مالك مناع
09-08-2005, 10:59 PM
المـــــدخل
إن نظرية التطور لتشارلس داروين قد فقدت مصداقيتها بشكل شبه كلّي عند اقتراب القرن الحادي والعشرين، وهذه النظرية قد تبنّاها بعض المؤمنين بالفكر المادّي عند بدايات القرن العشرين و حاولوا تلقينها للناس وعملوا على إثبات صحّتها وفرضها على كونها حقيقة علمية ثابتة ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل وثبت إفلاس أصحابها فكريّا، والعامل الرئيسي لفشل هذه النظرية هو التطور الكبير الّذي طرأ على بعض فروع العلم والتي لها صلة مباشرة بهذه النظرية مثل علم الأحياء المجهرية و الكمياء الحيوية و علم المتحجرات. وثبت بعد هذا التطور في هذه العلوم أنّ الحياة لم تنشأ بالصدفة ولم تتطورخطوة خطوة كما تدّعي هذه النظرية وثبت استحالة تبنّي هذه الفكرة أصلا ،(للمزيد من التفاصيل يرجى الإطلاع على فصل"خطأ نظرية التطور"). وعجزت هذه النظرية المفلسة في إيراد الأدلة العلمية المقنعة بشأن أصل الأنواع الحية, وعجزت أيضا عن الإجابة على التساؤلات الواردة بشأن الخصائص المتميزة لبعض الكائنات الحية وأصلها.
وهذا العجز بالذات جعل المؤمنين بهذه النظرية في مأزق حقيقي، ويقوم هذا الكتاب بشرح وتحليل "التضحية لدى الكائنات الحية" كأحد الخصائص المتميّزة لبعض الكائنات الحية.
ويمكن مشاهدة هذه التضحية في الطبيعة باستمرار، كذلك يمكن ملاحظة التكافل والتعاون بين الكائنات الحية بجلاء إضافة إلى الرأفة في العلاقات الرابطة بينها. كل هذه الظواهر الطبيعية شكلت تساؤلات أمام نظرية "التطور" ولم تستطع الإجابة عنها، ياترى ما سبب ذلك؟
كان داروين وهو يدعي نظريته هذه يعتمد على آلية فكرية يكمن جوهرها في مفهوم الإنتخاب الطبيعي وهي آلية لا تعتمد أساسا على نقد أو تحيل موضوعي، وحسب تفكير داروين فإن أصل الأنواع الحية كلها يرجع إلى جد واحد ووجودهم في ظروف طبيعية مختلفة أدّى إلى إختلافهم فيما بعد عن بعضهم البعض كتكيف مع الظروف الموجودة، وإن الأنواع التي أبدت تكيّفا ناجحا وفقا للظروف الطبيعية التي وجدوا فيها قد أكتسبت صفات جديدة أورثتها للسلالات التي جاءت بعدها، لهذا السبب فإن الأنواع التي أبدت تكيفا هي الأقوى بالنسبة للتجاوب مع قوة الظروف المحيطة بها ونجحت في البقاء والإستمرار، وإن فرضية داروين هذه يعبّر عنها بالبقاء للأقوى أي الأفراد الأقوياء يصلحون للبقاء أحياء والضعفاء معرّضون للفناء .
والطبيعة على ضوء هذه الفرضية يمكن تعريفها استنادا لما جاء في مقولة جوليان هكسلي الذي يعتبر أحد الأصدقاء المقرّبين من داروين و المدافعين بشدّة عن نظريته كما يلي : "هي حلبة يتمّ انتقاء الأقوى والأصلح فيها من الأضعف والفاشل، ولا مناص من هذا الإنتقاء" .
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل صحيح أنّ الطبيعة كما يدّعي أصحاب نظرية التطوّر هي حلبة يتمّ فيها النصر للأقوى والأصلح ويسحق فيها الأضعف ويعرض للفناء بمنتهى الأنانية والقوة كشكل من أشكال الحياة ؟ .
ويمكن الإجابة عن هذا السؤال عبر ملاحظة أشكال الحياة في الطبيعة ، ومن الطبيعي أن تقوم الكائنات الحية في الطبيعة ببذل جهد كافٍ للعيش والدّفاع عن النفس، حيث ان كل كائن حيّ يجب أن يقوم بالصيد للحفاظ على حياته أو الدفاع عن نفسه، ولكن المسرح الطبيعي للأحياء لا يتألف من هذين المشهدين فقط بل يمكن ملاحظة مشاهد في الطبيعة تنطق بأنبل أنواع التضحية تقوم بها الحيوانات لصالح أفراخها وجماعاتها أو حتى تجاه حيوانات أو أنواع أخرى. و إضافة إلى التضحية فان التكافل والتعاون أو الأخذ بيد حيوان آخر والعمل على إنقاذه يعتبر من المميزات السلوكية التي يمكن مشاهدتها بكثرة في عالم الطبيعة .
وهذه المميزات السلوكية في عالم الطبيعة عجزت نظرية التطور عن شرحها بيان أسباب حدوثها, وثبت أن الطبيعة ليست مسرحا للحرب كما يدّعى وأنّ الحياة في الطبيعة قد أثبتت إفلاس نظرية التطور وعجزها كليا، ومثال على ذلك : لماذا يعود الحمار الوحشي (زيبرا) هاربا من مفترسيه ليلفت انتباههم إلى ناحيته بدلا من القطيع الذي قدم منه مستهدفا إنقاذه و مضحيا بحياته في سبيل ذلك، هذا التساؤل تعجز نظرية التطور عن الإجابة عنه، وكذلك السلوك الغريب لسمكة " أتارينا " كما سنرى في الفصول القادمة فهي تعرّض حياتها للخطر خارجة من الماء إلى السواحل الرمليّة للتبييض ومع ذلك فإن قانون الإنتخاب الطبيعي لم يستطع إزالتها من مسرح الطبيعة. وفي الصفحات القادمة ستجدون ما يجعلكم تشعرون بالحيرة والدهشة إزاء كائنات حيوانيّة غير عاقلة وغير منطقية, والإنسان اللّبيب والمنصف وحده هو الذي يستطيع أن يرجع أصل هذه السلوكيات المتميزة إلى الله الخلاّق العليم والمتصرّف وحده في خلقه لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه المبين : "واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ". "سورة الجاثية ، الآية 4"
إحدى المعضلات التي واجهتها نظرية التطور: المنطقية في سلوك الحيوانات.
فمن المعروف أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي تحكمه العقلانية والمنطقية في السلوك, فبالإضافة إلى مميزاته البدنية فإن الميزة الفريدة التي جعلته على صعيد مختلف عن باقي الكائنات الحية هي العقل والمنطق، وعلى ضوء ذلك فإن الإنسان يتميز بمحاسبة النفس والتفكير والتخطيط واستشراف المستقبل فضلا عن رد الفعل تجاه الأحداث الحاصلة والتدبّر وكذلك السير نحو هدف معيّن كلّ هذه الصفات السلوكية خاصة بـالإنسان. أما الكائنات الحية الأخرى الموجودة في الطبيعة فلا تملك هذه الصفات، لهذا السبب فلا يمكن لنا أن ننتظر من الحيوانات أنماطا سلوكية مشابهة للإنسان كالتخطيط والتقدير أو القيام ببعض الحسابات كالتي يقوم بها بعض المهندسين .
إذن، فكيف لنا أن نجيب عن بعض الظواهر السلوكية المنطقية في الطبيعة ؟
حتى إنّ بعض الحيوانات التي تتصف بهذه السلوكيات المنطقية لا تملك مخّا أصلا، وقبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من الإطلاع عن كثب عن بعض هذه السلوكيات لمعرفة كنه هذه السلوكيات ومنشئه.
القندس مهندس السّدود
يعتبر هذا الحيوان مهندسا بارعا وبناّء ماهرا في نفس الوقت حيث ينشئ عشه بمهارة فائقة وبنفس المهارة ينشئ سدّا منيعا أمام عشّه ليحميه من تأثير الماء الجاري، وهو يبذل جهدا خارقا وعلى مدى عدة مراحل لإنجاز هذا العمل المرهق. وفي المرحلة الأولى يقوم بتجميع كمّ هائل من أغصان الأشجار حيث يستخدمها في التغذية وبناء عشه والسد الذي أمامه، ولهذا يقوم هذا الحيوان بقرض الأشجار المتوفرة بأسنانه لقطعها وأثبتت الأبحاث العلمية أنه يقوم بحسابات دقيقة عند عملية القطع. ويفضل هذا الحيوان العمل على ضفة المياه التي تهب عليها الرياح وهكذا تقوم المياه بمساعدة هذا الحيوان في سحبه الأغصان التي يقطعها باتجاهه عشه .
ويتميز عش هذا الحيوان بتخطيط بارع إذ يحتوي على مدخلين سفليين تحت سطح الماء ومكان خاص فوق سطح الماء للتغذية وفوق هذا المكان يوجد مكان خاص للنوم إضافة إلى قناة خاصة لتهوئة هذا المكان . ويقوم القندس بتجميع الأغصان واحدا فوق الآخر لتشكيل الهيكل الخارجي للعش بعناية كبيرة فلا يترك فيه أية فجوة أو ثقب ويستخدم في هذا العمل الأغصان الصغيرة مع كمية من الطين .
والمواد التي يستخدمها القندس في بناء عشه تساعد على تماسكه من جهة والحفاظ على درجة الحرارة داخله من جهة أخرى, فبالرغم من انخفاض درجة الحرارة في الشتاء إلى 35 درجة تحت الصفر فإن الحرارة داخل العش تبقى فوق الصفر باستمرار ويقوم القندس أيضا بإنشاء مخزن للأغذية تحت العش يتغذى منه طيلة فصل الشتاء. وفي تلك الأثناء يقوم القندس بإنشاء قنوات تحتية على شكل شبكة, و يبلغ عرض هذه القنوات متران يستطيع هذا الحيوان بواسطتها أن يصل إلى اليابسة حيث توجد الأشجار التي يتغذى عليها.
والسدود التي يبنيها القندس تتألف من النباتات والأحجار التي يركمها فوق بعضها البعض بنفس الطريقة يبني بها العش. ويبذل هذا الحيوان جهده في رص الأغصان على شكل مثلث طويل يربط بين ضفتي المياه إضافة إلى عمله الدؤوب في رتق الفجوات الموجودة في السد عبر ملئها بالمواد اللازمة, وكلّ هذا يحدث وهو يسبح ضد تيار الماء ويمتطي كومة عشه في الوقت نفسه. وعند حدوث أية فجوة أو خلل في بناء السد يقوم القندس باستخدام الطين أو أغصان الأشجار لملئه ثانية، وهكذا يتحول السد إلى نوع من الحوض العميق يستطيع من خلاله القندس أن يجعل من عشه مخبأ كبيرا للأغذية والمؤونة تساعده على الحياة طيلة فصل الشتاء، ويستطيع القندس أن يوسع من المساحة المائية داخل العش لنقل أكبر كمية ممكنة من الغذاء والمواد اللازمة لبناء العش وترميمه حتى أن هذا الأسلوب يجعل العش في مأمن من الأعداء, وفي هذا يشبه عش القندس قلعة محاطة بخنادق الدفاع يصعب الهجوم عليها.
وفي ما تقدم لخصنا سلوك القندس كمثال على العقلانية والتخطيط والحساب الدقيق في كل مرحلة من المراحل ولكن لا يمكن لي أن أرجع هذه الصفات إلى القندس وحده بسبب افتقاده للعقل أو أي شيء يمت بصلة إلى العقل، إذن فما مصدر سلوك الحيوان؟ ولابد من وجود إجابة عن هذا السؤال، وإذا كان هذا السلوك ليس من اكتساب القندس فما مصدر هذا السلوك ؟
لا شك أن مصدر سلوك القندس أو الأمثلة الأخرى التي سنراها في الصفحات القادمة من سلوك الحيوانات المختلفة على هذا الشكل المتميز وفق تخطيط مدروس هو الله القادر على كلّ شيء الّذي لا حدّ لقدرته و علمه فهو الذي يلهم هذه الكائنات الحية ويأمرها فتبارك الله أحسن الخالقين.
دودة الإمبراطور التي تعمل وفق مخطط متعدد المراحل
من المؤكد أن القندس ليس الحيوان الوحيد في الطبيعة الذي يبدي سلوكا مخططا مدروسا, فهناك العديد من الأمثلة الحية في الطبيعة والّتي لا يمكن حصرها, والمثال الآتي يعتبر أصغر بكثير من القندس ولا ينتظر منه أي دليل على سلوك عقلي أو ما يؤكد وجود عقل أو ذكاء في بنيته، وهذا الحيوان يدعى بـدودة القز ويرقة هذه الدودة تقوم بإفراز خيوط الحرير . و كباقي أنواع اليرقات فإن هذه اليرقة تقضي فترة من فترات حياتها داخل شرنقة وعند خروجها من الشرنقة تقوم بإخفاء نفسها داخل ورقة نباتية, و عملية الإختفاء تتم بمنتهى الإحكام وفق مخطط مدروس مسبقا وعبر مراحل تتطلب مهارة فائقة لأن الورقة النباتية وهي خضراء لا يمكن طيّها بسهولة و بالتالي لا يمكن لها أن تخفي جسم الحيوان الصغير بسهولة لذا فوجب إيجاد حل لهذه المشكلة.
و هذا الحيوان قد وجد حلا بمنتهى البساطة ولكنه يفي بالغرض إلى أبعد حد حيث يقوم الحيوان بقرض جزء الورقة المتصل بالنبات لقطعها ولمنع سقوطها يقوم بربطها بشكل محكم عبر إفراز خيوط الحرير ثم تبدأ الورقة بالتيبس و تنكمش الورقة اليابسة حول نفسها, وبعد ساعات تأخذ الورقة شكلها النّهائي كأنبوب يصلح أن يكون مخبأ أمينا للحيوان و سرعان ما يلجه متخذا إياه مسكنا له.
للوهلة الأولى يمكن أن يفكّر المرء بأنّ الحيوان قد خطى هذه الخطوة المنطقية لتوفير مخبئ أمين لنفسه وهذا صحيح و لكن بدخول الحيوان داخل الورقة المتيبسة قد يصبح صيدا سهلا للباقين لأنّ اللون المختلف لهذه الورقة يجلب انتباه الطيور وهذا يعني نهاية الحيوان المختبئ داخلها. وفي هذه الخطوة بالذات تقدم الدودة على اختراع جديد بواسطته تنقذ نفسها من مخالب الطيور إذ تقوم الدودة بإجراء حسابي دقيق كالذي يقوم به أخصائيو الرياضيات أي استنادا إلى مبدأ الاحتمالات لأن الدودة تقوم بنفس العمل في أوراق نباتية أخرى وتقوم بربط هذه الأوراق حول الورقة التي تختبئ داخلها كنوع من أنواع التمويه ضد الأعداء وهكذا يصبح على غصن واحد أكثر من ورقة (6-7) واحدة منها فقط تحوي داخلها الدودة المختبئة والباقية خالية تماما، وإذا حدث و تناول أحد الطيور هذه الأوراق فيصبح احتمال وقوع الدودة كفريسة 1/6. (3)
كل هذه الظواهر السلوكية تعتمد على منطق معين بلا شك ولكن هل يمكن لهذه الدودة التي تحتوي على مخ مجهري وجهاز عصبي بسيط أن تقوم بهذه الأعمال العقلانية والمنطقية والمخطط لها مسبقا من تلقاء نفسهاا؟ وكما هو معلوم فلاحظ لهذه الدودة من التفكير. و من الاستحالة أن تكون قد تعلمت من دودة أخرى، وفي الحقيقة فإن هذه الدودة لا تعلم بالخطر الذي يتهددها في المستقبل، إذن فكيف اهتدت إلى فكرة التمويه ؟
ولو وجهتم هذا السؤال إلى أحد أصحاب نظرية التطور فلا يستطيع أن يجيب إجابة مقنعة ومحددة، و في غالب الأحيان يلجؤون إلى مفهوم واحد وهو الغريزة حيث يفسر هؤلاء طريقة سلوك الحيوانات بالغريزة، وفي هذه الحالة أول سؤال يتبادر إلى ذهننا هو تعريف الغريزة، حيث نستطيع أن نعرفها على أساس آلية معينة تجعل الدودة مثلا تخفي نفسها داخل ورقة نباتية أو تجعل القندس يبني عشه وسده بهذه الكيفية و هذه الآلية أو القوة الدافعة ينبغي أن توجد في مكان ما داخل جسم الحيوان .
ما الغريزة ؟
كلمة الغريزة تستخدم من قبل دعاة نظرية التطور لتفسير قابلية الحيوان القيام بسلوك معين منذ الولادة. وكانت هناك تساؤلات عديدة تدور حول كيفية اكتساب الحيوانات لهذه الغريزة وعن كيفية ظهور أول سلوك غريزي لدى الحيوانات وكذلك عن كيفية انتقال هذه الغريزة كابرا عن كابر. كل هذه التساؤلات باقية بدون رد أو جواب.
هناك أخصائي في علم الجينات وأحد دعاة نظرية التطور ويدعى Gordon Taylor rottary
فقد ذكر في كتابه "The great evolution Myster"أو "سر التطور العظيم " اعترافا بعجز النظرية عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة كما يلي :
لو تسائلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة (4).
"وهناك آخرون على شاكلة "Gordon Taylor" يؤمنون بنظرية التطور لا يودون الاعتراف بهذه الحقيقة وبدلا من ذلك يحاولون التمسك بإجابة غامضة ولا تحمل أية معاني حقيقية. وبالنسبة لرأي هؤلاء فإن الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستنادا إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية مسدسة وفق الغريزة الحيوانية و بمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزيا وفق الشكل المعروف.
وفي هذه الحالة يطرح الإنسان العاقل المفكر سؤاله المنطقي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟ إذ لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه ولابد من مبرمج .
ودعاة نظرية التطور لم يجدوا إجابة محددة لهذا السؤال واستخدموا أسلوبا آخر للمناورة حيث يؤكدون على اكتساب الكائنات الحية لهذه الغريزة عن طريق الطبيعة الأم وكما نعلم فإن الطبيعة الأم تتألف من الحجر و التراب و الأشجار والنباتات ..الخ . ومن من هذه العناصر لها القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟ أيّ جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك ؟كل ما نراه في الطبيعة مخلوق و لا يمكن له أن يكون خالقا، ولا يمكن للإنسان العاقل أن يقول وهو يرى لوحة زيتية جميلة ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة بلا شك يكون هذا الكلام غير منطقي. إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقا للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي. وهنا تظهر لنا حقيقة واضحة وهي عدم اكتساب هذه الكائنات الحية غير العاقلة لهذه الميزات السلوكية المنطقية من تلقاء نفسها, فهذه الميزات مكتسبة بالولادة إذن فإن هناك من خلقها بهذه الكيفية ويتميز صاحب هذا الإبداع بالعلم والعقل اللامتناهيين الذين نراهما في الطبيعة.
و بلا شك فإن صاحب هذا العلم والعقل هو الله سبحانه وتعالى. وذكر الله سبحانه وتعالى في الذكر الحكيم نحل العسل كمثال على إلهامه الكائنات الحية لاتباع سلوك معين، أي أن الغريزة التي يرددها دعاة نظرية التطور أو كما يقولون: " إن الحيوانات مبرمجة على آداء سلوك معين" ما هي إلا إلهام إلاهي لهذه الكائنات الحية, وهذه الحقيقة مذكورة في القرآن الكريم:" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون" سورة النحل الآية 68-69 "
ودعاة نظرية التطور يغمضون أعينهم أمام هذه الحقيقة لإنكار الوجود الإلهي، وهم بالتأكيد قد رأوا ومازالوا يرون الأنماط السلوكية للحيوانات ومازالوا يبحثون عن تفسير لها ويعلمون يقينا عدم قدرة نظرية التطور على تفسير هذه السلوكيات تفسيرا منطقيا. وكثيرا ما نجد عبارات وجملا مألوفة عند قراءتنا لمؤلفين من دعاة هذه النظرية ومن هذه العبارات:"..لإنجاز هذا العمل لابد من وجود عقل ذو مستوى عال ولكون الحيوانات لاتملك مثل هذا العقل فإن العلم يعجز عن الإجابة عن هذا السؤال ". ونورد المثال الآتي المتعلق بسلوك دودة القز على لسان أحد دعاة نظرية التطور المعروفين و يدعى Haimar Von Dithfurth هيرمان فون ديثفورت حيث يقول : إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة, ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولابد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية …كل هذه الظواهر لابد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة ولابد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علما أن لدودة القز جهازا عصبيا بسيطا للغاية فضلا عن بدائية سلوكها الحياتي, وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابليّة تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف.
ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها وهي بهذا الضعف من التكوين ؟ .وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيرا إلاّ بـالمعجزة أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة أي آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إليّ هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيرا خاليا من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محددة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل.
ومرة أخرى نعود إلى الحديث حول السلوك المعين للحيوانات فإن هناك ما يفرض نفسه أمام أعيننا وهو الترتيب العقلاني لهذه الأنماط السلوكية، ولو لم يكن هذا السلوك المعين مثل تحديد الهدف أو التحسب للمستقبل أو توقع ما يمكن أن يقدم عليه أي حيوان آخر وحساب رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه كعلامة على وجود عقل مدبر ومفكر، فإذن ما هو تفسير هذا السلوك ؟" (5).
هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز, هذا السلوك العقلاني والمدروس، ولا يمكن أن نجد في مثل هذه الكتب والإصدارات إلا أسئلة بدون ردود واضحة أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلاّ إلى طريق مسدود. حتى صاحب النظرية تشارلس دروين نفسه قد اعترف بهذه الحقيقة فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديدا واضحا لصحّة نظريته وذكر ذلك في كتابه "أصل الأنواع" عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها : "أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس" (6).
أما نجل تشالس داروين المدعو فرانسيس داروين فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتاب أسماه "الحياة ورسائل تشارلس داروين" "the life and letters of darwin" وذكر مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلا :في الكتاب (يعني أصل الأنواع ) وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها ..والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب "أصل الأنواع" (7).
الغرائز لا يمكن أن تتطور
إنّ دعاة نظرية التطور يجادلون بكون أغلب سلوك الحيوانات نتيجة للغريزة، ولكن كما أسلفنا القول في الصفحات السابقة لا يستطيعون إيراد تفسير مقبول عن كيفية نشوء الغرائز و لا عن كيفية ظهور الغريزة لأول مرة و لا عن كيفية اكتساب الحيوانات لهذه الغرائز، ولو حوصر أحدهم بالأسئلة لتعلق بالإدعاء التالي: "تكتسب الحيوانات أنماطا سلوكية عن طريق التجربة ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي. وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة".
وهناك أخطاء منطقية ولا يمكن أن يقبلها العقل في هذا الإدعاء، ودعونانتفحص هذه الأخطاء بالتسلسل:
1-الأخطاء الكامنة في المقولة : اختيار السلوكيات المفيدة عبر الانتخاب الطبيعي:
إنّ الانتخاب الطبيعي يعتبر الحجر الأساس لنظرية "تشارلس دروين" الخاصة بـالتطور. والانتخاب الطبيعي يعني اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكليا أو سلوكيا ) واختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة .
وهناك نقطة مهمة في هذا الإدعاء يجب أن لا نغفل عنها وهي: كون الطبيعة حسب ادعاء داروين تعتبر المحك لتمييز المفيد من الضار وهي القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود ولكن لا يوجد في الطبيعة ما يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات ما يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار، فقط من خلق الطبيعة وما تحتويه وخلق كل شيء يملك العقل والمنطق والقدرة على تمييز الضار من المفيد.
في الحقيقة داروين يعترف بنفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود و يدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه بالرغم من كونها هرطقة وغير منطقية حيث يقول: في النهاية يمكن اعتبار الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقّاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير و التغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقيا ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي (8).
ويعترف داعية آخر لنظرية التطور وهذه المرة في تركيا وهو البروفيسور جمال يلدرم بأن عاطفة الأمومة لدى الأم لا يمكن تفسيرها بواسطة الانتخاب الطبيعي ويقول بهذا الصدد :
"هل توجد إمكانية لتفسير عاطفة الأمومة تجاه الأبناء بواسطة نظام أعمى يفتقد إلى مشاعر روحية مثل نظام الانتخاب الطبيعي ؟ وبلا شك فشل علماء الأحياء ومنهم مؤيدو داروين في إيراد جواب مقنع لهذا السؤال. وهنالك صفات معنوية لدى الكائنات الحية غير عاقلة و بما أنها لا تستطيع أن تكتسب هذه الصفات بإرادتها فإذن يجب أن يكون هناك من منحها هذه الصفات، وحيث أن الطبيعة و قانون الانتخاب الطبيعي عاجزان عن إكساب الأحياء هذه الطبيعة المعنوية بسبب كونهما يفتقدان للصفات المعنوية، والحقيقة الساطعة كالشمس تتمثل وجود كافة الأحياء تحت العناية الإلهية و تدبيره المحكم، ولهذه الأسباب المتقدمة نستطيع أن نشاهد في الطبيعة أنماطا سلوكية لبعض الحيوانات تثير الحيرة والاستغراب وتجعلنا نتساءل: كيف تسنى لهذا الحيوان الاهتداء إلى هذا السلوك ؟ وكيف يستطيع هذا الحيوان أو ذلك التفكير بهذه الطريقة؟
2-الأخطاء الخاصة بتوارث السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي:
الخطوة الثانية لمؤيدي داروين هي ادعاؤهم بأن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال وهذا الإدعاء ضعيف وهش للغاية من مختلف الوجوه. قبل كلّ شيء فإن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقا .
ويقول Gordon R.Taylor مبديا رأيه المناهض لرأي أولئك الذين يدعون توارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة بما يلي :" يدعي علماء الأحياء بأن هناك إمكانية لتوارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة ويمكن مشاهدة هذه الظاهرة في الطبيعة مثلا العالم :Dobzhansky يدعي بأن جميع وظائف جسم الكائن الحي ما هي إلاّ نتاج التوارث النّاتج بتأثير العناصر والعوامل المتوفرة في المحيط الخارجي، وفي هذه الحالة يكون الأمر مقبولا بصورته النهائية بالنسبة لجميع أنواع الأنماط السلوكية، ولكن هذا غير صحيح بالمرة ويعتبر أمرا محزنا أن يكون هذا رأي عالم له مكانته مثل Dobzhansky . ويمكن القول أن هنالك بعض الأنماط السلوكية لبعض الأحياء يتم توارثها عبر الأجيال اللاحقة ولكن لا يمكن تعميم الأمر على جميع الأنماط السلوكية" .
والحقيقة الظاهرة للعيان عدم وجود أي دليل علمي يمكن بواسطته إثبات توارث بعض الأنماط السلوكية بواسطة الخريطة الجينية للكائن الحي والمعروف أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتمّ بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي (بصورة عامة) وعلى سبيل المثال أن يكون الحيوان نشيطا أو بالعكس خاملا أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطه بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف0
ولو كان الأمر كذلك فإذن ما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث ؟ لأن هناك فرضيات تثبت وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال (10).
وكما أفاد به Gordon R.Taylor فإن الادعاء بكون الأنماط قابلة للتوارث أمر غير مقبول علميا، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة كالتصميم والتخطيط للمستقبل و هذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال وهناك مثل آخر يفرض نفسه بشدة وهو المتعلق بسلوك العاملات القاصرات في مملكة النمل .
فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يقتضي منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، ولكن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد كونها قاصرات ولا يمكن لها التكاثر لذا فلا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة، ومادام الأمر كذلك ينبغي توجيه السؤال الآتي لدعاة نظرية التطور : كيف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر ؟ وما تزال هذه العاملات سواء كانت نملا أو نحلا أو أي حيوان آخر تعمل منذ ملايين السنين بهذا السلوك الذي يعكس مدى العقلانية والقابلية والتكافل و الانتظام وتوزيع الأدوار بدقة إضافة إلى روح التضحية إلا أن هذه المخلوقات لم تستطع البتة أن تورث هذه الأنماط السلوكية منذ خلقت لأول مرة .
ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهدا في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة. ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم و جميع سلوكها مكتسب بالفطرة, وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية ؟ وهو السؤال نفسه الذي طرحه داروين قبل 150سنة ولم يستطع دعاة نظرية التطور الإجابة عنه، و هناك تناقض عبر عنه داروين نفسه قائلا :
"إنه لخطأ كبير أن نتحدث عن فرضية اكتساب الأنماط السلوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأننا كما نعلم هناك غرائز محيرة للغاية كتلك التي عند النمل أو النحل ولا يمكن البتة اكتسابها بالتطبع" (11).
فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج, أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة وتورث إلى جيل لاحق وهكذا, لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد و هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة, و لهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي (1).
ويعبر جمال يلدرم أحد المؤمنين بنظرية التطور عن التناقض الذي وقع فيه المتبنّون لهذه النظرية: ولنأخذ على سبيل المثال الحشرات التي تعيش على شكل مجتمعات مثل النمل أو النحل, فهذه الحشرات عقيمة وليست لديها أية إمكانية لتوريث أية صفات حيوية جديدة تنقلها إلى أجيال لاحقة إلا أنها تبدي تكيفا مدهشا مع ظروف المحيط الذي توجد فيه وعلى أعلى المستويات. (13)
ويتضح مما تقدم من اعترافات العلماء و أقوالهم استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور لأن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي ولا يمكن توريثها إلى أجيال لاحقة.
3-سقوط فكرة تطور الغرائز بتطور الأحياء
تدعي نظرية التطور بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور. ووفقا لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك والطيور من الزواحف... ولكن يجب أن لا ننسى أن النوع الواحد يختلف تماما من حيث السلوك حيث تختلف السمكة عن الزواحف من حيث السلوك اختلافا كليا. ويدور السؤال التالي: هل تعرض سلوك الكائن الحي إلى تطور كما تعرض بناؤه الحيوي البيولوجي الى تطور؟
وهذا التساؤل يعتبر أحد التناقضات والمآزق الفكرية التي وقع فيها دعاة نظرية التطور وقد وضع داروين إصبعه على هذا التناقض وتوصل الى استحالة اكتساب الغرائز بالانتخاب الطبيعي وتغيرها بالتطور حيث تساءل قائلا: هل من الممكن اكتساب الغرائز بالانتخاب الطبيعي وتطويرها وتغييرها فيما بعد ؟ ماذا يمكننا القول أمام بناء نحل العسل لخليته بهذا الشكل الهندسي الذي سبق أخصّائيّي الرياضيات بزمن سحيق ماذا يمكننا القول أمام هذه الغريزة (14). وهذا التناقض يمكن إيراد الأمثلة المختلفة عليه من كافة أنواع الحيوانات كالأسماك والزواحف والطيور. فالأسماك لها صفات خاصة بها من حيث التكاثر والصيد والدفاع عن النفس فضلا عن إنشاء منازلها بطريقتها الخاصة، وهذه الصفات الخاصة في حالة تلائم تماما الوسط المائي الذي تعيش فيه. وهناك بعض الأنواع من الأسماك تقوم بلصق بيضها تحت الأحجار الموجودة في قاع البحر وبعد لصقها لبيضها تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتيح أكبر كمية من الأكسيجين اللازمة لتنفس الأجنة الموجودة داخل البيض.أمّا الطيور فتضع بيضها في أعشاش ذات بناء خاص تبنيها لهذا الغرض وترقد على بيضها مدة زمنية محددة لازمة لفقس البيض .
أما التماسيح والتي تعتبر حيوانات برية فتملك سلوكا معاكسا تماما فتقوم بدفن بيضها تحت الرمال مدة شهرين كاملين لازمة لفقسها، وهناك بعض الأسماك تقوم بوضع بيضها داخل الأحجار الموجودة في قاع البحر ومن جانب آخر هناك بعض الحيوانات البرية تقوم ببناء مساكنها على أطراف الأشجار العليا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، أما الطيور فتنشأ أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات البرية أما اللبان التي يدعون أنها نشأت من الزواحف فتختلف من حيث التكاثر اختلافا كليّا عن باقي الكائنات الحية . فبينما تكون باقي الحيوانات تتكاثر بالبيض تتكاثر اللبان بأن تحمل أجنتها داخل بطونها أشهرا عديدة وبعد أن تضع جنينها تقوم بتغذيته باللبن الذي يفرزه جسمها.
وهناك أسلوب للصيد مختلف لكلّ نوع من أنواع الأحياء, فبينما يبقى بعضها كامنا للصيد فترة طويلة يكون البعض منها متخفيا بلون المكان الموجود فيه والبعض الآخر يعتمد على السرعة والمباغتة. وكما يتضح هناك اختلاف كبير وشاسع بين الحيوانات البرية والحيوانات المائية وكلّ نوع يتميز باختلاف واضح حسب الوسط الذي يعيش فيه.
من هذا العرض نستنتج أن التغيير في الغرائز ينبغي أن يكون مصاحبا للتطور الحاصل في الأحياء. على سبيل المثال أن تصبح السمكة التي تضع بيضها تحت أحجار قاع البحر وترفرف بزعانفها رعاية لها حيوانا بريّا تقوده غريزته المتطورة إلى بناء أعشاش خاصة على أطراف الأشجار و يرقد على البيض مدة معينة لأجل تفقيسها. وهذا الأمر محال طبعا، والاستحالة الأخرى في هذا الموضوع يمكن توضيحها بفرض عدم استطاعة الكائن الحي العيش نتيجة عدم ملاءمة سلوكه غير المتطور لبنيته المتطورة نتيجة تغير الوسط الذي يعيش فيه حيث لا تستطيع السمكة التي تتقن التّخفي في البحر العيش إلا بعد إيجادها وسيلة جديدة للدفاع, بالإضافة إلى ضيق الوقت لتحقيق ذلك لأنه يجب أن تقوم بتغيير سلوكها وطريقة حياتها وبناء جسمها بصورة مستمرة وإلاّ فإنها معرضة للهلاك وانقراض نسلها.
ومن الواضح أنه لا يوجد حيوان غير عاقل يمتلك القابلية لاتخاذ مثل هذا القرار السريع والإستراتيجي الّذي يتطلب قوى عقلية . إذا فكيف يتم تفسير سلوك الحيوانات الملائم لبناء أجسامها وشروط الوسط الذي تعيش فيه ؟ وأدلى داروين بدلوه في هذا الخصوص في معرض رده على النـقد الموجه لكتابه "أصل الأنواع " قائلا : كان هناك اعتراض على فكرة أصل الأنواع مفاده أنه ينبغي أن يكون التغيير الحاصل في بناء الكائن الحي متزامنا مع التغيير في غرائزه فضلا عن كونهما متلائمين مع بعضهما لأن أي تباين يحدث بينهما يعني الموت المحتم "(15).
يتضح مما تقدم أنه لا يمكن تفسير سلوك الحيوان بواسطة التطور عبر الزمن أو بالصدفة أو بتأثير الطبيعة الأم. إذن فكيف اكتسبت الكائنات الحية تلك الصفات والخصائص التي تتيح لها مواصلة حياتها؟ والجواب على السؤال في غاية الدقة والوضوح . فالإنسان المطلع على طريقة معيشة الأحياء يستطيع أن يرى استحالة تشكل هذه الأنماط السلوكية من تلقاء ذاتها أو بواسطة سلسلة من المصادفات. ومصدر هذه الأنماط السلوكية لا يوجد في أجسامها ولا في المحيط الذي تعيش فيه. إذن فهناك عقل وقوة لا يمكن رؤيتهما بالعين المجردة يقومان بإدارة سلوك هذه الكائنات الحية. ولا شك أن صاحب هذا العقل وهذه القوة هو الله سبحانه وتعالى والذي وسعت رحمته كل شيء.
والنتيجة: أنّ كل الكائنات الحية تتحرك بواسطة إلهام إلهي.
كما ذكرنا في الصفحات السابقة واجه دعاة نظرية التطور إشكاليات كبيرة تتعلق بتفسير سلوك الحيوانات في حين أنّ الحقيقة واضحة جلية وهي عدم استطاعة الكائن الحي غير العاقل أن يقوم بتمييز الفروق الواضحة أو أن يقوم بالربط بين الوقائع أو اتخاذ قرار صحيح, فضلا عن عدم قدرته على التخطيط لعدة مراحل مقبلة إلى جانب أشياء أخرى تتطلب عقلا وتفكيرا و إدراكا. ويقول دعاة التطور إنّ هذه الكائنات الحية مبرمجة على أداء هذه الأعمال، إذن من هو الذي وضع هذا البرنامج ؟ و ما هي القوة التي تجعل نحل العسل يفرز الشمع الخاص لبناء الخلية ؟ والجواب واضح ودقيق، والإنسان الذي لديه علم بطريقة معيشة الأحياء ولوعلم بسيط يستطيع أن يتوصل إلى عدم إمكانية تولد هذه الأنماط السلوكية من تلقاء نفسها أو محض الصدفة بل الواضح أن هناك قوة تحكم هذه الطبيعة وتديرها ولها تأثير مباشر على سلوك الكائنات الحية. وصاحب هذه القوة بلا شك هو الله الخلاق العليم. و نظرية تعجز أن تفسر كيفية خلق الكائن الحي لابد لها أن تقف عاجزة أمام تفسير سلوك ذلك الكائن الحي ومصدره. لذا فإجراء الأبحاث حول سلوك الكائنات الحية له أهمية قصوى بلا شك لأن هذه الأبحاث تثبت أنه لا يوجد كائن حيّ يعيش جزافا أو دون ضابط، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يقوم بخلق الكائن الحي من العدم ويدبر أموره ويراقبه في كل حين وينظم له سلوكه بقدرته, ربّ السماوات والأرض وما بينهما، وهذه الحقيقة وردت في القرآن الحكيم . يقول الله تعالى في كتابه الكريم:" إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربي على صراط مستقيم ". سورة هود الآية 56.
روح التضحية لدى الكائنات الحية تفنّد ادعاء داروين بأن البقاء للأقوى
مثلما أسلفنا القول في الصفحات السابقة فإن الأمر حسب ادعاء داروين يعتمد على قانون الانتخاب الطبيعي, أي أنّ الكائنات الحية التي تستطيع أن تتكيف مع شروط الوسط الذي تعيش فيه تستطيع مواصلة حياتها والحفاظ على نسلها, و أمّا الكائنات الضعيفة التي لا تستطيع التكيف مع تلك الشروط فهي معرضة للهلاك والفناء، و بناء على هذا يكون التعريف المنطقي للطبيعة وفقا لقانون الانتخاب الطبيعي لـداروين هو المكان الذي تقوم فيه الكائنات الحية بكفاح مرير فيما بينها من أجل البقاء فيبقى القوي و يفنى الضعيف.
واستنادا إلى هذا التعريف ينبغي على كل كائن حي أن يكون قويا ومتميزا بالقوة عن الآخرين في سبيل الكفاح والبقاء. و في وسط مثل هذا لا يمكن الحديث عن بعض الميزات مثل الإيثار والتضحية والتكافل, فهذه الميزات قد تصبح ذات آثار سلبية على الكائن الحي نفسه. ويتميز الكائن الحي وفقا لهذا المنطق بمنتهى الأنانية ولا همّ له سوى البحث عن الغذاء وإنشاء البيت الذي يؤويه وأن يحمي نفسه من خطر الأعداء.
و لكن هل صحيح أن الطبيعة هي المكان الذي يضمّ كائنات حية تخوض فما بينها صراعا مريرا للقضاء على بعضها البعض بمنتهى الوحشية والأنانية ؟. إن الأبحاث الجارية بهذا الشأن حتى يومنا هذا قد أبطلت ادّعاءات دعاة التطور. فالطبيعة ليست كما زعم هؤلاء من أنها تمثل ساحة للحرب بين الأحياء، إنّ الطبيعة على خلاف ذلك تحوي بين جيناتها أمثلة حية للتضحية بالنفس في سبيل الآخرين. وهناك أمثلة لا يمكن حصرها تكشف صورا غاية في التضحية من أجل الغير تملأ أركان الطبيعة ويذكر جمال يلدرم في كتابه "التطرف وقانون التطور ".
إن الأسباب التي جعلت داروين وغيره من رجالات العلم في عصره يصورون الطبيعة على أنها تمثل مسرحا للحرب بين الأحياء يمكن إجمالها في النقاط التالية: كان رجال العلم في القرن التاسع عشر يقبعون في مختبراتهم أو أماكن عملهم لمدة طويلة ولا يدرسون الطبيعة ميدانيا و لهذا ذهب خيالهم ببساطة إلى الاستسلام لفكرة كون الكائنات الحية في حالة حرب صامتة فيما بينها، وعالم فذ مثل هالي Haley لم يستطع إنقاذ نفسه من براثن هذا الوهم (16).
أما العالم بتر كروبوتكين Peter Kropotkin الذي يؤمن أيضا بنظرية التطور فيذكر في كتابه Mutual Aid:A Factor in Evolution أو " الهدف المشترك : العامل المؤثر في التطور " الخطأ الذي وقع فيه داروين و مؤيدوه قائلا : داروين و مؤيدوه عرّفوا الطبيعة على أنها مكان تخوض فيه الكائنات الحية حروبا مستمرة بين بعضها البعض. و يصور هاكسلي Haxley عالم الحيوان باعتباره حلبة مصارعة تقوم فيه الحيوانات بصراع مرير فيما بينها و تكون الغلبة من بينها للذكي والسريع وهو الذي يستطيع العيش ليبدأ في اليوم التالي صراعا جديدا وهكذا. و يتبين لنا منذ الوهلة الأولى أن وجهة نظر هكسلي بشأن الطبيعة ليست علمية ….(17).
وهذا الوضع يعتبر شاهدا على عدم استناد نظرية التطور إلى ملاحظات علمية، ويغلب على العلماء من دعاة هذه النظرية التزمت الفكري في دعمهم للنظرية التي يؤمنون بها من خلال تحليل بعض الظواهر الموجودة في الطبيعة وفقا لهواهم. والحقيقة أن الحرب التي يدعي داروين أنّها تنتشر في أرجاء الطبيعة تبين أنها خطأ كبير لأننا لا نجد في الطبيعة الأحياء التي تكافح من أجل البقاء فقط بل نجد أيضا كائنات حية تبذل تعاونا ملحوظا نحو الكائنات الحية الأخرى, والأعجب من هذا أنها تؤثرها أحيانا على نفسها. ولهذا السبب يعجز دعاة التطور عن تفسير ظواهر الإيثار لدى بعض الكائنات الحية. و ورد في مقال صادرة في إحدى المجلات العلمية النص التالي الذي يصور عجز هؤلاء: " المشكلة تكمن في السبب الذي من أجله تتعاون الكائنات الحية، وبالنسبة إلى نظرية داروين فهي تقول إنه ينبغي على كل كائن حي أن يكافح من أجل البقاء والتكاثر، ومعاونة باقي الكائنات الحية يقلل من فرص نجاح ذلك الكائن الحي في البقاء وعلى هذا الأساس ينبغي أن يزال هذا النمط السلوكي عبر التطور، ولكن الملاحظ أن الإيثار لا يزال موجودا في سلوك الكائنات الحية (18).
وأبسط مثال على الإيثار هو سلوك عاملات النحل فإنها تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها وهي تعلم يقينا أنها ستموت، فإبرتها اللاسعة تبقى مغروزة في الجسم الذي تلسعه و نظرا لارتباط هذه الإبرة الوثيق بالأعضاء الداخلية للحشرة فإنها تسحب معها هذه الأعضاء خارجا متسببة في موت النحلة. ويتضح من ذلك أنّ النحلة العاملة تضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية .
أمّا ذكر البطريق و أنثاه فيقومان بحراسة عشهما حتى الموت، فالذكر يسهر على رعاية الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، ولا يستطيع طيلة هذه الفترة أن يتناول شيئا من الغذاء أماّ الأنثى فتذهب إلى البحر لتجلب الغذاء و هي تجمعه في بلعومها وتأتي به إلى فرخها ويبديان تفانيا ملحوظا من أجل فرخهما .
و يعرف عن التمساح كنه من الحيوانات المتوحشة إلا أنّ الرعاية التي يوليها لأبنائه تثير الحيرة الشديدة, فعندما تخرج التماسيح الصغيرة بعد فقس البيض تقوم الأم بجمعها في فمها حتى تصل بها إلى الماء ثم تعكف على رعايتها وتحملها في فمها أو على ظهرها حتى تكبر و يشتد عودها و تصبح قادرة على مواجهة المصاعب بنفسها، وعندما تشعر التماسيح الصغيرة بأي خطر سرعان ما تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم أمّها و هو الملجأ الأمين بالنسبة أليها. إن هذا السلوك يثير الاستغراب خاصة إذا علمنا أن التماسيح حيوانات متوحشة والمنتظر منها أن تأكل أبناءها و تلتهمهم لا أن ترعاهم و تحميهم..
وهناك بعض الأمهات من الحيوانات تترك القطيع الذي تعيش فيه لترضع أولادها, فتتخلف الأم مع ولدها و تضل ترضعه حتى يشبع عن معرّضة حياتها لخطر جسيم. والمعروف عن الحيوانات أنها تهتم بأولادها الذين ولدوا حديثا أو الذين خرجوا من البيض لمدد طويلة تصل إلى أيام أو أشهر أوحتّى بضع سنين فتوفر هذه الحيوانات لصغارها الغذاء والمسكن والدفء و تقوم بالدفاع عنهم من خطر الأعداء المفترسين. وأغلب أنواع الطيور يقوم بتغذية صغاره من 4-20 مرة في الساعة خلال اليوم الواحد, أماّ إناث اللبان فأمرها مختلف إذ يتحتم عليها أن تتغذى جيدا عندما ترضع صغارها حتى توفر لهم اللبن الكافي, وطيلة هذه الفترة يزداد الرضيع وزنا بينما تفقد الأم من وزنها بشكل ملحوظ.
أما الطبيعي و المتوقع في هذه الحالات فهو أن تهمل هذه الحيوانات غير العاقلة صغارها و تتركها و شأنها لأن هذه الحيوانات غير العاقلة لا تفهم معنى الأمومة أو العطف و لكنها بالعكس من ذلك تتحمل مسؤولية رعايتها و الدفاع عنها بشكل عجيب.
و لا تقوم الأحياء باتخاذ مثل هذا السلوك مع صغارها فقط وإنما قد تبدي العطف نفسه والحنان نفسه إزاء الحيوانات الأخرى أو الأفراد الأخرى التي تعيش معها في المجموعات نفسها، و يمكن ملاحظة ذلك عندما تشح مصادر الغذاء, فالمتوقع في مثل هذه الحالات العصيبة أن ينطلق القوي منها ليبيد الضعيف ويستحوذ على ما يوجد من الغذاء، غير أنّ الذي يحدث هو عكس ما يتوقعه دعاة التطور. و يورد كروبوتكين و هو معروف بتأييده لهذه النظرية أمثلة عديدة تتعلق بهذا الموضوع منها مثلا: يبدأ النمل بتناول ما ادخره عندما تشحّ مصادر الغذاء بينما تبدأ الطيور بالهجرة بشكل جماعي إلى مكان آخر, كما تتوجه القنادس الشابة إلى الشمال والكبيرة في السن إلى جنوب الأنهار حيث تعيش هناك مزدحمة (19).
والذي يفهم من هذه الأمثلة أنه لا وجود لمنافسة أو مزاحمة بين الحيوانات من أجل الغذاء بل بالعكس يمكن مشاهدة أمثلة عديدة للتعاون والتضحية بين الحيوانات حتى في أقسى الظروف. و هي تعمل في أحيان كثيرة على التخفيف من وطأة الظروف و قسوتها. و مع هذا فهناك مسألة يجب أخذها بعين الإعتبار وهي أن أيّا من هذه الحيوانات لا تملك عقلا أو فكرا يجعلها تتخذ هذه القرارات وتنشئ هذا النظام. إذن فكيف يمكن تفسير تجمع هذه الحيوانات في مجموعات ذات هدف واحد وتعمل مجتمعة لتحقيق هذا الهدف المشترك؟.
بلا شك إن الذي خلق هذه الأحياء وألهمها اتباع ما ينفعها والذي يحافظ عليها هو الله رب العالمين جلّت قرته . و يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن كيفية رعايته الإلهية للكائنات "و ما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كلّ في كتاب مبين ". سورة هود الآية 6
أمام هذه الحقائق في الطبيعة تسقط ادعاءات دعاة التطور عن كون الطبيعة مسرحا للحرب لا ينتصر فيها إلا من كان أنانيا و من لا يرى سوى مصالحه فقط ويوجهJohn Maynard Smith أحد دعاة التطور المشهورين سؤالا لأقرانه في الفكر يتعلق بهذا النوع من السلوك لدى الحيوانات: إذا كان الانتخاب الطبيعي يعني اختيار الصفات الصالحة للكائن الحي والتي تضمن له بقاءه وتكاثره فكيف يمكن لنا أن نفسر صفة التضحية لدى بعض الحيوانات ؟ (20)
غريزة الحفاظ على النسل
مثلما اتضح في الصفحات السابقة فإن صفة التضحية في سلوك بعض الحيوانات لم يكن بإمكان دعاة التطور تفسيرها. وهناك أمثلة عديدة للتضحية في الطبيعة تهدم الأساس الفكري لنظرية التطور حتى إن ستيفن جي جولد Stephen Jay Gouli يتحدث عن التضحية في الطبيعة كمشكلة عويصة تواجه نظرية التطور (21).
من جانب آخر يتحدث عنها جوردن تايلر Gorden Taylor باعتبارها مانعا أو سدا كبيرا أمام نظرية التطور ليعبرعن عمق المأزق الفكري الذي يواجه هؤلاء في دفاعهم عن هذه النظرية. وهذه التضحية والرأفة التي يمكن مشاهدتها في الطبيعة تحمل مفاهيم كبيرة وتعتبر طعنة قاتلة في جسد نظرية أولئك الذين ينظرون الى الطبيعة نظرة مادية بحتة ويعتبرونها نتاج مصادفات لا غير.
وهناك البعض من غلاة المؤمنين بنظرية التطور فسر هذه الظواهر تفسيرا آخر مختلفا سماه بقانون الجين الأناني, ورائد هذه الفكرة أحد الغلاة في وقتنا الحاضر ويدعى richard dawkins و هو يرى أن التضحية التي تعبر عنها بعض الكائنات الحية هي إلاّ نتاج أنانيتها، وحسب قوله فإن الحيوان عندما يبدي تضحية ما فإنه لا يفعل ذلك دفاعا عن الباقين بل حفاظا على جيناته أي أنّ الأم عندما تذود عن صغيرها فهي في الحقيقة تدافع عن الجينات التي تولدت منها لأنّ صغيرها عندما يتمّ إنقاذه فإنه يستطيع أن ينقل هذه الجينات إلى أجيال لاحقة، وعلى هذا الأساس تصبح الكائنات الحية بما فيها الإنسان شبيهة بآلات لتوليد الجينات ومسؤولة عن نقلها إلى أجيال لاحقة.
ويدعي هؤلاء بأن الكائنات الحية مبرمجة على الحفاظ على النسل ونقل الجينات إلى أجيال لاحقة ولهذا تسلك سلوكا يلائم هذا البرنامج. ونورد مثالا على طريقة تفكير هؤلاء وتفسيرهم لسلوك الحيوانات من خلال الاطّلاع على نصّ مأخوذ من كتاب في علم الأحياء يتبنى هذه النظرية و عنوانه: Essentails of Biology أو مبادئ علم الأحياء والنص كما يلي:كيف يمكن تفسير السّلوك الذي يقود صاحبه إلى الخطر من أجل إنقاذ غيره؟ بعض السّلوكيات المستندة إلى التضحية مصدرها الجينات الأنانية، والاحتمال الأكبر أن تكون الكائنات الحية وهي تعرّض نفسها للخطر في سبيل جلب الغذاء اللاّزم لصغارها تسلك هذا السلوك وفق برنامج جيني محدّد, وسلوكها هذا يهدف إلى سلامة انتقال الجينات من الأبوين إلى الأبناء ومنهم إلى أجيال لاحقة، ويبدوا ردّ الفعل هذا من الكائنات الحية تجاه أعداءها نوعا من السلوك لتحقيق هدف معين, ويتجلى هذا البرنامج المعين للسلوك الحيواني في الرّائحة والصوت والمظهر الخارجي و أشكال أخرى (22).
ولو تأملنا في النص السّابق لاتّضح لنا أن الكاتب يقصد بأن الكائنات الحية في سلوكها تبدو وكأنها تسعى إلى شيء معين لا عن دراية وفهم بل لأنها مبرمجة على أن تسلك مثل هذا السلوك، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: ما مصدر هذا البرنامج؟ والجين الذي نتحدث عنه هو شبيه بمجموعة من الشّفرات المعلوماتية، ولكن هذه المجموعة من الشفرات لا تستطيع التفكير، والجين يفتقد الذكاء والعقل والتقدير. لهذا السبب إذا وجد جين خاص يدفع الكائن الحي إلى التضحية فلا يمكن أن يكون هذا الجين هو الآمر بالتضحية. لقد صمّم الحاسوب من قبل مصمم عاقل وذو دراية على أن يتوقف عن العمل عند الضغط على زر الإيقاف, إذن فالحاسوب لا يغلق من تلقاء نفسه و زر الإيقاف لا يعمل بالصدفة دون مصمّم. إنّ حدا قد برمج هذا الزر على أن يوقف الجهاز عن العمل عند الضغط عليه .
إذن فجينات الكائن الحي مبرمجة على دفع هذا الكائن الحي نحو التضحية بنفسه, وهناك قوة ذات عقل ودراية صممت وبرمجت هذه الجينات بهذه الصّورة، وهذه القوة تلهم الكائنات كل لحظة وتراقبها و تهديها إلى اتّباع سلوك معين, وهذه القوة هي الله جلت قدرته، وهذه الحقيقة يذكرها القرآن كما يلي :" ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون# يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون" الآية 49 .سورة النحل .
" الله الذي خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعتموا أن الله على كل شيء قدير و أن الله قد أحاط بكل شيء علما " الآية 12 سورة الطلاق .
الكائنات الحية لا تبدي تعاونا نحو أقربائها من حملة جيناتها فقط بل نحو الكائنات الحية الأخرى أيضا كما سنرى أمثلة مفصلة عديدة في الباب الثالث من هذا الكتاب, فإن الكائنات الحية لا تساعد صغارها فقط بل تمد يد العون نحو الكائنات الحية الأخرى، وهذه الظاهرة شكلت مشكلة عسيرة الحل بالنسبة إلى نظرية التطور لأن هذه الظاهرة لا توحي برغبة في الحفاظ على انتقال الجينات من نسل إلى آخر. وتحلل مجلةCientific American التي تتبنى هذه النظرية ظاهرة التعاون بين الحيوانات كما يلي: هناك مثال حي لتعاون حيوانين غير قريبين من بعضهماالبعض جينيّا وهو تعاون ذكري حيوان البابون، فإذا حدث تنافس أو صراع بين ذكرين من هذا الحيوان يطلب أحدهما مساعدة من ثالث, ويبدأ الذي طلب المساعدة بهز رأسه إلى الأمام والخلف أي بين الذي جاء لنجدته وبين خصمه، ويفسر البعض هذا السلوك بأن الذي طلب المساعدة يعد الذي قدم لنجدته بالمساعدة مستقبلا إذا حدث و أن تعرض لأي مكروه. إلا أن نظرية التطور تعجز عن تفسير كيفية منع الخديعة في الصراع بين الذكور وتعجز أيضا عن تفسير طلب الذكر للمساعدة مرة أخرى و الداّفع الذي يجعله يسلك مثل هذا السلوك, والحقيقة الحقيقة التي لا لبس فيها تتمثل في أن الله سبحانه وتعالى يلهم المخلوقات ويدفعهاإلى أن تضحي بنفسها وهي تسلك هذا السلوك.
و سنذكر في الصفحات القادمة أمثلة على التضحية والرأفة والشفقة التي تبديها الكائنات الحية المختلفة، ويجب أن لا ينسى القارئ أن الّذي ألهم هذه الكائنات الحية هذه التضحية والرأفة والشفقة هو الله الذي خلقها فتبارك الله أحسن الخالقين .
تضحية الكائنات الحية داخل العائلة الواحدة
إنّ قسما من الكائنات الحية يقضي حياته أو جزءا كبيرا من حياته مع باقي أفراد ما يسمى "بالعائلة", فنجد على سبيل المثال البطريق والبجع, إذ يعيش هذان الحيوانان مع زوجيهما طيلة فترة حياتهما، أمّا إناث الأسود والفيلة فتعيش مع أمهاتها أو أمهات أمهاتها24. وعموما يتصف ذكور اللبائن بإنشاء عائلات خاصة بهم فتتألف هذه العائلات من الذكور والإناث والصغار. وإنشاء هذه العائلات يلقي مسؤولية على عاتق البالغين لأن الذكور في هذه الحالة ينبغي عليها الذهاب للصيد أكثر من ذكور الأنواع التي تعيش وحيدة، وينبغي عليها الدفاع ليس فقط عن نفسها بل عن أفراد العائلة أيضا، ثم إنّ الدّفاع عن الصغار يتطلب تضحية كبيرة .
وعملية إنشاء عائلات والدفاع عنها يتطلب جهدا كبيرا وتحمّل مخاطر جسيمة و ترك الخلود إلى الراحة. وهذه العملية تثير تساؤلا مهمّا مفاده : لماذا تختار الحيوانات هذا الطريق الصعب. ؟
واختيار الحيوانات لهذا الطريق المحفوف بالمخاطر يبطل نظرية داروين والتي تقول بأن البقاء للأقوى، والموت والفناء للأضعف, فنحن سنرى في الصفحات القادمة من خلال أمثلة عديدة كيف تصمد, بل سنكتشف كيف أن الحيوانات الأقوى تعمل على المحافظة على حياة هذه الحيوانات الضعيفة و بأنبل صورة للإيثار والتضحية .
كيفية تعرّف أفراد العائلة الواحدة على بعضهم البعض
ينبغي على أفراد العائلة الواحدة أن يملكوا آلية خاصة للتعرف على بعضهم البعض، وبواسطة هذه الآلية الخاصة للتعارف تستطيع الكائنات الحية التي تعيش على شكل مجموعات كبيرة أو مستعمرات أن تتعرف على صغارها أو أزواجها وحتى على آبائها أو أمّهاتها أو أشقّاءها. ووسيلة التعرف تختلف من حيوان لآخر، فالطيور التي تبني أعشاشها على الأرض مثلا تتعرف على فراخها عن طريق الصوت والشكل الخارجي، ومنها طائر النورس الذي يقتات على سمكة الرّينكا. و يعيش هذا الطائر ضمن مجموعات كبيرة العدد ويستطيع أن يميز صوت فراخه وسط الزّحام الهائل دون أن يختلط عليه الأمر بين باقي الأصوات حتى وإن كانت الفراخ بعيدة عن بصره. وعند دخول طائر صغير آخر إلى المكان الذي توجد فيه الفراخ سرعان ما يطرد من تلك المنطقة .(25)
أما اللبائن فتستطيع التعرف على صغارها عن طريق الرائحة، وتقوم الأمّ بشم ولدها لحظة ولادته وفيما بعد تصبح هذه الرائحة وسيلة للتعرف على الصّغار (26).
و يعتبر البطريق من أنجح الحيوانات في استخدام وسيلة التعرف, ويبدو لنا الأمر شبه مستحيل عند التّعرف على طير وسط طيور متشابهة تماما. والمحير أن البطريق يستطيع بسهولة التعرف على أفراد عائلته دون خلط وخصوصا الأنثى, فهي تغيب مدة 2-3 أشهر لجلب الغذاء وعند عودتها لا تجد أية صعوبة في التّعرف على ذكرها وصغيرها من بين مئات البطاريق.
والأغرب من ذلك قيام طيور البطريق بجمع صغارها في محلّ واحد شبيه بروضة من رياض الأطفال ثم تذهب إلى البحر، و هذه الطيور الصغيرة تتراص جنبا إلى جنب, و هذه العملية مهمة للحفاظ على الصغار من شدة البرد. والمسألة المهمة هنا هي كيفية تعرف طيور البطريق البالغة على صغارها عند الرجوع من الصيد من بين مئات الصّغار؟
غير أن طائر البطريق لا يصعب عليه حل هذه المشكلة لأن البطريق البالغ يبدأ في إصدار أصوات مرتفعة ويستطيع الصغير أن يتعرف على أمّه وأبيه فيسرع باتجاههما(27).
ولاشك أن وسيلة الصّوت هذه أنجع وسيلة لتعرف أفراد مستعمرة البطريق على بعضهم البعض من بين الآلاف من البطاريق. ولكن كيف أمكن لهذه الطيور المتشابهة فيما بينها إلى حد التطابق أن تمتلك أصواتا مختلفة بعضها عن بعض؟ وكيف اكتسبت هذه الطيور قابلية التمييز بين الأصوات المختلفة؟ من المستحيل أن تكون طيور البطريق قد اكتسبت هذه القابلية بمحض إرادتها، إذن من الذي وهبها هذه الميزة الفريدة ؟
ما هو العنصر من عناصر الطبيعة الذي تولى هذه المهمة؟ هل هو الجليد في المنطقة القطبية ؟ أم الصخور ؟ الجواب قطعا ليست هذه العناصر أو أحدها لأنّ هذه العناصر التي يتحدث عنها دعاة التطور بدورها مخلوقة، إذن فالجواب الواضح الذي لا لبس فيه هو أن الله هو الذي وهبها ميزة الصوت المختلف وجعل هذه الطيور ذات قدرة على تمييز الأصوات المختلفة وهو الذي يسر لها معيشتها بهذه الصورة المعجزة وهو البارئ المصور.
الأعشاش المبنية للصغار والمجهزة بجميع وسائل الرّاحة
هناك دور كبير للمنازل والأعشاش التي تبنيها الحيوانات في رعاية وتنشئة الصغار، وهناك أساليب مختلفة باختلاف أنواع الحيوانات في طريقة إنشاء هذه الأعشاش بتفاصيل تقنية باهرة، وفي أحيان كثيرة تتصرف الحيوانات مثل مهندس معماري بارع، وتعمل على شاكلة بنّاء ماهر في عمله، وتجد حلاّ لكل مشكلة قد تواجهها أثناء البناء تماما مثل المهندس ومثل أخصائي في الديكور حيث تقوم بتوفير ما يلزم لداخل العش، وفي أحيان كثيرة أخرى تعمل هذه الحيوانات ليل نهار للإعداد لهذه الأعشاش، وإذا كان لهذه الحيوانات أزواجا فتقوم بتوزيع الادوار و التعاون في صورة مثيرة للإعجاب. ومن أكثر الأعشاش والمنازل التي يعتنى بها عناية خاصة من قبل البالغين هي التي تنشأ لاستقبال الصغار الجدد . والتقنية التي تستخدمها هذه الكائنات غير العاقلة تثير الإعجاب و الدهشة في آن واحد، ويتضح ذلك من خلال الأمثلة التي سنوردها في الصفحات القادمة , و سيتضح كذلك أن هذه الأعشاش والمنازل لا يمكن أن تنشأ اعتمادا على الذكاء المتواضع لهذه الحيوانات، و من الجدير بالذكر أن هذه الحيوانات، تخطط وتخطو مراحل متعددة قبل الشروع في بناء أعشاشها أو منازلها لوضع بيضها أو ولادة صغارها، كذلك تختار هذه الحيوانات المكان الأمثل والأكثر أمنا لإنشائها, فهذه الحيوانات لا تنشئ منازلها عبثا و أينما اتفق. وطريقة بناء العش أو المسكن يتم اختياره من قبل الحيوان أو الطير وفقا للمواد الأولية المتوفرة وظروف البيئة الخارجية، فمثلا تستخدم الطيور البحرية الأعشاب البحرية التي تطفوا على سطح الماء وتقاوم الأمواج في بناء أعشاشها، أمّا الطيور التي تعيش في مناطق الأعشاب الطويلة فتنشئ أعشاشا عميقة و واسعة لتفادي السقوط عند هبوب الرياح، والطيور الصّحراوية تبني أعشاشها على قمم النباتات التي تمتاز بانخفاض درجة حرارتها أقل بعشر درجات عن درجة المحيط، وإلاّ فإنّ درجة حرارة اليابسة تربو على 45ْ وهي تؤدي حتما إلى موت الأجنة الموجودة داخل البيض .
و يتطلب اختيار المكان المناسب لبناء العش ذكاء ومعرفة واسعة، إلاّ أن هذه المخلوقات لا تستطيع أن تتوقع مدى الضرر الذي سيلحق بمنازلها بتأثير الأمواج العاتية أو درجة الحرارة العالية للبيئة الصحراوية. والظاهر للعيان أن هناك مخلوقات غير عاقلة ولا منطق لها إلا أنها تسلك سلوكا عاقلا و منطقيا، وبمعنى آخر مخلوقة على هذه الصورة الكاملة، والكمال في الخلق لا يوجد إلا لله وحده .
ويحظى الصّغار بعد فقس البيض أو لحظة الولادة بعناية بالغة، ويقضي الكبار من الحيوانات أو الطيور وقتا كبيرا في الحفاظ على حياة الأبناء ولا تكتفي في ذلك ببناء المنازل وإنمّا تبني أعشاشا وهمية لمجرد التمويه بهدف لفت الانتباه إلى هذه الأعشاش الوهمية حفاظا على حياة الصغار من خطر الأعداء. و لا شك أن هذا النمط السلوكي ليس من بناة أفكار الحيوان و لانابعا من ذكائه. وهناك أسلوب آخر للتمويه تستخدمه الحيوانات وهو بناء الأعشاش بين أغصان الأشجار الكثيفة الأوراق أو فوق النباتات الشوكية، وبعض أنواع الحيوانات تنشئ لها أوكارا خاصة تبيض فيها وترقد على بيضها وتقوم بإنشاء جدار خاص لمدخل هذا الوكر باستخدام الطين الموجود في البيئة الخارجية وإذا لم يوجد تقوم بإفراز سائل خاص تخلطه مع كمية من التراب لإعداد الطين اللازم لإنشاء هذا الجدار الواقي.
وأغلب أنواع الطيور تبني أعشاشها غريبة الشكل باستخدام ألياف النباتات أو الأعشاب والحشائش البرية المتوفرة في البيئة، والجدير بالذكر أن الطير الّذي سيبيض لأول مرة في حياته يبني عشه بإتقان بالغ دون أن يكون له سابق معرفة أو خبرة ببناء الأعشاش .
بلا شك أن هذه القابليات الفذة للكائنات الحية لم تشكل من تلقاء ذاتها، إذن ما هي القدرة التي علّمت هذه الطيور والكائنات الحية بناء منازلها بهذه الكيفية المدهشة ؟ كيف تكتسب الكائنات الحية هذه القابلية مرة واحدة ؟ .
و هناك أمر آخر يحسن الإطلاع عليه و يتعلق بقابليات الكائنات الحية وهو كون الكائن الحي على علم تام بكيفية بناء العش أو المسكن بالكيفية الخاصة بنوعه والمتميز بها عن الأنواع الأخرى اعتبارا من أول لحظة له في هذه الحياة، وكل نوع من أنواع الحيوانات يبني منزله بالكيفية نفسها في أية منطقة من مناطق العالم, وهذا دليل واضح على أن هناك قوة واحدة تمنح هذه المخلوقات القابلية والمعرفة الخاصة بالحياة. بلا شك إنّ صاحب هذه القوة التي لا حد لها والعلم الّذي وسع كل شئ هو الله سبحانه وتعالى الّذي يلهم مخلوقاته ويمنحها هذه القابليات الفذة. واللافت للنظر عند دراسة كيفية بناء الحيوانات لمنازلها ليس فقط التخطيط البارع وإنما التضحية والتعاون اللّذين يبديهما كل من الذكر والأنثى في البناء، وعلى سبيل المثال تنشئ الطيور أعشاشها الخاصة بها بكل اعتناء واهتمام ولا تكتفي بذلك بل تنشئ أعشاشا أخرى كجهد إضافي للتمويه (28).
ولو تمعّنا في عملية إنشاء الطيور لأعشاشها لأدركنا مدى الصعوبات التي تلاقيها والجهد الظخم الذي تبذله والتفاني الذي تبديه في سبيل إتمام بناء هذه الأعشاش. فالطير الواحد يقوم بعدة مئات من رحلات الطيران في سبيل إنشاء عش للتمويه فقط فما بالك بالجهد اللازم لبناء العش الحقيقي، والطير لا يستطيع أن يحمل في منقاره سوى قطعة أو قطعتين من المواد اللازمة لبناء العش من أغصان أو غيرها، ولكن هذا الأمر لا يثير في الطير الشعور بالملل و إنما بالعكس من ذلك يثابر على العمل بكل صبر ،وإذا شعر بتعب أو إرهاق لا يترك العمل ولا يترك ما في منقاره ولا يهمل أي تفصيل من التفاصيل اللازمة لبناء العش. وحسب ادعاء داروين, في قانون الانتخاب الطبيعي لا تفكر الكائنات الحية إلا في نفسها و بمنتهى الأنانية. ولو كان الوسط الذي تعيش فيه مسرحا للحرب كما يدعي هو ومؤيدوه لما قامت هذه الكائنات الحية ببذل هذا الجهد الظخم والمثير للإعجاب في سبيل الحفاظ على الكائنات الصغيرة الضعيفة؟ هذه الأسئلة و غيرها يحتار القانون الطبيعي لداروين في الإجابة عليها وتعجز أمامها نظرية التطور وادعاءات الملحدين. والجواب الوحيد على كل هذه الأسئلة هو أنّ الله وحده منح هذه المخلوقات صفات التضحية والصبر والثبات والمثابرة والعزم فيلهمها هذه الصفات ليحمي القوي منها الضعيف وليستمر التوازن في الطبيعة وليستمر نسل الكائنات ولتكون هذه البنوراما الطبيعية دليلا حيا وملموسا على قدرة الله عز وجل أمام جحود بني آدم.
في الصفحات القادمة سترد أمثلة على قابلية الكائنات الحية على التخطيط المعماري و ألقيام بالديكور خصوصا الطيور التي يحتاج صغارها وبيضها إلى عناية فائقة في أعشاشها، لذا يلهمها الله سبحانه وتعالى كل ما تحتاجه ويتلاءم مع عملية بناء الأعشاش.
كيف تبني الطيور أعشاشها الفخمة؟
تعرف الطيور على أنها من أبرع الكائنات الحية في بناء أعشاشها، ولكل نوع من أنواع الطيور طريقة في بناء عشه ولا يخطئ أبدا في بناء العش حسب الطريقة التي اعتاد عليها. و أهم سبب لإنشاء الطيور أعشاشها كون بيضها وفراخها التي تخرج من البيض بعد فقسها على درجة كبيرة من الضعف، وخصوصا عندما تذهب الأم للصيد, فالصغار يبقون بدون أية وسيلة للدفاع عن النفس، ولكن المكان الذي يتم اختياره لبناء العش يعتبر الوسيلة للدفاع مثل قمم الأشجار والثقوب الموجودة في جذوعها أو سفوح الجبال والتلال وكذلك بين الأعشاب إذ يتم إخفاء العش بمنتهى البراعة والإتقان حفاظا على حياة الصغار .
والدور الثاني والمهم للعش هو الحفاظ على الصغار من تأثير البرد القارس لأن الصغار يخرجون من البيض بدون ريش إضافة إلى عدم قدرتهم على الحركة بحرية و بالتالي عدم استطاعتهم تحريك عضلاتهم بسهولة، لذا تكون الطيور مجبرة على بناء أعشاشها بمنأى عن البرد حفاظا على الصغار. وأبسط مثال على هذه الأعشاش " العش المحاك "فهو يوفر الدفء اللازم للصغار, وبناء هذه الأعشاش صعب للغاية ويتطلب دقة متناهية, فالأنثى تقوم ببناء هذا النوع من العش في فترة طويلة وبجهد بالغ وتقوم بفرش داخل العش بالريش والشعر والألياف لعزلها عن التأثيرات الحرارية للبيئة الخارجية (29). وتوفير المواد الأولية لبناء أي نوع من أنواع الأعشاش يعتبر خطوة مهمة جدا، وتقوم الطيور طيلة اليوم بجمع هذه المواد الأولية فمناقير الطيور ومخالبها مخلوقة لتلائم هذه المهمة. وعملية بناء العش مهمة الأنثى أما مهمة الذكر فتتمثل في اختيار المكان الملائم. وتستفيد الطيور في بناء أعشاشها من مواد أولية مثل الطين و الورق النباتي اللبلاب وحتى الشعر أو الورق، وخصائص أي عش تعتمد على المواد الأولية المستعملة وعلى الطريقة التي يستخدمها ذلك الطير في بناء عشه. وتبنى الأعشاش اعتمادا على مرونة المواد الأولية ومتانتها وصلابتها، فالطيور تختار المواد التي يمكن طيها أو مدها عند بناء العش. والتنوع في هذه المواد يجعل العش أكثر أمنا للفراخ, فخلط الطين والألياف يحول دون حدوث أي فطر في جدران العش.
والطيور بعد أن تجمع المواد الأولية تبدأ بتكوين الخليط اللازم لبناء العش، والطير الذي يتبع هذه الوسيلة في البناء هو الخطاف أو النون الذي يبني عشه على حافة الهاوية أو على جدران المباني والباحات الخارجية فيقوم بلصق عشه بجدرانها بنوع من الخيلط اللاصق، وهذه الخليط يحصل عليه بطريقة عملية جدا, فأولا يقوم بجمع الطين والرماد في منقاره ويحملهما إلى المكان الذي أزمع بناء العش فيه ومن ثم يجعل الطين مزيجا لزجا بعد إفراز مواد خاصة ويمسح سطح الهاوية بهذه المادة اللزجة حتى يعطي العش الشكل النهائي على شكل أصيص مدور مجوف و يملأ داخل الأصيص بالحشيش والطحلب والريش وغالبا ما يبني عشه تحت نتوء صخري كي تحميه الصخرة من تأثير الأمطار المتساقطة التي ربما تزيل تماسك الطين المتين الذي يؤدي إلى هدم العش برمته (30).
وبعض الطيور التي تعيش في جنوب إفريقيا وتدعى بـأنثوسكويوس تبني عشها من قسمين, القسم الأول منه لحضن البيض, وهناك مدخلان للعش أحدهما سري والآخر للتمويه ضد خطر الأعداء (31). من جانب آخر يقوم أحد الطيور في أمريكا من جنس sar?asmag?ller ببناء عشه بالقرب من خلية النحل البري لأن هذا النحل يحول دون اقتراب الأعداء المشتركين كالأفاعي والببغاء والقرود وخصوصا أحد أنواع البعوض الذي يشكل خطرا بالنسبة إلى هذه الطيور (32). وبذلك تنجح الأم في الحفاظ على حياة صغارها من خطر الأعداء .
الأعشاش التي تخيطها الطيور الخياطة
يتميز منقار طير الخياط الهندي بدقة شكله كإبرة الخياطة، والمواد الأولية التي يستخدمها في خياطة عشه تتمثل في خيط نسيج العنكبوت والزغب الذي يحيط ببعض أنواع البذور إضافة إلى ألياف خاصة بقشور الأشجار. ويقوم هذا الطير بجمع أوراق الأشجار الواحدة فوق الأخرى متراصة وبعد ذلك يقوم بثقب حواف هذه الأوراق الواحدة تلو الواحدة بمنقاره المدبّب ومن ثم يدخل نسيج العنكبوت أو اللّيف الذي جمعه في هذه الثقوب ويعقدها كي يمنع سقوط الأوراق، ويكرر العملية نفسها في الجهة المقابلة حتى يجعل الورقتين النباتيتين متلاصقتين تماما وفي خطوة لاحقة يقوم بتدوير هاتين الورقتين المتلاصقتين حول بعضما البعض مثلما يصنع العقد، ويفرش داخل هذا العش الورقي بالحشيش (33), وأخيرا يخيط هذا الطير جزءا إضافيا داخل العش يخصصه لأنثاه لتضع فيه بيضها بأمان (34).
الطيور النسّاجة
تعتبر أعشاش الطيور النسّاجة من أغرب أنواع الأعشاش في عالم الحيوان, وهذه حقيقة يؤكدها علماء الأحياء, فهذه الطّيور تقوم بجمع الألياف النّباتية أو سيقان النباتات الرفيعة لتستخدمها في نسيج أعشاشها و تتميز هذه الأعشاش بمتانة جدرانها المنسوجة من هذه المواد الأولية.
وأول عمل يقوم به الطائر النسّاج هو جمع المواد الأولية اللازمة، وتتألف من أجزاء رفيعة يقطعها من الأوراق النباتية الطّرية أو عروقها الرئيسية، و سبب اختياره للأوراق الطرية بدلا من اليابسة يرجع إلى سهولة تشكيلها لطراوتها ومرونتها. ويقوم الطير بعد ذلك بلف الجزء الرفيع الذي أخذه حول غصن شجرة متعدد الفروع مستخدما أحد ساقيه لتثبيت أحد طرفي اللّيف على الغصن ومنقاره للقيام بعملية اللّف، وللحيلولة دون سقوط هذه الحبال الليفية يقوم الطير بربطها ببعضها البعض من تكوين عقد محكمة، و في المرحلة الأولى يقوم الطير بإنشاء حلقة ليفية وتعتبر مدخلا إلى العش, ثم يقوم لاحقا بتمرير الأجزاء الورقية الرفيعة من بين هذه الحبال الليفية بواسطة منقاره وبطريقة متناوبة مرة من فوق ومرة من تحت ويقوم بين الحين والآخر بشدّ هذه الأجزاء التي وقع تمريرها لجعل النّسيج أكثر متانة. وبأسلوب بارع يقوم الطير بتكوين منحنيات أو نتوءات في جدران العش لجعله متماسكا و متوازنا.
وعندما ينتهي الطير من إنشاء المدخل اللازم لعشه يبدأ بنسج الجدران و في هذه الحالة يقف مقلوبا أو رأسا على عقب ويواصل بالعمل من داخل العش، ويسحب الليف الورقي بمنقاره تحت الحبال الليفية ويمسك طرفه الخارجي بدقة ومن ثم يشده شدّا محكما، وبهذه الطريقة يجعل للعش نسيجا غاية في الإتقان (36). ومما يلاحظ هنا أن الطير النساّج يعمل وكأنه يخطط لعدة مراحل وخطوات قادمة، فيبدأ بجمع المواد اللازمة ومن ثم يبدأ بنسج العش في مكان ملائم فينسج المدخل ويستمر في نسج الجدران فيما بعد وينحني في النسج عندما يتطلب الأمر الانحناء ويوسّعه عندما يتطلب الأمر التوسيع إضافة إلى إتقانه لعمله إلى درجة مذهلة و دون أن يعطي أيّ انطباع بكونه مبتدأ في عمل النّسج. والحقيقة أنه يثبت مهارة فائقة في أداء عمل شخصين في آن واحد بواسطة ساقه للتّثبيت ومنقاره للنّسج ولا يتقدم خطوة إلاّ بحساب و تقدير بارعين.
و هناك نوع آخر من الطيور النسّاجة يقوم بإنشاء أعشاش ذات سقف متماسك يمنع تدفق قطرات المطر داخله ويفرز هذا الطير سائلا في فمه يختلط مع الألياف النباتية التي يجمعها ويحضر بذلك خليطا يساعده على طلاء عشه من الداخل و يتميز هذا الخليط بإكساب العش مرونة ومقاومة ضد نضوح مياه المطر.
و تتكرر هذه الخطوات عدة مرات حتى اكتمال بناء العش، ومن الاستحالة القول أن هذه القابلية لدى الطيور محض مصادفة أو مكتسبة لاشعوريا لأن هذه الطيور وهي تعد أعشاشها تتصرف مثل مهندس معماري ومهندس إنشاءات وعامل بناء ماهر في آن واحد.
و مثال آخر للطيور النساجة التي تنشأ أعشاشا غريبة هو أحد أنواعها و يعيش في جنوب إفريقيا، فهذا النوع ينشأ عشّا شبيها بعمارة مقسمة إلى شقق ويبلغ ارتفاع هذا النوع من الأعشاش 3 أمتار وعرضها 4,5 مترا ويعيش داخل هذا العش ما يقرب من 200 زوج من هذا النوع (37). والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا لماذا تختار هذه الطيور بناء أعشاشها بهذه الصعوبة بدلا من الأعشاش السهلة البناء؟ وهل يمكن تفسير بناء هذه الأعشاش المعقدة من قبل هذه الطيور بـمحض مصادفة ؟ بالطبع لا لأن هذه الطّيور مثلها مثل باقي الكائنات الحية تتحرك بوحي إلهام الهي .
أعشاش طائر الخطّّاف
هناك بعض الطيور تخفي أعشاشها تحت سطح الأرض مثل طائر الخطاف السّاحلي الذي يقوم بحفر قنوات موازية لساحل البحر أو ضفّة النهر وتكون هذه القنوات بمحاذاة التلال المتشكلة من التربة. وتحفر هذه الطيور قنواتها بشكل منحن من الأمام للحيلولة دون دخول مياه المطر داخل العش، وفي نهاية كل قناة توجد فسحة مبطنة بالقشّ والريش يعيش فيها الطير. أما أنواع طائر الخطاف التي توجد في أمريكا اللاتينية فتبني أعشاشها على الصخور الموجودة خلف الشّلالات المنسابة, فهذا الموقع يكون بعيدا عن خطر باقي الطيور كالنورس أو آكلات السمك وحتى عن الغربان. والماء المتساقط بأطنان كثيرة لابد أن يكون قاتلا لأي طير يمر من خلاله إلا أن هذا الخطاف يتميز بصغر حجمه وسرعة حركته من خلال ماء الشلال لذا لا يصاب بأي أذى. وبهذا الشكل يكون هذا الطير وفراخه وعشه بمأمن من خطر باقي الحيوانات.
وهذا الطير لا يستطيع استخدام مخالبه في جمع المواد الأولية اللازمة لبناء العش لصغر هذه المخالب, وبدلا من ذلك يلتقط أجزاء الأعشاب اليابسة والمتطايرة في الهواء أو الريش المتطاير ويفرز عليها سائلا خاصّا يحولها إلى عجينة لاصقة يبني بواسطتها عشه على الصخور (38).
أمّا الخطاف الذي يعيش في سواحل المحيط الهندي فيبني أعشاشه داخل الكهوف، وتسد الأمواج العاتية مدخل هذه الكهوف، وعندما تريد هذه الطيور الدخول إلى أعشاشها ترقد على هذه الأمواج منتظرة اللحظة التي ينحسر فيها الموج عن مدخل ذلك الكهف وعندئذ تنتهز هذه الطيور الفرصة المناسبة للولوج داخل الكهف والوصول إلى العش. وقبل أن تشرع هذه الطيور في بناء الأعشاش تقوم بتثبيت أعلى ارتفاع يمكن أن تصل إليه مياه الأمواج داخل الكهف وبعد ذلك تبدأ في بناء العش بمستوى أعلى من مستوى المياه الآتية بواسطة الموج (39).
وهناك طائر يعيش في إفريقيا يدعى بـ"السّكرتير" يبني عشه في قمم الأشجار الشوكية العالية ليكون بعيدا عن خطر الأعداء، أمّا طائر نقار الخشب الذي يعيش في جنوب غرب أمريكا فينشأ أعشاشه داخل ثقوب يفتحها داخل جذوع نبات الصبار الشوكي العملاقة. أما طيور المستنقعات فتبني عدة أعشاش وهمية إلى جانب العش الحقيقي فيقوم الذكر بإنشاء هذه الأعشاش الوهمية وينتقل من أحدها إلى الآخر ليلفت الانتباه إلى تلك الأعشاش بدلا من العش الذي تتولى الأنثى مهمة بنائه (40).
أعشاش طائر الباتروس
إنّ ارتباط أنثى الطير بفراخها ظاهرة موجودة في جميع أنواع الطيور ومن هذه الطيور الباتروس التي تتكاثر في مسقط رأسها في موسم التلقيح حين تتجمع وتشكل مستعمرة كبيرة ويقوم الذكور بإصلاح الأعشاش البالية قبل أسابيع من قدوم الإناث، وهكذا يتمّ الإعداد لمسكن الإناث والفراخ. أما الاهتمام بالبيض فيمكن مشاهدته عند مراقبة سلوك طائر الباتروس أيضا لأن هذا الطير يستمر واقفا على البيض طيلة 50 يوما دون حراك ، وهذه االعناية الفائقة لا تقتصر على البيض فقط وإنما تشمل الفراخ الخارجة من هذه البيض فيقوم هذا الطائر بقطع مسافة 1,5 كم في كل مرة يخرج فيها لجلب الطعام (41).
أعشاش الطّيور ذات القرون
يعتبر موسم التكاثر موسم عمل ضخم بالنسبة إلى هذه الطيور لأنها تبدي فيه نشاطا يثير الإعجاب سواء ذكرا كان أم أنثى, وأوّل خطوة يجب اتباعها بالنسبة إليهما هي بناء عش مأمون للأنثى والفرخ الصغير القادم.
ويشرع الذكر في العمل فيبحث عن ثقب مناسب في الشجرة ومن ثم تدخل الأنثى هذا الثقب وبعدها يقوم الذكر بسد مدخل الثقب بالطين. بيد أنّ هناك جانبا مهمّا في بناء هذا العش إذ أنّ الذكر وهو يسد المدخل بالطين حماية للأنثى وصغيرها من خطر الأفاعي وغيرها يترك فجوة صغيرة في هذا الثقب وعن طريق هذه الفجوة يمدّ الذكر الأنثى بالطعام لأنها تظل راقدة على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة لا تخرج فيها من العش ولو مرّة واحدة، وحتى الصّغار عندما يخرجون من البيض يتم تزويدهم بالطعام عبر هذه الفجوة (4).
ويتصرف الذكر والأنثى تجاه صغارهما بكل صبر ومثابرة وتفان, فالأنثى ترقد على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة في داخل العش الذي يكاد يكفيها هي فقط سعة أما الذكر فلا يغفل عنها ولا عن البيض بل يستمر في الرعاية والاهتمام حتى النهاية.
ونفهم من خلال هذه الأمثلة أن لكل نوع من أنواع الطيور أسلوبه الخاص في إنشاء الأعشاش، وكل أسلوب من هذه الأساليب يعتبر معقدا إلى حد كبير ولكن يتبع وينفذ من قبل حيوان غير عاقل و لا يملك منطقا معينا، في حين أنّ هذه الأساليب تتطلب تخطيطا وتصميما كبيرين. ودعونا نفكر في هذه الأمثلة التي تتمثل في كائنات حية غير عاقلة ولكن سلوكها كله عبارة عن شفقة و رأفة و تضحية وتفاني وفق تخطيط بارع. ما مصدر هذه الأنماط السلوكية ؟ وإذا كانت هذه الكائنات الحية لا تملك إرادتها الفاعلة لاتباع هذه الأنماط السلوكية فإذن هناك قوة موجّهة لها فيما تفعله، ومصدر هذه القوة هو الله رب السماوات والأرض وما بينهما .
الأعشاش التي تبنيها الكائنات الحية المختلفة
نحل "البامبوس" :يتميز هذا النوع من النحل بتضحية وتفان فريدين عند بنائه لخليته، فالملكة الشابة تبدأ في البحث عن أنسب مكان لإنشاء الخلية قبل أن تبدأ بوضع بيضها بفترة قصيرة، وبعد أن تجد المكان المناسب، تكون المرحلة اللاّحقة هي إيجاد المواد اللازمة لبناء الخلية من ريش أو عشب أو ورقة نباتية.
في البداية تبني الملكة مكانا خاصا بحجم كرة المنضدة في وسط الخلية وتبنيه بواسطة المواد الأولية التي تجمعها من المحيط الذي توجد فيه، أما المرحلة الآتية فتتمثل في عملية جمع الغذاء للخلية. فعندما تخرج الملكة تبدأ بالتحليق راسمة دوائر وهمية في الهواء واتجاهها أثناء التحليق يكون نحو الخلية دوما وبهذه الطريقة تتذكر موقع خليتها ولا تنساه، وتقوم بجمع رحيق الأزهار أو لب العسل وعندما ترى الكمية كافية تعود لتفرغ ما في بطنها في المكان المخصص في الخلية. أما الجزء الّذي لا يمكن التّغذّي منه فلا تلفظه خارج الخلية بل تستخدمه في صناعة سائل لاصق يفيد في لصق المواد البنائية للخلية إضافة إلى دوره كعازل حراري. وبعد تغذيها من هذا العسل تبدأ بإفراز مادة الشمع إضافة إلى استخدامها رحيق الأزهار الذي جمعته في عمل غرف صغيرة كروية الشكل لتضع فيها من 8-18 بيضة والتي ستفقس عن أول نحلات عاملة في الخلية وتقوم الملكة بسدّ هذه الغرف وما حولها برحيق الأزهار سدا محكما.
ويتم وضع البيض في هذه الغرف بترتيب محكم لا فوضى فيه. والمهمة الرئيسية الأخرى هي تغذية هذه العاملات, لذا تقوم الملكة الشابة بإنشاء أوعية خاصة من الشّمع تضع فيها خلاصة العسل, وبعد فترة تكوين تتراوح ما بين أربعة و خمسة أيام تجد العاملات الخارجات من البيض غذاء جاهزا لها قوامه لبّ العسل ورحيق الأزهار .
ولو أمعنا النظر في هذه العملية بكافة تفاصيلها لوجدنا أمامنا حيوانا غير عاقل وعديم المنطق ولكنه يستطيع استخدام خلاصة العسل كأفضل عامل بناء بالإضافة إلى تفانيه لإنشاء خلية مليئة بالأفراد الصحيحين النشيطين. أمّا طول هذه الحشرة فلا يتجاوز بضعة سنتمترات. و أول ما يتبادر إلى أذهاننا من سؤال هو لماذا كلّ هذا الإيثار والتضحية من قبل الملكة ؟ فالملكة بعد خروج العاملات من البيض لا تكسب شيئا ذا بال، بالإضافة إلى وجود احتمال تركها لخليتها التي أنشأتها عند قدوم ملكة أخرى تزاحمها فيها. بلا شك هناك سبب لتفانيها هذا وتحملها كل هذا الجهد الدّؤوب وهو الإلهام الإلهي الذي يوجه باقي الكائنات الحية أيضا. إذن فلا مكان في عالم الأحياء لمفهوم الأنانية التي يقول بها دعاة التطور (43).
الملاجئ الثّلجيّة للدّب القطبي
تنشئ أنثى الدّب القطبي ملجأ ثلجيا عندما تكون حاملا أو بعد وضعها لوليدها, وهذا الملجأ تحت ركام الجليد، و عدا هذا فإنها لا تعيش في ملاجئ أو مساكن معينة. وعموما تضع الأنثى وليدها في منتصف الشتاء, و يكون الوليد الصّغير لحظة ولادته أعمى و لا شعر له إضافة إلى صغر حجمه، لذا فالحاجة ماسة إلى ملجئ لرعاية هذا المولود الصّغير الضعيف. والملجأ التقليدي يتم إنشاؤه على شكل مترين طولا ونصف قطره تقريبا أي نصف متر عرضا لأن الملجأ يكون على شكل كرة ارتفاعها نصف متر أيضا. ولكن هذا المسكن أو الملجأ لم ينشأ هكذا دون أيّ اهتمام أو تخطيط بل حفر تحت الجليد بكل عناية واهتمام وسط بيئة مغطاة بالجليد, وتم توفير كل وسائل الراحة والرعاية للوليد الصغير في هذا الملجأ. وعموما فإنّ لهذه الملاجئ أكثر من غرفة تنشؤها الأنثى بمستوى أعلى قليلا من مدخل الملجأ كي لايسمح للدفء بالتّسرب إلى الخارج.
وطيلة فصل الشتاء تتراكم الثلوج على الملجأ ومدخله وتحافظ الأنثى على قناة صغيرة للتهويه والتنفس، ويكون سقف الملجأ بسمك يتراوح ما بين 75 سم و مترين. و يقوم هذا السقف بدور العازل الحراري فيحافظ على الدفء الموجود داخل الملجإ ولهذا تبقى درجة الحرارة ثابتة داخله (45).
وقام أحد الباحثين في جامعة أسلو النرويجية ويدعى Paul Watts بتثبيت محرار في سقف أحد ملاجئ الدّببة لقياس درجة الحرارة وتوصّل إلى نتيجة مذهلة, فدرجة الحرارة خارج الملجأ كانت حوالي 30 تحت الصفر أما داخل الملجأ فلم تنزل الحرارة تحت 2-3 أبدا. والظاهرة الملفتة للانتباه هي كيفية قياس أنثى الدب لسمك السّقف الثلجي كي يتواءم مع درجة عزله الحراري لداخل الملجأ إضافة إلى كون الوسط داخل الملجأ بهذه الحرارة ملائما للأنثى من ناحية تنظيم استهلاك مخزونها الدّهني في جسمها أثناء سباتها الشتوي, والأمر الآخر المحير هو خفض أنثى الدب القطبي لجميع فعالياتها الحيوية إلى درجة كبيرة أثناء سباتها الشتوي كي لا تصرف طاقة زائدة ولتساعد على إرضاع صغيرها، وطيلة سبعة أشهر تحوّل الدّهن الموجود في جسمها إلى بروتين لازم لتغذية صغارها, أما هي فلا تتغذى أبدا وتنخفض دقات قلبها من 70 ضربة في الدقيقة إلى ثمان ضربات في الدقيقة وبالتالي تنخفض فعالياتها الحيوية، ولا تقوم بقضاء حاجاتها أيضا وبهذه الطريقة لا تصرف طاقتها اللازمة لتنشئة الصغار الذين سيلدون في تلك الفترة.
مساكن التّماسيح
تعدّ أنثى التمساح الذي يعيش في منطقة "أفيركليدس" في فلوريدا مكانا مختلفا جدّا لوضع البض فهي تقوم بجمع النباتات المتعفنة وتخلطها بالطين لتصنع منها تلة ارتفاعها 90سم تقريبا ومن ثم تحفر حفرة في قمة هذه التلة لتضع فيها بيضها وتغطيها بعد ذلك بالنباتات التي تكون قد جمعتها من قبل ثم تبدأ بحراسة هذه التلة من خطر الأعداء. وعندما يبدأ البيض بالفقس تقترب الأم عند سماع أصوات صغارها وهم يصدرون أصواتا متميزة و تقوم بإزالة النباتات التي غطتها بها ويبدأ الصغار بالتسلق إلى أعلى, و تجمعهم الأم في تجويف فمها المتسع وتذهب بهم إلى الماء ليبدأوا حياتهم (46).
مسكن الضفدع "الحداد"
يعتبر هذا النوع من أبرع البرمائيات في إنشاء مسكه وهو يعيش في جنوب إفريقيا، و يقوم الذكر بإنشاء هذا المسكن على ضفة الماء فالذكر يشرع في الدوران حول نفسه في الطين حتى يحدث فيه ثقبا واضحا، ومن ثم يقوم بتوسيع حوافي هذا الثقب، وعند اكتمال هذه الخطوة يبدأ بتكوين جدران طينيّة متينة لهذا الثقب وفي النهاية يكون قد أنشأ حوضا مائيا بعمق 10سم، ويبدأ بالجلوس داخل هذا الحوض ويصدر أصواتا يدعو فيها الإناث للتكاثر (التزاوج) ويظل على هذا الوضع حتى يلفت انتباه إحدى الإناث وعند مجيء الأنثى تبدأ بوضع بيضها داخل الحوض أما الذكر فوظيفته تلقيح هذا البيض. وبعد ذلك يبدأ كلاهما بمراقبة هذا البيض حتى فقسه، وعند الفقس تخرج يرقات الضفادع والتي تكون محاطة بغلاف واقي وتبقى في هذا الحوض بمأمن من خطر الأسماك والحشرات وعندما تترعرع سرعان ما تثبت فوق جدران هذا الحوض المخصص (لرعاية الصغار) لتخرج وتبدأ حياتها (47).
مهندسو ما تحت الماء
من المعلوم أن الأسماك ليس من عادتها بناء منازل خاصة بها، إلا أن هناك أنواعا منها يسلك سلوكا محيرا, فأسماك المياه العذبة تنشأ لها مساكن خاصة في قيعان البحيرات أو الأنهار أو المياه الراكدة، وغالبا ما تكون على شكل حفر يتم حفرها بين الأحجار أو الرمال، ومثال على ذلك سمك " السلمون " وسمك "البني " فهي تترك بيضها داخل هذه الحفر حتى تفقّس لوحدها. و هناك أنواع أخرى من الأسماك تقوم بحراسة هذا البيض بالتناوب بين الذكر والأنثى عندما يكون البيض مكشوفا والأخطار محيقة . ومعظم أنواع الأسماك تتميز بكون الذكر هو المسؤول عن إنشاء المساكن الخاصة بوضع البيض وحراستها أيضا.
وهناك أسماك تتميز بكون مساكنها أكثر تعقيدا، ومثال ذلك السمك الشوكي الذي يعيش في أغلب المناطق النّهرية والبحيرات في كلّ من أمريكا الشمالية وأوروبا إذ يقوم الذكر بإنشاء أعشاش أكثر اتقانا من أعشاش الطيور، حيث يقوم هذا النوع من السمك بجمع أجزاء من النباتات المائية ومن ثم يلصقها ببعضها البعض عن طريق سائل لزج يفرز من كليّ هذا السّمك ويقوم الذكر بالسباحة حول هذه الخلطة اللزجة والتمسح بها حتى يعطيها شكلا طوليا منتظما وبعدها يثب فجأة سابحا من منتصف هذه العجينة شاقا إياها لكي تصبح على شكل نفق له مخرج ومدخل ويمر من خلاله الماء، و إذا حدث أن مرت أنثي بالقرب من هذا النفق العش يقوم الذكر بمغازلتها بالسباحة حولها جيئة وذهابا حتى يذهب بها إلى مدخل النفق الذي يحاول أن يدلها عليه عن طريق مقدمة رأسه، وعندما تبيض الأنثى داخل هذا النفق يدخل الذكر من المقدمة دافعا الأنثى إلى الخارج عن طريق المؤخرة. وهكذا تعاد العملية مع عدة أثاث وهدف الذكر من دخول النفق وطردهم إياهن هو تلقيح البيض. وعندما يمتلأ النفق بالبيض يبدأ الذكر بحراستها ويثابر على السماح بدخول الماء العذب إلى النفق، ومن جانب آخر يقوم بترميم الأجزاء التالفة منه، ويستمر في حراسة النفق حتى بعد عدة أيام من فقس البيض. وفيما بعد يقوم بقطع الجزء العلوي من النفق تاركا السفلي لمعيشة الصغار (48).
إن نظرية التطور لتشارلس داروين قد فقدت مصداقيتها بشكل شبه كلّي عند اقتراب القرن الحادي والعشرين، وهذه النظرية قد تبنّاها بعض المؤمنين بالفكر المادّي عند بدايات القرن العشرين و حاولوا تلقينها للناس وعملوا على إثبات صحّتها وفرضها على كونها حقيقة علمية ثابتة ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل وثبت إفلاس أصحابها فكريّا، والعامل الرئيسي لفشل هذه النظرية هو التطور الكبير الّذي طرأ على بعض فروع العلم والتي لها صلة مباشرة بهذه النظرية مثل علم الأحياء المجهرية و الكمياء الحيوية و علم المتحجرات. وثبت بعد هذا التطور في هذه العلوم أنّ الحياة لم تنشأ بالصدفة ولم تتطورخطوة خطوة كما تدّعي هذه النظرية وثبت استحالة تبنّي هذه الفكرة أصلا ،(للمزيد من التفاصيل يرجى الإطلاع على فصل"خطأ نظرية التطور"). وعجزت هذه النظرية المفلسة في إيراد الأدلة العلمية المقنعة بشأن أصل الأنواع الحية, وعجزت أيضا عن الإجابة على التساؤلات الواردة بشأن الخصائص المتميزة لبعض الكائنات الحية وأصلها.
وهذا العجز بالذات جعل المؤمنين بهذه النظرية في مأزق حقيقي، ويقوم هذا الكتاب بشرح وتحليل "التضحية لدى الكائنات الحية" كأحد الخصائص المتميّزة لبعض الكائنات الحية.
ويمكن مشاهدة هذه التضحية في الطبيعة باستمرار، كذلك يمكن ملاحظة التكافل والتعاون بين الكائنات الحية بجلاء إضافة إلى الرأفة في العلاقات الرابطة بينها. كل هذه الظواهر الطبيعية شكلت تساؤلات أمام نظرية "التطور" ولم تستطع الإجابة عنها، ياترى ما سبب ذلك؟
كان داروين وهو يدعي نظريته هذه يعتمد على آلية فكرية يكمن جوهرها في مفهوم الإنتخاب الطبيعي وهي آلية لا تعتمد أساسا على نقد أو تحيل موضوعي، وحسب تفكير داروين فإن أصل الأنواع الحية كلها يرجع إلى جد واحد ووجودهم في ظروف طبيعية مختلفة أدّى إلى إختلافهم فيما بعد عن بعضهم البعض كتكيف مع الظروف الموجودة، وإن الأنواع التي أبدت تكيّفا ناجحا وفقا للظروف الطبيعية التي وجدوا فيها قد أكتسبت صفات جديدة أورثتها للسلالات التي جاءت بعدها، لهذا السبب فإن الأنواع التي أبدت تكيفا هي الأقوى بالنسبة للتجاوب مع قوة الظروف المحيطة بها ونجحت في البقاء والإستمرار، وإن فرضية داروين هذه يعبّر عنها بالبقاء للأقوى أي الأفراد الأقوياء يصلحون للبقاء أحياء والضعفاء معرّضون للفناء .
والطبيعة على ضوء هذه الفرضية يمكن تعريفها استنادا لما جاء في مقولة جوليان هكسلي الذي يعتبر أحد الأصدقاء المقرّبين من داروين و المدافعين بشدّة عن نظريته كما يلي : "هي حلبة يتمّ انتقاء الأقوى والأصلح فيها من الأضعف والفاشل، ولا مناص من هذا الإنتقاء" .
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل صحيح أنّ الطبيعة كما يدّعي أصحاب نظرية التطوّر هي حلبة يتمّ فيها النصر للأقوى والأصلح ويسحق فيها الأضعف ويعرض للفناء بمنتهى الأنانية والقوة كشكل من أشكال الحياة ؟ .
ويمكن الإجابة عن هذا السؤال عبر ملاحظة أشكال الحياة في الطبيعة ، ومن الطبيعي أن تقوم الكائنات الحية في الطبيعة ببذل جهد كافٍ للعيش والدّفاع عن النفس، حيث ان كل كائن حيّ يجب أن يقوم بالصيد للحفاظ على حياته أو الدفاع عن نفسه، ولكن المسرح الطبيعي للأحياء لا يتألف من هذين المشهدين فقط بل يمكن ملاحظة مشاهد في الطبيعة تنطق بأنبل أنواع التضحية تقوم بها الحيوانات لصالح أفراخها وجماعاتها أو حتى تجاه حيوانات أو أنواع أخرى. و إضافة إلى التضحية فان التكافل والتعاون أو الأخذ بيد حيوان آخر والعمل على إنقاذه يعتبر من المميزات السلوكية التي يمكن مشاهدتها بكثرة في عالم الطبيعة .
وهذه المميزات السلوكية في عالم الطبيعة عجزت نظرية التطور عن شرحها بيان أسباب حدوثها, وثبت أن الطبيعة ليست مسرحا للحرب كما يدّعى وأنّ الحياة في الطبيعة قد أثبتت إفلاس نظرية التطور وعجزها كليا، ومثال على ذلك : لماذا يعود الحمار الوحشي (زيبرا) هاربا من مفترسيه ليلفت انتباههم إلى ناحيته بدلا من القطيع الذي قدم منه مستهدفا إنقاذه و مضحيا بحياته في سبيل ذلك، هذا التساؤل تعجز نظرية التطور عن الإجابة عنه، وكذلك السلوك الغريب لسمكة " أتارينا " كما سنرى في الفصول القادمة فهي تعرّض حياتها للخطر خارجة من الماء إلى السواحل الرمليّة للتبييض ومع ذلك فإن قانون الإنتخاب الطبيعي لم يستطع إزالتها من مسرح الطبيعة. وفي الصفحات القادمة ستجدون ما يجعلكم تشعرون بالحيرة والدهشة إزاء كائنات حيوانيّة غير عاقلة وغير منطقية, والإنسان اللّبيب والمنصف وحده هو الذي يستطيع أن يرجع أصل هذه السلوكيات المتميزة إلى الله الخلاّق العليم والمتصرّف وحده في خلقه لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه المبين : "واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ". "سورة الجاثية ، الآية 4"
إحدى المعضلات التي واجهتها نظرية التطور: المنطقية في سلوك الحيوانات.
فمن المعروف أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي تحكمه العقلانية والمنطقية في السلوك, فبالإضافة إلى مميزاته البدنية فإن الميزة الفريدة التي جعلته على صعيد مختلف عن باقي الكائنات الحية هي العقل والمنطق، وعلى ضوء ذلك فإن الإنسان يتميز بمحاسبة النفس والتفكير والتخطيط واستشراف المستقبل فضلا عن رد الفعل تجاه الأحداث الحاصلة والتدبّر وكذلك السير نحو هدف معيّن كلّ هذه الصفات السلوكية خاصة بـالإنسان. أما الكائنات الحية الأخرى الموجودة في الطبيعة فلا تملك هذه الصفات، لهذا السبب فلا يمكن لنا أن ننتظر من الحيوانات أنماطا سلوكية مشابهة للإنسان كالتخطيط والتقدير أو القيام ببعض الحسابات كالتي يقوم بها بعض المهندسين .
إذن، فكيف لنا أن نجيب عن بعض الظواهر السلوكية المنطقية في الطبيعة ؟
حتى إنّ بعض الحيوانات التي تتصف بهذه السلوكيات المنطقية لا تملك مخّا أصلا، وقبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من الإطلاع عن كثب عن بعض هذه السلوكيات لمعرفة كنه هذه السلوكيات ومنشئه.
القندس مهندس السّدود
يعتبر هذا الحيوان مهندسا بارعا وبناّء ماهرا في نفس الوقت حيث ينشئ عشه بمهارة فائقة وبنفس المهارة ينشئ سدّا منيعا أمام عشّه ليحميه من تأثير الماء الجاري، وهو يبذل جهدا خارقا وعلى مدى عدة مراحل لإنجاز هذا العمل المرهق. وفي المرحلة الأولى يقوم بتجميع كمّ هائل من أغصان الأشجار حيث يستخدمها في التغذية وبناء عشه والسد الذي أمامه، ولهذا يقوم هذا الحيوان بقرض الأشجار المتوفرة بأسنانه لقطعها وأثبتت الأبحاث العلمية أنه يقوم بحسابات دقيقة عند عملية القطع. ويفضل هذا الحيوان العمل على ضفة المياه التي تهب عليها الرياح وهكذا تقوم المياه بمساعدة هذا الحيوان في سحبه الأغصان التي يقطعها باتجاهه عشه .
ويتميز عش هذا الحيوان بتخطيط بارع إذ يحتوي على مدخلين سفليين تحت سطح الماء ومكان خاص فوق سطح الماء للتغذية وفوق هذا المكان يوجد مكان خاص للنوم إضافة إلى قناة خاصة لتهوئة هذا المكان . ويقوم القندس بتجميع الأغصان واحدا فوق الآخر لتشكيل الهيكل الخارجي للعش بعناية كبيرة فلا يترك فيه أية فجوة أو ثقب ويستخدم في هذا العمل الأغصان الصغيرة مع كمية من الطين .
والمواد التي يستخدمها القندس في بناء عشه تساعد على تماسكه من جهة والحفاظ على درجة الحرارة داخله من جهة أخرى, فبالرغم من انخفاض درجة الحرارة في الشتاء إلى 35 درجة تحت الصفر فإن الحرارة داخل العش تبقى فوق الصفر باستمرار ويقوم القندس أيضا بإنشاء مخزن للأغذية تحت العش يتغذى منه طيلة فصل الشتاء. وفي تلك الأثناء يقوم القندس بإنشاء قنوات تحتية على شكل شبكة, و يبلغ عرض هذه القنوات متران يستطيع هذا الحيوان بواسطتها أن يصل إلى اليابسة حيث توجد الأشجار التي يتغذى عليها.
والسدود التي يبنيها القندس تتألف من النباتات والأحجار التي يركمها فوق بعضها البعض بنفس الطريقة يبني بها العش. ويبذل هذا الحيوان جهده في رص الأغصان على شكل مثلث طويل يربط بين ضفتي المياه إضافة إلى عمله الدؤوب في رتق الفجوات الموجودة في السد عبر ملئها بالمواد اللازمة, وكلّ هذا يحدث وهو يسبح ضد تيار الماء ويمتطي كومة عشه في الوقت نفسه. وعند حدوث أية فجوة أو خلل في بناء السد يقوم القندس باستخدام الطين أو أغصان الأشجار لملئه ثانية، وهكذا يتحول السد إلى نوع من الحوض العميق يستطيع من خلاله القندس أن يجعل من عشه مخبأ كبيرا للأغذية والمؤونة تساعده على الحياة طيلة فصل الشتاء، ويستطيع القندس أن يوسع من المساحة المائية داخل العش لنقل أكبر كمية ممكنة من الغذاء والمواد اللازمة لبناء العش وترميمه حتى أن هذا الأسلوب يجعل العش في مأمن من الأعداء, وفي هذا يشبه عش القندس قلعة محاطة بخنادق الدفاع يصعب الهجوم عليها.
وفي ما تقدم لخصنا سلوك القندس كمثال على العقلانية والتخطيط والحساب الدقيق في كل مرحلة من المراحل ولكن لا يمكن لي أن أرجع هذه الصفات إلى القندس وحده بسبب افتقاده للعقل أو أي شيء يمت بصلة إلى العقل، إذن فما مصدر سلوك الحيوان؟ ولابد من وجود إجابة عن هذا السؤال، وإذا كان هذا السلوك ليس من اكتساب القندس فما مصدر هذا السلوك ؟
لا شك أن مصدر سلوك القندس أو الأمثلة الأخرى التي سنراها في الصفحات القادمة من سلوك الحيوانات المختلفة على هذا الشكل المتميز وفق تخطيط مدروس هو الله القادر على كلّ شيء الّذي لا حدّ لقدرته و علمه فهو الذي يلهم هذه الكائنات الحية ويأمرها فتبارك الله أحسن الخالقين.
دودة الإمبراطور التي تعمل وفق مخطط متعدد المراحل
من المؤكد أن القندس ليس الحيوان الوحيد في الطبيعة الذي يبدي سلوكا مخططا مدروسا, فهناك العديد من الأمثلة الحية في الطبيعة والّتي لا يمكن حصرها, والمثال الآتي يعتبر أصغر بكثير من القندس ولا ينتظر منه أي دليل على سلوك عقلي أو ما يؤكد وجود عقل أو ذكاء في بنيته، وهذا الحيوان يدعى بـدودة القز ويرقة هذه الدودة تقوم بإفراز خيوط الحرير . و كباقي أنواع اليرقات فإن هذه اليرقة تقضي فترة من فترات حياتها داخل شرنقة وعند خروجها من الشرنقة تقوم بإخفاء نفسها داخل ورقة نباتية, و عملية الإختفاء تتم بمنتهى الإحكام وفق مخطط مدروس مسبقا وعبر مراحل تتطلب مهارة فائقة لأن الورقة النباتية وهي خضراء لا يمكن طيّها بسهولة و بالتالي لا يمكن لها أن تخفي جسم الحيوان الصغير بسهولة لذا فوجب إيجاد حل لهذه المشكلة.
و هذا الحيوان قد وجد حلا بمنتهى البساطة ولكنه يفي بالغرض إلى أبعد حد حيث يقوم الحيوان بقرض جزء الورقة المتصل بالنبات لقطعها ولمنع سقوطها يقوم بربطها بشكل محكم عبر إفراز خيوط الحرير ثم تبدأ الورقة بالتيبس و تنكمش الورقة اليابسة حول نفسها, وبعد ساعات تأخذ الورقة شكلها النّهائي كأنبوب يصلح أن يكون مخبأ أمينا للحيوان و سرعان ما يلجه متخذا إياه مسكنا له.
للوهلة الأولى يمكن أن يفكّر المرء بأنّ الحيوان قد خطى هذه الخطوة المنطقية لتوفير مخبئ أمين لنفسه وهذا صحيح و لكن بدخول الحيوان داخل الورقة المتيبسة قد يصبح صيدا سهلا للباقين لأنّ اللون المختلف لهذه الورقة يجلب انتباه الطيور وهذا يعني نهاية الحيوان المختبئ داخلها. وفي هذه الخطوة بالذات تقدم الدودة على اختراع جديد بواسطته تنقذ نفسها من مخالب الطيور إذ تقوم الدودة بإجراء حسابي دقيق كالذي يقوم به أخصائيو الرياضيات أي استنادا إلى مبدأ الاحتمالات لأن الدودة تقوم بنفس العمل في أوراق نباتية أخرى وتقوم بربط هذه الأوراق حول الورقة التي تختبئ داخلها كنوع من أنواع التمويه ضد الأعداء وهكذا يصبح على غصن واحد أكثر من ورقة (6-7) واحدة منها فقط تحوي داخلها الدودة المختبئة والباقية خالية تماما، وإذا حدث و تناول أحد الطيور هذه الأوراق فيصبح احتمال وقوع الدودة كفريسة 1/6. (3)
كل هذه الظواهر السلوكية تعتمد على منطق معين بلا شك ولكن هل يمكن لهذه الدودة التي تحتوي على مخ مجهري وجهاز عصبي بسيط أن تقوم بهذه الأعمال العقلانية والمنطقية والمخطط لها مسبقا من تلقاء نفسهاا؟ وكما هو معلوم فلاحظ لهذه الدودة من التفكير. و من الاستحالة أن تكون قد تعلمت من دودة أخرى، وفي الحقيقة فإن هذه الدودة لا تعلم بالخطر الذي يتهددها في المستقبل، إذن فكيف اهتدت إلى فكرة التمويه ؟
ولو وجهتم هذا السؤال إلى أحد أصحاب نظرية التطور فلا يستطيع أن يجيب إجابة مقنعة ومحددة، و في غالب الأحيان يلجؤون إلى مفهوم واحد وهو الغريزة حيث يفسر هؤلاء طريقة سلوك الحيوانات بالغريزة، وفي هذه الحالة أول سؤال يتبادر إلى ذهننا هو تعريف الغريزة، حيث نستطيع أن نعرفها على أساس آلية معينة تجعل الدودة مثلا تخفي نفسها داخل ورقة نباتية أو تجعل القندس يبني عشه وسده بهذه الكيفية و هذه الآلية أو القوة الدافعة ينبغي أن توجد في مكان ما داخل جسم الحيوان .
ما الغريزة ؟
كلمة الغريزة تستخدم من قبل دعاة نظرية التطور لتفسير قابلية الحيوان القيام بسلوك معين منذ الولادة. وكانت هناك تساؤلات عديدة تدور حول كيفية اكتساب الحيوانات لهذه الغريزة وعن كيفية ظهور أول سلوك غريزي لدى الحيوانات وكذلك عن كيفية انتقال هذه الغريزة كابرا عن كابر. كل هذه التساؤلات باقية بدون رد أو جواب.
هناك أخصائي في علم الجينات وأحد دعاة نظرية التطور ويدعى Gordon Taylor rottary
فقد ذكر في كتابه "The great evolution Myster"أو "سر التطور العظيم " اعترافا بعجز النظرية عن الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالغريزة كما يلي :
لو تسائلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة (4).
"وهناك آخرون على شاكلة "Gordon Taylor" يؤمنون بنظرية التطور لا يودون الاعتراف بهذه الحقيقة وبدلا من ذلك يحاولون التمسك بإجابة غامضة ولا تحمل أية معاني حقيقية. وبالنسبة لرأي هؤلاء فإن الغرائز تعتبر جينات موجودة لدى الحيوانات تظهر على شكل أنماط سلوكية، واستنادا إلى هذا التعريف يقوم نحل العسل ببناء الخلية على الشكل المنتظم المعروف بوحدات بنائية هندسية مسدسة وفق الغريزة الحيوانية و بمعنى آخر يوجد جين خاص في أجسام كل أنواع نحل العسل يجعل هذه الأنواع تبني خلاياها غريزيا وفق الشكل المعروف.
وفي هذه الحالة يطرح الإنسان العاقل المفكر سؤاله المنطقي: لو كانت الكائنات الحية مبرمجة على أن تسلك هذا السلوك المعين فمن الذي برمج هذا السلوك؟ إذ لا يوجد أي برنامج مبرمج من تلقاء نفسه ولابد من مبرمج .
ودعاة نظرية التطور لم يجدوا إجابة محددة لهذا السؤال واستخدموا أسلوبا آخر للمناورة حيث يؤكدون على اكتساب الكائنات الحية لهذه الغريزة عن طريق الطبيعة الأم وكما نعلم فإن الطبيعة الأم تتألف من الحجر و التراب و الأشجار والنباتات ..الخ . ومن من هذه العناصر لها القدرة على إكساب الكائنات الحية هذا السلوك المبرمج؟ أيّ جزء من الطبيعة لديه القدرة والعقل على فعل ذلك ؟كل ما نراه في الطبيعة مخلوق و لا يمكن له أن يكون خالقا، ولا يمكن للإنسان العاقل أن يقول وهو يرى لوحة زيتية جميلة ما أحلى الأصباغ التي رسمت هذه اللوحة بلا شك يكون هذا الكلام غير منطقي. إذن فإن ادعاء كون المخلوق خالقا للأشياء هو بلا شك ادعاء غير منطقي. وهنا تظهر لنا حقيقة واضحة وهي عدم اكتساب هذه الكائنات الحية غير العاقلة لهذه الميزات السلوكية المنطقية من تلقاء نفسها, فهذه الميزات مكتسبة بالولادة إذن فإن هناك من خلقها بهذه الكيفية ويتميز صاحب هذا الإبداع بالعلم والعقل اللامتناهيين الذين نراهما في الطبيعة.
و بلا شك فإن صاحب هذا العلم والعقل هو الله سبحانه وتعالى. وذكر الله سبحانه وتعالى في الذكر الحكيم نحل العسل كمثال على إلهامه الكائنات الحية لاتباع سلوك معين، أي أن الغريزة التي يرددها دعاة نظرية التطور أو كما يقولون: " إن الحيوانات مبرمجة على آداء سلوك معين" ما هي إلا إلهام إلاهي لهذه الكائنات الحية, وهذه الحقيقة مذكورة في القرآن الكريم:" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لأية لقوم يتفكرون" سورة النحل الآية 68-69 "
ودعاة نظرية التطور يغمضون أعينهم أمام هذه الحقيقة لإنكار الوجود الإلهي، وهم بالتأكيد قد رأوا ومازالوا يرون الأنماط السلوكية للحيوانات ومازالوا يبحثون عن تفسير لها ويعلمون يقينا عدم قدرة نظرية التطور على تفسير هذه السلوكيات تفسيرا منطقيا. وكثيرا ما نجد عبارات وجملا مألوفة عند قراءتنا لمؤلفين من دعاة هذه النظرية ومن هذه العبارات:"..لإنجاز هذا العمل لابد من وجود عقل ذو مستوى عال ولكون الحيوانات لاتملك مثل هذا العقل فإن العلم يعجز عن الإجابة عن هذا السؤال ". ونورد المثال الآتي المتعلق بسلوك دودة القز على لسان أحد دعاة نظرية التطور المعروفين و يدعى Haimar Von Dithfurth هيرمان فون ديثفورت حيث يقول : إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة, ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولابد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية …كل هذه الظواهر لابد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة ولابد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علما أن لدودة القز جهازا عصبيا بسيطا للغاية فضلا عن بدائية سلوكها الحياتي, وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابليّة تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف.
ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها وهي بهذا الضعف من التكوين ؟ .وعندما جابه علماء الطبيعة الأقدمون مثل هذه الظواهر لم يجدوا لها تفسيرا إلاّ بـالمعجزة أي تبنوا فكرة وجود قوة غير طبيعية خلاقة أي آمنوا بوجود الله الذي يعطي مخلوقاته آليات معينة للدفاع عن النفس. وبالنسبة إليّ هذه الطريقة في التفكير تعتبر بمثابة انتحار لعالم أو باحث في الطبيعة ومن جانب آخر يقوم العلم الحديث بتفسير هذه الظواهر تفسيرا خاليا من أي معنى عبر التمسك بمفهوم الغريزة، لأنه على عكس ما يعتقده أغلبنا فإن تفسير السلوك بالغريزة يعني اكتساب الحيوان لهذه الأنماط السلوكية بالولادة، وهذا التفسير لا يقدم ولا يؤخر في تساؤلنا بل يعيق بحثنا عن إجابة محددة وواضحة، ولا يمكن الحديث عن السلوك العقلاني لدودة القز التي تفتقد وجود مثل هذا العقل.
ومرة أخرى نعود إلى الحديث حول السلوك المعين للحيوانات فإن هناك ما يفرض نفسه أمام أعيننا وهو الترتيب العقلاني لهذه الأنماط السلوكية، ولو لم يكن هذا السلوك المعين مثل تحديد الهدف أو التحسب للمستقبل أو توقع ما يمكن أن يقدم عليه أي حيوان آخر وحساب رد الفعل اللازم إبداءه تجاهه كعلامة على وجود عقل مدبر ومفكر، فإذن ما هو تفسير هذا السلوك ؟" (5).
هذا الكلام يقوله هذا المتبني لنظرية التطور وهو يحلل أو يحاول أن يصل إلى تحليل منطقي لسلوك دودة القز, هذا السلوك العقلاني والمدروس، ولا يمكن أن نجد في مثل هذه الكتب والإصدارات إلا أسئلة بدون ردود واضحة أو تناقضات فكرية لا تؤدي إلاّ إلى طريق مسدود. حتى صاحب النظرية تشارلس دروين نفسه قد اعترف بهذه الحقيقة فذكر أن سلوك الحيوانات وغرائزها تشكل تهديدا واضحا لصحّة نظريته وذكر ذلك في كتابه "أصل الأنواع" عدة مرات وبصورة واضحة لا لبس فيها : "أغلب الغرائز تمتاز بتأثير بالغ وتثير درجة كبيرة من الحيرة، وكيفية نشوئها وتطورها ربما تبدو لقارئ نظريتي كافية لهدم نظريتي من الأساس" (6).
أما نجل تشالس داروين المدعو فرانسيس داروين فقد قام بتحليل وشرح رسائل أبيه في كتاب أسماه "الحياة ورسائل تشارلس داروين" "the life and letters of darwin" وذكر مدى الصعوبات التي واجهها داروين في تفسيره للغرائز قائلا :في الكتاب (يعني أصل الأنواع ) وفي الباب الثالث منه يتحدث في القسم الأول عن العادات الحيوانية والغرائز والاختلاف الحاصل فيها ..والسبب في إدخال هذا الموضوع في بداية الباب تشريد فكر القراء عن إمكانية رفضهم لفكرة تطور الغرائز بالانتخاب الطبيعي، ويعتبر باب الغرائز من أصعب المواضيع التي احتواها كتاب "أصل الأنواع" (7).
الغرائز لا يمكن أن تتطور
إنّ دعاة نظرية التطور يجادلون بكون أغلب سلوك الحيوانات نتيجة للغريزة، ولكن كما أسلفنا القول في الصفحات السابقة لا يستطيعون إيراد تفسير مقبول عن كيفية نشوء الغرائز و لا عن كيفية ظهور الغريزة لأول مرة و لا عن كيفية اكتساب الحيوانات لهذه الغرائز، ولو حوصر أحدهم بالأسئلة لتعلق بالإدعاء التالي: "تكتسب الحيوانات أنماطا سلوكية عن طريق التجربة ويتم انتقاء الأقوى بواسطة الانتخاب الطبيعي. وفي مرحلة لاحقة يتم توارث هذه الأنماط السلوكية الناجحة عبر الأجيال المتعاقبة".
وهناك أخطاء منطقية ولا يمكن أن يقبلها العقل في هذا الإدعاء، ودعونانتفحص هذه الأخطاء بالتسلسل:
1-الأخطاء الكامنة في المقولة : اختيار السلوكيات المفيدة عبر الانتخاب الطبيعي:
إنّ الانتخاب الطبيعي يعتبر الحجر الأساس لنظرية "تشارلس دروين" الخاصة بـالتطور. والانتخاب الطبيعي يعني اختيار أي تغيير مفيد وصالح للكائن الحي (قد يكون هذا التغيير هيكليا أو سلوكيا ) واختيار ذلك الكائن الحي لتوريث ذلك التغيير للأجيال اللاحقة .
وهناك نقطة مهمة في هذا الإدعاء يجب أن لا نغفل عنها وهي: كون الطبيعة حسب ادعاء داروين تعتبر المحك لتمييز المفيد من الضار وهي القوة المؤثرة والعاقلة في الوجود ولكن لا يوجد في الطبيعة ما يميز بين الضار والمفيد كقوة مؤثرة حيث لا يوجد بين الحيوانات أو غير الحيوانات ما يملك قرار ذلك أو القابلية على اتخاذ هذا القرار، فقط من خلق الطبيعة وما تحتويه وخلق كل شيء يملك العقل والمنطق والقدرة على تمييز الضار من المفيد.
في الحقيقة داروين يعترف بنفسه باستحالة اكتساب السلوكيات المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي إلا أنه يعود و يدافع عن وجهة نظره التي هي محض خيال واستمر في الدفاع عن رأيه بالرغم من كونها هرطقة وغير منطقية حيث يقول: في النهاية يمكن اعتبار الغرائز التي تجعل زغلول الحمام يطرد إخوانه غير الأشقّاء من العش، وتجعل مملكة النحل مقسمة إلى خدم وملكة ليست غرائز موهوبة أو مخلوقة بل تفاصيل حية وصغيرة لدستور عام لعالم الأحياء وهذه التفاصيل الصغيرة تتولى مهمة التكثير و التغيير عبر انتقاء الأصلح من الأضعف. ولكن هذا الاعتبار لا يبدو لي منطقيا ولكنه قريب إلى الأفكار التي تدور في مخيلتي (8).
ويعترف داعية آخر لنظرية التطور وهذه المرة في تركيا وهو البروفيسور جمال يلدرم بأن عاطفة الأمومة لدى الأم لا يمكن تفسيرها بواسطة الانتخاب الطبيعي ويقول بهذا الصدد :
"هل توجد إمكانية لتفسير عاطفة الأمومة تجاه الأبناء بواسطة نظام أعمى يفتقد إلى مشاعر روحية مثل نظام الانتخاب الطبيعي ؟ وبلا شك فشل علماء الأحياء ومنهم مؤيدو داروين في إيراد جواب مقنع لهذا السؤال. وهنالك صفات معنوية لدى الكائنات الحية غير عاقلة و بما أنها لا تستطيع أن تكتسب هذه الصفات بإرادتها فإذن يجب أن يكون هناك من منحها هذه الصفات، وحيث أن الطبيعة و قانون الانتخاب الطبيعي عاجزان عن إكساب الأحياء هذه الطبيعة المعنوية بسبب كونهما يفتقدان للصفات المعنوية، والحقيقة الساطعة كالشمس تتمثل وجود كافة الأحياء تحت العناية الإلهية و تدبيره المحكم، ولهذه الأسباب المتقدمة نستطيع أن نشاهد في الطبيعة أنماطا سلوكية لبعض الحيوانات تثير الحيرة والاستغراب وتجعلنا نتساءل: كيف تسنى لهذا الحيوان الاهتداء إلى هذا السلوك ؟ وكيف يستطيع هذا الحيوان أو ذلك التفكير بهذه الطريقة؟
2-الأخطاء الخاصة بتوارث السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي:
الخطوة الثانية لمؤيدي داروين هي ادعاؤهم بأن السلوكيات المفيدة والمنتخبة عبر الانتخاب الطبيعي يتم توارثها عبر الأجيال وهذا الإدعاء ضعيف وهش للغاية من مختلف الوجوه. قبل كلّ شيء فإن أي سلوك جديد يكتسبه الحيوان عن طريق التجربة لا يمكن توريثه لجيل لاحق بأي حال من الأحوال لأن التجربة المكتسبة تخص ذاك الجيل وحده ولا يمكن إدخال هذه التجربة السلوكية الجديدة المكتسبة في البناء الجيني للحيوان إطلاقا .
ويقول Gordon R.Taylor مبديا رأيه المناهض لرأي أولئك الذين يدعون توارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة بما يلي :" يدعي علماء الأحياء بأن هناك إمكانية لتوارث الأنماط السلوكية عبر الأجيال المتعاقبة ويمكن مشاهدة هذه الظاهرة في الطبيعة مثلا العالم :Dobzhansky يدعي بأن جميع وظائف جسم الكائن الحي ما هي إلاّ نتاج التوارث النّاتج بتأثير العناصر والعوامل المتوفرة في المحيط الخارجي، وفي هذه الحالة يكون الأمر مقبولا بصورته النهائية بالنسبة لجميع أنواع الأنماط السلوكية، ولكن هذا غير صحيح بالمرة ويعتبر أمرا محزنا أن يكون هذا رأي عالم له مكانته مثل Dobzhansky . ويمكن القول أن هنالك بعض الأنماط السلوكية لبعض الأحياء يتم توارثها عبر الأجيال اللاحقة ولكن لا يمكن تعميم الأمر على جميع الأنماط السلوكية" .
والحقيقة الظاهرة للعيان عدم وجود أي دليل علمي يمكن بواسطته إثبات توارث بعض الأنماط السلوكية بواسطة الخريطة الجينية للكائن الحي والمعروف أن الجينات مسؤولة فقط عن بناء البروتينات حيث يتمّ بناؤها أكثر من إفراز بعض الهرمونات لتتم السيطرة على سلوك الكائن الحي (بصورة عامة) وعلى سبيل المثال أن يكون الحيوان نشيطا أو بالعكس خاملا أو أن يكون الوليد أكثر ارتباطه بأمه، ولكن لا يوجد أي دليل يثبت توارث السلوك الخاص الذي يجعل الحيوان يبني عشه بالترتيب والتزامن والانتظام المعروف0
ولو كان الأمر كذلك فإذن ما هي الوحدات الوراثية المسؤولة عن عملية التوريث ؟ لأن هناك فرضيات تثبت وجودها، ولم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال (10).
وكما أفاد به Gordon R.Taylor فإن الادعاء بكون الأنماط قابلة للتوارث أمر غير مقبول علميا، فبناء الطيور لأعشاشها وإنشاء القندس للسدود وإفراز عاملات نحل العسل للشمع يقتضي وجود نوع من الأنماط السلوكية المعقدة كالتصميم والتخطيط للمستقبل و هذه لا يمكن توارثها عبر الأجيال وهناك مثل آخر يفرض نفسه بشدة وهو المتعلق بسلوك العاملات القاصرات في مملكة النمل .
فهذه العاملات لها سلوك خاص تتميز به يقتضي منها أن تكون على دراية تامة بالحساب وذات خبرة واسعة، ولكن هذه الأنماط السلوكية لعاملات النمل لا يمكن أن تكتسب بالتوارث لسبب وحيد كونها قاصرات ولا يمكن لها التكاثر لذا فلا تستطيع توريث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة، ومادام الأمر كذلك ينبغي توجيه السؤال الآتي لدعاة نظرية التطور : كيف تسنى لأول نملة عاملة قاصرة أن تورث هذه الأنماط السلوكية لأجيال لاحقة من العاملات القاصرات وهي بالتأكيد لا تستطيع التكاثر ؟ وما تزال هذه العاملات سواء كانت نملا أو نحلا أو أي حيوان آخر تعمل منذ ملايين السنين بهذا السلوك الذي يعكس مدى العقلانية والقابلية والتكافل و الانتظام وتوزيع الأدوار بدقة إضافة إلى روح التضحية إلا أن هذه المخلوقات لم تستطع البتة أن تورث هذه الأنماط السلوكية منذ خلقت لأول مرة .
ولا يمكننا القول بأن هذه المخلوقات قد بذلت جهدا في اكتساب هذه الأنماط السلوكية لأنها تبدأ في اتباع هذا السلوك منذ اللحظات الأولى لوجودها على وجه الأرض بأكمل صورة. ولا تصادف في أي طور من أطوار حياتها أية مرحلة للتعليم و جميع سلوكها مكتسب بالفطرة, وهذا الأمر جائز مع جميع الكائنات الحية. إذن فمن الذي علم الكائنات الحية تلك الأنماط السلوكية ؟ وهو السؤال نفسه الذي طرحه داروين قبل 150سنة ولم يستطع دعاة نظرية التطور الإجابة عنه، و هناك تناقض عبر عنه داروين نفسه قائلا :
"إنه لخطأ كبير أن نتحدث عن فرضية اكتساب الأنماط السلوكية الغريزية بالتطبع وتوريثها إلى أجيال لاحقة، لأننا كما نعلم هناك غرائز محيرة للغاية كتلك التي عند النمل أو النحل ولا يمكن البتة اكتسابها بالتطبع" (11).
فلو افترضنا أن النملة العاملة أو أية حشرة أخرى قد اكتسبت جميع صفاتها المتميزة عبر الانتخاب الطبيعي وبالتدرج, أي افترضنا أنها عملية انتخاب للصفات الصالحة ثم يتمّ توريثها بعد ذلك إلى أجيال لاحقة وبصورة متعاقبة وفي كل مرة يتم انتخاب صفات مفيدة وتورث إلى جيل لاحق وهكذا, لو افترضنا ذلك لأصبحت فرضيتنا مستحيلة لسبب وحيد و هو عدم تشابه النملة العاملة مع أبويها إلى حد كبير إضافة إلى كونها عقيمة, و لهذا فهي لا تستطيع توريث الصفات والأنماط السلوكية الجديدة المكتسبة إلى الأجيال اللاحقة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن تفسير هذه الحالة بواسطة الانتخاب الطبيعي (1).
ويعبر جمال يلدرم أحد المؤمنين بنظرية التطور عن التناقض الذي وقع فيه المتبنّون لهذه النظرية: ولنأخذ على سبيل المثال الحشرات التي تعيش على شكل مجتمعات مثل النمل أو النحل, فهذه الحشرات عقيمة وليست لديها أية إمكانية لتوريث أية صفات حيوية جديدة تنقلها إلى أجيال لاحقة إلا أنها تبدي تكيفا مدهشا مع ظروف المحيط الذي توجد فيه وعلى أعلى المستويات. (13)
ويتضح مما تقدم من اعترافات العلماء و أقوالهم استحالة تفسير الأنماط السلوكية المحيرة لهذه الكائنات الحية بواسطة نظرية التطور لأن هذه الأنماط السلوكية لم تكتسب عبر الانتخاب الطبيعي ولا يمكن توريثها إلى أجيال لاحقة.
3-سقوط فكرة تطور الغرائز بتطور الأحياء
تدعي نظرية التطور بأن الكائنات قد نشأت عن بعضها البعض عبر التطور. ووفقا لهذه النظرية تكون الزواحف قد نشأت من الأسماك والطيور من الزواحف... ولكن يجب أن لا ننسى أن النوع الواحد يختلف تماما من حيث السلوك حيث تختلف السمكة عن الزواحف من حيث السلوك اختلافا كليا. ويدور السؤال التالي: هل تعرض سلوك الكائن الحي إلى تطور كما تعرض بناؤه الحيوي البيولوجي الى تطور؟
وهذا التساؤل يعتبر أحد التناقضات والمآزق الفكرية التي وقع فيها دعاة نظرية التطور وقد وضع داروين إصبعه على هذا التناقض وتوصل الى استحالة اكتساب الغرائز بالانتخاب الطبيعي وتغيرها بالتطور حيث تساءل قائلا: هل من الممكن اكتساب الغرائز بالانتخاب الطبيعي وتطويرها وتغييرها فيما بعد ؟ ماذا يمكننا القول أمام بناء نحل العسل لخليته بهذا الشكل الهندسي الذي سبق أخصّائيّي الرياضيات بزمن سحيق ماذا يمكننا القول أمام هذه الغريزة (14). وهذا التناقض يمكن إيراد الأمثلة المختلفة عليه من كافة أنواع الحيوانات كالأسماك والزواحف والطيور. فالأسماك لها صفات خاصة بها من حيث التكاثر والصيد والدفاع عن النفس فضلا عن إنشاء منازلها بطريقتها الخاصة، وهذه الصفات الخاصة في حالة تلائم تماما الوسط المائي الذي تعيش فيه. وهناك بعض الأنواع من الأسماك تقوم بلصق بيضها تحت الأحجار الموجودة في قاع البحر وبعد لصقها لبيضها تقوم برفرفة زعانفها فوقها لتتيح أكبر كمية من الأكسيجين اللازمة لتنفس الأجنة الموجودة داخل البيض.أمّا الطيور فتضع بيضها في أعشاش ذات بناء خاص تبنيها لهذا الغرض وترقد على بيضها مدة زمنية محددة لازمة لفقس البيض .
أما التماسيح والتي تعتبر حيوانات برية فتملك سلوكا معاكسا تماما فتقوم بدفن بيضها تحت الرمال مدة شهرين كاملين لازمة لفقسها، وهناك بعض الأسماك تقوم بوضع بيضها داخل الأحجار الموجودة في قاع البحر ومن جانب آخر هناك بعض الحيوانات البرية تقوم ببناء مساكنها على أطراف الأشجار العليا باستخدام الأغصان وقشور الأشجار، أما الطيور فتنشأ أعشاشها باستخدام الأعشاب والنباتات البرية أما اللبان التي يدعون أنها نشأت من الزواحف فتختلف من حيث التكاثر اختلافا كليّا عن باقي الكائنات الحية . فبينما تكون باقي الحيوانات تتكاثر بالبيض تتكاثر اللبان بأن تحمل أجنتها داخل بطونها أشهرا عديدة وبعد أن تضع جنينها تقوم بتغذيته باللبن الذي يفرزه جسمها.
وهناك أسلوب للصيد مختلف لكلّ نوع من أنواع الأحياء, فبينما يبقى بعضها كامنا للصيد فترة طويلة يكون البعض منها متخفيا بلون المكان الموجود فيه والبعض الآخر يعتمد على السرعة والمباغتة. وكما يتضح هناك اختلاف كبير وشاسع بين الحيوانات البرية والحيوانات المائية وكلّ نوع يتميز باختلاف واضح حسب الوسط الذي يعيش فيه.
من هذا العرض نستنتج أن التغيير في الغرائز ينبغي أن يكون مصاحبا للتطور الحاصل في الأحياء. على سبيل المثال أن تصبح السمكة التي تضع بيضها تحت أحجار قاع البحر وترفرف بزعانفها رعاية لها حيوانا بريّا تقوده غريزته المتطورة إلى بناء أعشاش خاصة على أطراف الأشجار و يرقد على البيض مدة معينة لأجل تفقيسها. وهذا الأمر محال طبعا، والاستحالة الأخرى في هذا الموضوع يمكن توضيحها بفرض عدم استطاعة الكائن الحي العيش نتيجة عدم ملاءمة سلوكه غير المتطور لبنيته المتطورة نتيجة تغير الوسط الذي يعيش فيه حيث لا تستطيع السمكة التي تتقن التّخفي في البحر العيش إلا بعد إيجادها وسيلة جديدة للدفاع, بالإضافة إلى ضيق الوقت لتحقيق ذلك لأنه يجب أن تقوم بتغيير سلوكها وطريقة حياتها وبناء جسمها بصورة مستمرة وإلاّ فإنها معرضة للهلاك وانقراض نسلها.
ومن الواضح أنه لا يوجد حيوان غير عاقل يمتلك القابلية لاتخاذ مثل هذا القرار السريع والإستراتيجي الّذي يتطلب قوى عقلية . إذا فكيف يتم تفسير سلوك الحيوانات الملائم لبناء أجسامها وشروط الوسط الذي تعيش فيه ؟ وأدلى داروين بدلوه في هذا الخصوص في معرض رده على النـقد الموجه لكتابه "أصل الأنواع " قائلا : كان هناك اعتراض على فكرة أصل الأنواع مفاده أنه ينبغي أن يكون التغيير الحاصل في بناء الكائن الحي متزامنا مع التغيير في غرائزه فضلا عن كونهما متلائمين مع بعضهما لأن أي تباين يحدث بينهما يعني الموت المحتم "(15).
يتضح مما تقدم أنه لا يمكن تفسير سلوك الحيوان بواسطة التطور عبر الزمن أو بالصدفة أو بتأثير الطبيعة الأم. إذن فكيف اكتسبت الكائنات الحية تلك الصفات والخصائص التي تتيح لها مواصلة حياتها؟ والجواب على السؤال في غاية الدقة والوضوح . فالإنسان المطلع على طريقة معيشة الأحياء يستطيع أن يرى استحالة تشكل هذه الأنماط السلوكية من تلقاء ذاتها أو بواسطة سلسلة من المصادفات. ومصدر هذه الأنماط السلوكية لا يوجد في أجسامها ولا في المحيط الذي تعيش فيه. إذن فهناك عقل وقوة لا يمكن رؤيتهما بالعين المجردة يقومان بإدارة سلوك هذه الكائنات الحية. ولا شك أن صاحب هذا العقل وهذه القوة هو الله سبحانه وتعالى والذي وسعت رحمته كل شيء.
والنتيجة: أنّ كل الكائنات الحية تتحرك بواسطة إلهام إلهي.
كما ذكرنا في الصفحات السابقة واجه دعاة نظرية التطور إشكاليات كبيرة تتعلق بتفسير سلوك الحيوانات في حين أنّ الحقيقة واضحة جلية وهي عدم استطاعة الكائن الحي غير العاقل أن يقوم بتمييز الفروق الواضحة أو أن يقوم بالربط بين الوقائع أو اتخاذ قرار صحيح, فضلا عن عدم قدرته على التخطيط لعدة مراحل مقبلة إلى جانب أشياء أخرى تتطلب عقلا وتفكيرا و إدراكا. ويقول دعاة التطور إنّ هذه الكائنات الحية مبرمجة على أداء هذه الأعمال، إذن من هو الذي وضع هذا البرنامج ؟ و ما هي القوة التي تجعل نحل العسل يفرز الشمع الخاص لبناء الخلية ؟ والجواب واضح ودقيق، والإنسان الذي لديه علم بطريقة معيشة الأحياء ولوعلم بسيط يستطيع أن يتوصل إلى عدم إمكانية تولد هذه الأنماط السلوكية من تلقاء نفسها أو محض الصدفة بل الواضح أن هناك قوة تحكم هذه الطبيعة وتديرها ولها تأثير مباشر على سلوك الكائنات الحية. وصاحب هذه القوة بلا شك هو الله الخلاق العليم. و نظرية تعجز أن تفسر كيفية خلق الكائن الحي لابد لها أن تقف عاجزة أمام تفسير سلوك ذلك الكائن الحي ومصدره. لذا فإجراء الأبحاث حول سلوك الكائنات الحية له أهمية قصوى بلا شك لأن هذه الأبحاث تثبت أنه لا يوجد كائن حيّ يعيش جزافا أو دون ضابط، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يقوم بخلق الكائن الحي من العدم ويدبر أموره ويراقبه في كل حين وينظم له سلوكه بقدرته, ربّ السماوات والأرض وما بينهما، وهذه الحقيقة وردت في القرآن الحكيم . يقول الله تعالى في كتابه الكريم:" إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربي على صراط مستقيم ". سورة هود الآية 56.
روح التضحية لدى الكائنات الحية تفنّد ادعاء داروين بأن البقاء للأقوى
مثلما أسلفنا القول في الصفحات السابقة فإن الأمر حسب ادعاء داروين يعتمد على قانون الانتخاب الطبيعي, أي أنّ الكائنات الحية التي تستطيع أن تتكيف مع شروط الوسط الذي تعيش فيه تستطيع مواصلة حياتها والحفاظ على نسلها, و أمّا الكائنات الضعيفة التي لا تستطيع التكيف مع تلك الشروط فهي معرضة للهلاك والفناء، و بناء على هذا يكون التعريف المنطقي للطبيعة وفقا لقانون الانتخاب الطبيعي لـداروين هو المكان الذي تقوم فيه الكائنات الحية بكفاح مرير فيما بينها من أجل البقاء فيبقى القوي و يفنى الضعيف.
واستنادا إلى هذا التعريف ينبغي على كل كائن حي أن يكون قويا ومتميزا بالقوة عن الآخرين في سبيل الكفاح والبقاء. و في وسط مثل هذا لا يمكن الحديث عن بعض الميزات مثل الإيثار والتضحية والتكافل, فهذه الميزات قد تصبح ذات آثار سلبية على الكائن الحي نفسه. ويتميز الكائن الحي وفقا لهذا المنطق بمنتهى الأنانية ولا همّ له سوى البحث عن الغذاء وإنشاء البيت الذي يؤويه وأن يحمي نفسه من خطر الأعداء.
و لكن هل صحيح أن الطبيعة هي المكان الذي يضمّ كائنات حية تخوض فما بينها صراعا مريرا للقضاء على بعضها البعض بمنتهى الوحشية والأنانية ؟. إن الأبحاث الجارية بهذا الشأن حتى يومنا هذا قد أبطلت ادّعاءات دعاة التطور. فالطبيعة ليست كما زعم هؤلاء من أنها تمثل ساحة للحرب بين الأحياء، إنّ الطبيعة على خلاف ذلك تحوي بين جيناتها أمثلة حية للتضحية بالنفس في سبيل الآخرين. وهناك أمثلة لا يمكن حصرها تكشف صورا غاية في التضحية من أجل الغير تملأ أركان الطبيعة ويذكر جمال يلدرم في كتابه "التطرف وقانون التطور ".
إن الأسباب التي جعلت داروين وغيره من رجالات العلم في عصره يصورون الطبيعة على أنها تمثل مسرحا للحرب بين الأحياء يمكن إجمالها في النقاط التالية: كان رجال العلم في القرن التاسع عشر يقبعون في مختبراتهم أو أماكن عملهم لمدة طويلة ولا يدرسون الطبيعة ميدانيا و لهذا ذهب خيالهم ببساطة إلى الاستسلام لفكرة كون الكائنات الحية في حالة حرب صامتة فيما بينها، وعالم فذ مثل هالي Haley لم يستطع إنقاذ نفسه من براثن هذا الوهم (16).
أما العالم بتر كروبوتكين Peter Kropotkin الذي يؤمن أيضا بنظرية التطور فيذكر في كتابه Mutual Aid:A Factor in Evolution أو " الهدف المشترك : العامل المؤثر في التطور " الخطأ الذي وقع فيه داروين و مؤيدوه قائلا : داروين و مؤيدوه عرّفوا الطبيعة على أنها مكان تخوض فيه الكائنات الحية حروبا مستمرة بين بعضها البعض. و يصور هاكسلي Haxley عالم الحيوان باعتباره حلبة مصارعة تقوم فيه الحيوانات بصراع مرير فيما بينها و تكون الغلبة من بينها للذكي والسريع وهو الذي يستطيع العيش ليبدأ في اليوم التالي صراعا جديدا وهكذا. و يتبين لنا منذ الوهلة الأولى أن وجهة نظر هكسلي بشأن الطبيعة ليست علمية ….(17).
وهذا الوضع يعتبر شاهدا على عدم استناد نظرية التطور إلى ملاحظات علمية، ويغلب على العلماء من دعاة هذه النظرية التزمت الفكري في دعمهم للنظرية التي يؤمنون بها من خلال تحليل بعض الظواهر الموجودة في الطبيعة وفقا لهواهم. والحقيقة أن الحرب التي يدعي داروين أنّها تنتشر في أرجاء الطبيعة تبين أنها خطأ كبير لأننا لا نجد في الطبيعة الأحياء التي تكافح من أجل البقاء فقط بل نجد أيضا كائنات حية تبذل تعاونا ملحوظا نحو الكائنات الحية الأخرى, والأعجب من هذا أنها تؤثرها أحيانا على نفسها. ولهذا السبب يعجز دعاة التطور عن تفسير ظواهر الإيثار لدى بعض الكائنات الحية. و ورد في مقال صادرة في إحدى المجلات العلمية النص التالي الذي يصور عجز هؤلاء: " المشكلة تكمن في السبب الذي من أجله تتعاون الكائنات الحية، وبالنسبة إلى نظرية داروين فهي تقول إنه ينبغي على كل كائن حي أن يكافح من أجل البقاء والتكاثر، ومعاونة باقي الكائنات الحية يقلل من فرص نجاح ذلك الكائن الحي في البقاء وعلى هذا الأساس ينبغي أن يزال هذا النمط السلوكي عبر التطور، ولكن الملاحظ أن الإيثار لا يزال موجودا في سلوك الكائنات الحية (18).
وأبسط مثال على الإيثار هو سلوك عاملات النحل فإنها تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها وهي تعلم يقينا أنها ستموت، فإبرتها اللاسعة تبقى مغروزة في الجسم الذي تلسعه و نظرا لارتباط هذه الإبرة الوثيق بالأعضاء الداخلية للحشرة فإنها تسحب معها هذه الأعضاء خارجا متسببة في موت النحلة. ويتضح من ذلك أنّ النحلة العاملة تضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية .
أمّا ذكر البطريق و أنثاه فيقومان بحراسة عشهما حتى الموت، فالذكر يسهر على رعاية الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، ولا يستطيع طيلة هذه الفترة أن يتناول شيئا من الغذاء أماّ الأنثى فتذهب إلى البحر لتجلب الغذاء و هي تجمعه في بلعومها وتأتي به إلى فرخها ويبديان تفانيا ملحوظا من أجل فرخهما .
و يعرف عن التمساح كنه من الحيوانات المتوحشة إلا أنّ الرعاية التي يوليها لأبنائه تثير الحيرة الشديدة, فعندما تخرج التماسيح الصغيرة بعد فقس البيض تقوم الأم بجمعها في فمها حتى تصل بها إلى الماء ثم تعكف على رعايتها وتحملها في فمها أو على ظهرها حتى تكبر و يشتد عودها و تصبح قادرة على مواجهة المصاعب بنفسها، وعندما تشعر التماسيح الصغيرة بأي خطر سرعان ما تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم أمّها و هو الملجأ الأمين بالنسبة أليها. إن هذا السلوك يثير الاستغراب خاصة إذا علمنا أن التماسيح حيوانات متوحشة والمنتظر منها أن تأكل أبناءها و تلتهمهم لا أن ترعاهم و تحميهم..
وهناك بعض الأمهات من الحيوانات تترك القطيع الذي تعيش فيه لترضع أولادها, فتتخلف الأم مع ولدها و تضل ترضعه حتى يشبع عن معرّضة حياتها لخطر جسيم. والمعروف عن الحيوانات أنها تهتم بأولادها الذين ولدوا حديثا أو الذين خرجوا من البيض لمدد طويلة تصل إلى أيام أو أشهر أوحتّى بضع سنين فتوفر هذه الحيوانات لصغارها الغذاء والمسكن والدفء و تقوم بالدفاع عنهم من خطر الأعداء المفترسين. وأغلب أنواع الطيور يقوم بتغذية صغاره من 4-20 مرة في الساعة خلال اليوم الواحد, أماّ إناث اللبان فأمرها مختلف إذ يتحتم عليها أن تتغذى جيدا عندما ترضع صغارها حتى توفر لهم اللبن الكافي, وطيلة هذه الفترة يزداد الرضيع وزنا بينما تفقد الأم من وزنها بشكل ملحوظ.
أما الطبيعي و المتوقع في هذه الحالات فهو أن تهمل هذه الحيوانات غير العاقلة صغارها و تتركها و شأنها لأن هذه الحيوانات غير العاقلة لا تفهم معنى الأمومة أو العطف و لكنها بالعكس من ذلك تتحمل مسؤولية رعايتها و الدفاع عنها بشكل عجيب.
و لا تقوم الأحياء باتخاذ مثل هذا السلوك مع صغارها فقط وإنما قد تبدي العطف نفسه والحنان نفسه إزاء الحيوانات الأخرى أو الأفراد الأخرى التي تعيش معها في المجموعات نفسها، و يمكن ملاحظة ذلك عندما تشح مصادر الغذاء, فالمتوقع في مثل هذه الحالات العصيبة أن ينطلق القوي منها ليبيد الضعيف ويستحوذ على ما يوجد من الغذاء، غير أنّ الذي يحدث هو عكس ما يتوقعه دعاة التطور. و يورد كروبوتكين و هو معروف بتأييده لهذه النظرية أمثلة عديدة تتعلق بهذا الموضوع منها مثلا: يبدأ النمل بتناول ما ادخره عندما تشحّ مصادر الغذاء بينما تبدأ الطيور بالهجرة بشكل جماعي إلى مكان آخر, كما تتوجه القنادس الشابة إلى الشمال والكبيرة في السن إلى جنوب الأنهار حيث تعيش هناك مزدحمة (19).
والذي يفهم من هذه الأمثلة أنه لا وجود لمنافسة أو مزاحمة بين الحيوانات من أجل الغذاء بل بالعكس يمكن مشاهدة أمثلة عديدة للتعاون والتضحية بين الحيوانات حتى في أقسى الظروف. و هي تعمل في أحيان كثيرة على التخفيف من وطأة الظروف و قسوتها. و مع هذا فهناك مسألة يجب أخذها بعين الإعتبار وهي أن أيّا من هذه الحيوانات لا تملك عقلا أو فكرا يجعلها تتخذ هذه القرارات وتنشئ هذا النظام. إذن فكيف يمكن تفسير تجمع هذه الحيوانات في مجموعات ذات هدف واحد وتعمل مجتمعة لتحقيق هذا الهدف المشترك؟.
بلا شك إن الذي خلق هذه الأحياء وألهمها اتباع ما ينفعها والذي يحافظ عليها هو الله رب العالمين جلّت قرته . و يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن كيفية رعايته الإلهية للكائنات "و ما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كلّ في كتاب مبين ". سورة هود الآية 6
أمام هذه الحقائق في الطبيعة تسقط ادعاءات دعاة التطور عن كون الطبيعة مسرحا للحرب لا ينتصر فيها إلا من كان أنانيا و من لا يرى سوى مصالحه فقط ويوجهJohn Maynard Smith أحد دعاة التطور المشهورين سؤالا لأقرانه في الفكر يتعلق بهذا النوع من السلوك لدى الحيوانات: إذا كان الانتخاب الطبيعي يعني اختيار الصفات الصالحة للكائن الحي والتي تضمن له بقاءه وتكاثره فكيف يمكن لنا أن نفسر صفة التضحية لدى بعض الحيوانات ؟ (20)
غريزة الحفاظ على النسل
مثلما اتضح في الصفحات السابقة فإن صفة التضحية في سلوك بعض الحيوانات لم يكن بإمكان دعاة التطور تفسيرها. وهناك أمثلة عديدة للتضحية في الطبيعة تهدم الأساس الفكري لنظرية التطور حتى إن ستيفن جي جولد Stephen Jay Gouli يتحدث عن التضحية في الطبيعة كمشكلة عويصة تواجه نظرية التطور (21).
من جانب آخر يتحدث عنها جوردن تايلر Gorden Taylor باعتبارها مانعا أو سدا كبيرا أمام نظرية التطور ليعبرعن عمق المأزق الفكري الذي يواجه هؤلاء في دفاعهم عن هذه النظرية. وهذه التضحية والرأفة التي يمكن مشاهدتها في الطبيعة تحمل مفاهيم كبيرة وتعتبر طعنة قاتلة في جسد نظرية أولئك الذين ينظرون الى الطبيعة نظرة مادية بحتة ويعتبرونها نتاج مصادفات لا غير.
وهناك البعض من غلاة المؤمنين بنظرية التطور فسر هذه الظواهر تفسيرا آخر مختلفا سماه بقانون الجين الأناني, ورائد هذه الفكرة أحد الغلاة في وقتنا الحاضر ويدعى richard dawkins و هو يرى أن التضحية التي تعبر عنها بعض الكائنات الحية هي إلاّ نتاج أنانيتها، وحسب قوله فإن الحيوان عندما يبدي تضحية ما فإنه لا يفعل ذلك دفاعا عن الباقين بل حفاظا على جيناته أي أنّ الأم عندما تذود عن صغيرها فهي في الحقيقة تدافع عن الجينات التي تولدت منها لأنّ صغيرها عندما يتمّ إنقاذه فإنه يستطيع أن ينقل هذه الجينات إلى أجيال لاحقة، وعلى هذا الأساس تصبح الكائنات الحية بما فيها الإنسان شبيهة بآلات لتوليد الجينات ومسؤولة عن نقلها إلى أجيال لاحقة.
ويدعي هؤلاء بأن الكائنات الحية مبرمجة على الحفاظ على النسل ونقل الجينات إلى أجيال لاحقة ولهذا تسلك سلوكا يلائم هذا البرنامج. ونورد مثالا على طريقة تفكير هؤلاء وتفسيرهم لسلوك الحيوانات من خلال الاطّلاع على نصّ مأخوذ من كتاب في علم الأحياء يتبنى هذه النظرية و عنوانه: Essentails of Biology أو مبادئ علم الأحياء والنص كما يلي:كيف يمكن تفسير السّلوك الذي يقود صاحبه إلى الخطر من أجل إنقاذ غيره؟ بعض السّلوكيات المستندة إلى التضحية مصدرها الجينات الأنانية، والاحتمال الأكبر أن تكون الكائنات الحية وهي تعرّض نفسها للخطر في سبيل جلب الغذاء اللاّزم لصغارها تسلك هذا السلوك وفق برنامج جيني محدّد, وسلوكها هذا يهدف إلى سلامة انتقال الجينات من الأبوين إلى الأبناء ومنهم إلى أجيال لاحقة، ويبدوا ردّ الفعل هذا من الكائنات الحية تجاه أعداءها نوعا من السلوك لتحقيق هدف معين, ويتجلى هذا البرنامج المعين للسلوك الحيواني في الرّائحة والصوت والمظهر الخارجي و أشكال أخرى (22).
ولو تأملنا في النص السّابق لاتّضح لنا أن الكاتب يقصد بأن الكائنات الحية في سلوكها تبدو وكأنها تسعى إلى شيء معين لا عن دراية وفهم بل لأنها مبرمجة على أن تسلك مثل هذا السلوك، وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: ما مصدر هذا البرنامج؟ والجين الذي نتحدث عنه هو شبيه بمجموعة من الشّفرات المعلوماتية، ولكن هذه المجموعة من الشفرات لا تستطيع التفكير، والجين يفتقد الذكاء والعقل والتقدير. لهذا السبب إذا وجد جين خاص يدفع الكائن الحي إلى التضحية فلا يمكن أن يكون هذا الجين هو الآمر بالتضحية. لقد صمّم الحاسوب من قبل مصمم عاقل وذو دراية على أن يتوقف عن العمل عند الضغط على زر الإيقاف, إذن فالحاسوب لا يغلق من تلقاء نفسه و زر الإيقاف لا يعمل بالصدفة دون مصمّم. إنّ حدا قد برمج هذا الزر على أن يوقف الجهاز عن العمل عند الضغط عليه .
إذن فجينات الكائن الحي مبرمجة على دفع هذا الكائن الحي نحو التضحية بنفسه, وهناك قوة ذات عقل ودراية صممت وبرمجت هذه الجينات بهذه الصّورة، وهذه القوة تلهم الكائنات كل لحظة وتراقبها و تهديها إلى اتّباع سلوك معين, وهذه القوة هي الله جلت قدرته، وهذه الحقيقة يذكرها القرآن كما يلي :" ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون# يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون" الآية 49 .سورة النحل .
" الله الذي خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعتموا أن الله على كل شيء قدير و أن الله قد أحاط بكل شيء علما " الآية 12 سورة الطلاق .
الكائنات الحية لا تبدي تعاونا نحو أقربائها من حملة جيناتها فقط بل نحو الكائنات الحية الأخرى أيضا كما سنرى أمثلة مفصلة عديدة في الباب الثالث من هذا الكتاب, فإن الكائنات الحية لا تساعد صغارها فقط بل تمد يد العون نحو الكائنات الحية الأخرى، وهذه الظاهرة شكلت مشكلة عسيرة الحل بالنسبة إلى نظرية التطور لأن هذه الظاهرة لا توحي برغبة في الحفاظ على انتقال الجينات من نسل إلى آخر. وتحلل مجلةCientific American التي تتبنى هذه النظرية ظاهرة التعاون بين الحيوانات كما يلي: هناك مثال حي لتعاون حيوانين غير قريبين من بعضهماالبعض جينيّا وهو تعاون ذكري حيوان البابون، فإذا حدث تنافس أو صراع بين ذكرين من هذا الحيوان يطلب أحدهما مساعدة من ثالث, ويبدأ الذي طلب المساعدة بهز رأسه إلى الأمام والخلف أي بين الذي جاء لنجدته وبين خصمه، ويفسر البعض هذا السلوك بأن الذي طلب المساعدة يعد الذي قدم لنجدته بالمساعدة مستقبلا إذا حدث و أن تعرض لأي مكروه. إلا أن نظرية التطور تعجز عن تفسير كيفية منع الخديعة في الصراع بين الذكور وتعجز أيضا عن تفسير طلب الذكر للمساعدة مرة أخرى و الداّفع الذي يجعله يسلك مثل هذا السلوك, والحقيقة الحقيقة التي لا لبس فيها تتمثل في أن الله سبحانه وتعالى يلهم المخلوقات ويدفعهاإلى أن تضحي بنفسها وهي تسلك هذا السلوك.
و سنذكر في الصفحات القادمة أمثلة على التضحية والرأفة والشفقة التي تبديها الكائنات الحية المختلفة، ويجب أن لا ينسى القارئ أن الّذي ألهم هذه الكائنات الحية هذه التضحية والرأفة والشفقة هو الله الذي خلقها فتبارك الله أحسن الخالقين .
تضحية الكائنات الحية داخل العائلة الواحدة
إنّ قسما من الكائنات الحية يقضي حياته أو جزءا كبيرا من حياته مع باقي أفراد ما يسمى "بالعائلة", فنجد على سبيل المثال البطريق والبجع, إذ يعيش هذان الحيوانان مع زوجيهما طيلة فترة حياتهما، أمّا إناث الأسود والفيلة فتعيش مع أمهاتها أو أمهات أمهاتها24. وعموما يتصف ذكور اللبائن بإنشاء عائلات خاصة بهم فتتألف هذه العائلات من الذكور والإناث والصغار. وإنشاء هذه العائلات يلقي مسؤولية على عاتق البالغين لأن الذكور في هذه الحالة ينبغي عليها الذهاب للصيد أكثر من ذكور الأنواع التي تعيش وحيدة، وينبغي عليها الدفاع ليس فقط عن نفسها بل عن أفراد العائلة أيضا، ثم إنّ الدّفاع عن الصغار يتطلب تضحية كبيرة .
وعملية إنشاء عائلات والدفاع عنها يتطلب جهدا كبيرا وتحمّل مخاطر جسيمة و ترك الخلود إلى الراحة. وهذه العملية تثير تساؤلا مهمّا مفاده : لماذا تختار الحيوانات هذا الطريق الصعب. ؟
واختيار الحيوانات لهذا الطريق المحفوف بالمخاطر يبطل نظرية داروين والتي تقول بأن البقاء للأقوى، والموت والفناء للأضعف, فنحن سنرى في الصفحات القادمة من خلال أمثلة عديدة كيف تصمد, بل سنكتشف كيف أن الحيوانات الأقوى تعمل على المحافظة على حياة هذه الحيوانات الضعيفة و بأنبل صورة للإيثار والتضحية .
كيفية تعرّف أفراد العائلة الواحدة على بعضهم البعض
ينبغي على أفراد العائلة الواحدة أن يملكوا آلية خاصة للتعرف على بعضهم البعض، وبواسطة هذه الآلية الخاصة للتعارف تستطيع الكائنات الحية التي تعيش على شكل مجموعات كبيرة أو مستعمرات أن تتعرف على صغارها أو أزواجها وحتى على آبائها أو أمّهاتها أو أشقّاءها. ووسيلة التعرف تختلف من حيوان لآخر، فالطيور التي تبني أعشاشها على الأرض مثلا تتعرف على فراخها عن طريق الصوت والشكل الخارجي، ومنها طائر النورس الذي يقتات على سمكة الرّينكا. و يعيش هذا الطائر ضمن مجموعات كبيرة العدد ويستطيع أن يميز صوت فراخه وسط الزّحام الهائل دون أن يختلط عليه الأمر بين باقي الأصوات حتى وإن كانت الفراخ بعيدة عن بصره. وعند دخول طائر صغير آخر إلى المكان الذي توجد فيه الفراخ سرعان ما يطرد من تلك المنطقة .(25)
أما اللبائن فتستطيع التعرف على صغارها عن طريق الرائحة، وتقوم الأمّ بشم ولدها لحظة ولادته وفيما بعد تصبح هذه الرائحة وسيلة للتعرف على الصّغار (26).
و يعتبر البطريق من أنجح الحيوانات في استخدام وسيلة التعرف, ويبدو لنا الأمر شبه مستحيل عند التّعرف على طير وسط طيور متشابهة تماما. والمحير أن البطريق يستطيع بسهولة التعرف على أفراد عائلته دون خلط وخصوصا الأنثى, فهي تغيب مدة 2-3 أشهر لجلب الغذاء وعند عودتها لا تجد أية صعوبة في التّعرف على ذكرها وصغيرها من بين مئات البطاريق.
والأغرب من ذلك قيام طيور البطريق بجمع صغارها في محلّ واحد شبيه بروضة من رياض الأطفال ثم تذهب إلى البحر، و هذه الطيور الصغيرة تتراص جنبا إلى جنب, و هذه العملية مهمة للحفاظ على الصغار من شدة البرد. والمسألة المهمة هنا هي كيفية تعرف طيور البطريق البالغة على صغارها عند الرجوع من الصيد من بين مئات الصّغار؟
غير أن طائر البطريق لا يصعب عليه حل هذه المشكلة لأن البطريق البالغ يبدأ في إصدار أصوات مرتفعة ويستطيع الصغير أن يتعرف على أمّه وأبيه فيسرع باتجاههما(27).
ولاشك أن وسيلة الصّوت هذه أنجع وسيلة لتعرف أفراد مستعمرة البطريق على بعضهم البعض من بين الآلاف من البطاريق. ولكن كيف أمكن لهذه الطيور المتشابهة فيما بينها إلى حد التطابق أن تمتلك أصواتا مختلفة بعضها عن بعض؟ وكيف اكتسبت هذه الطيور قابلية التمييز بين الأصوات المختلفة؟ من المستحيل أن تكون طيور البطريق قد اكتسبت هذه القابلية بمحض إرادتها، إذن من الذي وهبها هذه الميزة الفريدة ؟
ما هو العنصر من عناصر الطبيعة الذي تولى هذه المهمة؟ هل هو الجليد في المنطقة القطبية ؟ أم الصخور ؟ الجواب قطعا ليست هذه العناصر أو أحدها لأنّ هذه العناصر التي يتحدث عنها دعاة التطور بدورها مخلوقة، إذن فالجواب الواضح الذي لا لبس فيه هو أن الله هو الذي وهبها ميزة الصوت المختلف وجعل هذه الطيور ذات قدرة على تمييز الأصوات المختلفة وهو الذي يسر لها معيشتها بهذه الصورة المعجزة وهو البارئ المصور.
الأعشاش المبنية للصغار والمجهزة بجميع وسائل الرّاحة
هناك دور كبير للمنازل والأعشاش التي تبنيها الحيوانات في رعاية وتنشئة الصغار، وهناك أساليب مختلفة باختلاف أنواع الحيوانات في طريقة إنشاء هذه الأعشاش بتفاصيل تقنية باهرة، وفي أحيان كثيرة تتصرف الحيوانات مثل مهندس معماري بارع، وتعمل على شاكلة بنّاء ماهر في عمله، وتجد حلاّ لكل مشكلة قد تواجهها أثناء البناء تماما مثل المهندس ومثل أخصائي في الديكور حيث تقوم بتوفير ما يلزم لداخل العش، وفي أحيان كثيرة أخرى تعمل هذه الحيوانات ليل نهار للإعداد لهذه الأعشاش، وإذا كان لهذه الحيوانات أزواجا فتقوم بتوزيع الادوار و التعاون في صورة مثيرة للإعجاب. ومن أكثر الأعشاش والمنازل التي يعتنى بها عناية خاصة من قبل البالغين هي التي تنشأ لاستقبال الصغار الجدد . والتقنية التي تستخدمها هذه الكائنات غير العاقلة تثير الإعجاب و الدهشة في آن واحد، ويتضح ذلك من خلال الأمثلة التي سنوردها في الصفحات القادمة , و سيتضح كذلك أن هذه الأعشاش والمنازل لا يمكن أن تنشأ اعتمادا على الذكاء المتواضع لهذه الحيوانات، و من الجدير بالذكر أن هذه الحيوانات، تخطط وتخطو مراحل متعددة قبل الشروع في بناء أعشاشها أو منازلها لوضع بيضها أو ولادة صغارها، كذلك تختار هذه الحيوانات المكان الأمثل والأكثر أمنا لإنشائها, فهذه الحيوانات لا تنشئ منازلها عبثا و أينما اتفق. وطريقة بناء العش أو المسكن يتم اختياره من قبل الحيوان أو الطير وفقا للمواد الأولية المتوفرة وظروف البيئة الخارجية، فمثلا تستخدم الطيور البحرية الأعشاب البحرية التي تطفوا على سطح الماء وتقاوم الأمواج في بناء أعشاشها، أمّا الطيور التي تعيش في مناطق الأعشاب الطويلة فتنشئ أعشاشا عميقة و واسعة لتفادي السقوط عند هبوب الرياح، والطيور الصّحراوية تبني أعشاشها على قمم النباتات التي تمتاز بانخفاض درجة حرارتها أقل بعشر درجات عن درجة المحيط، وإلاّ فإنّ درجة حرارة اليابسة تربو على 45ْ وهي تؤدي حتما إلى موت الأجنة الموجودة داخل البيض .
و يتطلب اختيار المكان المناسب لبناء العش ذكاء ومعرفة واسعة، إلاّ أن هذه المخلوقات لا تستطيع أن تتوقع مدى الضرر الذي سيلحق بمنازلها بتأثير الأمواج العاتية أو درجة الحرارة العالية للبيئة الصحراوية. والظاهر للعيان أن هناك مخلوقات غير عاقلة ولا منطق لها إلا أنها تسلك سلوكا عاقلا و منطقيا، وبمعنى آخر مخلوقة على هذه الصورة الكاملة، والكمال في الخلق لا يوجد إلا لله وحده .
ويحظى الصّغار بعد فقس البيض أو لحظة الولادة بعناية بالغة، ويقضي الكبار من الحيوانات أو الطيور وقتا كبيرا في الحفاظ على حياة الأبناء ولا تكتفي في ذلك ببناء المنازل وإنمّا تبني أعشاشا وهمية لمجرد التمويه بهدف لفت الانتباه إلى هذه الأعشاش الوهمية حفاظا على حياة الصغار من خطر الأعداء. و لا شك أن هذا النمط السلوكي ليس من بناة أفكار الحيوان و لانابعا من ذكائه. وهناك أسلوب آخر للتمويه تستخدمه الحيوانات وهو بناء الأعشاش بين أغصان الأشجار الكثيفة الأوراق أو فوق النباتات الشوكية، وبعض أنواع الحيوانات تنشئ لها أوكارا خاصة تبيض فيها وترقد على بيضها وتقوم بإنشاء جدار خاص لمدخل هذا الوكر باستخدام الطين الموجود في البيئة الخارجية وإذا لم يوجد تقوم بإفراز سائل خاص تخلطه مع كمية من التراب لإعداد الطين اللازم لإنشاء هذا الجدار الواقي.
وأغلب أنواع الطيور تبني أعشاشها غريبة الشكل باستخدام ألياف النباتات أو الأعشاب والحشائش البرية المتوفرة في البيئة، والجدير بالذكر أن الطير الّذي سيبيض لأول مرة في حياته يبني عشه بإتقان بالغ دون أن يكون له سابق معرفة أو خبرة ببناء الأعشاش .
بلا شك أن هذه القابليات الفذة للكائنات الحية لم تشكل من تلقاء ذاتها، إذن ما هي القدرة التي علّمت هذه الطيور والكائنات الحية بناء منازلها بهذه الكيفية المدهشة ؟ كيف تكتسب الكائنات الحية هذه القابلية مرة واحدة ؟ .
و هناك أمر آخر يحسن الإطلاع عليه و يتعلق بقابليات الكائنات الحية وهو كون الكائن الحي على علم تام بكيفية بناء العش أو المسكن بالكيفية الخاصة بنوعه والمتميز بها عن الأنواع الأخرى اعتبارا من أول لحظة له في هذه الحياة، وكل نوع من أنواع الحيوانات يبني منزله بالكيفية نفسها في أية منطقة من مناطق العالم, وهذا دليل واضح على أن هناك قوة واحدة تمنح هذه المخلوقات القابلية والمعرفة الخاصة بالحياة. بلا شك إنّ صاحب هذه القوة التي لا حد لها والعلم الّذي وسع كل شئ هو الله سبحانه وتعالى الّذي يلهم مخلوقاته ويمنحها هذه القابليات الفذة. واللافت للنظر عند دراسة كيفية بناء الحيوانات لمنازلها ليس فقط التخطيط البارع وإنما التضحية والتعاون اللّذين يبديهما كل من الذكر والأنثى في البناء، وعلى سبيل المثال تنشئ الطيور أعشاشها الخاصة بها بكل اعتناء واهتمام ولا تكتفي بذلك بل تنشئ أعشاشا أخرى كجهد إضافي للتمويه (28).
ولو تمعّنا في عملية إنشاء الطيور لأعشاشها لأدركنا مدى الصعوبات التي تلاقيها والجهد الظخم الذي تبذله والتفاني الذي تبديه في سبيل إتمام بناء هذه الأعشاش. فالطير الواحد يقوم بعدة مئات من رحلات الطيران في سبيل إنشاء عش للتمويه فقط فما بالك بالجهد اللازم لبناء العش الحقيقي، والطير لا يستطيع أن يحمل في منقاره سوى قطعة أو قطعتين من المواد اللازمة لبناء العش من أغصان أو غيرها، ولكن هذا الأمر لا يثير في الطير الشعور بالملل و إنما بالعكس من ذلك يثابر على العمل بكل صبر ،وإذا شعر بتعب أو إرهاق لا يترك العمل ولا يترك ما في منقاره ولا يهمل أي تفصيل من التفاصيل اللازمة لبناء العش. وحسب ادعاء داروين, في قانون الانتخاب الطبيعي لا تفكر الكائنات الحية إلا في نفسها و بمنتهى الأنانية. ولو كان الوسط الذي تعيش فيه مسرحا للحرب كما يدعي هو ومؤيدوه لما قامت هذه الكائنات الحية ببذل هذا الجهد الظخم والمثير للإعجاب في سبيل الحفاظ على الكائنات الصغيرة الضعيفة؟ هذه الأسئلة و غيرها يحتار القانون الطبيعي لداروين في الإجابة عليها وتعجز أمامها نظرية التطور وادعاءات الملحدين. والجواب الوحيد على كل هذه الأسئلة هو أنّ الله وحده منح هذه المخلوقات صفات التضحية والصبر والثبات والمثابرة والعزم فيلهمها هذه الصفات ليحمي القوي منها الضعيف وليستمر التوازن في الطبيعة وليستمر نسل الكائنات ولتكون هذه البنوراما الطبيعية دليلا حيا وملموسا على قدرة الله عز وجل أمام جحود بني آدم.
في الصفحات القادمة سترد أمثلة على قابلية الكائنات الحية على التخطيط المعماري و ألقيام بالديكور خصوصا الطيور التي يحتاج صغارها وبيضها إلى عناية فائقة في أعشاشها، لذا يلهمها الله سبحانه وتعالى كل ما تحتاجه ويتلاءم مع عملية بناء الأعشاش.
كيف تبني الطيور أعشاشها الفخمة؟
تعرف الطيور على أنها من أبرع الكائنات الحية في بناء أعشاشها، ولكل نوع من أنواع الطيور طريقة في بناء عشه ولا يخطئ أبدا في بناء العش حسب الطريقة التي اعتاد عليها. و أهم سبب لإنشاء الطيور أعشاشها كون بيضها وفراخها التي تخرج من البيض بعد فقسها على درجة كبيرة من الضعف، وخصوصا عندما تذهب الأم للصيد, فالصغار يبقون بدون أية وسيلة للدفاع عن النفس، ولكن المكان الذي يتم اختياره لبناء العش يعتبر الوسيلة للدفاع مثل قمم الأشجار والثقوب الموجودة في جذوعها أو سفوح الجبال والتلال وكذلك بين الأعشاب إذ يتم إخفاء العش بمنتهى البراعة والإتقان حفاظا على حياة الصغار .
والدور الثاني والمهم للعش هو الحفاظ على الصغار من تأثير البرد القارس لأن الصغار يخرجون من البيض بدون ريش إضافة إلى عدم قدرتهم على الحركة بحرية و بالتالي عدم استطاعتهم تحريك عضلاتهم بسهولة، لذا تكون الطيور مجبرة على بناء أعشاشها بمنأى عن البرد حفاظا على الصغار. وأبسط مثال على هذه الأعشاش " العش المحاك "فهو يوفر الدفء اللازم للصغار, وبناء هذه الأعشاش صعب للغاية ويتطلب دقة متناهية, فالأنثى تقوم ببناء هذا النوع من العش في فترة طويلة وبجهد بالغ وتقوم بفرش داخل العش بالريش والشعر والألياف لعزلها عن التأثيرات الحرارية للبيئة الخارجية (29). وتوفير المواد الأولية لبناء أي نوع من أنواع الأعشاش يعتبر خطوة مهمة جدا، وتقوم الطيور طيلة اليوم بجمع هذه المواد الأولية فمناقير الطيور ومخالبها مخلوقة لتلائم هذه المهمة. وعملية بناء العش مهمة الأنثى أما مهمة الذكر فتتمثل في اختيار المكان الملائم. وتستفيد الطيور في بناء أعشاشها من مواد أولية مثل الطين و الورق النباتي اللبلاب وحتى الشعر أو الورق، وخصائص أي عش تعتمد على المواد الأولية المستعملة وعلى الطريقة التي يستخدمها ذلك الطير في بناء عشه. وتبنى الأعشاش اعتمادا على مرونة المواد الأولية ومتانتها وصلابتها، فالطيور تختار المواد التي يمكن طيها أو مدها عند بناء العش. والتنوع في هذه المواد يجعل العش أكثر أمنا للفراخ, فخلط الطين والألياف يحول دون حدوث أي فطر في جدران العش.
والطيور بعد أن تجمع المواد الأولية تبدأ بتكوين الخليط اللازم لبناء العش، والطير الذي يتبع هذه الوسيلة في البناء هو الخطاف أو النون الذي يبني عشه على حافة الهاوية أو على جدران المباني والباحات الخارجية فيقوم بلصق عشه بجدرانها بنوع من الخيلط اللاصق، وهذه الخليط يحصل عليه بطريقة عملية جدا, فأولا يقوم بجمع الطين والرماد في منقاره ويحملهما إلى المكان الذي أزمع بناء العش فيه ومن ثم يجعل الطين مزيجا لزجا بعد إفراز مواد خاصة ويمسح سطح الهاوية بهذه المادة اللزجة حتى يعطي العش الشكل النهائي على شكل أصيص مدور مجوف و يملأ داخل الأصيص بالحشيش والطحلب والريش وغالبا ما يبني عشه تحت نتوء صخري كي تحميه الصخرة من تأثير الأمطار المتساقطة التي ربما تزيل تماسك الطين المتين الذي يؤدي إلى هدم العش برمته (30).
وبعض الطيور التي تعيش في جنوب إفريقيا وتدعى بـأنثوسكويوس تبني عشها من قسمين, القسم الأول منه لحضن البيض, وهناك مدخلان للعش أحدهما سري والآخر للتمويه ضد خطر الأعداء (31). من جانب آخر يقوم أحد الطيور في أمريكا من جنس sar?asmag?ller ببناء عشه بالقرب من خلية النحل البري لأن هذا النحل يحول دون اقتراب الأعداء المشتركين كالأفاعي والببغاء والقرود وخصوصا أحد أنواع البعوض الذي يشكل خطرا بالنسبة إلى هذه الطيور (32). وبذلك تنجح الأم في الحفاظ على حياة صغارها من خطر الأعداء .
الأعشاش التي تخيطها الطيور الخياطة
يتميز منقار طير الخياط الهندي بدقة شكله كإبرة الخياطة، والمواد الأولية التي يستخدمها في خياطة عشه تتمثل في خيط نسيج العنكبوت والزغب الذي يحيط ببعض أنواع البذور إضافة إلى ألياف خاصة بقشور الأشجار. ويقوم هذا الطير بجمع أوراق الأشجار الواحدة فوق الأخرى متراصة وبعد ذلك يقوم بثقب حواف هذه الأوراق الواحدة تلو الواحدة بمنقاره المدبّب ومن ثم يدخل نسيج العنكبوت أو اللّيف الذي جمعه في هذه الثقوب ويعقدها كي يمنع سقوط الأوراق، ويكرر العملية نفسها في الجهة المقابلة حتى يجعل الورقتين النباتيتين متلاصقتين تماما وفي خطوة لاحقة يقوم بتدوير هاتين الورقتين المتلاصقتين حول بعضما البعض مثلما يصنع العقد، ويفرش داخل هذا العش الورقي بالحشيش (33), وأخيرا يخيط هذا الطير جزءا إضافيا داخل العش يخصصه لأنثاه لتضع فيه بيضها بأمان (34).
الطيور النسّاجة
تعتبر أعشاش الطيور النسّاجة من أغرب أنواع الأعشاش في عالم الحيوان, وهذه حقيقة يؤكدها علماء الأحياء, فهذه الطّيور تقوم بجمع الألياف النّباتية أو سيقان النباتات الرفيعة لتستخدمها في نسيج أعشاشها و تتميز هذه الأعشاش بمتانة جدرانها المنسوجة من هذه المواد الأولية.
وأول عمل يقوم به الطائر النسّاج هو جمع المواد الأولية اللازمة، وتتألف من أجزاء رفيعة يقطعها من الأوراق النباتية الطّرية أو عروقها الرئيسية، و سبب اختياره للأوراق الطرية بدلا من اليابسة يرجع إلى سهولة تشكيلها لطراوتها ومرونتها. ويقوم الطير بعد ذلك بلف الجزء الرفيع الذي أخذه حول غصن شجرة متعدد الفروع مستخدما أحد ساقيه لتثبيت أحد طرفي اللّيف على الغصن ومنقاره للقيام بعملية اللّف، وللحيلولة دون سقوط هذه الحبال الليفية يقوم الطير بربطها ببعضها البعض من تكوين عقد محكمة، و في المرحلة الأولى يقوم الطير بإنشاء حلقة ليفية وتعتبر مدخلا إلى العش, ثم يقوم لاحقا بتمرير الأجزاء الورقية الرفيعة من بين هذه الحبال الليفية بواسطة منقاره وبطريقة متناوبة مرة من فوق ومرة من تحت ويقوم بين الحين والآخر بشدّ هذه الأجزاء التي وقع تمريرها لجعل النّسيج أكثر متانة. وبأسلوب بارع يقوم الطير بتكوين منحنيات أو نتوءات في جدران العش لجعله متماسكا و متوازنا.
وعندما ينتهي الطير من إنشاء المدخل اللازم لعشه يبدأ بنسج الجدران و في هذه الحالة يقف مقلوبا أو رأسا على عقب ويواصل بالعمل من داخل العش، ويسحب الليف الورقي بمنقاره تحت الحبال الليفية ويمسك طرفه الخارجي بدقة ومن ثم يشده شدّا محكما، وبهذه الطريقة يجعل للعش نسيجا غاية في الإتقان (36). ومما يلاحظ هنا أن الطير النساّج يعمل وكأنه يخطط لعدة مراحل وخطوات قادمة، فيبدأ بجمع المواد اللازمة ومن ثم يبدأ بنسج العش في مكان ملائم فينسج المدخل ويستمر في نسج الجدران فيما بعد وينحني في النسج عندما يتطلب الأمر الانحناء ويوسّعه عندما يتطلب الأمر التوسيع إضافة إلى إتقانه لعمله إلى درجة مذهلة و دون أن يعطي أيّ انطباع بكونه مبتدأ في عمل النّسج. والحقيقة أنه يثبت مهارة فائقة في أداء عمل شخصين في آن واحد بواسطة ساقه للتّثبيت ومنقاره للنّسج ولا يتقدم خطوة إلاّ بحساب و تقدير بارعين.
و هناك نوع آخر من الطيور النسّاجة يقوم بإنشاء أعشاش ذات سقف متماسك يمنع تدفق قطرات المطر داخله ويفرز هذا الطير سائلا في فمه يختلط مع الألياف النباتية التي يجمعها ويحضر بذلك خليطا يساعده على طلاء عشه من الداخل و يتميز هذا الخليط بإكساب العش مرونة ومقاومة ضد نضوح مياه المطر.
و تتكرر هذه الخطوات عدة مرات حتى اكتمال بناء العش، ومن الاستحالة القول أن هذه القابلية لدى الطيور محض مصادفة أو مكتسبة لاشعوريا لأن هذه الطيور وهي تعد أعشاشها تتصرف مثل مهندس معماري ومهندس إنشاءات وعامل بناء ماهر في آن واحد.
و مثال آخر للطيور النساجة التي تنشأ أعشاشا غريبة هو أحد أنواعها و يعيش في جنوب إفريقيا، فهذا النوع ينشأ عشّا شبيها بعمارة مقسمة إلى شقق ويبلغ ارتفاع هذا النوع من الأعشاش 3 أمتار وعرضها 4,5 مترا ويعيش داخل هذا العش ما يقرب من 200 زوج من هذا النوع (37). والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا لماذا تختار هذه الطيور بناء أعشاشها بهذه الصعوبة بدلا من الأعشاش السهلة البناء؟ وهل يمكن تفسير بناء هذه الأعشاش المعقدة من قبل هذه الطيور بـمحض مصادفة ؟ بالطبع لا لأن هذه الطّيور مثلها مثل باقي الكائنات الحية تتحرك بوحي إلهام الهي .
أعشاش طائر الخطّّاف
هناك بعض الطيور تخفي أعشاشها تحت سطح الأرض مثل طائر الخطاف السّاحلي الذي يقوم بحفر قنوات موازية لساحل البحر أو ضفّة النهر وتكون هذه القنوات بمحاذاة التلال المتشكلة من التربة. وتحفر هذه الطيور قنواتها بشكل منحن من الأمام للحيلولة دون دخول مياه المطر داخل العش، وفي نهاية كل قناة توجد فسحة مبطنة بالقشّ والريش يعيش فيها الطير. أما أنواع طائر الخطاف التي توجد في أمريكا اللاتينية فتبني أعشاشها على الصخور الموجودة خلف الشّلالات المنسابة, فهذا الموقع يكون بعيدا عن خطر باقي الطيور كالنورس أو آكلات السمك وحتى عن الغربان. والماء المتساقط بأطنان كثيرة لابد أن يكون قاتلا لأي طير يمر من خلاله إلا أن هذا الخطاف يتميز بصغر حجمه وسرعة حركته من خلال ماء الشلال لذا لا يصاب بأي أذى. وبهذا الشكل يكون هذا الطير وفراخه وعشه بمأمن من خطر باقي الحيوانات.
وهذا الطير لا يستطيع استخدام مخالبه في جمع المواد الأولية اللازمة لبناء العش لصغر هذه المخالب, وبدلا من ذلك يلتقط أجزاء الأعشاب اليابسة والمتطايرة في الهواء أو الريش المتطاير ويفرز عليها سائلا خاصّا يحولها إلى عجينة لاصقة يبني بواسطتها عشه على الصخور (38).
أمّا الخطاف الذي يعيش في سواحل المحيط الهندي فيبني أعشاشه داخل الكهوف، وتسد الأمواج العاتية مدخل هذه الكهوف، وعندما تريد هذه الطيور الدخول إلى أعشاشها ترقد على هذه الأمواج منتظرة اللحظة التي ينحسر فيها الموج عن مدخل ذلك الكهف وعندئذ تنتهز هذه الطيور الفرصة المناسبة للولوج داخل الكهف والوصول إلى العش. وقبل أن تشرع هذه الطيور في بناء الأعشاش تقوم بتثبيت أعلى ارتفاع يمكن أن تصل إليه مياه الأمواج داخل الكهف وبعد ذلك تبدأ في بناء العش بمستوى أعلى من مستوى المياه الآتية بواسطة الموج (39).
وهناك طائر يعيش في إفريقيا يدعى بـ"السّكرتير" يبني عشه في قمم الأشجار الشوكية العالية ليكون بعيدا عن خطر الأعداء، أمّا طائر نقار الخشب الذي يعيش في جنوب غرب أمريكا فينشأ أعشاشه داخل ثقوب يفتحها داخل جذوع نبات الصبار الشوكي العملاقة. أما طيور المستنقعات فتبني عدة أعشاش وهمية إلى جانب العش الحقيقي فيقوم الذكر بإنشاء هذه الأعشاش الوهمية وينتقل من أحدها إلى الآخر ليلفت الانتباه إلى تلك الأعشاش بدلا من العش الذي تتولى الأنثى مهمة بنائه (40).
أعشاش طائر الباتروس
إنّ ارتباط أنثى الطير بفراخها ظاهرة موجودة في جميع أنواع الطيور ومن هذه الطيور الباتروس التي تتكاثر في مسقط رأسها في موسم التلقيح حين تتجمع وتشكل مستعمرة كبيرة ويقوم الذكور بإصلاح الأعشاش البالية قبل أسابيع من قدوم الإناث، وهكذا يتمّ الإعداد لمسكن الإناث والفراخ. أما الاهتمام بالبيض فيمكن مشاهدته عند مراقبة سلوك طائر الباتروس أيضا لأن هذا الطير يستمر واقفا على البيض طيلة 50 يوما دون حراك ، وهذه االعناية الفائقة لا تقتصر على البيض فقط وإنما تشمل الفراخ الخارجة من هذه البيض فيقوم هذا الطائر بقطع مسافة 1,5 كم في كل مرة يخرج فيها لجلب الطعام (41).
أعشاش الطّيور ذات القرون
يعتبر موسم التكاثر موسم عمل ضخم بالنسبة إلى هذه الطيور لأنها تبدي فيه نشاطا يثير الإعجاب سواء ذكرا كان أم أنثى, وأوّل خطوة يجب اتباعها بالنسبة إليهما هي بناء عش مأمون للأنثى والفرخ الصغير القادم.
ويشرع الذكر في العمل فيبحث عن ثقب مناسب في الشجرة ومن ثم تدخل الأنثى هذا الثقب وبعدها يقوم الذكر بسد مدخل الثقب بالطين. بيد أنّ هناك جانبا مهمّا في بناء هذا العش إذ أنّ الذكر وهو يسد المدخل بالطين حماية للأنثى وصغيرها من خطر الأفاعي وغيرها يترك فجوة صغيرة في هذا الثقب وعن طريق هذه الفجوة يمدّ الذكر الأنثى بالطعام لأنها تظل راقدة على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة لا تخرج فيها من العش ولو مرّة واحدة، وحتى الصّغار عندما يخرجون من البيض يتم تزويدهم بالطعام عبر هذه الفجوة (4).
ويتصرف الذكر والأنثى تجاه صغارهما بكل صبر ومثابرة وتفان, فالأنثى ترقد على البيض لمدة ثلاثة أشهر متواصلة في داخل العش الذي يكاد يكفيها هي فقط سعة أما الذكر فلا يغفل عنها ولا عن البيض بل يستمر في الرعاية والاهتمام حتى النهاية.
ونفهم من خلال هذه الأمثلة أن لكل نوع من أنواع الطيور أسلوبه الخاص في إنشاء الأعشاش، وكل أسلوب من هذه الأساليب يعتبر معقدا إلى حد كبير ولكن يتبع وينفذ من قبل حيوان غير عاقل و لا يملك منطقا معينا، في حين أنّ هذه الأساليب تتطلب تخطيطا وتصميما كبيرين. ودعونا نفكر في هذه الأمثلة التي تتمثل في كائنات حية غير عاقلة ولكن سلوكها كله عبارة عن شفقة و رأفة و تضحية وتفاني وفق تخطيط بارع. ما مصدر هذه الأنماط السلوكية ؟ وإذا كانت هذه الكائنات الحية لا تملك إرادتها الفاعلة لاتباع هذه الأنماط السلوكية فإذن هناك قوة موجّهة لها فيما تفعله، ومصدر هذه القوة هو الله رب السماوات والأرض وما بينهما .
الأعشاش التي تبنيها الكائنات الحية المختلفة
نحل "البامبوس" :يتميز هذا النوع من النحل بتضحية وتفان فريدين عند بنائه لخليته، فالملكة الشابة تبدأ في البحث عن أنسب مكان لإنشاء الخلية قبل أن تبدأ بوضع بيضها بفترة قصيرة، وبعد أن تجد المكان المناسب، تكون المرحلة اللاّحقة هي إيجاد المواد اللازمة لبناء الخلية من ريش أو عشب أو ورقة نباتية.
في البداية تبني الملكة مكانا خاصا بحجم كرة المنضدة في وسط الخلية وتبنيه بواسطة المواد الأولية التي تجمعها من المحيط الذي توجد فيه، أما المرحلة الآتية فتتمثل في عملية جمع الغذاء للخلية. فعندما تخرج الملكة تبدأ بالتحليق راسمة دوائر وهمية في الهواء واتجاهها أثناء التحليق يكون نحو الخلية دوما وبهذه الطريقة تتذكر موقع خليتها ولا تنساه، وتقوم بجمع رحيق الأزهار أو لب العسل وعندما ترى الكمية كافية تعود لتفرغ ما في بطنها في المكان المخصص في الخلية. أما الجزء الّذي لا يمكن التّغذّي منه فلا تلفظه خارج الخلية بل تستخدمه في صناعة سائل لاصق يفيد في لصق المواد البنائية للخلية إضافة إلى دوره كعازل حراري. وبعد تغذيها من هذا العسل تبدأ بإفراز مادة الشمع إضافة إلى استخدامها رحيق الأزهار الذي جمعته في عمل غرف صغيرة كروية الشكل لتضع فيها من 8-18 بيضة والتي ستفقس عن أول نحلات عاملة في الخلية وتقوم الملكة بسدّ هذه الغرف وما حولها برحيق الأزهار سدا محكما.
ويتم وضع البيض في هذه الغرف بترتيب محكم لا فوضى فيه. والمهمة الرئيسية الأخرى هي تغذية هذه العاملات, لذا تقوم الملكة الشابة بإنشاء أوعية خاصة من الشّمع تضع فيها خلاصة العسل, وبعد فترة تكوين تتراوح ما بين أربعة و خمسة أيام تجد العاملات الخارجات من البيض غذاء جاهزا لها قوامه لبّ العسل ورحيق الأزهار .
ولو أمعنا النظر في هذه العملية بكافة تفاصيلها لوجدنا أمامنا حيوانا غير عاقل وعديم المنطق ولكنه يستطيع استخدام خلاصة العسل كأفضل عامل بناء بالإضافة إلى تفانيه لإنشاء خلية مليئة بالأفراد الصحيحين النشيطين. أمّا طول هذه الحشرة فلا يتجاوز بضعة سنتمترات. و أول ما يتبادر إلى أذهاننا من سؤال هو لماذا كلّ هذا الإيثار والتضحية من قبل الملكة ؟ فالملكة بعد خروج العاملات من البيض لا تكسب شيئا ذا بال، بالإضافة إلى وجود احتمال تركها لخليتها التي أنشأتها عند قدوم ملكة أخرى تزاحمها فيها. بلا شك هناك سبب لتفانيها هذا وتحملها كل هذا الجهد الدّؤوب وهو الإلهام الإلهي الذي يوجه باقي الكائنات الحية أيضا. إذن فلا مكان في عالم الأحياء لمفهوم الأنانية التي يقول بها دعاة التطور (43).
الملاجئ الثّلجيّة للدّب القطبي
تنشئ أنثى الدّب القطبي ملجأ ثلجيا عندما تكون حاملا أو بعد وضعها لوليدها, وهذا الملجأ تحت ركام الجليد، و عدا هذا فإنها لا تعيش في ملاجئ أو مساكن معينة. وعموما تضع الأنثى وليدها في منتصف الشتاء, و يكون الوليد الصّغير لحظة ولادته أعمى و لا شعر له إضافة إلى صغر حجمه، لذا فالحاجة ماسة إلى ملجئ لرعاية هذا المولود الصّغير الضعيف. والملجأ التقليدي يتم إنشاؤه على شكل مترين طولا ونصف قطره تقريبا أي نصف متر عرضا لأن الملجأ يكون على شكل كرة ارتفاعها نصف متر أيضا. ولكن هذا المسكن أو الملجأ لم ينشأ هكذا دون أيّ اهتمام أو تخطيط بل حفر تحت الجليد بكل عناية واهتمام وسط بيئة مغطاة بالجليد, وتم توفير كل وسائل الراحة والرعاية للوليد الصغير في هذا الملجأ. وعموما فإنّ لهذه الملاجئ أكثر من غرفة تنشؤها الأنثى بمستوى أعلى قليلا من مدخل الملجأ كي لايسمح للدفء بالتّسرب إلى الخارج.
وطيلة فصل الشتاء تتراكم الثلوج على الملجأ ومدخله وتحافظ الأنثى على قناة صغيرة للتهويه والتنفس، ويكون سقف الملجأ بسمك يتراوح ما بين 75 سم و مترين. و يقوم هذا السقف بدور العازل الحراري فيحافظ على الدفء الموجود داخل الملجإ ولهذا تبقى درجة الحرارة ثابتة داخله (45).
وقام أحد الباحثين في جامعة أسلو النرويجية ويدعى Paul Watts بتثبيت محرار في سقف أحد ملاجئ الدّببة لقياس درجة الحرارة وتوصّل إلى نتيجة مذهلة, فدرجة الحرارة خارج الملجأ كانت حوالي 30 تحت الصفر أما داخل الملجأ فلم تنزل الحرارة تحت 2-3 أبدا. والظاهرة الملفتة للانتباه هي كيفية قياس أنثى الدب لسمك السّقف الثلجي كي يتواءم مع درجة عزله الحراري لداخل الملجأ إضافة إلى كون الوسط داخل الملجأ بهذه الحرارة ملائما للأنثى من ناحية تنظيم استهلاك مخزونها الدّهني في جسمها أثناء سباتها الشتوي, والأمر الآخر المحير هو خفض أنثى الدب القطبي لجميع فعالياتها الحيوية إلى درجة كبيرة أثناء سباتها الشتوي كي لا تصرف طاقة زائدة ولتساعد على إرضاع صغيرها، وطيلة سبعة أشهر تحوّل الدّهن الموجود في جسمها إلى بروتين لازم لتغذية صغارها, أما هي فلا تتغذى أبدا وتنخفض دقات قلبها من 70 ضربة في الدقيقة إلى ثمان ضربات في الدقيقة وبالتالي تنخفض فعالياتها الحيوية، ولا تقوم بقضاء حاجاتها أيضا وبهذه الطريقة لا تصرف طاقتها اللازمة لتنشئة الصغار الذين سيلدون في تلك الفترة.
مساكن التّماسيح
تعدّ أنثى التمساح الذي يعيش في منطقة "أفيركليدس" في فلوريدا مكانا مختلفا جدّا لوضع البض فهي تقوم بجمع النباتات المتعفنة وتخلطها بالطين لتصنع منها تلة ارتفاعها 90سم تقريبا ومن ثم تحفر حفرة في قمة هذه التلة لتضع فيها بيضها وتغطيها بعد ذلك بالنباتات التي تكون قد جمعتها من قبل ثم تبدأ بحراسة هذه التلة من خطر الأعداء. وعندما يبدأ البيض بالفقس تقترب الأم عند سماع أصوات صغارها وهم يصدرون أصواتا متميزة و تقوم بإزالة النباتات التي غطتها بها ويبدأ الصغار بالتسلق إلى أعلى, و تجمعهم الأم في تجويف فمها المتسع وتذهب بهم إلى الماء ليبدأوا حياتهم (46).
مسكن الضفدع "الحداد"
يعتبر هذا النوع من أبرع البرمائيات في إنشاء مسكه وهو يعيش في جنوب إفريقيا، و يقوم الذكر بإنشاء هذا المسكن على ضفة الماء فالذكر يشرع في الدوران حول نفسه في الطين حتى يحدث فيه ثقبا واضحا، ومن ثم يقوم بتوسيع حوافي هذا الثقب، وعند اكتمال هذه الخطوة يبدأ بتكوين جدران طينيّة متينة لهذا الثقب وفي النهاية يكون قد أنشأ حوضا مائيا بعمق 10سم، ويبدأ بالجلوس داخل هذا الحوض ويصدر أصواتا يدعو فيها الإناث للتكاثر (التزاوج) ويظل على هذا الوضع حتى يلفت انتباه إحدى الإناث وعند مجيء الأنثى تبدأ بوضع بيضها داخل الحوض أما الذكر فوظيفته تلقيح هذا البيض. وبعد ذلك يبدأ كلاهما بمراقبة هذا البيض حتى فقسه، وعند الفقس تخرج يرقات الضفادع والتي تكون محاطة بغلاف واقي وتبقى في هذا الحوض بمأمن من خطر الأسماك والحشرات وعندما تترعرع سرعان ما تثبت فوق جدران هذا الحوض المخصص (لرعاية الصغار) لتخرج وتبدأ حياتها (47).
مهندسو ما تحت الماء
من المعلوم أن الأسماك ليس من عادتها بناء منازل خاصة بها، إلا أن هناك أنواعا منها يسلك سلوكا محيرا, فأسماك المياه العذبة تنشأ لها مساكن خاصة في قيعان البحيرات أو الأنهار أو المياه الراكدة، وغالبا ما تكون على شكل حفر يتم حفرها بين الأحجار أو الرمال، ومثال على ذلك سمك " السلمون " وسمك "البني " فهي تترك بيضها داخل هذه الحفر حتى تفقّس لوحدها. و هناك أنواع أخرى من الأسماك تقوم بحراسة هذا البيض بالتناوب بين الذكر والأنثى عندما يكون البيض مكشوفا والأخطار محيقة . ومعظم أنواع الأسماك تتميز بكون الذكر هو المسؤول عن إنشاء المساكن الخاصة بوضع البيض وحراستها أيضا.
وهناك أسماك تتميز بكون مساكنها أكثر تعقيدا، ومثال ذلك السمك الشوكي الذي يعيش في أغلب المناطق النّهرية والبحيرات في كلّ من أمريكا الشمالية وأوروبا إذ يقوم الذكر بإنشاء أعشاش أكثر اتقانا من أعشاش الطيور، حيث يقوم هذا النوع من السمك بجمع أجزاء من النباتات المائية ومن ثم يلصقها ببعضها البعض عن طريق سائل لزج يفرز من كليّ هذا السّمك ويقوم الذكر بالسباحة حول هذه الخلطة اللزجة والتمسح بها حتى يعطيها شكلا طوليا منتظما وبعدها يثب فجأة سابحا من منتصف هذه العجينة شاقا إياها لكي تصبح على شكل نفق له مخرج ومدخل ويمر من خلاله الماء، و إذا حدث أن مرت أنثي بالقرب من هذا النفق العش يقوم الذكر بمغازلتها بالسباحة حولها جيئة وذهابا حتى يذهب بها إلى مدخل النفق الذي يحاول أن يدلها عليه عن طريق مقدمة رأسه، وعندما تبيض الأنثى داخل هذا النفق يدخل الذكر من المقدمة دافعا الأنثى إلى الخارج عن طريق المؤخرة. وهكذا تعاد العملية مع عدة أثاث وهدف الذكر من دخول النفق وطردهم إياهن هو تلقيح البيض. وعندما يمتلأ النفق بالبيض يبدأ الذكر بحراستها ويثابر على السماح بدخول الماء العذب إلى النفق، ومن جانب آخر يقوم بترميم الأجزاء التالفة منه، ويستمر في حراسة النفق حتى بعد عدة أيام من فقس البيض. وفيما بعد يقوم بقطع الجزء العلوي من النفق تاركا السفلي لمعيشة الصغار (48).