المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رفع الامانة



واثقة الخطوة
12-04-2010, 12:16 AM
مقدمة


الحمد لله العليم الخبير، هدانا لدينه، وفصَّل لنا شريعته، وعلَّمنا محاسن الأخلاق لنمتثلها، وسفاسِفَها لنتجنَّبها، فله الحمد كلُّه، وله الملك كلُّه، وبيده الخير كلُّه، وإليه يرجع الأمر كلُّه، علانيته وسِرُّه، أهلٌ لِأَن يُحمَدَ وهو على كلِّ شيء قدير.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جَهِل الناسُ عظمته ولم يعرفوا حقَّه عليهم، فلم يقدروه حقَّ قدره، ولم يعبدوه حقَّ عبادته، ولو أدركوا عظمته وعلموا حقَّه للهَجَتْ ألسِنتهم بذكره وشكرِه، ولنصبت أركانهم في طاعته وعبادته ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾( )

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمِينُه على دينه، أخبَرَنا عن الله - تعالى - بما كان من أمر الخليقة، وما يكون من مصيرهم، فمِنَّا طائِعٌ مُعتَبِر مُتَّبِع، ومِنَّا مُعرِض غافِل مُستكبِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ (2)

حين يَعزِف الناس عن الوحي الربَّاني وهُدَاه، ويستبدِلُون به غيره من أقاويل أهل الجهل والهوَى، فإنهم يُحرَمون النورَ الذي أنزَلَه الله - تعالى - فتَعمَى بصائرهم عن الحق، وتقع الفُرْقَة والاختلاف بينهم.

وفي حديث عظيم نحتاج إلى استذكاره وتَدارُسه، ومعرفة ما حوَاه من العلم والهُدَى في زمنٍ انتُهِكت فيه الحرمات، واتُّبِعت الأهواء وحُرِّفَتْ أحكام الشريعة ومعاني النصوص، وتَسابَق أهلُ الجهل والهَوَى إلى إرضاء الناس من دون الله عزَّ وجلَّ نعوذ بالله من الضلال والخذلان.




هذا الحديث الذي نحتاج إلى العلم به في هذا الزمن هو حديث الإخبار عن الأمانة في نزولها واستقرارها، ثم زوالها ورفعها، يرويه حُذَيفة بن اليَمان - رضِي الله عنه –وهو أعلم الصحابة - رضِي الله عنهم - بأحاديث الفِتَن، وله اختصاصٌ في جمعها وفقهها.

☺وسبب اختيار هذا الموضوع:
- الفهم القاصر لمفهوم الأمانة عند كثير من الناس
- التقصير في الكثير من الواجبات والمسؤوليات التي هي بمثابة الأمانات التي يجب على المسلم أن يبذل فيها جهده لأدائها على أحسن وجه وأكمل صورة .
- أهمية الأمناء في قافلة الدعوة إلى الله عز وجل .
- التحذير من الخيانة وبيان عواقبها مع التنبيه على صور سيئة للخيانة يقع فيها الكثير من الناس جهلاً أو تجاهلاً .


هيكلية البحث (منهجي في البحث):

المبحث الأول: ويتكون من ثلاثة مطالب :

 المطلب الأول: حديث رفع الأمانة.
 المطلب الثاني: التعريف بالصحابي.
 المطلب الثالث: معاني الألفاظ وغريب الحديث.

المبحث الثاني: الرابع: ويتكون من أربعة مطالب.

 المطلب الأول: المعنى الإجمالي للحديث.
 المطلب الثاني: ما يرشد إليه الحديث .
 المطلب الثالث: قصص وعبر من سيرة السلف الصالح.


هذا... ويبقى هذا البحث مجهودا بشريا يحتمل الخطأ والصواب، فما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، وما كان من صواب وتوفيق فمن الله وحده.

والله ولي التوفيق



المبحث الأول

المطلب الأول
 رفع الأمانة

عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما ، وأنا انتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعملوا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال:" ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومةً، فتقبض الأمانة من قلبهِ فيظلُ أثرها مثل المجلِ، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراهُ منتبرا وليس فيه شيءُ-ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله- فيصبح الناسُ يتبايعون، فلا يكادُ أحدٌ يؤدي الأمانة حتى يقالَ: إن في بني فلان رجُلا أميناً ، حتى يقال للرجل : ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمان، ولقد أتى علي زمانٌ وما أُبالي أيكم بايعتُ: لئن كان مسلماً ليردنه على دينهُ، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه على ساعيه، وأما اليوم فما كنتُ أُبايع منكم إلا فُلاناً وفُلانا (1)


المطلب الثاني:
 التعريف بالراوي:
هو الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان ،أبو عبد الله ،جاء هو وأخوه صفوان في صحبة أبيهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنق ثلاثتهم الإسلام وأما والده فهو حسيل بن جابر وهو من قتله المسلمون خطأً يوم أحد (2)
تميز رضي الله عنه ببعده عن الرياء وبغضه للشر فكان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه ليتجنبه ، وهو صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين.
شارك رضي الله عنه في عدد من الغزوات لكنه لم يشهد بدر لميثاق من المشركين بعدم قتالهم .(3)

__________________
1- متفق عليه،أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب: رفع الأمانة(الحديث 6497)، وفي كتاب الفتن باب: إذا بقي في حثالة من الناس(الحديث 7086) وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحديث 7276 ) مختصرا ، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب(الحديث 230)، وأخرجه الترمذي في كتاب :الفتن، باب ما جاء في رفع الأمانة (الحديث 2179) وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الفتن، باب: ذهاب الأمانة (الحديث 4053)
2- أحمد عمران، رجال حول الرسول، ص 142، الطبعة الأولى، دار الإسراء للنشر عمان/الأردن
3- أسد الغابة، الغابة في معرفة الصحابة، عز الدين بن الأثير أبي الحسين علي بن محمد الجذري، (1/532)، الطبعة الأولى(1414ه- 1993م).

المطلب الثالث:
 غريب الحديث (1)
1.جذر: أصل
2. الوكت : الأثر اليسير.
3.المجل : ثخن جلدها وتعجر وظهر فيها ما يشبه البثر
4.نفط : قرح.
5.المنتبر: المنتفط المرتفع ،وكل شيء رفع شيئاً فقد نبره.
6.ساعيه : يعني رئيسهم الذي يصدرون عن رأيه ولا يمضون أمراً دونه.

المبحث الثاني


المطلب الأول:
 المعنى الإجمالي للحديث:
إنه حديث عظيم يدل على أهميَّة الأمانة عند الناس، وحين ننظر إلى واقِع المسلِمين نعلم أن كلَّ مشاكلهم يعود سببها إلى تضييع الأمانة بمفهومها العام.

والحديث الذي رآه حذيفة - رضِي الله عنه - هو نزول الأمانة؛ لأنه - رضِي الله عنه - عاشَ في زمن الأمناء؛ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلم - وصحبِه - رضِي الله عنهم - وأمَّا الحديث الذي كان ينتظره فهو رفع الأمانة من الناس، وقد وقع ذلك في أواخر عهد الصحابة - رضِي الله عنهم - وازداد بعدَهم، ولا يزال يزداد إلى يومنا هذا.(2)
وكثيرٌ من الناس يحصرون الأمانة في الوديعةِ، والوديعة جزء منها وليست كلها؛ إذ الأمانة بمعناها العام تشمل الدين كلَه، وهي المذكورة في قول الله - تعالى -: ﴿ إِنّا عرضنا الأمانةَ عَلَى السماوات والأرض والجبالِ فأبين أَن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إِنه كان ظلومًا جهولاً)(3)

فدين الله - تعالى - الذي ندين به، وشريعته التي أنزلها علينا بكافة تفصيلاتها، والعبادات التي نقوم بها، والمعاملات التي نعامل بها غيرنا، سواء قَرب منا أو بعد عنا، كل أولئك من الأمانة التي حملنا إياها، ويجب أن نؤديها،
___________________
1-- النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير الجزري، تحقيق أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، الطبعة الأولى(1418ه- 1997م).
2- انظر المنهاج شرح مسلم بن الحجاج، النووي، تحقيق خليل مأمون شيحا، الطبعة الثانية (1415ه- 1995م)،
(2/346).
3-الأحزاب(72)
وسنسأل عنها يوم القيامة؛ ﴿ فَوربك لنسألنهم أَجمعين * عما كانوا يعملون ﴾(1) (2)

ورعية الإنسان أمانة عنده ابتداء بجسده، فولده وأسرته، وكل من تحت ولايته، صغرت ولايته أم كبرت، وكلما كانت الولاية أكبر كانت الأمانة أثقل، وكان حملها أشق، ومن ضعف دين الناس وجهلهم أنهم يبحثون عن الولايات والمناصب ولا يدرون تَبِعة ما يحملون، ولا عظَم ما يطلبون!
والأصل أن الله - تعالى - قد فطر الناس على أداء الأمانات؛ لأنهم مفطورون على العبودية له - سبحانه - ثم تنزلت الشرائع الربانية بتأكيد ما فطر الناس عليه، وهو ما جاء في الحديث: (إن الأمانة نزلَت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة...) ، فالفطرة هي خلْق القلوب على أداء الأمانة، ثم أكدها وزادها علمهم بالقرآن والسنة.
وأما رفعها وزوالها من القلوب فبسبب ما يرد عليها من أدواء الشهوات والشبهات، وفي هذا قال - صلى الله عليه وسلم –(ينام الرجل النومة فتقبَض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت - أي: مثل أثر لذعة النار على الجلد(1) - ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجلِ كجمر دحرجته على رجلك فنفطَ فتراه منتبِرا وليس فيه شيء) ؛ أي: مثل فقاعة الماء التي تكون على الجلد بعد لذعة النار(2)؛ والمعنى: إن الأمانة تقبض من قوم ثم من غيرهم، شيئا بعد شيء، في وقت بعد وقت على قدر فساد الدين واضمحلاله من الناس، فيكون زوال الأمانة من قلوبهم بقَدر تخليهم عن دينهم، فإذا زال أول جزء من الأمانة زال نورها وخلفَته ظلمة كالوكت، فإذا زال شيء آخر منها صار كالمجلِ وهو أثر محكم لا يكاد يزُول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها، والأمانة ترفَع من القلوب عقوبة لأصحابها على ما اجترحوا من الذنوب، حتى إذا استيقظوا من مَنامهم وجدوا تغيُّرًا في قلوبهم.

والرجل إذا أضاع أمانة دينه فتساهَل بالواجبات الشرعيَّة وأَلِف الخيانة في حقوق العباد عُوقِب بقَبْضِ الأمانة من قلبه، والله - تعالى - منزه أن يَقبِض الأمانة من قلب أحد دون سبب؛ ﴿ فَلَما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ (3)، فتضييعهم لبعض أمانات الشريعة، وتَمادِيهم في ذلك أدى إلى رفع الأمانة من قلوبهم، وامتلائها بالخيانة.

وإذا عم تضييعُ الأمانة في المجتمعات بنشر المعاصي فيها، وفتح أبواب المنكرات على مصارعها، واستهان الناس بحرمات الله - تعالى – فانتهكوها، زالَ عنهم الأمن بزوال الأمانة، وحلَّ الخوف بانتشار الخيانة، فلا يثقُ بعضهم ببعض، ولا يأمن بعضهم بعضًا، فيكون حالهم على الوصف الذي جاء في الحديث: (فيصبح الناس يتبايَعون فلا يكاد أحدُهم يؤدِّي الأمانة فيقال: إن في بني فلانٍ رجلا أمينا)،

__________________________
1- الحجر(92-93)
2-انظر إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، شهاب الدين القسطلاني، تحقيق محمد عبد العزيز الخالدي،
(15/35-36 ) ،الطبعة الأولى (1416ه- 1996م)، شرح النووي.
3- الصف(5)
فعوقبوا على مَعاصِيهم برفع الأمانة من قلوبهم حتى يكون الأمين غريبًا فيهم، فيذكر الجمعُ من الناس قبيلةً كانت أم عشيرة أم فصيلتا من الناس، فيُقال: إنه لا يزال فيهم أمين! وذلك لندرَة الأمَناء وضَعْف الأمانة، وكثرة الخَوَنة، وسيادَة الخيانة، وينتج عن هذه الحال الرديئة انقلابُ المفاهيم، وانتكاسُ الموازين، وذم ما يُمدَح، ومدحُ ما يُذم؛ فيمتدح الناس بالأخلاق الرذيلة، ويُثنون على أصحابها، وينتقدون الأخلاق المحمودة، ويذمون أصحابها؛ (ويُقال للرجل: ما أعقَلَه، وما أظرَفَه، وما أجلَدَه! وما في قلبه مثقالُ حبة خردل من إيمان).(1)

ومَن أراد معرفة انتكاس المفاهيم وانقلاب الموازين عند ضَياع الأمانة وسيادة الخيانة، فلينظر إلى حال الإعلام العربي وهو يمتدح العُرْيَ والسفور والاختلاط وكلَّ أنواع الفساد، ويُثنِي على الزنادقة والمفسِدين، ويذمُّ العفاف والحجاب، ويقدح في الدين وعلَمائه ودُعاته، وينتقد كلَّ مَن يتمسك بالفضيلة ويدعو إليها، أو يحذر من الرذيلة وينهى عنها!

وكم من شخصٍ أبرَزَه الإعلام الفاسد، وقال فيه: ما أظرَفَه وما أعقَلَه! وقدَّمه للناس نموذجًا يحتذي، ورمزا يقلد، وهو فاسِد مُفسد ليس في قلبه حبة خردل من إيمان، وهذا يدل على ضَياع الأمانة، وانتشار الخيانة في الأزمنة المتأخرة.

والسؤال الآن من الذي يحمل هذا الدين؟ من الذي يحمل هذه الأمانة ؟ أهي طائفة خاصة من هذه الأمة، أهو خطاب للنخبة ؟ أم هو خطاب للأمة أجمع ؟ لكل من يعقل كلام الله جل وعلا وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم رجلاً كان أم امرأة، شاباً كان أم شيخاً، أيا كان موقعه الاجتماعي بين الناس ، وأيا كان علمه ودرجته فهو ما دام يرى أنه من هذه الأمة فهو مخاطب بهذه الصفة، فالأمة أجمع إنما اكتسبت هذه الخيرية لأنها تقوم بدين الله وتأمر بالمعروف، والمعروف اسم جامع يشمل كل ما أمر الله به من اعتقاد أو عمل أو سلوك أو خلق، ولئن كان هذا المعروف لا يعجب فئة من الناس أو لا يتفق مع أهوائهم فهذا لا يخرجه عن كونه معروفاً.
والمنكر كلمة جامعة لكل ما يخالف شرع الله في الاعتقاد والتعبد والعمل والسلوك، فالأمة مخاطبة أن تسعى لتغير هذا المنكر أياً كان، سخط من سخط ورضي من رضي، ما دام منكراً بعرف الشرع وخطاب الشارع، إن المناط في تحديد المعروف والمنكر يؤخذ من كلام مَنْ أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبحانه وتعالى.
وأخبر الله سبحانه أن هذه الأمة أمة وسط وشهيدة على الناس ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ، أليس هذا للأمة أجمع؟ أليست الأمة أجمع موصوفة بأنها شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة؟ إذا فلماذا نتأخر ولماذا نتقهقر؟ ولماذا نختزل هذه النصوص ونحصرها في زاوية ضيقة، ونقول إنها تعني النخبة
__________________________-
1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب الرقاق، باب: رفع الأمانة(الحديث 6497)، وفي كتاب الفتن باب: إذا بقي في حثالة من الناس(الحديث 7086) وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحديث 7276 ) مختصرا، تحقيق عبد العزيز ابن باز ومحمد فؤاد عبد الباقي .
وتعني فئة خاصة من الناس ؟ أمَّا نحن فدورنا كدور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء
ونداءً ، دورنا أن نسير وراء القطيع، أمَّا مهمة إبلاغ هذا الدين وحماية مجتمعات المسلمين والقيام بأمر الله عز وجل فهي مهمة النخبة.
كيف يصل بهذه الأمة هذا الفهم وتلقي عن نفسها هذا اللباس، وهذا العز والتكريم والتشريف؟
إذاً فمن منطلق عموم النصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ندرك أن الجميع مخاطبون بحمل الأمانة ، ما داموا ضمن إطار هذه الأمة ما داموا منها فهم جميعاً يجب أن يكونوا شركاء في الأمانة.

 ثمرة الانتماء للدين:
إن المسلمين جميعاً يشعرون أنهم ينتمون لهذا الدين، ويتشرفون بالانتساب إليه، ولو سألت أحدهم في مقام الإنكار عليه والجدل والخصومة قائلا له: ألست بمسلم؟ لتضايق من هذا السؤال، ولكن مَن مِن المسلمين يسأل نفسه هذا السؤال بجد وصدق: ماذا يعني انتمائي لهذا الدين؟ ماذا يعني انتمائي لهذه الأمة؟ ألم يفرض علي الولاء لهذا الدين؟ ألم يفرض علي القيام بنصرة هذا الدين والذب عن حياضه والدعوة إليه؟
أرأيتم أصحاب الطوائف الضالة المنحرفة ألا يشعرون أن لانتمائهم لهذه الطائفة أو تلك ثمناً لا بد أن يدفعوه؛ فيتعصب لطائفته ويدعو إلى معتقدهم، ويسعى إلى نشره بكل غال ورخيص.
ومثلهم أولئك الذين سيطرت عليهم اللغة الوطنية فصار لا يشعر إلا بالانتماء إلى التراب والوطن، إنه يشعر أن ذلك يفرض عليه أن يعمق ولاءه وانتماءه لوطنه، وأن يذب عنه ويتعصب له بالحق والباطل، فما بالنا وقد كرمنا الله بأعظم انتماء لهذا الدين، ما بالنا لا ندرك ماذا يفرض علينا انتماؤنا وماذا يعني كوننا مسلمين مؤمنين؟

يقول حُذَيفة - رضِي الله عنه -: "ولقد أتى عليَّ زمانٌ وما أُبالِي أيَّكم بايعتُ، لئن كان مسلمًا ردَّه عليَّ الإسلام، وإن كان نصرانيًّا ردَّه عليَّ ساعِيه - أي: واليه أو المسؤول عنه؛ وذلك لانتشار الأمانة في ذلك الوقت واضمحلال الخيانة - فأمَّا اليوم فما كنت أُبايِع إلا فلانًا وفلانًا".

والظاهر أن حُذَيفة - رضِي الله عنه - قال ذلك في أواخر حياته حِين فُتِحت الدنيا على الناس فأفسدَتْ قلوبهم، وأثَّرت في أماناتهم، وحُذَيفة - رضِي الله عنه - مات بعد مقتل عثمان - رضِي الله عنه - بأيام؛ فأدرك زمن الفتنة، وظهور رؤوسها.(1)

نعوذ بالله - تعالى - من الفِتَن ما ظهر منها وما بطن، ومن الخيانة والخَوَنة، ونسأله - سبحانه - أن يجعَلَنا من الأُمَناء على دينه، وأن يُوفِّقنا لأداء ما حُمِّلنا من أمانات، إنه سميع قريب.


 ما يرشد إليه الحديث
-الأمانة سبيل إلى الفلاح .
- صفة الرسل والأنبياء .
- الأمانة علامة الإيمان .
- الأمانة تعدل الدنيا وما فيها .
- الأمناء أهل للمسؤولية .
- الخيانة صفة من صفات المنافقين .
- الفضيحة يوم القيامة .
- عدم محبة الله للخائنين .
- التبرؤ من الخائن والغاش .
- الخيانة طريق إلى النار .


 وفي قصص السابقين عبرة:

وأما سلفنا السابقون فقد تجذرت الأمانة في قلوبهم ، فبها يتبايعون ، ويتعاملون ، ولهم في ذلك قصص وأخبار ، من ذلك ما حكاه ابن عقيل عن نفسه :

حججت فالتقطت عقد لؤلؤ في خيط أحمر ، فإذا شيخ ينشده ، ويبذل لملتقطه مائة دينار، فرددته عليه ، فقال : خذ الدنانير ، فامتنعت وخرجت إلى الشام ، وزرت القدس ، وقصدت بغداد فأويت بحلب إلى مسجد وأنا بردان جائع ، فقدموني ، صليت بهم ، فأطعموني ، وكان أول رمضان ، فقالوا : إمامنا توفي فصل بنا هذا الشهر ، ففعلت ، فقالوا : لإمامنا بنت فزوجت بها ، فأقمت معها سنة ، وأولدتها ولداً بكراً ، فمرضت في نفاسها ، فتأملتها يوماً فإذا في عنقها العقد بعينه بخيطه الأحمر ، فقلت لها : لهذا قصة ، وحكيت لها ، فبكت وقالت : أنت هو والله ، لقد كان أبي يبكي ، ويقول : اللهم ارزق بنتي مثل الذي رد العقد عليّ ، وقد استجاب الله منه ، ثم ماتت ، فأخذت العقد والميراث ، وعدت إلى بغداد .

وقال ابن المبارك : استعرت قلماً بأرض الشام ، فذهبت على أن أرده ، فلما قدمت
(مرو) نظرت فإذا هو معي ، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه .







الخاتمة


"الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "...
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء من بعد... أما بعد:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
يحتاج المسلم إلى مُدارَسة هذا الحديث وفهمه، وإطالة النظر فيه في زمَنٍ اشتعلَتْ فيه الفِتَن، وانتَشَر فيه القول على الله - تعالى - بلا علم، وسادَ أصحاب الشُّحِّ المُطاع، والهَوَى المُتَّبَع، والدنيا المُؤثَرة، وأصبح إعجاب كلِّ ذي رأيٍ برأيه ظاهِرةً مُشاهَدةً؛ إذ يُحاكِم كثيرٌ من الناس دينَ الله - تعالى - المُحْكَم، وشريعتَه المنزَّلة إلى رأيهم الأعوج، وهواهم المائل.

إن حُذَيفة - رضِي الله عنه - يُخبِر أنه أدرك زمنَ حفظِ الأمانة وكثرة الأُمَناء، وذلك في صدر الإسلام؛ وسببه أن الصحابة - رضِي الله عنهم - كانوا يتعلَّمون الإيمان كما يتعلَّمون القرآن، ويتعاهَدون زيادته بالأعمال الصالحة
وبهذه الموازَنَة نما الإيمان والعلم سَوِيًّا، فعلمهم يزيد في إيمانهم، وإيمانهم يهذِّب علمهم ويوجِّهه الوجهة الصحيحة؛ ذلك أن العلم بلا إيمان يؤدِّي إلى الافتيات على الشريعة، والتحايُل لإسقاطها، وإيجاد المخارج الشيطانية لأهواء الناس ورغباتهم، فتكون مهمَّة صاحبه حينئذٍ القضاء على الإيمان، وتبديل أحكام الشريعة، وإسقاط الواجبات بالرُّخَص، وإباحة المحرَّمات بالحِيَل، وهو ما انتَشَر في هذا الزمن من بعض المضِلِّين الذين خانُوا ربَّهم ودينَهم وأمانتهم، وغشوا الناس ولم ينصحوا لهم.

فيجدر بنا ونحن نقرأ هذا الحديث أن نخاف أشدَّ الخوف من رفع الأمانة من قلوبنا، وأن نتعاهَد بقاءَها وقُوَّتها فينا بالعلم النافع، والعمل الصالح، واجتناب المحرَّمات، وكثرة الدعاء بالثبات على الحق، ولا سيَّما مع رؤية كثيرٍ من الناكِصِين على أعقابهم، المبدِّلين لدينهم، المتَّبِعين لأهوائهم.
" رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ"
________________
1-( آل عمران: 8)
2- (الأنفال: 27- 28)


 المراجع

1- إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، شهاب الدين القسطلاني، تحقيق محمد عبد العزيز الخالدي،
(15/35-36 ) ،الطبعة الأولى (1416ه- 1996م).

2-أسد الغابة في معرفة الصحابة، عز الدين بن الأثير أبي الحسين علي بن محمد الجذري، (1/532)، الطبعة الأولى(1414ه- 1993م).

3-التوضيح لشرح الجامع الصحيح، سراج الدين الأنصاري الشافعي، تحقيق دار الفلاح، 33/345- 346
الطبعة الأولى(1429ه- 2008م).

4-سنن ابن ماجه، الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، في كتاب: الفتن، باب: ذهاب الأمانة (الحديث 4053).

5- سنن الترمذي، أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، في كتاب :الفتن، باب ما جاء في رفع الأمانة،(الحديث 2179) وقال: حديث حسن صحيح، الطبعة الأولى (1408ه- 1987م).

6- شرح صحيح البخاري، ابن البطال، تحقيق أبو تميم ياسر بن إبراهيم، (10/37- 40 )، الطبعة الأولى
(1420ه- 2000م).

7- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، كتاب الرقاق، باب: رفع الأمانة(الحديث 6497)، وفي كتاب الفتن باب: إذا بقي في حثالة من الناس(الحديث 7086) وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحديث 7276 ) مختصرا، تحقيق عبد العزيز ابن باز، الطبعة الأولى
(1411ه-1991م) .

8-صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، في كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب(الحديث 230)،تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى (1400ه- 1980م).


9- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، كتاب الرقاق، باب: رفع الأمانة(الحديث 6497)، وفي كتاب الفتن باب: إذا بقي في حثالة من الناس(الحديث 7086) وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحديث 7276 ) مختصرا، تحقيق عبد العزيز ابن باز ومحمد فؤاد عبد الباقي .

10- المنهاج شرح مسلم بن الحجاج، النووي، تحقيق خليل مأمون شيحا، الطبعة الثانية (1415ه- 1995م)،
(2/346).


11- النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير الجزري، تحقيق أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، الطبعة الأولى(1418ه- 1997م).