدم في الجسم.
وحركة التنفس هل أنت الي تقوم بها؟ واذا قلت نعم فكيف تتنفس وأنت نائم؟ انها حركة تتم بالقهر لا سلطان لك عليها، فاذا صدر لها الأمر الالهي بأن تتوقف فلا احديستطيع أن يعيدها.
ومعدتك وما يحدث فيها من تفاعلات لهضم الطعام وأنزيمات تفرز غدد منعددة، أيتم هذا بارادتك؟
وأمعاؤك وحركة الطعام فيها وامتصاص ما يفيد الجسم وطرد ما لا يفيد. أيحدث هذا بارادتك أم أنها تتم دون ان تدري؟
وكرات الدم البيضاء وهي تتصدى للميكروبات التي تدخل جسدك فترسل كرات معينة لتحدد ما يمكن أن يقضي على الميكروبات، ثم يقوم النخاع بتصنيع المواد المضادة فتقضي على الميكروب فعلا، أتدري أنت شيئا عن هذه العملية؟ ان كل هذا مقهور لله سبحانه وتعالى، يقوم بعمله دون أن يتوقف، ودون أن تدري أنت شيئا عنه.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه الأجهزة البشرية مقهورة له، والا لما استطاع الانسان الحياة، ولا العمل، ولا أداء مهمته في عمارة الكون، والا فقل لي بالله عليك، لو أن قلبك يخضع لارادتك كيف يمكن أن تنام؟ انك ستظل يقظا ليستمر القلب في النبض، لو أن معدتك تخضع لارادتك لاحتجت الى ساعات طويلة بعد كل وجبة لتتم عملية الهضم، لو أن الدورة الدموية تخضع لارادتك، لما استطاع عقلك أن يستمر في الحياة وهو مشغول بمئات العمليات التي تتم كل دقيقة.
وهكذا شاءت رحمة الله أن يجعل كل هذا بالقهر حتى تيتطيع الحياة والسعي في الأرض، وحتى يمكنك ان تتمتع بحياتك.
اذا لا تقل أنا حر في جسدي، أو جسدي خاضع لي، فهذا غير صحيح علميا وبالدليل المادي، فأنت مقهور في كل أجهزة جسدك، حتى تلك التي أخضعها الله لارادتك فهذا خضوع ظاهري وليس خضوعا حقيقيا، ولقد شاءت حكمة الله أن يرينا هذا في الدنيا أمامنا بالدليل المادي، فأنت تبصر بعينيك، وحتى لا تغتر وتعتقد أن هذا الابصارمن ذاتك، وأنه خاضع لارادتك، أوجد الله سبحانه وتعالى من له عينان مفتوحتان ولا يبصر، وأنت تشي بقدميك، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له قدمان ولا يستطيع أن يمشي، وأنت تحرك يديك وتتحرك وتفعل بهما ما تشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له قدمان ولا يستطيع أن يمشي، وأنت تحرك يديك وتفعل بهما ما تشاء ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له يدان ولا تستطيعان الحركة، وأنت تتحدث بلسانك وتسمع بأذنيك، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له لسان ولا يقدر على الكلام، ومن له أذنان ولا يسمع، كل هذه أمثلة قليلة وضعها الله سبحانه وتعالى في الكون، ليلفتنا الى أنه ليس لنا ذاتية، وأن الأمر كله لله.
فاذا كنا نبصر بأعيننا فنحن نبصر بقدرة الله تعالى التي أعطت العين قوة الابصار ونمشي بقدرة الله تعالى التي أعطت القدمين قوة الحركة، ونسمع ونتكلم بقدرة الله التي أعطت اللسان قدرة الكلام، والأذن خاصية السمع، ولو كان هذا بذاتية منا، ما استطاع أحد أن يسلبنا النظر أ, السمع أو الحركة أو الكلام.
الاختيار والقدرة
بل ان الله سبحانه وتعالى أقام لنا الدليل على أنه حتى حركاتنا الاختيارية لا تتم الا بقدرته، مثلا اذا أردت أن تقوم من مكانك، كم عضلة تنقبض، وكم عضلة تنبسط، حتى تتمكن من القيام؟ ولكي نقوم من أماكننا ونحن لا ندري أي العضلات تتحرك وأيها لا يتحرك، بمجرّد أن يخطر على بالنا لنقوم، هذه العضلات تنبسط، وهذه تنقبض بقدرة الله وليس بارادتنا، العملية التي تتم في عضلات الجسم ساعة القيام، ليس لنا في حركتها ارادة الا أننا أردنا أن نقوم، وكذلك في المشي والجري وكل حركة نقوم بها.
اذن حركات الجسد كلها خاضعة لنا بارداة الله سبحانه وتعالى، الله هو الذي أخضعها لما نريد وجعلها تفعل ما نشاء، وهي تفعله دون علمنا بذلك، بل تفعله بشيفرة الهية وضعها الله في أجسادنا، فتنقبض وتنبسط العضلات فيتم كل شيء ونحن لا ندري.
ثم يقول الانسان أنا مسيطر على جسدي أفعل ما أشاء، نقول لو كنت مسيطرا حقيقة لعلمت ما يجري فيه، ولكن هذا الجسد مسخر لك بقدرة الله تعالى، ولذلك فهو يفعل لك ما تريد دون ان تدري، أو تحس كيف يتم هذا الفعل.
دليل الضحك والبكاء
بل أكثر من ذلك تحديا من الله سبحانه وتعالى، يأتي الحق في كتابه الكريم ويقول:
{ وأنه هو أضحك وأبكى} النجم 43.
أكثرنا يمر على هذه الآية الكريمة ولا يلتفت اليها، ولكن هذه الآية فيها اعجاز من الله سبحانه وتعالى، يقول الحق سبحانه وتعالى:
{وأنه هو أضحك وأبكى}
معناه أن الضحك والبكاء من الله، وكونه من الله سبحانه وتعالى يكون لجميع خلقه فالله حين يعطي، يعطي الخلق جميعا ذلك هو عدل الله، فاذا نظرت الى الدنيا كلها تجد أن الضحك والبكاء موحدان بين البشر جميعا على اختلاف اغاتهم وجنسياتهم، فلا توجد ضحكة انجليزية وضحكة أميركية وضحكة افريقية، بل هي ضحكة واحدة للبشر جميعا، ولا يوجد بكاء آسيوي أو بكاء استرالي، وانما هو بكاء واحد، فلغة الضحك والبكاء موحدة بين البشر جميعا، وهي اذا اصطنعت تختلف.
واذا جاءت طبيبعية تكون موحدة، ولذلك لذا اصطنع أحدنا البكاء أو اصطنع الضحك فانك تستطيع أن تميزه بسهولة عن ذلك الانفعال الطبيعي الذي يأتي من الله. ومن العجب أنك ترى مثلا الفيلم الكوميدي الذي صنع في أميركا يضحك أها أوروبا والذي صنع في آسيا مثلا يضحك أهل أستراليا، بل ان هناك من اعطاهم الله موهبة القدرة على اضحاك شعوب الدنيا كلها، ولعل هناك نجوما عالمية في فن الكوميديا تضحك العالم كله، فبعض الأفلام عاطفية تبكي العالم كله، فبعض الأفلام مثلا اذا قدمته بأي لغة أبكى الناس، وهكذا تنزل أحيانا الرحمات من الله فتفيض العيون بالدموع، وأحياتا يريد الله أن يروّح عن النفوس فتتعالىالضحكات.
ولكن قد يقول بعض الناس: ان هناك ما يضحك واحدا ولا يضحك الآخر،وأن هناك مشهدا يبكي انسانا، في حين تتحجر الدموع في العيون فلا يبكي انسانا آخر في نفس الموقف!! نقول انك لم تفهم الآية، فقوله تعالى:
{ وأنه هو أضحك وأبكى}.
ليس معناه أن الناس تضحك معا وتبكي معا، ولكن معناه أن الانسان لا يستطيع أن يضحك نفسه، ولا أن يبكي نفسه عن شعور صادق بلا اصطناع، ولكن ذلك من الله، ولذلك انعدمت فيه الارادة البشرية، فليس لكل واحد منا ضحكة تميزه، بل نحن نضحك جميعا بلغة واحدة، وليس لكل واحد منا بكاء يميزه، بل نحن نبكي جميعا بلغة واحدة، وليس أي واحد منا قادرا على أن يضحك ضحكة طبيعية بارادته كأن يقول لك انني سأضحكك الآن فيضحكك، ولا يستطيع انسان أن يبكي بكاء طبيعيا كأن يقول أنا سأبكي الآن فيبكي، الا أن يصطنع الضحك أو البكاء بشكل غير طبيعي.
ولكن ياتي الضحك والبكاء من الله حين يكون طبيعيا، ولأنه يأتي من الله فهو موحد بين البشر جميعا، فاذا كنت لا تستطيع أن تضحك نفسك أو تبكي نفسك، فكيف تدعي أنك سيد نفسك، ولماذا لا تسلم لخالقك؟.
فاذا كان هذا هو الشأن في الجسد البشري، فآمن بالله الذي هو يملك كل خيوطك فاذا كنت لا تؤمن بجنته ولا تريد ثوابه، فاخش عقابه، واذا كنت لا تؤمن بالآخرة فاخش عقابه في الدنيا، فهو الذي يملك كل خيوط حياتك ويستطيع أن يفعل بك ما يشاء.
على أن الله سبحانه وتعالى له لفتات أخرى، يلفتان لقدرته وعظمته ووجوده، اذا كنت تتأبى على الايمان بالله وتقول أنا سيد نفسي، فاذا جاءك قدر الله بالمرض فامنعه على نفسك، وقل لن أمرض، واذا جاءك قدر الله بالموت فامنعه عن نفسك، وقل لن أموت، واذا جاءك قدر الله في مكروه كأن تصاب في حادث، أو تسقط من مكان فتتهشم عظامك فقل لن أسقط.
هذا هو قهر الذي لا تستطيع أن تقف أمامه، وتقول سأفعل ولا أفعل، لأن الله تعالى لم يعطك الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل في الأقدار التي تقع عليك، فقدر اله عليك ينفذ رغم ارادتك، وأنت خاضع لقدر الله سواء رضيت أو لم ترض، ففي الكون أحداث تقع لا تملك فيها اختيارا.
بعض الناس يجادل في هذا ويقول: ان الانسان القوي يستطيع أن يصنع قدره! نقول ان القرآن الكريم قد ردّ على هؤلاء في قول الحق سبحانه وتعالى:
{ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير، انك على كل شيء قدير} آل عمران 26.
ولا بد أن نلتفت الى قول الحق سبحانه وتعالى:{ وتنزع الملك ممن تشاء}.
اي أنه لا يوجد انسان يتخلى عن المنصب والملك والجاه بارادته بل لا بد أن ينزع منه انتزاعان ولذلك تأتي الثورات والانقلابات، لتنزع الملك من أولئك الذين اعتقدوا أنهم ملكوا الدنيا، وأنهم قادرون على أن يفعلوا ما يشاءون بمجرد كلمة أو أمر أو اشارة، فيأتي الله سبحانه وتعالى لينزع منهم هذا رغما عنهم، فتجد الواحد منهم الذي كان يحتمي به الناس عاجزا على أن يحمي نفسه، يهرب من مكان الى آخر، وتجده وهو المعتز بالدنيا يتمنى لو أخذ الناس كل ما يملك، وأبقوا على حياته.
ان هذا يحدث ليلفتنا الحق جل جلاله الى أنه لا أحد يأخذ الملك أو المركز العالي بارادته وتخطيطه، وانما هي أقدار الله يجريها الله على خلقه، فاذا أتى أمر الله نزع منه كل شيء، ولو كان الأمر بذاته لما استطاع أحد أن ينزعه منه، ولا يوجد انسان في هذا الكون يستطيع أن يدعي أنه في منعة من قدر الله، فاذا كانت هذه هي الحقيقة فهي الدليل المادي على أن الانسان تحكمه قدرة خالقه، وأنه لا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله.
أفعال الانسان
فاذا انتقلنا بعد ذلك الى فعل الانسان وعمله الدنيوي، تجد بعض الناس يقول: انني سأفعل كذا وكذا، نقول له: انك أعجز من أن تفعل الا أن يشاء الله، فالفعل محتاج الى زمان، ومحتاج الى مكان، ومحتاج الى مفعول به، وأنت لا تملك شيئا من هذا كله، فاذا جئنا الى الفاعل فأنت لا تملك حتى اللحظة التي تعيش فيها، ولا تضمن أن يمتد بك العمر ثانية واحدة، حتى ولو كانت كل الشواهد الصحية تدل على ذلك، ألا يوجد من لا يشكو من شيء، ثم يسقط فجأة ميتا، ويقال جاءت جلطة في المخ، أو سكتة قلبية، أو أصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية.
هذه كلها أسباب، ولكن السبب الحقيي هو أن الأجل قد انتهى، مصداقا لقوله تعالى:
{فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} الأعراف 34.
اذن ساعة أن صدر الأمر من المسبب وهو الله جل جلاله انتهى العمر.
ومن العجيب أنك ترى أكبر أطباء القلب يموتون بأمراض القلب، وأكبر أطباء المخ تنتهي حياتهم بمرض في المخ، فاذا ملكت اللحظة التي تعيش فيها، وبقيت حتى ساعة اتمام الفعل، فانك قد تصاب بمرض يقعدك عن الحركة، فلا تستطيع اتمام الفعل، هذا بالنسبة للفاعل.
فاذا جئنا للزمن فأنت لا تملك الزمن، ولكنه هو الذي يملكك، ولذلك فانه قد يأتي زمن التنفيذ فتفاجأ بحدث يمنعك، كأن يصاب ابنك في حادث مثلا، أو يموت أحد أقربائك، أو تضطر اضطرارا الى سفر عاجل لمهمة ضرورية، أو يقبض عليك في جريمة أو في اتهام. اذن فأنت لا تكلك الزمن ولا تستطيع أن تقول انني في ساعة كذا سأفعل كذا.
وبالنسبة للمكان فقد تختار مكانا لتبني فيه عمارة مثلا، فتأتي لتجد أن هذا المكان قد استولت عليه الدولة للمنفعة العامة، أو قد ظهر له ورثة لم تكن تعرفهم فأوقفوا العمل، أو أن تققر أن يقام في وسطه طريق، أو أن الأرض تحتها مياه جوفية تجعلها غير صالحة للبناء.
واذا جئنا للمفعول به فقد يرفض الذي تطلب منه القيام بالعمل به، وقد لا تجد عمالا ليقوموا بالتنفيذ، وقد لا يأتي المقاول الذي اتفقت معه وقد لا يحضر الموظف الذي سيعطيك الرخصة لبدء العمل. اذن فأنت لا تملك شيئا من عناصر الفعل كلها، ولذلك طلب منك الله سبحانه وتعالى أن تتأدب وتعطي الشيء لأهله، وتنسبه الى الفاعل الحقيقي، فقال سبحانه وتعالى:
{ ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله، واذكر ربك اذا نسيت وقل عسى يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} الكهف 23،24.
اعجاز القرآن
تأتي بعد ذلك الى معجزة اخرى في النفس البشرية، تلك هي معجزة القرآن الكريم والقرآن فيه اعجاز كثير. ولكننا نتحدث هنا عن الاعجاز القرآني في النفس البشرية كل انسان منا له طاقة وقدرة عقلية، فالمتعلم طاقته العقلية أكبر ممن لم ينل حظا من العلم أو من الأمي، وهؤلاء جميعا لا يمكن أن يجتمعوا عقلا ليشهدوا شيئا واحدا، وكل واحد منهم ينسجم مع هذا الشيء نفس الانسجام، فاذا كانت مثلا هناك محاضرة في فرع من العلوم فلا بستطيع أن ينسجم معها الا ذلك الذي يفهم في هذا الفرع، أما اذا دخل اليها عدد من الذين لم يقرأوا عن هذا العلم فان الانسجام يضيع، ذلك يحدث في كل فرع من فروع الدنيا.
ولكنك اذا جئت الى القرآن الكريم، وهو كلام الله، تجد أن كل النفوس البشرية المؤمنة تنسجم معه، لا تجمعها رابطة الايمان، انك تدخل الى المسجد تجد فيه المتعلم ونصف المتعلم والعالم وقد جلسوا معا جميعا يستمعون الى القرآن الكريم، وتجدهم جميعا منسجمين مع القرآن، تهتز نفوسهم له، وترتاح ملكاتهم اليه، لا فرق بينهم، حتى ذلك الذي لا يعرف معنى ألفاظ القرآن الكريم، تجده جالسا يستمع وهو منسجم ويهتز من داخله، وتقام الصلاة فيقف الجميع في انسجام وراء الامام، تختفي الفوارق الدنيوية بينهم، ولكن تجمعهم رابطة الايمان، فيصلون جميعا بانسجام، لأن ملكاتهم التي خلقها الله فيهم منسجمة ومتفقة مع كلام الله، فلا تلحظ فرقا ولا ترى الا مساواة ايمانية.
بل انه من العجيب ان القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحفظه الانسان بدون فهم، فتجد الطفل الصغير عمره سبع سنوات وربما أقل من ذلك ومع هذا يحفظ القرآن بكامله، أيمكن لهذا الطفل الصغير غير المكلف أن يستوعب معاني القرآن الكريم؟ بالطبع لا، ولكن الايمان الفطري في داخله يجعله يحفظ القرآن عن ظهر قلب ويتلوه، لأن هذا الايمان من الخالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك تنسجم النفس البشرية وهي في أولى مراحلها مع كلام الخالق، أليس هذا اعجاز نقف عنده ايلفتنا الى الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الخالق وهو الموجد، فاذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من مولود الا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" البخاري ومسلم.
قلنا صدقت يا رسول الله، وأكبر دليل على ذلك هو انسجام فطرة الانسان مع كلام الله.
بل وأكثر من ذلك، يأتي الله سبحانه وتعالى ليرينا أن الانسان هو هو وأنه سيأتي به يوم القيامة
دون أن يختلط أحد مع أحد، ويتساءل الذين لا يؤمنون: كيف يمكن أن يأتي الانسان بنفسه يوم القيامة دون ان يختلط أحد مع احد؟
نقول: ان الله سبحانه وتعالى رحمة بعقولنا قد أعطانا الدليل في الدينا، ولن ندخل في تكوين الانسان، ولا في أشياء غيبية، ولكننا نأخذ بالدليل المادي وحده، فالبشر وهم بلايين، كلهم مخلوقون على هيئة واحدة، ولكن كل واحد منهم مميز عن الآخر، فالأب يعرف ابنه من بين ملايين البشر، والابن يعرف أباه وأمه بين ملايين النساء والرجال بمجرد النظرة، بمجرد اللمحة تستطيع أن تخرج ابنك أو أباك أو أمك من بين الناس جميعا هذا تمييز للانسان لا يشترك فيه بقية الخلق، فأنت لا تستطيع أن تميز بقرة عن بقرة أو جمل عن جمل، أو أي مخلوق آخر الا الانسان.
ولذلك فان رعاة الغنم يرقمونها أو يضعون عليها علامات مميزة حتى يعرفوها، ولكنهم لا يضعون على أولادهم علامات حتى يميزوهم عن غيرهم من ملايين الصغار.
الانسان والتميز
اننا نجد الانسان مميزا ببصمة الأصابع، لا تتشابه بصمة ابهام انسان مع انسان آخر رغم وجود بلايين البشر، ليس هذا فقط ولكن لكل منا بصمة رائحة لا تتشابه مع انسان آخر ونحن لا ندركها، ولكن كلب الشرطة المدرب هو الذي أعطاه الله ملكة التميز فيشم رائحة الأثر، فيخرج هذا الانسان من بين عشرات بل المئات.
وكلما أعيدت التجربة قام كلب الشرطة باخراج نفس الشخص، بل انه مع تقدم العلم وجد أنه لكل انسان بصمة صوت تميزه عن الآخر، وبصمة فك خاصة بأسنانه، كل هذا ليلفتنا الحق سبحانه وتعالى الى أنه ميز كل انسان بميزات لا يشترك فيها أحد مع أحد حتى ياتي به يوم البعث هو هو نفسه.
بل ان الله سبحانه وتعالى وضع فينا العدل بالنسبة لأبنائنا رغما عنا فتجد الأب يحب أصغر أبنائه أكثر من الكبار، لماذا؟ لأن الابن الصغير مهما امتد العمر بالأب سيقضي في رعاية أبيه سنوات أقل من الكبار، ولذلك أعطاه حنانا أكبر ليعوضه عن هذه السنوات، حتى يكون خير الأب وعطفه قد وزعا على أبنائه بالعدل، فمنهم من أخذ عطفا أقل وسنوات أكثر، ومنهم من أخذ سنوات أقل وعطفا أكثر.
الى هنا نكون قد وصلنا الى بيان بعض الفيوضات التي شملتها الآية الكريمة:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
فالآية أعطتنا بوضوح الدليل المادي من النفس البشرية بانها تعرف الله بالفطرة، وتعرف الخير والشر بالفطرة، مصداقا لقول الله تعالى:
{ فألهمها فجورها وتقواها} الشمس 8.
وأن هذه النفس بالدليل المادي لا تملك لذاتها نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله، وأنها منسجمة مع الايمان بفطرة خلقها، ومنسجمة مع كلام الله بفطرتها الايمانية.
على أن الدليل المادي لوجود الله لا يشمل النفس البشرية وحدها، بل يشمل كل شيء في الكون، فكل ما في الكون ينطق بأنه لا اله الا الله، وفي كل شيء دليل، وسنبدأ في الفصل القادم بالدليل الغيبي.
-يتبع-
لآيا ت الكونية
ودلالتها على وجود الله تعالى
للداعية الشيخ محمد متولي الشعراوي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
الله سبحانه وتعالى وضع في كونه آيات تنطق بوجوده، وتشهد بعظمته، وتدل بأنه الاله الخالق، ولقد خاطب الله تعالى كل العقول في كل الأزمان وحثها على التفكير والتعمّق والتأمل في ملكوته سبحانه، فكل أيات الكون ناطقة بوحدانيته تعالى، وما العلم الا كاشف لقدرة الله في الكون.
قال تعالى:{ ذلكم الله ربكم، لا اله الا هو، خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل} الأنعام 102.
في جولة تشمل مظاهر الحياة والكون، في الأنفس والآفاق يستعرض الامام الداعية محمد متولي الشعراوي أدلة وجود الله تعالى المادية عن طريق العقل فقط في قراءة هادئة هادفة، تخاطب العقول والقلوب وتدعوها للتفكر ثم الايمان.
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء انه سميع مجيب.
الفصل الأول
لماذا الأدلة
المادية والكونية
الأدلة نوعان
الله سبحانه وتعالى وضع في كونه آيات تنطق بوجوده، وتنطق بعظمته، وتنطق بأنه هو الخالق، الجماد يشهد أن لا اله الا الله، والنبات يشهد أن لا اله الا الله، والحيوان يشهد أن لا اله الا الله، والانسان يشهد أن ال اله الا الله، وكل هذا يشهد بأدلة ناطقة لا تحتاج حتى الى مجرد البحث والتفكير والتعمّق.
ولقد خاطب الله سبحانه وتعالى كل العقول في كل الأزمان، فجعل هذه الأدلة التي تنطق بوجوده من أول الخلق، ثم كلما تقدم الانسان، وارتقت الحضارة، وكشف الله من علمه ما يشاء لمن يشاء، ازدادت القضية رسوخا وازدادت الآيات وضوحا، ذلك أن الله تعالى شاء عدله أن يخاطب كل العقول، فجاءت آيات الله في الكون الناطقة بألوهيته وحده ليفهمها العقل البسيط، والعقل المرتقي في الكون، ولا اعتقد أن أحدا يستطيع أن يجادل في هذه الأدلة ولا أن ينكر وجودها.
ولقد أوجد الله سبحانه وتعالى في هذا الكون أدلة مادية، وأدلة عقلية، وأدلة نصل اليها بالحواس، كلها تنطق بوحدانية الله ووجوده.
ولقد جعل الله الأداة الآولى للادراك وجوده هي العقل، تاعقل هو الذي يدرك وجود الله تعالى بالدليل العقلي الذي وضعه الخالق في الكون، ولكن مهمة العقل بالنسبة لهذا الوجود محدودة، ذلك أننا بالعقل ندرك أن هناك خالقا مبدعا قادرا، ولكننا بالعقل لا نستطيع أن ندرك ماذا يريد الخالق منا، وكيف نعبده، وكيف نشكره، وماذا أعد لنا من جزتء، يثيب به من أطاعه، ويعاقب به من عصاه؟؟ فهذا كله فوق قدرة العقل.
ولذلك كان لا بد أن يرسل الله الرسل ليبلغونا عن الله، لماذا خلق الله هذا الكون؟ ولماذا خلقنا؟ وما هو منهج الحياة الذي رسمه لنا لتتبعه؟ وماذا أعد لنا من ثواب وعقاب؟ فتلك مهمة فوق قدرات عقولنا، وتلك مهمة لو استخدمنا فيها العقل لما وصلنا الى شيء.
وجاء الرسل ومعهم المعجزات من الله بصدق رسالاتهم ومعهم المنهج، وقاموا بابلاغ الناس، ولكننا لن نتحدث هنا عن معجزات تالاسل، وعما جاؤوا به، ولن نتكلم عن أي شيء غيبي.
سنتحدث عن الماديات وحدها، ونتكلم عن الأدلة المادي، بما فيها تلك الأدلة التي ترينا فتجعلنا نوقن أن الغيب موجود، وأن ما لا نراه يعيش حولنا، كل هذا بالعقل وليس بالايمان.
فالله سبحانه وتعالى وضع الدليل الايماني في الكون كما وضع الدليل العقلي، ولكننا سنحتكم للعقل وحده، ليرى الناس جميعا أن الاحتكام للعقل يعطينا آلاف الأدلة.
هذه الأدلة هي من آيات الله، وكلها تشهد أن لا اله الا الله.
واذا أردنا أن نبدأ بالأدلة المادية فلا بدّ أن نبدأ بالخلق ، ذلك الدليل الذي نراه جميعا أمام أعيننا ليلا ونهارا، ونلمسه لأننا نعيشه، فالبداية هي أن هذا الكون بكل ما فيه قد وجد أولا قبل أن يخلق الانسان، وتلك قضية لا يستطيع أحد أن يجادل فيها، فلا أحد يستطيع أن يقول ان خلق السموات والأرضتم بعد خلق الانسان، بمعنى أن الانسان جاء ولم تكن هناك أرض يعيش عليها، ولا شمس تشرق، ولا ليل ولا نهار، ولا هواء يتنفسه، بل ان الانسان جاء وكل شيء قد أعد له، بل ان هناك أشياء أكبر من قدرة الانسان خلقت وسخرت للانسان تعطيه كل متطلبات الحياة دون مقابل، وأشياء أخرى خلقت وسخرت للانسان تعطيه ما يشاء ولكنها محتاجة الى جهد الانسان وعمله، وذلك حتى تتم عمارة الأرض.
اذن فباستخدام العقل وحده لا أحد يستطيع أن يجادل في أن هذا الكون قد حلق وأعد للانسان قبل أن يخلق الانسان نفسه، فاذا جاء الحق سبحانه وتعالى وقال لنا:
{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى الى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، وهو بكل شيء عليم} البقرة 29.
لا يستطيع أحد أن يجادل عقليا في هذه القضية، لأن الكون تم خلقه قبل خلق الانسان، فكيف يكون للانسان عمل قبل أن يوجد ويخلق؟ وتأتي الآية:
{ واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة} البقرة 30.
نقول: ان هذا يؤكد الحقيقة بأن الكون أعد للانسان قبل أن يخلق، وهذه قضية يؤكدها العقل، ولا يستطيع أن يجادل فيها.
وبذلك نكون قد وصلنا الى النقطة الأولى، وهي ان الله سبحانه وتعالى بكمال صفاته وقدراته قد خلق هذا الكون وأوجده ونظمه غير مستعين بأحد من خلقه، ولا محتاج أحد من عباده، واننا جميعا أي البشر قد جئنا الى كون معد لنا اعدادا كاملا.
ولكن قدرة هذا الكون لا تخضع لنا ولا لقدراتنا، بل هي أكير من هذه القدرات بكثير. فالشمس مثلا أقوى من قدرة البشر جميعا، وكذلك الأرض والبحار والجبال، اذن فلا بد أن تكون هذه الأشياء قد أخضعت لنا بقدرة من خلقها وليس بقدرتنا نحن، ذلك أنها مسخرة لنا لا تستطيع أن تعصي أمرا، فلا الشمس تستطيع أن تشرق وتغيب يوما حسب هواها لتعطي الدفء ووسائل استمرار الحياة لمن تريد، وتمنعه عمن تشاء، ولا الهواء يسنطيع أن يهب يوما ويتوقف يوما، ولا المطر يستطيع أن يمتنع عن الأرض فتنعدم الحياة ويهلك الناس، ولا الأرض تستطيع أن تمتنع عن انبات الزرع، لا شيء من هذا يمكن أن يحدث، ولا تستطيع البشرية كلها أن تدعي أن لها دخلا في مهمة هذا الكون، لأنه لا خلق هذه الأشياء ولا استمرارها في عطائها يخضع لارادة البشر.
فاذا جئنا الى الانسان وجدناه هو الاخر لا بدّ أن يشهد بأن له خالقا وموجودا، فلا يوجد من يستطيع أن يدّعي أنه خلق انسانا، ولا من يستطيع أن يدّعي أنه خلق نفسه.
**
دليل الخلق
اذن فقضية الخلق محسومة لله تعالى لا يقبل فيها جدل عقلي، فاذا جاء بعض الناس وقالوا: ان هذا الكون خلق بالمصادفة، نقل: ان المصادفة لا تنشئ نظاما دقيقا كنظام الكون، لا يختل رغم مرور ملايين السنين.
واذا جاء بعض العلماء ليدعي أنه كانت هناك ذرات ساكنة ثم تحركت وتكثفت واتحدت!!. نقول: من الذي أوجد هذه الذرات، ومن الذي حرّكها من السكون؟
واذا قيل ان الحياة بدأت بخلية واحدة من الماء نتيجة تفاعلات كيمياوية، نقول: من الذي أوجد هذه التفاعلات لتصنع هذه الخلية؟
ونحن لن ندخل مع هؤلاء في جدل عقيم، وانما نقول لهم: ان من اعجاز الخالق، أنه أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا، وأنبأنا أكثر من ذلك أن هؤلاء يضلون، أي ليسوا على حق، ولكنهم على ضلال، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ ما أشهدتم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذين المضلين عضدا} الكهف 51.
وهكذا نرى من يأتي ليضل الناس بنظريات كاذبة عن أصل خلق السموات والأرض، وأصل خلق الانسان، ومن يدعي أن أصل الانسان قرد، وهي نظرية يملؤها الغباء، فنحن لم نشهد قردا يتحول انسانا، واذا كان أصل الانسان قردا، فلماذا بقيت القرود على حالها حتى الآن ولم تتحول الى بشر؟! ومن الذي منعها أن يحدث لها هذا التحول ما دام قد حدث في الماضي؟! ولقد نسي هؤلاء أن الوجود لا بدّ أن يكون من ذكر وأنثى والا انقرض النوع، وهؤلاء يقولون لنا عندما ادعوا أن قردا تحوّل انسانا، من أين جاء القرد الذي تحول الى امرأة ليتم التكاثر!!
وبدون الدخول في جدل لا يفيد، نقول لهولاء جميعا: لقد جئتم مثبتين لكلام الله، فلو أنه لم يأت من يضل بنظريات كاذبة في خلق لبسموات والأرض وفي خلق الانسان، لقلنا: ان الله تعالى قد أخبرنا في القرآن الكريم، أنه سيأتي من يضل في خلق السموات والأرض وفي خلق الانسان، ولكن لم يأت أحد يفعل ذلك، ولكن كونهم جاءوا وكونهم أضلوا يجعلنا نقول: سبحانه ربنا:، لقد أخبرنا عن المضلين وجاءوا فعلا بعد قرون كثيرة من نزول القرآن، فكأن هؤلاء الذين جاءوا ليحاربوا قضية الايمان، قد أثبتوها وأقاموا الدليل عليها.
على أننا نقول لكل من جاء يتحدث عن خلق السموات والأرض وخلق الانسان مدعيا أن الله ليس هو الخالق، نقول له: أشهدت الخلق؟ فاذا قال لا، نسأله ففيم تجادل.
على أن قضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى لأنه هو وحده سبحانه الذي قال انه خلق، ولم يأت أحد ولن يجروء أحد على أن يدّعي أنه الخالق.
واذا كان من يفعل شيئا يحرص على الاعلان عما فعل، فلا يوجد شيء صغير اخترعه البشر في الدنيا، الا وحرص صاحبه على الاعلان عن نفسه.
فاذا كان الذي اخترع المصباح قد حرص أن يعرف العالم كله اسمه وتاريخه وقصة اختراعه، أيكون الذي أوجد الشمس غافلا عن أن يخبرنا أنه هو الذي خلقها، واذا كانت هناك قوة أخرى قد أوجدت أفلا تعلن عن نفسها؟.
اذن فقضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه وحده الذي قال انه خلق، حتى يأتي من يدّعي الخلق، ولن يأتي، فان الله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق بلا جدال، وحتى الكفار لم يستطيعوا أن يجادلوا في هذه القضية، ولذلك يأتي القرآن في سورة العنكبوت فيقول:
{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله، فأنّى يؤفكون} العنكبوت 61.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} العنكبوت 63.
وهذه الآيات نزلت في الكافرين والمشركين، وهم رغم كفرهم واشراكهم لم يستطيعوا أن يجادلوا في خلق الكون والانسان.
اذن فقضية الخلق محسومة لله، لأنه سبحانه وتعالى هو الذي خلق، وهو الذي أخبرنا بانه هو الذي خلق.
ولكن القضية لا تقف عند الكون وحده، بل تمتد الى كل ما في الدنيا حتى تلك الأشياء التي يقدر عليها الانسان، فأصل الوجود بكل ما فيه من خلق الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول:
{ ذلكم الله ربكم، لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل} الأنعام 102.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال أنه { خالق كل شيئ} فما من شيء في هذا الوجود الا هو خالقه.
ولنأخذ هذه القضية في كل ما حولنا، في كل هذا الكون، لنأخذ مثلا الخشب، شجرة الخشب التي تعطينا كل الأخشاب التي نستعملها في بيوتنا وأثاثنا الى غير ذلك، هذه الشجرة من أين جاءت؟ تسأل تاجر الخشب من أين جاءت؟ يقول من السويد، وتسأل أهل السويد يقولون من الغابات، وتذهب الى الغابة فيقولون لك من شتلات نعدها، وتسال من أين جاءت هذه الشتلات؟ من جيل سابق من الأشجار، والجيل السابق من جيل سبقه،، وتظل تمضي حتى تصل الى الشجرة الأولى التي أخذ منها كل هذا، من الذي أوجد الشجرة الأولى؟ انه الله، فلا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الشجرة الأولى أو أوجدها من العدم.
فاذا انتقلنا الى باقي أنواع الزرع لنبحث عن التفاحة الأولى والبرتقالة الأولى، والتمرة الأولى، وحبة القمح الأولى، وشجرة القطن الأولى، نجد أنها وغيرها من كل ما تنتجه الأرض، كلها من خلق الله خلقا مباشرا، ثم بعد ذلك استمر وجودها بالأسباي التي خلقها الله في الكون.
قد يقال: ان هناك تهجينا وتحسينا وخلطا بين الأنواع لتنتج نوعا أكثر جودة، نقول: ان هذا كله لا ينفي أن الثمرة الأولى مخلوقا مباشرا من الله، وقد يدعي بعض العلماء أنهم حسنوا أو استنبطوا نوعا جديدا، نقول لهم: كل هذا لا ينفي أن الوجود الأول من الله، وأنهم استخدموا ما خلق الله بالعلم المتاح من الله في كلما فعلوه، ولكن أحدا لا يستطيع أن يدّعي أنه أوجد أي شيء في الأرض من العدم، فكل هذه الاكتشافات العلمية هي من موجود، ولا يوجد اكتشاف علمي واحد من عدم. فكل هذه الاكتشافات العلمية من موجود، ولا يوجد اكتشاف علمي واحد من العدم.
واذا انتقلنا من النبات الى الحيوان، نجد أن كل الحيوانات والطيور والحشرات بدأت بخلق من الله سبحانه وتعالى، وبخلق من ذكر وأنثى، وهذه هي بداية الخلق جميعا، ولا يستطيع أحد أن يدّعي أن خلق من عدم ذكر أو أنثى، وهذه هي بداية الخلق جميعا، ولا يستطيع أحد أن يدّعي أنه أنه خلق من عدم ذكر أو أنثى من أي نوع من النبات أو الحيوان، والله سبحانه وتعالى يلفتنا في القرآن فيقول:
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكّرون} الذاريات 49.
التحدي الالهي في الخلق
اننا نريدهم، ونحن نتحدى علماء الدنيا كلها، أن ياتي عالم فيقول لنا انه أوجد من العدم، أو أنه خلق ذكرا أو أنثى من أي شيء موجود في هذا الكون، وما أكثر الموجودات في كون الله، وهنا تأتي الحقيقة القرآنية تتحدى في قوله تعالى:
{ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب} الحج 73.
هذا هو التحدي الالهي الذي سيبقى قائما حتى يوم القيامة، فلن يستطيع علماء الدنيا ولو اجتمعوا أن يخلقوا ذبابة.
ولقد وصل الانسان الى القمر، وقد يصل الى المريخ، وقد يتجاوز ذلك ولكنه سيظل عاجزا عن خلق ذباب مهما كشف الله له من العلم، فلن يعطيه القدرة على خلق ذبابة، وهذا من اعجاز الله، لأنه وحده الذي خلق كل شيء، والعلم كاشف لقدرات الله في الأرض، ولكنه ليس موجدا لشيء، ولذلك يقول القرآن الكريم:
{ ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل} الأنعام 102.
وبهذا نكون قد أثبتنا بالدليل العقلي أن الله خالق كل شيء في الدنيا، فاذا كان الله قد خلق من هم دون الانسان من نبات وجماد وحيوان فكيف بالانسان بما له من ادراكات وعقل وفكر وتمييز، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
{ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} الطور 35.
واذا كان كل شيء في هذا الكون من خلق الله سبحانه وتعالى، فان قوانين اكون أيضا، تلك هي القوانين التي يسير عليها الكون هي من وضع الله سبحانه وتعالى، الا ما شاء الله أن يجعل للانسان فيه اختيار، فالقوانين التي يمضي عليها الكون هي من وضع الله، والأسباب التي تتم بها الأشياء هي من وضع الله، فالشمس والقمر والنجوم والأرض لا تتبع قوانين البشر، بل تتبع القانون اللهي، والذي خلقها وضع لها القانون الأمثل لتؤدي مهمتها في الكون.
فالشمس لها حركة كونية، ولها تحرّك آخر في فلك خلقه الله لها، وكذلك القمر وكذلك الأرض، وكذلك الرياح، والنجوم، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان} الرحمن 1_7.
اذن فالشمس والقمر والنجوم تتحرك بحساب دقيق فلا تتأخر الشمس عن موعد شروقها ثانية ولا تتقدم ثانية منذ ملايين السنين، وكذلك القمر في دورته الشهرية، وكذلك النجوم في حركتها، يقول الله تعالى:
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} يس 40.
أي أن كل هذه الأجرام لها فلك أو مسار معين تمضي فيه باذن الله. ولا تستطيع البشرية كلها أن تؤخر شروق الشمس ثانية، أو أن تقدمها ثانية، أو أن توقف دوران الأرض أو تسرع بها أو تبطئ الى غير ذلك.
اذن فثبات قوانين الكون دليل على دقة الخالق وابداعه وعظمته وقدرته، وهذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره.
دليل الثابت والمتحرك
يأتي الفلاسفة ليقولوا: ان الثبات وحده لا يعطي القدرة الكاملة للحق سبحانه وتعالى، ذلك أن الاله بقدرته لا بدّ أن يستطيع أن يخرج عن ميكانيكيته، فذلك هو دوام القدرة أو طلاقة القدرة، أما بقاء الثابت على ثباته، فان ذلك يعطي الدليل على دقة القدرة وابداع الخالق، ولكنه لا يعطي الدليل على طلاقة القدرة؟!
نقول: ان الله قد أعطى في كونه الدليل على طلاقة القدرة، ولكنه لم يعطه في القوانين الكونية، لأنه لو أعطاه في القوانين الكونية فأشرقت الشمس يوما، وغابت أياما، ودارت الأرض ساعات وتوقفت ساعات، وتغيّر مسار النجوم لفسد الكون!! اذن فمن كمل الخلق أن تكون القوانين الكونية بالنسبة للنظام الأساسي للكون ثابتة لا تتغير والا ضاع النظام، وضاع معه الكون كله، فلا يقول أحد: ان ثبات النظام الكوني يحمل معه الدليل على عدم طلاقة القدرة، بل هو يحمل الدليل على طلاقة القدرة التي تبقي هذا النظام ليصلح الكون.
والله سبحانه وتعالى لا يريد كونا فاسدا في نظامه، ولكنه يريد كونا يتناسب مع عظمة الخالق وقدرته وابداعه، فيبقي بطلاقة القدرة الثبات في قوانين هذا الكون، ويظهر بطلاقة القدرة أنه قادر أن يغيّر، ويخرق النواميس بما لا يفسد الحياة في الكون، ولكن بما يلفت خلقه الى طلاقة قدرته.
ولنتحدث قليلا عن طلاقة قدرة الله تعالى في كونه، أول مظاهر طلاقة القدرة هي المعجزات التي أيّد الله بها رسله وأنبياءه، ولكننا لن نتحدث عنها هنا، فنحن مع العقل وحده، لنؤكد بالدليل العقلي أن كل ما في الكون يؤكد أنه لا اله الا الله، وأنه هو الخالق والموجد، نأتي الى الأشياء التي تنطق بطلاقة القدرة وهي في كل شيء، واذا جاز لنا أن نبدأ بالانسان فاننا نبدأ بميلاد الانسان أولا، والانسان ككل شيء في هذا الكون يوجد من ذكر وأنثى، فاذا اجتمع الذكر والأنثى جاء الولد، هذا هو قانون الأسباب، وقد يلتقي الذكر والأنثى ولا يأتي الولد، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى:
{ لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوّجهم ذكرانا واناثا ويجعل من يشاء عقيما، انه عليم قدير} الشورى 42.
اذن الله سبحانه وتعالى جعل في قوانين الأسباب ـنه متى تزوج الذكر والأنثى يأتي الولد، ولكنه أبقى لنفسه طلاقة القدرة فجعل هناك ذكرا وانثى يتزوجان أعواما ويلة لا يرزقان بالولد، فمع قوانين الأسباب كانت هناك طلاقة القدرة، ولم يجعلها الله سبحانه وتعالى عامة، بل جعلها في أمثلة قليلة لتلفتنا الى طلاقة قدرته، حتى لا نحسب اننا نعيش بالأسباب وحدها.
طلاقة القدرة في الكون
ولم تقف طلاقة قدرة الله في خلق الانسان عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل كل أوجه الخلق، فألصل في الايجاد هو من ذكر وأنثى، ولكن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته خلق انسانا بدون ذكر أو أنثى وهو " آدم" عليه السلام، وخلق من ذكر بدون أنثى وهي " حواء"، خلقها من ضلع آدم عليه السلام، وخلق انسانا من انثى بدون ذكر وهو " عيسى" عليه السلام، وهذه كلها حدثت مرة واحدة لاثبات طلاقة قدرته، وهي لا تتكرر، لأنها تلفتنا الى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس على قدرته قيود ولا حدود، فهو جل جلاله خالق الأسباب، وقدرته تبارك وتعالى فوق الأسباب، على أن هناك أشياء كثيرة عن طلاقة قدرة الله بالنسبة للانسان سنتحدث عنها تفصيلا في فصل قادم.
نأتي الى طلاقة قدرة الله تعالى في ظواهر الكون، لو أخذنا المطر مثلا، الله سبحانه وتعالى بأسباب الكون جعل مناطق ممطرة في الكون، ومناطق لا ينزل فيها المطر، والعلماء كشف الله لهم من علمه ما جعلهم يضعون خريطة للأسباب تحدد المناطق الممطرة وغير الممطرة.
يأتي الله سبحانه وتعالى في لفتة الى طلاقة قدرته، قتجد المناطق الممطرة لا تنزل فيها قطرة ماء وتصاب بالجدب، ويهلك الزرع والحيوان، وقد يموت الانسان عطشا، بالرغم من أن هذه المناطق كان المطر ينزل فيها وربما سار في أنهار ليروي غيرها من البلاد التي لا ينزل فيها المطر. فنجد مثلا منابع النيل التي هي مناطق غزيرة المطر، تأتي فيها سنوات جدب فلا يجد الناس الماء، ونجد بلادا كالولايات المتحدة وبلاد أوروبا يصيبها الجدب في سنوات، ولا يحدث هذا بشكل مستمر، بل في سنوات متباعدة، لو أن المطر ينزل بالأسباب وحدها ما وقع هذا الجدب في المناطق الغزيرة المطر، ولكن الله يريد أن يلفتنا الى طلاقة قدرته والى أن الماء الذي ينزل من السماء ليس خاضعا للأسباب وحدها، ولكن الي يحكمه هو طلاقة قدرة الله، حتى لا نعتقد أننا أخذنا الدنيا وملكناها بالأسباب، ولكي نعرف أن هناك طلاقة لقدرة الله سبحانه وتعالى هي التي تعطي وتمنع، وأنه جل جلاله فوق الأسباب وهو سبحانه المسبب يغيّر ويبدّل كما يشاء.
فاذا جئنا الى الزرع، ذلك الذي فيه عمل للانسان، نجد مظاهر طلاقة القدرة، فالانسان يزرع الزرع والله يعطيه كل الأسباب، الماء موجود والكيماويات متوفرة، والأرض جيّدة، ثم بعد ذلك تأتي آفة لا يعرف أحد عنها شيئا، ولا يحسب حسابها فتقضي على هذا الزرع تماما، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وأحيط بثمره فأصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا} الكهف 42.
ونحن نعرف أن الآفات تصيب كل مكان في الأرض لا يعلو عليها علم مهما بلغ، وهكذا نعرف أن الأرض لا تعطينا الثمر بالأسباب وحدها، ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى التي هي فوق الأسباب، لكيلا نعبد الأسباب وننسى المسبب وهو الله تعالى.
فاذا انتقلنا الى الحيوان نجد طلاقة القدرة واضحة، فهناك من الحيوان ما تزيد قوته على الانسان مرات ومرات، ولكن الله سبحانه وتعالى قد أخضعه وذلله للانسان، فتجد الصبي الصغير يقود الجمل أو الحصان ويضربه، والجمل مثلا يستطيع أن يقضي عليه بضربة قدم واحدة ولكنه لا بفعل شيئا ويمضي ذليلا مطيعا ولا يرد على الايذاء رغم قدرته على ذلك، ونجد الكلب مثلا يحرس صاحبه ويدافع عنه لأن الله ذلله له.
فاذا جئنا الى الذئب أو الى الثعب من نفس فصيلة الكلب نجده يفترس الانسان ويقتله، ولو أن هذا التذليل للحيوان بقدرة الانسان لاستطاع كما ذلل الجمل والبقرة والكلب أن يذلل الذئب والثعلب وغيرهما من الحيوانات، ولكن الله يريد أن يلفتنا الى أن هذا التذليل بقدرته سبحانه وتعالى، ان الثعبان الصغير وهو حشرة ضئيلة الحجم يقتل الانسان، دون أن يستطيع أن يذلله، ليلفتنا الله سبحانه الى أن كل شيء بقدرته وجعل موازين القوة والضخامة تختل، حتى لا يقال ان هذا الحيوان قوي بحجمه أو بالقوة التي خلقت له، بل جعل أضعف الأشياء يمكن أن يكون قاتلا للبشر.
ثم نأتي الى الجماد، الأرض من طبيعتها ثبات قشرتها حتى يستطيع الناس أن يعيشوا عليها، ويبنوا مساكنهم، ويمارسوا حياتهم، ولو أن قشرة الأرض لم تكن ثابتة لاستحالة الحياة عليها، ولاستحالت عمارتها، والله سبحانه وتعالى يريد منا عمارة الأرض، ولذلك جعل قشرتها ثابتة صلبة، ولكن في بعض الأحيان تتحول الى عدم ثبات، فتنفجر البراكين ملقية بالحمم، وتحدث الزلازل التي تدمر كل ما على المكان الذي تقع فيه.
ويتقدم العلم ويكشف الله بعضا من علمه لبعض خلقه ما يشاء، ولكن يبقى الانسان عاجزا على أن يتنبأ بالزلازل، فيأتي الزلزال في أكثر بلاد الدنيا تقدما ليفاجئ أهلها دون أن يشعروا بقرب وقوعه، بل انه من طلاقة قدرة الله تعالى أنه أعطى بعض الحيوانات، التي ليس لها عقول تفكر، ولا علم ولا حضارة، أعطاها غريزة الاحساس بقرب وقوع الزلزال، ولذلك فهي تسارع بمغادرة المكان أو يحدث لها هياج، ان كانت محبوسة في لأقفاص أو حظائر مغلقة، وذلك ليلفتنا الله سبحانه وتعالى الى أن العلم يأتي منه سبحانه وتعالى ولا يحصل عليه الانسان بقدرته، فيعطي سبحانه من لا قدرة له على الفكر والكشف العلمي ما لا يعطيه لذلك الذي ميزه بالعقل والعلم.
لماذا؟ لنعلم أن كل شيء من الله فلا نعبد قدراتنا، ولا نقول: انتهى عصر الدين والايمان وبدأ عصر العلم، بل نلتفت الى أن الله يعطي لمن هم دوننا في الخلق علما لا نصل نحن اليه، فنعرف أن كل شيء بقدرته وحده سبحانه وتعالى.
ومظاهر طلاقة قدرة الله في الكون كثيرة، فهو وحده الذي ينصر الضعيف على القوي، وينتقم للمظلوم من الظالم، وكل ما في الكون خاضع لطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى، على أن طلاقة القدرة في تغيير ما هو ثابت من قوانين الكون كلها ويحدث الدمار وتنتهي الحياة.
وذلك مصداقا لقوله تعالى:
{ اذا السماء انفطرت واذا الكواكب انتثرت واذا البحار فجّرت واذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت واخرّت} الانفطار 1_5.
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم، تنبئنا بما سيحدث عندما تقوم القيامة.
اذن الذين يقولون: ان عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه هي الثبات والدقة الت لا تتأثر بالزمن، والتي تبقى ملايين السنين دون أن تختل ولو ثانية واحدة، نقول لهم: هذه موجودة وانظروا الى القوانين الكونية ودقتها وكيف أنها لم تتأثر بالزمن.
والين يقولون: ان عظمة الحق سبحانه وتعالى في طلاقة قدرته في كونه، وألا تكون الأسباب مقيدة لقدرة الخالق والمسبب، نقول لهم: انظروا في الكون وحولكم مظاهر طلاقة القدرة، وليست هذه المظاهر مختفية أو مستورة، بل هي ظاهرة أمامنا جميعا، وليست في أحداث بعيدة عن حياتنا، بل هي تحدث لنا كل يوم.
واذا صاح انسان من قلبه: (ربنا كبير)، أو (ربنا موجود)، أو ( ربك يمهل ولا يهمل)، فمعنى ذلك أنه رأى طلاقة قدرة الله، تنصف مظلوما، أو تنتقم من ظالم، أو تنصر ضعيفا على قوي، أو تأخذ قويا وهو محاط بكل قوته الدنيوية.
فالانسان لا يتذكر قدرة الله عندما يرى الكون أمامه يمضي بالأسباب، ذلك أن هذا شيء عادي لا يوجب التعجب، فانتصار القوي على الضعيف لا يثير في النفس اندهاشا، والأجر المعقول للعمل شيء عادي، والأحداث بالأسباب هو ما يعيشه الناس، ولكننا نتذكر قدرة الله تعالى اذا اختلت الأسباب أمامنا، وجاء المسبب ليعطينا ما لا يتفق مع الأسباب ولا مع قوانينها.
في هذا الفصل استعرضنا بعض أسباب الوجود التي تثبت قضية الايمان بالدليل العقلي، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون} الذاريات 21.
على أن بعض الناس ينظر الى نفسه فلا يرى شيئا، فما معنى هذه الآية الكريمة؟
هذا هو موضوع الفصل القادم.
الفصل الثاني
يقول الله سبحانه وتعالى
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}
آيات الله في خلق الانسان
هذه الآية يمر عليها كثير من الناس دون ان يتنبهوا الى الفيوضات والمعاني التي تحتويها. بل انك ا1ذا سألت انسانا غير مؤمن ماذا يعرف عن هذه الآية الكريمة؟ فيقول لك: لا شيء في نفسي!!
فأنا انسان أولد وأكبر وأتزوج وأعمل وتنتهي حياتي وأموت. فماذا في نفسي؟ نقول له: لو أنك تدبرت لعلمت أن في نفسك آيات وآيات.. سنذكر في هذا الفصل بعض هذه الآيات، لأن آيات الله في الانسان كثيرة ومتعددة.
أول شيء هو قول الحق سبحانه وتعالى:
{ واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين} الأعراف 172.
اذا قرأت هذه الآية يقول لك غير المؤمن: لم نشهد شيئا ولم نرى شيئا ولم نحس شيئا! ونقول: بل شهدت، وأنت شهيد على نفسك في ذلك، كيف؟ الله سبحانه وتعالى عرفنا بانه موجود، وعرفنا بشهادة ربوبيته وليس بشهادة ألوهية، ومعنى ذلك أن المؤمن والكافر يعلم في نفسه وجود الله، ولكن الكافر يحاول أن يستر هذا الوجود ليحقق شهواته وما يريد ولو على حساب حقوق الآخرين، ولننظر الى ما أحل الله وما حرّم الله، ثم لننظر الى النفس البشرية على عمومها لنرى ما تفعل، ولنعرف يقينا أن هذه النفس تعرف ما أحل الله وتستريح له وتنسجم معه، وتعرف ما حرّم الله فيصيبها انزعاج واضطراب وذعر وهي ترتكبه، وأول هذه الأشياء هو العلاقة بين الرجل والمرأة.
اذا جاءك رجل وقال: أريد أن أختلي في حجرة ابنتك، ماذا تفعل به؟ قد تقتله، وان لم تقتله قد تضربه، ويعينك على ذلك كل الناس، وسيجد فعله هذا استناكارا عاما من المؤمن وغير المؤمن.
فاذا جاءك هذا الرجل وقال: أريد أن أتزوج ابنتك، فانك تستقبله بالترحاب وتدعو الناس للترحيب به، وتعلن النبأ على الجميع، وتعقد القران، وبعد عقد القران تتركه هو وابنتك في الحجرة، وتوافق على الخلوة بينهما.
ما الفرق بين الحالتين؟ بعض الناس يقول انها وثيقة الزواج التي تحرر، فهل الفرق هو الورقة فعلا؟ لا، الفرق هو الحلال والحرام، ما أحله الله وما حرّمه، ما أحله ينسجم مع النفس البشرية ويقبله كل الناس، وما حرّمه الله تستنكره كل نفس بشرية وتنفعل ضدّه.
كيف يحدث هذا؟ لأنك عرفت يقينا منهج الحق والباطل، وممن عرفته؟ من الذي وضعه، ليس هذا فقط، بل انظر الى انسان في شقة مع زوجته، يدخل مطمئن تماما يدخل أمام الناس الى بيته، واذا طرق الباب قام وفتح للطارق، واذا جاء صديق استقبله باطمئنان، واذا خرج الى الشارع وأخذ زوجته معه أمام الناس جميعا، انظر الى نفس الرجل مع زوجة غيره، يغلق الأبواب ولنوافذ حتى لا يراه أحد، واذا طرق الباب انزعج ولا يفتح، واذا جاءه صديق أصيب بالذعر، واذا خرج الى الشارع مشي بعيدا عنها.
ما الفارق بين الحالتين؟ الفارق هو الحلال والحرام اللذان تعرفهما كل نفس، حتى تلك التي لم تقرأ شيئا عن الدين، لأن الله تعالى قال:
{ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}.
فاذا انتقلنا بعد ذلك الى اوجه الحياة، لص يريد أن يسرق، يتأكد أولا من أن الطريق خال، ولا يجرؤ أن يفعل ذلك الا في الظلام أو بعيدا عن الناس، وبمجرد أن يأخذ ما يريد ان يسرقه ينطلق بسرعة وهو يتلفت يمينا ويسارا خوفا من أن يراه أحد، ثم يبحث عن مكان يخفي فيه المسروقات، انفعالا رهيبة في داخله تؤكد أنه يعرف أن ما يفعله اثم وخطيئة، لكن الانسان عندما يريد أن يدخل بيته ليأخذ شيئا دخل أمام الناس جميعا ومشى باطمئنان، وحمل الشيء الذي يريده وهو لا يخشى أن يراه أحد، ذلك أنه يحس في داخله بأنه يفعل شيئا لا يحرّمه الله، الذي يأخذ رشوة مثلا، يتلفت حوله يمينا ويسارا ويسارع باخفائها، والذي يقبض مرتبه يفعل ذلك أمام الدنيا كلها.
وهكذا كل مقاييس الخير والشر، مقاييس الخير تنسجم معها النفس البشرية، وتحس بطبيعتها وراحتها، ومقاييس الشر تضطرب معها النفس البشرية وتحس بالفزع والذعر وهي ترتكبها، من الذي وضع في النفس هذا، أنها تعرف يقينا هذه المقاييس التي وضعها الله لمنهجه في كونه، ومن الذي أعلم هذه النفس أن هناك مقاييس، وأن هناك الها، الا أن تكون الآية الكريمة:
{ واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين} الأعراف 172.
هي التفسير الوحيد لمقاييس الخير ومقاييس الشر التي وضعت فينا بالفطرة، وبما أن هذا عطاء ربوبية، فان الله سبحانه وتعالى رب الناس كل الناس، من آمن به ومن لم يؤمن، ولذلك وجدت في البشر كلهم.
نأتي بعد ذلك الى نقطة ثانية، الله سبحانه وتعالى غيب، وغير المؤمن يقول أنا لا أؤمن الا بما أرى، أنا هو غيب عني فلا أؤمن به لأنني لم أشهده، والايمان غير الرؤية، فأنت اذا رأيتني أمامك لا تقول: أنا أؤمن أني أراك، لأن الرؤية عين يقين ليس بعدها دلالة! ولا تقول أنا أؤمن أنني أجلس مع أصدقائي، ولا تقول اني أؤمن أني لست أرى الشمس مثلا!! ذلك هو عين اليقين، وهناك: " علم يقين"، " وعين يقين"، " وحق يقين".
فعلم اليقين هو الذي يأتيك من انسان تثق فه وفي أنه صادق في كلامه، فاذا قال لك انسان مشهود له بالصدق أنا رأيت فلانا يفعل كذا، فأنت تصدق بوثوقك بمن قال، فاذا رأيت الشيء أمامك يكون ذلك " عين اليقين"، فالذي يقول لك مثلا ان هناك مخلوقا نادرا في بلدة كذا فأنت تصدقه، لأنك تثق به، فاذا جاء معه بهذا المخلوق وأظهره أمامك أصبح علم اليقين عين اليقين، فاذا لمسته بيدك وتحسسته وتأكد من اوصافه يكون هذا " حق اليقين".
ولذلك فان الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب عغير المؤمنين عن جهنم يقول:
{ كلا لو تعلمون علم اليقين لترونّ الحجيم ثم لترونّها عين اليقين} التكاثر 5_7.
أي أن كلا منا سيرى جهنم بعينيه في الآخرة، ثم يقول سبحانه وتعالى:{ وأما ان كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ان هذا لهو حق اليقين} الواقعة 92-95.
أي أن الكفار حين يدخلون النار ويعذبون فيها سيكون ذلك حق اليقين، أي واقعا يعيشونه وليست مجرّد رؤية.
هذه هي الرؤية، أما الايمان فهو تصديق بغيب، فأنت تقول: أنا أؤمن أن ذلك حدث كما أراك أمامي، أي أنك لم تشهد ما حدث، ولكنك وصلت بالدليل والاقتناع الى أنه قد حدث، وأصبح في نفسك كيقين الرؤية تماما.
أين الروح في جسدك؟
غير المؤمنين يقول ان الله غيب وأنا لا أصدق الا ما أرى! نقول: قبل أن تعلن هذا الكلام تذكر الآية الكريمة:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
وأنت في جسدك الروح هي التي تهبك الحياة والحركة، فاذا خرجت الروح من جسدك سكنت الحركة وانتهت الحياة.
اذن كل منا يعرف أن هناك شيئا اسمه الروح، اذا دخل الجسد أعطاه الحياة، واذا خرج كمه توقفت الحياة، فمن منا رأى الروح؟ بل من منا يعرف أين موقعها من الجسد؟ أهي في القلب الذي ينبض؟ أو في العقل الذي يفكر؟ أو في القدم التي تتحرك؟ أو في العين التي ترى؟ أو في الأذن التي تسمع؟ أين مكانها بالضبط؟ وما هي الروح؟
أكبر علماء الدنيا لا يعرف عنها شيئا، حتى ذلك العالم السويسري الذي جاء بالناس وهم يحتضرون ووضعهم على ميزان دقيق، وعندما أسلموا الروح وجد أن الجسد قد فقد بضع جرامات لحظة خروج الروح، فأعلن أن الروح لها وزن، أو أن لها كيانا ماديا وان كان لا يزيد على غرامات، نقول ان هذا غير صحيح، لأن هذه الجرامات قد تكون هي وزن الهواء الذي خرج من الرئتين، ولم يدخل غيره، أ, تكون بسبب توقف سريان الدم بالجسم.
اذن الروح، وهي موجودة في جسدك، غيب عنك، فأنت لا تعرف ما هي؟ ولا أين هي؟ وأنت لا تعرف كيفية سريانها في الجسم، والا قل لنا اذا أصيب الانسان في حادث وبترت ساقاه، أين ذهبت الروح التي كانت في الساقين تعطيهما الحركة والحياة؟ ولكنك تستدل على وجود الروح مع أنها غيب عنك بآثارها في أنها تعطي الحياة والحركة لجسدك، ولكن هل وجود الروح في المخلوق الحيّ وجود يقيني؟ يقول أكبر علماء الدنيا الماديين: نعم، ولا يستطيع أحد أن ينكر ان الجسد الحي فيه الروح، وأن الجسد الميت قد خرجت الروح منه.
اذا فوجود الروح علم يقين مستدل عليها بأثارها، فهل اذا كان وجود الروح في جسدك يؤكد لك يقينا أنها موجودة مستدلا على ذلك بالحركة والحياة التي تعطيها في الجسد، ألا يدل هذا الكون كله بما فيه من اعجاز الخلق على وجود الله يقينا؟ ألا تنظر الى جسدك والروح فيه ثم تنظر الى الكون لتستخدم نفس القانون؟ أم أنك في جسدك لا تستطيع أن تجادل, وفي الكون بعظمته تجادل؟! أليس هذا كذبا على النفس واحتقارا لمهمة العقل!! ألا نتدبر في معنى الآية الكريمة:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}؟!.
قدرات الانسان
ثم نأتي بعد ذلك الى النقطة الثالثة، غير المؤمن يقول أنا سيد نفسي، أنا حاكم نفسي أفعل بها ما أشاء، نقول: هذا افتراء على الله، فجسدك هو ملك لله، وهو يفعل فيه ما يشاء الا ما شاء أن يجعلك فيه مختارا، واذا لم تصدّق ذلك فانظر الى جسدك.
القلب ينبض، فهل أنت الذي تجعله ينبض؟ وهل تستطيع ان توقفه قليلا ليستريح؟ أو تجعله اذا توقف أن يعود الى الحركة مرة أخرى؟ وكيف يمكن أن يتبع القلب لارادتك، وهو ينبض وأنت نائم مسلوب الارادة، ومن الذي يعطي الأمر للقلب لكي يقلل نبضاته وأنت نائم، لأنك متوقف عن الحركة، ويجعله يسرع في النبض وأنت تقوم بأي مجهود محتاج الى سرعة حركة الدم في الجسم.
وحركة التنفس هل أنت الي تقوم بها؟ واذا قلت نعم فكيف تتنفس وأنت نائم؟ انها حركة تتم بالقهر لا سلطان لك عليها، فاذا صدر لها الأمر الالهي بأن تتوقف فلا احديستطيع أن يعيدها.
ومعدتك وما يحدث فيها من تفاعلات لهضم الطعام وأنزيمات تفرز غدد منعددة، أيتم هذا بارادتك؟
وأمعاؤك وحركة الطعام فيها وامتصاص ما يفيد الجسم وطرد ما لا يفيد. أيحدث هذا بارادتك أم أنها تتم دون ان تدري؟
وكرات الدم البيضاء وهي تتصدى للميكروبات التي تدخل جسدك فترسل كرات معينة لتحدد ما يمكن أن يقضي على الميكروبات، ثم يقوم النخاع بتصنيع المواد المضادة فتقضي على الميكروب فعلا، أتدري أنت شيئا عن هذه العملية؟ ان كل هذا مقهور لله سبحانه وتعالى، يقوم بعمله دون أن يتوقف، ودون أن تدري أنت شيئا عنه.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه الأجهزة البشرية مقهورة له، والا لما استطاع الانسان الحياة، ولا العمل، ولا أداء مهمته في عمارة الكون، والا فقل لي بالله عليك، لو أن قلبك يخضع لارادتك كيف يمكن أن تنام؟ انك ستظل يقظا ليستمر القلب في النبض، لو أن معدتك تخضع لارادتك لاحتجت الى ساعات طويلة بعد كل وجبة لتتم عملية الهضم، لو أن الدورة الدموية تخضع لارادتك، لما استطاع عقلك أن يستمر في الحياة وهو مشغول بمئات العمليات التي تتم كل دقيقة.
وهكذا شاءت رحمة الله أن يجعل كل هذا بالقهر حتى تيتطيع الحياة والسعي في الأرض، وحتى يمكنك ان تتمتع بحياتك.
اذا لا تقل أنا حر في جسدي، أو جسدي خاضع لي، فهذا غير صحيح علميا وبالدليل المادي، فأنت مقهور في كل أجهزة جسدك، حتى تلك التي أخضعها الله لارادتك فهذا خضوع ظاهري وليس خضوعا حقيقيا، ولقد شاءت حكمة الله أن يرينا هذا في الدنيا أمامنا بالدليل المادي، فأنت تبصر بعينيك، وحتى لا تغتر وتعتقد أن هذا الابصارمن ذاتك، وأنه خاضع لارادتك، أوجد الله سبحانه وتعالى من له عينان مفتوحتان ولا يبصر، وأنت تشي بقدميك، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له قدمان ولا يستطيع أن يمشي، وأنت تحرك يديك وتتحرك وتفعل بهما ما تشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له قدمان ولا يستطيع أن يمشي، وأنت تحرك يديك وتفعل بهما ما تشاء ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له يدان ولا تستطيعان الحركة، وأنت تتحدث بلسانك وتسمع بأذنيك، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له لسان ولا يقدر على الكلام، ومن له أذنان ولا يسمع، كل هذه أمثلة قليلة وضعها الله سبحانه وتعالى في الكون، ليلفتنا الى أنه ليس لنا ذاتية، وأن الأمر كله لله.
فاذا كنا نبصر بأعيننا فنحن نبصر بقدرة الله تعالى التي أعطت العين قوة الابصار ونمشي بقدرة الله تعالى التي أعطت القدمين قوة الحركة، ونسمع ونتكلم بقدرة الله التي أعطت اللسان قدرة الكلام، والأذن خاصية السمع، ولو كان هذا بذاتية منا، ما استطاع أحد أن يسلبنا النظر أ, السمع أو الحركة أو الكلام.
الاختيار والقدرة
بل ان الله سبحانه وتعالى أقام لنا الدليل على أنه حتى حركاتنا الاختيارية لا تتم الا بقدرته، مثلا اذا أردت أن تقوم من مكانك، كم عضلة تنقبض، وكم عضلة تنبسط، حتى تتمكن من القيام؟ ولكي نقوم من أماكننا ونحن لا ندري أي العضلات تتحرك وأيها لا يتحرك، بمجرّد أن يخطر على بالنا لنقوم، هذه العضلات تنبسط، وهذه تنقبض بقدرة الله وليس بارادتنا، العملية التي تتم في عضلات الجسم ساعة القيام، ليس لنا في حركتها ارادة الا أننا أردنا أن نقوم، وكذلك في المشي والجري وكل حركة نقوم بها.
اذن حركات الجسد كلها خاضعة لنا بارداة الله سبحانه وتعالى، الله هو الذي أخضعها لما نريد وجعلها تفعل ما نشاء، وهي تفعله دون علمنا بذلك، بل تفعله بشيفرة الهية وضعها الله في أجسادنا، فتنقبض وتنبسط العضلات فيتم كل شيء ونحن لا ندري.
ثم يقول الانسان أنا مسيطر على جسدي أفعل ما أشاء، نقول لو كنت مسيطرا حقيقة لعلمت ما يجري فيه، ولكن هذا الجسد مسخر لك بقدرة الله تعالى، ولذلك فهو يفعل لك ما تريد دون ان تدري، أو تحس كيف يتم هذا الفعل.
دليل الضحك والبكاء
بل أكثر من ذلك تحديا من الله سبحانه وتعالى، يأتي الحق في كتابه الكريم ويقول:
{ وأنه هو أضحك وأبكى} النجم 43.
أكثرنا يمر على هذه الآية الكريمة ولا يلتفت اليها، ولكن هذه الآية فيها اعجاز من الله سبحانه وتعالى، يقول الحق سبحانه وتعالى:
{وأنه هو أضحك وأبكى}
معناه أن الضحك والبكاء من الله، وكونه من الله سبحانه وتعالى يكون لجميع خلقه فالله حين يعطي، يعطي الخلق جميعا ذلك هو عدل الله، فاذا نظرت الى الدنيا كلها تجد أن الضحك والبكاء موحدان بين البشر جميعا على اختلاف اغاتهم وجنسياتهم، فلا توجد ضحكة انجليزية وضحكة أميركية وضحكة افريقية، بل هي ضحكة واحدة للبشر جميعا، ولا يوجد بكاء آسيوي أو بكاء استرالي، وانما هو بكاء واحد، فلغة الضحك والبكاء موحدة بين البشر جميعا، وهي اذا اصطنعت تختلف.
واذا جاءت طبيبعية تكون موحدة، ولذلك لذا اصطنع أحدنا البكاء أو اصطنع الضحك فانك تستطيع أن تميزه بسهولة عن ذلك الانفعال الطبيعي الذي يأتي من الله. ومن العجب أنك ترى مثلا الفيلم الكوميدي الذي صنع في أميركا يضحك أها أوروبا والذي صنع في آسيا مثلا يضحك أهل أستراليا، بل ان هناك من اعطاهم الله موهبة القدرة على اضحاك شعوب الدنيا كلها، ولعل هناك نجوما عالمية في فن الكوميديا تضحك العالم كله، فبعض الأفلام عاطفية تبكي العالم كله، فبعض الأفلام مثلا اذا قدمته بأي لغة أبكى الناس، وهكذا تنزل أحيانا الرحمات من الله فتفيض العيون بالدموع، وأحياتا يريد الله أن يروّح عن النفوس فتتعالىالضحكات.
ولكن قد يقول بعض الناس: ان هناك ما يضحك واحدا ولا يضحك الآخر،وأن هناك مشهدا يبكي انسانا، في حين تتحجر الدموع في العيون فلا يبكي انسانا آخر في نفس الموقف!! نقول انك لم تفهم الآية، فقوله تعالى:
{ وأنه هو أضحك وأبكى}.
ليس معناه أن الناس تضحك معا وتبكي معا، ولكن معناه أن الانسان لا يستطيع أن يضحك نفسه، ولا أن يبكي نفسه عن شعور صادق بلا اصطناع، ولكن ذلك من الله، ولذلك انعدمت فيه الارادة البشرية، فليس لكل واحد منا ضحكة تميزه، بل نحن نضحك جميعا بلغة واحدة، وليس لكل واحد منا بكاء يميزه، بل نحن نبكي جميعا بلغة واحدة، وليس أي واحد منا قادرا على أن يضحك ضحكة طبيعية بارادته كأن يقول لك انني سأضحكك الآن فيضحكك، ولا يستطيع انسان أن يبكي بكاء طبيعيا كأن يقول أنا سأبكي الآن فيبكي، الا أن يصطنع الضحك أو البكاء بشكل غير طبيعي.
ولكن ياتي الضحك والبكاء من الله حين يكون طبيعيا، ولأنه يأتي من الله فهو موحد بين البشر جميعا، فاذا كنت لا تستطيع أن تضحك نفسك أو تبكي نفسك، فكيف تدعي أنك سيد نفسك، ولماذا لا تسلم لخالقك؟.
فاذا كان هذا هو الشأن في الجسد البشري، فآمن بالله الذي هو يملك كل خيوطك فاذا كنت لا تؤمن بجنته ولا تريد ثوابه، فاخش عقابه، واذا كنت لا تؤمن بالآخرة فاخش عقابه في الدنيا، فهو الذي يملك كل خيوط حياتك ويستطيع أن يفعل بك ما يشاء.
على أن الله سبحانه وتعالى له لفتات أخرى، يلفتان لقدرته وعظمته ووجوده، اذا كنت تتأبى على الايمان بالله وتقول أنا سيد نفسي، فاذا جاءك قدر الله بالمرض فامنعه على نفسك، وقل لن أمرض، واذا جاءك قدر الله بالموت فامنعه عن نفسك، وقل لن أموت، واذا جاءك قدر الله في مكروه كأن تصاب في حادث، أو تسقط من مكان فتتهشم عظامك فقل لن أسقط.
هذا هو قهر الذي لا تستطيع أن تقف أمامه، وتقول سأفعل ولا أفعل، لأن الله تعالى لم يعطك الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل في الأقدار التي تقع عليك، فقدر اله عليك ينفذ رغم ارادتك، وأنت خاضع لقدر الله سواء رضيت أو لم ترض، ففي الكون أحداث تقع لا تملك فيها اختيارا.
بعض الناس يجادل في هذا ويقول: ان الانسان القوي يستطيع أن يصنع قدره! نقول ان القرآن الكريم قد ردّ على هؤلاء في قول الحق سبحانه وتعالى:
{ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير، انك على كل شيء قدير} آل عمران 26.
ولا بد أن نلتفت الى قول الحق سبحانه وتعالى:{ وتنزع الملك ممن تشاء}.
اي أنه لا يوجد انسان يتخلى عن المنصب والملك والجاه بارادته بل لا بد أن ينزع منه انتزاعان ولذلك تأتي الثورات والانقلابات، لتنزع الملك من أولئك الذين اعتقدوا أنهم ملكوا الدنيا، وأنهم قادرون على أن يفعلوا ما يشاءون بمجرد كلمة أو أمر أو اشارة، فيأتي الله سبحانه وتعالى لينزع منهم هذا رغما عنهم، فتجد الواحد منهم الذي كان يحتمي به الناس عاجزا على أن يحمي نفسه، يهرب من مكان الى آخر، وتجده وهو المعتز بالدنيا يتمنى لو أخذ الناس كل ما يملك، وأبقوا على حياته.
ان هذا يحدث ليلفتنا الحق جل جلاله الى أنه لا أحد يأخذ الملك أو المركز العالي بارادته وتخطيطه، وانما هي أقدار الله يجريها الله على خلقه، فاذا أتى أمر الله نزع منه كل شيء، ولو كان الأمر بذاته لما استطاع أحد أن ينزعه منه، ولا يوجد انسان في هذا الكون يستطيع أن يدعي أنه في منعة من قدر الله، فاذا كانت هذه هي الحقيقة فهي الدليل المادي على أن الانسان تحكمه قدرة خالقه، وأنه لا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله.
أفعال الانسان
فاذا انتقلنا بعد ذلك الى فعل الانسان وعمله الدنيوي، تجد بعض الناس يقول: انني سأفعل كذا وكذا، نقول له: انك أعجز من أن تفعل الا أن يشاء الله، فالفعل محتاج الى زمان، ومحتاج الى مكان، ومحتاج الى مفعول به، وأنت لا تملك شيئا من هذا كله، فاذا جئنا الى الفاعل فأنت لا تملك حتى اللحظة التي تعيش فيها، ولا تضمن أن يمتد بك العمر ثانية واحدة، حتى ولو كانت كل الشواهد الصحية تدل على ذلك، ألا يوجد من لا يشكو من شيء، ثم يسقط فجأة ميتا، ويقال جاءت جلطة في المخ، أو سكتة قلبية، أو أصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية.
هذه كلها أسباب، ولكن السبب الحقيي هو أن الأجل قد انتهى، مصداقا لقوله تعالى:
{فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} الأعراف 34.
اذن ساعة أن صدر الأمر من المسبب وهو الله جل جلاله انتهى العمر.
ومن العجيب أنك ترى أكبر أطباء القلب يموتون بأمراض القلب، وأكبر أطباء المخ تنتهي حياتهم بمرض في المخ، فاذا ملكت اللحظة التي تعيش فيها، وبقيت حتى ساعة اتمام الفعل، فانك قد تصاب بمرض يقعدك عن الحركة، فلا تستطيع اتمام الفعل، هذا بالنسبة للفاعل.
فاذا جئنا للزمن فأنت لا تملك الزمن، ولكنه هو الذي يملكك، ولذلك فانه قد يأتي زمن التنفيذ فتفاجأ بحدث يمنعك، كأن يصاب ابنك في حادث مثلا، أو يموت أحد أقربائك، أو تضطر اضطرارا الى سفر عاجل لمهمة ضرورية، أو يقبض عليك في جريمة أو في اتهام. اذن فأنت لا تكلك الزمن ولا تستطيع أن تقول انني في ساعة كذا سأفعل كذا.
وبالنسبة للمكان فقد تختار مكانا لتبني فيه عمارة مثلا، فتأتي لتجد أن هذا المكان قد استولت عليه الدولة للمنفعة العامة، أو قد ظهر له ورثة لم تكن تعرفهم فأوقفوا العمل، أو أن تققر أن يقام في وسطه طريق، أو أن الأرض تحتها مياه جوفية تجعلها غير صالحة للبناء.
واذا جئنا للمفعول به فقد يرفض الذي تطلب منه القيام بالعمل به، وقد لا تجد عمالا ليقوموا بالتنفيذ، وقد لا يأتي المقاول الذي اتفقت معه وقد لا يحضر الموظف الذي سيعطيك الرخصة لبدء العمل. اذن فأنت لا تملك شيئا من عناصر الفعل كلها، ولذلك طلب منك الله سبحانه وتعالى أن تتأدب وتعطي الشيء لأهله، وتنسبه الى الفاعل الحقيقي، فقال سبحانه وتعالى:
{ ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله، واذكر ربك اذا نسيت وقل عسى يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} الكهف 23،24.
اعجاز القرآن
تأتي بعد ذلك الى معجزة اخرى في النفس البشرية، تلك هي معجزة القرآن الكريم والقرآن فيه اعجاز كثير. ولكننا نتحدث هنا عن الاعجاز القرآني في النفس البشرية كل انسان منا له طاقة وقدرة عقلية، فالمتعلم طاقته العقلية أكبر ممن لم ينل حظا من العلم أو من الأمي، وهؤلاء جميعا لا يمكن أن يجتمعوا عقلا ليشهدوا شيئا واحدا، وكل واحد منهم ينسجم مع هذا الشيء نفس الانسجام، فاذا كانت مثلا هناك محاضرة في فرع من العلوم فلا بستطيع أن ينسجم معها الا ذلك الذي يفهم في هذا الفرع، أما اذا دخل اليها عدد من الذين لم يقرأوا عن هذا العلم فان الانسجام يضيع، ذلك يحدث في كل فرع من فروع الدنيا.
ولكنك اذا جئت الى القرآن الكريم، وهو كلام الله، تجد أن كل النفوس البشرية المؤمنة تنسجم معه، لا تجمعها رابطة الايمان، انك تدخل الى المسجد تجد فيه المتعلم ونصف المتعلم والعالم وقد جلسوا معا جميعا يستمعون الى القرآن الكريم، وتجدهم جميعا منسجمين مع القرآن، تهتز نفوسهم له، وترتاح ملكاتهم اليه، لا فرق بينهم، حتى ذلك الذي لا يعرف معنى ألفاظ القرآن الكريم، تجده جالسا يستمع وهو منسجم ويهتز من داخله، وتقام الصلاة فيقف الجميع في انسجام وراء الامام، تختفي الفوارق الدنيوية بينهم، ولكن تجمعهم رابطة الايمان، فيصلون جميعا بانسجام، لأن ملكاتهم التي خلقها الله فيهم منسجمة ومتفقة مع كلام الله، فلا تلحظ فرقا ولا ترى الا مساواة ايمانية.
بل انه من العجيب ان القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحفظه الانسان بدون فهم، فتجد الطفل الصغير عمره سبع سنوات وربما أقل من ذلك ومع هذا يحفظ القرآن بكامله، أيمكن لهذا الطفل الصغير غير المكلف أن يستوعب معاني القرآن الكريم؟ بالطبع لا، ولكن الايمان الفطري في داخله يجعله يحفظ القرآن عن ظهر قلب ويتلوه، لأن هذا الايمان من الخالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك تنسجم النفس البشرية وهي في أولى مراحلها مع كلام الخالق، أليس هذا اعجاز نقف عنده ايلفتنا الى الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الخالق وهو الموجد، فاذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من مولود الا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" البخاري ومسلم.
قلنا صدقت يا رسول الله، وأكبر دليل على ذلك هو انسجام فطرة الانسان مع كلام الله.
بل وأكثر من ذلك، يأتي الله سبحانه وتعالى ليرينا أن الانسان هو هو وأنه سيأتي به يوم القيامة
دون أن يختلط أحد مع أحد، ويتساءل الذين لا يؤمنون: كيف يمكن أن يأتي الانسان بنفسه يوم القيامة دون ان يختلط أحد مع احد؟
نقول: ان الله سبحانه وتعالى رحمة بعقولنا قد أعطانا الدليل في الدينا، ولن ندخل في تكوين الانسان، ولا في أشياء غيبية، ولكننا نأخذ بالدليل المادي وحده، فالبشر وهم بلايين، كلهم مخلوقون على هيئة واحدة، ولكن كل واحد منهم مميز عن الآخر، فالأب يعرف ابنه من بين ملايين البشر، والابن يعرف أباه وأمه بين ملايين النساء والرجال بمجرد النظرة، بمجرد اللمحة تستطيع أن تخرج ابنك أو أباك أو أمك من بين الناس جميعا هذا تمييز للانسان لا يشترك فيه بقية الخلق، فأنت لا تستطيع أن تميز بقرة عن بقرة أو جمل عن جمل، أو أي مخلوق آخر الا الانسان.
ولذلك فان رعاة الغنم يرقمونها أو يضعون عليها علامات مميزة حتى يعرفوها، ولكنهم لا يضعون على أولادهم علامات حتى يميزوهم عن غيرهم من ملايين الصغار.
الانسان والتميز
اننا نجد الانسان مميزا ببصمة الأصابع، لا تتشابه بصمة ابهام انسان مع انسان آخر رغم وجود بلايين البشر، ليس هذا فقط ولكن لكل منا بصمة رائحة لا تتشابه مع انسان آخر ونحن لا ندركها، ولكن كلب الشرطة المدرب هو الذي أعطاه الله ملكة التميز فيشم رائحة الأثر، فيخرج هذا الانسان من بين عشرات بل المئات.
وكلما أعيدت التجربة قام كلب الشرطة باخراج نفس الشخص، بل انه مع تقدم العلم وجد أنه لكل انسان بصمة صوت تميزه عن الآخر، وبصمة فك خاصة بأسنانه، كل هذا ليلفتنا الحق سبحانه وتعالى الى أنه ميز كل انسان بميزات لا يشترك فيها أحد مع أحد حتى ياتي به يوم البعث هو هو نفسه.
بل ان الله سبحانه وتعالى وضع فينا العدل بالنسبة لأبنائنا رغما عنا فتجد الأب يحب أصغر أبنائه أكثر من الكبار، لماذا؟ لأن الابن الصغير مهما امتد العمر بالأب سيقضي في رعاية أبيه سنوات أقل من الكبار، ولذلك أعطاه حنانا أكبر ليعوضه عن هذه السنوات، حتى يكون خير الأب وعطفه قد وزعا على أبنائه بالعدل، فمنهم من أخذ عطفا أقل وسنوات أكثر، ومنهم من أخذ سنوات أقل وعطفا أكثر.
الى هنا نكون قد وصلنا الى بيان بعض الفيوضات التي شملتها الآية الكريمة:
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
فالآية أعطتنا بوضوح الدليل المادي من النفس البشرية بانها تعرف الله بالفطرة، وتعرف الخير والشر بالفطرة، مصداقا لقول الله تعالى:
{ فألهمها فجورها وتقواها} الشمس 8.
وأن هذه النفس بالدليل المادي لا تملك لذاتها نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله، وأنها منسجمة مع الايمان بفطرة خلقها، ومنسجمة مع كلام الله بفطرتها الايمانية.
على أن الدليل المادي لوجود الله لا يشمل النفس البشرية وحدها، بل يشمل كل شيء في الكون، فكل ما في الكون ينطق بأنه لا اله الا الله، وفي كل شيء دليل، وسنبدأ في الفصل القادم بالدليل الغيبي.
-يتبع-