المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مادية الفكر ولا إنسانية الإنسان - مفهوم الكمال في المادية



laith43d
11-13-2010, 10:13 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

## لم أنشر المقال في المدونة بعد حيث ينقصة التنظيم، ولكني آليت أن يستفيد الأخوان من الموضوع لأهميته.


الملحدون قاموا بتبني الفكر المادي وقرنوه بجميع تفاسيرهم للعالم، ومن أهم مباحثهم هي مسألة مادية الفكر كون الفكر عبارة عن نتاج لعالم المادة ولكنه نتاج أعلى وأرقى، ويعتبرونه نتيجة لتطور داروني، حيث ماهو إلا تطور كمي، ويعرض أحد فلاسفة الإلحاد بقوله: "إذا تجمع عندنا كم معين من خلايا عصبية، نتج عندنا بالطبيعة وعي وتفكير بدرجة معينة، وهذا يشير إلى أن التفكير هو عملية مادية بحت"، ولكن لم يبين هل أن هذه المسألة تم تجريبها مخبريا أم لا، على الرغم من أنها طرحت أمام ريتشارد داوكنز، إلا أنه لم يعترض على كونها مدعى بلا دليل!

إن مبحث الإدراك أو عالم الذهن (سوف نعرض لمبحث الإدراك في آخر حلقة من سلسلة الرؤية الإسلامية للعالم)، من أهم المسائل التي حظيت بالاهتمام منذ القدم. وهناك آراء ووجهات نظر عديدة في هذا المجال. فالبعض سار في طريق الإفراط فحبس عالم الوجود بين أسوار عالم الذهن والإدراك. وعرف هؤلاء بالسوفسطائيين الذين يقف "غورجياس" على رأسهم والذي يعتبر الإنسان ميزان كل شيء.

الفيلسوف التجريبي الإنجليزي "باركلي"، الذي استوحى بعض أفكاره من فلسفة "لووك" وفلاسفة ريبيين (يؤمنون بمذهب الشك) آخرين مثل "مالبرانش" و"بيربيل"، توصل إلى النتيجة التالية: لا وجود للمادة أو العالم المادي. كما أن وجود الأشياء عبارة عن مجرد إدراكها في الذهن ليس إلا.

الاختلاف بين فلسفة باركلي والسوفسطائيين يتمثل في أن الأخيرين ينكرون عالم الخارج بأي نحو من الأنحاء، ولا يعترفون بأيه حقيقة عدا الإدراك. أما باركلي فإنه وإن أنكر حقيقة المادة أو عالم المادة بشكل مستقل ومنفصل عن إدراك الإنسان، إلا إنه يعتقد بوجود الروح السرمدية الإلهية كمثال أعلى. وعليه يؤمن هذا الفيلسوف بنوعين من الوجود: الأول هو التصورات، والثاني هو الروح أو النفس التي توجد هذه التصورات.

وثمة سؤال يطرح نفسه على هذا الصعيد وهو: إذا لم يكن العالم المادي موجودا خارج ذهن الإنسان، وإذا كان كل شيء عبارة عن تصورات ذهنية فقط، إذن فمن أين تأتي هذه الأشياء التي يدركها الذهن والتي لا دخل له في صنعها وإيجادها؟

يجيب باركلي على هذا التساؤل بقوله أن الله هو الذي يلقي هذه التصورات في الذهن، وهو الذي ينقلها إلى الذهن وفق ترتيب أو نظام معين نطلق عليه إسم "القوانين الطبيعية".

إذن جميع الأشياء في العالم ذات جانبين وجوديين: الأول في علم الله تعالى، والثاني في ذهن الإنسان. ويطلق باركلي على الأول إسم "المثل الأعلى"، وعلى الثاني إسم "المثل الأدنى"، ولا أدري بماذا يفسر وجود نفسه وذهنه وكيفية تحققهما، وتحقق الناس من حوله الذين يتعامل معهم، فإذا كان يعتبر كل ذلك مجرد فيض إلهي أسماه المثال الأدنى، فإننا نتفق معه في الحقيقة ونختلف معه في التسمية ولا مشادة في التسمة.

وهكذا نرى أن هذا الفيلسوف ينكر العالم المادي خارج الذهن إلا إنه يؤمن إيمانا راسخا بوجود الله الخارجي والذي يدعوه بالمثال الأعلى.

فريق آخر من المفكرين سار في طريق التفريط، لذلك يقول بأن جميع عالم الوجود ليس سوى مادة لا غير، أي إنه يقول بأصالة المادة ويقدمها على الذهن، ويرى أن ما يدعى بأسماء متنوعة ومتعددة كالذهن، والروح، والفكر، والشعور، ليس سوى فعالية المادة.

الفكر محصلة الدماغ، والدماغ عضو مادي. المادة موجودة بدون فكر، ولكن من المتعذر أن يوجد فكر بدون مادة. وعليه فالمادة هي الحقيقة العينية الوحيدة. والمادة مقولة فلسفية تخبر عن الواقع العيني. والواقع العيني لا يفهم سوى عن طريق الحواس، وسنبحث في مقال لاحق عن حقيقة ماهية المادة وعن مدى إمكان تفسيرها علميا (فيزيائيا) وكيفية تفسيرها فلسفيا.

خلاصة التبرير المادي للإدراك على أساس الرؤية المادية الرسمية هي أن نعتبر الإدراك خصوصية دماغية، والدماغ تركيبا ماديا دقيقا لا نظير له، فنعطي من خلال ذلك للإدراك صفة مادية صرفة. ولابد في مثل هذه الحالة أن نعتبر الإدراك ردة فعل فيزيوكيمياوية يبديها جهاز الإنسان العصبي تجاه عوامل المحيط والبيئة الفيزيوكيماوية!! مع أننا نرى أن للفكر دور الفاعلية لا فقط الانفعالية.

إننا وعلى أساس المنطق المادي وبصرف النظر عما يذهب إليه الحكماء الإلهيون في هذا المضمار، وهو ما سنبحثه لاحقا كما قلنا، نواجه تضادا ماديا أساسيا. فإذا كان الإدراك نتاجا لبعض العوامل المحيطة الفيزيوكيماوية، فسيكون الإدراك نتاجا متبادلا. فمثلما تؤثر البيئة الخارجية في ظهوره، تؤثر البيئة الداخلية في ظهوره أيضا. وفي مثل هذه الحالة لا نستطيع أن نقول بأن الصورة الحاصلة صورة عينية تماما أو غير ذهنية مطلقا، أي أننا لا نأمن أن يكون الواقع الذي يراه كل شخص هو واقع ذاتي ولا تحقق له في الخارج، وبالتالي فإننا لا نستطيع بالتالي إثبات أي واقع موضوعي مطلقا، لأن التكوين المادي لكل إنسان مختلف بنحو عن الآخرين.

وعادة ما يجاب على هذا الإشكال بالشكل التالي: بما أن دماغ الإنسان والبيئة الخارجية كليهما مادي ونوع واحد، فمن الطبيعي أن لا تنطبق صور الإدراك مع أصلها، فالماديون يؤمنون بأن الإنسان يرى العالم بصورة ذاتية لا موضوعية! غير أن هذه الإجابة تخلق منذ البداية مشكلة غير قابلة للحل.

المشكلة هي أنه مع افتراض الثبوت الكامل للطبيعة وتماثل عواملها الفيزيوكيماوية، فالمنطق المادي يرفض أن تعطي هذه العوامل الفيزيوكيماوية الثابتة نتيجة واحدة خلال مجابهة العوامل الفيزيوكيماوية المتفاوتة. فلو صدقنا بأن تفاعل الحامض والقاعدة يؤدي إلى ظهور الملح دائما، فلابد أن نصدق أيضا بأن تفاعل قاعدة معينة مع حوامض مختلفة يؤدي إلى ظهور أملاح مختلفة. والنتيجة الحاصلة عن هذا الأصل هي:

بما أن الجهاز العصبي للإنسان والجهاز العصبي لصرصار صغير، ليس لديهما أواصر كيمياوية وخواص فيزيائية متماثلة، لذلك لا يمكن أن تتماثل صور الإدراك في ذهن الصرصار مع صور الإدراك في ذهن الإنسان.

فالصرصار والإنسان ليس بإمكانهما مشاهدة العالم بشكل واحد. وإذا كان الأمر كذلك: فمن منهما يرى العالم حقيقيا ومن منهما يراه غير حقيقي؟!

بمقدوركم أن تقولوا ببساطة: الإنسان. غير أن هذا التفكير غير مادي، لأنكم حينما تستطيعون إعطاء أصالة للإنسان أكبر من الصرصار، فيمكنكم أن تقولوا له برسالة خاصة من جانب الله تعالى أيضا.

ومع ذلك، يتشبث الماديون في مثل هذا المأزق بموضوع التكامل ويقولون: بما أن الإنسان أحدث حلقة في سلسلة تطور الأنواع، فهو أكمل من الآخرين أيضا، ولابد أن يرى العالم في صورة أصح من رؤية الصرصار له!!

الإشكال المثار ضد هذه الفكرة هو أن الكمال أصل غير مادي، ومن أصول الفلسفة الأفلاطونية، ولا يمكن وضعه في الذهن بدون وجود مثال من الكمال. بل إن الكمال الذي يرسم معنى التكامل في الظاهر، لا ينسجم مع أصالة المادة، لأن الكمال في الحركة التكاملية لكل ظاهرة يمكن تبريره في صورتين:

الأولى: أن تنطلق الظاهرة في كل حركة تكاملية ومستمرة بحيث توجب قيام هدف الإنسان على أساس الوعي والبصيرة.

الثانية: رغم أن هدف الإنسان لا يلعب أي دور في الحركة التكاملية للظاهرة، لكن الظاهرة تتحرك نحو غاية ينتهي فيها هذا النوع من الحركة وتبدأ حركة جديدة. وسبب عدم لعب الإنسان دورا فيها هو أنه مسلوب الإرادة لكونه ريشة في مهب الريح، يحركه التطور بفعل الطفرات الجينية عشوائيا ويبقي الانتخاب الطبيعي الأصلح!!

الوصول إلى الغاية لا يفيد معنى الكمال إلا إذا كانت غاية الحركة محددة منذ البداية. ولا يتحقق تعيين معنى الغاية إلا في نوع من الإدراك. وبذلك نرى أن التكامل يفقد معناه بدون وجود هدف.

الماديون الذين يصرون على موضوع التكامل من خلال إنكار وجود الهدف في ميدان الوجود، يواجهون إشكالا آخر يتمثل في تعذر حل مشكلة التكامل في وجود الإنسان إذ لا يمكننا في مسار المادية أن نصل إلى موضع تنتهي فيه رسالة التاريخ بالإنسان. وإذا لم تنته رسالة التاريخ بالإنسان، فلابد أن نعترف بظهور موجود أكمل من الإنسان بعد الإنسان. ولابد للصور التي ترسم في دماغه أن تختلف عن صور إدراك الإنسان. وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كان الموجود الأكمل يرى الدنيا بشكل أصح من الموجود الأقل كمالا منه، فلابد من الاعتراف بأن رؤية الإنسان للعالم غير صحيحة كليا، أن العالم ليس كما نراه اليوم!

وفي مثل هذه الحال ينحدر أدعياء الواقع الموضوعي والواقعية وما شابه، إلى وادي السفسطة والريبية المرعب. أي أن الرؤية القائلة بأصالة المادة، ستواجه مأزقا منطقيا حرجا في تفسير معنى التكامل وتبريره. ففي مثل هذا الافتراض سوف لن يبقى أي نموذج عقلاني ثابت يمكن أن يحدد به معنى الكمال، ولابد من اتخاذ التقدم أو التأخر الزماني في مسار الحركة المادية للتاريخ، معيارا لبلوغ الكمال أو عدمه. أي كلما تقدم الزمان، كلما اقتربت الحياة بأجيالها الجديدة من حقيقة الكمال، وهكذا نقع في فخ المادية التاريخة التي أقرتها الماركسية كفكر فلسفي، وهذا ما دعانا إلى التركيز عليها في أبحاثنا السابقة حتى هنا، وذلك لأننا نرى بأن المادية التاريخة لا تزال المحرك الحقيقي وراء حركات الإلحاد التي تدعوا لفكر مادي بحت.

وإذا كان باستطاعة أحد أن يكون لديه مثل هذا التصور فلابد له أن يعلم بأن الحركة التطورية على أساس المنطق المادي ليست على خط متسلسل واحد بحيث أن كل نوع عبارة عن فرد وحيد ظهر من النوع السابق. فهذه الولادة، أشبه بأوراق الشجرة التي تظهر من جهات مختلفة.

فلو أراد أحدهم أن يؤرخ لفترة تمتد إلى مليوني عام، فعليه أن يعلم بظهور ما لا يقل عن عشرات الأنواع الجديدة من الحيوانات والتي ينبغي أن تكون طبقا لهذا القياس أقرب إلى حقيقة الكمال من الإنسان. في مثل هذه الحال كيف يمكن للإنسان أن يدعي بأنه أقوى من هذه الحيوانات على إدراك حقيقة الأمور؟

الماديون يقولون عادة في تفسير معنى التكامل: التكامل ليس سوى حركة دائمة نحو تعقيد الظاهرة، وهو بالتالي ضابط لتحديد النقص والكمال والبساطة والتعقيد في أنواع الظواهر. ولكن هل ستحل معضلة معنى "الكمال" من خلال تغيير الألفاظ وتبديل مفردة "الكمال" إلى مفردة "التعقيد" أو أية مفدرة أخرى مرادفة؟

الإجابة بالنفي قطعا، لأن مجرد تعقد شيء ما لا يتضمن بالضرورة معنى كماله. فكم من نتاج فكري بسيط غلب نتاجا فكريا معقدا من حيث الكفاءة، وهذا لعله واضح جلي في الصناعات الحديثة. فإذا كان تعقيد الظاهرة يعني الغموض والتضارب في علاقاته وروابطه الداخلية والخارجية، فلا يصدق معنى الكمال في هذه الحالة قط. وإذا كان التعقيد بمعنى ظرافة التركيب وعمق الروابط لظاهرة ما في ظل نظام دقيق ومنسجم، فهذا هو الضابط العقلاني الذي يمكنه أن يفسر التكامل على أساس وجود العقل في ميدان الوجود.

على أساس ما تم ذكره في مضمار أصالة المادة، فالطريق الوحيد الذي يبقى أمام الماديين هو الاعتراف بنسبية الحقائق، أي الاعتراف بأن حواس الكائنات الحية تخلق صورا متباينة على أساس نوعها وتركيبة خلقتها مع الاعتراف أيضا بواقعية جميع هذه الصور.

لا ريب في أن هذا الكلام لا يكون صحيحا إلا إذا أسمينا صور الإدراك باسم "الواقعية" طبقا لعقد عام. ولكننا لا ندري هل وقّع جميع أهل الإدراك على مثل هذا العقد أم لا؟

ولو فرضنا إطلاق اسم الواقعية على صور الإدراك لدى كل موجود صاحب شعور، فهل يمكن الادعاء بتساوي إدراك الواقعية عند كائنين حيين أو حتى عند فردين من أفراد النوع الإنساني؟

الإجابة على هذا التساؤل هي النفي قطعا طبقا للمنطق المادي، لأننا حينما لا نستطيع أن نفترض تساوي بيئة انسانين في ظل أية ظروف، فلابد لنا من الاعتراف بأن جميع الناس وإن كانوا أصحاب واقعية متساوية بالفطرة، ولكن لا يوجد من الناحية العلمية انسانان متماثلان بالواقعية. وفي مثل هذه الحال ينبغي أن تختلف التلقيات الحسية عند إنسان ما -والتي هي نتاج مشترك للتعاون المتبادل بين الطبيعة والذهن- عن التلقيات الحسية عند إنسان آخر.

الواقعية عند كل فرد من أفراد الإنسان ليست سوى ذلك الشيء الذي يفكر به. وهذا عين ما يسعى لإثباته بصراحة السوفسطائيون اليونانيون القدماء والمثاليون الجدد. وكذلك عين ما يحاول الماديون الابتعاد عنه بحسب ادعائهم.

على ضوء هذا الأمر يتضح بما لا يقبل الشك أن اؤلئك الذين يعتبرون المادة أصلا ويستندون إلى الأصول المنطقية المادية، يسقطون في نهاية المطاف في فخ السفسطة، وينحدرون إلى وادي المثالية رغم شوقهم الشديد للمادية.

مثلما ذكرنا في بادئ الأمر، سلك البعض طريق الإفراط فأخذوا يعتبرون العالم ليس سوى عالم الذهن والفكر، وسلك آخرون طريق التفريط فاعتبروا الذهن والفكر شكلا من أشكال المادة. غير أن الدراسة الدقيقة لأصول المنطق المادي تكشف عن انتهاء هذا الفريق الثاني إلى الموضع الذي بدأ منه الفريق الأول، ووقوع الإثنين في خندق السفسطة والريبية أو مذهب الشك، ومجابهتهما معا للفلسفة.

وحان الوقت للتحدث عن طريق لا ينتهي لا إلى وادي الذهنية المحير ولا إلى مضيق المادية المظلم. ويتمثل في طريق الواقعية. فالمثاليون يقولون بأن ما يدعى بعالم الخارج ليس سوى امتداد لعالم الذهن. والماديون يقولون بأن ما يدعى بالذهن ليس سوى امتداد لعالم المادة. بينما يقول الواقعيون بأن عالم الذهن عالم الذهن، وعالم الخارج عالم الخارج. أي أن عالم الذهن وعالم الخارج عالمان مستقلان عن بعضهما.

لو قال المثاليون بأن هناك شكا في وجود عالم الخارج في مقابل عالم الذهن، وأن ادعاء إثباته عبارة عن مصادرة على المطلوب، فالرد عليهم هو: إذا ثبت عالم الذهن والإدراك عند شخص المدرك، فالبداهة الملاحظة في الإدراك والإحساس سوف تلقي خارجية الأشياء -التي هي في عالم الخارج- في الذهن أيضا.

إذن لا يوجد مجوز عقلي يدفعنا للأخذ بصحة الإحساس نفسه، بينما يرفض خارجية متعلقاته. ولهذا نقول بأن الإدراك لا يحول بين الذهن ومتعلقاته كما يتصور المثاليون، وإنما هو مرآة لعالم الخارج وكاشف عنه فقط.. وعليه لا يعد إثبات عالم الخارج في مقابل عالم الذهن مصادرة على المطلوب، وإنما هو من البديهيات الأولية.

إذن فالسؤال المهم الذي يمكن إثارته في هذا السياق هو: كيف يتم الارتباط بين الموجود الذهني والموجود الخارجي؟

سوف نبحث في إجابة هذا السؤال بحثا مستفيضا في نظرية المعرفة، ولكن لا يمنع ذلك أن أجيب عن هذا السؤال على نحو الإجمال، فهناك العديد من الإجابات عن هذا التساؤل منها:

أولا: أنه لا توجد أية رابطة بين الموجود الذهني والموجود الخارجي. غير أن هذه الإجابة تعبر عن الجهل المطلق، لأن العلم في مثل هذه الحالة يفقد هويته التي هي تسليط الضوء على عالم الخارج.

ثانيا: إنه توجد رابطة لازمة بين الموجود الذهني والموجود الخارجي. وفي مثل هذه الحالة لابد من التساؤل: هل هذه الرابطة من سنخ الوجود ونوعه أم أنها شيء آخر؟ فإذا قيل أنها من سنخ الوجود ونوعه، فلابد أن يسأل: هل هي من سنخ الوجود الخارجي أم من سنخ الوجود الذهني وما الفرق بينهما؟

ولا ريب في أن الإجابة على أي شق من هذا السؤال، ستواجه إشكالا خاصا بها، إذ لو كانت الرابطة بين الموجود الذهني والموجود الخارجي من سنخ الوجود الخارجي، لاستلزم ذلك انقالب عالم الخارج إلى عالم الذهن. وإذا كانت هذه الرابطة من سنخ الوجود الذهني لاستلزم ذلك انقلاب عالم الذهن إلى عالم الخارج. وهذان الافتراضان كلاهما محال، لأن عالم الخارج عين منشئية الآثار أي أن عالم الخارج أو الوجود الخارجي هو الذي تترتب عليه الآثار، فالوجود الخارجي للنار هو الذي يترتب عليه الإحراق، بينما عالم الذهن عالم عدم ترتب الآثار الخارجية، فصورة النار في الذهن لا يترتب عليها إحراق ولا شيء من ذلك القبيل، وقد تكلمنا بالتفصيل في المقال السابق عن هذه المسألة.

إذن فالرابطة بين الوجود الخارجي والوجود الذهني، شيء غير الوجود، أو ليس من نوع الوجود، والتي يمكن التعبير عنها بالماهية. فالماهية من حيث هي ليست إلا هي، بمعنى أنها لا موجودة ولا معدومة، وليس لها تحقق حقيقي في الخارج، ولكن الذهن يخلقها لتمييز الموجودات بعضها عن البعض الآخر، بمعنى آخر، أن الماهية ليست في الحقيقة إلا مجموعة حدود الوجود التي يتميز بها عن الوجود الآخر، فالحجر يتميز عن الصرصار من خلال مجموعة من الحدود التي تميزه، فعندما ترى الصرصار تقول عليه إنه صرصار بينما عندما ترى الحجر لا تقول عنه إلا أنه حجر ولا تقول عنه بأنه صرصار، وهذه الحدود التي بواسطتها تميز وجودا عن وجود آخر تسمى بالماهية.

إذن فالفاصل بين عالم الخارج وعالم الذهن والذي يقف برزخا غير قابل للعبور، لا يمكن إزالته إلا بواسطة الماهيات فقط، أي أن الماهيات هي التي تمهد للعبور من عالم الخارج إلى عالم الذهن.

على ضوء ما أشرنا إليه يتضح أن الماهيات ذات نمطين من الوجود:

1. وجود خارجي.
2. وجود ذهني.

بتعبير آخر: الماهية شيء موجود في الخارج بوجود خارجي، وموجود في الذهن بوجود ذهني، كما أنها موجودة في عالم الخارج وفي عالم الذهن رغم أنها في حد ذاتها غير مقيدة لا بعالم الخارج ولا بعالم الذهن، فهي كما قلنا لا تمثل إلى حدود الوجود الخارجي التي تؤطر صورته في الوجود الذهني.

يمكن القول بعبارة أخرى: الماهية من حيث هي ماهية لا موجودة ولا معدومة، لا خارجية ولا ذهنية، ولا يصدق عليها عموما أي مفهوم وعنوان سوى المقام الماهوي. وعليه يجوز ارتفاع النقيضين في مقام ذات الأشياء.

ورغم أن الماهية في مقام ذاتها ليست مصداقا لأي عنوان خارج عنها، لديها في ميدان الوجود ظهورات وبروزات مختلفة. فهي تظهر في كل عالم بما ينسجم مع الكيفية الوجودية لذلك العالم.

الماهية لا تظهر في عالم الخارج إلا بوجود ظاهري، ولا تظهر في عالم الذهن إلا بوجود ذهني. كما تظهر في سائر العوالم العالية والنشآت المتعالية بما ينسجم مع النحو الوجودي لتلك العوالم. فكما قلنا هي ليست شيئا وراء حدود الوجود في مرتبة من مراتبه، وكمثال على ذلك، فإننا لو أخذنا السرعة، فالسرعة في حد ذاتها ليس لها لا وجود ولا عدم، وليس لها تحقق إلا بتحقق وجود متحرك، وكل وجود متحرك له سرعة معينة، وليس التفاوت في السرعات إلى بتبع التفاوت بين المقامات والمراتب الوجودية للوجودات المتحركة كالسيارة والطائرة مثلا، فنقول بأن السيارة تسير بسرعة 100 بينما الطائرة تسير بسرعة 1000، فليس الاختلاف في السرعة أمر عائد لشيء غير السرعة. كذلك لو طبقت نفس المثال على الضوء ومراتب شدته وضعفه.

يبدو من الضروري الاشارة إلى الأمر التالي، وهو أن الماهية وإن كانت ذات ظهور مختلف باختلاف العوالم، إلا أنها ذات واحدة وحقيقة واحدة. فرغم ظهور الاستعداد في ميدانها الحياتي بصور مختلفة وفعليات متفاوتة خلال مسارها التطوري، لكنها ليست سوى حقيقة واحدة في عالم الوجود، فالاستعداد بحد ذاته مفهوم واحد، يصدق على كل وجود بما يتناسب وذلك الوجود، فالاستعداد كمفهوم يصدق على الفحم في استعداده للاشتعال، وعلى الماء في استعداده للتبخر وهكذا.

مما سبق يتضح أن العلم والإدراك عبارة عن نمط خاص من الوجود يدعى بالوجود الذهني. كذلك الوجود في الخارج نمطا آخر من الوجود يدعى بالوجود الخارجي.

إذن الاختلاف بين الموجود الخارجي وصورته في الذهن يكمن في نمط الوجود، غير أن ماهية الموجود في الذهن هي ذات ماهية الموجود في الخارج. وهذه هي ذات النظرية الدقيقة التي ابتدعها صدر المتألهين الشيرازي الفيلسوف الإسلامي الكبير، والتي يعتبر فيها الاختلاف بين الموجود الخارجي والموجود الذهني من نوع الاختلاف في الحمل.

يقول صدر الدين الشيرازي: الموجود الذهني هو عين الموجود الخارجي بالحمل الأولي الذاتي، لكنه يختلف عنه بالحمل الشائع الصناعي. وهذا الكلام هو نص ما شرحناه قبل قليل ولكن بلغة فلسفية.

ولربما لا يبتعد عن الحقيقة القول التالي: الوجود الذهني هو إشراق النفس الناطقة التي تتوزع تشعشعاتها على الماهيات. أي مثلما يمتد الوجود المنبسط والفيض المقدس الرحماني على جميع الماهيات ويتحد معها في الخارج، يمتد إشراق النفس الناطقة على الماهيات وتحد معها في الذهن أيضا. وقد قيل: "الحكمة صيرورة النفس الإنسانية عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني".

على ضوء ما أشرنا إليه يتضح ما يلي:

أولا: أن تقسيم الوجود إلى قسمين خارجي وذهني، تقسيم أولي يعرض على الوجود بدون أية واسطة. أي أن الوجود يقبل هذا التقسيم بدون أن يتعين قبل ذلك بتعيين طبيعي أو رياضي. إذن تقسيم الوجود إلى قسمين ذهني وخارجي، من التقيسمات الأولية، على غرار تقسيمه إلى حادث وقديم، وعلة ومعلول ومجرد ومادي.

ثانيا: إن الإدراك عبارة عن نمط من الوجود. وبما أنه متحد مع الماهيات في الذهن ومحيط بها، لابد من الاعتراف باتحاد العالم والمعلوم.

الاتفات إلى الأمر التالي ضروري: ما طرحه الحكيم فرفوريوس على صعيد اتحاد العالم والمعلوم، هو أن الذي يتحد مع العالم دائما معلوم بالذات وليس معلوما بالعرض، لأن المعلوم بالعرض من مراتب الخارج ومنشأ الآثار. وسبق أن عرفنا بأن عالم الخارج ليس باستطاعته أن يكون عالم الذهن.

إذن فالوجود الخارجي لا يتعلق به العلم والإدراك قط. فالوجود الذهني هو الذي يعلم للإنسان بدون واسطة. لكن بما أن ماهية الموجود في الذهن هي عين ماهية الموجود في الخارج، سيكون الموجود الخارجي معلوما بالعرض بواسطة الاتحاد مع الماهية.

إذن عالم الذهن طبقا لفكرة الواقعيين نحو من الوجود، بحيث يتيسر للإنسان بلوغ واقعية وحقيقة الموجودات الخارجية إذا لم يحصل انحراف في الإدراك، عن طريق انتزاع صورة للماهيات الخارجية. وحينذات يصبح ملاك الصواب والخطأ، أو الواقعي والموهوم، عبارة عن انطباق الإدراك أو عدم انطباقه مع نفس الأمر أو الوجود الخارجي للأشياء.

معظم الفلاسفة المسلمين -لا سيما صدر المتألهين الشيرازي (أو صدر الدين الشيرازي)- أقاموا فلسفتهم على أساس الواقعية، وطرحوا مسألة الوجود الذهني في باب الإدراك أو مبحث قيمة المعلومات أو قيمة المعرفة كما سنبحثها لاحقا في نظرية المعرفة.

قلما نواجه تعبير "الوجود الذهني" في سائر المذاهب الفكرية والفلسفية خلال تحدثها عن الإدراكات أو تناولها لمبحث قيمة المعرفة. فمعظم المذاهب الفلسفية قلما تعطي قيمة وجودية للإدراكات بحيث تحجم عن استخدام مفردة "الوجود" في موضوع العلم والإدراك. ويبدو أن مفردة "الوجود" عندهم تساوق "المادية" أو "الخارجية".

في آثار صدر المتألهين وأتباعه الكثير من البراهين التي تثبت الوجود الذهني والتي لا يسعها هذا الموجز، والواقع الخارجي أو الواقع الموضوعي أيضا له براهين كثيرة تدرس في مبحث نظرية المعرفة سواء على المذهب العقلي أو التجريبي أو الذاتي.

وهكذا نعلم بأن مسألة مادية الفكر، أمر عويص ليس من السهل التملص والتهرب منه من قبل الماديين (الملحدين)، وكان لزاما عليهم حل كل هذه الإشكاليات بدل البحث عن التجربة وراء النشاط الإلكتروكيميائي للدماغ، فالقضية العلمية التي تتعلق بالدماغ لا شأن لها بالإدراك، فلو نظرنا إلى نشاط الدماغ عندما يحاول شخص ما تحريك يده للكتابة أو تحريك نفس اليد للضرب، لن نلاحظ تغيرا في نشاط الدماغ الإلكتروكيميائي، فمسألة الفكر والإدراك أمر وراء المادة، وما الدماغ إلى المرتبة المادية للنفس الإنسانية.

ما أريد قوله ختاما هو: الثنائية التي تفهم بسذاجة وبساطة وغباء أحيانا من قبل الملحدين، ثنائية الروح والجسد، مع الأسف ينظر لها بسطحية وتفهم بسطحية كبيرة من قبلهم، فهم يتصورون بأن الروح حالة في الجسد أو أن الجسد هو آلة الروح للتصرف في عالم المادة، وما فهموا بأن الجسد هو المرتبة المادية للنفس الإنسانية، فسيرها المادي طبيعي وليس هناك سلب لأصالته أو أصالة المراتب المجردة من النفس الإنسانية، فلكل مرتبة من مراتب النفس ما ينسجم معها من الوجود، بحثها يأتي في مبحث الإدراك في مقالات قادمة إن شاء الله.

نقلا عن مقدمة الدكتور حسين الإبراهيمي على كتابه القواعد الفلسفية العامة في الفلسفة الإسلامية بتصرف كثير.

مع التحيات
ليث

د. هشام عزمي
11-13-2010, 02:19 PM
جزاك الله خيرًا ..
وإن كان فضيلة الدكتور قد أوغل في مسألة الماهية بما يحتاج لمزيد بيان ..
وكان من الممكن أن يقول بدلاً من الماهية : الشيء ..
فالشيء بذاته وصفاته له خمس مراتب للوجود ذكرها الغزالي في فيصل التفرقة ..
منها الوجود الخارجي والوجود الذهني اللذان يتعلق بهما البحث ..
ومسألة تعدد مراتب الوجود تناولها عدد من الأئمة ..
أذكر منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم ..
حيث ذكرا مراتب وجود القرآن : وجود عيني ووجود كتابي ووجود لفظي ووجود ذهني ..
فهذا كله يدل على أن قضية تعدد مراتب الوجود من القضايا التي اعتنى بها أهل العلم ..
بعيدًا عن فلسفة الشيرازي في الوجود والماهية والتي انتقدها عليه كثيرًا الشيخ مصطفى صبري في موقف العقل والعلم والعالم ..
خاصة أن القلب لا يطمئن لقوله إن الماهية لا موجودة ولا معدومة ..
ففيه نظر بالغ ، وعليه استدراك طويل ..
والله أعلم .

laith43d
11-13-2010, 06:36 PM
شكرا لمروركم الكريم،

بالنسبة لجملة من الإشكالات التي ترد على فلسفة صدر الدين الشيرازي، أقول بنحو الإجمال ولا أريد أن أتكلم بالتفصيل لأنه المقام لا يسع، ولكن تلك الإشكالات سببها عدم الإلمام بجميع جوانب فلسفة صدر الدين الشيرازي.

ولآخذ مثالكم في قوله الماهية لا موجودة ولا معدومة، فلو عرفنا مقصده لبطل العجب من قوله، فقد بنى صدر الدين الشيرازي فلسفته على قاعدة أصالة الوجود واعتبارية الماهية (وهي من اسمها لا تحقق حقيقي لها بل هي معتبرة باعتبار المعتبر لها)، وقد أثبت أن الوجود واحد ذو مراتب، فلا تحقق للماهية حقيقة، بل هي مما يطلقها العقل لكي يميز الوجودات عن بعضها البعض، فالماهية بتعبير الفلاسفة الذين تبعوا صدر الدين الشيرازي ما هي إلا "حد الوجود" وليست شيئا وراءه، فهي في ذاتها لا موجودة ولا معدومة لأنها لا موضوع لها.

بمعنى آخر فإن حقيقة الماهية هي ما يميز الوجودات بعضها عن البعض الآخر، وهذا التشكيك هو التشكيك الخاصي وليس العامي، فهو مما يرجع فيه ما به الإختلاف إلى ما به الاشتراك، من قبيل الضوء ومراتب شدته وضعفه، فليس هناك تركيب في الضوء بين الشدة وحقيقة الضوء، بل حقيقة الضوء هي التي تعين شدة الضوء وضعفه، وهكذا بالنسبة للوجود، فهو في حقيقته بسيط غير مركب، ولهذا فإن الماهية تطلق لتمييز مراتب الوجود عن بعضها البعض، فهي من وجه موجودة بإطلاق العقل، ومعدومة حقيقة إذ لا تحقق خارجي لها وراء التشكيك في مراتب الوجود نفسه.

مع التحيات

د. هشام عزمي
11-13-2010, 08:48 PM
هذا هو عين المشكلة أخي الحبيب ..
فالشيرازي جعل الوجود حقيقيًا وواقعًا وجعل الماهية اعتبارية لا حقيقة لها ..
وهذا هو عينه القول بوحدة الوجود ..
فالوجود واحد وحقيقي بينما الماهيات اعتبارية ولا حقيقة ولا واقع لها ..
والحقيقة أن الوجود كمفهوم كلي لا وجود له أصلاً إلا في الذهن ..
أما وجودات الأشياء فهي تعينات وجزئيات هذا الوجود الكلي ، وهي حقيقية في الخارج ..
أما الكليات والتجريدات كالوجود فلا وجود واقعي لها في الخارج ، بل هي موجودة فقط في الذهن ..
والله أعلم .

laith43d
11-14-2010, 09:58 AM
هذا معناه أن جنابكم تذهبون إلى أصالة الماهية تبعا لشيخ الإشراق السهروردي.

الموضوع متشعب ومتخصص، ولكن أصالة الماهية خالف فيها السهروردي الإجماع على أصالة الوجود!! نعم فالمدرسة المشائية تذهب إلى أصالة الوجود، وكذلك المتكلمين المسلمين ولم يخالف منهم إلا قلة، فالفخر الرازي وغيره جلهم ذهبوا إلى أصالة الوجود.

وكلامك أيضا يفيد هذا المعنى، حيث إنك تقول: "والحقيقة أن الوجود كمفهوم كلي لا وجود له أصلاً إلا في الذهن ..
أما وجودات الأشياء فهي تعينات وجزئيات هذا الوجود الكلي ، وهي حقيقية في الخارج .."

وأنا أتفق معك، بأن مفهوم الوجود موجود في الذهن فقط!! ومن قال بأننا نتكلم عن المفهوم، بل نحن نتكلم في عالم المصاديق الخارجية، والمصاديق الخارجية هي ما عبرت عنها بأنها: "تعينات وجزئيات هذا الوجود الكلي، وهي حقيقية في الخارج" وأتفق معك في هذه أيضا، إذن ففي الخارج يوجد تعينات ذلك الوجود، وحدود هذه التعينات هي ما نعبر عنها بالماهية، إذن فنحن متفقان على أصالة الوجود.

والأدلة كثيرة على أن الوجود هو الأصيل وأنه واحد مشكك ذو مراتب، فنحن نتفق بأن الوجود مفهوم بديهي، وأنه مشترك معنوي لا مشتركا لفظيا، وأنه غير الماهية من حيث المفهوم على الرغم من اتحادهما مصداقا.

حتى نفهم معنى أصالة الوجود، لابد من فهم معنى الأصالة، تعريف الأصيل في الفلسفة: هو الرتبة التي لها منشئية الآثار، أي أنها هي الرتبة التي تترتب عليها الآثار الخارجية، كالنار، فوجود النار هو الذي له الأثر لا ماهيتها كما سيتضح. وما يقابلها من الاعتبارية اتضح بأن معناه أنه ليس منشأ الآثار الخارجية ولا يترتب عليها الأثر بالذات.

س/ لماذا نفرض أحدهما؟ لماذا لا نفرض وجود كليهما في الخارج؟

تعال نستقرئ، نجد بأن الاستقراء العقلي يعطي أربعة احتمالات لا غير: 1. أن كليهما أصيلان، 2. أن كليهما اعتباريان، 3. أن الوجود أصيل والماهية اعتبارية، 4. أن الماهية أصيلة والوجود اعتباري.

1. كونهما كليهما أصيلان محال، لأننا نجد بالوجدان بأن الشيء واحد لا اثنان، فمنشأ الآثار هو واحد فقط وليس شيئان، وأنت تجد نفسك واحد لا اثنان ولا تترتب الآثار منك إلا من جهة واحدة لا من أكثر من جهة. إضافة إلى محاذير أخرى لا أريد التفصيل فيها.

2. أن كلاهما اعتباريان، وهذا ما يقودنا إلى المثالية بإنكار الواقع الخارجي، والفلسفة قائمة على الواقعية، أي أنها تؤمن بالواقع الموضوعي.

3 و4. الدليل على أصالة الوجود:

1. الماهيات هي مثار الاختلاف والكثرة والتغاير، ولهذا صارت هناك أجزاء مختصة في الأشياء، وإلا لكانت الماهيات كالوجود هي جزء مشترك. يعني تعدد ماهوي يساوي كثرة خارجية،

2. في الحمل ذكر شرطان لكي يكون الحمل صحيحا ومفيدا: أ. أن يكون هناك نحو من التغاير بين المحمول والموضوع، لأنه لو لم يكن هناك تغاير فالقضية لا تكون مفيدة، فحمل الشيء على نفسه لا يفيد شيئا، مثل الإنسان إنسان، ب. أن يكون هناك نحو اتحاد بين المحمول والموضوع: حتى يكون الحمل صحيحا، وحمل المتغايرات غلط مثل الإنسان حجر،

3. كثيرا ما نجد هناك حمل مثل الإنسان أبيض أو أسود، فيوجد عندنا حمل بالضرورة في مثل هذه الحالات.

النتيجة: لو كانت الماهية أصيلة والوجود لا تحقق له، يتأمن الركن الأول من الحمل وهو المقدمة الأولى وهو التغاير، ولكن لا يتحقق الركن الثاني أي المقدمة الثانية وهو الاتحاد، فلابد من وجود شيء آخر يؤمن الاتحاد، وليس هو الماهية فهو الوجود، فهو الأصيل ضرورة.

ملخص: 1. الماهيات مثار الكثرة، 2. لابد من اتحاد ما وتغاير ما في الحمل، 3. يوجد حمل بالضرورة.
النتيجة: لو لم يكن الوجود أصيلا لما تحقق حمل، لأنه لا يوجد اتحاد، والتالي باطل (وهو عدم وجود حمل) فالمقدم مثله (وهو أن الماهية أصيلة).

دليل آخر:

لو كانت الماهية أصيلة وكانت هي منشأ لترتب الآثار، لكانت منشأ ترتب الآثار خارجا وذهنا، فهناك شيء آخر هو منشأ ترتب الآثار. بمعنى أن الوجود الذهني له نحو اتحاد مع الوجود الخارجي، ومنشأ هذا الاتحاد هو الماهية، فالذهن إنما يدرك الواقع الخارجي من خلال الماهيات، وبتعبير الدكتور حسين الإبراهيمي في المقال أعلاه أن الماهيات هي برزخ بين الوجود الخارجي والوجود الذهني، وإذا كانت الماهيات هي الأصيلة وهي التي تترتب عليها الآثار الخارجية لحدث نفس الأثر الخارجي أثرا في الذهن، أي أن النار تحرق في الوجود الخارجي، لكانت تحرق أيضا في الوجود الذهني، وهو خلاف الحاصل تحققا.

دليل آخر:

مقدمة 1،

الماهية من حيث هي هي تستوي نسبتها إلى المتقدم والمتأخر إلى القوة والفعل ونحوها، كماهية الإنسان، فإنسانية زيد الأب، وخالد الإبن، تحمل عليهما بنحو واحد لا نحوين مع أنهما بينهما تقدم وتأخر.

مثل النار الأولى التي كانت منشأ النار الأخرى (مثاله أن عود الكبريت الذي كون منشأ حريق في الغابة مثلا)، النارية تحمل عليهما بنحو واحد مع أن أحدهما شرط معد لوجود الآخر، والنار الأخرى تحرق بما في المواد التي تحرقها من قابلية للاحتراق. فلا فرق ماهوي بين النار الأولى والنار الثانية، وكلاهما نار على الرغم من التقدم والتأخر بينهما والشدة والضعف.

فالإنسانية تحمل على الأفراد بنحو واحد بنحو التواطي، فلا شدة ولا ضعف ولا قوة ولا فعلية ولا نحوها، فهي متساوية النسبة إلى المتقدم والمتأخر والقوة والفعل، فليس هناك ثم إنسانية متقدمة أو إنسانية متأخرة وهكذا. فنحن عندنا إنسان ويحمل على الجميع بنحو واحد.

فالإنسانية في زيد وخالد هي نفسها ولا تقدم ولا تأخر فيها، ولا شدة ولا ضعف، ولكن زيد متقدم على خالد، فالتقدم والتأخر أين منشؤه؟
إذن الماهية متساوية النسبة بالنسبة إلى الشدة والضعف، والتقدم والتأخر.

مقدمة 2،

عندما نأتي للخارج نجد شدة وضعف، وتقدم وتأخر، وقوة وفعل، ونحوها، فهذا ثابت في الواقع، فما هو منشأ هذه الأمور؟
هو الوجود، حيث لو كانت الماهية أصيلة فمن المقدمة الأولى يتضح أن لا تقدم ولا تأخر ولا شدة ولا ضعف، والتالي باطل بناء على المقدمة الثانية فالمقدم مثله أي أن الماهية لا يمكن أن تكون هي الأصيلة. فإذا بطلت أصالة الماهية ثبتت أصالة الوجود بما تقدم من الحصر العقلي.

أما بالنسبة لموضوع أن الوجود حقيقة واحدة مشككة، فبحثها موكول إلى مكان آخر بإذنه تعالى.
للاختصار، كلمة وحدة الوجود هي كلمة فهمت بصورة خاطئة جدا وبعيدة عن مراد الفلاسفة والعرفاء، فوحدة الوجود لا تعني عدم تكثر شؤوناته ومراتبه، وهذه هي نظرية الكثرة في عين الوحدة، وقد ذكرت مثالا بإيجاز سابقا، وهو الضوء، فالضوء ليس درجة واحدة، ولكنه حقيقة واحدة، هو متكثر من حيث الشدة والضعف، إلا أنه واحد من حيث الحقيقة، ولا تنافي بين ذلك التكثر والوحدة في الحقيقة مطلقا.

هذا هو بالضبط (طبعا تشبيه مع الفوارق) مراد الفلاسفة القائلين بوحدة الوجود، فهو مشكك ذو مراتب، ورتبة منه واجبة ورتبة أخرى ممكنة، ولا تنافي مطلقا في أن تكون حقيقة الوجود من البساطة بحيث تكون حقيقة واحدة، ولكن تلك الحقيقة ليست بنحو التواطي والتساوي بين المراتب، حاشى أن يكون الواجب في رتبة الممكن، فذلك المحال وموضوع أن الوجود واحد موكول إلى مكان آخر كما ذكرنا.

لا أريد أن أشوش ذهن الأخوة القراء أكثر، وأعتذر عن الإطالة والتعقيد في الموضوع
مع أطيب التحيات
ليث

د. هشام عزمي
11-14-2010, 04:20 PM
أخي الحبيب ، هذا الذي ذكرته كلام فيه تخبطات شنيعة جدًا ..
وفيه تحكمات وعدم تصور سليم للعديد جدًا من المسائل ..
ولو ذهبت أفصلها وأعددها لطال المقام جدًا ..
ويكفي فيه الإصرار على عدم "أصالة" الماهية والوجود معًا ..
فأنا لا أقول بأن الوجود اعتباري أو لا مفهوم له أو لاحقيقة له ..
بل الماهية حقيقية واقعية وكذلك الوجود ..
وكثرة الصفات على الذات الواحدة أمرٌ لا محذور فيه ..
ولا تعني حقيقة العينية والشيئية في الفرد أن وجوده غير حقيقي ..
بل كلاهما حقيقي ..
هذا عند من يقول إن الماهية مغايرة للوجود ..
أما عند القائلين أن وجود الشيء هو عين ماهيته فلا تكثير ..
لأن وجود الشيء هو جزئي متعين في هذا الشيء ..
والموجودات كجزئيات وأفراد غير الوجود الذي هو مفهوم كلي تجريدي ..
وأنت رغم أنك تنكر في أول كلامك أن تكون متناولاً الوجود كمفهوم كلي تجريدي ..
وتقول إنك تقصد الموجودات الجزئية ..
فأنت - رغم هذا - تعود وتتناول الوجود كمعنى كلي تجريدي وأنه واحد ..
فكيف يكون واحدًا ، ووجودي غير وجودك من حيث التعين الخارجي ..؟
فوجودي صفة قائمة بذاتي بخلاف وجودك القائم بذاتك ..
وإنما نقول إن وجودي ووجودك متساويان على المستوى التجريدي فقط ..
أما على المستوى الحقيقي الواقعي فوجودي غير وجودك ..
لهذا يتخبط من ينطلق من كون الوجودات الجزئية متساوية ..
لأنها كذلك من الزاوية التجريدية فقط ..
بينما هي على المستوى الحقيقي الواقعي ليست كذلك ..
فإن وجود هشام غير وجود ليث غير وجود جهاز الكمبيوتر ..
لهذا لا يصح القول بأن الوجود واحد إلا على المستوى الكلي التجريدي ..
أما في الواقع فالوجودات الجزئية الفردية ليست كذلك ..
وفي كلامك أخي الحبيب كثيرٌ مما ينبغي الاستطراد عليه لكن المقام يضيق عن ذلك ..
والله أعلم .

د. هشام عزمي
11-14-2010, 04:22 PM
ماهية الأشياء هل هي عين وجودها ؟
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=21462

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: هذه المسألة من المسائل الفلسفية والتي اختلف فيها مذاهب الطوائف والفرق فأثبت أهل السنة أن ماهية الأشياء عين وجودها على تفصيل بينه شيخ الإسلام وخالف في ذلك الفلاسفة والمعتزلة من المتكلمين , وسنحاول بإذن الله تقريب هذه المسألة مع بيان ثمرتها .
المقصود بالماهية والوجود
من الاصطلاحات الفلسفية التي اصطلحها الفلاسفة تسمية ما يتصوره الذهن بالماهية وما يوجد في خارج الذهن بالوجود, فالماهية هي التي يسأل عنها بما هو؟
والآن نأتي إلى أصل المسألة وهي أن بعض الفلاسفة أثبت للأشياء ماهية حقيقية غير حقيقته الوجودية , فجعلوا للأشياء التي يتصورها الذهن حقائق , فوقعوا في أنهم :
1- أثبتوا للمعدوم حقيقة ووجود وثبوت لأن الذهن قد يتصور الأشياء المعدومة ,
فالذهن مثلا قد يتصور المستحيلات والمعدومات كتصور خالق مع الله ؛ فهل إذا تصور الذهن هذا المستحيل كان له حقيقة ؛ هذا معلوم فساده عند سائر العقلاء كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
2- أنهم جعلوا للأشياء التي يتصورها الذهن حقائق غير حقيقته الوجودية .
فمثلا الكليات أو المطلقات بشرط الإطلاق التي يتصورها الذهن لا توجد إلا معينة كما نبه إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأشرنا إلى ذلك في مقالنا السابق " الاشتراك في الأذهان ولكل شيء وجود يخصه "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إليها بقوله : الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج ,وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق جسم مطلق بشر الإطلاق ووجود مطلق بشرط الإطلاق : لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان .
ولما أثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها المثل الأفاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا : هذه لا تكون إلا في الذهن. درء التعارض (1|167)
3- جرهم ذلك إلى أنهم فرضوا أشياء أوذوات مجردة عن كل وصف ؛ فوقعوا في التعطيل والتحريف .
قال شيخ الإسلام : وقد علم بالاضطرار امتناع خلو الجواهر عن الأعراض وهو امتناع خلو الأعيان والذات من الصفات وذلك بمنزلة أن يقدر المقدر جسما لا متحركا ولا ساكنا ولا حيا ولا ميتا ولا مستديرا ولا ذا جوانب ولهذا أطبق العقلاء من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم على إنكار زعم تجويز وجود جوهر خال عن جميع الأعراض وهو الذي يحكي عن قدماء الفلاسفة من تجويز وجود مادة خالية عن جميع الصور ويذكر هذا عن شيعة أفلاطون وقد رد ذلك عليهم أرسطو وأتباعه وقد بسطنا الكلام في الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن ما يدعيه شيعة أفلاطون من إثبات مادة في الخارج خالية عن جميع الصور ومن إثبات خلاء موجود غير الأجسام وصفاتها من إثبات المثل الأفلاطونية وهو إثبات حقائق كلية خارجة عن الذهن غير مقارنة للأعيان الموجودة المعينة فظنوها ثابتة في الخارج عن أذهانهم كما ظن قدماؤهم الفيثاغورية أن العدد أمر موجود في الخارج بل وما ظنه أرسطو وشيعته من إثبات مادة في الخارج مغايرة للجسم المحسوس وصفاته وإثبات ماهيات كلية للأعيان مقارنة لأشخاصها في الخارج هو أيضا من باب الخيال حيث اشتبه عليه ما في الذهن بما في الخارج .
العقيدة الأصفهانية (104)

تقرير الراجح في هذه المسألة
قال شيخ الإسلام :
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدراً زائداً على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في الخارج زائداً على ذلك. مجموع الفتاوى (2|156)
وقال أيضا : فيقال له : هذه مبنية على أن ماهية الشيء مباينة لوجوده فنقول : إما أن تعني بالماهية والوجود : الماهية العلمية الذهنية والوجود العلمي الذهني وإما أن تعني بهما الماهية الموجودة في الخارج والوجود الثابت في الخارج وإما أن تعني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج وإما بالعكس .
فإن عني الثاني فلا ريب أن الذي في الخارج هو الموجود المعين وهو الحقيقة المعينة والماهية المعينة ليس هناك شيئان ثابتان أحدهما هو الموجود والآخر ماهيته
ومن قال إن المعدوم شيء في الخارج أو أن الماهية مباينة للموجود الخارج كما قال هذا طائفة من المعتزلة وقال هذا طائفة من الفلاسفة فقوله في غاية الفساد كما هو مبسوط في موضعه .
وإن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فلا ريب أن أحدهما مغاير للآخر وكذلك بالعكس وليس هذا مما يتنازع فيه العقلاء لكن لما غلب على مسمى الماهية الوجود الذهني وعلى مسمى الوجود الثبوت في الخارج وأحدهما غير الآخر توهم من توهم أن للموجود ماهية مغايرة للموجود المعين وهو غلط محض .
درء التعارض (2|377)
أصل الشبهة التي جرتهم إلى هذا الأصل الفاسد
قال شيخ الإسلام : وهذا الكلام الذي ذكروه مبني على أصلين فاسدين الفرق بين الماهية ووجودها ... .
فالأصل الأول قولهم أن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها وهذا هو قولهم بأن حقائق الأنواع المطلقة التي هي ماهيات الأنواع والأجناس وسائر الكليات موجودة في الأعيان ,وهو يشبه من بعض الوجوه قول من يقول المعدوم شيء وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وهذا من افسد ما يكون .
وإنما أصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك فقالوا ولو لم يكن ثابتا لما كان كذلك كما أنا نتكلم في حقائق الأشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج فنتخيل الغلط أن هذه الحقائق والماهيات أمور ثابتة في الخارج .
والتحقيق أن ذلك كله أمر موجود وثابت في الذهن لا في الخارج عن الذهن والمقدر في الأذهان قد يكون أوسع من الموجود في الأعيان وهو موجود وثابت في الذهن وليس هو في نفس الأمر لا موجودا ولا ثابتا فالتفريق بين الوجود والثبوت مع دعوى أن كليهما في الخارج غلط عظيم وكذلك التفريق بين الوجود والماهية مع دعوى أن كليهما في الخارج .
وإنما نشأت الشبهة من جهة أنه غلب على أن ما يوجد في الذهن يسمى ماهية وما يوجد في الخارج يسمى وجودا لأن الماهية مأخوذة من قولهم ما هو كسائر الأسماء المأخوذة من الجمل الاستفهامية كما يقولون الكيفية والأينية ويقال ماهية ومايية وهي أسماء مولدة وهي المقول في جواب ما هو بما يصور الشئ في نفس السائل
فلما كانت الماهية منسوبة إلى الاستفهام ب ما هو والمستفهم إنما يطلب تصوير الشئ في نفسه كان الجواب عنها هو المقول في جواب ما هو بما يصور الشئ في نفس السائل وهو الثبوت الذهني سواء كان ذلك المقول موجودا في الخارج أو لم يكن فصار بحكم الاصطلاح أكثر ما يطلق الماهية على ما في الذهن ويطلق الوجود على ما في الخارج فهذا أمر لفظي اصطلاحي .
وإذا قيد وقيل الوجود الذهبي كان هو الماهية التي في الذهن وإذا قيل ماهية الشئ في الخارج كان هو عين وجوده الذي في الخارج .
فوجود الشئ في الخارج عين ماهيته في الخارج كما اتفق على ذلك أئمة النظار المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة وسائر أهل الإثبات من المتكلمة الصفاتية وغيرهم كأبي محمد بن كلاب وأبى الحسن الأشعري وأبى عبدالله بن كرام وأتباعهم دع أئمة أهل السنة والجماعة من السلف والأئمة الكبار .
واتفقوا على أن المعدوم ليس له في الخارج ذات قبل وجوده وأما في الذهن فنفس ماهيته التي في الذهن هي أيضا وجوده الذي في الذهن وإذا أريد بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج كانت هذه الماهية غير الوجود لكن ذلك لا يقتضى أن يكون وجود الماهيات التي في الخارج زائدا عليها في الخارج وأن يكون للماهيات ثبوت في الخارج غير وجودها في الخارج .
الرد على المنطقيين (65)
وقال أيضا : فإنا نعلم بالضرورة أن الخارج لا يكون فيه مطلق كلي أصلا أما المطلق بشرط الإطلاق مثل الإنسان المسلوب عنه جميع القيود الذي ليس هو واحدا ولا كثيرا ولا موجودا ولا معدوما ولا كليا ولا جزئيا فهذا لا يكون في الخارج إلا إنسان موجود ولا بد أن يكون واحدا أو متعددا ولا بد أن يكون معينا جزئيا
وإذا قيل أن هذا في الذهن فالمراد به أن الذهن يقدره ويفرضه وإلا فكونه في الذهن تقييد فيه لكن الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يمكن ثبوتها في الخارج والمطلق من هذه الممتنعات سواء كان إنسانا أو حيوانا أو وجودا أو غير ذلك بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق أشد امتناعا في الخارج فإنه يمتنع أن يكون وجودا لا قائما بنفسه ولا بغيره ولا قديما ولا محدثا ولا جوهرا ولا عرضا ولا واجبا ولا ممكنا ومعلوم أن هذا لا يتصور وجوده في الخارج .
وابن سينا وأتباعه لما ادعوا أن واجب الوجود هو المطلق بشرط الإطلاق لم يمكنهم أن يجعلوه مطلقا عن الأمور السلبية والإضافية بل قالوا وجود مقيد بسلوب وإضافات لكنه ليس مقيدا بقيود ثبوتية وقد يعبر عن قولهم بأنه الوجود المقيد بكونه غير عارض لشيء من الماهيات وهذا تعبير الرازي وغيره عنه لكن هذا التعبير مبني على أن وجود غيره عارض لماهيته وهو مبني على أن ماهية الشيء في الخارج ثابتة بدون الشيء الموجود في الخارج وهذا أصل باطل لهم فإذا عبر عنه بهذه العبارة لم يفهم كل أحد معناه وأما إذا عبر عنه بالعبارة التي يعلمون هم أنها تدل على مذهبهم بلا نزاع انكشف مذهبهم .
وإذا قالوا هو الوجود المقيد بقيود سلبية كان في هذا أنواع من الضلال
منها أنهم لم يجعلوه مطلقا فإن كونه مقيدا بقيد سلبي أو إضافي نوع تقييد فيه وهذا القيد لم يجعله أحق بالوجود بل جعله أحق بالعدم ومعلوم أن الوجود الواجب أحق بالوجود من الوجود الممكن فكيف يكون أحق بالعدم من الممكن وذلك أنهم يقسمون الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالأول هو المطلق لا بشرط أصلا كما إذا اخذ الإنسان مجردا والجسم مجردا ولم يقيد بقيد ثبوتي ولا سلبي فلا يقال واحد ولا كثير ولا موجود ولا معدوم ولا غير ذلك من القيود والثاني وصف هذا بكونه عاما كليا ونحو ذلك فهذا هو المنطقي والثالث مجموع الأمرين وهو ذلك الكلي مع اتصافه بكونه عاما كليا فهذا هو العقلي وهذان لا يوجدان إلا في الذهن باتفاقهم إلا على رأي من يقول بالمثل الأفلاطونية وأما الأول فيقولون أنه يوجد في الخارج ولكن التحقيق أنه لا يوجد كليا ولا يوجد إلا معينا والتعيين لا ينافيه فإنه يصدق على المعين وعلى غير المعين وعلى الذهني والخارجي فهو يفيد وجوده في الخارج جزئيا .
وإنما يفيد كونه كليا فإنما يتصوره الذهن ويقدره وهو كلي لشموله جزئياته وعمومه لها كما يقال في اللفظ أنه عام لعمومه لأفراده وإلا فهو في نفسه شيء معين قائم بمحل معين فهو جزئي باعتبار ذاته كما أن اللفظ العام الكلي هو باعتبار نفسه ومحله لفظ خاص معين وبهذا التفريق يزول ما يعرض من الشبهة في هذا المكان للرازي وأمثاله .
والمقصود هنا أن المطلق بشرط الإطلاق عن القيود الثبوتية والعدمية لا وجود له إلا في الذهن والمجوزون للمثل الأفلاطونية مع أن قولهم فاسد فإنهم لا يقولون أن الماهيات الكليات مجردة عن كل قيد بل يقولون هي موجودة لا معدومة ولكنها مجردة عن الأعيان المحسوسة وقول هؤلاء معلوم الفساد عند جماهير العقلاء فكيف بإثبات أمر مطلق مجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي ثم من المعلوم أن المقيد بالقيود السلبية دون الثبوتية أولى بالعدم عن المقيد بسلب النقيضين فإن المقيد بسلب النقيضين ليس امتناع العدم أحق به من امتناع الوجود بل هو ممتنع الوجود كما هو ممتنع العدم فلا يقال هو موجود ولا يقال هو معدوم .
وأما المقيد بالقيود السلبية فالعدم أحق به من الوجود فإنه معدوم ليس بموجود وهو يفيد كونه معدوما ممتنع الوجود ليس ممتنع العدم بل هو واجب العدم ممتنع الوجود ومعلوم أن هذا أعظم مناقضة للوجود فضلا عن الوجود الواجب مما هو يقال فيه انه ممتنع الوجود وممتنع العدم فإن هذا يناقض الوجود كما يناقض العدم وذاك يناقض العدم دون الوجود وما ناقض الشيء دون نقيضه فهو أعظم مناقضة مما ناقضه وناقض نقيضه فعدوك وعدو عدوك أقل مضارة لك من عدوك الذي ليس بعدو عدوك فإن هذا يضر من كل وجه وذاك يضر من وجه وينفع من وجه .
ولهذا كان قول من لم يصف الرب إلا بالصفات السلبية أعظم مناقضة لوجوده ممن لم يصفه لا بالسلبيات ولا بالثبوتيات فقول هؤلاء المتفلسفة كابن سينا وأمثاله .
الصفدية (1|299)

ثمرة المسألة من وجهين :
1- جرهم هذا القول إلى نفي صفات الله عز وجل وذلك أنهم لما قرروا أن الأشياء بشرط الإطلاق موجودة في الخارج أو أن الكليات موجودة في الخارج ؛ مع أن الصحيح أن المطلق بشرط الإطلاق أو الكليات لا توجد إلا في الأذهان وما يوجد في الخارج لا يوجد إلا معينا وأن وجود كل شيء يخصه ولا اشتراك بين الأشياء إلا بما تفرضه الأذهان جرهم ذلك كما ذكرنا إلى نفي صفات الله وأسمائه لما توهموه من الاشتراك الكلي في الأذهان .
2- جرهم ذلك إلى أنهم فرضوا ذاتا لله تعالى مجردة عن الصفات وأنه لا حقيقة ولا ثبوت ولا وجود حقيقي لصفات الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله
ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن انه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة .
الرسالة التدمرية (73)
وقال أيضا : فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضا لشيء من الماهيات والحقائق
وهذا التعبير مبني على أصلهم الفاسد....
درء التعارض (1|167)
وقال أيضا : وأما إذا كان الوجود هو الماهية ولا مشترك في الخارج كما هو قول الأشعري وعامة المثبتة للصفات وهو الصواب فلا يحتاج إلى هذا الجواب
وليس المراد أن ماهيته وجود مطلق مجرد كما يقوله ابن سينا وابن التومرت وغيرهما من الجهمية ولكن المراد أن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وليس ذلك وجودا مطلقا ولا مجردا وكذلك يقول في كل موجود إن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به .
درء التعارض (2|405)
ومن قارن بين هذه المسألة والتي قبلها في المقال السابق وبين نفي المتكلمين لصفات الله تعالى وأنهم فرضوا ذاتا مجردة عن الصفات أو عن بعضها ؛علم مدى تأثر المتكلمين بالفلاسفة , والله أعلم وهو الموفق للصواب .

laith43d
11-19-2010, 10:45 PM
عزيزي هشام،

من قال بأني عندما أقول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية أريد إلغاء دورها؟ لقد قلت مرارا بأن الماهية شيء ليس بشيء وراء حد الوجود، بمعنى أن الاختلاف بين الوجود والماهية ما هو إلا اختلاف ناشيء عن انتزاع العقل أي اختلاف مفهومي، وإلا فإن تحققها مصداقا متحد، حيث إن الماهية والوجود مصداقا لهما نحو اتحاد. فإذا كنت متفقا معي فلا خلاف إلا في الاصطلاح ولا مشادة في الاصطلاح.

أما بالنسبة لوحدة الوجود وكونه واحدا، فأنا لم أتطرق له تفصيلا حتى يكون محور حديثكم الكريم. كون الوجود واحدا لا يتنافا كما قلت مع كونه متكثرا، فهي وحدة تنسجم مع الكثرة، حيث إن ما به الاختلاف يعود لما به الاشتراك، وقد ذكرت لك الضوء كمثال.

بالنسبة للمقالة الأخيرة ليس له علاقة بموضوعنا، بل لعلي أجد فيها تخبطا، حيث إن الكاتب ليس واقفا تماما على اصطلاحات الفلاسفة ومقصودهم ولعله يخلط بين اصطلاحات الفلاسفة واصطلاحات المتكلمين. والنتائج التي يخلص لها ماهي إلا نتيجة فهم مغلوط كما أسلفت مرارا. ومن أمثلة التخبطات العنيفة: من ينكر الصفات لله تعالى؟! هل الفلاسفة الإسلاميين ينفون الصفات عنه؟! أرجو نقل نصوص من أمهات الكتب الفلسفية الإسلامية سيما كتب صدر الدين الشيرازي حتى نتبين صدق هذه الدعوى.

أما بالنسبة لإثبات ذات مجهولة الهوية، فهو أمر ثابت قرآنيا وسببه هو أن المتناهي لا يحيط باللامتناهي: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه : 110]

ولكن ما دون ذلك فليس محجوبا للمعرفة على الرغم من عدم تناهيه، وكتب السلوك العملي فيها من التفاصيل ما فيها، ولا أدري كيف يدعى بأن ذلك كان نتيجة الفكر الفلسفي الإسلامي؟! لم ينقل الكاتب نصوصا تؤيد آراءه من كتب الفلاسفة الإسلاميين سيما صدر الدين الشيرازي، إضافة إلى عدم استيضاح الاصطلاحات التي يستخدمها الفلاسفة والعرفاء، فكثير منها لا يستخدم بشكل متساو.

فالمقال مع الأسف الشديد ليس موضوعيا بشكل كاف.