د. أحمد إدريس الطعان
09-04-2005, 01:13 PM
الشغف بالغرب
والأزمة النفسية للمثقف المسلم
د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة – جامعة دمشق
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com
:emrose: :emrose: :emrose:
تمهيد :
لقد وقعت معظم البلدان العربية والإسلامية تحت نير الاستعمار الغربي فالجزائر منذ عام 1830 م خاصعة للاستعمار الفرنسي ، وتونس منذ عام 1881م ، ومراكش منذ عام 1912م وأما العراق فقد وقعت تحت براثن الاحتلال الإنكليزي سنة 1914م وفلسطين عام 1918م ومصر 1882م والهند 1857 م .
ورافق هذا الاحتلال محاولات متواصلة وجهود مكثفة لقطع الشعوب الإسلامية " الغافية " عن ماضيها وتراثها ودينها ولغتها ، وصبغها بصبغات غربية ، وإشاعة الفواحش والمنكرات والعادات الغربية بين أبناء المسلمين، وساعد على ذلك الفقر الشديد الذي تعانيه المجتمعات الإسلامية نتيجة للاستعمار، والحكام والملوك المستبدين الذين صنعهم الاستعمار ووطد سلطانهم لخدمة مصالحه واستفحل نتيجة لذلك الجهل والأمية، وظل التعليم محصوراً في بعض الطبقات الثرية ، والأسر الأرستقراطية .
وقد أدرك المستعمر أن تغيير الفكر، وغسل الأدمغة يجب أن يتم قبل أي مشروع آخر وذلك لتسهيل مهمته في استعباد الشعوب واستغلالها، وجعلها دائماً في دوامة التبعية الحضارية والحاجة إلى الوصاية والانتداب، فكانت دراسات المستشرقين الهائلة التي وُظِّفت لها أموالٌ طائلة وبُذلت من أجلها جهودٌ جبارة، وكانت في معظمها قائمة على التزوير والتحريف والافتراء ( ) .
ومن هنا ظلت أعين المسلمين دائماً تنظر إلى النتاج الاستشراقي بالريبة والحذر بل غالباً ما يتعامل معها المسلمون على أنها جهود استعمارية معادية ، والحسن فيها استثناءً نادراً، ولذلك رأى المستعمر أن يصنع لهذه الأمة قادة من أبنائها يربيهم على موائده ، ويعلمهم في معاقله ، ثم يفيض عليهم من إحسانه ، ويمرغهم في إنعامه ، ويغمسهم في ملذاته ، ويسديهم من خيراته ، ثم يضفي عليهم من الشهرة والمجد ما يجعلهم محط الأنظار وقادة الأفكار ، ورواد الإصلاح ، وزعماء التجديد ،وقد كانت هذه نصيحة زويمر للمبشرين : "" تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها "" ( ) .
وهذا ما فعله الغرب المستعمر فأبرز من أبرز وطمس من طمس ، وكان الذين برزوا هم الذين أخلصوا لسادتهم المستعمرين ، وتحقق هؤلاء السادة من عمالتهم ودناءتهم فجعلوهم نجوماً للأمة يَهدُونها إلى التغرُّب ، ويزينون لها التأوْرُب .
وقد تناولت هذه المسألة في مطلبين وخاتمة :
المطلب الأول : الأزمة النفسية والانسلاخ من الذات .
المطلب الثاني : مراجعة نقدية .
خاتمة البحث .
المطلب الأول
الأزمة النفسية والانسلاخ من الذات
أولاً : نموذجان من مصر :
إن التغرب هو القنطرة التي عبرت عليها العلمانية إلى الشرق ، وهذا التغرب لم يكن لحظة انبهار ، لأن الانبهار كما أشرنا يزول سريعاً فتبدو الأشياء على حقيقتها ، وإنما كان لحظة عمى وعمهٍ حضاري ، كان لحظة تعاقـد تآمري أو على حد تعبـير د. محمد عمارة : "" عمالة فكرية وحضارية "" ( ) .
ونريد هنا أن نختار نموذجين لهذا التغرب هما سلامة موسى وطه حسين ، ولكن قبل ذلك يجب أن أشير إلى أن التغرب كان قد استشرى على كافة المستويات والحقول الفكرية من أدب وفن وفلسفة وتاريخ وحضارة ، واستولى على كثير من عقول النخبة ، وظهر ذلك عبر شكلين : - الدعوة إلى تبني النموذج الغربي في كل شيء .
- الدعوة إلى القطيعة المعرفية الكاملة مع التراث العربي والحضارة الإسلامية .( )
ولقد كان سلامة موسى يمثل ذلك إلى أبعد الحدود وتزامنت دعوته إلى التغرب مع إلغاء الخلافة في تركيا ، والقضاء على كل مظاهر الإسلام فيها ، كما تزامن مع صدور كتابين يسيران في نفس الاتجاه التآمري هما كتاب " الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق سنة 1925 م وكتاب " في الشعر الجاهلي " لطه حسين 1926 م ( ) وكانت مقالات سلامة موسى في هاتين السنتين جمعت في كتابه " اليوم والغد " ( ) . فكيف عبر سلامة موسى عن إخلاصه لسادته الأوربيين ؟
سلامة موسى لا يحمد الله [ عز وجل ] وإنما "" يحمد الأقدار لأن الشعب المصري لا يزال في سُحنته ونزعته أوربياً ، فهو أقرب في هيئة الوجه ونزعة الفكر إلى الإنجليزي والإيطالي ، وكذلك الحال بنظره في سوريا وشمال إفريقيا العربي فإن سكان هذه الأقطار أوربيون سحنةً ونزعة ، فلماذا لا نصطنع جميعاً الثقافة والحضارة الأوربيتين ، ونخلع عنا ما تقمصناه من ثياب آسيا... هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب ، وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوربا في العصر الحديث ، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب ، ويتنصلون من الشرق "" ( ) .
ويسخر من الرابطة الشرقية والدينية فيقول : "" وإذا كانت الرابطة الشرقية سخافة فإن الرابطة الدينية وقاحة "" ( ) ويرى - كما يرى طه حسين - أن مصر أقرب إلى الغرب ، وعليها أن تتضامن معه وترتبط به فما لها وللهند ولجاوة ، عليها أن تتوجه إلى "" السويسريين والإنجليز والنرويجيين هؤلاء النظاف الأذكياء "" ( ) .
ولا ينسى الرجل أن يكشف عن جهله بحماقة نادرة عندما يزعم أن العرب في الأصل ليسوا شرقيين ، وإنما أصبحوا كذلك "" بتوغلهم في آسيا إلى حدود الصين ، وأيضا بعادة التسري وعادة الضرار - تعدد الزوجات - اللتين أجازهما لهم الإسلام ، فدخلهم دم آسيـوي وخاصة صيني كثير ، فإن لفظة أَمَة بمعنى جارية هي لفظة صينية وقد دخلت اللغة العربية لكثرة الإماء التي كان يشتريها العرب من الصين "" ( ) .
هذه العبارة محشوة بالأكاذيب المكشوفة والمضحكة ولا تحتاج إلى رد ، وعلى التزويريين الذين يشيدون بسلامة موسى ويسبحون بحمده أن يخجلوا من أنفسهم لأن كلمة أَمَة وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية قبل أن يختلط العرب بالصين أو غيرهم ( ) .
ثم يتابع الرجل صراحته "" إن هذا الاعتقاد بأننا شرقيون قد بات عندنا كالمرض ، ولهذا المرض مضاعفات فنحن لا نكره الغربيين فقط ، ولا نتأفف من طغيان حضارتهم فقط ، بل يقوم بذهننا أنه يجب أن نكون على ولاء للثقافة العربية فندرس كتب العرب ، ونحفظ عباراتهم عن ظهر قلب - كما يفعل أدباؤنا المساكين أمثال المازني والرافعي - وندرس ابن الرومي ، ونبحث عن أصل المتنبي ونبحث عن علي ومعاوية ، ونفاضل بينهما، ونتعصب للجاحظ ونحاول أن نثبت أن العرب عرفوا الفنون … وكل ذلك إنما يدفعه في أنفسنا كراهتنا للغرب، وأنفتنا من جهة ، واعتقادنا أننا شرقيون من جهة أخرى "" ( ) .
هكذا يصبح الاحتفاظ بالهوية مرض ، والاعتزاز بالذات داء يحتاج إلى علاج عند سلامة موسى ، والعلاج هو القضاء على التعصب المركوز في نفوسنا ، ولكن التعصب " المرض " هو التعصب للعرب أما التعصب للغرب فهو عين العافية ، وروح التحضر .
ويتابع الرجل مخلصاً !! : "" إنه ليس علينا للعرب أي ولاء ، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم ، فيجب أن نعودهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث ، لا بالأسلوب العربي القديم ، ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من العرب ، وليس معنى هذا تحريم درس العرب وتاريخهم وثقـافتهم ، فإن العرب أمة قـديمة ، يجب أن يكـون لها أثريون يدرسونها كما يدرسون آشور وبابل "" ( ) . المصريون أرقى من العرب لماذا ؟ لأنهم يمتلكون الأهرامات والعرب لا أهرامات لديهم ، ولديهم فراعنة ولا فراعنة عند العرب ، والعرب أمة منـدثرة تحتاج إلى أثريين ؟ ثم ماذا ؟ ثم : "" إننا نحتاج الآن ما يهيج قلوبنا ، ويملؤها تفاؤلاً بالحياة ، ولن نجد ذلك إلا بارتباطنا بالغرب واصطناع ما عند الغربيين من رقص وألحان وموسيقى ، وأما الشعر العربي فقد سئمنا قوافيه الرتيبة التي تشبه دق الطبل عند السودانيين "" ( ) .
ويخطر في البال سؤال! أيهما الذي يهيج القلوب ؟ الشعر العربي أم الرقص الغربي ؟ وما صلة الرقص الغربي بالقلوب ؟ لقد أشار رفاعة الطهطاوي أن الرقص الغربي يتعاطونه على أنه لون من ألوان الرياضة والرشاقة والفن تتعاطاه المرأة في الحفلة الواحدة مع أعداد كبيرة من الرجال دون أي حرج فَصِلته بالأعضاء وليس بالقلوب ( )، ولكن يبدو أن سلامة موسى لا يميز بين قلبه الذي يُحتَضَر، وأعضائه الأخرى التي تهيج عندما يشارك الغربيين في رقصهم ومجونهم.
وماذا أيضاً ؟ :
إنها اللغة التي يحفظها القرآن ، وتحفظ هي هوية الأمة من الانحلال والذوبان ، إنها بنظر سلامة موسى بدوية عاجزة ، وليست راقية كالإنجليزية "" لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي نعيش بين ظهرانيها الآن ، فها أنا ذا في غرفتي لا أعرف كيف أصف أثاثها بالعربية ، ولكني أستطع إجادة وصفها بالإنجليزية "" ( ) . إنها لغة ميتة ، لغة القرون المظلمة ، لغة الشرق السخيف ، إنها كارثة "" إن الفصحى في اعتقادي كانت لغة الكتابة فقط ، أي لغة ميتة حتى في زمن ظهور القرآن ، ولكن تعليم العربية في مصر لا يزال في أيدي الشيوخ الذين ينقعون أدمغتهم نقعاً في الثقافة العربية ، أي في ثقافة القرون المظلمة ، فلا رجاء لنا بإصلاح التعليم حتى نمنع هؤلاء الشيوخ منه ، ونسلمه للأفندية الذين ساروا شوطاً بعيداً في الثـقافة الحديثة ، ونحن إنما ننزع للغة العرب القديمة لما تأصل في أذهاننا من ذلك الفرض السخيف وهو أننا شرقيون يجب علينا أن نحافظ على كرامة العرب وندافع عن تاريخهم ، وهذا الاعتقاد في شرقيتنا يجر علينا عدداً من الكوارث قد لا يكون الولاء للغة أهونها "" ( ). لا شك أنه يقصد أن أعظمها هو الولاء للإسلام .
ولكن ما هو البديل عن الفصحى بنظر سلامة موسى ؟ إنها العامية المصرية، ولكن لماذا العامية المصرية وهي بنظر موسى نفسه ليست مصرية أصيلة وإنما هي – متابعة لـ " ولكوكس الإنجليزي - جاءت مع الهكسوس الذين أقاموا في مصر نحو خمسمائة سنة ؟ ( ) . السبب هو أن الفصحى تجمع مصر بالعرب والمسلمين والشرقيين ورسالته تقوم على سلخ مصر عن العروبة والإسلام ، ولا يمكن ذلك إلا بالتخلص من الفصحى ( ) ، والتخلص من الفصحى يعني "" أن ننظر إلى لغة النـابغة والمتنبي كما ننظر إلى اللغة الروسية أو الإيطالية ، لأنها ليست لغتنا ولسنا نستفيد بدرسها "" ( ) . والطريق إلى ذلك في مصر هو " إلغاء الأزهر " والاكتفاء بالجامعة المصرية لأنها أداة الثقافة الجديدة النيرة ( ) .
لم يكتف سلامة موسى بذلك لأن أسياده يطلبون منه أكثر حتى يمنحوه رضاهم ، فبدأت حدة كلامة تزداد ، وقسوة لهجته تتفاقم حتى طفق يتجاوز الخطوط الحمراء ، وبدا كأنه يدق طبول الحرب على الإسلام والمسلمين في عقر دارهم ، وهو يستغل في ذلك ضعف المسلمين ، وتردي أحوالهم ، ومساندة الإنكليز له ولأمثاله ولنقرأ هذا النص الطويل الذي يعبر عما نقول : "" لقد مضى علينا أكثر من 130 سنة ( ) ونحن في موقف التردد لا ندري هل نحن شرقيون يجب أن نسير على ما سارت عليه آسيا ؟ أم غربيون يجب أن ننضم إلى أوربا قلباً وقالباً ، نعتاد عادات الأوربيين ونلبس لباسهم ونأكل طعامهم ، ونصطنع أساليبهم في الحكومة والعائلة والاجتماع والصناعة والزراعة ، ولقد شرع نابليون يغرس فينا الحضارة الأوربية ، ويزيل عنا كابوس الشرق ، ثم جاء محمد علي فاعتمد على فرنسا في تمدين البلاد … ثم استمررنا نتراوح بين الشرق والغرب حتى زمن إسماعيل حين رأى بنافذ بصيرته أنه لا بد لنا من أن نتفرنج ، ونقطع الصلة بيننا وبين آسيا ، ثم جعلنا نلبس الملابس الأوربية ، ووزع بين أعيان البلاد فتيات من الجركس لكي يتحسن اللون ويقارب البشرة الأوربية … وجاء الإنجليز فساروا بنا شوطاً بعيداً في إدخال الأساليب الأوربية في إدارة الحكومة ، وهانحن أولاء نجد أنفسنا الآن مترددين بين الشرق والغرب ، ولنا حكومة منظمة على الأساليب الأوربية ، ولكن وسط الحكومة أجساماً شرقية مثل وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية تؤخر البلاد، ولنا جامعة تبعث فينا ثقافة العالم المتمدن، ولكن الأزهر يقف إلى جانبها يبث فينا ثقافة القرون المظلمة ، ولنا أفندية قد تفرنجوا، ولكن إلى جانبهـم شيوخاً لا يزالـون يلبسون الجـبب والقفاطيـن ولا يتورعـون من التوضؤ على قوارع الطرق في الأرياف، ولا يزالون يسمون الأقباط واليهود كفاراً كما كان يسميهم عمر بن الخطاب قبل1300 سنة، إنهم شيوخ مأفونون ! يعدون التفرنج رذيلة، مع أنه عين الفضيلة ""( ).
لا نحتاج إلى كثير تأمل في النص السابق لنلاحظ ما فيه من عناصر للتفرنج :
- تحسين لون البشرة لكي يصبح أشقر ، أو أبيض ..!
- اصطناع اللباس الأوربي كالقبعة بدلاً من الجبب والقفاطين !.
- الأفندية بدلاً من الشيوخ المأفونين الذين يتوضؤن في الطرق !.
- الجامعة المدنية المستنيرة بدلاً من الأزهر المظلم ! .
- الكف عن تكفير النصارى واليهود كما كان يفعل عمر بن الخطاب قبل 1300 سنة . لأن عمر بنظره كان مستبداً والبابا أفضل منه ( ) .
وبعد أن انتهى سلامة موسى من حربه المعلنة على الحضارة العربية والإسلامية ينتقل إلى الغزل والغرام بالإنسان الأوربي والإنجليزي "" هؤلاء النظاف الأذكياء "" ( ) "" فإن الإنسان الأوربي أرقى إنسان ظهر في العالم للآن ، والحضارة الأوربية على ما فيها من عيوب تعد بالمئات هي آخر درجات التطور الاجتماعي ، ومن البلاهة البالغة أن يظن أحد الشيوخ أن حضارة بغداد أو القاهرة أو الأندلس كانت تبلغ في السمو عشراً أو جزءاً من مائة مما تبلغه الحضارة الأوربية الآن "" ( ) .
أعقب هنا بالقول :
على العلمانيين أن يكفوا عن اتهام الإسلاميين بالوثوقية المطلقة والتبجيلية البالغة ، والنفي والإقصاء وهم يقرؤون مثل هذا الكلام لأستاذهم التنويري وداعية النهضة . "" إن الإنجليز … أرقى أمة موجودة الآن في العالم ، والخلق الإنجليزي يمتاز عن سائر الأخلاق ، والإنسان الإنجليزي هو أرقى إنسان من حيث الجسم والعقل والخلق "" ( ) .
لقد استشعر – من الشاعرية - سلامة موسى ، ولا غرابة فالغرام والهوى قد يدفع صاحبه إلى الجنون أو الخبل ، لقد كان مجنون ليلى يُقبل الجدران لأن ليلى سكنت وراءها ، ويذوب قلبه عندما تُذكر أمامَه محبوبته ، وهكذا كان حال مجنون إنكلترة أو مجنون أوربا فقد قال : "" وقد يكون اصطناع القبعة أكبر ما يقرب بيننا وبين الأجانب ويجعلنا أمة واحدة ، القبعة هي رمز الحضارة يلبسها كل رجل متحضر … ونحن إذا لبسنا القبعة فلسنا بذلك نلبس لباس أوربا فقط ، بل نصطنع لباساً اتفق المتحضرون على وضعه على رؤوسهم … فإن للمتحضرين عادات يتعارفون بها ويصطلحون عليها ، واتخاذ القبعة من هذه العادات … إننا سنبقى في نظر أنفسنا ونظر الأوربيين شرقيين حتى نتخذ القبعة لرجالنا ونسائنا ونعلن انسلاخنا من الشرق "" ( ) . إن القبعـة – بنظر موسى - تجعـل الأحمق عاقـلاً "" لغرامي بالحضارة الأوربية فإني أحث بني وطني أن يلبسوا القبعة ... لأنهـا تبعث فينا العقليـة الأوربيـة "" ( ) .
في هذه الفترة وفي نوفمبر سنة 1925 م تحديداً كان أتاتورك يفرض على الشعب التركي القبعة غطاءً للرأس ويمنع الطربوش ( ) ويتحدث بلغة سلامة موسى نفسها "" يجب علينا أن نلبس ملابس الشعوب المتحضرة الراقية ، وعلينا أن نبرهن للعالم أننا أمة كبيرة راقية ، ولا نسمح لمن يجهلنا من الشعـوب الأخـرى بالضحـك علينا وعلى موضتنا القديمة البالية ، نريد أن نسير مع التيـار والزمن "" ( ) .
هذا قبس من رسالة سلامة موسى الجريئة ! التي تبعث فينا روح التنوير ، والأمل في الخروج من الظلام ، والرغبة في النهوض ، وتجدد فينا بواعث التقدم ( ) . هذا هو سلامة موسى الذي يمثل في منظور الخطاب العلماني الدعوة إلى التحرير الفكري والعقلي ( ) نمطاً فريداً بين المفكرين المحدثين ، وصاحب الفضل في إشاعة الفكر العلمي بين الناس وتعميمه وتطبيقه على الحياة الاجتماعية . لقد كان معلماً لجيلٍ كامل وقوة اجتماعية دافعة وموجهة ، إنه رائد عظيم ستبقى ذكراه بيننا عطرة ، وسيبقى اسمه شعاراً مضيئاً وملهماً للأجيال ( ) .
وهكذا نرى كيف يصبح التقليد الأعمى تقدماً ، والخيانة تنويراً ، والاستسلام تحضراً ، والانهزام جرأة وشجاعة .
مع أنه كان يكفي سلامة موسى كنموذج يمثل العمه الحضاري الذي يستورد النموذج الغربي العلماني دون وعي في لحظة العشق والهيام بالأَوْرَبة ، فإن هناك عاشقاً آخر من المسلمين هذه المرة وليس من المسيحيين ، ومن الأزهر بالتحديد الصرح الذي تضع فيه الأمة الإسلامية ثقتها وطموحها في مواجهة الغزو الثقافي والغارة الفكرية ، إنه طه حسين الذي توغل في نفس التيار التغريبي فأعلن أن السبيل "" واضحة بينة ، مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء ، وهي واحدة فذة ، ليس لها تعدد ، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم ، لنكون لهم أنداداً ، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، ما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع"" ( ).
إنها الوثوقية المطلقة ، ولست أدري أين ذهب الشكك الديكارتي الذي دعا إليه طه حسين في " الشعر الجاهلي " ( ) ؟ لماذا لا تكون هناك مسالك أخرى للحضارة تختلف عن المسار الذي سلكته حضارة أوربا ، ثم لماذا ما يُحب وما يُكره ، وما يُحمد وما يُذم ؟ لماذا لا تكون الأولى دون الثانية ؟ أم أن " الما " يكره من أوربا ، و" الما " يعاب منها له مذاق آخر لا بد من تذوقه في نظر عميد الأدب العربي !؟ .
ويدعو طه حسين أمته إلى الاستسلام والإذعان ما دامت قد كُبلت بالمعاهدات ، وقٌيدت بالامتيازات ، لأنه ليس أمامنا خيار آخر فقد "" التزمنا أمام أوربا أن نذهب مذهباً في الحكم ، ونسير سيرتها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع ... فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً ، ولوجدنا أمامنا عقاباً لا تجتاز ولا تذلل ، عقاباً نقيمها نحن لأننا حراص على التقـدم والـرقي ، وعقـاباً تقيمـها أوربا لأننـا عاهـدناها على أن نـسايرها ونجاريها في طريق الحضـارة الحديثة "" ( ) .
عقبات لأن حياتنا المادية أصبحت أوربية خالصة ، ولأن المثل الأعلى للمصري [ لم يعد الإسلام ونبيه المصطفى ] وإنما الأوربي في حياته المادية ( ) ، وهذا يدل على أننا نسعى لكي نصبح يوماً بعد يوم جزءاً من أوربا لفظاً ومعنى حقيقة وشكلاً ( )، ولذلك فإنه من "" السُّخف الذي ليس بعده سُخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين "" ( ) . ولكي نتخلص من هذه العقدة علينا "" أن نُشعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها ، ونُقوِّم الأشياء كما يُقومها ونحكم على الأِشياء كما يحكم عليها "" ( ) . الأوربي هو المثل الذي يجب أن نترسم خطاه ، ونتلمس رضاه !.
ثانياً : استشراء الداء في العالم الإسلامي :
كان هذا في مصر متزامناً مع ما يحصل في العالم الإسلامي والعربي من دعوات تردد نفس النغمات وكأنها تصدر عن عازف واحد في أبواق متفرقة ، والعازف هو الغرب المستعمر فعلاً ، والأبواق هم صنائعه المتفرقين في البلاد الإسلامية . لقد عبر سارتر عن هذه الصناعة بصراحة مدهشة عندما قال : "" كنا نُحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا ، ونطوف بهم بضعة أيام في لندن وباريس وأمستردام ، فتتغير ملابسهم ، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة ، ويرتدون السترات والسراويل ، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا ، وكنا نزوج بعضهم من أوربا ، ونلقنهم أسلوب الحياة على أثاث جديد ، وطرز جديد من الزينة ، واستهلاك أوربي ، وغذاء أوربي ، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا ، والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا ، ثم نرسلهم إلى بلادهم حيث يرددون ما نقوله بالحرف تماماً مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض ، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم ، وحينما كنا نصمت كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضاً ، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاساً صادقاً وأميناً لأصواتنا من الحلوق التي صنعناها ، ونحن واثقون أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم ، وليس هذا فحسب ، بل إنهم سَلبوا حق الكلام من مواطنيهم "" ( ) .
لقد كان في تركيا ضياء كوك ألب 1875 - 1942 م يردد نفس ما يردده سلامة موسى وطه حسين فدعا إلى سلخ تركيا من ماضيها القريب ، وتكوينها تكويناً قومياً خالصاً ، واعتبر تركيا صانعة للحضارة الغربية ومشاركة فيها ، لأنها امتداد لحضارة المتوسط ، ويبدو أنه أول من طرح فكرة " الحضارة المتوسطية " ، أملاً في الانضواء تحتها دون شعور بالنقص والدونية كما نصح جاك بيرك فيما بعد عندما قال : "" فإذا قبل العرب الدعوة المتوسطية يتخلصون تماماً من تناقضهم مع التفرنج ، ذلك أنه يصبح سمة طبيعية لا مفروضة عليهم "" ( ) .
وكما قرر وحسم طه حسين يقرر ويحسم ضياء كوك ألب بقوله : "" الحضارة الغربية هي الشارع الوحيد إلى التقدم "" ( ) . "" علينا أن نختار إحدى الطريقين إما أن نقبل الحضارة الغربية أو نظل مستعبَدين .."" ( ) . للغرب طبعاً ! . إنه طريق سهل لتحقيق حلم طالما انتظره العالم الغربي المسيحي وسعى بكل الوسائل لتحقيقه على مدى قرون عديدة وهو سلخ تركيا من جلدها الإسلامي حتى العظم ( ) .
وقد قام أتاتورك 1881 ، 1934م بتحقيق أحلام ضياء كوك ألب وسلامة موسى ، فكان يعتبر نفسه في حالة حرب مع الشعب "" انتصرت على العدو وفتحت البلاد ، فهل أستطيع أن أنتصر على الشعب "" ( ) . وألغى الخلافة في 3 آذار " مارس " 1924 م وقال "" بأن الإسلام يخنق الطموح في نفوس أصحابه ، ويقيد فيهم روح المغامرة والاقتحام ، والدولة لا تزال في خطر دائم ما دام الإسلام دينها الرسمي "" ( ) .
ولكن كانت أخطر خطوة قام بها في اتجاه التغريب هي إلغاؤه للحرف العربي وإحلال الحرف اللاتيني محله في 1 نوفمبر 1928م وذلك ليضمن تخلص العقل التركي من الهيمنة الإسلامية ، وأصبحت الكتب الإسلامية بعيداً عن متناول القراء ، لأن الحروف التي كانوا يقرؤون بها أُلغيت ، وبذلك ستظل الذخائر العلمية مقفلة وينسج عليها العنكبوت ، ولا يطمع في قراءتها إلا بعض الشيوخ المسنين من العلماء ( ) .
واتخذ أتاتورك خطوات مجنونة لترسيخ العلمنة فأعلنت الجمهورية في 29 أكـتوبر في 1928 م وألغيت وزارة الشؤون الدينية ، وحُلَّت المنشآت الدينية ، والمحاكم الشرعية في نفس العام ، واتُّخذت القبعة غطاءً للرأس في نوفمبر 1925م ، وحُلَّت الطرق الدينية في 30 نوفمبر 1925م وتم تغيير التقويم السنوي الهجري في ا جانفي 1926م وتم وضع قانون جزائي جديد تبنى القانون السويسري في أكتوبر 1926م وألغى اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة في 10 أبريل 1928 م ، ورفع الأذان بالتركية في 3 فيفري 1932 م وانخفضت نسبة المسلمين في تركيا إلى 95 بالمائة بعد تبادل عدد من السكان مع اليونان ( ) .
ومع كل هذا فإن أهم سمة تلفت الانتباه في سلوك الأتراك هي أن رسوخ العقيدة الدينية وعمقها لم تتغيرا ، وما زالا يفعلان فعلهما في مجموعات واسعة من الشعب التركي منذ خمس وعشرين سنة ( ) . وبعد هذه الفترة الطويلة من سياسة العلمنة ، ومع كل ذلك أيضاً لا يزال العلمانيون الأتراك يعتبرون ذلك انتصاراً للظلامية على العلم ( ) .
أما في الهند فقد ظهر سيد أحمد خان 1817 – 1898 م وكان متعاوناً مع الإنجليز وسعى في إخماد ثورة 1857م وكافأته الحكومة الإنجليزية براتب شهري ، وهو مثله مثل طه حسين وسلامة موسى وضياء كوك ألب يردد نفس الكلام الذي عبر عنه سارتـر آنـفاً ، يقول أحمـد خـان : "" لا بد أن يرغب المسلمون في قبول هذه الحضارة الغربية بكمالها حتى لا تعود الأمم المتحضرة تزدريهم أعينها ، ويعتبروا من الشعوب المتحضرة المثقفة ( ) . وفي إيران قال تقي زادة : "" فلنلق بقنبلة الاستسلام للأوربي في هذه البيئة ولنفجرها والخلاصة : لنصبح أوربيين من قمة الرأس إلى أخمص القدم "" ( ) . إنه صوت واحد ينبعث من الغرب عبر أبواق متعددة موزعة في البلاد الإسلامية .
وفي تونس عبر عبد العزيز الثعالبي – قبل اعتداله – عن استسلامه للحضارة الغازية واستلابها لعقله ورشده وذلك عندما دعا إلى تأويل القرآن تأويلاً صحيحاً ويكون ذلك بنظره بمطابقته لمبادئ الثورة الفرنسية حتى يصبح الإنسان المسلم متحضراً راقياً ، ويستشهد لذلك بحال مصر فلولا فرنسا لما رأينا اليوم ما تشهده مصر من نهضة وتقدم ( ) كان ذلك في الوقت الذي ترتكب فرنسا فيه الفظائع مع الشعب التونسي ولكن الثعالبي لم يكن يرى ذلك لأنه مشغول بالبحث عما يرضي المستعمرين فيحرف آيات الجهاد كما فعل أحمد خان بالهند ، ويتعاطف مع المحتلين ويعتبر التعاون معهم أجدى الوسائل للحضارة والنهوض ( ) .
ويكشف جوزيف شاخت عن الشوط الذي قطعته تونس في طريق العلمنة : "" وأخيراً قبلت تونس قانون 1956م وأثبتت أنها في مقدمة البلاد التي آمنت بتغيير الفقه الإسلامي فألغيت الأوقاف العامة والمحاكم الشرعية ، وصدرت مجلة الأحكام الشخصية مُسخت فيها أحكام النكاح والطلاق مسخاً شديداً ، حتى لم يعرف شكلها الصحيح ، ومُنع تعدد الزوجات ، واعتُبر جناية تستحق العقوبة ، ومهما زعم أهل الحل والعقد في تونس فإن قانونهم الشخصي يختلف عن القانون التقليدي "" ( ) .
والرئيس التونسي بورقيبة تواقح تواقحاً شديداً فتهجم على القرآن ، وتفوه بألفاظ أثارت سخط العالم الإسلامي فقال : بأن القرآن متناقض ولم يعد يقبله العقل ، ويضرب مثلاً لذلك - يعبر عن غبائه وجهله - بين آيتين قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ( ) و إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ( ) لأنه لم يتعلم في علم الكلام أن كل ما في الكون من تغيير أو تبديل مسجل ومدون كما عَلِمَه الله عز وجل دون أن يمس ذلك اختيارات العباد بأي إلزام أو إكراه ، لم يتعلم أن العلم صفة كاشفة ، وليس صفة ملزمة .
وقال بورقيبة : "" إن الرسول محمد [ ] كان إنساناً بسيطاً يسافر كثيراً عبر الصحراء العربية ، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت ، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن مثال ذلك " عصا موسى " - وهذا شيء لا يقبله العقل بعد اكتشاف باستور – وقصة أهل الكهف ، والله يصلي على محمد وهذا تأليه لمحمد ""[ ] ( ).
المطلب الثاني
مراجعة نقدية
لقد عبر سلامة موسى عن رغبته في شفاء أمته المصرية من مرض التشرق – أي محبة الشرق والعرب والانضواء تحت رايته – واعتبر ذلك مرضاً مزمناً يحتاج إلى علاج ، ونسي أن الاعتزاز بالذات عصامية وعافية وقوة ، وأن أعراض المرض تبدو عندما يفقد الإنسان ثقته بنفسه وأمته ويدعوها إلى تقمص شخصية أخرى . هذا هو مرض " الابتلاء بالتغرب " مثله مثل الوباء، أو لعله أقرب إلى الهرم والشيخوخة ، وقد يكون أشبه بالعفونة التي تصيب القمح عندما يبدو القشر سليماً والتسوس في القلب ( ) .
واعتبـر سلامة موسى التعصب للعرب هو الداء الذي علينا أن نحاربه لكي نتمكن من التغرب ( ) ، وهو بالفعل مخلص لسادته في تبني هذه الرؤية ، لأن الغرب أدرك ولقن تلاميذه أن التعصب هو الجدار الواقي ( ) الذي يجب أن يهدم ، وهو الحصن الحصين الذي يقف في وجه نفوذه ودخوله إلى المجتمعات الإسلامية ، والتعصب هو البرج الفولاذي الذي يحرس مجتمعاته ، وما دام هذا البرج قائماً فسوف يظل الغرب خارج بوابات الشرق ( ) .
وطالب كل من سلامة موسى وطه حسين أن يُصبَغ التعليم بالصبغة الغربية ، ويُسلك به الطريقة الأوربية ( ) ، فالتعليم الغربي هو طريق التغريب كما يشير المستشرق جب "" هذا هو السبيل الوحيد الذي لا سبيل غيره "" ( ) .
لقد أدرك الشاعر الإسلامي أكبر الإله آبادي 1846 – 1921م خطورة هذه الخطوة في مسخ ذات الأمة والقضاء على شخصيتها وجعلها تابعة ذليلة فقال : "" إن أهل الشرق يقضون على العدو بشدخ رأسه ، ولكن الغربي يغير طبيعته وقلبه "" وقال : "" يالبلادة فرعون الذي لم يصل تفكيره إلى تأسيس الكليات ، وقد كان ذلك أسهل طريق لقتل الأولاد ، ولو فعل ذلك لم يلحقه العار وسوء الأحدوثة في التاريخ "" ( ) . ويعبر إقبال عن خطورة التبعية في التعليم : "" إياك أن تكون آمناً من العلم الذي تدرسه ، فإنه يستطيع أن يقتل روح أمة بأسرها "" ( ). "" إن التعليم هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي ، ثم يُكوِّنها كما يشاء ، إن هذا الحامض هو أشد قوة وتأثيراً من أي مادة كيميائية ، هو الذي يستطيع أن يحول جبلاً شامخاً إلى كوم تراب "" ( ) "" ونظام التعليم الغربي إنما هو مؤامرة على الدين والخلق والمروءة "" ( ) .
والغريب أن المتغربين الذين يريدون الاندماج في الغرب من أجل خلاص الأمة من أزماتها لم يدركوا أن تقمص الأمة لذات حضارية أخرى لا يحل المشكلة بل يزيدها ويولد مشكلة جديدة تتمثل في الضياع أو الانفصام الحضاري مما قد يهدد الوجود ذاته . ولو أدرك هؤلاء لعلموا أن أزمتنا تتمثل في انعدام الاعتماد على الذات أصلاً، وشيوع التواكل بين أفراد النخبة ، وفساد القادة واستبداد الحكام وعدم تبصرهم بمصالح الأمة ، بل عدم التفكير فيها حاضراً فضلاً عن المستقبل ، مما جعل الهوة واسعة جداً بيننا وبين الغرب الذي صنع الآلة ، وسد حاجته منها وبدأ يبحث عن مستهلك ، فوجدنا مهيئين تماماً لنكون سوقاً له ، وما دمنا نعتمد عليه في ذلك فسوف نظل متغربين "" ومن الطريف أننا إذا صنعنا الآلة فسوف نصير مرضى بمرض الآلة تماماً كالغرب الذي يرتفع صوته وصراخه من التكنولوجيا والآلة "" ( ) .
ولكن من الذي قال إنهم لم يدركوا ، إن التغرب يحقق لهم القيادة والنخبوية ، وهذا يقتضي منهم أن يتنازلوا عن ذواتهم ويذوبوا في غيرهم ، ويتنازلوا عن هوياتهم وتاريخهم وكل مقومات إنسانيتهم ، ويأخذوا مقابل ذلك المال ، ولكن العدو أذكى من أن يعطيهم المال ، إنه يعود فيسترده منهم ببضائعه ومنتجاته التي سلبت عقولهم ، وأعمت عيونهم ( ) .
لقد كان الغساسنة والمناذرة متشبهين مقلدين للروم والفرس في كل شيء في لباسهم وفي قصورهم وعاداتهم ، ومع ذلك لم يبنوا حضارة لأن التشبه نوع من المسخ ولا يشكل حضارة ، الحضارة بناها أناس ظلوا محافظين على بداوتهم وعاداتهم ، ولم يحتاجوا أن يلبسوا القبعة ، ولا أن يرقصوا على الطريقة الغربية ، ومع ذلك صنعوا الحضارة وصدروها للناس ( ) .
المتفرنج شبه إنسان ؛ لأن الإنسان الأوربي أخلى باطنه من المحتوى الإنساني والفكري والكيان الخلاق ، حتى أصبح من قمة رأسه إلى أخمص قدميه معدة مفتوحة ، وفماً فاغراً يلتهم المنتجات الأوربية ، ويكافئه الأوربي بأن يدهن له جلده الأجرب المنتن بالدهن الأوربي ، ويلبسه لباساً أوربياً ، ويرجّل شعره على الطريقة الأوربية ، ثم يُشحن بالحركات والسكنات والإشارات الأوربية التقليدية المزيفة الشبيهة بالكليشهات تماماً كما تُعبأ الآلة الحاسبة أو الساعة الرقمية ، ثم يُرسَل إلى قومه ليُعطى الإذن بالعمل ويتحرك كما أراد له سادته ، ويُوصف عـند ذلك بأنه عصري متحضر أمام أبناء جنسه لتُثار فيهم داعية التقليد والاستهلاك ، ولكنه يظل بين سادته يعرف قدره ولا يتجاوز حدوده ، فيتقبل وصفهم له بأنه مقلد متشبه ليظل الشعور بالنقص يلازمه، وتظل جدلية الأم والطفل فعالة ( ). وكلما حاول أن يثبت ولاءه ويقول لسادته لقد صرت متحضراً مثلكم يبتسم الغربي ويقول: لمّا بعد لأننا لا نزال ننتج، ولا نزال بحاجة إلى مستهلكين ( ).
وكلما تسارعت وتيرة الإنتاج كلما ازدادت سرعة الاستهلاك - كما هو الحال في بعض دول الخليج - من أجل اللحاق بالركب المتأورب – لأنهم جاءوا متأخرين - ويظل الغرب سعيداً بهؤلاء الممسوخين الذي لا يملُّون من الركض وراءه ولا يشبعون من نهم الاستهلاك ( ) .
إن المتغرب إذن أوفى مستهلك للصناعة الغربية لأنه لا يفكر بالإنتاج ، وإنما يفكر كيف يستهلك بجنون لكي يواكب المنتجات الحديثة ( ). ولكي يوصف بالتحضر والرقي( ) ولذلك فهو لا شخصية له، وفاقد للأصالة في شخصه ومنزله ومظهره، ولا تفوح كلماته برائحة أي شيء ، بل تمثل في الأغلب كـل شيء ( ). بل إنه حتى نفسه لا يعرفها إلا من ألسنـة الآخرين ، وحقيقـة ذاته يبحث عنها في كتابات المستشرقين ، ويعتبـر نفسه موضـوعـاً تحت مجهر
الاستـشراق ( )، وهو مسرور جذلان ينتظر النتائج بفارغ الصبر، فإن قيـل له خيراً حمـد الله [ عز وجل ] وإن قيل غيـر ذلك لام نفسه وأمته "" وهذا هو أقبـح أنـواع التـغرب ، بل إنه طاعون التغرب ""( ) ، يفتك بالذات حتى تفنى وتتلاشى أو تتحول إلى طاقة جديدة في تيار التأورب والاكتساح الذي لا يتوقف ، ويظل المتغرب كالميت بين يدي المُغسِّل ، فإن من شروط التغرب أن يكون الإنسان سهل القياد بلا جذور وبلا أصول ، ولكي يصل إلى القيادة فلا بد أن يكون خفيفاً فإن "" العادة أن الخفيف هو الذي يطفو على سطح الماء "" ( ) .
لقد فهم الاستعمار وجرب أنه ما دامت الأمة تعتقد أن لها شخصية ، فإن النفاذ إليها ليس بالأمر السهل ، والثقافة والتاريخ في أمة دائماً يؤديان إلى شخصية وتعصب ، ولا بد للاستعمار من أن ينفذ إلى داخلها عن طريق فصلها عن تاريخها وجعلها غريبة عن ثقافتها ، وعندما يرى المفكر نفسه خواء ، فاقداً للأصالة ولا جذور له ، معطوباً في شخصيته ، فلا مفر له من أن يقترب بنفسه عن وعي أو غير وعي من الأوربي ، الذي تبدل في هذه الحالة إلى أصالة إنسانية مطلقة ، وصاحب ثقافة ، وقيم معنوية مثالية وكمال مطلق ، كما تغزل سلامة بالإنجليز ، وقاسم أمين بالفرنسيين ، ويصير مفتوناً به ضائقاً من نفسه ، ويعوِّض بالتظاهر بالسمات الأوربية فقدانَه لخصائصه الأصلية وفقر شخصيته وخلائها ( ) .
أليس هذا هو السبب في أن العلمانيين لا يرون في تاريخنا إلا السواد والظلام ، إنه ممسوخٌ في عقولهم لأنهم قرؤوه بعقول ممسوخة ، ومظلم في أعينهم لأن الغرب ألبسهم نظارات سوداء .
عندما فعـل الغرب ذلك – أي مسخ تـاريخ الأمم المغلوبة – لم يعد لديه شيء آخر يقوم به ، ذلك لأن الأمـم نفسها جاهدت بكراهية وحقد خارقين للعادة في تخريب أنفسها بقدر ما تستطيع ، وتحقير دينها وأخلاقها وأصالتهـا التي مُسخت ، وبشـوق وإصـرار ألقت بأنفسهـا في أحضان الغرب . كالطفل عندما يتعرض لغضب أمه يلجأ إليها هي نفسها من أجل أن يقاومها ويلقي بنفسه في أحضانها ( ) .
هذه الممارسات المسخية والتشويهية والعنصرية التي يتوجه بها الغرب إلى الأمم المغلوبة يدرك أن ممارسته لها لا بد أن تكون بنوع من التحضر ، ولذلك فليس من حقه أن يجاهر بالنكران للشرقي والتجاهل لثقافته ، عليه فقط أن يشعره بأنه عرق من الدرجة الثانية ، وأنه لا يستطيع أن يتجاوز في تفكيره نظريات العرفان ونظم الشعر ، أما الغربي فهو السيد الذي يفكر ويصنع ويحكم لأنه عرق أسمى ، ولذلك يُحقَّق تراثنا الصوفي مراراً بينما تراثنا العلمي تأكله الفئران ( ) .
ولكن السؤال لماذا ؟ لماذا يسعى الغربي لأن يُشعر الشرقي بالدونية حتى كاد سلامة موسى أن ينسلخ من جلده ويستبدله ببشرة أوربية !؟
لأنه عندما يفهم الشرقي أنه من جنس أدنى وفي الدرجة الثانية ، ويعتقد أن الغربي من جنس أعلى وفي الدرجة الأولى وصانع للثقافة ، فإن علاقته به سوف تشبه علاقة الطفل بأمه ، علاقة من هذا الصنف بين الأم والطفل ستقوم تلقائياً على التبعية ، فالمستعمر دولته هي " الوطن الأم " ، أما المستعمرات في آسيا وإفريقيا فسكانها أطفال مفتقرون إلى التربية عليهم أن ينشأوا في حجره ، وهذا ما تكشفه جدلية سوردل إذ تبين أن العلاقة بين الأم والطفل تقوم على أن : الأم تنهر طفلها ، والطفل يلوذ بحضن الأم خوفاً منها وطلباً للأمان ، وهذه الجدلية تنمو بنفسها وتصبح عامل جذب ، وعندما يحس الشرقي أنه غثاء وهباء ، وينتسب إلى دين منحط ، وينتمي إلى عرق وثقافة وتاريخ وأدب وقادة وماض كله منحط فإنه يشعر تلقائياً بالعار ، ويصدق بأنه كذلك منحط ، ومن أجل أن يدفع التهمة عن نفسه يتشبه بالغربي حتى يعبر لهم بلسان حاله : لست من هذا العرق المتهم إنني من صنفكم ، ويتظـاهر بالتحضر والتغرب في سلوكه وتصرفاته وهيئاته وأسلوب حياته في شخصه ومنزله وزوجته ( ). إنه فعلاً منهم لأن "" من تشبه بقومٍ فهو منهم "" ( ) . ولكن الغرب لا يقبله أصيلاً وإنما يقبله متشبهاً ، ولا يقبله مُنتجاً وإنما مستهلِكاً .
إن علي شريعتي في تحليلاته هذه يضع يده على الداء ، ويكشف عن سر المرض الذي أصيب به هؤلاء الممسوخين . لقد هزِئ سلامة موسى من تاريخنا ولغتنا وحضـارتنا واعتبرها لا تساوي شيئاً ، ولغتنا لا يستطيع أن يصف بها أثاث غرفته ، وعمر رضي الله عنه الذي شهد له القاصي والداني والعدو قبل الصديق بالعدل كان – بنظره – مستبداً ، والأزهر يبعث فينا الظلام ، والشيوخ مأفونون لأنهم يتوضؤن في الطرقات ، أما الإنجليز فنظاف أذكياء ، وهم أرقى الناس على الإطلاق ( ) .
وطلب قاسم أمين أن نقتدي بالغرب فنغير قواعد لغتنا العربية لتصبح نهاياتها دائماً سواكن كما في اللغات الأجنبية ( ) ، ويتأفف لاستخدام الناس كلمة السيارة بدلاً من الأوتومبيل ، ويريد أن نتقبل الكلمات الأجنبية في لغتنا بكل ترحيب ، ودون تردد ودون ضوابط ( ) . وتاريخنا بنظر فـرج فـودة كله قتـل وسفك دماء وظلم واستبداد ( ) . وهو كذلك بنظر سيد القمني محاكم تفتيش ( ) واحتلال ( ) وجيوش وسيوف وقسر وإرهاب ( ) وإبادة ( ) .
إن هؤلاء الناس أصابتهم هستريا التفرنج ، بل إن الغرب أقنعهم بأنهم مجروبون فأخذوا يحكُّون جلـودهم حكاً شديداً كأنهم يريدون أن ينسلخوا منها ، ولكن المرض في الحقيقة لم يكن جلدياً وإنما هو نفسي ، ويستطيع طبيب نفساني مجرب أن يعالجهم بالدواء المناسب والوسائل اللازمة، ويعيد إليهم شخصياتهم المفقودة ، ويعيد إليهم وعيهم وإنسانيتهم ، وينتـشلهم من دوامة الشعور بالنقص والحكة والجرب ( ) .
إن هذه اللغة التي لم يجد فيها سلامة موسى ما يعبر به عن أثاث غرفته كانت لغة الحضارة والعلم لبضعة قرون ، ودُوِّنت بها علوم الفلسفة والتاريخ والفلك والرياضيات والأديان والأدب والشعر والوجدانيات ، ولم يجد أهلها حرجاً في التعبير عن كل ما يريدون ، بل كانت لغة طيِّعة مرنة تستجيب لكل متطلبات الحياة وأغراض البشر ، وإذا كان سلامة موسى يعاني من نقص في قاموسه اللغوي ، ويعجز عن تذكر أسماء الأثاث في غرفته ، فليس من حقه أن يُحمِّل اللغـة مسؤولية عجزه وجهله ، لأنه لا توجد لغة في العالم كله عاجزة عن نقل الحضارة ، لأن اللغة تزدهر إذا كانت الأمة مزدهرة ، وتتكـلس وتتقلص إذا جمدت الأمة وتخلفت ، واللغة العربية قادرة - كما فعلت بالأمس - على التجاوب مع الحضارة بمختلف فروعها وأشكالها إذا أراد لها أهلها ذلك ، لأن اللغة تحتاج إلى حوار ومحاورة ، ومساءلة ومجادلة ، ومخاطبة ، وبقدر ما نتجادل معها نجدها سخية ، وبقدر ما نحاول أن نكلمها نجدها مرنة ثرية ، وليس تراجع اللغة العربية اليوم إلا لتخلف أهلها ، وقلة تعاملهم معها ، واتجاههم إلى العاميات أو اللغات الأجنبية فليس لأن لغتنا تخلفت تخلفنا ، ولكن لأننا تخلفنا تخلفت لغتنا ، إن اللغة ليست عامل تخلف ، بل مظهر وتعبير عنه ( ) ، ولو أننا سمينا أجزاء السيارة والطائرة والتلفاز والحاسوب على نحو ما سمى القدامى أعضاء البعير وأقسام السفينة وأجزاء المحراث ، لما بقيت قطع غيار مستخدمات التكنولوجيا بلا تسمية في العربية الحديثة ، ولما وجدنا فقراً في التعبير عن الأدوات والاختراعات المتلاحقة ( ) يتبرم منه سلامة موسى وغيره .
إن أفضل سلاح يواجَه به التغرب هو " العودة إلى الذات " وليس من متطلبات الارتقاء بالذات التخلي عن الدين ، لأن أوربا إذا كانت تقدمت لأنها تركت دينها ، فنحن تخلفنا لأننا فعلنا ذلك ، لأن السلاح الوحيد الذي نملكه للدفاع عن ذاتنا وكياننا هو الدين ، لأن الدين والدنيا لدينا شيء واحد وضياع أحدهما يستتبع ضياع الآخر ، وليس كما يحاول مفكرونا الذين صُنعوا في الغرب أن يقنعونا بأن الدين نوع من التعصب والرجعية والتخلف ( ) .
ولكن قد يسأل سائل إلى أي ذات نعود ؟ أو إلى أي إسلام نعود ؟ فالإسلامات اليوم كثيرة في الواقع الإسلامي ، وشيوخ السلطة جاهزون لتمزيق الإسلام وتحريفه التماساً لرضا أسيادهم ؟ إن الإسلام المطروح والذي يراد العودة إليه هو الإسلام الرسالي نفسه ، الإسلام " المحجة البيضاء ، الواضحة ، التي ليلها كنهارها " – كما جاء في الحديث - ذاك الذي جعل من طائفة من البدو الحفاة أمة استطاعت خلال سنوات قليلة لا تكاد تحسب في عمر الزمن أن تقضي على أكبر امبراطوريتين في العالم ، وخلال سنوات أخرى أن تقيم حضارة فاتحة مسيطرة ، وُلدت منها حضارة العالم اليوم ، الإسلام هو نفسه الذي حوّل عمر بمرقعته – دون أن يحتاج إلى تغييرها - وأبو ذر الوثني قاطع الطريق - دون أن يحتاج إلى حلق لحيته أو تغيير راحلته أو لبس القبعة - حوّلهم إلى فاتحين ثوار وقادة عظماء ، ولم تحُل دون ذلك لحاهم أو مرقعاتهم أو رواحلهم ( ) .
ولكن لأن الذي أصاب أمتنا من جراء التغريب والتأورب هو عملية مسخ وتشويه وليس إنكاراً وتجاهلاً ، والمسخ والتشويه أنكى من الإلغاء والتجاهل ، فمصيبتنا لذلك أشد من مصيبة الأفارقة ، لأن الأفارقة أقنعهم الغرب بأنه ليس لهم تاريخ ولا حضارة ، وهؤلاء يكفيهم أن يعودوا إلى ذاتهم فيكتشفوها ، أما نحن فلم يقل لنا الغرب ذلك ، لقد جاملنا الغرب وضحك علينا وخدرنا وأقنعنا بأننا أصحاب حضارة ، ولكنها حضارة ممسوخة مشوهة مظلمة ، ولذلك فلا يكفينا أن نعود إلى ذاتنا لأنها أصبحت مزيفة ومزورة ، وإثبات التزوير والتزييف مهمة أصعب من إثبات الذات والوجود ( ) .
ولذلك فالعودة إلى الذات القائمة الآن لن يجدينا شيئاً لأنها مطموسة ، قد مُثِّل بها أسوأ تمثيل ، العودة يجب أن تكون إلى الذات الإسلامية الأصيلة " الرسالية " لأنها الوحيدة القريبة من بين كل الذوات ( )، ولأنها الوحيدة التي تجمع شتات القلوب ، وترضاها الجماهير ، وتعبر عن كيان الأمة وشخصيتها وتطلعاتها وطموحاتها ، لن تقبل الأمة اليوم أن يُعبّر عنها فرعون ، ولا آشور ولا بابل ولا تدمر ولا كنعان ، لا تقبل الأمة اليوم بالإسلام بديلاً .
إن الشمولية الإسلامية هي السد الوحيد الذي يقف في وجه التغريب والاستعمار المسيحي الأوربي ، هذه الشمولية التي تحيط بكل كيان الإنسان جسماً وروحاً وعقلاً ، وتلبي كل طموحاته ، وتجيب على كل تساؤلاته هذه الشمولية الجامعة هي الهوية والشخصية والكيان والذات ، والماضي والمستقبل والحاضر، وهي ما تفقده إفريقيا ، ولذلك كانت مادة خام للاستعمار الأوربي تقبلت كثيراً من نصرانيته ، واندمجت في حضارته ، لأنها لم تكن مشمولة برؤية دينية كلية على نحو ما يفعل الإسلام بأتباعه ( ) .
إن الشمولية الإسلامية لا تعني أن يرفض المسلمون الحضارة الغربية مطلقاً دون أن يعترفوا بحسناتها ولكن المسلمين "" إذا تبنوا - كما هو من واجبهم - الطرق والوسائل الحديثة في العلوم والفنون الصناعية فإنهم لا يفعلون أكثر من اتباع غريزة التطور والارتقاء ، التي تجعل الناس يفيدون من خبرات بعضهم ، ولكنهم إذا تبنوا - وهم في غير حاجة إلى أن يفعلوا ذلك - أشكال الحياة الغربية والآداب والعادات والمفاهيم الاجتماعية الغربية ، فإنهم لن يفيدوا من ذلك شيئاً ، ذلك أن ما يستطيع أن يقدمه الغرب لهم في هذا المضمار لن يكون أفضل وأسمى مما قدمته لهـم ثقافتهم نفسها ، ومما يدلهم عليه دينهم نفسه ، ولو أن المسلمين احتفظوا برباطة جأشهم ، وارتضوا الرقي وسيلة لا غاية في ذاتها ، إذن لما استطاعوا أن يحتفظوا بحريتهم الباطنية فحسب ، بل ربما استطاعوا أن يعطوا إنسان الغرب سر طلاوة الحياة الضائع "" ( ) .
ذلك هو موقف العبقري العصامي الذي يعامل الحضارة الغربية بعلومها ، ونظرياتها واكتشافاتها وطاقاتها كمواد خام يصوغ منها حضارة قوية مؤسسة على الإيمان والأخلاق والتقوى والرحمة والعدل في جانب ، والعلم والقوة والعمل والإنتاج والرفاهبة والابتكار في جانب آخر( ). وبذلك نستغني عن النموذج العلماني الذي صدره إلينا الاستعمار عن طريق صنائعه وربائبه ، وسبب لنا اضطراباً في حياتنا وأفكارنا ومعيشتنا وقيمنا وأخلاقنا ، بسبب تصادمه مع أصالتنا ومرجعيتنا ، ومقومات وجودنا .
الخاتمة :
ربما نجد عذراً لأناس بهرتهم الحضارة المادية ووسائل القوة والتكنولوجيا في بداية هذا القرن لأن النور كان قوياً في وسط ظلام التخلف والجهل الذي تعيشه الأمة الإسلامية، ولكن لم يمض وقت طويل حتى ذهب الانبهار، وتلاشى الزبد وظهرت الحقائق جاثمة على صدر التاريخ، وارتد كيد العدو في نحره، فخرج المستعمر مدحوراً من أغلب البلاد الإسلامية، وتكشفت حقائق الدراسات الاستشراقية وما تخفيه من تزوير وتشويه ، واتضح أنها كانت دراسات استطلاعية استعمارية بالدرجة الأولى، ولم يكن التجمل بأثواب البحث العلمي في الغالب إلا لوناً من المداهنة والمراوغة .
ومهما يكن من أمر فإن سلامة موسى وأمثاله من ربائب الغرب كان من الطبيعي في وسط هذا الاختلال الحضاري للأمة أن ينشأ لهم جيل من المروجين والمسوقين لأن الغرب لا يزال يمسك زمام القوة، وفي كل زمان يوجد منافقون يتزلفون للقوي ويتملقونه لكي تُتاح لهم فرصة التعيُّش على الفتات ، وهم اليوم - وللأسف – في عصر الثورة الإعلامية قد تبوؤوا مراكز مهمة جداً وأوصلوا - أو كادوا- رسالة سلامة موسى إلى أوساط مختلفة من الناس، بل إن الرسالة " السلاموسية " أصبحت مثالاً يُحتذى من قبل التنويريين المعاصرين .
ما الذي يمكننا فعله إزاء هذا الخلل الحضاري والفكري ؟ فالنموذج الذي يستحق لعنة التاريخ، وصفعة الأجيال ، أمسى مثالاً للحرية والتقدم والنضال ، وليس ذلك غريباً فنحن في عصر العجائب !! .
ولكن الأدهى من ذلك أن تختل القيم والمعايير الحضارية في هذا العصر فيصبح الاعتزاز بالتراث والتشبث به تخلفاً ورجعية ، بينما التسول على موائد الغرب تقدماً وتحضراً !
حين نعتمد نحن على علمائنا السالفين في البحث عن نافذة إصلاح وتجديد نعد تقليديين أو ماضويين، بينما حين يقلدون هم علماء الغرب ورواده يعدون أنفسهم تنويريين ومبدعين !
في عصرنا أمست العصامية التراثية النبيلة ظلامية مخزية ، بينما التسول الفكري، والسطو على جهود الأوربيين عنوان التحضر والإبداع !! .
:emrose: :emrose: :emrose:
والأزمة النفسية للمثقف المسلم
د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة – جامعة دمشق
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com
:emrose: :emrose: :emrose:
تمهيد :
لقد وقعت معظم البلدان العربية والإسلامية تحت نير الاستعمار الغربي فالجزائر منذ عام 1830 م خاصعة للاستعمار الفرنسي ، وتونس منذ عام 1881م ، ومراكش منذ عام 1912م وأما العراق فقد وقعت تحت براثن الاحتلال الإنكليزي سنة 1914م وفلسطين عام 1918م ومصر 1882م والهند 1857 م .
ورافق هذا الاحتلال محاولات متواصلة وجهود مكثفة لقطع الشعوب الإسلامية " الغافية " عن ماضيها وتراثها ودينها ولغتها ، وصبغها بصبغات غربية ، وإشاعة الفواحش والمنكرات والعادات الغربية بين أبناء المسلمين، وساعد على ذلك الفقر الشديد الذي تعانيه المجتمعات الإسلامية نتيجة للاستعمار، والحكام والملوك المستبدين الذين صنعهم الاستعمار ووطد سلطانهم لخدمة مصالحه واستفحل نتيجة لذلك الجهل والأمية، وظل التعليم محصوراً في بعض الطبقات الثرية ، والأسر الأرستقراطية .
وقد أدرك المستعمر أن تغيير الفكر، وغسل الأدمغة يجب أن يتم قبل أي مشروع آخر وذلك لتسهيل مهمته في استعباد الشعوب واستغلالها، وجعلها دائماً في دوامة التبعية الحضارية والحاجة إلى الوصاية والانتداب، فكانت دراسات المستشرقين الهائلة التي وُظِّفت لها أموالٌ طائلة وبُذلت من أجلها جهودٌ جبارة، وكانت في معظمها قائمة على التزوير والتحريف والافتراء ( ) .
ومن هنا ظلت أعين المسلمين دائماً تنظر إلى النتاج الاستشراقي بالريبة والحذر بل غالباً ما يتعامل معها المسلمون على أنها جهود استعمارية معادية ، والحسن فيها استثناءً نادراً، ولذلك رأى المستعمر أن يصنع لهذه الأمة قادة من أبنائها يربيهم على موائده ، ويعلمهم في معاقله ، ثم يفيض عليهم من إحسانه ، ويمرغهم في إنعامه ، ويغمسهم في ملذاته ، ويسديهم من خيراته ، ثم يضفي عليهم من الشهرة والمجد ما يجعلهم محط الأنظار وقادة الأفكار ، ورواد الإصلاح ، وزعماء التجديد ،وقد كانت هذه نصيحة زويمر للمبشرين : "" تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها "" ( ) .
وهذا ما فعله الغرب المستعمر فأبرز من أبرز وطمس من طمس ، وكان الذين برزوا هم الذين أخلصوا لسادتهم المستعمرين ، وتحقق هؤلاء السادة من عمالتهم ودناءتهم فجعلوهم نجوماً للأمة يَهدُونها إلى التغرُّب ، ويزينون لها التأوْرُب .
وقد تناولت هذه المسألة في مطلبين وخاتمة :
المطلب الأول : الأزمة النفسية والانسلاخ من الذات .
المطلب الثاني : مراجعة نقدية .
خاتمة البحث .
المطلب الأول
الأزمة النفسية والانسلاخ من الذات
أولاً : نموذجان من مصر :
إن التغرب هو القنطرة التي عبرت عليها العلمانية إلى الشرق ، وهذا التغرب لم يكن لحظة انبهار ، لأن الانبهار كما أشرنا يزول سريعاً فتبدو الأشياء على حقيقتها ، وإنما كان لحظة عمى وعمهٍ حضاري ، كان لحظة تعاقـد تآمري أو على حد تعبـير د. محمد عمارة : "" عمالة فكرية وحضارية "" ( ) .
ونريد هنا أن نختار نموذجين لهذا التغرب هما سلامة موسى وطه حسين ، ولكن قبل ذلك يجب أن أشير إلى أن التغرب كان قد استشرى على كافة المستويات والحقول الفكرية من أدب وفن وفلسفة وتاريخ وحضارة ، واستولى على كثير من عقول النخبة ، وظهر ذلك عبر شكلين : - الدعوة إلى تبني النموذج الغربي في كل شيء .
- الدعوة إلى القطيعة المعرفية الكاملة مع التراث العربي والحضارة الإسلامية .( )
ولقد كان سلامة موسى يمثل ذلك إلى أبعد الحدود وتزامنت دعوته إلى التغرب مع إلغاء الخلافة في تركيا ، والقضاء على كل مظاهر الإسلام فيها ، كما تزامن مع صدور كتابين يسيران في نفس الاتجاه التآمري هما كتاب " الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق سنة 1925 م وكتاب " في الشعر الجاهلي " لطه حسين 1926 م ( ) وكانت مقالات سلامة موسى في هاتين السنتين جمعت في كتابه " اليوم والغد " ( ) . فكيف عبر سلامة موسى عن إخلاصه لسادته الأوربيين ؟
سلامة موسى لا يحمد الله [ عز وجل ] وإنما "" يحمد الأقدار لأن الشعب المصري لا يزال في سُحنته ونزعته أوربياً ، فهو أقرب في هيئة الوجه ونزعة الفكر إلى الإنجليزي والإيطالي ، وكذلك الحال بنظره في سوريا وشمال إفريقيا العربي فإن سكان هذه الأقطار أوربيون سحنةً ونزعة ، فلماذا لا نصطنع جميعاً الثقافة والحضارة الأوربيتين ، ونخلع عنا ما تقمصناه من ثياب آسيا... هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب ، وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوربا في العصر الحديث ، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب ، ويتنصلون من الشرق "" ( ) .
ويسخر من الرابطة الشرقية والدينية فيقول : "" وإذا كانت الرابطة الشرقية سخافة فإن الرابطة الدينية وقاحة "" ( ) ويرى - كما يرى طه حسين - أن مصر أقرب إلى الغرب ، وعليها أن تتضامن معه وترتبط به فما لها وللهند ولجاوة ، عليها أن تتوجه إلى "" السويسريين والإنجليز والنرويجيين هؤلاء النظاف الأذكياء "" ( ) .
ولا ينسى الرجل أن يكشف عن جهله بحماقة نادرة عندما يزعم أن العرب في الأصل ليسوا شرقيين ، وإنما أصبحوا كذلك "" بتوغلهم في آسيا إلى حدود الصين ، وأيضا بعادة التسري وعادة الضرار - تعدد الزوجات - اللتين أجازهما لهم الإسلام ، فدخلهم دم آسيـوي وخاصة صيني كثير ، فإن لفظة أَمَة بمعنى جارية هي لفظة صينية وقد دخلت اللغة العربية لكثرة الإماء التي كان يشتريها العرب من الصين "" ( ) .
هذه العبارة محشوة بالأكاذيب المكشوفة والمضحكة ولا تحتاج إلى رد ، وعلى التزويريين الذين يشيدون بسلامة موسى ويسبحون بحمده أن يخجلوا من أنفسهم لأن كلمة أَمَة وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية قبل أن يختلط العرب بالصين أو غيرهم ( ) .
ثم يتابع الرجل صراحته "" إن هذا الاعتقاد بأننا شرقيون قد بات عندنا كالمرض ، ولهذا المرض مضاعفات فنحن لا نكره الغربيين فقط ، ولا نتأفف من طغيان حضارتهم فقط ، بل يقوم بذهننا أنه يجب أن نكون على ولاء للثقافة العربية فندرس كتب العرب ، ونحفظ عباراتهم عن ظهر قلب - كما يفعل أدباؤنا المساكين أمثال المازني والرافعي - وندرس ابن الرومي ، ونبحث عن أصل المتنبي ونبحث عن علي ومعاوية ، ونفاضل بينهما، ونتعصب للجاحظ ونحاول أن نثبت أن العرب عرفوا الفنون … وكل ذلك إنما يدفعه في أنفسنا كراهتنا للغرب، وأنفتنا من جهة ، واعتقادنا أننا شرقيون من جهة أخرى "" ( ) .
هكذا يصبح الاحتفاظ بالهوية مرض ، والاعتزاز بالذات داء يحتاج إلى علاج عند سلامة موسى ، والعلاج هو القضاء على التعصب المركوز في نفوسنا ، ولكن التعصب " المرض " هو التعصب للعرب أما التعصب للغرب فهو عين العافية ، وروح التحضر .
ويتابع الرجل مخلصاً !! : "" إنه ليس علينا للعرب أي ولاء ، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب وبعثرة لقواهم ، فيجب أن نعودهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث ، لا بالأسلوب العربي القديم ، ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من العرب ، وليس معنى هذا تحريم درس العرب وتاريخهم وثقـافتهم ، فإن العرب أمة قـديمة ، يجب أن يكـون لها أثريون يدرسونها كما يدرسون آشور وبابل "" ( ) . المصريون أرقى من العرب لماذا ؟ لأنهم يمتلكون الأهرامات والعرب لا أهرامات لديهم ، ولديهم فراعنة ولا فراعنة عند العرب ، والعرب أمة منـدثرة تحتاج إلى أثريين ؟ ثم ماذا ؟ ثم : "" إننا نحتاج الآن ما يهيج قلوبنا ، ويملؤها تفاؤلاً بالحياة ، ولن نجد ذلك إلا بارتباطنا بالغرب واصطناع ما عند الغربيين من رقص وألحان وموسيقى ، وأما الشعر العربي فقد سئمنا قوافيه الرتيبة التي تشبه دق الطبل عند السودانيين "" ( ) .
ويخطر في البال سؤال! أيهما الذي يهيج القلوب ؟ الشعر العربي أم الرقص الغربي ؟ وما صلة الرقص الغربي بالقلوب ؟ لقد أشار رفاعة الطهطاوي أن الرقص الغربي يتعاطونه على أنه لون من ألوان الرياضة والرشاقة والفن تتعاطاه المرأة في الحفلة الواحدة مع أعداد كبيرة من الرجال دون أي حرج فَصِلته بالأعضاء وليس بالقلوب ( )، ولكن يبدو أن سلامة موسى لا يميز بين قلبه الذي يُحتَضَر، وأعضائه الأخرى التي تهيج عندما يشارك الغربيين في رقصهم ومجونهم.
وماذا أيضاً ؟ :
إنها اللغة التي يحفظها القرآن ، وتحفظ هي هوية الأمة من الانحلال والذوبان ، إنها بنظر سلامة موسى بدوية عاجزة ، وليست راقية كالإنجليزية "" لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي نعيش بين ظهرانيها الآن ، فها أنا ذا في غرفتي لا أعرف كيف أصف أثاثها بالعربية ، ولكني أستطع إجادة وصفها بالإنجليزية "" ( ) . إنها لغة ميتة ، لغة القرون المظلمة ، لغة الشرق السخيف ، إنها كارثة "" إن الفصحى في اعتقادي كانت لغة الكتابة فقط ، أي لغة ميتة حتى في زمن ظهور القرآن ، ولكن تعليم العربية في مصر لا يزال في أيدي الشيوخ الذين ينقعون أدمغتهم نقعاً في الثقافة العربية ، أي في ثقافة القرون المظلمة ، فلا رجاء لنا بإصلاح التعليم حتى نمنع هؤلاء الشيوخ منه ، ونسلمه للأفندية الذين ساروا شوطاً بعيداً في الثـقافة الحديثة ، ونحن إنما ننزع للغة العرب القديمة لما تأصل في أذهاننا من ذلك الفرض السخيف وهو أننا شرقيون يجب علينا أن نحافظ على كرامة العرب وندافع عن تاريخهم ، وهذا الاعتقاد في شرقيتنا يجر علينا عدداً من الكوارث قد لا يكون الولاء للغة أهونها "" ( ). لا شك أنه يقصد أن أعظمها هو الولاء للإسلام .
ولكن ما هو البديل عن الفصحى بنظر سلامة موسى ؟ إنها العامية المصرية، ولكن لماذا العامية المصرية وهي بنظر موسى نفسه ليست مصرية أصيلة وإنما هي – متابعة لـ " ولكوكس الإنجليزي - جاءت مع الهكسوس الذين أقاموا في مصر نحو خمسمائة سنة ؟ ( ) . السبب هو أن الفصحى تجمع مصر بالعرب والمسلمين والشرقيين ورسالته تقوم على سلخ مصر عن العروبة والإسلام ، ولا يمكن ذلك إلا بالتخلص من الفصحى ( ) ، والتخلص من الفصحى يعني "" أن ننظر إلى لغة النـابغة والمتنبي كما ننظر إلى اللغة الروسية أو الإيطالية ، لأنها ليست لغتنا ولسنا نستفيد بدرسها "" ( ) . والطريق إلى ذلك في مصر هو " إلغاء الأزهر " والاكتفاء بالجامعة المصرية لأنها أداة الثقافة الجديدة النيرة ( ) .
لم يكتف سلامة موسى بذلك لأن أسياده يطلبون منه أكثر حتى يمنحوه رضاهم ، فبدأت حدة كلامة تزداد ، وقسوة لهجته تتفاقم حتى طفق يتجاوز الخطوط الحمراء ، وبدا كأنه يدق طبول الحرب على الإسلام والمسلمين في عقر دارهم ، وهو يستغل في ذلك ضعف المسلمين ، وتردي أحوالهم ، ومساندة الإنكليز له ولأمثاله ولنقرأ هذا النص الطويل الذي يعبر عما نقول : "" لقد مضى علينا أكثر من 130 سنة ( ) ونحن في موقف التردد لا ندري هل نحن شرقيون يجب أن نسير على ما سارت عليه آسيا ؟ أم غربيون يجب أن ننضم إلى أوربا قلباً وقالباً ، نعتاد عادات الأوربيين ونلبس لباسهم ونأكل طعامهم ، ونصطنع أساليبهم في الحكومة والعائلة والاجتماع والصناعة والزراعة ، ولقد شرع نابليون يغرس فينا الحضارة الأوربية ، ويزيل عنا كابوس الشرق ، ثم جاء محمد علي فاعتمد على فرنسا في تمدين البلاد … ثم استمررنا نتراوح بين الشرق والغرب حتى زمن إسماعيل حين رأى بنافذ بصيرته أنه لا بد لنا من أن نتفرنج ، ونقطع الصلة بيننا وبين آسيا ، ثم جعلنا نلبس الملابس الأوربية ، ووزع بين أعيان البلاد فتيات من الجركس لكي يتحسن اللون ويقارب البشرة الأوربية … وجاء الإنجليز فساروا بنا شوطاً بعيداً في إدخال الأساليب الأوربية في إدارة الحكومة ، وهانحن أولاء نجد أنفسنا الآن مترددين بين الشرق والغرب ، ولنا حكومة منظمة على الأساليب الأوربية ، ولكن وسط الحكومة أجساماً شرقية مثل وزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية تؤخر البلاد، ولنا جامعة تبعث فينا ثقافة العالم المتمدن، ولكن الأزهر يقف إلى جانبها يبث فينا ثقافة القرون المظلمة ، ولنا أفندية قد تفرنجوا، ولكن إلى جانبهـم شيوخاً لا يزالـون يلبسون الجـبب والقفاطيـن ولا يتورعـون من التوضؤ على قوارع الطرق في الأرياف، ولا يزالون يسمون الأقباط واليهود كفاراً كما كان يسميهم عمر بن الخطاب قبل1300 سنة، إنهم شيوخ مأفونون ! يعدون التفرنج رذيلة، مع أنه عين الفضيلة ""( ).
لا نحتاج إلى كثير تأمل في النص السابق لنلاحظ ما فيه من عناصر للتفرنج :
- تحسين لون البشرة لكي يصبح أشقر ، أو أبيض ..!
- اصطناع اللباس الأوربي كالقبعة بدلاً من الجبب والقفاطين !.
- الأفندية بدلاً من الشيوخ المأفونين الذين يتوضؤن في الطرق !.
- الجامعة المدنية المستنيرة بدلاً من الأزهر المظلم ! .
- الكف عن تكفير النصارى واليهود كما كان يفعل عمر بن الخطاب قبل 1300 سنة . لأن عمر بنظره كان مستبداً والبابا أفضل منه ( ) .
وبعد أن انتهى سلامة موسى من حربه المعلنة على الحضارة العربية والإسلامية ينتقل إلى الغزل والغرام بالإنسان الأوربي والإنجليزي "" هؤلاء النظاف الأذكياء "" ( ) "" فإن الإنسان الأوربي أرقى إنسان ظهر في العالم للآن ، والحضارة الأوربية على ما فيها من عيوب تعد بالمئات هي آخر درجات التطور الاجتماعي ، ومن البلاهة البالغة أن يظن أحد الشيوخ أن حضارة بغداد أو القاهرة أو الأندلس كانت تبلغ في السمو عشراً أو جزءاً من مائة مما تبلغه الحضارة الأوربية الآن "" ( ) .
أعقب هنا بالقول :
على العلمانيين أن يكفوا عن اتهام الإسلاميين بالوثوقية المطلقة والتبجيلية البالغة ، والنفي والإقصاء وهم يقرؤون مثل هذا الكلام لأستاذهم التنويري وداعية النهضة . "" إن الإنجليز … أرقى أمة موجودة الآن في العالم ، والخلق الإنجليزي يمتاز عن سائر الأخلاق ، والإنسان الإنجليزي هو أرقى إنسان من حيث الجسم والعقل والخلق "" ( ) .
لقد استشعر – من الشاعرية - سلامة موسى ، ولا غرابة فالغرام والهوى قد يدفع صاحبه إلى الجنون أو الخبل ، لقد كان مجنون ليلى يُقبل الجدران لأن ليلى سكنت وراءها ، ويذوب قلبه عندما تُذكر أمامَه محبوبته ، وهكذا كان حال مجنون إنكلترة أو مجنون أوربا فقد قال : "" وقد يكون اصطناع القبعة أكبر ما يقرب بيننا وبين الأجانب ويجعلنا أمة واحدة ، القبعة هي رمز الحضارة يلبسها كل رجل متحضر … ونحن إذا لبسنا القبعة فلسنا بذلك نلبس لباس أوربا فقط ، بل نصطنع لباساً اتفق المتحضرون على وضعه على رؤوسهم … فإن للمتحضرين عادات يتعارفون بها ويصطلحون عليها ، واتخاذ القبعة من هذه العادات … إننا سنبقى في نظر أنفسنا ونظر الأوربيين شرقيين حتى نتخذ القبعة لرجالنا ونسائنا ونعلن انسلاخنا من الشرق "" ( ) . إن القبعـة – بنظر موسى - تجعـل الأحمق عاقـلاً "" لغرامي بالحضارة الأوربية فإني أحث بني وطني أن يلبسوا القبعة ... لأنهـا تبعث فينا العقليـة الأوربيـة "" ( ) .
في هذه الفترة وفي نوفمبر سنة 1925 م تحديداً كان أتاتورك يفرض على الشعب التركي القبعة غطاءً للرأس ويمنع الطربوش ( ) ويتحدث بلغة سلامة موسى نفسها "" يجب علينا أن نلبس ملابس الشعوب المتحضرة الراقية ، وعلينا أن نبرهن للعالم أننا أمة كبيرة راقية ، ولا نسمح لمن يجهلنا من الشعـوب الأخـرى بالضحـك علينا وعلى موضتنا القديمة البالية ، نريد أن نسير مع التيـار والزمن "" ( ) .
هذا قبس من رسالة سلامة موسى الجريئة ! التي تبعث فينا روح التنوير ، والأمل في الخروج من الظلام ، والرغبة في النهوض ، وتجدد فينا بواعث التقدم ( ) . هذا هو سلامة موسى الذي يمثل في منظور الخطاب العلماني الدعوة إلى التحرير الفكري والعقلي ( ) نمطاً فريداً بين المفكرين المحدثين ، وصاحب الفضل في إشاعة الفكر العلمي بين الناس وتعميمه وتطبيقه على الحياة الاجتماعية . لقد كان معلماً لجيلٍ كامل وقوة اجتماعية دافعة وموجهة ، إنه رائد عظيم ستبقى ذكراه بيننا عطرة ، وسيبقى اسمه شعاراً مضيئاً وملهماً للأجيال ( ) .
وهكذا نرى كيف يصبح التقليد الأعمى تقدماً ، والخيانة تنويراً ، والاستسلام تحضراً ، والانهزام جرأة وشجاعة .
مع أنه كان يكفي سلامة موسى كنموذج يمثل العمه الحضاري الذي يستورد النموذج الغربي العلماني دون وعي في لحظة العشق والهيام بالأَوْرَبة ، فإن هناك عاشقاً آخر من المسلمين هذه المرة وليس من المسيحيين ، ومن الأزهر بالتحديد الصرح الذي تضع فيه الأمة الإسلامية ثقتها وطموحها في مواجهة الغزو الثقافي والغارة الفكرية ، إنه طه حسين الذي توغل في نفس التيار التغريبي فأعلن أن السبيل "" واضحة بينة ، مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء ، وهي واحدة فذة ، ليس لها تعدد ، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم ، لنكون لهم أنداداً ، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، ما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع"" ( ).
إنها الوثوقية المطلقة ، ولست أدري أين ذهب الشكك الديكارتي الذي دعا إليه طه حسين في " الشعر الجاهلي " ( ) ؟ لماذا لا تكون هناك مسالك أخرى للحضارة تختلف عن المسار الذي سلكته حضارة أوربا ، ثم لماذا ما يُحب وما يُكره ، وما يُحمد وما يُذم ؟ لماذا لا تكون الأولى دون الثانية ؟ أم أن " الما " يكره من أوربا ، و" الما " يعاب منها له مذاق آخر لا بد من تذوقه في نظر عميد الأدب العربي !؟ .
ويدعو طه حسين أمته إلى الاستسلام والإذعان ما دامت قد كُبلت بالمعاهدات ، وقٌيدت بالامتيازات ، لأنه ليس أمامنا خيار آخر فقد "" التزمنا أمام أوربا أن نذهب مذهباً في الحكم ، ونسير سيرتها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع ... فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً ، ولوجدنا أمامنا عقاباً لا تجتاز ولا تذلل ، عقاباً نقيمها نحن لأننا حراص على التقـدم والـرقي ، وعقـاباً تقيمـها أوربا لأننـا عاهـدناها على أن نـسايرها ونجاريها في طريق الحضـارة الحديثة "" ( ) .
عقبات لأن حياتنا المادية أصبحت أوربية خالصة ، ولأن المثل الأعلى للمصري [ لم يعد الإسلام ونبيه المصطفى ] وإنما الأوربي في حياته المادية ( ) ، وهذا يدل على أننا نسعى لكي نصبح يوماً بعد يوم جزءاً من أوربا لفظاً ومعنى حقيقة وشكلاً ( )، ولذلك فإنه من "" السُّخف الذي ليس بعده سُخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين "" ( ) . ولكي نتخلص من هذه العقدة علينا "" أن نُشعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها ، ونُقوِّم الأشياء كما يُقومها ونحكم على الأِشياء كما يحكم عليها "" ( ) . الأوربي هو المثل الذي يجب أن نترسم خطاه ، ونتلمس رضاه !.
ثانياً : استشراء الداء في العالم الإسلامي :
كان هذا في مصر متزامناً مع ما يحصل في العالم الإسلامي والعربي من دعوات تردد نفس النغمات وكأنها تصدر عن عازف واحد في أبواق متفرقة ، والعازف هو الغرب المستعمر فعلاً ، والأبواق هم صنائعه المتفرقين في البلاد الإسلامية . لقد عبر سارتر عن هذه الصناعة بصراحة مدهشة عندما قال : "" كنا نُحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا ، ونطوف بهم بضعة أيام في لندن وباريس وأمستردام ، فتتغير ملابسهم ، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة ، ويرتدون السترات والسراويل ، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا ، وكنا نزوج بعضهم من أوربا ، ونلقنهم أسلوب الحياة على أثاث جديد ، وطرز جديد من الزينة ، واستهلاك أوربي ، وغذاء أوربي ، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا ، والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا ، ثم نرسلهم إلى بلادهم حيث يرددون ما نقوله بالحرف تماماً مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض ، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم ، وحينما كنا نصمت كانت ثقوب الأحواض هذه تصمت أيضاً ، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاساً صادقاً وأميناً لأصواتنا من الحلوق التي صنعناها ، ونحن واثقون أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم ، وليس هذا فحسب ، بل إنهم سَلبوا حق الكلام من مواطنيهم "" ( ) .
لقد كان في تركيا ضياء كوك ألب 1875 - 1942 م يردد نفس ما يردده سلامة موسى وطه حسين فدعا إلى سلخ تركيا من ماضيها القريب ، وتكوينها تكويناً قومياً خالصاً ، واعتبر تركيا صانعة للحضارة الغربية ومشاركة فيها ، لأنها امتداد لحضارة المتوسط ، ويبدو أنه أول من طرح فكرة " الحضارة المتوسطية " ، أملاً في الانضواء تحتها دون شعور بالنقص والدونية كما نصح جاك بيرك فيما بعد عندما قال : "" فإذا قبل العرب الدعوة المتوسطية يتخلصون تماماً من تناقضهم مع التفرنج ، ذلك أنه يصبح سمة طبيعية لا مفروضة عليهم "" ( ) .
وكما قرر وحسم طه حسين يقرر ويحسم ضياء كوك ألب بقوله : "" الحضارة الغربية هي الشارع الوحيد إلى التقدم "" ( ) . "" علينا أن نختار إحدى الطريقين إما أن نقبل الحضارة الغربية أو نظل مستعبَدين .."" ( ) . للغرب طبعاً ! . إنه طريق سهل لتحقيق حلم طالما انتظره العالم الغربي المسيحي وسعى بكل الوسائل لتحقيقه على مدى قرون عديدة وهو سلخ تركيا من جلدها الإسلامي حتى العظم ( ) .
وقد قام أتاتورك 1881 ، 1934م بتحقيق أحلام ضياء كوك ألب وسلامة موسى ، فكان يعتبر نفسه في حالة حرب مع الشعب "" انتصرت على العدو وفتحت البلاد ، فهل أستطيع أن أنتصر على الشعب "" ( ) . وألغى الخلافة في 3 آذار " مارس " 1924 م وقال "" بأن الإسلام يخنق الطموح في نفوس أصحابه ، ويقيد فيهم روح المغامرة والاقتحام ، والدولة لا تزال في خطر دائم ما دام الإسلام دينها الرسمي "" ( ) .
ولكن كانت أخطر خطوة قام بها في اتجاه التغريب هي إلغاؤه للحرف العربي وإحلال الحرف اللاتيني محله في 1 نوفمبر 1928م وذلك ليضمن تخلص العقل التركي من الهيمنة الإسلامية ، وأصبحت الكتب الإسلامية بعيداً عن متناول القراء ، لأن الحروف التي كانوا يقرؤون بها أُلغيت ، وبذلك ستظل الذخائر العلمية مقفلة وينسج عليها العنكبوت ، ولا يطمع في قراءتها إلا بعض الشيوخ المسنين من العلماء ( ) .
واتخذ أتاتورك خطوات مجنونة لترسيخ العلمنة فأعلنت الجمهورية في 29 أكـتوبر في 1928 م وألغيت وزارة الشؤون الدينية ، وحُلَّت المنشآت الدينية ، والمحاكم الشرعية في نفس العام ، واتُّخذت القبعة غطاءً للرأس في نوفمبر 1925م ، وحُلَّت الطرق الدينية في 30 نوفمبر 1925م وتم تغيير التقويم السنوي الهجري في ا جانفي 1926م وتم وضع قانون جزائي جديد تبنى القانون السويسري في أكتوبر 1926م وألغى اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة في 10 أبريل 1928 م ، ورفع الأذان بالتركية في 3 فيفري 1932 م وانخفضت نسبة المسلمين في تركيا إلى 95 بالمائة بعد تبادل عدد من السكان مع اليونان ( ) .
ومع كل هذا فإن أهم سمة تلفت الانتباه في سلوك الأتراك هي أن رسوخ العقيدة الدينية وعمقها لم تتغيرا ، وما زالا يفعلان فعلهما في مجموعات واسعة من الشعب التركي منذ خمس وعشرين سنة ( ) . وبعد هذه الفترة الطويلة من سياسة العلمنة ، ومع كل ذلك أيضاً لا يزال العلمانيون الأتراك يعتبرون ذلك انتصاراً للظلامية على العلم ( ) .
أما في الهند فقد ظهر سيد أحمد خان 1817 – 1898 م وكان متعاوناً مع الإنجليز وسعى في إخماد ثورة 1857م وكافأته الحكومة الإنجليزية براتب شهري ، وهو مثله مثل طه حسين وسلامة موسى وضياء كوك ألب يردد نفس الكلام الذي عبر عنه سارتـر آنـفاً ، يقول أحمـد خـان : "" لا بد أن يرغب المسلمون في قبول هذه الحضارة الغربية بكمالها حتى لا تعود الأمم المتحضرة تزدريهم أعينها ، ويعتبروا من الشعوب المتحضرة المثقفة ( ) . وفي إيران قال تقي زادة : "" فلنلق بقنبلة الاستسلام للأوربي في هذه البيئة ولنفجرها والخلاصة : لنصبح أوربيين من قمة الرأس إلى أخمص القدم "" ( ) . إنه صوت واحد ينبعث من الغرب عبر أبواق متعددة موزعة في البلاد الإسلامية .
وفي تونس عبر عبد العزيز الثعالبي – قبل اعتداله – عن استسلامه للحضارة الغازية واستلابها لعقله ورشده وذلك عندما دعا إلى تأويل القرآن تأويلاً صحيحاً ويكون ذلك بنظره بمطابقته لمبادئ الثورة الفرنسية حتى يصبح الإنسان المسلم متحضراً راقياً ، ويستشهد لذلك بحال مصر فلولا فرنسا لما رأينا اليوم ما تشهده مصر من نهضة وتقدم ( ) كان ذلك في الوقت الذي ترتكب فرنسا فيه الفظائع مع الشعب التونسي ولكن الثعالبي لم يكن يرى ذلك لأنه مشغول بالبحث عما يرضي المستعمرين فيحرف آيات الجهاد كما فعل أحمد خان بالهند ، ويتعاطف مع المحتلين ويعتبر التعاون معهم أجدى الوسائل للحضارة والنهوض ( ) .
ويكشف جوزيف شاخت عن الشوط الذي قطعته تونس في طريق العلمنة : "" وأخيراً قبلت تونس قانون 1956م وأثبتت أنها في مقدمة البلاد التي آمنت بتغيير الفقه الإسلامي فألغيت الأوقاف العامة والمحاكم الشرعية ، وصدرت مجلة الأحكام الشخصية مُسخت فيها أحكام النكاح والطلاق مسخاً شديداً ، حتى لم يعرف شكلها الصحيح ، ومُنع تعدد الزوجات ، واعتُبر جناية تستحق العقوبة ، ومهما زعم أهل الحل والعقد في تونس فإن قانونهم الشخصي يختلف عن القانون التقليدي "" ( ) .
والرئيس التونسي بورقيبة تواقح تواقحاً شديداً فتهجم على القرآن ، وتفوه بألفاظ أثارت سخط العالم الإسلامي فقال : بأن القرآن متناقض ولم يعد يقبله العقل ، ويضرب مثلاً لذلك - يعبر عن غبائه وجهله - بين آيتين قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ( ) و إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ( ) لأنه لم يتعلم في علم الكلام أن كل ما في الكون من تغيير أو تبديل مسجل ومدون كما عَلِمَه الله عز وجل دون أن يمس ذلك اختيارات العباد بأي إلزام أو إكراه ، لم يتعلم أن العلم صفة كاشفة ، وليس صفة ملزمة .
وقال بورقيبة : "" إن الرسول محمد [ ] كان إنساناً بسيطاً يسافر كثيراً عبر الصحراء العربية ، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت ، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن مثال ذلك " عصا موسى " - وهذا شيء لا يقبله العقل بعد اكتشاف باستور – وقصة أهل الكهف ، والله يصلي على محمد وهذا تأليه لمحمد ""[ ] ( ).
المطلب الثاني
مراجعة نقدية
لقد عبر سلامة موسى عن رغبته في شفاء أمته المصرية من مرض التشرق – أي محبة الشرق والعرب والانضواء تحت رايته – واعتبر ذلك مرضاً مزمناً يحتاج إلى علاج ، ونسي أن الاعتزاز بالذات عصامية وعافية وقوة ، وأن أعراض المرض تبدو عندما يفقد الإنسان ثقته بنفسه وأمته ويدعوها إلى تقمص شخصية أخرى . هذا هو مرض " الابتلاء بالتغرب " مثله مثل الوباء، أو لعله أقرب إلى الهرم والشيخوخة ، وقد يكون أشبه بالعفونة التي تصيب القمح عندما يبدو القشر سليماً والتسوس في القلب ( ) .
واعتبـر سلامة موسى التعصب للعرب هو الداء الذي علينا أن نحاربه لكي نتمكن من التغرب ( ) ، وهو بالفعل مخلص لسادته في تبني هذه الرؤية ، لأن الغرب أدرك ولقن تلاميذه أن التعصب هو الجدار الواقي ( ) الذي يجب أن يهدم ، وهو الحصن الحصين الذي يقف في وجه نفوذه ودخوله إلى المجتمعات الإسلامية ، والتعصب هو البرج الفولاذي الذي يحرس مجتمعاته ، وما دام هذا البرج قائماً فسوف يظل الغرب خارج بوابات الشرق ( ) .
وطالب كل من سلامة موسى وطه حسين أن يُصبَغ التعليم بالصبغة الغربية ، ويُسلك به الطريقة الأوربية ( ) ، فالتعليم الغربي هو طريق التغريب كما يشير المستشرق جب "" هذا هو السبيل الوحيد الذي لا سبيل غيره "" ( ) .
لقد أدرك الشاعر الإسلامي أكبر الإله آبادي 1846 – 1921م خطورة هذه الخطوة في مسخ ذات الأمة والقضاء على شخصيتها وجعلها تابعة ذليلة فقال : "" إن أهل الشرق يقضون على العدو بشدخ رأسه ، ولكن الغربي يغير طبيعته وقلبه "" وقال : "" يالبلادة فرعون الذي لم يصل تفكيره إلى تأسيس الكليات ، وقد كان ذلك أسهل طريق لقتل الأولاد ، ولو فعل ذلك لم يلحقه العار وسوء الأحدوثة في التاريخ "" ( ) . ويعبر إقبال عن خطورة التبعية في التعليم : "" إياك أن تكون آمناً من العلم الذي تدرسه ، فإنه يستطيع أن يقتل روح أمة بأسرها "" ( ). "" إن التعليم هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي ، ثم يُكوِّنها كما يشاء ، إن هذا الحامض هو أشد قوة وتأثيراً من أي مادة كيميائية ، هو الذي يستطيع أن يحول جبلاً شامخاً إلى كوم تراب "" ( ) "" ونظام التعليم الغربي إنما هو مؤامرة على الدين والخلق والمروءة "" ( ) .
والغريب أن المتغربين الذين يريدون الاندماج في الغرب من أجل خلاص الأمة من أزماتها لم يدركوا أن تقمص الأمة لذات حضارية أخرى لا يحل المشكلة بل يزيدها ويولد مشكلة جديدة تتمثل في الضياع أو الانفصام الحضاري مما قد يهدد الوجود ذاته . ولو أدرك هؤلاء لعلموا أن أزمتنا تتمثل في انعدام الاعتماد على الذات أصلاً، وشيوع التواكل بين أفراد النخبة ، وفساد القادة واستبداد الحكام وعدم تبصرهم بمصالح الأمة ، بل عدم التفكير فيها حاضراً فضلاً عن المستقبل ، مما جعل الهوة واسعة جداً بيننا وبين الغرب الذي صنع الآلة ، وسد حاجته منها وبدأ يبحث عن مستهلك ، فوجدنا مهيئين تماماً لنكون سوقاً له ، وما دمنا نعتمد عليه في ذلك فسوف نظل متغربين "" ومن الطريف أننا إذا صنعنا الآلة فسوف نصير مرضى بمرض الآلة تماماً كالغرب الذي يرتفع صوته وصراخه من التكنولوجيا والآلة "" ( ) .
ولكن من الذي قال إنهم لم يدركوا ، إن التغرب يحقق لهم القيادة والنخبوية ، وهذا يقتضي منهم أن يتنازلوا عن ذواتهم ويذوبوا في غيرهم ، ويتنازلوا عن هوياتهم وتاريخهم وكل مقومات إنسانيتهم ، ويأخذوا مقابل ذلك المال ، ولكن العدو أذكى من أن يعطيهم المال ، إنه يعود فيسترده منهم ببضائعه ومنتجاته التي سلبت عقولهم ، وأعمت عيونهم ( ) .
لقد كان الغساسنة والمناذرة متشبهين مقلدين للروم والفرس في كل شيء في لباسهم وفي قصورهم وعاداتهم ، ومع ذلك لم يبنوا حضارة لأن التشبه نوع من المسخ ولا يشكل حضارة ، الحضارة بناها أناس ظلوا محافظين على بداوتهم وعاداتهم ، ولم يحتاجوا أن يلبسوا القبعة ، ولا أن يرقصوا على الطريقة الغربية ، ومع ذلك صنعوا الحضارة وصدروها للناس ( ) .
المتفرنج شبه إنسان ؛ لأن الإنسان الأوربي أخلى باطنه من المحتوى الإنساني والفكري والكيان الخلاق ، حتى أصبح من قمة رأسه إلى أخمص قدميه معدة مفتوحة ، وفماً فاغراً يلتهم المنتجات الأوربية ، ويكافئه الأوربي بأن يدهن له جلده الأجرب المنتن بالدهن الأوربي ، ويلبسه لباساً أوربياً ، ويرجّل شعره على الطريقة الأوربية ، ثم يُشحن بالحركات والسكنات والإشارات الأوربية التقليدية المزيفة الشبيهة بالكليشهات تماماً كما تُعبأ الآلة الحاسبة أو الساعة الرقمية ، ثم يُرسَل إلى قومه ليُعطى الإذن بالعمل ويتحرك كما أراد له سادته ، ويُوصف عـند ذلك بأنه عصري متحضر أمام أبناء جنسه لتُثار فيهم داعية التقليد والاستهلاك ، ولكنه يظل بين سادته يعرف قدره ولا يتجاوز حدوده ، فيتقبل وصفهم له بأنه مقلد متشبه ليظل الشعور بالنقص يلازمه، وتظل جدلية الأم والطفل فعالة ( ). وكلما حاول أن يثبت ولاءه ويقول لسادته لقد صرت متحضراً مثلكم يبتسم الغربي ويقول: لمّا بعد لأننا لا نزال ننتج، ولا نزال بحاجة إلى مستهلكين ( ).
وكلما تسارعت وتيرة الإنتاج كلما ازدادت سرعة الاستهلاك - كما هو الحال في بعض دول الخليج - من أجل اللحاق بالركب المتأورب – لأنهم جاءوا متأخرين - ويظل الغرب سعيداً بهؤلاء الممسوخين الذي لا يملُّون من الركض وراءه ولا يشبعون من نهم الاستهلاك ( ) .
إن المتغرب إذن أوفى مستهلك للصناعة الغربية لأنه لا يفكر بالإنتاج ، وإنما يفكر كيف يستهلك بجنون لكي يواكب المنتجات الحديثة ( ). ولكي يوصف بالتحضر والرقي( ) ولذلك فهو لا شخصية له، وفاقد للأصالة في شخصه ومنزله ومظهره، ولا تفوح كلماته برائحة أي شيء ، بل تمثل في الأغلب كـل شيء ( ). بل إنه حتى نفسه لا يعرفها إلا من ألسنـة الآخرين ، وحقيقـة ذاته يبحث عنها في كتابات المستشرقين ، ويعتبـر نفسه موضـوعـاً تحت مجهر
الاستـشراق ( )، وهو مسرور جذلان ينتظر النتائج بفارغ الصبر، فإن قيـل له خيراً حمـد الله [ عز وجل ] وإن قيل غيـر ذلك لام نفسه وأمته "" وهذا هو أقبـح أنـواع التـغرب ، بل إنه طاعون التغرب ""( ) ، يفتك بالذات حتى تفنى وتتلاشى أو تتحول إلى طاقة جديدة في تيار التأورب والاكتساح الذي لا يتوقف ، ويظل المتغرب كالميت بين يدي المُغسِّل ، فإن من شروط التغرب أن يكون الإنسان سهل القياد بلا جذور وبلا أصول ، ولكي يصل إلى القيادة فلا بد أن يكون خفيفاً فإن "" العادة أن الخفيف هو الذي يطفو على سطح الماء "" ( ) .
لقد فهم الاستعمار وجرب أنه ما دامت الأمة تعتقد أن لها شخصية ، فإن النفاذ إليها ليس بالأمر السهل ، والثقافة والتاريخ في أمة دائماً يؤديان إلى شخصية وتعصب ، ولا بد للاستعمار من أن ينفذ إلى داخلها عن طريق فصلها عن تاريخها وجعلها غريبة عن ثقافتها ، وعندما يرى المفكر نفسه خواء ، فاقداً للأصالة ولا جذور له ، معطوباً في شخصيته ، فلا مفر له من أن يقترب بنفسه عن وعي أو غير وعي من الأوربي ، الذي تبدل في هذه الحالة إلى أصالة إنسانية مطلقة ، وصاحب ثقافة ، وقيم معنوية مثالية وكمال مطلق ، كما تغزل سلامة بالإنجليز ، وقاسم أمين بالفرنسيين ، ويصير مفتوناً به ضائقاً من نفسه ، ويعوِّض بالتظاهر بالسمات الأوربية فقدانَه لخصائصه الأصلية وفقر شخصيته وخلائها ( ) .
أليس هذا هو السبب في أن العلمانيين لا يرون في تاريخنا إلا السواد والظلام ، إنه ممسوخٌ في عقولهم لأنهم قرؤوه بعقول ممسوخة ، ومظلم في أعينهم لأن الغرب ألبسهم نظارات سوداء .
عندما فعـل الغرب ذلك – أي مسخ تـاريخ الأمم المغلوبة – لم يعد لديه شيء آخر يقوم به ، ذلك لأن الأمـم نفسها جاهدت بكراهية وحقد خارقين للعادة في تخريب أنفسها بقدر ما تستطيع ، وتحقير دينها وأخلاقها وأصالتهـا التي مُسخت ، وبشـوق وإصـرار ألقت بأنفسهـا في أحضان الغرب . كالطفل عندما يتعرض لغضب أمه يلجأ إليها هي نفسها من أجل أن يقاومها ويلقي بنفسه في أحضانها ( ) .
هذه الممارسات المسخية والتشويهية والعنصرية التي يتوجه بها الغرب إلى الأمم المغلوبة يدرك أن ممارسته لها لا بد أن تكون بنوع من التحضر ، ولذلك فليس من حقه أن يجاهر بالنكران للشرقي والتجاهل لثقافته ، عليه فقط أن يشعره بأنه عرق من الدرجة الثانية ، وأنه لا يستطيع أن يتجاوز في تفكيره نظريات العرفان ونظم الشعر ، أما الغربي فهو السيد الذي يفكر ويصنع ويحكم لأنه عرق أسمى ، ولذلك يُحقَّق تراثنا الصوفي مراراً بينما تراثنا العلمي تأكله الفئران ( ) .
ولكن السؤال لماذا ؟ لماذا يسعى الغربي لأن يُشعر الشرقي بالدونية حتى كاد سلامة موسى أن ينسلخ من جلده ويستبدله ببشرة أوربية !؟
لأنه عندما يفهم الشرقي أنه من جنس أدنى وفي الدرجة الثانية ، ويعتقد أن الغربي من جنس أعلى وفي الدرجة الأولى وصانع للثقافة ، فإن علاقته به سوف تشبه علاقة الطفل بأمه ، علاقة من هذا الصنف بين الأم والطفل ستقوم تلقائياً على التبعية ، فالمستعمر دولته هي " الوطن الأم " ، أما المستعمرات في آسيا وإفريقيا فسكانها أطفال مفتقرون إلى التربية عليهم أن ينشأوا في حجره ، وهذا ما تكشفه جدلية سوردل إذ تبين أن العلاقة بين الأم والطفل تقوم على أن : الأم تنهر طفلها ، والطفل يلوذ بحضن الأم خوفاً منها وطلباً للأمان ، وهذه الجدلية تنمو بنفسها وتصبح عامل جذب ، وعندما يحس الشرقي أنه غثاء وهباء ، وينتسب إلى دين منحط ، وينتمي إلى عرق وثقافة وتاريخ وأدب وقادة وماض كله منحط فإنه يشعر تلقائياً بالعار ، ويصدق بأنه كذلك منحط ، ومن أجل أن يدفع التهمة عن نفسه يتشبه بالغربي حتى يعبر لهم بلسان حاله : لست من هذا العرق المتهم إنني من صنفكم ، ويتظـاهر بالتحضر والتغرب في سلوكه وتصرفاته وهيئاته وأسلوب حياته في شخصه ومنزله وزوجته ( ). إنه فعلاً منهم لأن "" من تشبه بقومٍ فهو منهم "" ( ) . ولكن الغرب لا يقبله أصيلاً وإنما يقبله متشبهاً ، ولا يقبله مُنتجاً وإنما مستهلِكاً .
إن علي شريعتي في تحليلاته هذه يضع يده على الداء ، ويكشف عن سر المرض الذي أصيب به هؤلاء الممسوخين . لقد هزِئ سلامة موسى من تاريخنا ولغتنا وحضـارتنا واعتبرها لا تساوي شيئاً ، ولغتنا لا يستطيع أن يصف بها أثاث غرفته ، وعمر رضي الله عنه الذي شهد له القاصي والداني والعدو قبل الصديق بالعدل كان – بنظره – مستبداً ، والأزهر يبعث فينا الظلام ، والشيوخ مأفونون لأنهم يتوضؤن في الطرقات ، أما الإنجليز فنظاف أذكياء ، وهم أرقى الناس على الإطلاق ( ) .
وطلب قاسم أمين أن نقتدي بالغرب فنغير قواعد لغتنا العربية لتصبح نهاياتها دائماً سواكن كما في اللغات الأجنبية ( ) ، ويتأفف لاستخدام الناس كلمة السيارة بدلاً من الأوتومبيل ، ويريد أن نتقبل الكلمات الأجنبية في لغتنا بكل ترحيب ، ودون تردد ودون ضوابط ( ) . وتاريخنا بنظر فـرج فـودة كله قتـل وسفك دماء وظلم واستبداد ( ) . وهو كذلك بنظر سيد القمني محاكم تفتيش ( ) واحتلال ( ) وجيوش وسيوف وقسر وإرهاب ( ) وإبادة ( ) .
إن هؤلاء الناس أصابتهم هستريا التفرنج ، بل إن الغرب أقنعهم بأنهم مجروبون فأخذوا يحكُّون جلـودهم حكاً شديداً كأنهم يريدون أن ينسلخوا منها ، ولكن المرض في الحقيقة لم يكن جلدياً وإنما هو نفسي ، ويستطيع طبيب نفساني مجرب أن يعالجهم بالدواء المناسب والوسائل اللازمة، ويعيد إليهم شخصياتهم المفقودة ، ويعيد إليهم وعيهم وإنسانيتهم ، وينتـشلهم من دوامة الشعور بالنقص والحكة والجرب ( ) .
إن هذه اللغة التي لم يجد فيها سلامة موسى ما يعبر به عن أثاث غرفته كانت لغة الحضارة والعلم لبضعة قرون ، ودُوِّنت بها علوم الفلسفة والتاريخ والفلك والرياضيات والأديان والأدب والشعر والوجدانيات ، ولم يجد أهلها حرجاً في التعبير عن كل ما يريدون ، بل كانت لغة طيِّعة مرنة تستجيب لكل متطلبات الحياة وأغراض البشر ، وإذا كان سلامة موسى يعاني من نقص في قاموسه اللغوي ، ويعجز عن تذكر أسماء الأثاث في غرفته ، فليس من حقه أن يُحمِّل اللغـة مسؤولية عجزه وجهله ، لأنه لا توجد لغة في العالم كله عاجزة عن نقل الحضارة ، لأن اللغة تزدهر إذا كانت الأمة مزدهرة ، وتتكـلس وتتقلص إذا جمدت الأمة وتخلفت ، واللغة العربية قادرة - كما فعلت بالأمس - على التجاوب مع الحضارة بمختلف فروعها وأشكالها إذا أراد لها أهلها ذلك ، لأن اللغة تحتاج إلى حوار ومحاورة ، ومساءلة ومجادلة ، ومخاطبة ، وبقدر ما نتجادل معها نجدها سخية ، وبقدر ما نحاول أن نكلمها نجدها مرنة ثرية ، وليس تراجع اللغة العربية اليوم إلا لتخلف أهلها ، وقلة تعاملهم معها ، واتجاههم إلى العاميات أو اللغات الأجنبية فليس لأن لغتنا تخلفت تخلفنا ، ولكن لأننا تخلفنا تخلفت لغتنا ، إن اللغة ليست عامل تخلف ، بل مظهر وتعبير عنه ( ) ، ولو أننا سمينا أجزاء السيارة والطائرة والتلفاز والحاسوب على نحو ما سمى القدامى أعضاء البعير وأقسام السفينة وأجزاء المحراث ، لما بقيت قطع غيار مستخدمات التكنولوجيا بلا تسمية في العربية الحديثة ، ولما وجدنا فقراً في التعبير عن الأدوات والاختراعات المتلاحقة ( ) يتبرم منه سلامة موسى وغيره .
إن أفضل سلاح يواجَه به التغرب هو " العودة إلى الذات " وليس من متطلبات الارتقاء بالذات التخلي عن الدين ، لأن أوربا إذا كانت تقدمت لأنها تركت دينها ، فنحن تخلفنا لأننا فعلنا ذلك ، لأن السلاح الوحيد الذي نملكه للدفاع عن ذاتنا وكياننا هو الدين ، لأن الدين والدنيا لدينا شيء واحد وضياع أحدهما يستتبع ضياع الآخر ، وليس كما يحاول مفكرونا الذين صُنعوا في الغرب أن يقنعونا بأن الدين نوع من التعصب والرجعية والتخلف ( ) .
ولكن قد يسأل سائل إلى أي ذات نعود ؟ أو إلى أي إسلام نعود ؟ فالإسلامات اليوم كثيرة في الواقع الإسلامي ، وشيوخ السلطة جاهزون لتمزيق الإسلام وتحريفه التماساً لرضا أسيادهم ؟ إن الإسلام المطروح والذي يراد العودة إليه هو الإسلام الرسالي نفسه ، الإسلام " المحجة البيضاء ، الواضحة ، التي ليلها كنهارها " – كما جاء في الحديث - ذاك الذي جعل من طائفة من البدو الحفاة أمة استطاعت خلال سنوات قليلة لا تكاد تحسب في عمر الزمن أن تقضي على أكبر امبراطوريتين في العالم ، وخلال سنوات أخرى أن تقيم حضارة فاتحة مسيطرة ، وُلدت منها حضارة العالم اليوم ، الإسلام هو نفسه الذي حوّل عمر بمرقعته – دون أن يحتاج إلى تغييرها - وأبو ذر الوثني قاطع الطريق - دون أن يحتاج إلى حلق لحيته أو تغيير راحلته أو لبس القبعة - حوّلهم إلى فاتحين ثوار وقادة عظماء ، ولم تحُل دون ذلك لحاهم أو مرقعاتهم أو رواحلهم ( ) .
ولكن لأن الذي أصاب أمتنا من جراء التغريب والتأورب هو عملية مسخ وتشويه وليس إنكاراً وتجاهلاً ، والمسخ والتشويه أنكى من الإلغاء والتجاهل ، فمصيبتنا لذلك أشد من مصيبة الأفارقة ، لأن الأفارقة أقنعهم الغرب بأنه ليس لهم تاريخ ولا حضارة ، وهؤلاء يكفيهم أن يعودوا إلى ذاتهم فيكتشفوها ، أما نحن فلم يقل لنا الغرب ذلك ، لقد جاملنا الغرب وضحك علينا وخدرنا وأقنعنا بأننا أصحاب حضارة ، ولكنها حضارة ممسوخة مشوهة مظلمة ، ولذلك فلا يكفينا أن نعود إلى ذاتنا لأنها أصبحت مزيفة ومزورة ، وإثبات التزوير والتزييف مهمة أصعب من إثبات الذات والوجود ( ) .
ولذلك فالعودة إلى الذات القائمة الآن لن يجدينا شيئاً لأنها مطموسة ، قد مُثِّل بها أسوأ تمثيل ، العودة يجب أن تكون إلى الذات الإسلامية الأصيلة " الرسالية " لأنها الوحيدة القريبة من بين كل الذوات ( )، ولأنها الوحيدة التي تجمع شتات القلوب ، وترضاها الجماهير ، وتعبر عن كيان الأمة وشخصيتها وتطلعاتها وطموحاتها ، لن تقبل الأمة اليوم أن يُعبّر عنها فرعون ، ولا آشور ولا بابل ولا تدمر ولا كنعان ، لا تقبل الأمة اليوم بالإسلام بديلاً .
إن الشمولية الإسلامية هي السد الوحيد الذي يقف في وجه التغريب والاستعمار المسيحي الأوربي ، هذه الشمولية التي تحيط بكل كيان الإنسان جسماً وروحاً وعقلاً ، وتلبي كل طموحاته ، وتجيب على كل تساؤلاته هذه الشمولية الجامعة هي الهوية والشخصية والكيان والذات ، والماضي والمستقبل والحاضر، وهي ما تفقده إفريقيا ، ولذلك كانت مادة خام للاستعمار الأوربي تقبلت كثيراً من نصرانيته ، واندمجت في حضارته ، لأنها لم تكن مشمولة برؤية دينية كلية على نحو ما يفعل الإسلام بأتباعه ( ) .
إن الشمولية الإسلامية لا تعني أن يرفض المسلمون الحضارة الغربية مطلقاً دون أن يعترفوا بحسناتها ولكن المسلمين "" إذا تبنوا - كما هو من واجبهم - الطرق والوسائل الحديثة في العلوم والفنون الصناعية فإنهم لا يفعلون أكثر من اتباع غريزة التطور والارتقاء ، التي تجعل الناس يفيدون من خبرات بعضهم ، ولكنهم إذا تبنوا - وهم في غير حاجة إلى أن يفعلوا ذلك - أشكال الحياة الغربية والآداب والعادات والمفاهيم الاجتماعية الغربية ، فإنهم لن يفيدوا من ذلك شيئاً ، ذلك أن ما يستطيع أن يقدمه الغرب لهم في هذا المضمار لن يكون أفضل وأسمى مما قدمته لهـم ثقافتهم نفسها ، ومما يدلهم عليه دينهم نفسه ، ولو أن المسلمين احتفظوا برباطة جأشهم ، وارتضوا الرقي وسيلة لا غاية في ذاتها ، إذن لما استطاعوا أن يحتفظوا بحريتهم الباطنية فحسب ، بل ربما استطاعوا أن يعطوا إنسان الغرب سر طلاوة الحياة الضائع "" ( ) .
ذلك هو موقف العبقري العصامي الذي يعامل الحضارة الغربية بعلومها ، ونظرياتها واكتشافاتها وطاقاتها كمواد خام يصوغ منها حضارة قوية مؤسسة على الإيمان والأخلاق والتقوى والرحمة والعدل في جانب ، والعلم والقوة والعمل والإنتاج والرفاهبة والابتكار في جانب آخر( ). وبذلك نستغني عن النموذج العلماني الذي صدره إلينا الاستعمار عن طريق صنائعه وربائبه ، وسبب لنا اضطراباً في حياتنا وأفكارنا ومعيشتنا وقيمنا وأخلاقنا ، بسبب تصادمه مع أصالتنا ومرجعيتنا ، ومقومات وجودنا .
الخاتمة :
ربما نجد عذراً لأناس بهرتهم الحضارة المادية ووسائل القوة والتكنولوجيا في بداية هذا القرن لأن النور كان قوياً في وسط ظلام التخلف والجهل الذي تعيشه الأمة الإسلامية، ولكن لم يمض وقت طويل حتى ذهب الانبهار، وتلاشى الزبد وظهرت الحقائق جاثمة على صدر التاريخ، وارتد كيد العدو في نحره، فخرج المستعمر مدحوراً من أغلب البلاد الإسلامية، وتكشفت حقائق الدراسات الاستشراقية وما تخفيه من تزوير وتشويه ، واتضح أنها كانت دراسات استطلاعية استعمارية بالدرجة الأولى، ولم يكن التجمل بأثواب البحث العلمي في الغالب إلا لوناً من المداهنة والمراوغة .
ومهما يكن من أمر فإن سلامة موسى وأمثاله من ربائب الغرب كان من الطبيعي في وسط هذا الاختلال الحضاري للأمة أن ينشأ لهم جيل من المروجين والمسوقين لأن الغرب لا يزال يمسك زمام القوة، وفي كل زمان يوجد منافقون يتزلفون للقوي ويتملقونه لكي تُتاح لهم فرصة التعيُّش على الفتات ، وهم اليوم - وللأسف – في عصر الثورة الإعلامية قد تبوؤوا مراكز مهمة جداً وأوصلوا - أو كادوا- رسالة سلامة موسى إلى أوساط مختلفة من الناس، بل إن الرسالة " السلاموسية " أصبحت مثالاً يُحتذى من قبل التنويريين المعاصرين .
ما الذي يمكننا فعله إزاء هذا الخلل الحضاري والفكري ؟ فالنموذج الذي يستحق لعنة التاريخ، وصفعة الأجيال ، أمسى مثالاً للحرية والتقدم والنضال ، وليس ذلك غريباً فنحن في عصر العجائب !! .
ولكن الأدهى من ذلك أن تختل القيم والمعايير الحضارية في هذا العصر فيصبح الاعتزاز بالتراث والتشبث به تخلفاً ورجعية ، بينما التسول على موائد الغرب تقدماً وتحضراً !
حين نعتمد نحن على علمائنا السالفين في البحث عن نافذة إصلاح وتجديد نعد تقليديين أو ماضويين، بينما حين يقلدون هم علماء الغرب ورواده يعدون أنفسهم تنويريين ومبدعين !
في عصرنا أمست العصامية التراثية النبيلة ظلامية مخزية ، بينما التسول الفكري، والسطو على جهود الأوربيين عنوان التحضر والإبداع !! .
:emrose: :emrose: :emrose: