المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في الميزان



الشيخ عبدالرحمن عيسى
12-23-2010, 09:57 PM
في الميزان
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى
حلب
17 محرم الحرام 1432 هـ ـ 23 ك 1 ـ 2010 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
العلم والعلماء في الميزان
بوابة ومَدخل :
إن العلم كلمة فضفاضة , وهي اليوم تنطوي على اختصاصات لا حصر لها .. فهذا العصر , هو عصر التخصص العلمي , المفتـَّح الأبواب ..
والذي يَعنينا هنا : العلمُ بمدرَكات الحياة , وبواطن الحكمة , وحقائق المعرفة , المرتكزةِ على علم الله الملك القـُدُّوس , الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً .. وعلمه محيط بذرات الوجود , ومهيمن على كل ما خطه القلم , واحتواه منهج العلم , من قضايا وأبحاث .. واكتشافِ العِلل والأسباب .. واستخدام الطاقات ..
والغاية منها : الوصول إلى أكبر قدر ممكن ومتقدم , من الحقائق الماورائية , والتفسير الرصين والمنطقي , للظواهر الكونية , والتنازع الإنساني , من أجل الخلود والبقاء , والتحكم في الأوساط والأجواء .. وقيادة العالـَم ..
وقبل أن يكون العلم ناضجاً , على هذا النحـو المشهـود , منذ نزول القرآن العظيم , كان الإنسان في جهالة وعماء , وبساطة وسذاجة في التفكير والذوقيات , ورؤية الأشياء .. وفهم أسرار الحياة والأحياء ..
ثم كان التبحر والإبحار في محيطات العلوم , تحت ظل الإسلام العظيم , الذي انطلقت مواكبه الظافرة بنور العلم , وقوة العلم , وسلاح العلم , وكان الفتح والتأسيس للعلوم التي لم تتوقف انطلاقتها حتى الآن , وما زال أهل العلم المطلق , يمضون في التحري والاستقصاء , وتجاوز كل خلية وفضاء .. ومحاولة فهم الأسماء ..
وحيث إن العلم الذي صدر عن الله العليم , ليس مقيداً بوصف ولا اختصاص , بل هو منبع العلوم كلها , ومصدر أسرارها المكنونة على الإطلاق , فإن العلم الإلهي , الذي فاض على العقل البشري , فيه من كل الأطياف والألوان , والأنواع والاختراع ..
وإن كل علماء الكون , لا يشكل علمهم الذي تخصصوا فيه , من فلك وفضاء , ومخترعات وذرة , وتكنولوجيات متطورة , وسرعات صوت وضوء , واتصال يطوي كل أبعاد الزمان والمكان , لا يشكل ذلك كله , إلا نقطة في محيط بحر علم الله , الذي أحاط بكل شيء علماً وخـُبْراً , وأحصى كل شيء عدداً وقدراً !..
هذا ولم يزل فتح العلوم , وابتكارُها وتطويرُها , آخذاً في الاتساع والتنوع والتكاثر , والترقي في عالم الأسباب والأسرار , والكشف عن كل ممكن من العناوين والمضامين .. وقد أذن الله تبارك وتعالى , للبشر في هذا الترقي والتلقي ..
فقال سبحانه : (( فليرْتقوا في الأسباب )) ..
أي فليرتقوا في العلوم , التي تتيح لهم أسباباً مذهلة , من الطاقة الحيوية , والكشوفات المِخبرية , والقدرات المادية , والعلوم الطبيعية , مما يشكل أسباباً خارقة , وسيطرة طاغية , وإمكاناتٍ لا قِبلَ لأحد بها .. وتمكيناً في الأرض منقطع النظير !..
فأين من كل ذلك , نكون نحن , الذين عندنا معدِن الحكمة , وأسرار العلم , وينابيع الطاقة , ووسائل النصر المؤزَّر , والفتح المبين , والفوز الأكبر ؟!..
فيما يلي من بحث مكثـَّف ومعمَّـق , يكشف النقاب , عن إشكالية العلم والعلماء , وكونهم جميعاً في الميزان .. وأن لهم مثلَ ما عليهم ..
وبالله التوفيق والسداد لأرشد القول وأحسنه .. والحمد لله رب العالمين ..
عبد الرحمن

مقدمة وتمهيد :
يتأكد يوماً بعد يوم , مقامُ العلم المتخصص بعودة الإسلام الحق , الذي تم تهميشه وتعليقه , ومكانة هذا العلم الرائد , وأولوية العمل به , والخضوع له ..
بعد أن حصحص الحق , وتناهت الأمور , وتبين المسلمون الواعون , غوائل الجهل بذلك العلم , وآثاره المدمرة على وجودهم , وعودتهم أمة حية , وناهضة من جديد , في هذا الوجود .. استئنافاً لرسالتهم الحضارية , التي تم تجميدها وتعطيلها !..
منهج العلم بما انتهى إليه الآخـَرون , من الإحباط والانكسار , والإنهاك والارتباك , والفراغ السياسي والحضاري .. ومنهجُ العلم بمـكامن القوة , ومعاقـد العزة , وحقائق السيادة , في هذه الأمة , وكتابها ورسالتها , وحقها في الأسوة والريادة ..
هذان المنهجان : هما محور البحث هذا , وصولاً إلى اقتدار العلم , وأسراره الحية , التي تدمغ الباطل , وتحق الحق , ولو كره الكافرون , وأعداء النبيين ..
واقع العلم والعلماء :
ما زال أهل العلم لدينا , يتداولون علوم الدين والكون , كبضاعةٍ مُزْجاة , وتجارة حاضرة , أو كعملة دارجة , إلا من رحم ربك , وقليلٌ ما هم .. والقليل لا حكم له ..
وأخطر ما في الأمر , إثارة القضايا الخلافية , التي مزقت الأمة الواحدة , وأحالتها إلى شِيع وفرق , تتيه في دياجير الرفض والانفصال , والعداوة والخصومة , والجدل العقيم والسقيم .. والأخذ والردِّ , فيما لا طائل تحته .. ولا زبدة فيه ..
ويقول نبي الأمة , وطبيبها الأعظم , سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : (( ما ضل قوم بعد هُدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدَلَ )) .. رواه الترمزي وابن ماجه .
وقد قال الله أصلاً : (( أنْ أقيموا الدينَ ولا تتفرقوا فيه )) الشورى : 13 .. فأي إقامة للدين , في كل هذا الذي تراكم وتفاقم , عبر القرون البعيدة , وتفجر كالبركان , في آخر هذا الزمان ؟!.. ويتم إحياؤه وبثه الآن .. أي عوامل التفرق ..
ومع ذلك , ترى كثيراً من العلماء والفقهاء , ومن هم على شاكلتهم , من الكتاب والباحثين , يُمعنون في ازدواجية الفكر , وتشتت الرأي , واضمحلال الرؤية المستبصرة والواعية , والإخلادِ إلى مستوى سحيق , من الأنانية العلمية , والرضى بالدون , وابتغاءِ العرض الزائل : من جاه وزخرف وزينة , وأرصدة وفيرة ..
فينعكس ذلك على جموع الأمة , ضياعاً وظمأ , وحيْرة مدمرة , وذهولاً شديد الوطأة , حيث الشباب المسلم , والجماهير المسلمة , في مهب الأعاصير والتحديات , ولا سند لهم من خلفية دينية , ذات وزن واعتبار , في توازنات المجتمع الرهيبة ..
إذ ماذا عسى أن يتلقفه الشارع المكتظ , والجامع المزدحم , بترداد المسلـَّمات المحفوظة غيباً , وإعادة سرد التاريخ بنقائضه وتناقضاته , وتقديم المعلومات منقولة ومجموعة , ومقروءة ومسموعة .. والتركيزِ على مثاليات , غير قابلة للتطبيق !..
العلم الحقيقي والنافع :
وما من شك , في أن العلم الحقيقي النافع , هو الذي يصدر عن صفة العلم الراسخة في النفس , والسارية في حنايا القلب والفكر , والمعبرةِ عن المعاناة والتجربة المعاشة , التي تجعل صاحبها في شُغـُل وهم , عن كل ما يدور حوله من أسباب المراغمة على المصالح , والتدافع للوصول إلى الأهداف المعلنة والكامنة .. التي لا تغني من الحق شيئاً .. والتي تناقض ما لله من الدين الخالص .. والعملِ المتقـَن ..
وكشفـُه وبيانه صلى الله عليه وسلم , عن علم اللسان , وعلم القلب , وأن الأول حجة الله على خلقه , وأن الثاني هو العلم النافع , أمره متداوَل ومشهور ..
والعلم النافع والمفيد , بعد ذلك , يربو وينمو بالإخلاص وبالصدق وبالمصداقية , وبتطابق الأقوال والأفعال , في وحدة سلوكية متسامية , تأبى عروض الجسد , وتنفي البدائل والأثمان , وتسمو على سلبيات هذه الحياة , وموبقات هذا الزمان ..
أروع ما في العلم :
لكن أروع ما في العلم حقاً , واقعيتـُه ومواطأته لأحداث الزمان الذي هو فيه : تفسيراً صالحاً , وتوجيهاً أصيلاً , واحتواء وشمولاً , وتصرفاً يتسم بالتوازن والوقار والاتزان , وفي الحديث :(( تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار )) رواه الطبراني
ولا نقصد بواقعية العلم , أن يكون مترجَماً إلى مقولات جامدة وجاهزة , تخضع لمنطق العصر وإسفافاته .. أو يبرر الأخطاء والخطايا , ولا أن يبقى مجرد نقول تراثية تعكس أجواء العصور , وأذواق الأجيال , وحرفياتِ النصوص التاريخية والفكرية , والأدبية والذوقية !.. التي يُكال لها التقديس جزافاً , على حساب حقائق العلم والقرآن ..
واقعية العلم تظهر وتتجلى , في قدرته على تطويع الحياة المتطورة , لصالح الحق والعدل , وفي إمكاناته الفائقة لمواجهة الباطل والظلم , وكشف اللثام عن مناحي الضلال المحدَث والمستحدث , وتقويةِ ودعم الوازع العلمي والديني الرادع , في نفوس المؤمنين والمستضعفين , الذين يتلفتون حائرين , يبحثون عن الخلاص والحق , وعن حجة الله البالغة , وبرهانه الأقوى , وسلطان اسمه الأعلى , في دنيا الصخب واللغوب , والظلم الصارخ , والفساد المبرمج , وسلوكيات المستكبرين والمفسدين في الأرض ..
إذ لم يعد كافياً ولا مُغنياً , في واقع الزلزال والتـصدع , تصديرُ الأوامر والنواهي , وفتاوى التحليل والتحريم , وتقريرُ المسلـَّمات والأحكام , في أطـُر الوعظ والخطابة , وفي نطاق ممارسة الدين والشعائر والوظائف , بالرتابة وبالعوْد المعتاد والمُعاد , وبالتخلف الذهني والروحي , وبالبلادة الشعورية , من خلال الرَّان الكبير , والزيف الأكبر , والذنب المُصِرِّ والمستكبر , والغرورية المطلقة , من وراء الهوان والتراجع .. ونشهد نوعياتٍ ليس لها من رصيد , إلا التبجح والتظاهر , والوعظ المجاني والرخيص , في دنيا الصراع والتحدي .. والباطل المدجَّج !..
رجال دين وكهنوت , وأشباه كـُهَّان , يأكلون السُّحْت والحُـلوان ..
طبيعة العلم الحق :
ليس من طبيعة العلم أن يُسوِّغ الباطل ويهادنه , ولا أن يصافح الإثم ظاهره وباطنه , ولا أن يكون مطية للأغنياء والقادرين , ولا أن يُسهم في تغشية العيون , ودرء الوعي والصحوة عن الغافلين والجاهلين : مداهنة وممالأة , وتملقاً ورياء ..
العلم في حد ذاته , صحوة شاملة , وذكر محيط ومهيمن , وحصافة وفطانة , والله سبحانه وتعالى لا يعترف بعلم العالِم , حتى يكون له قـَدْر من الإحاطة , التي تعصم العالِمَ من القصور والتقصير , والوقوع في حبائل الهوامش والهامشيات , وفوضى الجزئيات والخلافيات .. والوقوفِ عند حدود العلم المداهن والمراوغ !.. الذي لا يسبب لصاحبه أية مسؤولية .. أو تضحيةٍ في سبيل الله !..
يقول جل وعلا : (( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء )) البقرة : 255 ..
وأنت ترى الآن , كيف أن كليات العلم المادي والصناعي , تتمركز وتتحكم بمصير الكوكب كله , في الوقت الذي نرى علماءنا ليسوا معنيين إلا بنقد تاريخهم , وعرض خلافاتهم , واستعراض أذواقهم المترفة , وانتقاءاتهم التي لا تنِم إلا عن حالة الـتمطيِّ والاسترخاء , والاكـتفاء بإلـقاء العهدة على الآخرين .. والإيحاءِ بأنهم المبرَّأون , ومن ثم ترسيخُ ثقافة القطيعة والارتطام , والعداء في صفوف الأمة ..
إن العلم اللدُنيَّ الموجَّه , ليس إلا رسالة تؤدى في وقتها وحينها , فتسد فراغاً , وتنير طريقاً , وترفع شوكاً , وتمهد هداية وتبصرة , ولا تأخذ حاملها ومؤدِّيـَها في الله ولا في قول الحق , لومة لائم .. ولا تثنيه عن عزمه وعزيمته , سطوة جائر أو ظالم ..
فالعالِم أخ ناصح , وخادم مُجـدٌّ ومنتج , ينصح قـومه والعالـَم , بما نصـح به نفسه , وبما اشتملت عليه قريحته وسريرته .. والعلم الحق , أول ضحاياه : نفسية صاحبه الرعناء , وشهواته وطموحاته , التي لا تتجاوز حدود البطن والفرج , والجاه العريض , والسمعة الزائفة .. فيتخفف أصحاب ذلك , من كل تبعة وتضحية والتزام ..
ملامح علماء هذه الأمة :
إن علماء هذه الأمة , الذين ورثوا العلم عن نبي الأمة , هم الذين هذبهم العلم , وعصمهم العلم , وعرَّفهم قدر نفوسهم , ومدى جهلهم .. فكانوا مناراتٍ ومعالمَ وأسوة , وأقمارَ تِـمٍّ , يُهتدى بها في حوالك الليالي والأيام , ومُدلهمَّاتِ الخطوب الصعاب والجسام , ويكونون للأمة المنكوبة : البلسم والشفاء , وشاطيء التأسيِّ والسلام ..
الكثير والقليل من المكاسب والرغائب , لا تساوي شيئاً عند أهل العلم , إذا كانت على حساب كرامة الإسلام , ومعاناة الأمة , ومصابها الأعظم , وضياعها العاصف !..
والآن , ليس أيُّ عصر مضى , أشدَّ من هذا العصر والوقت , افتقاراً واضطراراً , إلى العلماء العاملين حقاً وصدقاً , بتجرد وإخلاص , والكادحين كدحاً في سبيل الحقيقة الكبرى , التي ينبغي أن تخضع لها كل الحقائق في هذا العالم .. وهي حقيقة العلم الرباني اللدُنيِّ النبوي النوراني .. الذي به تم فتح العقول والقلوب ..
فلقد آن الأوان , ليكون الإسلامُ هو الوريثَ والبديلَ , الذي يرث هذه الأرض المنكوبة والمصلوبة , فيصفيها وينقيها , ويعيد توازن الحق والعدل فيها .. بعد أن اختلت السياسات , وانهارت العقائد , وارتجَّت الموازين , وغرق العالم في الدماء والأشلاء , وزُيـِّف العلمُ , وغامت الرؤية أمام العلماء , فضلوُّا وأضلوا ..
إن سكينة الروح والنفس , بعد الإعصار العاصف , وإن اهتداء العقل والفكر والقلب , بعد الرؤية الغائمة , والرؤى الحالمة , هو بعض مخاض الإسلام الحق , ومنتجاتِ العلم الراسخ والشامخ .. المبيدِ لكل ضبابية وعنكبوتية , في الرأي والفكر , وضلال الأمر .. وتناول الدين والتاريخ , بمزاجية حادة , وانتقائية ممقوتة !..
العلم في تقدير أهل العلم :
إن العلم في تقدير أهل العلم , هو السلاح الأقوى , والحكم الأمضى , والحكمة المتجذرة , والجانب الموهوب والأعلى .. وبه لا بغيره , تنجلي وتنجاب هذه الغياهب والنوائب والفتن .. التي تلفُّ الأمة , وتطحنها طحنَ الرحى , وتزحزحها عن الهدى !..
ولن يتم فك أغلال هذا الواقع , الذي انتهت إليه أواخر هذا الزمن الأخير , إلا بسطوة العلم , المنبثق من حقائق القرآن والرسالة , والذي إليه لا إلى سواه من مـستـويات الـعـلم : الكـمالُ المطـلـق , والإحـاطة الأوسـع , والكـفـاءة والـتأثـيـر الأنجـع والأسرع .. والبداية : روح وعلم من الله .. (( الذي عـلـّم بالـقـلم )) ..
وفي هذا السياق , فإننا لا ننكر أن العلم الأوروبي , كانت له الهيمنة والإحاطة النسبية في الأرض , وهو العلم المرتكز على امتلاك بعض أسرار المادة والطبيعة , وخواص الأشياء التي أقـْدر عليها , والمتمثلُ في الغزو والسرعة والأشعة , والنار الملتهبة والمتفجرة , حيث واقع العالم الإنساني كله , فريسة هذا العلم , وضحية رموز سلطانه وطغيانه , بما فيهم أمة القرآن والإسلام .. والعلة في العلماء وتقصيرهم , الذي لا مبرر له أصلاً , وليس في العلم والمعلوم .. والحقيقةِ الدينية والكونية الضائعة ..
ولكنني أقول : إن هذا العـلم قد أحيط به , وهو يتعرض اليوم , لدائرة تدور عليه من سلطان العلم الإلهي اللدُنيِّ الواقعي , خلفيته كتاب الله , ونبوة سيدنا رسول الله , عليه صلى الله وسلم وبارك .. وما الإعجاز العلمي في القرآن المجيد , عنا ببعيد ..
وذلك بعد أن أفرغ العلم الأوروبي ما لديه من مضامين الإسعاف والاعـتساف معاً , وجاء دور العلم الذي لا تنقضي عجائبه ومواكبه , ولا تـُستنفد حقائق التدارك والإغاثة فيه , بل يأتي في كل حين , بأسمى القِـيم والمعايير , ليزيح عن كاهل الأمم والشعوب , أثقال القرون , وأوزار الارتداد والحرب الضَّروس .. وتراكمات الضلال الكبير , مع وجود العلم وتقنياته الهائلة .. والكفيل بهذا الدوْر : هو القرآن المجيد ..
وإذا أدركنا ما للعلم هذا من قدرات غير محدودة , بإمكانها أن تـَشلَّ فاعلية الباطل , وما يستند إليه من علم مجرد , وأن تحيط بالظلم ورموزه , وتهيمن على كل ما هنالك من سيطرة وزيف وعدوانية .. ورضاً بالانهزام والدونية ..
أقول إذا أدركنا ذلك , بدا لنا علمُ لا إله إلا الله , وعلم : محمد رسول الله , وهو سيد الموقف بلا منازع , والـمهيمن على تراث العالم : تمحيصاً وصـيانة , وإمامة وأسوة رائدة , وتصفية رادعة , وصقلاً وتهذيباً , وقيادة صالحة وفالحة ..
العلم صفة راسخة :
وأقول أيضاً : إن العلم ليس روضة يختار منها العلماء , ما يروق لهم من ثمرات وأزاهير , إنما هو صفة راسخة , تفرض عليهم روحَها ومعناها , وتقتضيهم أصدق اللهجات والكلمات .. وليس العلمُ ما يُحفظ ويُختزن , ويُنتقى منه حسب العرض والطلب , بل ما يَحفظ العلماءَ والناسَ , من العثرات والزلات , وينجيهم من الأزمات ..
ورأس العلم وحقيقته الكبرى , ما أشار إليه وأمر به جل جلاله , حيث قال سبحانه في كتابه مخاطباً نبيه : (( فاعلمْ أنه لا إله إلا الله )) محمد : 19 , فهذا العلم هو الجوهر , وهو قيمة القيم , وهو الروح الذي بدونه يكون الموت والعدم , والهلاك الأظهر .. وهذا هو مستوى علم سيدنا رسول الله , علمُ : لا إله إلا الله ..
(( أنا مدينة العلم .. وعليٌّ بابها )) ..
إن العلماء والدعاة والهداة , عبر التاريخ كله , بهذا العلم واجهوا الجهل والظلم , وواجهوا الطاغوت , ومشكلات الحياة , وواجهوا كل الذين لا يريدون إلا عُلوّاً في الأرض وإلا فساداً , مفتونين وفاتنين .. من المنافقين والمرتدين والمداهنين ..
يقول الله تبارك وتعالى , في سياق قصة قارون : (( فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثلَ ما أوتي قارونُ إنه لذو حظ عظيم . وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثوابُ الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقاها إلا الصابرون )) القصص : 79 ـ 80 ..
في حقيقة الأمر وواقعه , أن أهل العلم والحُكم , مسؤولون أمام الله , وأمام التاريخ والأجيال , عن كل هذا الضياع والضيم , الذي يجثم فوق صدور الأمة , ويفرز المزيد من الضواغط والضغوط , وأنهم قد يكونون مُفـَرطين , إذ لم يثبتوا كفاءتهم ورسالتهم , في دنيا التجاوزات العارمة , والسلوكيات الظالمة , والعلاقات الآثمة ..
ألا إن العلم حكمة للعقول , وشفاء لما في الصدور , وانتهاج سبيل القصد والاعتدال , في خِـضَم الحياة , وأمشاجها العاصفة .. ومغرياتها ومفاتنها المتكاثرة ..
العلم الحق دعوة مفتوحة :
ليست هذه الكلمة , إلا دعوةً مفتوحة , إلى كل مؤمن بالعلم الحق , ليُحسَّ بعظمة التـَّبـِعة , وضخامة المسؤولية , في الظروف الراهنة , وأقصد بالعلم , ذاك الذي يُـقـَوم الأشياء والمواقف , ويَـفـْصل فيها , ولا يوصف بأنه علم ديني ولا علم دنيوي , بل هو فوق كل الـقضايا والشؤون : ناظراً ومتفحصاً , وحاكماً مُعَـقـِّباً , ومنهياً ما ينبغي إنهاؤه , من التصورات والنظريات والإسقاطات , التي ترسخ حياة الجهالة والجاهلية , وتـُهدد الحقوق والحقائق , والحرية الإنسانية الأسمى , وتثبت الحق للأقوى , وتنفي وتنكر حق الحياة الكريمة , على الأعزل والأضعف والأدنى ..
حينما خيم الجهل والجمود على آفاق هذه الأمة , تراجعت وانكفأت , وتقدمت مناهج العلم المتحفزة والمتوثبة في الغرب , مختالة ومتغطرسة , وكانت القوة مع الغرب طبعاً , وفي خدمة مآربه الاستعمارية والتبشيرية , ولكن الحركة التاريخية , تؤكد اليوم حق هذه الأمة , في العودة والاستعادة , وإن حقائق العلم الفاعلة والمؤثـِّرة والمنتِجة , هي في متناول العلماء والمفكرين المؤمنين : إيذاناً بالتحول الأعمق والأرحب , والتحرير الأشمل .. والحياة الأصفى والأنقى ..
وإن أعداء هذه الأمة , لم يبق في أيديهم إلا سلاحُ الجهل بأي هدف أو غاية مشروعة , وافتقدوا كل الحقوق المزعومة , وخذلهم العلم المجرَّد , ووضعهم بَغـْيُهم وجوْرهم وظلمهم , على حافة السقوط النهائي .. والنفادِ الكلي والحقيقي , في أسواقهم التسويقية والتلفيقية والتكفيرية .. التي تجتاح الإنسانية , وتزلزلها من الأعماق ..
استنفد العالـَم الغربي , مبررات وجوده المهيمن على الكون وأهله , والضالعِ في تخريبه وتدميره , واجتياحه وحرقه بنار العلم الموقدة , والحديد المُحمىَّ ..
ولا يفوتني التنويه , بأن العلماء في أوروبة وأمريكة , قد خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً , واستنبطوا بالعلم واخترعوا : ما هو مفيد جداً , وباق على الأيام والدوام , وما هو ضار وصاعق , ومُنهك للحضارة والأخلاق , ومقوض للعدل والسلام !..
فعلى جسور العلم , وأسراره القوية والخفية , ووسائله المتطورة , عبرت إلينا جيوش الظلم والظلام , والاستعمار البغيض , والجنون المدمر للحضارة والأعصاب , والأوصال والأشلاء , وأعادونا إلى عصر ما قبل التاريخ , والفوضى الخلاقة !..
أستغفر الله العظيم .. وأعوذ بنور وجهه الكريم .. وسلطانه القديم ..
وما زالت الأحزاب الحاكمة , والدوائر الاستخباراتية , والشركات والمصانع , والمصالح والأسلحة الجهنمية , تستغل علم العلماء : في الطبيعة والمادة والطاقة , لمتابعة الاستغلال العالمي , والسلب والنهب لحريات الأمة والشعوب , وجعلِهم تضيق بهم المشافي والمقابر , والسجون العلنية والسرية , التي تقشعر منها جلود الشياطين !..
بسلاح العلم هناك , وبجهود العلماء , تضيق علينا جبَّانات الموت والرعب , وما هو شر من ذلك ألف مرة .. حيث وحوش الغابات , أقلُّ من ذلك وأرحم !..
هذا إلى كون علماء التبشير والتاريخ والاستشراق , في الغرب , لم يألوا جهداً , في تشويه تاريخنا , وسيرة نبينا ورسولنا , وطمس حضارتنا , وتجريدنا من كل هوية وأصالة .. وكأن التاريخ بُديء بهم , وأنهم رُواد النور والتقدم !..
وحينما كان الأمر إلى علمائنا الأبرار , تم وضع أعظم الأسس , لحضارة إنسانية عالمية خالدة , لم تشهد الدنيا لها مثيلاً , وكانت خيراً ونوراً ورحمة , لشعوب الأرض , وسكان الكون أجمعين .. وكانت جنة وارفة الظلال , في جحيم الحياة ..
تلوح في أفق الأمة الآن , معالمُ العـلم بـسنن الله , والإلمامُ بأسرار التحول عند الله , وتلكَ ـ لعَمري ـ بداية الهداية والعناية , لأمةٍ تستشعر وجودها , وتتحسس رسالتها , وتتلمس طريقها إلى الغد المأمول .. وإن غداً لـِناظِره قريبٌ بإذن الله ..
واقع العلوم التكوينية : المِهَـنية والنظرية ..
أما حظ العلوم الكونية , من طب وهندسة , وحقوق وقضاء , وسياسة واقتصاد , وما إلى ذلك من علوم واختصاصات , فليس بأفضل حظاً من علوم الدين والشريعة ..
حيث تـُدار أضخم عمليات الظلم والتخريب والفساد , وينوء المجتمع على أيدي هؤلاء العلماء , تحت عبء فادح , يسحق العصب والعقل والعظم , ويودي بالناس إلى أشد الخطوب والخسائر , وأوخم العواقب , وإلى الهدر الهائل , لطاقات الأمة , وأموالها الخاصة والعامة , ومرافقها الحيوية , بممارسات وتخطيطات إبليسية ..
حيث تـَروج على أوسع نطاق ومجال , أساليب الخيانة والرشوة والسرقة , واللصوصية المنظمة , والالتفاف المكشوف , على المحاضر والمواثيق والقوانين , والكشوفات والفواتير والمشتريات , في الدوائر والمراجع والشركات ..
وبالعلم الظلوم والمجَـنـَّح , على أيدي حامليه وناقليه , تنحط وتنهار أخلاقيات ومجتمعات الأمة , في أخطر واقع نمر به ونعيشه على الإطلاق .. ويخذلنا العلم المزوَّر , والمسخر لخدمة المآرب التي قد لا تخطر على بال الشياطين !..
يدرك هذا كلُّ من له إلمام بمجريات الأمور , وبصير بزمانه , ولا ينام على السطح , يحلم بنرجسيته وفرديته وأنانيته , ومصالحه التي لا يقرها شرع ولا قانون !..
وحسبنا الله ونعم الوكيل .. اللهم اهدي قومي فإنهم في التعاسة يخوضون .. وإنهم يعلمون .. وإنا لله وإنا إليه راجعون ..
اللهم خذ بيد عبدك الرئيس بشار الأسد إلى ما يرضيك , فإنه لا شك مَحْضر خير حقاً , ويحب للناس الخير قطعاً , ولا يرضى بظلم ولا فساد أبداً , وهو خير من يعلم قيمة العلم , وفضل العلماء الأجلاء الأتقياء ..
وإن الله سبحانه , يرحم بلاد الشام , حينما ينظر إلى قلب هذا الإنسان , وسره المفعم بالإيمان , ولا يريد إلا الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. والحمد لله رب العالمين ..