المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة انهيار شرفات الاستشراق (21) / ولادة «نسطاس» في العصر الحديث



طارق منينة
12-21-2010, 11:20 PM
بدأ طه حسين جرأته على المقدسات بكتابه "في الشعر الجاهلي"، عام 1926م، ثم بعدها بسنوات بدأ بنشر روايته "على هامش السيرة"، 1933م، وقبل كتابته هذه الرواية كان قد أنكر أن يكون القرآن مرجعا تاريخيا لقصص الأنبياء كما أشار العلماني نصر أبو زيد، فقد ذهب إلى "اعتبار القرآن مرجعا تاريخيا بالنسبة للحياة الجاهلية، وإنكار المرجعية نفسها بالنسبة لقصص الأنبياء، وهذا الإنكار الأخير هو القشة التي قصمت ظهر البعير" (النص، السلطة، الحقيقة، لنصر أبو زيد، المركز الثقافي العربي، 1995، ص32). فكأنه يرفض الصدق القرآني وأن يكون القرآن مرجعا تاريخيا حقيقيا لقصص الأنبياء في الكتاب الأول. أما في الكتاب الثاني، فقد تلاعب بالسيرة النبوية وكأنه يرفض قبولها، كما هي، مرجعا حقيقيا لسيرة الرسول اللهم إلا قبولها بشكل عاطفي بعيدا عن النقد العقلي والعلمي لها أو بعيدا عن إضافات وتخرصات المستشرقين وسيناريوهاتهم المختلقة والتي حاول أن يدس بعض مواقفها من تاريخ النبي في "على هامش السيرة"! يقول غالي شكري (من كبار العلمانيين): "جاء طه حسين بما يشبه "الضربة القاضية" ليقول: ان العاطفة الدينية والوجدان الروحي ومعتقدات السلف لا علاقة لها بالعلم وقوانينه وتجاربه ورؤاه ومقدماته ونتائجه. وإذا كان كل إنسان ينطوي على هاتين الشخصيتين، العاطفية والعقلية، فإن العالم حين يبحث لا يعتمد سوى العقل وبالتالي الشك، بل نسيان العواطف القومية والدينية (!) لذلك كان كتابه -من بعض النواحي- أول مساس بالإسلام" (النهضة والسقوط في الفكر المصري القديم لغالي شكري، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1992، ص253). فهو كما قال غالي شكري قد تجرأ "على اقتحام المقدسات" (النهضة والسقوط، ص251)، كما أنه بكتاباته تلك حاول إحداث "أول مساس بالإسلام"، فيما يسمى بعصر النهضة العربية العلمانية الحديثة.
ينبغي أن يضع القارئ النص التالي أيضا نصب عينيه، وهو لعلماني مخضرم هو خليل أحمد خليل فهو يصف مشروع طيب تيزيني بقوله: "الواقع أن مشروع نقد التراث في الفكر اليساري العربي، والماركسي خصوصا، موضوعه الأخير "هو نقد الفكر الديني" من جهة العلم والعلمانية، أم من جهة الجدل والمادية. الدكتور طيب تيزيني يتمم الجزء الرابع من مشروعه لرؤية جديدة بنقد (!) التجربة الإسلامية المبكرة(!)، وتخصيص البحث باتجاه السيرة النبوية" (موسوعة أعلام العرب في القرن العشرين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2001، ص217). وهكذا اجتمع النقد على النقد أو الخيال على الخيال والكيد على الكيد لهدم النبوة والنبي كما فعلته أوروبا مع المسيح والمسيحية!
لننظر كيف جمع طيب تيزيني بين تلاعبات طه حسين وتخرصات الإستشراق وإضافاته هو أيضا واستخلاصه من ذلك سيناريو غاية في الطيش والتسرع النقدي في زمن العلو الماركسي في النصف الأخير من القرن المنصرم. يقول: "ما نقله لنا طه حسين من أن (النبأ العظيم-الإسلام) لم يكن حدثا فرديا يتصل بشخص محمد، أو بمجموعة حوله من أقاربه وأصحابه بالدرجة الأولى، وإنما كان أولا وبصورة رئيسية حدثاً "عالميا" بمقاييس العصر آنذاك، أو أنه على الاقل كان حدثا أكثر من محلي. فطه حسين يورد حوارا بين ورقة ورجل يوناني، أتى مكة من الإسكندرية، سرا، تحت وطأة ملاحقة السلطة الرومانية له هناك، وذلك بهدف الاطلاع على الوضع في مكة(!)، كذلك بغية إطلاع ورقة وغيره من المكيين النصارى الحنيفيين على آراء أصحابه في (الإسكندرية وغيرها من مدن الروم). وفي هذا(!) الحوار، تبين وجود(!) مؤسسة مركزية تقوم على تنظيم الدعاوة الدينية في بيزنطة والحجاز، وبلدان أخرى، كما تلزم أتباعها "بأوامر" لا يجوز لها التنكر لها وإهمالها، وقد أوردنا سابقا رأياً يرى صاحبه -وهو هرشفيلد- أن محمدا كان على صلة بمعلمين نساطرة. من هنا وتأسيسا على ما تقدم نجد أنفسنا أمام ما ألمحنا إليه في سياق سابق، وهو ضرورة ترجيح النظر إلى زواج خديجة بمحمد على أنه -بأحد إعتباراته- كان زواجا سياسيا بقدر ما كان دينيا خطط له على نحو محكم ومديد، وهذا بدوره يحيلنا إلى الآية القرآنية التالية التي قد تنطوي على دلالة محورية (!) بالنسبة إلى ما نحن بسبيله (!)، أي بالنسبة الى ما تلقته خديجة من راهبها وابن عمها، وربما كذلك من آخرين "وأمرت أن أكون من المسلمين" سورة النمل:91. (مقدمات أولية لطيب تيزيني، ص 299).
أوحى طيب تيزيني لقرائه ان طه حسين "نقل" ما يؤكد ان "الحدث-الإسلام" كان عالميا، ويقصد تيزيني أن تنظيما عالميا معارضا لروما أثر على الرسول وجهزه للنبوة التي يعتبرها تيزيني من أساطير الأولين والمعارضين!
والثغرات في فرضية تيزيني الهشة واسعة جدا، فإن عليه أن يثبت أولا أن طه حسين "نقل" وقائع تاريخية حقيقية وهو ما لا يستطيعه ولو اتخذ المستشرقين والماركسيين له ظهيرا من أولهم إلى آخرهم. هذا علاوة على أن طيب تيزيني نفسه حرف مشاهد رواية طه حسين عن "نسطاس" وهو الشيء الذي يمكن تسميته لا بثغرة وانما بسقطة وكذبة واسعة.
لقد "نقل" طه حسين فعلا لكن لا عن وقائع حقيقية وانما عن اتهامات أو ما يمكن وصفه بـ"وقائع استشراقية!" خيالية، كذلك فطه حسين لم يذكر في روايته أن رجلا حضر للتو من الإسكندرية الى مكة بصورة متخفية لتبليغ رسائل وأسرار وأوامر مؤسسة مركزية مقرها بيزنطة، فضلا عن أن تكون أوامر باستدراج محمد رسول الله إلى التنظيم عن طريق الزواج!! فهذا الأخيرة إضافة تيزينية –ادعاها خليل عبدالكريم لاحقا ونسب فكرتها إلى نفسه!- هي إضافة مزورة على نص طه حسين التمثيلي.
فنسطاس الرومي هذا بحسب تمثيلية طه حسين المخترعة إنما كان يسكن مكة لزمن طويل وكان صديقا لعمرو ابن هشام وعلى علاقة بورقة بن نوفل (انظر ص33 الجزء الثالث). لقد كان الرومي –في الرواية المخترعة لطه حسين- صاحب "حانة" في مكة يذهب إليها شبابها للشرب واللهو والنساء وقد وصفه عمرو بن هشام –في الرواية- بـ"صديقي الرومي" (الجزء الثالث ص33)، وقال: "إني أختلف مع شباب قريش إلى "بيت" نسطاس فنشرب ونعبث ونلهو" (ص12)، وقال: "وأما أني أتخلف عن أترابي عند نسطاس إذا انصرفوا حين يتقدم الليل فهذا حق أيضا"(ص14)، وقال لورقة ابن نوفل في الرواية "تعلم أيها الشيخ أني لا ألتمس الخمر واللذة والغناء عند نسطاس فحسب، وإنما ألتمس عنده العلم أيضا"!(ص26)، وأما صورة هذا العلم فيعرفنا به النص التالي –من الرواية- لعمرو ابن هشام: "علمت أن وراء نسطاس التاجر الخمار الذي يفتن شباب قريش بالخمر والنساء والغناء فيلسوفا يلتمس الحق حدثني بأنه من جماعة منتشرة في بلاد الروم، يتعارف أفرادها فيما بينهم بعلامات لهم، لا يعرفها غيرهم.. بالرموز والإشارات(!).. وحدثني بأن الجماعة عرفت(!) أن أمر هذا الدين قد قرب، وأن زمانه قد أطل.. وقد فرقت الجماعة سفراءها في أقطار الأرض.. ونسطاس أحد هؤلاء.. فأقبل يلهينا بالخمر والفناء والنساء، وينتظر أمر السماء"!(الجزء الثالث ص27-30). أما اللقاء السري بين ورقة ابن نوفل ونسطاس فقد أشار إلى أنه لم يكن الأول بينهما إلا أنه على ما يظهر كان اللقاء الأخير قبل هروب نسطاس من مكة بحسب حبكة طه حسين، وذلك لانكشاف سر علاقته بورقة (بحسب خيال طه حسين طبعا) ففي الرواية: "لا والله ما أزالت نسطاس صروف الليالي.. وإنما أزالته أمور دبرت بليل"!(ص56) بهذا القول انقلب عمرو ابن هشام على صديقه الرومي القديم صاحب الحانة في الظاهر والمخطط للقاءات المعارضة الدينية في مكة وغيرها، والذي ساعد بحسب طبعا التفسير المادي الفاشل لطيب تيزيني وإخوانه، على خلق ظاهرة محمد والنبوة. وقد وضع طه حسين على لسان عمرو ابن هشام ما صرح به فعلا سيد القمني حديثا من زعمه بإفساد اليهودية لفكر محمد وقرآنه (هكذا قال!): "فهؤلاء هم الذين أفسدوا علينا زيد ابن عمرو وورقة بن نوفل وغيرهما من كرام قومنا، وما محمد إلا أحد هؤلاء"!
كان ذلك الهروب بعد آخر لقاء سري رسمه خيال طه حسين بين ورقة وصاحب حانة الخمر، "فظهر ورقة كأنما كان في مخبأ. فلما رأى الرومي حيّاه بالإشارة (!) ثم قال: اتبعني يا نسطاس.. قٌال نسطاس".. وقد أنبئت أن عندك من هذا العلم كله، فأعد(!) علي من ذلك ما تعلم، تقول أنت بعربيتك وأكتب أنا بيونانيتي.. واذا نسطاس يقول لصاحبه: "ما أحسن ما كوفئنا يا ورقة بعد شدة الجهد وطول الانتظار!" (ص46-53)
عند هذه النقطة يمكننا القول إن شخصية نسطاس في رواية طه حسين إنما هي "صورة مستحدثة" خيالية للشخوص المكرورة الرومية والرهبانية التي اتهم الرسول بانه تعلم منها (الغلام الأعجمي، بحيرا-نسطورس، حداد- الغلام عداس إلخ).
أيضا، لم يكتف طيب تيزيني بالتلاعب بالنصوص التاريخية كما الخيالية أو الموضوعة ومنها نص طه حسين التمثيلي الخيالي، بل حاول التلاعب بمفهوم الآية (93) من سورة النمل، لقد استخدمها لدعم اقتباساته السابقة عن طه حسين و"هيرشفيلد" (اليهودي الذي لفق اتهامات للرسول)، مع أن الآية تذكر أن الأمر هو للرسول بعد بعثته –والأمة من بعده- بالطاعة المطلقة لله وليس "أمرا قبليا" -قبل البعثة- بزواج سياسي!. إن في سورة النمل نفسها "آية جامعة" لكل ما عرضه القرآن -آية فيها الوعد الإلهي الذي تحقق لاحقا وصار واقعا-مما أظهرته المجاهر والأجهزة الدقيقة من صدق وصفه لأطوار خلق الإنسان في آيات عديدة في القرآن أو للحقائق الكونية السماوية والقرآن مملوء بها، وهذه الآية (الأخيرة من السورة) التي تشير الى المستقبل هي قوله تعالى: "وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون".
والشيء المثير للدهشة العلمية والعقلية والنفسية هو أن السورة في آياتها الأولى تذكر مصدر التلقي في حين أن آخر آية في السورة تذكر الوعد الإلهي الذي تحقق كما أخبر "سيريكم آياته فتعرفونها"، ومنها أول حقيقة علمية أعلنها الوحي للرسول محمد وهي "خلق الإنسان من علق"، وكأن السورة تختم بما يظل عالقا بالأذهان حتى يتحقق كاملا جيلا بعد جيل، فلله الحمد في الأولى والآخرة.
فيا ألله كم حجب العلمانيون من حقائق بمزابل استشراقية وعلمانية تراكمت عبر قرون التعصب الأعمى.

http://www.assabeelonline.net/ar/default.aspx?xyz=U6Qq7k%2bcOd87MDI46m9rUxJEpMO%2bi 1s7AXaT2CX3tIWn9H78%2bz5llL1edaXrO7dJKbg9RR3FMQR%2 ffc245pb2RbZJhw5kEv4VpafZtEPMliiV17NmCkej3VEtYlKfF f%2bXJpbb44nqDFw%3d

حسام الدين حامد
12-23-2010, 12:48 AM
جزاكم الله خيرًا أيها الفاضل ..
دمتَ طيبًا مسددًا!

طارق منينة
12-23-2010, 10:28 AM
بارك الله فيك اخي حسام الدين