المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جواب شبهة حول أخلاق القرآن



هشام بن الزبير
01-01-2011, 10:37 AM
أرجو ألا يكون هنالك مانع من مشاركتي في الموضوع، لست ملحدًا لكن لم أعد أيضًا مسلمًا بالمعنى العملي.

كنت أفكر في نفسي عن هذه النقطة أيضًا و تساءلت ماذا سيحدث لأخلاقي إن تركت الإسلام دون أملٍ في الرجعة؟ لكن التساؤل الأهم من هذا (ليس من عندي، لكن تفكرت فيه بعد ما سمعته): هل فعلاً السبب الرئيسي الذي يجعل الشخص المؤمن يتصرف حسب أخلاقيات دينه هي رغبة في الثواب أو خوفًا من العقاب من إله ذلك الدين؟
إن كانت الإجابة نعم فكيف نسمي تصرف هذا الشخص أخلاقًا إن كان هدفه خارجًا عن أثر أخلاقه على بيئته؟
إن كانت الإجابة لا فهذا معناه يستطيع الشخص التحلي بالأخلاق بغض النظر عن معتقده.

لكن ما هي حدود هذه الأخلاق إن كانت غير مرتبطة بدين ما؟ أعتقد بأن هذا سؤال إجابته على حسب الشخص نفسه، أنا عن نفسي إن لم أعد أرى أملاً في العودة للدين فسأفكر باتباع ما يسمى بـ the golden rule و التي هي باختصار أن تعامل الناس كما تريد منهم أن يعاملوك. نعم أعرف بأن نفس هذه الفكرة موجودة في كثير من الأديان و منها الإسلام طبعًا، لكن أيضًا يوجد من يتبعها دون اتباع أي دين.

.......

لا أعتقد بأنني سأستطيع حاليًا الإجابة إن سألني أحد عن "مصدر" الأخلاق لعدم إطلاعي على ذلك، و لا أظنه المراد من هذا الموضوع حسب ما فهمت؟


أيها العقل التائه,

أحسنت إذ طرحت السؤال ولم تجزم في هذه القضية, فهي بالفعل من مسائل الأخلاق الإسلامية التي تلتبس على المخالف.
لذا ائذن لي أن أفصل سؤالك لأكشف عن أجزائه ولألج إلى أصله بما يتبين به من لبه ما قد لا يظهر على قشره.

أنت ادعيت أن المؤمن يتميز بالتزام أخلاقي قد يكون سببه الرئيس "الرغبة" و"الرهبة", أي الرغبة في الثواب والخوف من العقاب. وهذا قد يلزم منه أن المؤمن لا يلتزم بالأخلاق من أجل جمال الأخلاق وقيمتها الذاتية, وإنما من أجل ما يترتب عليها من النتائج, فهو لا ينظر إلى الأخلاق بل إلى الجزاء. ولا تهمه البدايات بقدر ما تهمه النهايات.

لعل هذا ما أومأت إليه بقولك إن المؤمن يلتزم بأخلاق دينه. إذن الإلتزام الأخلاقي عند المؤمن قد يكون ثمرة قهر أو ضغط خارجي وليس نابعا من إحساس ووجدان داخلي يحركه, ليتحلى بمكارم الأخلاق. وقد يفهم من كلامك أن المؤمن لا يلتزم بخلق فاضل إلا إذا نص عليه دينه أو اندرج تحت أصل ديني.

أليس معنى هذا الكلام أن أخلاق المؤمن أخلاق نفعية تنظر إلى المصلحة فقط, وتستشرف العاقبة في الأخرى دون أن تتأمل جمال الفضيلة في الدنيا؟

أليس لو كان جواب سؤالك بالإيجاب تكون الأخلاق الإسلامية مجرد أوامر ونواهٍ وزواجر تقهرنا قهرا وتضطرنا اضطرارا للخضوع لها دون التفات إلى قيمتها الأخلاقية الأصيلة؟

أو ليس هذا التصور الناقص للأخلاق إنكارا وهدما ونفيا للأخلاق؟

أوَ ليست هذه الأخلاق غير ذات معنى ولا جدوى ما دمنا نرى الناس لا يزالون يتحلون بقدر من الأخلاق وإن انسلخوا من الدين كله؟ فأي فضل للدين والأخلاق باقية من دونه؟

إن كان هذا كله أو بعضه قد دار بخلدك وأنت تطرح سؤالك فدعنا نمضي خلال هاته المسائل مسألة مسألة حتى نخلص إلى جواب سؤالك. ولتكرر ورود هذه الشبهة فإني سأعدل عن الرد المجمل إلى المفصل. ولك أن تعلق كلما شئت. فأنا سأضع جوابي هنا تباعا إن شاء الله.

قبل أن نبدأ أريدك أن تنظر معي في هذه الكلمة: الإنسان كائن أخلاقي.
فهل ترى هذا وصفا دقيقا للإنسان؟

الذي يظهر لي أن حاجتنا للحكم على أقوالنا وأفعالنا بميزان الأخلاق أمر ضروري لا ننفك عنه أبدا. نحن حقا مخلوقات عاقلة أخلاقية, لذا نحتاج لمن يقول لنا باستمرار: افعلوا ولا تفعلوا. ثم لما نفعل نحن أنفسنا شيئا, نحتاج إلى حكم أخلاقي نصف به عملنا ونحكم عليه من منظور الأخلاق.

مثلا لو رأينا شرطيا يضرب متظاهرا بهرواة على رأسه فيشجها, فهل نبدأ بوصف الواقعة وننتهي دون إصدار حكمنا الأخلاقي؟
هل نملك أن نقول مثلا: قوة اليد وسرعتها وهي تضرب بالهراوة في زاوية كذا, سببت شجا في رأس المضروب, عمقه كذا..., هل نملك أن نقف حيال أفعالنا وأقوالنا موقف الحياد الأخلاقي؟ أم أننا لا بد أن نحكم سلبا أو إيجابا على الواقعة المادية التي شهدناها؟ هل نكتفي بالوصف الذي قد ينفع الطبيب أو القاضي, أم أننا نبدأ بالتخير من قاموس الأخلاق ألفاظا من قبيل: اعتدى, عاقب, ظلم, أنصف, أخطأ, أساء...؟
لماذا لم يشبع قاموس الوصف المادي الواقعي نهمنا الأخلاقي حتى عدلنا إلى إصدار أحكام أخلاقية نزن بها ما شهدناه؟ هل تأملت معي الفرق بين القضيتين: قضية حكم مادي واقعي من جهة وقضية حكم أخلاقي معياري من جهة أخرى.

خلاصة هذه المقدمة التي أراها ضرورية, أن الإستعداد لفهم عالم الأخلاق العجيب ملكة أصيلة في النفس واستعداد فطري يشبه استعدادنا للتفكير وتعلم اللغة, هذا أمر يشترك فيه الناس جميعهم, فهل ترى في ذلك فضلا لمؤمن على ملحد, أو لعربي على عجمي, أو لذكر على أنثى؟
أم أنك تقر معنا على هذا القدر المشترك من الحس الأخلاقي يوجد بشكل ما لا نفهمه , داخل الإنسان, جنس الإنسان؟ فما مصدر هذه الملكة وما منشؤها؟




(يتبع إن شاء الله...)

هشام بن الزبير
01-01-2011, 11:40 AM
السؤال المحير للعقول المتحيرة والنفوس المتشككة والأرواح الشاردة عن باب ربها هو:
لماذا نحتاج أصلا لإصدار أحكام توحي بأننا نميز بين الخير والشر, وبين الحسن والقبيح؟ من أين جاءت هذه "الملكة الأخلاقية"؟ من أين جاءت هذه "الحاسة الأخلاقية"؟ من أين جاء هذا "الميزان الأخلاقي"؟ من أين جاءت هذه "البصيرة الأخلاقية"؟

والأمر الآخر المحير هو طبيعة الإنسان, فهل توصف النفس الإنسانية بالخير أم بالشر؟ ما هي طبيعة النوازع التي تتحكم في الإنسان؟ هل يبدأ شريرا مارقا ثم تهذبه الأخلاق أم أن الامر على العكس من ذلك؟

إذا كنا جميعا نحس بهذه الملكة الأخلاقية المتجذرة في أعماقنا فلا مناص لنا من التساؤل: هل هي أمر فطري أم مكتسب؟
لو تأملنا أصول معارفنا الأخلاقية لوجدناها تتسم بالثبات والشمول.

إذ لو كانت أحكامنا الاخلاقية في أصلها مكتسبة لوجدنا على الأقل مجتمعا بشريا واحدا يستحسن الكذب والظلم والسرقة ويأمر بها ويستهجن الصدق والعدل والأمانة ويعاقب عليها, فلماذا لم يوجد؟
إن القول بأن هذه الأحكام الأخلاقية الأولية مكتسبة, لا يصمد أمام الاعتراض بوجود بلايين الناس اليوم يعيشون في أقطار متباعدة ويتكلمون بلغات شتى ويردون موارد علمية وفكرية متنوعة, فلكل بلد مدارسه ومناهجه وأنظمته وقوانينه, ولا يوجد منهم من يشذ عن هذا الإجماع على حسن الفضيلة وقبح الرذيلة.
ولما كانت الأخلاق متسمة بالثبات والشمول في أصولها وكلياتها وليس في فروعها وجزئياتها, علمنا أن الملكات الأخلاقية لا بد أن تكون فطرية متأصلة في النفس على وجه لا ندركه.

رأينا إذن أن الأصل الأصيل والأساس الأول للأخلاق هبة لا ندري كيف وهبناها ومنحة لا ندري متى حزناها. فإذا أقررت معي بذلك, فأي فضل لأي مجتمع بشري على آخر في هذا؟ وهل يكون تفاخر الناس بهذه الملكة الأخلاقية إلا كمثل تفاخرهم بغيرها من الأمور الجبلية؟ كأن يقول لك القائل إن لي عينين أبصر بهما وأذنين أسمع بهما ولسانا أنطق به, فتجيبه وأي فضل لك في هذا؟ فكما يشترك الأصحاء في هذه الملكات الخِلقية يشترك الأسوياء في هذه الملكة الخُلُقية مثلا بمثل سواء بسواء. الناس إذن لا يتفاضلون في أصل ملكاتهم الأخلاقية.

فهل هذه الملكة الفطرية في رايك هي كل الأخلاق؟ هل هذا القدر المشترك بين الناس مؤمنهم وكافرهم يفسر الثراء الأخلاقي الذي تميز به الإنسان عبر التاريخ؟ هل تنتهي الأخلاق عندك إلى هذا القدر المشترك؟ هل تكتفي من سعيك للسمو الأخلاقي بملكة وُهبتها كما وهبت ملكة النطق واللغة؟ هل استعدادك لتلقي اللغة يغني عن التعلم؟ أم أن الملكة استعداد لشيء آخر, فالملكة اللغوية استعداد فطري لتعلم اللغة وإتقانها والتبحر في عوالمها, كما أن الملكة الأخلاقية استعداد فطري لتزكية النفس وتهذيبها.

والآن ما هو جواب العقول التائهة من المتفلسفة بجميع طوائفهم عن سؤالنا:
هل الإنسان نزَّاع بطبيعته إلى الخير أم إلى الشر؟

من طالع طرفا من كلام القوم في الأخلاق علم أنهم متناقضون أشد التناقض. فمنهم من يرى الإنسان ذئبا ضاريا ومنهم من يراه ملاكا طاهرا, ومنهم من حاول التوفيق بين ذا وذاك ومنهم من تحير وتوقف. وحُقَّ له فإن العقل لم يخلق لهذا.

أما عن جوابنا فلسنا نعدل بكلام ربنا شيئا وقد علَّمنا: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) الشمس:7-10.
لقد أخبرنا خالق النفس سبحانه أنه سواها فـألهمها التمييز بين الفجور والتقوى, بين الخير والشر, بين الحسن والقبيح. فقوله تعالى: (ونفس) قسم بهذه النفس كل نفس, فالتنكير يفيد أن المراد جنس النفس. فالتسوية من كمال الخلق قال الله: (سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى) الأعلى: 1-2 وقال: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك) الإنفطار: 6-7.

فكما أن الله سوى خلق الإنسان وجعله في أحسن تقويم فإنه سوى النفس أيضا في أحسن تقويم, ومن تمام تسوية النفس إلهامها وإفهامها طريقي الخير والشر والفضيلة والرذيلة. وإذا كان الإلهام إيقاع الشيء في الروع كما قال الراغب الأصفهاني, أي إحداث العلم في النفس من غير كسب منها ولا تفكير ولا تجربة, علمنا سر وجود هذه الحاسة الأخلاقية العجيبة التي حيرت عقلاء العالم وفلاسفته.
إننا إذن نمتلك حاسة نبصر بها الحق في عالم الأخلاق: ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) القيامة: 14-15.

السؤال الذي ينبغي لنا أن نعرض له هو لاحقا هو: لماذا زُوِّد الإنسان بهذه البصيرة الأخلاقية؟ أو: ما الذي يترتب على وجود هذه الحاسة الأخلاقية؟


(يتبع إن شاء الله...)

هشام بن الزبير
01-01-2011, 01:13 PM
فما الذي يترتب عن وجود هذا العلم الأخلاقي الأولي داخل النفس, أليس من المنطقي أن يترتب عليه العمل؟ ألا يقتضي التكليف العمل؟ ألا أيقتضي المسئولية؟ ألا تفترض المسئولية الجزاء؟
مثلا: إذا استخدمتك في متجر وبينت لك طريقة استعمال الميزان المادي, فالتزمتَ باستعماله تصير بمجرد التزامك مسئولا عن حسن استخدامك لهذا الميزان أو قبحه؟ فلو طففت الميزان, لكان من حقي أن أحاسبك. إذا فهمت ذلك علمت أن تزويد الإنسان بهذه الملكة الأخلاقية ليس عبثا, بل هو من أهم شروط التكليف, لهذا قال ربنا: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) الشمس:7-10. فالنفس سُوِّيت ثم عُلِّمت تمييز الخير من الشر في نشأتها الأولى, ثم مُنحت الإختيار بينهما, ثم أمرت بتنمية ملكاتها ونهيت عن إهمالها.


لنعد صياغة ما قيل: الإنسان كائن عاقل مزود بملكة فطرية غير مكتسبة يزن بها أعماله وأعمال غيره بمعيار أخلاقي. فتراه قبل الإقدام على عمل ما يتوقف ليميز قيمته. إذن إنه ينظر بعقله في كتاب فطرته, فيقرأ شيئا موجودا, فالعقل لا يمكن له أن يبني أحكامه على غير أساس. لكن هل الفطرة تميز الأخلاق في شمولها وعمومها أم أنها تدرك دقائقها ولطائفها؟ لا شك أن الأسوياء من البشر يشتركون بفطرتهم في إدراك أمهات المسائل الأخلاقية, فهم مجمعون على حسن الصدق والوفاء والأمانة والعدل وعلى قبح أضدادها. ولكنهم لا يدركون أن الكذب مستهجن في الجد والهزل, ومن أين لهم أن يعلموا أن المزاح لا يبرر الكذب؟ ومن أين لهم أن يبصروا حرمة الإنسان حيا وميتا؟ فالأوربيون اليوم يحرقون موتاهم كما تحرق النفايات.

إذن هل تكفي الفطرة؟ وهل الإسلام بدْع من الملل والمذاهب في إلزام الناس بمنهج أخلاقي يزيد عن القدر المشترك بين الناس؟ أم أنك ترى حواليك في هذا العالم ما لا يحصى من الانظمة والقوانين التي ليست سوى سلسة طويلة من :"افعل" و"لا تفعل" فهي شئت أم أبيت "قوانين أخلاقية".

فتأمل هداك الله أن الفطرة تمنح جنس الإنسان إدراكا مشتركا لعالم الأخلاق وأصولها والشريعة الإلهية تمنحه نظامها التفصيلي, على صورة من الكمال والتوازن تكل عنها أبصار القانونيين. ففي هذه النقطة ينتهي القدر المشترك بين المؤمن والكافر.

ههنا يفترق الجمعان, ويتباين الصفان, وتشرق شمس الشريعة القرآنية في سموها وتأفل كواكب الشرائع الملفقة في دنوها, ويتميز صِرْف الأخلاق من بهرجها , فهذه الفطرة التي وافقنا المخالف –بوضعه للقوانين- أنها لا تكفي لتنظيم السلوك الإنساني, تحتاج إلى توجيه وإرشاد, تحتاج إلى هداية. فمن أين نستمدها ياترى؟ ومن أين تستمدها أنت؟

نحن نستمد الهداية والحكمة والرشاد من الحي القيوم الذي تقوم السماء والأرض بأمره, الذي وسع كل شيء علما. ألا ترى أن خالق النفس أحق بهداية النفس؟ أما الملحد فإنه يقول: أسترشد في مسائل الأخلاق بعقلي. ونحن نسأله: هل تقصد أنك ستخترع الأخلاق اختراعا أم أنك ستكشف منها ما كان عنك غائبا؟ فإن قال إنه يرى لنفسه الحق في بناء أخلاقه سألناه: على أي أساس ستضع هذا البنيان؟ فلعله يجيبنا بمثل قاعدتك الذهبية أي أنه يعامل الناس كما يريدهم أن يعاملوه. (وسأعود لهذه النقطة لأختم بها الموضوع إن شاء الله).
أما إن قال إنه سيكشف عن أخلاق موجودة فنحن نقول له إنها لا تدرك بالعقل بل بالوحي, إذ ليست السنن الأخلاقية علما ماديا تخضع أجزاؤه للمنهج التجريبي. وهل لأهل الأرض عقل واحد حتى يحتكموا إليه, أم أن لكل منهم عقلا؟ وما فضل عقلك على عقلي حتى أسلم لك قياد نفسي؟ لو كان العقل يستقل بمعرفة الحق في هذه المسألة لما اختلف الفلاسفة حولها من لدن أرسطو.
ليست الأخلاق عالما ماديا كعالم الذرات أو المجرات, إن العالم المادي بسيط وقابل للتوقع لأنه محكوم بسنن ثابتة مطردة, بخلاف عالم الأخلاق المتنوع المتغير النابض بالحياة. فسلوك الإنسان ليس محكوما بقوانين مادية قاهرة, بل هو نابع من "حريته" و"اختياره". لهذا لن يستطيع "عقل" مهما بلغ نبوغه على استنباط المنهج الأخلاقي الأمثل في أصوله وفروعه, وفي كلياته وجزئياته, وفي قواعده واستثناءاته. إن تكليف العقل بمثل هذا من تكليف ما لا يطاق.

أنظر إلى الإنسان كيف يعيش في مجتمع تتشعب علائقه وتكثر عوائقه, إنك تراه أبا وابنا وزوجا وأخا, تربطه بالناس أواصر الأبوة والبنوة والأخوة والجوار, ثم إنك ترى الحقوق تتكاثر وتتشعب خلال هذه الأواصر المتباينة المترابطة. فينشأ التعارض والتضارب بين الحقوق المتباينة وبين الواجبات المتعددة. فمن أين للعقل الترجيح بين مراتب هذا كله؟ وأنى له أن يقطع بشيء على وجه اليقين؟ هل تراه إن رام ذلك إلا متحكما متعسفا؟ فمن أين نستقي شريعة الأخلاق التي تنتظم بها حقوقنا وواجباتنا وأفعالنا وأقوالنا وشخصيتنا مع محيطنا دون عسْف ولا هوى, بلا إفراط ولا تفريط؟
هل تفي قوانين البشر بذلك أم أننا مفتقرون إلى مصدر أعلى وأنقى لشريعتنا الأخلاقية؟



(يتبع إن شاء الله...)

هشام بن الزبير
01-01-2011, 03:09 PM
العقل يكل وحار إذا حاول أن يحل المعضلة الأخلاقية بكل تشعباتها. ومنتهى غايات علماء الأخلاق أن يحددوا طبيعة الواجب الأخلاقي وأن يحاولوا التوفيق بين صرامته وسلطته وبين نزعة الفرد للحفاظ على حريته واستقلال شخصيته. فالحرية مبدأ يزيد المسألة الأخلاقية تعقيدا.

العقل المتمرد على الوحي ينتهي إلى فهم ناقص للأخلاق, فيقبل بتصور سلبي للواجب الأخلاقي. فأنت تعلم أن المثل الأعلى للأخلاق المادية تلخصه الكلمات التالية: لا تؤذ أحدا, لا تسبب الضرر للآخرين, حريتك تنتهي عند حرية غيرك. هذه كلها تروك, فأين الأفعال؟ هذا موقف سلبي فأين الموقف الإيجابي, أين الرحمة؟ أين الإحسان؟ أين البر؟ أين البذل؟

هل الأخلاق أن ننصف الناس ونكف أذانا عنهم فحسب؟ أليس من صميم الأخلاق أن نجعل لهم حقا من وجداننا ومن أحاسيسنا النبيلة؟ أليس إن اقتصرنا على هذا القدر نكون وقفنا على عتبة الأخلاق لا نجاوزها, بل نكاد ننحدر إلى السلوك المباح. فأية أخلاق هاته إن كانت لا تكاد تتمايز عن المباح.

قد يحاول العقل المادي التائه أن يخرج من هذا الإشكال متشبتا بقاعدة أخرى, فيقول علينا أن نأتي إلى الناس ما نحب أن يؤتى إلينا. هل هذا يفسر الثروة الأخلاقية التي نقدرها ونعجب بها؟
دعنا ننظر قليلا في هذه القاعدة. أنا أحب أن يحسن الناس إلي وأن ينصحوا لي بقلوبهم قبل ألسنتهم وأعاملهم وفق ذلك. ألا يدل مفهوم المخالفة على أنه لا ضير علي إن تركت خلقي الحسن إن لم يقاَبل بمثله؟

ألا يدل هذا على أن أخلاق الماديين ليست أخلاقا صِرفة, بل أخلاقا لا تقوم إلا على أساس المصلحة وترقب الجزاء المادي العاجل؟ ألا تعد أخلاق الإيمان التي لا تنتظر الجزاء المادي العاجل أبدا, ولو فعلت لبطلت شرعا, أخلاقا رفيعة سامية تتحقق على الأرض لتلامس عنان السماء؟

ألا تدل الشبهة في صورتها التي تمثلت في سؤال "عقل تائه" على افتراض وجود التزام أخلاقي لدى المؤمن؟ فهل هذا الإلتزام يساوي في قوته وانضباطه التزام الماديين بأخلاقهم أن يفوقه بمراحل؟

هل يقتصر التزام المؤمن الأخلاقي ببعض الواجبات الأولية المجمع عليها بين الأسوياء أم أنه يتجاوزه إلى منظومة من الواجبات والمستحبات والفضائل المتدرجة وفق سلم حكيم للقيم؟

هل يتغير أثر الأخلاق القرآنية في واقع الناس بسبب مراقبة أهلها لربهم؟ بعبارة أخرى: هل تفقد هذه الأخلاق شيئا من قوتها ورونقها بسبب أخلاص أصحابها؟ أم أنها ترتفع وتسموا بمقدار إخلاصهم وصدقهم في معاملة ربهم؟

لو سقطت منك محفظة مالك في غفلة منك, فهل تتمنى أن يجدها إنسان مادي ليس معه من الرصيد الأخلاقي إلى فطرته وهذه التشريعات الوضعية؟
أم أنك سترجو أن يجدها مؤمن مخلص لربه, صفت فطرته وازدادت صفاء لورود شمس الشرع المطهر؟
هل تشك أن احتمال رجوع مالك إليك يتضاعف أضعافا مضاعفة إن وجده من يترجح معه حفظ اللقطة وتعريفها وردها, لأنه يتعبد الله بذلك؟
هل سيدور اعتراضك الأول بخلدك لو رجع إليك مالك؟ هل ستقول: هذه ليست أخلاقا حقيقية لأنها تستشرف الجزاء الأخروي؟ أم أنك ستنظر إلى سمو هذا الخلق ونبله, وستقر أن إخلاص صاحبه يزيد أخلاقه بهاء ونبلا؟

سنعرض بإذن الله لاحقا إلى طبيعة الإلتزام الأخلاقي لأهل الإيمان لنزيد الشبهة المتهافتة نقضا.


(يتبع إن شاء الله...)

هشام بن الزبير
01-01-2011, 04:20 PM
الشبهة المطروحة للنقاش تسعى للتقليل من شأن الأخلاق الإيمانية, وتنطلق من دعوى عريضة تفترض أن هذه الأخلاق ليست إلا استجابة وخضوعا لسلطة قاهرة, وليست إلا سعيا وراء الثواب وفرارا من العقاب. ومن هذا الافتراض ينطلق المخالف الجاهل لحقيقة الأخلاق القرآنية إلى استنتاج عدم أخلاقية سلوك المؤمنين.

هل تتطابق الأخلاق القرآنية مع ما ادعاه أصحاب الشبهة؟ أهي مجرد خضوع وإذعان يجعلها لا تستحق صفة الأخلاقية؟

الأخلاق لا تقوم لها قائمة من دون إلزام, والإلزام الأخلاقي يفترض حرية الإختيار, فهل يختلف المؤمن عن الملحد في هذا؟ المؤمن تبلغه الشريعة فيعرضها على ضميره فيقبلها فيصبح الإلزام الأخلاقي التزاما. تصير القضية قضيته, وتكون استجابته لوازع داخلي ملك عليه أركان قلبه, فهو يصدق ويوقن أن هذا المنهج الأخلاقي الذي يدين به هو الحق. فالتزامه بمنهج الشرع يجعله هو نفسه حريصا على نيل الخيرات واتقاء المنكرات. ألا تراه حسن الخلق وإن غاب الرقباء؟ ألا ترى أخلاق أدعياء العقل وعُبّاد القانون تنطفئ بانطفاء الأنوار وبانقطاع الكهرباء ؟

فنحن نراقب فاطر الأرض والسماوات وهم يراقبون الآلات والكاميرات, نحن نرجو بأخلاقنا رضوان من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه, ونتقي غضبه, وهم يخشون سطوة قوانينهم القاهرة وغراماتها وتغزيراتها, ولا يرجون إلا السلامة من شررها وشرها.

شريعتنا بلغت حد الكمال, ففيها فرض ونفل, وجوب وتخيير, توبة وتكفير, عزم وترخيص, يسر وتيسير, إنذار وتبشير.
ألا ترى أن الأخلاق في ظل القانون الزائل قفر من ذلك كله؟ ألا تراها عوراء عرجاء شلاء؟ فهي محجوبة بالخلق عن الخالق, لا ترى من الحياة إلا الدنيا, ولا ترى من الكون إلا صورته, ولا ترى من الإنسان إلا جثته, إن القوانين الوضعية وضيعة حقا. إنها فرض وقهر لا تخيير فيه, وصرامة وتشديد لا يسر فيه, ووعيد شديد لا وعد فيه.

فهذه الشبهة التي ظننتها قوية تنقلب عليك. فالأخلاق ليست ضرورة مادية, يعني أن الإنسان وإن كان يقبل بإلزام أخلاقي معين فإنه لا يفقد حريته واختياره, بل إنه يملك في الواقع مخالفة الأمر ومقارفة المخالفة, لكنه لا يملك ذلك شرعا.

الضرورة المادية بخلاف ذلك, فهي ضرورة حتمية قاهرة, فأنت مضطر للأكل والشرب والنوم, لا مناص لك من ذلك. فهل اضطرارك للأخلاق يشبه هذا؟ قطعا لا, الأخلاق تفترض الحرية. إذن ألا ترى أن أخلاق الكفار لا تفسرها الفطرة, فإنها تلوثت وانتكست, فلماذا ترى عندهم أمنا وأمانة ونظاما؟ جوابي هو: البقية الباقية من البصيرة الأخلاقية الفطرية ثم القهر المادي و الرقابة الصارمة و تقنيات التنصت والكاميرات والحرص على المكانة الاجتماعية والخوف من الغرامات المالية الفاحشة وهلم جرا.

أخلاقهم أخلاق رياء, أما أخلاقنا فأخلاق إخلاص, وإن أردت مثالا فإليك المثال: الجرمان يطبعهم الانضباط والسلوك العقلاني, لكن اسأل عنهم حين يسيحون في الأرض, اسأل عنهم الفنادق والشواطئ, انظر إلى حالهم حين تغيب عنهم أعين الرقيب القانوني لغيبتهم عن بلادهم, إنهم في جنوب إسبانيا يصيرون كالدواب الجامحة وكحبات العقد المتفلتة, لأن انضباطهم واستقامتهم على نهج أخلاقي معين لم يكن قط نابعا من التزام ذاتي بل هي إلزام قانوني واجتماعي قاهر.

إن أخلاقهم ثمرة ضغط اجتماعي , فأين الضغط المادي الذي نستطيع أن نعزو إليه أخلاق المؤمنين دون أن نتناقض؟ ما الذي يجعل المؤمنين يلتزمون بكامل اختيارهم بالأخلاق الإيمانية في مجتمعات علمانية يغيب فيه الرقيب البشري على الشرع؟ أليست مراقبة الله والحرص على رضاه وحبه والطمع في فضله والوجل من عدله أخلاقا فاضلة تنأى عنها أبصار الماديين وعقولهم؟
هل توافقني في أن الأخلاق التي لا تقوم ولا تستقيم إلا في حضرة الرقابة والضغط الماديين ليست أخلاقا حقيقية؟ إذن ليست أخلاق الماديين أخلاقا بكل ما تحمله الأخلاق من معنى.
وهل توافقني أن مراقبة الله وإخلاص العبادة له والطمع في رضاه والخوف من عقابه, كلها لا تمت بصلة إلى العالم المادي الأرضي, بل هي من أرقى الأخلاق وأسماها؟ فإن فهمت وجه الجواب, ففيم الإعتراض؟

إذا فهمنا هذه الخصائص التي امتازت بها شريعة الأخلاق في القرآن عن غيرها, بقي سؤال مهم: هل يقوم الواجب الأخلاقي في القرآن على مجرد الأمر به لأنه حق؟ وبعبارة أخرى: هل يخاطبنا القرآن بمثل: إفعلوا كذا لأني آمركم؟ أم أن شريعة الأخلاق في القرآن تحثنا على تأمل قيمة وجمال الخير الذاتية؟
هذا ما سنحاول النظر فيه لاحقا, سعيا لتجلية الحق وطمس الباطل حتى تنقشع سحابة الشبهة ويظهر لكل ذي عينين الفرقان بين أخلاقنا وأخلاقهم, وشتان بين الثرى والثريا.


(يتبع إن شاء الله...)

هشام بن الزبير
01-01-2011, 05:45 PM
أخلاقنا تنبع من القرآن, والقرآن كلام الله ونحن نحب الله ونعبده. والقرآن لا يخاطبنا كما يخاطب القانونيون عبيدهم في جفاء وجفاف وترهيب ووعيد لا ترغيب فيه ولا رحمة. القرآن يقول لنا في سياق الترغيب في الصلح: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
وعند الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج:قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {النور:30}.
وفي الحض على العفو: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) البقرة:237.

تأمل: (والصلح خير) و (ذلك أزكى لهم) و (وأن تعفوا أقرب للتقوى).
فورود هذه المعاني قدر زائد على مجرد الأمر. وورودها في سياق الأمر مشعر بجمال الفضيلة والخير الأخلاقي, القرآن ينبهنا إلى قبول الأمر الأخلاقي لأنه يستحق القبول, لأنه خير في نفسه. القرآن يحثنا على الخير لأنه خير في ذاته, ثم يتفضل علينا بالثواب. لا بد أن تلحظ الفرق بين الإلزام والجزاء.

الملحد يراقب الكاميرات والمؤمن يراقب الله, الملحد ينظر في الأخلاق إلى المنفعة, والمؤمن يلحظ جمال الأخلاق فيتحلى به حبا وإخلاصا لله الذي أمره بها. الإلزام يستلزم المسئولية والمسئولية تستلزم الجزاء. ولا يمكننا تصور أخلاق بدون إلزام, أو بدون مسئولية أو بدون جزاء, لا يمكن أبدا.

الأخلاق الفلسفية وهم. لأنها تصور ذهني مجرد. ليست الأخلاق وصفا لجمال الأخلاق. الأخلاق الحقيقة لها قوة آمرة, إنها تمتلك طاقة ذاتية لتحريك النفس البشرية. الأخلاق الفلسفية لن تخرج عن عالم النصيحة والإرشاد, لأنها تفتقر إلى الإلزام الذي هو ركن الأخلاق الأعظم. فلماذا أقبل أخلاقا ابتدعتها من عند نفسك؟ أخلاق القرآن تعرض على النفس السوية فتلتزم بها حبا وعبادة, ورغبة ورهبة, لأنها استيقنت أن هذه الشريعة الأخلاقية المسطورة في القرآن, والشريعة المطبوعة في فطرتها تخرجان من مشكاة واحدة, لقد علمت أن أخلاق القرآن تكمل أخلاق الفطرة لأن المشرع واحد.

الفيلسوف قد يتصور أخلاقا مجردة خيالية لكنه لن يستطيع أن يحل بها الإشكالات التي تواجه السلوك الإنساني. فماهو تصور الأخلاق الفلسفية للواجب؟ الواجب الأخلاقي عند أحذقهم, ما لا يناقض العقل ويصلح تعميمه كقاعدة أخلاقية عامة. تصور معي المثال التالي: رجل لا يجد حيوانا إلا أطعمه وسقاه, هذا خير, ولا يناقض العقل, هل يصلح لنلزم به الناس كواجب عام؟ كلا, والسبب أنْ ليس كل خير واجبا, وإن كان كل واجب خيرا. إذن العقل لا يدلك إلى على بعض الواجبات الأساسية كالصدق والعدل والأمانة, لأنه يقرأ ذلك في كتاب فطرته, لكنه يتناقض حين يظن أن جميع الفضائل ترتقي إلى درجة الواجبات.

المخرج من هذه المعضلة في القرآن الذي قال: (كتب عليكم الصيام) وقال: (فمن تطوع خيرا فهو خير له). فالأول فرض والثاني مستحب. وفي السنة: ‏"إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ‏ووأد‏ ‏البنات ومنعا وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" (البخاري). فميز الحديث بين مرتبتين من المناهي: الحرام والمكروه.
هذه قسمة رباعية: قسمان تنتظم بهما الأوامر: الواجب والمستحب. وآخران تنتظم بهما النواهي: الحرام والمكروه.
ثم يبقى مجال كبير, للناس فيه فسحة, لا يندرج تحت ما ذكرناه, ألا وهو المباح. وهو ما لم نؤمر بفعله ولا بتركه.

وكلما كانت المشقة شديدة لا تطاق أو كان المكلف في حال اضطرار, خففت عنه بعض التكاليف أو أسقطت تماما, ومثاله قصر الصلاة في السفر وسقوط الحج عن العاجز. فهذه رخص. وفي حال الضرورة يباح للمكلف بعض ما حرم عليه بمقدار ما يدفع به الضرر. وهذا من المعفو عنه.

هل عند الفلاسفة استدراك على هذا التقسيم الحكيم؟
أم أنهم قد لا يفرقون أحيانا بين الواجب وبين الفضيلة ويجعلونهما شيئا واحدا؟ أليس القول بأن لكل إنسان الحق في صياغة قواعده الأخلاقية يفضي إلى جعل المباحات تنقلب إلى واجبات. بحيث يتوافق الناس على سلوك وسط في أدنى درجات الأخلاقية, فيرفعونه إلى مرتبة الوجوب, فتكون أخلاقهم هشة رثة هزيلة؟ أليس جعل تحديد الأخلاق بيد الفرد, نزولا بالأخلاق إلى درك الهوى واتباع نزغات النفس. أو اتباع الآباء والكبراء. وهذان عدوان لدودان للأخلاق وللفضيلة. قال الله تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) وقال: ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.) البقرة: 170.
المؤمن لا ينفتح له عالم الأخلاق الرحيب حتى يخالف الآباء والكبراء الحائدين عن شريعة الحق ويخالف هواه. السؤال الذي ينبغي لنا أن نعرض له فيما يلي هو: هل الرغبة في الثواب والخوف من العقاب هو المحرك الأعظم والأوحد الذي يحرك سلوك المؤمن؟ أم أن هذه الدعوى تختزل في شطط الأخلاق القرآنية؟



(يتبع إن شاء الله...)

أمَة الرحمن
01-01-2011, 09:46 PM
ما أروع هذه الدرر النفيسة!

بإنتظار التكملة على أحر من الجمر.

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-02-2011, 02:47 AM
ما شاء الله تبارك الله ..
بحق يستحق أن يوضع في قائمة الكُـتاب في المنتدى ...

هشام بن الزبير
01-02-2011, 02:08 PM
أخويّ الكريمين,
محب ملتقى أهل الحديث وأمة الرحمن, بارك الله فيكما.

هشام

هشام بن الزبير
01-02-2011, 05:20 PM
إن أخلاق المؤمن أخلاق حقيقية, صحيحة النسبة إليه, لأنه قبل الالتزام بالمنهج الأخلاقي القرآني حين عرض عليه, فنظر فيه بعقله ووزنه بفطرته فألفاه موافقا لما انطبع في نفسه منذ نشأتها الأولى, فصار الإلزام التزاما, وصار التخلق خلقا, وصارت الأخلاق محركا دافعا والجزاء حافزا من الحوافز. أما النية والدافع الأكبر الذي تنبني عليه أخلاق المؤمن, فهو الإخلاص لله رب العالمين الذي يستحق أن يطاع وأن يحب وأن يعبد.

وحتى أزيد المسألة ايضاحا أقول: إن الأخلاق التي لا يحركها إلا استشراف الثواب والخوف من العقاب الماديين لا تستحق وصف الأخلاق. أليست هذه أخلاق كثير من الكفار؟ فإنك تراهم يؤدون الواجبات الاجتماعية والاقتصادية التي فرضت عليهم قهرا, حتى إذا أتموها توقفوا فلم يزيدوا على ذلك قيد أنملة.

ألا ترى كيف يضيق أكثرهم بأبنائهم إذا بلغوا سن الثامنة عشرة, فيتطلعون إلى اليوم الذي يتخففون فيه من عبئهم؟ ألا ترى إلى الأبناء أنفسهم, كيف يترقبون تمام سن الرشد القانونية بفارغ الصبر لينسلخوا من واجبات البنوة؟ ألا تراهم إذا أدوا المكوس والضرائب البغيضة إلى نفوسهم لا يكادون يتصدقون بإنفاق فلس واحد؟

فهل تشبه أخلاقنا أخلاقهم؟ نحن نؤدي الفرض الأكبر, والواجب الأعظم باستمرار لا ننفك عنه, فنؤمن بالله ونوحده ونحبه ونقدسه, ولا نشرك به شيئا, ثم نؤدي الفرائض, فهل بلغك أن المؤمنين يتوقفون عند هذا القدر الذي يكفي للنجاة من العقاب؟ أم أنهم يأخذون أنفسهم بالعزائم تزكية وتهذيبا وتربية؟ ألا تراهم لا يفترون عن تحصيل الفضائل بعد إحكام الفرائض؟ ألا تراهم يتسابقون إلى تحصيل أنواع الخيرات والقربات؟ ألا ترى أثرهم الطيب على الأرض وأهلها؟ ألا ترى إحسانهم يتعدى إلى الناس من حولهم؟

أخرج البخاري من حديث طلحة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة ؟ فقال : ( الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا ) . فقال : أخبرني بما فرض الله علي من الصيام ؟ قال : ( شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا ) . قال : أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة ؟ قال : فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام . قال : والذي أكرمك ، لا أتطوع شيئا ، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفلح إن صدق ، أو : أدخل الجنة إن صدق ) .
الأعرابي يلتزم أمام النبي صلى الله عليه وسلم بالإقتصار على الحد الأدنى من الواجبات الشرعية وأن لا يزيد على ذلك شيئا, والنبي صلى الله عليه وسلم يقره. هذا نص في أن القدر المحقق للثواب والمنجي من العقاب هو المذكور في الحديث.

تأمل هذه المسألة جيدا, فإنها مفيدة في حل الإشكال الذي طرحته. لو اعتبرنا الأعرابي مثالا للمسلم الذي لا يجاوز الفرائض إلى التطوع أبدا, وسلمنا جدلا أنه لا يلتزم بهذا القدر الواجب إلا رجاء الثواب وخيفة العقاب, فهل تؤثر نيته هاته سلبا على أثر أخلاقه في المجتمع؟ هل أداؤه للزكاة مخلصا لله يضر الفقير والمسكين في شيء؟ أم أن النية والعمل عالمان متباينان؟ النية غيب والعمل شهادة.
الناس لا يرون من السلوك الأخلاقي إلى صورته وثمرته النهائية, فمن أين لهم أن يكشفوا عن النية الدافعة لهذا السلوك؟ أي نية المؤمن وقصده الإخلاص لربه, فطالما وُجد الإيمان بالله وُجد الإخلاص له, وطالما وُجد الإخلاص وُجد العمل الصالح. فإخلاص النية لله ضمان لتحقق ثمرة الأخلاق الإيمانية في واقع الناس. فكيف يصح أن تتوَهَّمها أمرا قادحا في حقيقة الأخلاق؟ أليس الإخلاص نفسه من أنفس الأخلاق وأرقاها وأشقها على النفوس؟ بلى, لقد قال سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشدّ علي من نيتي لأنها تتقلب عليَّ في كل حين .

وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
فالملحد يعمل للناس, لأنه يعمل "بقاعدتك الذهبية" فيعمل مترقبا للجزاء المادي العاجل, مستشرفا لثمرة عمله. فالأخلاق عنده أخذ وعطاء, فعل ورد فعل. أليس هذا عملا للناس؟ أليس هذا رياء؟ أليس الرياء نقضا للأخلاق؟

فما المخرج من هذه الورطة الأخلاقية؟ هل نترك العمل الأخلاقي تنزها عن مراقبة الناس؟ أليس هذا تضحية بالأخلاق من أجل ورع كاذب؟ هذان طرفان ذميمان يفضي الوقوف عندهما إلى وأد الأخلاق, فأين الوسط الذي تحيا به الأخلاق؟
إنه العمل لله وحده, إنه إخلاص النية والعمل وحده, إنه مراقبته ومشاهدته.

لو سلمنا جدلا أن سلوك الأعرابي وأمثاله ينزل عن مرتبة الأخلاقية, بسبب اقتصارهم على الواجبات الأخلاقية, فهل لنا أن نعمم هذا الحكم على السواد الأعظم من المسلمين الذين يزيدون على ذلك ما لا يحصى كثرة من الفضائل الأخلاقية التي يتعدى نفعها إلى الأرض والإنسان والحيوان والنبات؟ هل نقول إن النصيحة وطلاقة الوجه والتبسم وإفشاء السلام والإصلاح بين الناس وحسن الجوار وإطعام الطعام و عيادة المرضى وإجابة الدعوة وتعزية المصابين وتشييع الجنائز ليست أعمالا أخلاقية بسبب ترتب الجزاء الأخروي عليها؟

وهل يُتصور عمل بدون جزاء؟ أليس إعجاب الناس وتقديرهم لمن يتحلى بأمثال هذه الفضائل نوعا من الجزاء؟ أليس الإحساس بطمأنينة القلب وراحة الضمير نوعا من الجزاء العاجل؟ هل يقدح شعورنا بذلك الإعجاب وبتلك الطمأنينة في أعمالنا؟ هل تنتفي الأخلاقية لوجود هذه الأنواع من الجزاء؟

روى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: "قيل: يا رسول الله، أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده – أو يحبه – الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن". هذه بشرى عاجلة تأتي ينالها المؤمن دون طلب ولا استشراف, فكيف تقدح في قيمة عمله إلا كما تقدح طمأنينة قلبه وسكينة نفسه؟ كلا, لأن المخلص لربه لا يلتفت إلى سواه أبدا.

لم يبق لي إلا أن أضع "قاعدتك الذهبية" في الميزان, ليتبين للناس, أمن ذهب هي أم من تراب؟ أم أنها هباء لا حقيقة له؟


(يتبع إن شاء الله...)

عساف
01-02-2011, 07:57 PM
ما شاء الله تبارك الله..

هشام بن الزبير
01-04-2011, 06:20 PM
وفيك بارك الله أخي عساف.

خالد المرسي
01-04-2011, 06:54 PM
جزاك الله خيرا أخي هشام ولي عودة للقراءة ان شاء الله

هشام بن الزبير
01-04-2011, 07:10 PM
لكن ما هي حدود هذه الأخلاق إن كانت غير مرتبطة بدين ما؟ أعتقد بأن هذا سؤال إجابته على حسب الشخص نفسه، أنا عن نفسي إن لم أعد أرى أملاً في العودة للدين فسأفكر باتباع ما يسمى بـ the golden rule و التي هي باختصار أن تعامل الناس كما تريد منهم أن يعاملوك. نعم أعرف بأن نفس هذه الفكرة موجودة في كثير من الأديان و منها الإسلام طبعًا، لكن أيضًا يوجد من يتبعها دون اتباع أي دين.



هلُمّ أيها العقل التائه, لننظر سويا في قاعدتك التي زعمتها من ذهب, نقلبها ونفركها, وننفض عن صورتها غبار الألفاظ, لننفذ إلى معناها, لعلنا نتبين حقيقتها و معدنها وقيمتها.
دعنا نتساءل: أتصلح هذه القاعدة لاستنباط الأخلاق, كل الأخلاق؟ وهل تنفع في حل الإشكالات التي تعترض طريق السلوك الإنساني, وما أكثرها من إشكالات؟ وإن كانت لا تقوم لتنظيم عالم الأخلاق بمفردها, فكيف يصح اعتبارها جوابا شافيا وحلا وافيا لمعضلة الأخلاق؟

لقد قلتَ أن لكل شخص أن يحدد حدوده الأخلاقية بنفسه, فجعلت مدار الأخلاق على اجتهاد الفرد ونظره. وهذا موقف كثير من الماديين الذين حسبوا أن الإنسان يبدع أخلاقه. بل صرحوا بضرورة إخضاع الأخلاق للتجربة والنقد باستمرار. فالإنسان في عرفهم يخترع أخلاقه اختراعا, ويعرضها على التجربة عرضا, فيقدم حسب تجاربه ويؤخر, ويثبت وينفي, ويمسك ويطرح, ويبني وينقض. ويغير أخلاقه كما يغير ثوبه ونعله. وهذا تلزم منه لوازم باطلة لا تكاد تنحصر.

فمما يلزم منه, نفي وجود أخلاق موضوعية, مادام الفرد هو المرجع الأوحد للأخلاق. ولما كانت لكل إنسان شخصيته المستقلة, لزم من هذه القاعدة أن تتباين الأخلاق وتتعدد بتعدد البشر وهذا لا يخفى بطلانه. بل إنه لو تحقق لجر إلى الشقاق والتنافر والتنازع.

إخضاع الأخلاق للتجربة مشكل, لأنك إن قمت بعمل معين على سبيل التجربة, ثم حكمت عليه حكما أخلاقيا, فإنك لم تستق هذا الحكم من التجربة, بل من مصدر آخر. مثال ذلك أنك لو أصلحت بين متخاصمين بأن تزعم لكل منهما أن الآخر يذكره بالخير ويثني عليه, ثم تآلف الخصمان وزال الشنآن. فبهذا القدر اكتملت فصول الواقعة وتمت التجربة. ثم يبدأ طور جديد, فقد تحكم عليها باستحسان فعلك نظرا إلى ثمرته الطيبة. فمن أين استقيت هذا الحكم يا ترى؟ هل مصدر الحكم هو التجربة عينها؟ كلا فلو دققنا في هذه الواقعة لما وجدنا أثرا للحكم بالتحسين أو التقبيح في الواقعة المادية نفسها؟ إذن لا بد أن مصدر الحكم الأخلاقي خارج عن حدود العالم المادي كما أسلفت في غير هذا الموضع. العقل يستقي أحكامه الأخلاقية من مخزون الفطرة. وبهذا يبدو خطأ الإغترار المفرط بالمنهج التجريبي المادي, فهو غير ذي جدوى هنا, فليس هذا ميدانه, بل إنه يتيه في عالم الأخلاق لتشعب إشكالاته ودقة سؤالاته التي لا يكاد يحير لها جوابا.

قلتَ إنك ستأخذ بهذه القاعدة إن لم يعد لديك أمل في العودة إلى الدين: فتعامل الناس وفق ما تحب أن يعاملوك به. مادمت لم تجزم بالإلحاد فإن فيك بقية من خير وبقية من شك, فلعلك تعود إلى دين الفطرة بزواله, لذا أدعوك لنتمعن سوية في هذا الموضوع ونجلي حقيقة أخلاق القرآن حتى تنقشع سحائب الشبهات وينبلج وجه الحق.

ألا توافقني أن هذه القاعدة التي استعرتها من فلاسفة الأخلاق, تفترض أنك تعرف السلوك الأخلاقي الذي يحبه الناس, فمن أين عرفت ذلك؟ هل عرفته بالتجربة أم بالتعلم أم بالحدس أم بها جميعا؟ هل يقوم أخذك بهذه القاعدة على افتراض أخلاق مشتركة بين الناس؟ فهل تقصد الملكة الأخلاقية الفطرية التي ذكرناها في بداية الموضوع؟

حين تصطدم أخلاقك باستمرار مع أخلاق غيرك ويحدث التعارض والتدابر, سيصبح كل سلوك أخلاقي مطبوعا بالمغامرة والاستشراف والترقب. ستسأل نفسك كل مرة: هل أفعل أم لا أفعل؟ هبني فعلت, فما يدريني أيّ موقع سيقع فعلي من الآخرين, وما تراه يكون موقفهم مني؟ حين تضع قاعدتك على المحك ستتلقى كثيرا من الضربات, وسيخيب ظنك في الناس كلما خالف سلوكهم ما كنت تتوقعه منهم. والأمر المثير للإحباط أنهم قد يبنون أخلاقهم على مثل قاعدتك. هذه القاعدة قالب شكلي هش لأخلاق ذهنية لم تبلغ عند معتنقيها مرتبة اليقين, فلا جرَم أنهم يبدلونها تبديلا وينسخونها نسخا, فهم لم يعرفوا بعد معنى الأخلاق لإنكارهم للوحي المنزل.

سؤالي لك هو: هل تتنازل عن أخلاقك حين يخالف الآخرون السلوك المتوقع بشكل مطرد؟ فأنا أرى أن هذه القاعدة الفلسفية المجردة تفقد بريقها كلما أردت تطبيقها في واقع الناس, فهي لا تصمد أمام الطبيعة المتجددة والمتشعبة لسلوكنا الأخلاقي. والسبب أن السلوك الأخلاقي ليس بهذه البساطة حتى تختزله في قاعدة واحدة.

أما قولك: سأعامل الناس بما أحب أن يعاملوني به. فهذا ترد عليه إشكالات تكاد تذهب بالأخلاق جملة.
الأنانية والأخلاق عدوان لدودان, ألا توافقني في هذا؟ ألا تحس في قاعدتك نفَسا من الأنانية؟ أليس معناها جعل العامل الفردي حكما على الأخلاق عموما؟ ماذا لو كنت تعامل جارك بلطف فتتبسم في وجهه وتحييه, فلا يرد التبسم ولا التحية, كيف ستتصرف؟ هل ستستمر في التبسم وإلقاء التحية كلما لقيته؟ أم أنك ستقول إن التجربة أثبتت فشل هذه الأخلاق؟ و ما هو أثر سلوك جارك عليك؟ هل ستحس بالحرج أم بالغضب أم بالإمتعاض أم بها جميعا؟ كيف ستحكم على سلوكه؟ هل ستقول إنه سلوك غير مهذب وغير لبق؟ أم أنك ستذعن طائعا لنسبية الأخلاق؟ ماذا لو سألته فأجابك بمثل قاعدتك كأن يقول: أنا أحب أن يعاملني الناس كما أعاملهم, أرى التبسم وإلقاء التحية على غير الأقارب والأصحاب تطفلا. فهل سيتغير سلوكك مع الآخرين بناء على هذا التصادم بين خلقك وخلق جارك؟ أم أنك ستصر على نبل خلقك وبذلك للتحية والبسمة, وتحكم على من خالف ذلك بالغلظة والجفاء؟ ألا ترى أن قاعدتك ستجعل من السلوك الأخلاقي مجالا للخلاف والنزاع لأنها تنقل الأخلاق من شمولها وجمالها الأصيل إلى عالم الأنانية الفردية المتقلب؟

ألا يوحي ربط سلوكك بسلوك الآخرين نوعا من ترقب الجزاء الأخلاقي العاجل؟ كأني أسمع استشرافا وترقبا وتوقعا لوقع الأخلاق في المجتمع ورد الفعل الناجم عنها. فما هو الموقف الأخلاقي الأمثل حين وقوع التعارض بين سلوكي وسلوك الآخرين, كيف أتصرف إذا قوبل إحساني بالإساءة والنكران. هل أرد الصاع صاعين أم أكتفي بالحياد الأخلاقي؟ القرآن يحلق بك في سماء الأخلاق ليزيح عنك هذا الإشكال فيأمرك ببذل المعروف بإخلاص وتجرد: ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فصلت: 34.

تبينا في المثال السالف خطورة جعل الأخلاق قضية فردية بحتة في حال الأفعال الأخلاقية الإيجابية. أما في حال ارتكاب مخالفات أخلاقية فيصبح الأمر أكثر تعقيدا. مثال ذلك أنك إذا تأخرت عن الوفاء بالتزام قطعته على نفسك, فماذا تتوقع ممن تتضرر بسببك, هل تحب أن يعذرك أم أن يحاسبك بصرامة؟ وماذا عن نفسك, هل تحاسب نفسك على إخفاقك الأخلاقي كما تحاسب الآخرين؟ أم أن هذه القاعدة تصبح معرضة لرياح الهوى ونوازع النفس؟ ألسنا ننزع إلى التشدد في نظرنا إلى أخطاء الآخرين وإلى السماحة تجاه أخطائنا؟

هذه القاعدة تشبه الميزان, وماذا يغني الميزان إن لم تكن تملك شيئا لتزنه به؟ هذه القاعدة قالب شكلي لا مضمون له, فمن أين نستقي أخلاقنا التي سنخضعها لهذه القاعدة؟ ألا تفترض سلفا وجود هذه الأخلاق؟ ألا توافقني على وجود أخلاق يستحسنها الجميع وأخرى يستهجنها الجميع؟ ألا تقر مع بوجود معروف ظاهر حسنه ومنكر باد قبحه؟ هل تكفي قاعدتك للكشف عن ذلك كله؟ إذا كانت الأخلاق علما ,على مذهب الفلاسفة, فإنه من السذاجة أن نتوقع استنباط حقائقه بقاعدة واحدة, كما لا نتوقع استنباط النحو أو المنطق أو الرياضيات من قاعدة واحدة.

وهل تنحصر الأخلاق في معاملتك للناس؟ هل ستتوقف عن العمل الأخلاقي حين نعزلك عن المجتمع؟ هل ستنتفي مسئوليتك الأخلاقية؟ أم أنك ستحتفظ بواجبات أخلاقية تجاه نفسك, ما دمت محتفظا بإنسانيتك؟ من أين لك أن تحدد بدقة واجباتك تجاه نفسك؟ وهب أنك حددتها, فمن أين تستمد القوة والطمأنينة واليقين في مواقف الضعف والاضطراب والشك؟ لعلك تستمدها ممن تتخذهم أسوة ومثالا تحتذيه, ماذا لو سقطت الأسوة وانتكست القدوة وسقط اللواء الذي تأتم به؟ أدع لك الجواب وأجيب عن نفسي, فأنا أستمد القوة من الباري ذي الجلال والإكرام, وبهذا ترجع الأخلاق إلى أصلها الأول وإلى مصدرها الأصيل, ألا وهو معاملة الله عز وجل وعبادته وتوحيده والتوكل عليه والتزلف إليه.

الأخلاق لا تنحصر كما توهت في معاملة الخلق, بل هي أعم من ذلك وأشمل, إذ أن لنا واجبات أخلاقية تجاه خالقنا وثانية تجاه نفوسنا وثالثة تجاه الآخرين. ولقد جمع ذلك كله حديث معاذ: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" الترمذي: حسن.
خلاصة الكلام أن قاعدتك الذهبية لا تستقل بمعرفة الحق في عالم الأخلاق ولو تمعنت فيها بعدما ذكرناه لأدركت كم كان بريقها كاذبا, ولأيقنت أن ليس كل ما يلمع ذهبا, لكنها تستحيل ذهبا إبريزا إذا ولجت بها إلى شريعة الأخلاق القرآنية, حينها يكون لها شاهدان عدلان من الكتاب والحكمة: قال الله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) البقرة: 44 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه.
لم يبق لي إلا أن أستشهد لثراء الشريعة الأخلاقية القرآنية وكمالها, ثم ألخص هذه النتف التي سطرتها ههنا وأزيل عنها ما اعتراها من حشو وتكرار ليسهل على صاحبنا "العقل التائه" فهم ما نقصده حين نقول: لا توجد أخلاق حقيقية بمعزل عن القرآن. وهذا ما سأحاول إتمامه عاجلا بإذن الله.


(يتبع إن شاء الله...)

هشام بن الزبير
01-04-2011, 10:17 PM
خلصنا في الفقرات السابقة, إلى أن القواعد الفلسفية لا تفضي إلى اليقين في مسائل الأخلاق, وأن البشر وإن امتلكوا حاسة أخلاقية فطرية, فإنهم مفتقرون إلى الوحي لمعرفة جزئيات الأخلاق ومراتبها وأنواعها, وتمييز واجبها من مستحبها, ومعرفة أوجه الترجيح بين الحقوق والواجبات المتعارضة.

وأصل الأخلاق الأعظم هو الخلق مع الله عز وجل. وقد دلت الشريعة على وجوب توحيده ومحبته وعبادته وإخلاص الدين له ودعائه ورجائه وخشيته والحياء منه. كما أمرت بتحمل الأمانة تجاه النفس دون الإخلال بحقوق الناس. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) الأنفال: 27 وقال سلمان لأبي الدرداء: " إن لنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولضيفك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتيا النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فذكرا ذلك فقال له صدق ‏ ‏سلمان" الترمذي: صحيح.

أوجبت الشريعة التوحيد وهو حق الله ثم ثنت بالأمر ببر الوالدين, وقدمت حق الأم, وعلمتنا أن عم الرجل صنو أبيه وأن الخالة بمنزلة الأم. وجاءت الشريعة بالحض على صلة الأرحام وحفظ الجوار وإكرام الضيف وإطعام الطعام والإحسان للفقير والأرملة والمسكين وفك الأسير ورغبت في إكرام اليتيم ومسح رأسه وحفظ ماله.

وامتاز ديننا بحفظ حقوق النساء فجعل تربية البنات من سبل الجنات. وجعل لهن نصيبا في الميراث وفي النفقات. بل كانت النساء من وصاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرحيل. كما بينت الشريعة حقوق الأزواج بما لا مزيد عليه. وحفظت حقوق الأبناء, فأمرت بحسن تخير الأسماء, وبينت آداب العقيقة وأمرت بتربيتهم وحسن تعليمهم. وأمرت بتزويج الأيامى, ويسرت النكاح وحرمت السفاح, وأمرت بغض الأبصار وحفظ الفروج, وأمرت بالإحسان إلى الخدم, وبينت آداب الإستئذان, وفصلت آداب التخلي والطهارة وسنن الفطرة, وآداب اللباس والتطيب والطعام والكلام وآداب المشي والطريق وآداب التعلم والتعليم, وآداب النصيحة والموعظة, وآداب الشورى, وآداب الكسب والتجارة, وآداب المساجد وحلق العلم, وآداب الركوب والسفر وآداب الدعوة وزيارة المريض وآداب التعزية. وهذا باب يصعب استقصاؤه, فقل إن الشريعة جاءت بما يصلح الدينا والدين فكلنا راع وكلنا مسئول عن رعيته.

وإن شئت المثال من القرآن لاقتران مراتب الأخلاق جميعها, فهاك أخلاق عباد الرحمن من سورة الفرقان لتعلم رحابة الأخلاق القرآنية, ولتستيقن أن الفلسفة إنما تقف على عتبة الأخلاق متحيرة, لا تجاوزها, قال الله تعالى:


63. وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا
64. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا
65. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا
66. إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا
67. وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا
68. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا
69. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا
70. إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا
71. وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا
72. وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا
73. وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا
74. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
75. أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا
76. خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا
77. قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا

فتأمل كيف شملت الآيات جميع مراتب الأخلاق وفصلتها أعظم تفصيل. فهاهم عباد الرحمن يؤدون حق الله بالتوحيد والعبادة والدعاء, وحقوق النفس بالتوبة والمجاهدة وحقوق العباد بالقول الطيب وبالإعراض عن الجاهلين. فهل ترى تعارضا أو تفاوتا؟ أم أنك تقر أن هذه الأخلاق قد بلغت مرتبة الكمال التي يقصر عنها كل فكر إنساني متنكر للوحي؟

هنا تم المقصود من هذا الموضوع, إذ أسفر صبح الأخلاق القرآنية وأفلت الفلسفات البشرية, فهل بلغك أيها العقل التائه أن مذاهب فلاسفة الأخلاق تفي بعشر ما حوته شريعة الأخلاق في الإسلام؟ فنحن ندعو من شاء أن يرد منبع الأخلاق الأصيل الفياض, أن يُقبل على القرآن, وأن يدع الفلسفة والكلام, إذ ليس فيهما إلا السراب وفي الشريعة الماء الزلال. وحتى أنسب الفضل إلى أهله, فإني استرشدت في كثير مما سطرته هنا, بدستور الأخلاق في القرآن للإمام الأزهري عبد الله دراز رحمه الله وألحقنا به في مستقر رحمته.
ولي عودة بإذن الله, لألخص رؤوس مسائل هذا الجواب لعل الله ينفعني بها ومن شاء من عباده وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

---------------------------------------
المصادر:
1. القرآن الكريم.
2. صحيح البخاري.
3. صحيح مسلم.
4. سنن الترمذي.
5. دستور الأخلاق في القرآن الكريم. الشيخ محمد عبد الله دراز.


(يتبع إن شاء الله...)

هشام بن الزبير
05-25-2012, 12:05 AM
الزميل ما أريد إلا الحق, ما دمت تكرر نفس الشبهة الساقطة فأدعوك أن تقرأ جوابي هنا, وأترك لك التعليق, فإن أصررت أن أخلاق المؤمن غير حقيقية فأدعوك لفتح موضوع مستقل لنرى حقيقة أخلاق الإلحاد ما دامت أخلاق الإيمان لا تعجبك.

مشرف 10
05-25-2012, 12:18 AM
مداخلة قيمة للدكتور السرداب كتبها قبل شهر :
... الأخلاق نوعان هناك أخلاق مصلحية مجتمعية التي يُسمونها أخلاق النفاق وهذه هي التي تتحدث أنت عنها ... وهناك أخلاق لا مصلحية أخلاق تأتي ضد المصلحة الشخصية مثل أخلاق البذل والفداء والتضحية والمُثُل العليا والزهد والتبتل والإيثار هذه هي الأخلاق الأصيلة والتي يعتنقها بالمناسبة جميع البشر ويعرف قيمتها جميع البشر وهي أخلاق لا مصلحية لا منفعية تأتي ضد المصلحة الشخصية وكما يقول نيتشه فإن قصور الإنسان في القوة ناتج عن التزامه الأخلاقي وعندمـا يُمارس الملحد الأخلاق فهذا فيه اعتراف ضمني بأن الأخلاق لا مصلحية ولا منفعية وفيه اعتراف ضمني أيضا بأن الإنسان ليس مُخيـر في رفض التكليف الإلهي فالجميع يعترف بقيمة الأخلاق اللامصلحية اللامنفعية ولو قلت أنها مصلحية بشكل ما فقد أنتقلت للنوع الأول ...!!

أما عن التنعم في الآخرة مقابل الالتزام الأخلاقي فالإلتزام الأخلاقي في الأصل له قيمته الذاتية ولذا حتى الملحد يعترف بالإلتزام الأخلاق ويحترم الشخص الزاهد أو المترفع عن الماديات أما عن قضية التنعم في الآخرة فالإيمان بالغيب وبالحساب الأخروي هو في حد ذاته أقسى من الإلتزام الأخلاقي وقيمة منفصلة وتداخل القيمتان في تحليلك للمسألة يبين أنك لم تستوعبها جيدا

أمَة الرحمن
01-26-2014, 05:33 PM
فما الذي يترتب عن وجود هذا العلم الأخلاقي الأولي داخل النفس, أليس من المنطقي أن يترتب عليه العمل؟ ألا يقتضي التكليف العمل؟ ألا أيقتضي المسئولية؟ ألا تفترض المسئولية الجزاء؟

ما أعجب أن يسهو الإنسان عن معانٍ هي من البداهة بمكان!

بالفعل.. وجود هذه الحاسة الأخلاقية في النفس هي وحدها دليل على المسئولية و الجزاء الأخروي. فما معنى أن نعي بالفطرة أن هذا الفعل صواب أخلاقياً و ذاك الفعل منكر أخلاقياً اذا لم يترتّب على مفهوميّ "الصواب" و "المنكر" نفسهما ثواب و عقاب؟؟

و ما أكذب من يقول أن التزام المؤمن بالأخلاق نابع من خوفه من العقاب و طمعه بالثواب لا أكثر! بل و الله إن تذوقَ الإنسان لجمال الأخلاق يقوى كلما قَوِيَ ايمانه، فيحب الصدق لذاته و يحب العفة لذاتها الخ. و هي و الله حالة وجدانية عصية على الوصف، لكنني أستشعرها بنفسي و بقوة حين يسمو ايماني بالطاعات أو يهبط بالمعاصي. فكلما تقرّبت من الله بما يحبه و يرضاه كلّما ازدادت الفضائل الأخلاقية جمالاً في نظري و كلّما ازددتُ نفوراً من الرذائل لكونها قبيحة في ذاتها.

و ما أبلغ قوله ( ص ): (إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق).