عياض
10-19-2010, 07:01 AM
ميت الأحياء: من لم يعرف المعروف بقلبه وينكر المنكر بقلبه
حذيفة بن اليمان
طرح احد الأعضاء هذه الأيام ما قال انه مقال وصله بالبريد حول الاختلاف على حلية الخمر اعتمد فيه صاحبه جوزف باسيل على مقالات المقري الصحفي اليمني في كتابه عن الخمر و التبيذ ..و في صدد قراءته للرد عليه الفيته منتشرا على الشبكة انتشارا مثيرا...مع ان اي فاسق شارب للخمر من المسلمين يقدر على كشف ضلالاته دع عنك المتقين منهم و الأقوياء و المعتصمين من الدين بركن متين...فكان من ادل المقالات على سطحية هؤلاء المدعين للتنوير و التحرر و تعمدهم الكذب في مقابل تحقيق ما يرمون من اهداف تفتح للمجتمع ابوابا على جحيم انحلال العلاقات الاجتماعية و الأسرية..و لو ادى ذلك الى احتراف السفسطة ما دامت لصالحك و قلب موازين القيم و ترك البحث عن الحقيقة جانبا ...
بدأ الكاتب كلامه عن التعددية في المرجعية الفكرية عند المسلمين الأوائل..و كلامه في ذلك -كاغلب كلامهم - كلمة حق يراد بها باطل.
فأما الحق الذي فيها ان الصدر الأول قد ضرب امثلة من اروع الأمثلة في حسن ادارة الاختلاف ..و ان وصل هذا الاختلاف الى اشده من ضرب الرقاب و تجييش الجيوش للسعي لاحقاق الحق و منع الظلم..فقد رأينا كيف ان المتخالفين في الحروب الأهلية من عصور الأنوار في الأمم التي تفتخر بهم و تعتز بالانتساب اليهم..رأينا كيف ان هؤلاء المتخالفين سواء في الثورات البلشفية او حتى الحروب الأهلية الأمريكية و الثورة الفرنسية او الحرب الأهلية الاسبانية على الخصوص في التصوير الرائع لهمنغواي و غيره من الأدباء او الثورة الكوبية..رأينا كيف كان بأسهم بينهم شديدا في اختلافاتهم التي سعوا فيها الى احقاق الحق الذي تصوروه ...مع ان الحق و العدل الذي سعوا اليه كثيرا ما كان يغلب عليه طابع المصالح الشخصية و حسابات الربح و الخسارة في اللعب مع اطراف اللعبة من البورجوازية الى الملكية و الامبراطوريين الى الكنسيين و النبلاء مرورا باليعاقبة و الجيرونديين الى تنازع اصحاب الحزب الواحد و رفقة السلاح على الاستبداد من دون الناس..و ان كان في كثير من اختلافاتهم تغلب ايضا النظرة البعيدة لمصالح الجماعة و الا ما كانوا وصلوا الى ما وصلوا الآن..
في عهد الصدر الأول..شهدنا اول ما شهدنا في اشد صور اختلافهم ..كيف ان غالبيتهم جنحت جنوحا جازما الى السلام..و رفعت ايديها عن مواطن الفتن ..و اعتزلت في بيوتها ..و قامت بسلوك حضاري في البحث عن استتباب الأمن و السلام في ربوع وطنها قل ان تجد له نظيرا في تاريخ الأمم..هذا في الأغلبية من وجهاء و رؤوس و قادة الصدر الأول...اما الأقلية المتنازعة و االتي رجحت الفعل على عدم الفعل حتى لا يضيع الحق في نظرها..فقد اشتهر و استفاض تعاملهم قبل القتال و بعده باخلاق و سلوك حضاري لا تجده عند غيرهم من الأمم التي تحاربت فيما بينها..من استنفاذ كل طرق المفاوضات و خيارات الصلح حتى لم يبق للقوم سبيل الا السلاح اقدموا عليه و هم كارهون..ثم بعد القتال و اثناءه لم ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم من مقولة المحامي الثوري بيير فيكتورنيين من ان الثورة تأكل ابناءها ...فلم يقتلوا مدبرا و لا اجهزوا على جريح و لا اخذوا اسيرا و لا استباحوا قرية و لا اخذوا مغانما و لا ابادوا شعبا و لا عقدوا محاكمة حقيقية و لا صورية لمخالفيهم و اعدموهم ..كما يفعل اصحاب المصالح بل و حتى اصحاب التنوير في ثوراتهم ..و في نفس الوقت تعاهد الجميع على المحافظة على اللحمة رغم الاختلاف..فما ان حاول البيزنطيون استغلال الفرصة اثناء القتال حتى هددوه بقول واحد ان سيتحالفون و يدعون خلافاتهم لمحاربته ..فتوقفوا و لزموا جحورهم..و لما خرج على اصول الاجماع بينهم فئة من الخوارج لم تراع قواعد الاختلاف هذه وقفوا جميعا في صف واحد لاطفاء فتنتهم بقوة الفكر و قوة السلاح..ثم كانوا منتبهين الى الاندساسات بينهم و القوى الرجعية من الأمم السابقة رغم عملها فيهم..فمن كان من زنادقتهم فقد وقفوا صفا واحدا في مواجهتهم..و من كان ممن لم يؤمن او لم يشأ الانتماء فقد تألفوه كما تألفهم نبيهم صلى الله عليه و سلم من قبل فكفوا شرهم..فتمخض الجميع بحسن الادارة عن الخروج من شر الاختلاف بأقل الخسائر البشرية و اقل الخسائر في المبادئ اذ لم يذهب الدين و لم ينقض من عراه الا عروة واحدة كانت التضحية بها اولى من التضحية بما هو اهم منها في حساب المصالح و المفاسد الذي هو ميزان سياسة الأمم..
و انما نبهت على هذا رأسا و تعرضت ..حتى ابين بعضا من سلوك هؤلاء الناس في امر هو اشد انواع الاختلاف و التعددية و مظهر من اخطر مظاهرها الحتمية...و التي اسفرت في غيرهم عن مقتل ملايين الناس من غير مباشري الحروب بجرة اقلام..فان تبين للناس في هذا المظهر الخطير حسن ادارة الاختلاف كان ذلك بيانا لحسن سياسنهم لاختلافهم فيما هو اقل شأنا و ادنى خطرا..و كان الخص في التحدي مع بقية الأمم في رأس الأمر ...و هو ما رأيناه واقعا في اختلافاتهم الكبرى في السقيفة و الردة و تقسيم الأراضي و الفيء و الخلافة و جمع القرآن و تدوين الحديث و العطاء و امر الديوان ..دع عنك اختلافهم في مسائل اصغر حتى عد ابن القيم في اختلاف ابن مسعود و عمر فقط اكثر من مائة مسألة من الفقه الدقيق و الجليل..مع اشتمال كل ذلك عن الخصال الضرورية من النظر النافذ و البحث عن الحقيقة و التشوف اليها و الدفاع عن الرأي و الشجاعة في التعبير عنه و قوة الشخصية و تقدير الاختلاف مع الآخر بحسب انواع المسائل و اهميتها و النفور من الجدال..و التزام الصمت و تفضيل الاختصار و عدم الثرثرة و شقشقة الكلام..ثم الاعتراف بالخطأ ان تبين و الأوب الى الجماعة ..ما استحقوا به مرتبتين اولاهما دنيوية بأخطائهم و نجاحاتهم ..ببشريتهم و عبقريتهم..فتحوا بها ثلاث قارات و بنوا فيها حضارة ستدوم لقرون في مدة تقل عن الربع القرن ستجعل من بعدهم لعظم ما يرى ينفي بشكل مضحك وجودهم ...فكانوا ببشريتهم و سريان الضعف الانساني الذي يسري في غيرهم اقوى في القدوة بهم ..اذ يعلم الواحد بعد الاطلاع على احوالهم كيف كانوا بشرا من سائر البشر..و مع ذلك خققوا اهدافهم و استطاعوا ادارة اختلافاتهم ..فيعطيه ايمانا واقعيا انه يمكن...
والثانية اخروية اذ اختيروا ليكونوا افضل الشهداء على الناس ..اذ الأثر يدل على المؤثر...و آثارهم و نجاحاتهم ما نبهنا على اصوله و ما لم ننبه لا نوجد مجنمعة فيمن قبلهم و لا من بعدهم.. و ذلك لا يمكن ان يكون ان لم تكن علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقا باطنا وظاهرا , و لهذا كانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله وفعلهم لأمر الله , و لم يكن اختيار الخالق لهم ليكون اجماعهم حجة اختيارا اعتباطيا كسائر اختياراته سبحانه..فاستحقوا بمجموعهم ان يكون لهم الفيتو في اي قرار ياتي بعدهم وجد مقتضاه في عصرهم..
أما الباطل المحتوي عليه كلامه في التعددية...هو ارجاع التعددية الى المرجعية الفكرية..فكل الاختلاف السابق يجوز ان ينعت بالاختلاف في الفكر..اما في مرجعيته فلا..فالقرون الأولى كلها كانت مجمعة على مرجعية واحدة بلا خلاف..كتاب الله و سنة رسوله..فلن يجدوا و لو بحثوا دهرا احدا من الصحابة او من بعدهم من مشاهير علماء الأمصار يتعمد مخالفة النبي صلى الله عليه و سلم في شيء من سنته دقيقا كان او كبيرا ..فهم متفقون اتفاقا قطعيا معلوما بالضرورة من تواتر اقوالهم على وجوب اتباعه وحده و توحيد المرجعية في اقواله هو وحده ..و ان غيره يؤخذ عنه و يرد..و اقوالهم في هذا اشهر من ان تسرد و طرقها عنهم بمنزلة تواتر اخبار الأحداث العظام ...ومجرد محاولة هؤلاء القوم انكار وحدة المرجعية عنهم بعد مخالطتهم يدل على مزيد احترافهم للسفسطة و نياتهم في التبييت للحق و لبسه بالباطل و انعدام الأمانة فيهم.
ثم هم بعد هذا متفقون على تفسيرها و تأويلها و شرحها بكتاب الله و سنة رسوله و ما نصا على اعتباره...لا تفسيرها و تاويلها و شرحها بالعقل او الذوق او الباطن او الكشف او او او...و عليه يدل ما نقلوه من معاني القرآن كما نقلوا الفاظه التزامهم بنفس المرجعية من تفسير الوحي بالوحي بنفس المنظومة التي نص عليها الامام الشافعي في نظرية المعرفة التي صاغها في كتبه الأصولية دون اعتماد على اي عنصر اجنبي من خارج منظومة الوحي التي تشكلها الوسائل التي نص الشارع او اشار الى اعتبارها في التفسير..
ثم هم بعد ذلك و نتيجة لما سبق هم متفقون على اصول الدين و اركانه الكبرى من العقائد و الفقهيات و العلميات و العمليات و الأخلاق و التصورات التي تشكل جدود الاسلام الكبرى و لم يختلفوا فيها كاختلاف من قدموا عقولهم او اذواقهم على الوحي من جميع الفرق الذين اختلقوا في اصول الدين من بعد ما جائتهم البينات..و ولهذا نتحدى منذ قرون ان يجدوا تناقضا بين الصدر الأول في اتباث او نفي او تفسير او تاويل او شرح اصل من اصول الدين نص عليه الكتاب و السنة بوضوح و صراحة...كما يناقضهم الآن هؤلاء الليبراليون الانحلاليون في تفسير هذه الأصول و شرحها و تاويلها..
فهذا الدين امامهم فليدخلوا من اي باب شاؤوا من باب التوحيد والصفات وباب العدل والقدر الى باب الإيمان والأسماء والأحكام مرورا بباب الوعيد والثواب والعذاب ثم باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتصل به من حكم الأمراء أبرارهم وفجارهم ، وحكم الرعية معهم ، والكلام في الصحابة و آل البيت مما من نتائجه و اصوله وجوب الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر و وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج و أن من أطاع الله ورسوله فانه يدخل الجنة ولا يعذب و ان من لم يؤمن بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه فهو كافر وأمثال هذه الأمور التى هى اصول الدين وقواعد الإيمان..و التي يتبين لكل منصف عاقل خالط اقوالهم فيها أن سلفنا و مؤسسي حضارتنا ووجودنا لم يكن بينهم من النزاع في هذه الأبواب إلا من جنس النزاع في فروعها الذي أقرهم عليه الكتاب والسنة كما تقدم ذكره فيما سبق وان البدع الغليظة المخالفة للكتاب والسنة و الاختلافات الكبرى و الفتن في القول و العمل و الاعتقاد إنما حدثت مع من اتى بعدهم بعد انقضاء عصرهم ، وقد يعزوا هؤلاء الليبراليون و اسلافهم من الملاحدة و من اغتر بهم او استزلوه من المسلمين قديما و حديثا بعض ذلك إلى بعض السلف تارة بنقل غير ثابت وتارة بتأويل لشيء من كلامهم متشابه مجمل كما فعل صاحب المقال و صاحبه مؤلف الكتاب
لكن من رحمة الله أنه قل أن ينقل عنهم شيء من ذلك إلا وفي النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقول المحكم الصريح ما يبين غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل ، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في الملك
فكمال دين الإسلام هو الوسط في الأديان والملك ، كما قال تعالى: (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )) لم ينحرفوا انحراف اليهود والنصارى والصابئين ..و بالمثل كان هؤلاء الصحابة و من كان على ما هم عليه متمسكين بالوسط...مجانبين للتطرف و الأطراف..
فكما ان اهل الاسلام وسط في الأنبياء فلم يحطوا من شأنهم او استهتروا بمقامهم حتى قتلوهم كما فعلت يهود..و لم يطروهم و لم يبالغوا فيهم و لا فرطوا في حريتهم لهم حتى عبدوهم كما فعلت النصارى..بل احبوا انبياءهم و عاشروا اقوالهم و صاحبوا انفاسهم و اعطوهم حقهم مصاحبة بشر لبشر...و حب انسان لانسان..
فكذلك الصحابيون من اهل الاسلام المتتبعين للحكمة النبوية و العصبة الجماعية مع رؤوسهم ووجهائهم ...لم يزدروا علماءهم و لا افتروا على اصحاب نبيهم حتى كفروهم و قتلوهم كالخوارج و الروافض و كثير من العلمانيين ..و لم يغلوا في علماءهم و لم يروا لأفرادهم من الحق المطلق ما ليس لغيره حتى فقدوا حريتهم و شخصياتهم و عقولهم لغيرهم كفعل غلاة المتصوفة و غلاة الروافض ..و مع امراءهم لم يوافقوهم على الإثم والعدوان ، ويركنوا إلى الذين ظلموا منهم و يمدحونهم كفعل كثير من الليبراليين و العلمانيين اليوم ...و لم يرفضوا أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى ، لا على جهاد ولا على جمعة ولا أعياد و لا على مد الاغاثات و لا على تطوير البيئات و التقنيات و لا على نشر العلم و توعية الناس كما فعل الكثير من الشيوعيين و الثوريين الراديكاليين من كافة الطوائف...
يتبع
حذيفة بن اليمان
طرح احد الأعضاء هذه الأيام ما قال انه مقال وصله بالبريد حول الاختلاف على حلية الخمر اعتمد فيه صاحبه جوزف باسيل على مقالات المقري الصحفي اليمني في كتابه عن الخمر و التبيذ ..و في صدد قراءته للرد عليه الفيته منتشرا على الشبكة انتشارا مثيرا...مع ان اي فاسق شارب للخمر من المسلمين يقدر على كشف ضلالاته دع عنك المتقين منهم و الأقوياء و المعتصمين من الدين بركن متين...فكان من ادل المقالات على سطحية هؤلاء المدعين للتنوير و التحرر و تعمدهم الكذب في مقابل تحقيق ما يرمون من اهداف تفتح للمجتمع ابوابا على جحيم انحلال العلاقات الاجتماعية و الأسرية..و لو ادى ذلك الى احتراف السفسطة ما دامت لصالحك و قلب موازين القيم و ترك البحث عن الحقيقة جانبا ...
بدأ الكاتب كلامه عن التعددية في المرجعية الفكرية عند المسلمين الأوائل..و كلامه في ذلك -كاغلب كلامهم - كلمة حق يراد بها باطل.
فأما الحق الذي فيها ان الصدر الأول قد ضرب امثلة من اروع الأمثلة في حسن ادارة الاختلاف ..و ان وصل هذا الاختلاف الى اشده من ضرب الرقاب و تجييش الجيوش للسعي لاحقاق الحق و منع الظلم..فقد رأينا كيف ان المتخالفين في الحروب الأهلية من عصور الأنوار في الأمم التي تفتخر بهم و تعتز بالانتساب اليهم..رأينا كيف ان هؤلاء المتخالفين سواء في الثورات البلشفية او حتى الحروب الأهلية الأمريكية و الثورة الفرنسية او الحرب الأهلية الاسبانية على الخصوص في التصوير الرائع لهمنغواي و غيره من الأدباء او الثورة الكوبية..رأينا كيف كان بأسهم بينهم شديدا في اختلافاتهم التي سعوا فيها الى احقاق الحق الذي تصوروه ...مع ان الحق و العدل الذي سعوا اليه كثيرا ما كان يغلب عليه طابع المصالح الشخصية و حسابات الربح و الخسارة في اللعب مع اطراف اللعبة من البورجوازية الى الملكية و الامبراطوريين الى الكنسيين و النبلاء مرورا باليعاقبة و الجيرونديين الى تنازع اصحاب الحزب الواحد و رفقة السلاح على الاستبداد من دون الناس..و ان كان في كثير من اختلافاتهم تغلب ايضا النظرة البعيدة لمصالح الجماعة و الا ما كانوا وصلوا الى ما وصلوا الآن..
في عهد الصدر الأول..شهدنا اول ما شهدنا في اشد صور اختلافهم ..كيف ان غالبيتهم جنحت جنوحا جازما الى السلام..و رفعت ايديها عن مواطن الفتن ..و اعتزلت في بيوتها ..و قامت بسلوك حضاري في البحث عن استتباب الأمن و السلام في ربوع وطنها قل ان تجد له نظيرا في تاريخ الأمم..هذا في الأغلبية من وجهاء و رؤوس و قادة الصدر الأول...اما الأقلية المتنازعة و االتي رجحت الفعل على عدم الفعل حتى لا يضيع الحق في نظرها..فقد اشتهر و استفاض تعاملهم قبل القتال و بعده باخلاق و سلوك حضاري لا تجده عند غيرهم من الأمم التي تحاربت فيما بينها..من استنفاذ كل طرق المفاوضات و خيارات الصلح حتى لم يبق للقوم سبيل الا السلاح اقدموا عليه و هم كارهون..ثم بعد القتال و اثناءه لم ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم من مقولة المحامي الثوري بيير فيكتورنيين من ان الثورة تأكل ابناءها ...فلم يقتلوا مدبرا و لا اجهزوا على جريح و لا اخذوا اسيرا و لا استباحوا قرية و لا اخذوا مغانما و لا ابادوا شعبا و لا عقدوا محاكمة حقيقية و لا صورية لمخالفيهم و اعدموهم ..كما يفعل اصحاب المصالح بل و حتى اصحاب التنوير في ثوراتهم ..و في نفس الوقت تعاهد الجميع على المحافظة على اللحمة رغم الاختلاف..فما ان حاول البيزنطيون استغلال الفرصة اثناء القتال حتى هددوه بقول واحد ان سيتحالفون و يدعون خلافاتهم لمحاربته ..فتوقفوا و لزموا جحورهم..و لما خرج على اصول الاجماع بينهم فئة من الخوارج لم تراع قواعد الاختلاف هذه وقفوا جميعا في صف واحد لاطفاء فتنتهم بقوة الفكر و قوة السلاح..ثم كانوا منتبهين الى الاندساسات بينهم و القوى الرجعية من الأمم السابقة رغم عملها فيهم..فمن كان من زنادقتهم فقد وقفوا صفا واحدا في مواجهتهم..و من كان ممن لم يؤمن او لم يشأ الانتماء فقد تألفوه كما تألفهم نبيهم صلى الله عليه و سلم من قبل فكفوا شرهم..فتمخض الجميع بحسن الادارة عن الخروج من شر الاختلاف بأقل الخسائر البشرية و اقل الخسائر في المبادئ اذ لم يذهب الدين و لم ينقض من عراه الا عروة واحدة كانت التضحية بها اولى من التضحية بما هو اهم منها في حساب المصالح و المفاسد الذي هو ميزان سياسة الأمم..
و انما نبهت على هذا رأسا و تعرضت ..حتى ابين بعضا من سلوك هؤلاء الناس في امر هو اشد انواع الاختلاف و التعددية و مظهر من اخطر مظاهرها الحتمية...و التي اسفرت في غيرهم عن مقتل ملايين الناس من غير مباشري الحروب بجرة اقلام..فان تبين للناس في هذا المظهر الخطير حسن ادارة الاختلاف كان ذلك بيانا لحسن سياسنهم لاختلافهم فيما هو اقل شأنا و ادنى خطرا..و كان الخص في التحدي مع بقية الأمم في رأس الأمر ...و هو ما رأيناه واقعا في اختلافاتهم الكبرى في السقيفة و الردة و تقسيم الأراضي و الفيء و الخلافة و جمع القرآن و تدوين الحديث و العطاء و امر الديوان ..دع عنك اختلافهم في مسائل اصغر حتى عد ابن القيم في اختلاف ابن مسعود و عمر فقط اكثر من مائة مسألة من الفقه الدقيق و الجليل..مع اشتمال كل ذلك عن الخصال الضرورية من النظر النافذ و البحث عن الحقيقة و التشوف اليها و الدفاع عن الرأي و الشجاعة في التعبير عنه و قوة الشخصية و تقدير الاختلاف مع الآخر بحسب انواع المسائل و اهميتها و النفور من الجدال..و التزام الصمت و تفضيل الاختصار و عدم الثرثرة و شقشقة الكلام..ثم الاعتراف بالخطأ ان تبين و الأوب الى الجماعة ..ما استحقوا به مرتبتين اولاهما دنيوية بأخطائهم و نجاحاتهم ..ببشريتهم و عبقريتهم..فتحوا بها ثلاث قارات و بنوا فيها حضارة ستدوم لقرون في مدة تقل عن الربع القرن ستجعل من بعدهم لعظم ما يرى ينفي بشكل مضحك وجودهم ...فكانوا ببشريتهم و سريان الضعف الانساني الذي يسري في غيرهم اقوى في القدوة بهم ..اذ يعلم الواحد بعد الاطلاع على احوالهم كيف كانوا بشرا من سائر البشر..و مع ذلك خققوا اهدافهم و استطاعوا ادارة اختلافاتهم ..فيعطيه ايمانا واقعيا انه يمكن...
والثانية اخروية اذ اختيروا ليكونوا افضل الشهداء على الناس ..اذ الأثر يدل على المؤثر...و آثارهم و نجاحاتهم ما نبهنا على اصوله و ما لم ننبه لا نوجد مجنمعة فيمن قبلهم و لا من بعدهم.. و ذلك لا يمكن ان يكون ان لم تكن علومهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم حقا باطنا وظاهرا , و لهذا كانوا أحق الناس بموافقة قولهم لقول الله وفعلهم لأمر الله , و لم يكن اختيار الخالق لهم ليكون اجماعهم حجة اختيارا اعتباطيا كسائر اختياراته سبحانه..فاستحقوا بمجموعهم ان يكون لهم الفيتو في اي قرار ياتي بعدهم وجد مقتضاه في عصرهم..
أما الباطل المحتوي عليه كلامه في التعددية...هو ارجاع التعددية الى المرجعية الفكرية..فكل الاختلاف السابق يجوز ان ينعت بالاختلاف في الفكر..اما في مرجعيته فلا..فالقرون الأولى كلها كانت مجمعة على مرجعية واحدة بلا خلاف..كتاب الله و سنة رسوله..فلن يجدوا و لو بحثوا دهرا احدا من الصحابة او من بعدهم من مشاهير علماء الأمصار يتعمد مخالفة النبي صلى الله عليه و سلم في شيء من سنته دقيقا كان او كبيرا ..فهم متفقون اتفاقا قطعيا معلوما بالضرورة من تواتر اقوالهم على وجوب اتباعه وحده و توحيد المرجعية في اقواله هو وحده ..و ان غيره يؤخذ عنه و يرد..و اقوالهم في هذا اشهر من ان تسرد و طرقها عنهم بمنزلة تواتر اخبار الأحداث العظام ...ومجرد محاولة هؤلاء القوم انكار وحدة المرجعية عنهم بعد مخالطتهم يدل على مزيد احترافهم للسفسطة و نياتهم في التبييت للحق و لبسه بالباطل و انعدام الأمانة فيهم.
ثم هم بعد هذا متفقون على تفسيرها و تأويلها و شرحها بكتاب الله و سنة رسوله و ما نصا على اعتباره...لا تفسيرها و تاويلها و شرحها بالعقل او الذوق او الباطن او الكشف او او او...و عليه يدل ما نقلوه من معاني القرآن كما نقلوا الفاظه التزامهم بنفس المرجعية من تفسير الوحي بالوحي بنفس المنظومة التي نص عليها الامام الشافعي في نظرية المعرفة التي صاغها في كتبه الأصولية دون اعتماد على اي عنصر اجنبي من خارج منظومة الوحي التي تشكلها الوسائل التي نص الشارع او اشار الى اعتبارها في التفسير..
ثم هم بعد ذلك و نتيجة لما سبق هم متفقون على اصول الدين و اركانه الكبرى من العقائد و الفقهيات و العلميات و العمليات و الأخلاق و التصورات التي تشكل جدود الاسلام الكبرى و لم يختلفوا فيها كاختلاف من قدموا عقولهم او اذواقهم على الوحي من جميع الفرق الذين اختلقوا في اصول الدين من بعد ما جائتهم البينات..و ولهذا نتحدى منذ قرون ان يجدوا تناقضا بين الصدر الأول في اتباث او نفي او تفسير او تاويل او شرح اصل من اصول الدين نص عليه الكتاب و السنة بوضوح و صراحة...كما يناقضهم الآن هؤلاء الليبراليون الانحلاليون في تفسير هذه الأصول و شرحها و تاويلها..
فهذا الدين امامهم فليدخلوا من اي باب شاؤوا من باب التوحيد والصفات وباب العدل والقدر الى باب الإيمان والأسماء والأحكام مرورا بباب الوعيد والثواب والعذاب ثم باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتصل به من حكم الأمراء أبرارهم وفجارهم ، وحكم الرعية معهم ، والكلام في الصحابة و آل البيت مما من نتائجه و اصوله وجوب الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر و وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج و أن من أطاع الله ورسوله فانه يدخل الجنة ولا يعذب و ان من لم يؤمن بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه فهو كافر وأمثال هذه الأمور التى هى اصول الدين وقواعد الإيمان..و التي يتبين لكل منصف عاقل خالط اقوالهم فيها أن سلفنا و مؤسسي حضارتنا ووجودنا لم يكن بينهم من النزاع في هذه الأبواب إلا من جنس النزاع في فروعها الذي أقرهم عليه الكتاب والسنة كما تقدم ذكره فيما سبق وان البدع الغليظة المخالفة للكتاب والسنة و الاختلافات الكبرى و الفتن في القول و العمل و الاعتقاد إنما حدثت مع من اتى بعدهم بعد انقضاء عصرهم ، وقد يعزوا هؤلاء الليبراليون و اسلافهم من الملاحدة و من اغتر بهم او استزلوه من المسلمين قديما و حديثا بعض ذلك إلى بعض السلف تارة بنقل غير ثابت وتارة بتأويل لشيء من كلامهم متشابه مجمل كما فعل صاحب المقال و صاحبه مؤلف الكتاب
لكن من رحمة الله أنه قل أن ينقل عنهم شيء من ذلك إلا وفي النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقول المحكم الصريح ما يبين غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل ، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في الملك
فكمال دين الإسلام هو الوسط في الأديان والملك ، كما قال تعالى: (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )) لم ينحرفوا انحراف اليهود والنصارى والصابئين ..و بالمثل كان هؤلاء الصحابة و من كان على ما هم عليه متمسكين بالوسط...مجانبين للتطرف و الأطراف..
فكما ان اهل الاسلام وسط في الأنبياء فلم يحطوا من شأنهم او استهتروا بمقامهم حتى قتلوهم كما فعلت يهود..و لم يطروهم و لم يبالغوا فيهم و لا فرطوا في حريتهم لهم حتى عبدوهم كما فعلت النصارى..بل احبوا انبياءهم و عاشروا اقوالهم و صاحبوا انفاسهم و اعطوهم حقهم مصاحبة بشر لبشر...و حب انسان لانسان..
فكذلك الصحابيون من اهل الاسلام المتتبعين للحكمة النبوية و العصبة الجماعية مع رؤوسهم ووجهائهم ...لم يزدروا علماءهم و لا افتروا على اصحاب نبيهم حتى كفروهم و قتلوهم كالخوارج و الروافض و كثير من العلمانيين ..و لم يغلوا في علماءهم و لم يروا لأفرادهم من الحق المطلق ما ليس لغيره حتى فقدوا حريتهم و شخصياتهم و عقولهم لغيرهم كفعل غلاة المتصوفة و غلاة الروافض ..و مع امراءهم لم يوافقوهم على الإثم والعدوان ، ويركنوا إلى الذين ظلموا منهم و يمدحونهم كفعل كثير من الليبراليين و العلمانيين اليوم ...و لم يرفضوا أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى ، لا على جهاد ولا على جمعة ولا أعياد و لا على مد الاغاثات و لا على تطوير البيئات و التقنيات و لا على نشر العلم و توعية الناس كما فعل الكثير من الشيوعيين و الثوريين الراديكاليين من كافة الطوائف...
يتبع