المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لارواية , تبدأ أحداثها بعد الموت



الفاروق
09-03-2005, 07:12 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ (يوسف 111)

إخوتي الكرام الأفاضل, أحبتي في الله:
ليست حياتنا الفانية القصيرة هي آخر المطاف.. و الموت ليس هو الخاتمة بل بوابة عالم خلود ممتد بلا انتهاء..
وفي أعماقنا زفرات لاتهدأ حتى نرجع إلى المسكن الأول الذي منه خرجنا ورجائنا بالله أن نعود إليه..
خلقنا الله مكرمين, ونفخ فينا من روحه, وأسجد لنا ملائكته, فلنا إلى الكمال توق كبير, وإلى الجمال ظمأ, وإلى الجنان شوق..
وفي الأرض امتحان وابتلاء, فيكون من وراء ذلك شقي أو سعيد..
وفي الطريق إلى الآخرة, سار " مسرور و مقرور " نموذجان في قصة رمزية التأليف, أزلية المعنى, ونصادف أمثالهما في كل درب من دروب الحياة.. ولكن رويداً.. فالنهاية ليست لعبة و هناك ثمة جنة أونار.. نعيم أو عذاب.. رضاء الله أو سخطه..
رحلة "مسرور ومقرور" سنمر بها جميعاً.. فماذا أعددنا لها..؟ وكيف الإتجاه وإلى أين المسير..؟
فلنعقد العزم ولنتوجه إلى خالقنا العظيم بصدق و افتقار.. ولتكن الآخرة أمام أعيننا يقين بلا امتراء.. ولتكن توبتنا صادقة متجددة .. كيلا يطول العناء..
وقبل البدء بنقل حلقات هذه "اللارواية" أود الإشارة أن فكرتها تعود لكاتب من أرض مصر الكنانة "أحمد بهجت", و إخراجها للأخ الفاضل الأستاذ موفق نوح أحد طلاب العلم الشرعي في بلاد الشام, جزاهما الله عنا كل خير.

الفاروق
09-03-2005, 07:17 AM
#1
مسرور ومقرور

في قديم الزمان و حاضر العصر و الأوان, عاش رجلان مختلفان..
كان اسم أحدهما مقرور و الثاني اسمه مسرور, ومثلما يقع في الحياة أن يكون للناس من أسمائهم نصيب.. كان لمسرور نصيب .. وكان لمقرور نصيب..

أما مسرور فكان أغنى رجل في المدينة.. وأقوى رجل في المملكة..و لم يكن غناه يشبه غنى قارون.. كان أقل منه بمقدار مفتاح أو مفتاحين!!, كانت كنوز قارون توضع في صناديق و غرف لها مفاتيح, و كانت مفاتيح كنوز قارون لا يستطيع حملها إلا عصبة من الرجال.. سبعة من الرجال مثلاً أو ثمانية...؟ (*)
كانت مفاتيح كنوز مسرور يحملها ستة رجال فقط ..!

أما مقرور فكان فقيراً لا يملك مفتاحاً لكوخه الخشبي الذي ورثه عن جده, وكان يكتفي في ليالي الشتاء بأن يضع قطعة من الحجر وراء الباب لتسنده..

وقد بدأت أحداث قصتنا ذات ليلةٍ شتائيةٍ عاصفةٍ.. وقد دأب كثير من الكتاب على الكتابة في بداية رواياتهم: إن أسماء الأبطال و الأحداث لم تقع إلا في خيال المؤلف, وأن أي تشابه بينها وبين أسماء الأحياء هو تشابه غير مقصود.. فماذا نكتب نحن في بداية قصتنا ؟
سنقول إن أسماء الأبطال خيالية.. و إن أحداث القصة حقيقية وإن هذه الأحداث لم تقع بعد, ولكنها وقعت بالتأكيد أو ستقع بالتأكيد..
وهذا كله محير جداً رغم أنه حقيقة..!!
أين كنّا ؟..
ليلة شتائية عاصفة..
انحدرت السحب الملبدة فحجبت نور القمر الشاحب.. وهبت الرياح بعنف وهي تعول في صفير يدفع الخوف لأقسى القلوب..
وانفتح باب مقرور الخشبي بعد أن نجحت الرياح في زحزحة قطعة الحجر التي وضعها لتسنده..
اندفعت الرياح في الكوخ فأطفأت الفتيلة التي كان يوقدها مقرور و جلدت عظامه فارتعش.. ومن ثم نهض مسرعاً من تحت فروة الخروف التي يتغطى بها, وأسرع نحو الباب وأعاد إغلاقه ووضع قطعة الحجر وراءه .. وأسندها بقدمه العارية قليلاً وانتظر حتى هدأت الرياح وعاد يرتعش إلى فراشه..
----------------------------------------
(*)

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَِ

يتبع....

الفاروق
09-03-2005, 07:21 AM
#2

العشاء الأخير

في نفس الوقت..
جلس مسرور أمام مائدة العشاء في قصره..
جدران القصر من حجر الجرانيت اللامع المصقول, وأرضه من المرمر الفضي الشاحب, وسجاجيد العجم تتناثر على الأرض كيفما اتفق..وبإهمال يكشف عن ذوق مترف..
أما مائدة العشاء فكانت من حجر الجاد الكريم, أما أقدام المائدة فقد صنعت من الذهب الخالص..!!
كانت الأطباق من الذهب, أما الكؤوس فمن زجاج نادر أغلى من الذهب !! وكان مسرور يجلس في صدر المائدة على كرسي من الذهب, ألقى عليه فراء ثعلب ضخم.. كان الفراء يبعث بمجرد وجوده على الدفئ..
انحنت الجارية وصبت لمسرور كأساً من النبيذ.. كان النبيذ جيداً توحي رائحته بحقل كامل من العنب..
ودارت رأس مسرور, فالتقط قطعة من لحم الطاووس المشوي, وراح يمضغها على مهل..
كان يفكر في لاشيء..
وراحت الرياح تصفر حول قصره, ولكن الرخام المصقول كان يتأمل الرياح العاتية بنظراته الجليدية غير العابئة..
قال مسرور وهو يتأمل ميل الأشجار في حديقة قصره من خلال نافذته الكريستال:
يبدو أن شياطين الرياح قد أطلقت من عقالها.. قال كلمته وضحك..
واهتز المدعوون إلى مائدته بالضحك مجاملة له..
وعاد مسرور إلى سمومه, وابتلع جرعة أخرى من نبيذ في لون الورد فأ حس أن رأسه يثقل..
رفع رأسه وسأل الحاضرين:
هل تعرفون كم أنا غني..؟
تطلعوا إليه بعيون مستخذية يوشيها التلهف:
لانعرف, حدثنا أيها السيد العظيم..؟
قال: إن كل ثانية تمر .. ومع كل حبة رمل تسقط من الساعة الرملية .. تزيد ثروتي مائة جنيه من الذهب..
شهقوا من الدهشة..!!
وعاد الباب ينفتح في كوخ مقرور..


يتبع....

يوسف مراد
09-11-2005, 02:31 PM
أخي الفاروق ..
في انتظار التكملة..
وتقبل تحياتي..

الفاروق
09-12-2005, 09:04 AM
# 3

المأدبة

مدّ مسرور يده ووضع كأس النبيذ
كان يعرف أن الخطيئة التي تملك نثر الذهب وهي تمضي في طريقها, تستطيع أن تبلغ هدفها آمنة مطمئنة, بل ستجد في النهاية من يطلق عليها أوصاف الفضيلة, وربما وجدت من يلبسها تاج الشرف.. !!
كان مسرور يعرف ذلك كله وبالتالي فلم يكن لديه مايقلقه..
على العكس, كان يحس بلون من ألوان الكبرياء العميق..
لم يكن منبع كبريائه أنه غني, أو أنه يكسب مع كل ثانية تمر مائة جنيه من الذهب, وبالتالي تزيد ثروته كل يوم ثمانية ملايين من الجنيهات الذهب, لم يكن هذا سر كبريائه...؟
كان عقله هو سر كبريائه و سر سعادته وشقائه معاً,, كان يحس أن ثروته مخبوئة في مكان ما من عقله, ولقد صرح في أكثر من مناسبة أنه أوتي ماله بسبب علم خاص عنده..هذه المقدرة الفائقة على تثمير المال وتكثيره كانت قناعته وإيمانه, كان مؤمناً بنفسه (*)
كان يحسب كم يكسب في اليوم وفي الشهر وفي العام, ولكنه من فرط ثرائه لم يكن يعرف قدر ماله الأصلي, وكان فشله في حساب رأس ماله الأصلي يجعله يشعر بالعجز وانحصار مملكته, كان يندب حظه إذا خلا بنفسه, وكان يحلو له ساخراً أن يحدث نفسه عن فقره (**) ..!
كان يرى أن الغني هو الذي يستطيع أن يحسب ثروته, أما الفقير فهو واحد من اثنين:
إما رجل لامال لديه, وهذا غبي يستحق الحرق..!؟ أو رجل أرباح ماله أكبر من قدرته على الحساب, وهذا بائس يستحق الشفقة..!!
لم يكن يفصح عن هذه الحقيقة لأحد, وإنما احتفظ بها سراً دفنه في قلبه, ورتب عليه نتيجة بدت له منطقية تماماً: مادام هو يستحق الشفقة, فإنه لم يكن مستعداً لأن يواسي أحداً في المقابل, إن شفقة القلب أو الحنان يمكن أن تدفع الإنسان لإعطاء قرش لفقير, هذا القرش هو بداية الثغرة في أية ثروة, لأن ملايين الجنيهات ليست إلا قروشاً قد تراكمت, فإذا فرّطت في قرش واحد منها انقطع خيط العقد وسقطت حباته وتناثرت.. وهذه يداية النهاية لضياع أية ثروة..! (***)
ينبغي أن يوضع كل قرش في مكانه..
لقد دفع مسرور من قبل ثمانية ملايين من الجنيهات الذهب لشراء مسحوق أضيف إلى نبيذ الملك فمات وهو نائم, وحملت ملايينه إلى العرش ملكاً بلا عقل, كان مسرور عقله.. هذه نقود وضعت في مكانها الصحيح..!!
خرج مسرور من ذاته وبدأ يتأمل ضيوفه....

.....
.....
.....
--------------------------------------------------------
(*) مثله في ذلك مثل قارون إذ قال له قومه:

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَِ

فرد قائلاً
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَِ
القصص : 77-78


(**) قال رسول الله :salla2:
((ليس الغنى عن كثرة العَرَض, ولكن الغنى غنى النفس )) 6446/البخاري
ورحم الله القائل:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ...... ...... مخافة الفقر فالذي فعل الفقر


(***) وهذا من فلسفة الطمع , وفتنة حب المال.. وصدق رسول الله :salla2: حيث يقول:
(( لو أن ابن آدم أُعطي وادياً ملآن من ذهب أحب إليه ثانياً, ولو أُعطي ثانياً أحب إليه ثالثاً, ولا يسد جوف ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب )) 8346/ البخاري




يتبع..

الفاروق
09-17-2005, 06:09 AM
# 4
حوار

كان يستضيف الوزير الأول, وقاضي القضاة, وكبير البصاصين, ورئيس العسس.. ولاحظ مسرور أنهم يتحاورون حواراً ساخناً فأنصت لهم..
قال الوزير الأول: هل قال إننا حين نموت ونستحيل إلى تراب سنعود فنستيقظ من الموت ونقف أمام الله ونحاسب ؟؟
قال قاضي القضاة: نعم ..
تدخل مسرور في الحوار وقد اخترق وجدانه خوف غامض ..
سأل مسرور قاضي القضاة: من الذي قال هذا ؟
قال قاضي القضاة: مقرور..
سأله مسرور: أي شيء هذا
قال رئيس العسس: هذا رجل فقير يعيش في كوخ عند أطراف المدينة..
سأل مسرور مجدداً: قال إن هذا كلامه..؟!
رد كبير البصاصين: لا.. قال إنه سمع هذا الكلام من نبي في المشرق..
قال مسرور : نبي في الشرق.! أي نبي هذا..؟!!
قال كبير القضاة: لم يقل أي نبي..!
ضحك مسرور ساخراً .. وقال: هذا رجل مجنون, إنه يتصور أن أجساد الناس ليست من تراب وإنما من ذهب.. من الذي يعبأ بإعادة استخراج تراب الناس من باطن الأرض , هل هم من ذهب ؟!!
ضحك كبير البصاصين و رئيس العسس و الوزير الأول, وابتسم قاضي القضاة وقال كالمعتذر:
من يدري..!! فلعل ما يقول الرجل صحيح..!!؟
قال مسرور: هل تصدق أنت أننا إذا كنا عظاماً وتراباً يتطاير في الهواء؟ هل تصدق أننا سنبعث؟ (*)
قال قاضي القضاة : من يدري ؟
قال مسرور : أنت لاتصلح أن تكون قاضياً للقضاة ..
توقفت حركة الضيوف, وساد وجوم موحش. كان واضحاً أن قاضي القضاة قد عُزل من منصبه بهذه الكلمات الغاضبة..
جمدت يد قاضي القضاة باللقمة التي كانت في طريقها إلى فمه, أعاد يده ووضع الطعام في طبقه وظل صامتاً يرتعش.. ثم استجمع أطراف نقسه وقال: سيدي مسرور, أنا لم أقل إنني أصدقه, قلت فقط : من يدري.. لم أكمل كلامي بعد.. كنت أريد أن أقول: من يدري لعله كاذب.. سيدي مسرور, لقد أضاء سؤالك القضية في عقلي.. هو رجل مجنون بالقطع.. من يدري.. لعله محموم أو مريض ..؟


-----------------------------------------------------
(*) وهذه عقيدة الكفرة و الملاحدة في كل عصر, تراهم بلا حجة ولا برهان ينكرون البعث والحساب؟!
قال تبارك وتعالى على لسان بعضهم في ردهم على نبيهم:
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَِ
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَِ
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَِ..
..
..
يتبع...

الفاروق
09-17-2005, 07:12 AM
# 5
مؤامرة

هدأت الأعصاب قليلاً بعد أن تراجع قاضي القضاة عن موقفه وعاد إليه حرصه, وراح الضيوف يتبارون في السخرية من فكرة البعث أساساً..
وتناول قاضي القضاة كأسه ورفعها إلى فمه, وحاول جاهداً ألا ترتعش يده وهي تحمل الكأس ولكنه لم ينجح..
واستمع مسرور إلى الحوار الذي كان يسخر أساساً من فكرة البعث و الحساب, وأحس مسرور باحتقار بالغ لما يجري, وقال أيها السادة أنتم تتحدثون كالصبية.. ماذا فعلتم لدفع الخطر ؟
سأل الوزير الأول : أي خطر ؟
تجاهل مسرور هذا السؤال وتوجه بنظراته إلى كبير البصاصين.. وسأله : ماذا قال الرجل .؟
قال كبير البصاصين : قال إننا سنقةم من الموت وتقف للحساب أمام إله واحد.
ابتسم مسرور وقال: هذا يعني أن الرجل ينكر آلهتنا.. وهذا يعني أن هناك مؤامرة واضحة..! (*)
تراجع الجالسون إلى الوراء قليلاً في مقاعدهم وسقط عليهم قول مسرور كالصاعقة؟؟
كان أسرعهم إلى الحركة هو رئيس العسس..
قال وهو يفكر : خطر لي هذا ياسيدي.. وقد راقبنا (مقرور ) أياماً متواصلة فلم نره يتصل بأحد, ولانما إلى علمنا أن أحداً يتصل به , ورغم ذلك فإننا لم نزل نراقبه..
إن الرجل يسكن في كوخ له باب أضعف من أن يصد الرياح.. ومن ثم فإن الباب مفتوح طوال الوقت.. ونحن نرااقبه من خلال الباب المفتوح..
المشكلة التي صادفتنا . أو بمعنى أصح التي فجرتها هذه القضية في عقلي أنه ليس لدينا نحن العسس القدة لمعرفة أفكار الناس , وبالتالي فإننا لانعرف كيف يفكر مقرور
ولن نخسر شيئاً لو انتظرنا..

قال مسرور : آه, أنتم تريدون الإنتظار حتى يشعل مقرور النار في نظام المملكة.. وهو النظام الذي اختاركم لتكونوا كلاباً لحراسته.. وهو النظام الذي يطعمكم ويرويكم ويمنحكم سلطات هائلة من أجل حمايته (**)
أراكم تنتظرون حتى يتحرك مقرور ..؟ بعدها ستتحركون .. ؟ هذا يعني أن حركتكم قد صارت تابعة لحركته .. !


-------------------------------------------------
(*) وهذا واقع لكره الطغاة لصحوة القلوب, ذلك أن أشد مايخشاه الظالم والطاغية هو صحوة القلوب ويقظتها, ولذلك نرى فرعون يهيج ويثور على سيدنا موسى عليه السلام و ذلك عندما يرى أن كلامه يمس أوتار القلوب, فنراه يهدد ويبرق ويرعد :
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَِ (الشعراء 29)

وقال للسحرة لمّا آمنو بموسى عليه السلام
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَِ ( الشعراء 48)



(**) إن من أشد الأخطار على الشعوب بطانة السوء, من بيدهم الصولة والجولة, من يداهنون الطغاة و يزينون لهم أهوائهم و نزواتهم لتحقيق المنافع الشخصية , و هؤلاء وما أكثرهم عند غياب الرادع الأخلاقي الديني
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَِ (الأعراف 127)
..
..
يتبع

الفاروق
11-04-2005, 02:03 AM
#6

الحكم

صمت الحاضرون جميعاً حتى انتهى مسرور من كلامه.. ثم توالت اقتراحات الجالسين لحل القضية..
قال الوزير الأول: فهمت أن هناك مؤامرة إذن..
قال رئيس العسس: الرأي أن نسجن مقرور..
قال كبير البصاصين: التهمة واضحة.. إشعال النار في نظام المملكة, واحتقار الآلهة وازدراؤها..
قال قاضي القضاة: القضية جاهزة للحكم, هذه تهم عقوبتها الموت حرقاً..
ضحك مسرور فسرى إلى الحاضرين إحساس بمرور الأزمة, ولكن مسرور ضرب إحساسهم بالراحة حين عاد يقول: مازلتم تتحدثون كالصبية..مؤامرة وتهمة وقضية وحكم.. إننا نلفت الإنتباه إلى أهمية الرجل, ونجعل منه شهيداً دون داع ولامبرر..!
الرأي السليم أن يموت هذا الرجل بحادث مؤسف.. ينام نوماً ثقيلاً بعد أن يشرب كأساً من الماء, ثم ينفتح باب كوخه بسبب الرياح فيقع المشعل ويحترق الكوخ.. ويحترق معه مقرور..ويتم هذا كله في هدوء ودون ضجة .. وبغير إعلان.. وسوف يسجل العسس أن الرجل أهمل اغلاق بابه وكان سبباً في موته..
أحنى الجميع رؤوسهم موافقين..
وأشار مسرور إلى الجارية التي تصب النبيذ أن تصب للضيوف كأساً جديدة.. وشرب الحاضرون نبيذاً في لون النار .. وبدأ سباق هادئ بين الضيوف في نفاق مضيفهم..
قال الوزير الأول: لولاك لغرقت المملكة..
قال كبير البصاصين: ماذا كنا نفعل بدونك, أنت ملهمنا دائماً..
قال رئيس العسس: لقد تلقيت الليلة درساً في مهنتي لاأظن أن تجارب العمر الطويل فيها قد لقنتني مثله..
ووجد قاضي القضاة نفسه وقد جاء دوره..فتنحنح قليلاً ثم قال بصوت معتذر:
هذه أسرع قضية حكم فيها بالعدل.. لقد صدر الأمر بإعدام مقرور قبل أن ننتهي من العشاء.. لطالما شكا العدل من البطء, اليوم يسبق العدل السرعة..!
وهذا إنجاز في حد ذاته..
..
..
يتبع

الفاروق
11-04-2005, 02:52 AM
# 7
صلاة

نهض مقرور من نومه وهو يرتعش.. كان باب الكوخ مفتوحاً فاتجه نحوه لإغلاقه... فوجئ بكلب أصفر اللون عسلي العينين يربض عند مدخل الكوخ.. هز الكلب ذيله عندما شاهد مقرور..
قال مقرور في نفسه: سبحان الله !! هذا ضيف أرسله الله تعالى إلينا..
فتش بعينيه زوايا الكوخ عن طعام فلم يجد غير إناء يمتلئ قاعه باللبن.. وضع الإناء أمام الكلب فنظر إليه الكلب بعينين شاكرتين وهو يهز ذيله, ثم وضع أنفه في اللبن وراح يلعقه..
ترك مقرور الكلب يستكمل طعامه ودخل الكوخ.. غسل وجهه و يديه و قدميه وانخرط في صلاة عميقة.
قال مقرور لله عز وجل وهو مستغرق في صلاته:
اللهم اغفر لي تقصيري في عبادتك, واغفر لي فقري وقلة إحساني للخلق, وسامحني في حياتي القديمة, وارحمني برحمتك يوم الوقوف بين يديك..
شفّت روحه وصفت وهو يصلي..
وانحدرت دمعة من عينيه فشقت مجراها في أخدود صنعته الدموع في وجهه..(*)

واستنشق مقرور رائحة غريبة لاعهد له بها .. رائحة عطر يشبه روح الريحان, ولكنه ليس الريحان الذي يعرفه أهل الأرض..
وخُيل إلى مقرور أنه ليس وحده في الكوخ..
وخيل إليه أن هناك وجوداً ما لكائن غريب..؟
أراد مقرور أن يلتفت ولكنه كان يصلي فخشي أن يفعل.. وفاض قلبه بشعور من الرضا المستطاب في الله.. تذكر أخطاءه الماضية أيام كان قاطعاً للطريق, وتذكر توبته لله وإخلاصه له حين قابل هذا النبي الكريم أثناء رحلته في الشرق..
وقال لنفسه: من يدري..؟ لعل الله لم يقبل توبتي, ولعلي من الهالكين.. زاد بكاؤه, وخر ساجداً..(**)
رفع الكلب رأسه من إناء اللبن وراح يهز ذيله, ويستمع لبكاء مقرور..
ووصل رئيس العسس وكبير البصاصين وشرذمة من الجنود.. وراحوا يتأملون مقرور وهو ساجد يبكي من خلال الباب المفتوح..

------------------------------------------------------------
(*)قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور الذي رواه البخاري وغيره: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ورجل قلبه معلّق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه"


(**) وهذا من الجمع بيت الخوف من الله عز وجل وبين الرجاء برحمته تعالى وعفوه, وهما جناحان يطير بهما المؤمن, قال الله تعالى:
أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَِ الأعراف 99

وقال أيضاً:
وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَِ يوسف: 87

..
..
يتبع