المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كلمة معقبة



الشيخ عبدالرحمن عيسى
10-22-2010, 11:51 PM
كلمة معقـِّبة
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى ــ حلب
11 ذي القعدة 1431 هـ
18 تشرين الأول 2010 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الكلمة : قول ذو بيان , وفيه مزيد إيضاح وتبيان , وبداية القراءة والقرآن : ( إقرأ .. ) وهي كلمة مؤلفة من أربعة أحرف هجائية , بدايتها نهايتها , والبداية عين النهاية , والعكس صحيح أيضاً !..
ومن الكلمة تكون كلمات , ومن المقالة مقالات .. وقد كتبنا مقالاتٍ , نهجْنا فيها سبيل التوضيح والتصريح , بعيداً عن الهمز واللمز والتلميح , وقلنا : الحقُّ من ربكم بقوة الحق , وبحرارة الصدق الإلهي , التي تحرق كل زعم وادعاء وافتئات ..
قـدَّمنا إلى دنيا القراءة والقراء , زبدة ما أجهدنا فيه الفكر , وخلاصة مخاض غير يسير , وحملٍ لبذور المعاناة والكدح الدؤوب , وحياة القهر واللـُّغـوب ..
ليس من قدري ولا من شأني , أن أخوض هذا اليمَّ , الذي تصطخب مياهه وأمواجه , لولا الله العلي الكبير القدير , فهي ـ أي هذه المقالات ـ قـدَر مقدور ومقدَّر , وجاءت على توقيت مؤقت ومبرَّر , ولم يكن لها من دافع , أو يحول دونها مانع ..
( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .. ) ..
واتخذتْ طريقها عبر الممرات واللهجات , في واقع الصراع والتحديات , ولم تـُنسج بالحروف المهملات , والمستعمل والمتداول من الأبجديات , ولستُ فيها أكثر من مَمرٍّ ومِشكاة , مضاءةٍ بمحض نور الله , وبمصباح منير من لدُنْ سيدي رسول الله عليه صلى الله وسلم وبارك .. فهو نافذة الحق إلى الخَـلق ..
وإني أبرأ إلى الله ورسوله , من أن أتصور لي فيها من وجود , فأرى نفسي أدنى من ذلك : قلة وضآلة وعجزاً , بل وجهلاً .. فسبحان الكريم العليم الوهاب , ولله ورسوله المنُّ والفضل , وإليهما مرجعي ومآبي , فعَليَّ خطئي ولهما ومنهما صوابي ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. والحمد لله رب العالمين ..
عبد الرحمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
التبيين :
شاءت عناية الله الفائقة , وتجليه بالعلم اللدُنيِّ , أن أكتب هذه المقالات الفذة , المعبرةَ عن حقائق الحكمة الإلهية , والمفـْصحة عن واقع الحياة الإنسانية , وما انتهى إليه أمر هذه الأمة , من حيْـرة وذهول وضياع كبير , وتشتت في الفكر والرأي ..
إن قراءة مدققة , فيما وراء الماورائيات , آخرَ هذه الآونات والمآلات : إسلامياً وحقائقياً , هي ما تفتقر إليه أوضاع هذا العالم المتدهور إلى الحضيض , وأوضاعُ المسلمين , والعربِ منهم بخاصة , بعد أن باءت كل محاولات الوحدة والعودة , إلى النفاد والنضوب , والفشل الذريع , والفواجع والخطوب , الممزقة لنياط القلوب ..
وفي الوقت الذي يُجمع الجميع , على السطحية والغثاء , والتافه من القول , والتحليلات السياسية اليومية , وسرد المواعظ المجانية , وطوفان المخاض الإعلامي الجامح , يبدو أن لا مَنـْدوحة من قول الحق المجرد , وإماطة اللثام , والتعتيم المؤكد , لتنجلي الحقيقة المُرَّة , ونـَخرجَ عن كوننا كالنعامة الحمقاء , أو كالناقة العشواء .. أو كالمرأة الخرقاء !.. تنقض ما غزلت , وتهدم ما قد بنت : عبثاً وتصرفاً غير معقول ..
تماماً كما نحن في نقضنا لحضارتنا , وعبثنا في ديننا ومصيرنا !..
إن هذه المقالات , إنْ هي إلا إرهاصات ومُبشرات , تـُنبيء عن موعد واعد وقادم , تسطع فيه شمس الحقائق الكبرى , ويتم الفصل في كل النزاعات والحروب , وضروب الخلافات الممزقة ,التي ترامت إلينا عبْر القرون , وفي هذا العصر بالذات ..
وهذا ما أكدته جدلية هذه الحياة المادية الإباحية , وفكرها السياسي المتهافت , والمتساقطِ كأوراق الخريف : هباء منثوراً , في خِضَمِّ التحديات الهائلة , والأيام العصيبة , والإجراءات المنكفئة على أعقابها , والإفسادِ المصنـَّع وغير المقـنـَّع ..
وفي دنيا الظلم والمظالم الفادحة , والكبائر من الإثم ما ظهر منه وما بطن , والفواحش والموبقاتِ المشاعة في المجتمع , ليس بإمكان الأقوال المرسَلة على عواهنها والمواعظ الملقاة جُزافاً عبر المنابر والفضائيات , أن تـُحدث رَجعة عـملية , ورداً جـميلاً , إلى ما افتقدناه من التدين الصحيح , والتقوى الملزمة , والورع والاستقامة على الشرع , والإخلاص لله في الدين الخالص .. ( ألا لله الدين الخالص .. ) ..
إن ما يحول دون ذلك , أمر لا يمكن تصوره ولا الإحاطة به , وهو فوق كل الطاقات المبذولة , وما فيها من غوغائية وتحريف , ورياء فاضح وتجديف , وازدواجية غير خافية ولا مستترة , وتراجع أمام زخَم الباطل , وزحفه المريع !..
المشكلة : قبل أن تكون في هيمنة الأعداء , وتسلطهم على الأمة , وحربهم القذرة عليها , هي فينا نحن العربَ والمسلمين , والنـُّخـَبَ المثقفة والحاكمة , والمعـمَّـمين من الشيوخ والواعظين , والقوى الفكرية والأدبية المنتجة والرائدة !..
إذ كلٌّ يُغنيِّ على لـيْلاه , ويتـَّبع هواه الأرعن , ويؤثر دنياه الزائفة , ويبحث عن مقعدٍ غير صدق , في مخلفات الأجيال والأيام , والتقاطِ المتساقط من موائد الظالمين واللئام , ومراغمة اللاهثين خلف سراب المتعة والحرام ..
إن الناس ينظرون إلى أولى الأمر والفكر , من أهل العلم , ورجال الحكم , فهم الذين يُـقـتدى بهم , وتـُقتفى آثارهم , والعامة والكافة , لا يستطيعون مخالفتهم , وتـَبيُّنَ تدليسهم وجوْرهم , وغوغائية إعلامهم , وانحرافَ قضاتهم وحكامهم !..
هذا إلى كونهم ـ أي أولى الأمر والفكر ـ قادرين ومقتدرين , وموجهين في طريق الانهيار والبوار , وسوء المصير في هذه الدار , وتلوين الحياة بالقاتم من المبادئ و الأفكار ..
حينما تـُشل فاعلية هذه الأمة : تفرقاً وضلالاً , وبحثاً عن المصالح الخاصة , والمغانم الدنيوية المؤْثـَرة , فإن سيطرة الكفرة الأعداء , والمنافقين لهم , والمتواطئين معهم , لا يمكن اقتحامها واختراقها , وإنهاءُ وجودها الخفي والعلني , في أوساط الأمة المغلوبة والمقهورة , وأبنائها الباحثين إمَّا عن لقمة العيش , أو عن الترف المرعب , والغنى الفاحش والفاضح .. حيث لا نسبة ولا وسطية , بين المليئين والمعدَمين ..
لقد أفرزت هذه الحياة , بصيغتها الراهنة , أنماطاً عجيبة ومُريبة , من الفاسدين والمفسدين في الأرض , والمتخمين بالذهب , وبالعملات الصعبة , التي لا تأكلها النيران , إلى جانب الفقراء المسحوقين حتى العظم : من نساء ورجال وولدان , المضطرين حتى إلى رغيف الخبز , وحبة الدواء , ونقطة الماء !..
في حين تـُهدر ثروات الأمة , أنهاراً من الإسراف والتبذير , ومليء الحاويات !.
ورأينا وسمعنا نتيجة لذلك , كيف أن الجرائم المَهولة , يَضِجُّ منها المجتمع , والأحقادَ المكبوتة , والحسدَ المضغوط , والمغرياتِ المجنونة , كيف تنفجر دُفعة واحدة في عالم اليوم , وعند المسلمين أيضاً , بصاعق من استراتيجية الظلم والعَـسْف والحـيْف , وتدليل الأقوياء والأغنياء , على حساب الضعفاء والبؤساء وسواد الشعوب .
وكان الأجدر بنا , أن نلجأ إلى ما أمر به ديننا وإسلامنا , ونعتصمَ بالقرآن : حبل الله الأعظم : إخاء وأمناً وحباً , وأن لا نظل نـُلقي باللائمة , على أعدائنا الكفرة المجرمين , أي إننا بذلك , نحقق ما يَودَّون وما يشتهون .. على حد قول الله تبارك وتعالى : ( وَدوُّا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء .. ) ..
فهل استوينا معهم , في ممارسة الحياة بإطلاق وإباحية , وحرية مُنفلتة من كل تـَعـقـُّل وعِقال , ولكنهم فارقونا بكونهم أحسنَ حالاً : أخذاً بأسباب القوة المتعاظمة , وخدمة للمجتمع , وإتقاناً للعمل , والتزاماً بقواعد النظام , والسلامة العامة ؟..
خلافاً لما نحن عليه , من رداءة الأعمال , وخـُلف المواعيد , وتحجر الضمائر , وابتزاز بعضِناً بعضاً : طمعاً وظلماً , ومتاجرةً بالقيم , وخَلابة ومكراً !..
وخلافاً ومخالفة , بدءاً من إشارة الـمرور , إلى شهادة الـزور , والتخـريب الكـبير , في المفاهيم والآداب , وممارسة المسؤوليات , وتعطيل الحقوق !..
إن القوانين والسنن الإلهية , التي تحكم العالم , لا تحابي أحداً , بمجرد التظاهر والزعم والدعوى , وإذا بطلت القِـيم , فإن البقاء والسيادة للأقوى ..
وإذا ضل في الأرض , من يُـفـْترض أنهم أهدى سبيلاً , وأقومُ حضارة وأخلاقاً , فلا لومَ إلا عليهم , إذا وجدوا أنفسهم , مَدينين لأعدائهم !..
وفي خِضَمِّّ اللغـَط الإعلامي السياسي , تضيع حقيقة الأزمة , التي تتردى فيها الأمة , من عرب وغير عرب , وتصبح القضية ألاعيبَ سياسية , من أجل استمرار الأمة على ما هي عليه , دون إمكانية جـِدية , للخلاص والانعتاق , وتحطيم الآصار والأطواق , والنفوذ من الآفاق , بالسلطان المبين , وحق اليقين ..
وحتى الآن , وخلال قرن كامل , لم نر إلا الكلام المنـَمَّق , والخطاب المدبَّج , والادعاءاتِ والمزاعمَ الفارغة , والدفعَ في طريق الغيبوبة والغثيان , وتحطيمِ مُدْركات الإنسان , وجعلِه في طابور طويل من العاثرين والعميان ..
على حد قول الله تبارك وتعالى : ( لهم قـلوب لا يَـفـقـهـون بها ولهم أعـين لا يـُبصرون بها ولهـم آذان لا يَسمعـون بها أولـئك كالأنعـام بل هـم أضلُّ أولـئك هـم الغافلون ) .. أولئك هم ضحايا غسيل الأدمغة , وتيارات الإغراء والفتنة , وطوفان العذاب الشديد , والطغيان العارم , والتخطف العنيف والمخيف ..
ولعل العرب قبل غيرهم , من بقية الأمة : علماء ومفكرين وحكاماً , يرتكبون أخطاءً فادحة جداً , حينما يُصرون على المضي في طريق التشرذم والتخاذل , وحينما تكون مثيرات اهتماماتهم , لا شأن لها بسنة ولا قرآن , ولا ما يقتضيه التاريخ والواقع والدين , من مراجعة حقة , وإعادةِ نظرٍ فيما ثبت هوانـُه وبطلانـُه , مما هو مجرد عبودية للدنيا الدنيئة , واستسلامٌ مطلق , لأفانين فتنتها وزينتها وزخرفها , وتعبئة قصوى لكل ما في الأرض من سلبيات وانحرافات , ونظرياتٍ في الفكر والنفس والسياسة , ليست من الحق في شيء , وهي غير لائقة بكوننا خيرَ أمة أخرجت للناس , تأمر بالمعروف , وتنهى عن المنكر , وتؤمن بالله , وتجاهد وتضحي لإعلاء كلمة الله وإرساء دعائم الحياة الصالحة , والحضارة المؤمنة ..
ومن المخجل حقاً , أن القوم لا يخجلون أن يكونوا إمَّعاتٍ وببغاوات , وأجـِنـْدةَ تقاليد وعادات , لا ترفع رأساً , ولا تـُوري قدْحاً , ولا تثمر صلاحاً ولا صلحاً ..
وبعد :
فإن الحياة المعاصرة , بالرغم مما تـُصدِّره إلينا من يأس وقنوط , وشعور بالإفلاس والإحباط , وهاوية السقوط , فإننا لا يمكن لنا أن نيأس من روْح الله , أو أن نقنط من رحمة الله , وما دام القرآن موجوداً , والكعبة قائمة , والرسالة النبوية صفحة مفتوحة ومقروءة , فإن الآمال بالفرج والنصر عريضة , وبالعودة المرتقبة واردة , ولا بد للصبح من أن ينجلي , وللشمس من أن تسطع , ولا بد للباطل من أن يبطل ويتلاشى وللحق من أن يعلو ويستعيد دولته وسلطانه , ولا بد للمستضعفين في الأرض , من أن يَمنَّ الله عليهم , ويجعلهم أئمة , ويجعلهم الوارثين ..
ألا إن صناعة النصر الإلهي المؤزَّر , صناعة دقيقة وعريقة , تـَدِقُّ على الأفهام والعقول , وقد لا ينتبه إليها أكثر الناس , الذين لا يفكرون ولا يعلمون ..
إن الغافلين والنائمين , يبزغ الفجر , وتشرق الشمس , وهم لا يُحسون ولا يَدرون .. ويظنون أن الليل مازال مخيماً على الكون , وأن الظلام هو القاعدة !..
ويأبى الله إلا أن يُخرج الحيَّ من الميت , والنورَ من كبد الظلمة , واليسرَ من قلب العُسْر , والنصرَ من الصبر , والفرجَ من الكرب , كما يأبى سبحانه , أن يأتي أعداءه , إلا من حيث لم يحتسبوا ولم يفطنوا ولم يستعدوا !.. فمِن مأمنه يُؤتى الحذِر ..
وفي الوقت الذي يظن أعداء الإسلام , أنهم يأخذون بالاحتياطات اللازمة , ويُعدون لكل أمر عُدته , وأنْ لا غالب لهم .. إذا بكل ذلك , يشكل بداية النهاية , ويضع الأسس لانكسارهم , خصوصاً أن طلائع الأمة , لا تفتأ جهاداً وتضحية , وقرابينَ على مذبح الإيمان والحرية , والنهضة الحقيقية , والعودة الإسلامية الفائقة ..
وهذه أثمان النصر القادم بإذن الله , واستعادة الأمة عافيتها بتقوى الله , وقد اتخذ الله قوافل الشهداء المتلاحقة , الذين سقطوا في سبيله , واجتباهم لحضرته ونعمته , وحياة الخلود عنده .. كما لا تزال في الأمة بقية , ظاهرة على الحق , ماضية على العهد , وتسعى لإنجاز الوعد , لا يضرهم من خالفهم وعاداهم , حتى يأتي أمر الله ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..